د. الباقر العفيف الدعوة لدخول الانتخابات كوسيلة لمقاومة النظام: ما وراء الفكرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 05:52 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2018م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-25-2018, 11:02 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48812

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د. الباقر العفيف الدعوة لدخول الانتخابات كوسيلة لمقاومة النظام: ما وراء الفكرة

    11:02 PM April, 25 2018

    سودانيز اون لاين
    Yasir Elsharif-Germany
    مكتبتى
    رابط مختصر

    الدعوة لدخول الانتخابات كوسيلة لمقاومة النظام: ما وراء الفكرة

    التغيير الالكترونية

    الإثنين 16 أبريل 2018

    د.الباقر العفيف

    تكاثرت الدعوات، في الآونة الأخيرة، التي تحض أحزاب المعارضة الرئيسية على تبني فكرة خوض الانتخابات كوسيلة وحيدة أو أساسية للتغيير، والتخلي عن فكرة التغيير بواسطة الكفاح المسلح والانتفاضة الشعبية (محمية أو غير محمية). ودعا البعض للاتفاق على مرشح واحد لينافس البشير على الرئاسة في انتخابات ٢٠٢٠. وبالرغم عن أن مسألة المشاركة في الانتخابات ظلت مادة يتداولها الفاعلون في المسرح السياسي منذ أعوام، إلا أنها اكتسبت قوة دفع كبيرة بالمقال الرصين الذي كتبه السر سيد أحمد، وأيده وتبناه وبنى عليه النور حمد. وتدافع عدد من الكتاب في هذا الاتجاه حتى تزاحموا بالمناكب، وظهر منهم من زعم حيازة قصب السبق أو الملكية الفكرية لهذه الفكرة التي بدت فجأة وكأنها الحجر الذي رفضه البناؤون والذي سوف يصبح رأس الزاوية.

    وضمن الذين طرحوا الفكرة إلى جانب السر سيد أحمد والنور حمد، الناقد المسرحي السر السيد، وشمس الدين ضَوَّ البيت وسيف الدولة حمدنالله، والأستاذ محمد بشير المعروف باسم القلم (عبد العزيز حسين الصاوي) وصديق محيسي والفاضل عباس والطيب زين العابدين.

    أما في جانب التنظيمات طرحت الحركة الشعبية فكرة المشاركة الانتخابية في ورقة ممهورة بتوقيع رئيسها مالك عقار، ونبهنا صديق محيسي إلى أن حركة حق “الممثلة في قوى الاجماع” طرحت الفكرة قبل ذلك. وتراود الفكرة المؤتمر السوداني، في حين حزم عادل عبد العاطي أمره عمليا بإعلان ترشحه.

    المجموعة الإطارية

    كذلك انعقدت جلسة طويلة لمناقشة جدوى المشاركة والمقاطعة في الاجتماع الأخير للمجموعة الإطارية Framework Group بداية هذا العام. والمجموعة الإطارية تضم مجموعة من النشطاء السودانيين وغير السودانيين ممن لهم معرفة واهتمام بالشؤون السودانية. قدم اثنان من المشاركين مداخلتين، أولهما تورد الحجج الداعمة لجدوى المشاركة والأخرى تورد الحجج الداعمة للمقاطعة. وسوف أستعرض خلاصة ذلك الحوار فيما يلي من حلقات.

    التأسيس على الياس وسياسة ال################ والخوف

    اللافت للنظر أن هذه الدعوات للمشاركة في الانتخابات تسير بيننا بساقين من يأس وخوف وبينهما بعض رجاء. فهي تغرس إحدى رجليها في أرض اليأس اليباب من إمكانية تحقيق تغيير سياسي عن طريق العمل المسلح أو الثورة الشعبية. وتغرس الأخرى في أرض الخوف المزلزل من استرخاص رجال الإنقاذ للحياة الإنسانية، واستسهالهم القتل، واستحلالهم الدماء والأعراض. وهناك بعد آخر للخوف وهو احتمال انزلاق البلد في الفوضى والعنف والدمار مثلما نشهده في سوريا وليبيا واليمن. وأخيرا تسير هذه الدعوات على هدى ضوء خافت من أمل عسى أن يؤدي هذا إلى مخرج آمن للبلاد والعباد ولو بعد حين.

    أسباب موضوعية

    وبالتأكيد هناك أسباب موضوعية حقيقية لهذه الحالة العقلية التي تفترشها هذه الدعوات. فقد جاءت الإنقاذ وجيلنا في شرخ الشباب. وبعد ما يقارب الثلاثين عاما (من النضال)، “هرمنا” نحن وهي ما تزال هناك. انطوت صفحة كاملة من السودان الذي نعرفه، وغادر الدنيا أو تهيأ لمغادرتها جيل كامل تقريبا. رحل نقد والتيجاني الطيب، ورحلت فاطمة وسعاد أحمد.. ورحل الطيب صالح والفيتوري، ورحل وردي وزيدان.. ورحل طه جربوع ومحسي وعبد اللطيف عمر وغيرهم كثيرون. هذا غير الذين انقصفت أعمارهم بسبب المرض العضال والحوادث الفاجعة مثل الخاتم عدلان وبشير بكار، ومصطفى سيد أحمد وحميد ومحجوب شريف وأبو بكر الأمين.

    الآن أصبح جيلنا في وش المدفع ولا ندري أتصرعنا الإنقاذ أم نصرعها. فالشاهد أن الإنقاذ شارفت الثلاثين من عمرها، و”طال الدين على العابدين” كما يقول الصوفية. استيأس رسل النضال، ودب ال################ في النفوس، وبدأ يعمل عمله في “نقض العزائم وصرف الهمم”.

    ولأجل تحويل هذا ال################ إلى أمل دعا السر سيد أحمد المعارضة لتجريب الانتخابات كأداة نضال جديدة ضد الإنقاذ. وبالرغم عن أنه لم يدعُ صراحة إلى طرح الأساليب الأخرى جانبا طرح النواة، إلا أن ذلك “الطرح” كامن في رؤيته. وقد أبرزه النور الذي دعا لبارادايم جديد يغادر محطة إسقاط النظام التي طال الوقوف عندها، والانعتاق من أسر الشعار الذي أثبتت الثلاثون الطوال أنه مجرد “تفكير رغبوي”، يمثل حالة نوستالجيا و”انحباس رومانتيكي” في الماضي. وعضده في هذا صديق محيسي الذي أكد أن المعارضة كانت طوال عمرها تكافح بالشعار الذي لا يسنده فعل على الأرض، وهذا مما يدخل في باب الأمنيات العاطلة التي يسميها علم النفس “التفكير الرغائبي”. أما الفاضل عباس فيسميها “أحلام ظلوط”.

