|
الحرگة الاسلامية: بئرها معطلة وقـصرها مشيد00 د0 عبد الله علي ابراهيم
|
د. عبد الله علي ابراهيم
أخذت منذ حين انظر إلى كسب الحركة الاسلامية من خطتها الاصلية في إنابة الدولة إلى الدين. وقد بدا لي أنها قصرت دون ذلك قصوراً كبيراً. وبفضلها اصبحت اسلامية السودان مسألة شائكة محرجة. ولايتعلق اخفاق الحركة المشهود بعسر اصلي في توبة الدين إلى الدولة بقدر تعلقها بتكتيكات سياسية وثقافية درجت علىها الحركة، وصفها السيد الصادق في ساعة غضب بـ "الوصولية السياسية" قادتها إلى درك من مسأ لتها الحضارية. وبهذا تقع الحركة الاسلامية عندي في باب الحركات السياسية العقائدية الاخرى في السودان التي "طارت عصافيرها" على قول مشهور للقاص بشرى الفاضل.
واعني بذلك ان حلم هذه الحركات الأصل قد طار شعاعاً وجف نبع الهامها ومشروعها الاساسي وبقيت منها الحيطان التنظيمية الجوفاء يتردد فيها القسم الغليظ بالثوابت والمباديء كالصدى. وقد استعنت بقوله تعالي "بئر معطلة وقصر مشيد" للرمز إلى انقطاع هذه الحركات عن مصادر تجديدها حتى استحالت إلى أبنية أو رسوم بالاحرى.
توقفت في الاسبوع الماضي عند سيرة الحركة الاسلامية في عهود الحكم العسكري العديدة الطويلة (واستثني عهد البشير للاسباب المعروفة) وقلت إنها غالباً ما قدمت مسألة استرداد المواطنين للحرية السياسية حتى يكون بوسعهم اتخاذ قرار مسؤول تجاه توبة الدولة إلى الدين. ولذا تواترت عندهم "جامعة حرة او لاحرة" ولم يقولوا اسلامية او لا أسلامية. غير انهم متى ما توافرت الحرية نكصوا عن استصحابها لبلوغ غايتهم من توبة الدولة إلى الدين بالحسنى والصبر. وقد روى الاستاذ على عبدالله يعقوب أخيراً خلفيات اسلامية لحل الحزب الشيوعي في (1965) ذات دلالة مهمة في كيف يتجرد الاسلاميون من كسب الحرية مسارعين إلى ما يظنونه كسب الدين وكأنهما أمران لا يجتمعان. فقد حكى عن قول طالب معهد المعلمين العالي المنسوب للشيوعيين عن أن البغاء اقدم مهنة في التاريخ لم ينتف حتى في عهد رسالة النبي الأواب في اشارة إلى حادث الافك (وددت لو ان بيدنا نص حديث الطالب). وقال على عبدالله انه سمع بذلك بعد الندوة حين جاء كي يأخذ زوجته التي تحدثت في الندوة ايضاً. وسرعان ماقال على عبدالله لمن روى له النبأ ان ذلك كفيل بحل الحزب الشيوعي. وباء بالفشل وهو يطرق ابواب قادة الاسلاميين في تلك الليلة يستحثهم لاتخاذ الحادثة سبباً لحل الحزب. فقد اهمل خطته كل من السيد عبدالرحيم حمدي، رئيس تحرير جريدة الميثاق الاسلامي، والسيد عبدالله حسن أحمد، المسؤول عن فرع جامعة الخرطوم، وقالا له ان هذا حديث ندوات ينتهي عندها ولا يترتب علىه شيء في ميزان القانون والدستور. وانتصر الرجلان للحرية الفكرية التي اسهدت الاسلاميين من ذوي التأثيرات الغربية المؤكدة في جامعة الخرطوم، بؤرة نشأة الحركة. وهجر على عبدالله زميليه واتجه إلى طلاب المعهد العلمي واساتذته وبعض الصوفية يلهبهم بالنبأ العظيم يسألهم النصرة لنبي الاسلام. ونجح في ذلك كما هو معروف واستدركت الحركة ما فاتها وركبت الموجة. والمعلوم أن على عبدالله من خريجي معاهد التعلىم التقليدي ممن ذاقوا الأمرين من ويلات الحداثة ومتعلقات الغرب من حرية وغيرها. وفيهم شبهة "محافظة" وصفهم بها حتى الدكتور الترابي في كتابه عن كسب الحركة الاسلامية حين ذكر بعض شيعته ممن لم يقبلوا بعادات الحركة الاسلامية المبتكرة في اجتماع النساء والرجال في الاسرة السياسية الواحدة او العناية بالفنون والغناء من جهة الحركة والدين. وقد فصلت متاعب هذه الجماعة مع الحداثة الاستعمارية في كتابات عديدة لي عن المرحوم عبدالله الشيخ البشير وآخرها كتاب عنه (بالاشتراك) يصدر عن دار عزة للنشر قريباً. وحكاية على عبدالله، الذي يكاد يكون حل الحزب الشيوعي وحده، مؤشر على ان استعداد الحركة الاسلامية للحرية كبير الا انها لا تصمد لاغراءات الكسب السياسي العاجل.