    وبالإضافة إلى اليأس من إمكانية إحداث التغيير، هناك الخوف من ردة فعل النظام، ليس على العمل المسلح وحسب، بل حتى على المظاهرات المنضبطة المتحضرة التي تسير في الشوارع وهي تردد “سلمية سلمية”. فوفق السر سيد أحمد، أن المنازلة عن طريق الانتخابات، توفر على الناس “التعرض للغاز والضرب بالهراوات إلى الاعتقال وربما التعرض لإطلاق الرصاص”. أما النور حمد فيحذرنا أن الأنظمة الشمولية لا يهمها الخوض في دماء شعوبها، كما لم يعد العالم يهتم.. فعملية تطبيع القتل بالجملة تسير على قدم وساق، تساعدها وسائل الاتصال المتطورة التي جعلت الناس يطلون على منظر الجثث المطمورة في الأنقاض، وتلك التي تجرفها الأمواج، ليس من غرف نومهم وحسب، بل أيضا من خلال أجهزة يحملونها في جيوبهم، يشخطونها بأصابعهم وهم وقوف، قعود، أو مضطجعون على جنوبهم.

    وبطبيعة الحال هذا أمر صحيح يعضده ما حدث في سبتمبر ٢٠١٣. فالنظام لم يتردد في الخوض في دماء المتظاهرين العزل لكي ما يبقى في السلطة. وأهل النظام، قبل ذلك وبعده، سفكوا دماء أهل دارفور بلا رحمة، وما زالوا يعاقبون القبائل الأفريقية، على تمرد أبنائها، بوضعهم تحت رحمة الجنجويد يستبيحون دماءهم وأعراضهم وكرامتهم البشرية.. وما فعلوه بأهل قرية أرتالا ليس ببعيد، حيث شهدناهم يبطحون الرجال على بطونهم، أمام نسائهم وأطفالهم، ويشبعونهم جلدا بالسياط، حتى يطلق الواحد منهم رجليه للريح، “مخلفا إنسانيته وراءه” كما عَبَّرت إحدى الكاتبات، وأعتذر لها عن تضييعي اسمها، وأرجو أن يغفر لي عندها كون تعبيرها الدقيق التصق بذهني. وحال أرتالا هو مآلنا جميعا. فليس ببعيد أن يجئ علينا وقت قريب، تبطحنا فيه مليشيات حميدتي على بطوننا، في شوارع الخرطوم، ومدني، وعطبرة، وكسلا، والقضارف، وبورتسودان، والحصاحيصا، وحوش أبَّكُر، وحلة حمد وتجلدنا على ظهورنا وأصلابنا، حتى نطلق سوقنا للريح.. وحتى يلق الفرد منا أخاه فيقول له “أنج سعد فقد بُطِح سعيد”. فما العمل إذن؟ وكيف الدبارة؟

    هل هي دعوة للاستسلام؟

    إذا حاصرتك عصابة من جميع الجهات ووجهت البندقية نحو رأسك، ثم فتحت لك كوة في جدار، وطريق آمن، وأشارت لك بسلوكه فماذا تفعل؟ هل عندك خيار آخر؟ إذن لا بد من الخروج من المأزق باستخدام الكوة، اللهم إلا إذا كنت راغبا في الموت. أما في حالتنا، فإذا أتاحت لنا الإنقاذ، من سعة فضلها وكرمها الفياض، مخرجا ننازلها به، يحفظ لنا حياتنا، وبعض ماء وجهنا، فلماذا لا نسلكه ونوفر على أنفسنا هذا المصير المفزع. لوكان الأمر على هذا النحو، فهو سيبدو وكأنه دعوة للاستسلام.

    فهل هذا ما يقوله السر سيد أحمد والنور حمد وصديق محيسي وغيرهم؟ دعونا نرى.

    يقول النور: “ويمكن القول وبثقة كبيرة أن خوض الانتخابات، أضحى من الناحية الواقعية، الخيار الوحيد المتبقي لمخرج آمن. فحين يتعذر الخروج من باب ما، لحظة الحريق، فمن الحكمة البحث عن باب آخر، بدل إضاعة الوقت والجهد في محاولة فتح الباب، الذي وضح جليا، أنه صعب الفتح، أو غير قابل للفتح أصلا”.

    أما السر سيد أحمد فيدعو لخوض الانتخابات “مهما سعى النظام للحفاظ على الأوضاع الحالية من خلال التزوير والتضييق على المرشحين والسيطرة على الإعلام”.. ويقول في موقع آخر “رغم الحديث المتكرر عن عدم ملاءمة البيئة الحالية لانتخابات تعددية حقيقية مثل القوانين المقيدة للحريات وسيطرة المؤتمر الوطني على مفاصل الدولة، إلا أن عمليات التحول إلى تعددية برلمانية حقيقية من خلال الانتخابات واقع أثبته ما حدث في كينيا وغانا وقامبيا والسنغال والفلبين”. سنرجئ الحديث عن نماذج الدول التي أوردها في حلقات لاحقة، ولكن دعونا نركز هنا على إعفاء الإنقاذ من القيام بأي مجهود لتوفير بيئة ملائمة.

    إذن نحن مدعوون لأن ننزل عند خطة الإنقاذ ونخوض انتخاباتها بشروطها، دون أن تتنازل هي، قيد أنملة، في اتاحة الحريات التي تطالب بها المعارضة. فما فعلته الإنقاذ، ببساطة، هو أنها ألقت بعظمة بالية للمعارضة على الأرض وقالت لها “هذا نصيبك عندي. خذيه أو اتركيه”. Take it or leave it. فالإنقاذ حّضَّرت الملعب ومضمار السباق، وصاغت قوانين اللعبة، ثم دعت المعارضة لتسابقها بعد أن كبَّلتها بالجنازير، ودَقَّت لها “قيد حمامة”. وللذين لا يعرفون ماهية “قيد حمامة” هو قيد يضعه السجانون على أقدام المساجين عقابا على الخروج على قوانين السجن، فيجعل مشيتهم أشبه بمشي الحمام. فإن رضخت المعارضة للقوانين المجحفة ودخلت المضمار، لكي ما تسابق الإنقاذ وهي “تقدل” بقيد حمامتها، فماذا يمكن أن نسمي فعلها هذا إن لم يكن استسلاما؟

    الدولة الزبائنية

    ظلت الإنقاذ في حالة حرب مع الشعب، ممثلين في قادة المعارضة، أو قل، درءاً للمغالطة، مع الشعب وقادة المعارضة، منذ أن جاءت وحتى هذه اللحظة، تحارب بيد وتلتقط المتساقطين من شجرة النضال، كالثمار الناضجة، وتضعهم في سلتها باليد الأخرى. هؤلاء اسمتهم المتوالين. وفي هذه الأثناء أكملت بناء دولتها الزبائنية clientelist state لتستوعب فيها هؤلاء المتوالين. والدولة الزبائنية هي تلك التي تحتكر فيها الطبقة الحاكمة جميع المصادر والحقوق والمزايا.. فهي تمثل التاجر الكبير الذي يحتكر السوق، وتجعل من منافسيها زبائن لها توزع عليهم ما تُخرجه من زكاة.. يقوم كل واحد من هؤلاء الزبائن بالاحتفاظ لنفسه بالقسم الأكبر من نصيبه من الزكاة، ثم يُخرِج زكاته هو الآخر لمن دونه من الزبائن الصغار.. وهكذا تفتَح الطبقة الحاكمة نَفَّاجا في جدار دولتها يُمَكِن من خلاله للزبائن الكبار “المتاوقة” للمصادر المحتكرة بواسطة التاجر الكبير. وبطبيعة الحال كلما أخلص الزبون النية، والتزم التزاما صارما بقوانين اللعبة، يُعْطَى من الفضل ويُزَاد. وبذلك تتحول المنافسة لتصبح منافسة فيما بين الزبائن على كسب رِضَى التاجر الكبير، وليست بينهم جميعا وبينه. وهكذا تكتب الدولة الزبائنية لنفسها الديمومة. ولكنها في الوقت ذاته تعمل معولها في المجتمع هدما، فتدمر الاقتصاد، والقيم، والأخلاق، وإنسانية الإنسان.

    هذا المنحى، أو هذه المعالجة، process هو/هي ما وصفه سيف الدولة حمدنالله بقوله: “انتظر الشعب التغيير ٢٨ عاما ثم اكتشفنا في النهاية أن الكثير من قيادات تلك الأحزاب قد خدعونا وألبسونا السلطانية، ثم تسللوا واحدا بعد الآخر ووضعوا أيديهم فوق أيدي جلادينا، وتركونا نلف وندور حول أنفسنا”. والسؤال هنا هل هي مجرد خديعة؟ أم أنها تعبير عن حالة إنسانية لازمت صراعات البشر منذ الأزل. فمثلما شهد العالم استرقاق المهزوم، شهد كذلك نظرية الانضمام للقاهر، والمُعَبَّر عنها بالمقولة المعروفة “إن لم تقدر عليهم فانضم لهم” if you can’t defeat them, join them... فالحقيقة الناصعة هي أن من دخل مع الإنقاذ، إنما دخل بناء على هذا المفهوم. فالواحد منهم في أحسن الحالات شاويش، وجندي نفر، تحت الضباط الإنقاذيين الكبار. دخل من دخل وهو يعلم إنه إنما يتعاقد مع دولتها الزبائنية، وأنه ليس له من سلطة أو تأثير مهما قَلَّ أو حَقُر. وأن دوره المُقَدَّر له لعبه هو الانهماك في التقاط الفتات الذي يخدم به مصلحته الشخصية ومصلحة من دونه من الناس. هذا هو الحبل السري “العلني” الذي يربطه بالسلطة. واستمرارية هذا الحبل في ضخ ماء الحياة في عروقه تعتمد اعتمادا كاملا على الدرجة التي يظهر بها ولاءه للتاجر الكبير، صاحب الفضل، وتفانيه في خدمته. والآن ربما نستطيع أن نفهم لماذا جاء ترشيح البشير للدورة الانتخابية القادمة من أحزاب الحوار، ولم يجئ من حزبه هو؟!!

    فبنفس هذا الفهم الزبائني تعاملت الإنقاذ مع اتفاقية السلام الشامل، وأفشلتها، ومع بقية الاتفاقيات التي انبثقت منها وتعلقت بها، وانتهت بقادتها إلى عالم القصور والرياش والحريم، بينما أهل قراهم الذين جمعوا لهم كل ما عندهم من مال ورجاء، و”أرسلوهم ليأتوا لهم بالطعام”، على حد قول المعلم نيريري، ما زالوا ينتظرون، ببطون خاوية، وأفئدة أفرغ من فؤاد أم موسى. وبهذا الفهم ذاته بادرت الإنقاذ بالحوار الوطني ودخلت في مسيرة الدوحة.

    فإذا علمنا طبيعة النظام على النحو الذي فَصَّلنا، يبقى السؤال هو: هل يمكن أن تقود الانتخابات في ظل الدولة الزبائنية إلى أي تغيير نحو الديمقراطية؟ هذا ما سوف نناقشه في الحلقة أو الحلقات القادمة.




















                  

04-25-2018, 11:10 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48812

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. الباقر العفيف الدعوة لدخول الانتخابات � (Re: Yasir Elsharif)

    الكلمة التي شطبها نظام المراقبة المبرمج هي

    القـنوط
                  

04-25-2018, 11:13 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48812

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. الباقر العفيف الدعوة لدخول الانتخابات � (Re: Yasir Elsharif)

    الدعوة لدخول الانتخابات كوسيلة لمقاومة النظام: ما وراء الفكرة(٢) التغيير الأربعاء, 18 أبريل, 2018 زمن القراءة المقدر: 5 دقيقة
    الباقر العفيف

    خلصت في الحلقة الأولى إلى أن الدعوات لخوض الانتخابات إنما صيغت من مادتي اليأس والخوف، مع إضافة قليل من بهار الأمل في تغيير يبدو خافتا مثل نجم بعيد. وأن هذه الدعوات لا تعدو أن تكون دعوة للاستسلام للإنقاذ، وتوطين النفس على القبول بها على سوءاتها، والتواؤم مع قواعد اللعب التي تضعها لمصلحتها والعمل من داخل هذه القواعد.