ولم تصمد الحركة لهذا الاغراء والرئيس نميري ينقلب علىها بليل في سبتمبر (1983) ويأتيها بإسلام على مقاس استبداده: ينط البيوت ويجعله إماماً بلا أجل معلوم لولايته وقس على ذلك. وكانت الحركة قد تهيأت لأسلمة متدرجة تأخذ الناس بالحلم والشفقة إلى بر الاسلام عبر تشريعات مدروسة وصادرة عن مجلس الشعب. ومع ذلك قبلت الحركة الاسلامية بهذا الانقلاب الرئاسي الاسلامي على علاته. وكانت هذه سقطة كبيرة لانها قبلت باسلام من كان على غفلة منه في قول الترابي. ويصح مثل قول الترابي هذا في الفرد اللاهي او الجماعة الغافلة تهتدي إلى الاسلام فيفرح لها اهل الارض والسماء. فمثل تحول هؤلاء إلى الاسلام كسب ينظر إلى اسبابه في الخاطر والروح ونوازع التقوى. وقد يتسرب الشك في نفوس الناس حتى في حالة الفرد المهتدي في القول الذائع "صلى وصام لأمر كان يقصده" أوصفهم للمتدثر بالدين لحاجة في نفسه ب "الغيتوني." اما ان يكون الغافل الذي اهتدى هو الدولة ورئيسها المعروف المزنوق فهذا يتطلب من الحركي الاسلامي أن يتحلى بقدر صحيح من الشك في الامر الذي قصدته الدولة من صيامها وقيامها. أما ان يعد هذا التديين كسباً (أو تمر هبوب) يفرح به فهذا أقصر الطرق إلى غفلة الحركي الاسلامي عن المجتمع وتدافع الناس والمصالح فيه واستبدال ذلك بالمراهنة على المفاجآت السعيدة.
لقد كان تلاؤم الاسلاميين مع قوانين سبتمبر هو موت الحلم. فقد تصالحوا مع تلك القوانين مع أنها لم تكن في أفق تفكيرهم او دبارتهم كما رأينا ولأن اهلها لم يريدوا لهم حتى مجرد العلم بها . فقد قالت السيدة بدرية الزين، (التي هي المرأة قسيمة الرجلين في صياغة قوانين سبتمبرية في عبارة لمنصور خالد) أن نميري حذرهم من ان يطلع الترابي، النائب العام، على عمل لجنتهم بقوله: "ما عايز دكتور الترابي يكون عارف هذه اللجنة." وماكاد نميري يعلن قوانينه هذه حتى ازاح الترابي من سدة النائب العام وعينه مستشاراً سياسياً وبعث به إلى شأن هين في سلقط ملقط على الفور. وربما كان هذا منشأ العبارة الطريفة المنسوبة للترابي القائلة بأن مستشاري نميري يشار لهم بأكثر مما يشيرون هم. ولم تخن الحركة الاسلامية الشجاعة في تقويم قوانين سبتمبر كـ "اجتهاد" من آخرين او كأمر واقع فحسب بل تطابقت معها وتدافع الاسلاميون بالمناكب إلى عرصات بيعة النميري اماماً بوصفه مجدد المائة (1400-1980). وقد أحزن الناس ان تضطر حركة لها سابقة في جهاد المستبدين، بما فيهم النميري نفسه، ولها عقيدة متوكلة في الله أن ترائي السلطان حتى اعادت إلى الاذهان الصورة السلبية المعروفة لرجال الدين حتى سماهم المهدي علماء السوء لطاعتهم العمياء لاولي الامر في كل شىء.