    والنور حمد نفى في مقاله الأخير أن يكون طرحهم انطلق من حالة يأس رغما عن تأكيده أن اليأس “حالة يعيشها الجميع دون استثناء” ويمضي ليقول “أن هذا الخيار تأسس على فحص دقيق للواقع السياسي وعلى تقييم واقعي لقواه المتوفرة حاليا وإمكاناته”. فهو ينفي أن يكون اليأس هو منطلق الفكرة، ولكنه يثبته ويعممه على الجميع في الوقت ذاته. وبطبيعة الحال فاليأس لم يولد من العدم، كما أنه ليس حالة مستقلة عن الواقع وموازية له. بل حالة ناشئة من هذا “التقييم الواقعي للوضع السياسي” الذي أوصل أصحابه إلى قناعة تامة بعجز المعارضة عن استنهاض الشارع، وعطبها الدائم الذي ما منه شفاء. فالقاسم المشترك بين دعاة التخلي عن الثورة الشعبية واعتماد المشاركة في الانتخابات كوسيلة للنضال هو القناعة بأن ما لم تقدر عليه المعارضة في الثمانية والعشرين سنة الماضية لن تقدر عليه في مستقبل أيامها. وعليه فالتفكير الواقعي يقتضي أن تتخلى المعارضة عن هدف إسقاط النظام عن طريق الثورة الشعبية. لأن الثورة الشعبية لن تقوم، والإنقاذ باقية باقية.. وعليه يصبح التمسك بشيء عصي على التحقيق ضرب من الجنون.

    وبالطبع ليس في اليأس ما يعيب إذا صََّحت مقدماته وتماسكت الأرض التي يقف عليها. ونحن نعلم أن يأس المهزوم من تعديل ميزان القوة حال المواصلة في القتال، أو إنهاكه وفراغ ذخيرته، يولِّد الاستسلام.. وحتى الاستسلام قد يكون عين الحكمة في مقامه، وقد ينتج عنه نصر ما، بطريقة ما، في وقت ما. هذه كلها دروس مستقاة من تجارب دول مثل اليابان وألمانيا اللتين أقرتا بالهزيمة واستسلمتا لدول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ثم نهضتا من الرماد.

    إذن الخلاف بيننا ليس في المصطلحات، ولكن في دقة أو صحة التحليل من جانب، وفي اجتراح الحلول من الجانب الآخر. وفي بقية هذه الحلقات سأناقش فكرتين أساسيتين. الأولى تجئ في إطار الإجابة على تساؤل مفاده: هل طرح السر سيد أحمد والنور حمد والآخرون الأسئلة الصحيحة؟ وهل أبانوا لنا بدقة من نصارع؟ وحول ماذا نصارع؟ في اعتقادي أن هناك فجوات كبيرة في التحليل. وأن التحديات التي تواجه بلادنا لهي من العِظَم بحيث لا تنفع معها أمثال الحلول المقترحة. وأن بعض الحجج التي أوردها السر سيد أحمد في مقالاته يمكن أن تصلح أسسا لرفض الانتخابات، واستمرارية المقاومة.

    أما الفكرة الثانية فتدور حول أن المشاركة في الانتخابات، في ظل الخضوع لشروط الإنقاذ، ليست على التحقيق المخرج الوحيد، أو المخرج الآمن لأزمتنا الحالية. بل إن التواضع عليها قد يعرض شعبنا للضياع. هذا سيكون في الحلقة الثالثة. أما في هذه الحلقة فسأورد تلخيصا لمداولات المجموعة الإطارية التي أشرت لها في المقال الأول.

    المجموعة الإطارية

    كما اسلفتُ القول، عقدت المجموعة الإطارية أول هذا العام جلسة للتداول حول جدوى المشاركة في الانتخابات، قدَّم فيها اثنان من أعضاء المجموعة مداخلتين جيدتين، واحدة مع والثانية ضد المشاركة في الانتخابات. وانبى على المداخلتين نقاش علمي رصين. كذلك وعدتُ بالعودة لحديث السر سيد أحمد عن تجارب دول شمولية نجحت معارضاتها في منازلة الحزب الحاكم وانتزاع السلطة منه عن طريق الانتخابات بعد عدد من الجولات الانتخابية مثل السنغال. وقد دعم مُقدِّم المداخلة الأولى فكرة السر هذه. وسأكتفي بإيراد الحجة في هذه الحلقة، وأرجئ الرد عليها في الحلقة القادمة.

    الحجج الداعمة للمشاركة

    أشارت المداخلة الأولى إلى أن أول الحجج وأكثرها قوة هي أن المشاركة تُثمِر نتائجَ لا تثمرها المقاطعة. وأن البحث العلمي يثبت ذلك. فهناك دراسات كثيرة في هذا الموضوع. فعلى سبيل المثال، درس مايكل ماثيو (٢٠١٠) حالات مقاطعة وتهديد بالمقاطعة في ١٧١ بلدا، بين العام ١٩٩٠ والعام ٢٠١٠. والخلاصة التي توصل لها هي: “إن المقاطعة في الغالبية العظمى من الحالات لم تكن فعالة في إحداث التغيير المأمول في الحكم. بل بالعكس كانت كارثية بالنسبة للمعارضة، بينما أدت لتكريس السلطة في يد الحزب الحاكم “. وضرب أمثلة ضمنها:

    لبنان ١٩٩٢، قاطعت الأحزاب المسيحية الانتخابات بحجة التدخل السوري فاكتسحها حزب الله.
    صربيا ١٩٩٧، قاطعت أحزاب المعارضة الانتخابات، فأعيد انتخاب مِلوسيفِك وأشعل الحرب في كوسوفو.
    زيمبابوي ١٩٩٥، قاطعت المعارضة الانتخابات فأعيد انتخاب روبرت موغابي
    العراق ٢٠٠٥، قاطع السُّنة الانتخابات، فجرى تهميشهم وإقصاءهم.
    أما في حالتنا فإن المشاركة تحقق ثلاثة فوائد رئيسية، هي:

    أولا تتيح للأحزاب بناء قدراتها والاتصال بجماهيرها وتعبئتها.

    ثانيا، تقدم سياسات بديلة توفر في أول الأمر شعاعا خافتا وأملا ضئيلا لدوائر محدودة. وسوف يبدأ الشعاع في اللمعان والأمل في النمو بمرور السنين وتوالي الدورات الانتخابية اللاحقة.

    ثالثا، أن المقاطعة لم ولن تنجح في إحداث التغيير المنشود. بل هي في الحقيقة تضر الأحزاب المقاطعة أكثر مما تضر الحكومة. هي تضعف الأحزاب وتُهمِّشها في نظر الجمهور وربما تهددها بالسقوط من ذاكرته مع تطاول العهود الدكتاتورية كما هو حاصل عندنا.

    الحجج الرافضة للمشاركة

    تتأسس الدعوة للمقاطعة على الحجج الرئيسية التالية:

    أولا، الانتخابات سوف لن تكون حرة شفافة ومتكافئة الفرص. الحزب الحاكم بيده كل شيء، المال والاعلام والحكومة بجميع أجهزتها من أمن وجيش وشرطة وخدمة مدنية ومفوضية الانتخابات وقانونها. ومع ذلك فالحزب الحاكم ماهر في الغش في جميع مراحل العملية الانتخابية، فقد زور التعداد السكاني، والتسجيل، والتصويت حيث ضبطت عناصره وهي تعبئ الصناديق و”تخجَّها” بليل.