لعل أمس ما تسرب من بين أيدي الاسلاميين خلال مصانعتهم لنميري في هذا الأمر الجلل هو حلمهم. فقد ذكر منصور خالد انهم قد جاءونا في شبابهم في الستينات بدعوة للدستور الاسلامي أرادوا أن يصوبوا بها نماذج الحكم الاسلامي السائدة التي أثرت فيها "ضآلة الفهم للدين وانحطاط الثقافة العلمية العامة" فنفرت المحدثين من حكم الدين. وكانت اكبر دعواهم للدستور الاسلامي انه الاوفق في تأمين الحرية لأن الدين "يقف امام الاستبداد بالسلطة والحكم بالأهواء لأن الحكم فيه لقانون ذي مصادر نظرية مستقلة عن أهواء الحكام يؤمن به الشعب ويفسره ويفصله ويختار من يطبقه." ولم يتجاوز الاسلاميون الكهولة الا قليلا حتى جاءونا بدستور من محض اهواء حاكم تائب في احسن احواله. وهذا موت الحلم.
جاء نميري للحركة الاسلامية بما اشتهت في الدستور الاسلامي وزاد على ذلك كثيرا. فقد تضمن الدستور المواد الأثيرة لدى الاسلاميين التي تفلتت طويلاً من بين أيديهم بفضل مكر أحزاب الكثرة والحزب الاتحادي خاصة. فقد جاء نميري في مشروع دستور 1984 للإسلاميين بالمن والسلوى واكثر. فقد جعل نميري السودان جمهورية اسلامية وكانت الاحزاب تكتفي بان تجعل الاسلام دين الدولة. كما جعل السيادة في البلد لله يمارسها الشعب عن طريق مؤسساته. وهذا ما لم تقبل به الاحزاب للاسلاميين. وقصرمشروع دستور (1984) رئاسة الجمهورية على المسلمين ووصف رئيس الجمهورية كـ "قائد المؤمنين يبسط الشورى وهو رأس الدولة وإمامها ويعمل بموجب بيعة ينظمها القانون. واشترط الدستور ان يكون بعض مؤهل الرئيس العلم بشؤون الدين والتمتع بالتقوى. وحين اشتم الجنوبيون في مجلس الشعب محقين في هذا الوصف قصراً لرئاسة الجمهورية على المسلمين طمأنهم الترابي إلى أن هذه العبارات مجرد صفات لا يترتب علىها أثر قانون. وهذا تمحك يجعل من الدستور معرضاً لفضول القول والزخرفة. وقد رأينا كيف سبق المرحوم الشنقيطي الدكتور الترابي إلى هذا التطمئن الشمالي المجاني للجنوبيين حين قال لهم في مناقشات لجنة الدستور عام (1956) ان اعلان الاسلام ديناً رسمياً للدولة لا يعني غير جعل الجمعة عطلة اسبوعية بدل الأحد.
ولم يكن بوسع الاسلاميين بالطبع قبول كل ترهات نميري المستبدة بالنظر إلى فكرتهم هم عن الاسلام والمعارضة الواسعة التي لقيها مشروع الدستور في مجلس الشعب. فقد اعترضوا على عدم تحديد مدة دورة رئاسة الجمهورية، وعلى اختيار الرئيس خلفه عن طريق الوصية، ونادوا ان يأتي الرئيس عن طريق الانتخاب لا مجرد البيعة كما أرادت مسودة الدستور. وقال الاسلاميون ان البيعة مما سينعقد للرئيس بعد انتخابه. وبرغم نقد الاسلاميين لشطط مشروع نميري الدستوري الا انهم ربما كانوا وحدهم الذين رأوا مسودة الدستور بداية صالحة للنقاش والتعديل والاجازة. ففي البادئ أنه لم يكن يشاطرهم احد هذه الثقة المبدئية في المسودة. فقد بلغ الخجل بأعضاء المجلس من شطط المسودة حداً قال فيه نائب أنه يتمنى أن ينحل المجلس قبل ان يقنن ثيوقراطية نميري في وضح القرن العشرين لأن الناس قد أكلوا لحمهم. وحتى بعد أن أجرى مجلس الشعب ما قدر علىه من تعديلات رفع اعضاؤه، من فرط ضيقهم بأصل المسودة، مذكرة لرئيس الجمهورية يطلبون منه ارجاء مسألة الدستور كلها لاجراء مزيد من المناقشات حولها. ودخل المجلس في اجازته السنوية ولم يعد للمسألة بعد.