    ثانيا، المشاركة تمنح الانتخابات المزوَّرة وكذلك الحكومة المنبثقة عنها شرعية مجانية، تلعب فيها أحزاب المعارضة دور “الُمَحلِّل” الذي يوفر لها المشروعية حيث ستبدو الحكومة في نظر الشعب والعالم أنها حكومة منتخبة شرعيا، والعبرة بالنتائج مهما كانت الطريقة مختلة.

    ثالثا، المشاركة دون أن تدفع الحكومة استحقاقاتها بإبداء الجدية والإرادة السياسية للخروج بالبلاد من هذا النفق لا تعني بالنسبة للمعارضة سوى الاستسلام. فالحكومة ستفرض على المعارضة شروط المنتصر victor’s justice. مثلما يردد البشير في خطبه الأخيرة. ضمن هذه الشروط:

    تحريم الاتصال بحاملي السلاح أو التعامل معهم.
    تحريم الحديث عن اسقاط النظام.
    تحريم الحديث عن العدالة والمحاسبة، إلخ..
    أما المعارضة، من الجانب الآخر، فستعلم أنها إنما جاءت لبيت الطاعة منكسرة ذليلة صاغرة. وهي، في ظل القوانين الحالية، ستظل أسيرة “بيت الحبس” الذي تقبع فيه حاليا، وسوف لن تستطيع مغادرة دُورِها، والاتصال بجماهيرها في الندوات الجماهيرية، في الميادين العامة، إلا في مواسم الانتخابات، وفقط أثناء الحملات الانتخابية. ثم ترجع لبيت الحبس لخمسة أعوام قادمة. وهذا يُسْقِط الحجة القائلة بقدرة الأحزاب على بناء القدرات والاتصال بالقواعد وبناء المؤسسات الحزبية التي يقول بها دعاة المشاركة.

    رابعا، لا أحد يقول بأن المقاطعة يمكن أن تسقط الحكومة، ولكن نقول بأنها تحرجها وتضعفها، وترسل لها رسالة بليغة مفادها أن الشعب واع وذكي ولا يمكن استغفاله وجره لمثل هذه المسرحية العبثية. إن منظر مراكز الاقتراع وهي خاوية من المقترعين، بينما ضباط الانتخابات نيام على مكاتبهم، في الانتخابات الماضية، أحرج الحكومة وجعلها محل سخرية العالم. ثم إن المقاطعة تمثل واحدة من أمتن أشكال المقاومة التي تلهم الشعب وتشحذ هممه، وتنشط ملكة الإبداع فيه ليبتكر أشكالا أخرى من المقاطعة الاقتصادية، ورفض الخروج للشارع، والبقاء في البيوت، والعزل الاجتماعي لرموز النظام، مثلما حدث في عزاء السنهوري الذي طُرِد منه نافع، وعزاء فاطمة أحمد إبراهيم الذي طرد منه بكري وأحمد هارون.

    خامسا، تجريب المجرَّب. فقد جرَّبَت أحزاب المعارضة مشاركة الحزب الحاكم منذ ٢٠٠٥، في إطار اتفاقية السلام الشامل، دون أن تُزَحزِح الحكومة قيد أنملة في مسألة إصلاح القوانين، إلى أن جاءت انتخابات ٢٠١٠. حدث هذا في وقت كانت موازين القوة بين الحكومة والمعارضة أفضل بكثير مما هي عليه الآن بالنسبة للمعارضة. فما بالك الآن وأنتم تقرون بأن المعارضة في أضعف أحوالها على الإطلاق. إذن لا يمكن أن تُكَرِّر نفس الفعل وتَسْلُك نفس الخطوات وتتوقع نتائج مختلفة. فالمشاركة لا تعني سوى أن تتحوَّّل أحزاب المعارضة إلى شيء شبيه بأحزاب الحوار الوطني. أي عبارة عن “تمومة جرتق” وإكسسوار تزين به الحكومة جيدها في الحفلات الدولية.

    سادسا، المشاركة لن تحدث التغيير حتى ولو على المدى المتوسط أو الطويل. بل ستعطي الإنقاذ على الأقل ثلاثين عاما قادمة. فالبشير سيفوز في جميع الدورات القادمة إلى أن يموت في الكرسي، وسيخلفنا بعده جيل الانقاذ الثاني وهكذا ستضيع الحقوق والدماء إلى الأبد، وسوف يكتمل استعبادنا بواسطة هذه الطبقة الحاكمة الجديدة إلى الأبد. وسوف تتحقق مقولة نافع بأنهم “سيسلمونها لعيسى”.

    كيف يرد دعاة المشاركة على دعاة المقاطعة

    أولا عن تزوير الانتخابات:

    يقول دعاة المشاركة نعم سوف يكون هناك تزوير. ولكن يمكن للمعارضة تضييق هذه الثغرة عن طريق المراقبة الحزبية ومراقبة المجتمع المدني المحلي والدولي لجميع مراحل العملية الانتخابية. فالمشاركة تتيح للأحزاب إثبات التزوير في حين أن المقاطعة تخلي الساحة للحزب الحاكم ليزور بارتياح. كذلك يمكن للمعارضة أن تجعل من قضايا القوانين المقيدة للحريات وقانون الانتخابات وغيرها معارك يومية تخوضها ضد الحكومة وحزبها الحاكم، تحاصرها بها إلى أن تجبرها على إصلاحها.

    ثانيا، حول مسألة إعطاء النظام شرعية:

    هذه الحجة لا قيمة لها لأن النظام لا يحتاج لشرعية تمنحها له أحزاب المعارضة ولا يعبأ بحجبها عنه. فهو حاصل على شرعيته بالقوة. والمجتمع الإقليمي والدولي يعترف به ويتعامل معه.

    ثالثا، أما عن كون المشاركة استسلام فهذا غير سليم. فالاستسلام هو أن تتخلى عن هدفك في التغيير. أما المشاركة ففي حقيقتها تبديل للوسائل والآليات وليست تخلي عن الهدف.

    رابعا، أما عن كونها لا تحدث التغيير على المدى المتوسط والطويل، فهذا أيضا ليس صحيحا. فالمشاركة في الانتخابات والصراع مع الحكومة وبناء التحالفات بين أحزاب الوسط، وقوى الهامش، والمتساقطين من الحزب الحاكم، يفرز ديناميات جديدة ستغير مسار الأحداث وتؤدي للتغيير.