وهكذا تكرر أمران معتادان في دراما الدستور الاسلامي في المجالس النيابية منذ بدأت مناقشة صور مسوداته العديدة فيها. الأمر الأول هو أن هذه المجالس تنفض بغير ان تجيزه لفرط تباين وجهات النظر حوله. والأمر الثاني أن الحركة الاسلامية إما نالت من الدستور دون او أكثر مما ارادت منه. وكان حظها في عهد نميري هذه المرة نيلها فوق ما ارادت أو احتملت. والجامع المشترك الاعظم في خطاب الدستور الاسلامي أن الحركة الاسلامية لم توفق ابداً عبر هذه السنوات الطويلة المريرة إلى اصطناع صيغة جاذبة لذلك الدستور ترضى عنها فرق الطيف السياسي والقومي حتى الشمالية المسلمة منها. فقد تمسك الاسلاميون بصورة أزلية بنسختهم الايدلوجية الصارمة التي جعلت الحوار حول دستور السودان مناسبة كئيبة تنعق على بوابتها بومة خراب البلد وتفرق أهله. وهكذا يسرع النواب إلى قفل ملف مناقشة الدستور الاسلامي يأساً من بلوغ الغاية منها أو على نهج السودانيين في "شد واتباطأ يا خيراً آتي يا شراً فات."
ولعل أشق ماوقع للحركة الاسلامية من عهد النميري، بجانب ما رآه الناس فيها من تقية مستذلة ونقص في الشجاعة الأدبية، أنها قد ورثت السبتمبرية النميرية قانوناً وتاريخا وفلسفة ونوايا حين تهاوى صاحبها الأصلي إثر هبة شعبية وعز الوريث. وقال المثل السوداني: " البلولي المحن لا بد يربي صغارها." أي ان الذي يرعى الشر لا مهرب له من ان يتعهد بالعناية مايسفر عنه هذا الشر من كوارث ومحن. وكان نميري شراً تناوبنا كلنا، وفي الجماعات الموصوفة بالعقائدية بالذات، في تربيته وتنشئته. وكان الاسلاميون آخر من جاء إلى العناية بهذا الوحش والاستثمار فيه. وقد ترك فينا جميعاً مانخجل منه أو نحرج بإزائه. فقد مرغ لنا في اليسار بعض اعز أحلامنا مثل الاشتراكية في الرغام. فلم تعد الكلمة تعني ابداً ما كانت تعنيه من قبل. لقد اصبحنا بعده بلا شفرة للمستقبل لأنه أخلانا من مجازات الأمل. وبقي للحركة الاسلامية ما ينبغي لها ان تتحرج منه جداً من اصطفائها نميري وقبولها الدنيئة منه في عقائدها في الحرية والاسلام. وحين تفيق الحركة من سكراتها بالسلطان منذ انتفاضة (195 سترى وجهها السبتمبري في كتب مثل الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة للدكتور منصور خالد. وستنكر الندوب التي تركتها طقوس سبتمبر البشعة على محياها بالصمت عن قول الحق امام سلطان جائر. والمأمول أن لا تستهجن الحركة الكتاب لصدوره عن خصم فسل. فالكاتب حقاً من أميز مربي "المحن" السودانية ولهذا فهو اعرفنا بما تتركه من اسقام وأورام على الوجوه والنفوس. فنميري الذي خرج علىنا في سبتمبر (1983) هو خريج حضانة "مايو حبيب" بدستور (1973) وتعديله في 1975 التي هي من صنع منصور وصحبه المايويين ممن اسماهم فرسان سنوات الوعد النميرية (1971-1977). وهو دستور وتعديل له جعلا منه قيصراً يحكم بالاوامر الجمهورية المؤقتة. غير أن منصور استن عادة استلال نفسه كالشعرة من عجين التاريخ المؤسي ليبكت ويؤنب من هم في مثل ذنبه أو أدني. وقد اسفت ان أذكياء اليسار، الذين تراخوا في العلم بتاريخهم أو تاريخ السودان المعاصر الذي أسدوا اليه كدحاً جزيلا، ظلوا يقرأون منصوراً بمثابة تاريخ في حين لم يقصد منه كاتبه نفسه غير ان يفثأ غيظه من الذين انصرفوا عنه إلى غيره. وكان الدكتور ابراهيم محمد زين قد وصاهم ان يقرأوا منصوراً كثقافة سياسية ايدلوجية . فلقد شاركنا منصور في "ولادة" نميري المحنة ولكنه كان اسرعنا إلى استنكاف ملولات صغارها يحتال على ذلك بهجرات معلومة له في مراقي الثورية حتى بلغ "يامبيو البعيدة" او كما قال كتاب كسب العيش في السودان. ويتغافل منصور، الراقص الوالغ في خطايا الغير وصغائرهم، قرص الدبيب الملتف بصلبه. فمن ولع السودانيين بالشفافية والتحذير من اقتراف الذنب الكبير قولهم ايضاً أن من يلد الدبيب يربطوا حول صلبه.
ونعود الي بقية الحديث في اسبوعنا المقبل ان شاء الله.
|
|
 
|
|
|
|