    هذا ملخص لمداولات تلكم الجلسة. وأرجو أن أكون أنصفت الجانبين. أما في الحلقة القادمة فسأعود لمناقشة رؤى السر سيد أحمد والنور حمد، وأوضح وجهة نظري في نقاش المجموعة الإطارية، وبالذات مسألة البحث العلمي.



    تصحيح واعتذار

    نسيت أن أورد اسم الأستاذ نبيل أديب كواحد من أوائل الذين كتبوا يُحِثُّون المعارضة على خوض الانتخابات. وفي نفس الوقت أوردت اسم السر السيد ضمن الذين دعوا للمشاركة وهو في الحقيقة لم يفعل. أعتذر لهما وللقراء.

    (عدل بواسطة Yasir Elsharif on 04-25-2018, 11:46 PM)

                  

04-25-2018, 11:17 PM

Abureesh
<aAbureesh
تاريخ التسجيل: 09-22-2003
مجموع المشاركات: 30182

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. الباقر العفيف الدعوة لدخول الانتخابات � (Re: Yasir Elsharif)

    سلام يا اخ ياسر.

    نظام الانقاذ دا ما حيمشى.. لا الإنتفاضة ولا بالسلاح ولا بالإنتخابات.
    السبب هو:
    ما فى زول قاعد يعارضو.
                  

04-25-2018, 11:58 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48812

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. الباقر العفيف الدعوة لدخول الانتخابات � (Re: Abureesh)

    الله يبارك فيك يا أخي أبو الريش
    سمعت الطرفة التي تقول : المرحوم ما كتلو المرض، المرحوم مات من عدم النقش (والنقش هو الأكل)
    دحين النظام دا ما بتكتلو المعارضة. بموت براهو كدا.. حيلو بس ما بشيلو زي ما نحن شايفين.
    ولا انتخابات ولا يحزنون.
    ـــــــــــــ

    الدعوة لدخول الانتخابات كوسيلة لمقاومة النظام: ما وراء الفكرة (٣) التغيير الأحد, 22 أبريل, 2018 زمن القراءة المقدر: 9 دقيقة
    الباقر العفيف

    وَعَدْتُ في الحلقة الماضية بالعودة لمواصلة النقاش في أطروحة دعاة المشاركة في الانتخابات، والتي وَجَدَتْ رافعة كبيرة بمقالات السر سيد أحمد والنور حمد. وتساءلتُ عما إذا كان جميع هؤلاء الذين يدعون للمشاركة طرحوا الأسئلة الصحيحة، أو دخلوا المدخل الصائب فيما يتعلق بالأزمة في السودان. فالسؤال الأساسي في تقديري هو: حول ماذا تدور المعارك؟ وبعبارة أخرى، ما الذي نريد استنقاذه من الإنقاذ؟ والتعبير باللغة الانجليزية ؟ what are the stakes. أي ما هو حجم المخاطر التي يواجهها شعبنا؟ ويتفرع عن هذا السؤال الأساسي سؤال فرعي هو: ما هي طبيعة الجهة أو الجهات التي نصارعها؟ هذه أسئلة تبدو، من الوهلة الأولى، بسيطة أو ربما ساذجة، كما تبدو أجوبتها بديهية، ولكن، لدى النظرة الفاحصة، نكتشف أنها ليست كذلك، كما سنرى لاحقا. وهناك أيضا سؤال يتعلق بالمدخل ومقاربة القضية. إن نجاحنا في طرح الأسئلة الصحيحة، وفي العثور على المداخل السليمة، هو الأهم، حتى ولو لم نجد إجابة قاطعة، أو كانت إجابتنا غير كاملة. فبطرح الاسئلة الصحيحة، تصبح الرؤية أكثر وضوحا، والطرق المؤدية إلى الحلول أكثر تمهيدا. في هذه الحلقة قبل الأخيرة، أتناول قضيتين، الأولى قضية البحث العلمي، والثانية قضية المدخل على القضية.

    البحث العلمي

    أشرت في الحلقتين الماضيتين للأمثلة التي أوردها السر سيد أحمد لدول ديكتاتورية خاضت معارضاتها الانتخابات ضد الأحزاب الحاكمة، واستطاعت أن تحقق الانتقال الديمقراطي سلميا. كذلك أشرت للمجموعة الإطارية، والدراسة التي أثبتت أن المشاركة، في عدد من البلدان، أتت بنتائج أفضل من المقاطعة.

    وبطبيعة الحال فهذه الدراسات تفتح نوافذ في عقولنا نطل منها على تجارب الآخرين بغرض الإفادة منها في تكتيكاتنا وأساليب عملنا، وليس بالضرورة بغرض نسخها ولصقها. فبداهة أن الأوضاع السياسية للدول ليست متطابقة، ولا يصلح فيها تعميم نتائج التجارب. ويكفي مثالا على ذلك فشلنا المجلجل في محاكاة الربيع العربي، وإخراج المظاهرات من المساجد. فاستلهام الربيع العربي في شحذ الهمم، ورفع المعنويات، ودرجة الجسارة، وتَعَلُّم أساليب الاتصال والتنظيم والحشد، وتكتيكات التعامل مع الشرطة والغاز المسيل للدموع، إلخ، شيء، أما استنساخه بحذافيره وتقليده تقليدا أعمى فشيء آخر تماما. وكذلك الحال بالنسبة لتجارب الدول المشار إليها في تلكم النماذج.

    كتبت الباحثة أيلين لّسْتْ Ellen Lust” ورقة عنوانها “الدمقرطة عن طريق الانتخابات؟ الزبائنية التنافسية في الشرق الأوسط”، والعنوان الأصلي هكذا:

    Democratization by Election؟ Competitive Clientelism in the Middle East.

    تقول في مطلع الورقة: “في كثير من الدول، تُقِيمُ الأنظمةُ الدكتاتورية انتخابات بانتظام، دون أن تؤدي لانتقال نحو الديمقراطية.. حتى في الأنظمة المهيمنة ككوريا الشمالية، وسوريا، وزيمبابوي، على سبيل المثال، ذهب الناخبون لمراكز الاقتراع، بانتظام، وأدلوا بأصواتهم لاختيار ممثليهم على كافة مستويات الحكم المحلية والقومية. لقد وجد الباحثون أن الأنظمة التي تقيم انتخابات، تدوم أكثر من تلك التي لا تفعل”… ثم تساءلت قائلة: “لماذا تُرَسِّخ الانتخابات الديكتاتوريات بدل أن تُقَوِِّضَها، وفي أي الظروف والشروط تفعل ذلك”؟ وتجيب بأن الديكتاتوريات ترسخ نفسها عندما تقيم نظاما زبائنيا، فيه النواب المنتخبون لا يُشَرِّعُون، وإنما يصيرون “نواب خدمة”، وواسطة بينهم وبين الدولة الزبائنية. وهنا ربما تزول دهشة السر سيد أحمد التي أبداها عن أهله في الشمالية الذين يلعنون الإنقاذ ويصفونها بالفساد، ويُدلُون بأصواتهم في الانتخابات لرجالها في الوقت ذاته. فهم يعلمون، بالتجربة العملية، أن الإنقاذ دولة زبائنية، وأن حصولهم على أي خدمة منها، لمنطقتهم، مهما ضؤلت، لن يتحقق إلا بواسطة “نائب خدمة” من أهل الحظوة عند الحكومة. ولقد رأينا في فيديو منتشر كيف يُقايض والي النيل الأبيض، عبد الحميد كاشا، مواطنيه بشارع ظلط طوله أربعة كيلومترات فقط، لقاء استقبالهم البشير وإظهار الولاء له. إنها الدولة الزبائنية على أصولها، وشعارها للمواطنين تلخصه المقولة الشعبية: “تدوني بديكم، والشيء بالشيء”.

    الدولة مرة أخرى

    أما الشروط الأخرى التي تؤدي فيها الانتخابات لترسيخ النظام القمعي بدل تقويضه فعديدة، ولكن أهمها عندنا في سودان الإنقاذ هو التغيير الذي حدث في جوهر الدولة ذاتها. إن كان هناك شيء واحد مختلف بيننا وبين جميع البلدان المشار إليها في هذه الدراسات إنما يتمثل في تدمير الإنقاذ للدولة الموروثة من المستعمر. ففي البلدان المشار لها، ظلت الدولة الموروثة منذ الاستقلال متماسكة في جوهرها، أو على درجة معقولة من التماسك، وجوهر الدولة، أي دولة، هو الحياد، وهي تَقْرُب أو تَبْعِد من جوهرها بقدر درجة حيادها. لذلك نرى في الدول الأخرى أنه عند تغيير الحكومات، يجري تغيير الوزراء والقيادات العليا في الدولة، ولكن ما دون ذلك يظل جسد الدولة كما هو. أما في السودان، فقد حَطَّمَت جماعة الأخوان المسلمين الدولة وأفرغتها من جوهرها اللبرالي، والمحايد نسبيا. ثم عبأتها بكوادرها وعقيدتها ونفسيتها. فأصبح الحزب هو الدولة. وأصبحت الدولة تتصرف كالحزب. وبعبارة أخرى إذا كانت “الحكومة” عند الآخرين هي موضوع الصراع، فإن “الدولة” ذاتها، في حالتنا هي موضوع الصراع، وجِهَتِه والطرف الأساسي فيه. أي هي الخصم والحكم. فالمعارضات في الدول الأخرى تصارع الأحزاب الحاكمة في بلدانهم على “الحكومة”، ليديروا بها “الدولة”. ونحن نصارع حزبا صار هو الدولة، على “حكومة” نريد أن ندير بها دولة صارت هي الحزب. هذه هي معضلتنا التي ليس لها شبيه في العالم قاطبة. والحزب الحاكم في السودان يصنع معارضته بنفسه، بعضها خرجت منه، وصارت توائم سيامية صغيرة وأحيانا مشاكسة، مثل الأطراف الزائدة، متعلقة بجسمه، كالمؤتمر الشعبي، والإصلاح، وسائحون وغيرهم. وبعضها الآخر عبارة عن أقمار تدور في فلكه وتُسَبِّح بحمده، مثل أحزاب التوالي، وأحزاب الحوار، التي يُفَرِّخها مثل تفريخ الدواجن. هذا هو المسرح الذي يدعونا دعاة المشاركة للعب فيه. فهل يمكن أن نلعب فيه أي دور غير دور الكُومبارس؟ وهل يمكننا، بواسطة اللعب فيه، أن نوقف عملية التشليع والتخريب التي أطلقها الترابي قبل ثمانية وعشرين عاما؟

    تشخيص الدواء بدلا عن تشخيص الداء

    القضية الثانية هي قضية المدخل للتحليل. إنني أزعم أن دعاة المشاركة دخلوا على القضية من المدخل الخاطئ. فهم انطلقوا من تحليل المعارضة، وليس من تحليل النظام. وبما أن المعارضة تمثل وصفة العلاج، وليست هي الداء، يصبح مدخلهم على القضية مدخلا ضيقا حرجا لن يؤدي بهم إلى واضحة من الأمر. أعلم جيدا أن هناك من يعتبر المعارضة، أو بعض أقسامها، جزءا من المشكلة، ولكن هذا ليس موضوعنا الآن.

    ولعل أوضح ما يظهر هذا المدخل الخاطئ، الذي يقود، بالضرورة، لنتائج خاطئة، هو ما جاء في الورقة التي قدمتها حركة حق “الأخرى” والتي أشار إليها صديق محيسي باعتبارها سبقت الجميع في الدعوة للمشاركة في الانتخابات. ولا شك أن تقديم الأحزاب والحركات السياسية للأوراق لأمر يُحْمَد لهم، بغض النظر عن المحتوى. شاد مؤلفو الورقة بنيانهم على أساس متين وعميق الغور من خيبة الأمل، وهم ينظرون إلى الوراء، فيرون الحصيلة المتواضعة لسنين النضال الطويلة العجفاء. لذلك “قِنْعُوا مِنْ خَيْرَا” في المعارضة، فأسهبوا في هجائها وتعداد أوجه قصورها وخيباتها. فهي ضعيفة، مشتتة، تتناوشها الأزمات، وتعج “جخاخينها” بحياكة المؤامرات.. تفتقد إلى النظرة الاستراتيجية.. أساليبها عتيقة عفا عليها الزمن.. وعملتها بالية، لا “تسير” في عالم اليوم، لا إقليميا ولا دوليا.. ولا تشتري لها ما يستحق التفاتة من الشعب. فهل هناك وصفة أو مقدمة أبلغ من هذه تمهد لإناخة بعير المعارضة عند خيمة الحكومة؟ فبما أن المعارضة لم ولن تستطع الارتفاع لمستوى التحدي، وبما أنها لم ولن تقدر على ردم الهوة الكبيرة في ميزان القوة بينها وبين النظام، وبما أن “هدف إسقاط النظام” عبر الانتفاضة الشعبية هدف غير قابل للتحقيق “في فترة زمنية معقولة”، لم يبق أمامهم سوى التنازل عنه، ولو مؤقتا، واختيار هدف أقل يمكن أن يكون قابلا للتحقيق. فما هو هذا الهدف القابل للتحقيق؟ الإجابة هي “التحول الديمقراطي”. وتحت هذا العنوان وضعوا دستة من الأهداف الفرعية بدأ من إلغاء أو إصلاح القوانين المقيدة للحريات، مرورا بإعادة بناء الخدمة المدنية والجيش والأمن، مرورا بحكم القانون، انتهاء بمحاربة الفقر. وتأتي المشاركة في الانتخابات كآلية جديدة لتحقيق هذه الأهداف القابلة للتحقيق في فترة زمنية معقولة. وما الذي سوف تفعله المعارضة إن حلت علينا الانتخابات في ٢٠٢٠ دون أن يتحقق أي من هذه الأهداف “القابلة للتحقيق”؟ الإجابة هي “حينها نعلن المقاطعة”. ثم ماذا؟ هل نرجع لناس أبو عيسى و”مؤامراتهم”؟ أم نُخَفِّض السقف قليلا؟ وإذا سرنا في اتجاه التخفيض أين سننتهي؟

    وحتى عندما تناولوا النظام بالتحليل، لم يعملوا أدواتهم في تحليل طبيعته وما يمثله من خطر ماحق على حاضر الشعب، وتهديده الأجيال القادمة بالضياع. وإنما ركزوا على قدرته على البقاء، وخروجه منتصرا، أو بالقليل من الخسائر، من جميع المعارك والأزمات التي مرَّت به، سواء داخل بنيته وحواضنه المختلفة، أو المعارك التي خاضتها معه المعارضة، بالسلاح وسلميا، أو مآزقه الإقليمية والدولية. وخلصوا إلى أنه أكثر كفاءة من نظام عبود والنميري، في تأمين نفسه ضد المصادر التي تنتج الثورة الشعبية. لذلك من المستحيل عودة أكتوبر وأبريل.

    طبيعة النظام

    المقاربة الصحيحة، في تقديري، هي أن نُعمل أدواتنا في تحليل طبيعة النظام أولا، ثم نحدد طبيعة معركتنا معه ثانيا، قبل الوصول لطرق النزال وأدواته. وليس هناك من مدخل أفضل لتحليل طبيعة النظام من هذه الأحدوثة التي حكاها الراحل المقيم الطيب صالح. فهو ذكر أنه لما قابل الترابي، صدفة، في أوائل التسعينات سأله: “من الذي أعطاكم الحق لتعيدوا صياغة المجتمع السوداني من جديد، وتحملوه على ما يكره؟ فأجابه الترابي بسؤال آخر قائلا له: “ومن أعطى الإنجليز الحق ليستعمروا السودان”؟ فكأنه يقول له أنه أخذ هذا الحق “غلابا” بقانون القوة. فالقوة، في نظر الترابي، العاشق المتبتل في محرابها، هي التي “تصنع الحق وتتقاضاه”. وفي ندواته ومقابلاته الصحفية الكثيرة، أفاض الترابي في الحديث عن أن الديمقراطيات الغربية إنما نهضت بعد حسم الصراع حول الرؤى (يسميها الثوابت) بالقوة والعنف. فالثورة الفرنسية كانت عنيفة مدمرة ودموية، وكذلك كانت حرب الاستقلال الأمريكية. وهو يُذَكّرُنا على الدوام بأن الديمقراطيات الغربية إنما تجلس على برك من دماء. ولكنها أرست الأسس التي قامت عليها الأنظمة التعددية المستقرة التي نشاهدها الآن و”نفتتن” بها نحن “عملاء الغرب”.

    تشليع الدولة

    وعلى هذا شرع الترابي في حسم صراع الرؤى لمصلحته وفرض “ثوابته” التي سوف يحشرنا داخلها لنمارس التعددية “المستمدة من إرثنا السماوي”، ومن “شريعتنا الإسلامية”، و”هويتنا العربية”. ووفق نظريته فإن التحرر من الاستعمار، وتحقيق الاستقلال الحقيقي، لا يتحقق إلا بالقضاء على الدولة التي بناها المستعمر الإنجليزي، وإعادة صنعها على عينيه. فالتدمير المُمَنْهَجْ الذي حاق بأعمدة الدولة السودانية الحديثة، من جيش وشرطة وأمن، وقضاء وخدمة مدنية، وتعليم وصحة، ومشروعات اقتصادية، كمشروع الجزيرة، والخطوط الجوية والبحرية، والنقل النهري، والنظام المصرفي، إلخ، إنما كان يسير وفق خطة الترابي الرامية للقضاء على جوهر الدولة التي بناها الإنجليز. وهو، كما نعلم جميعا، جوهر منبثق من رؤى لبرالية وعلمانية. فالترابي أراد حسم حرب الرؤى الذي حكى عنه فرانسيس دينق، بالقوة، وقد نجح في ذلك نجاحا يُحْسَد عليه. فما نراه نحن مجرد فشل سياسي واقتصادي للإنقاذ، وما نظنه مجرد فساد وسرقة، هو في حقيقته “تشليع” مُتَعَمَّد لأركان الدولة القديمة، يسير وفق خطة معلومة. ولعلنا لم نقف كثيرا عند تدمير مشروع الجزيرة، وحديث البشير عن مزارعي المشروع بوصفهم “تربية شيوعيين”. كذلك لم نقف كثيرا عند النهب الخرافي الغير مسبوق لمقدرات البلاد، وبيعها في سوق الله أكبر، واختفاء عائدات الصادر، وسرقة قروض بمئات الملايين من الدولارات. إنهم “يَدُكُّونَها” دَكّاً، أو “يَشُكُّونَها” مثل “الكتشينة” ويعيدون رصَّها من جديد برؤى وعقيدة جديدتين.

    تدمير الروح

    يسير جنبا إلى جنب مع “تشليع” الدولة، تخريب آخر، أكبر وأخطر، هو تخريب “الروح”، وتجريف القيم والأخلاق والمروءة، وتدمير البنية العقلية والنفسية التي تمثل شخصية الشعب، وهويته. هذا هو الخطر الحقيقي. وهذا هو ما يسميه الترابي “تمدد الإسلام في البلاد”. والذي لا يعني في حقيقته سوى انتشار جرثومة الأخوان المسلمين والوهابية، التي تفتك بالروح فتكا، في جسد البلد، وتلويثها لروح الشعب. وبالرغم من إبعاد الترابي، وسجنه، وإذلاله بواسطة تلاميذه، ثم موته “بالمَغَسَة”، إلا أن المشروع الذي أطلقه ما يزال يعمل. قوانينه هي هي، وسياساته هي هي، وآلياته هي هي. يمكن للحكومة أن تقدم تنازلات في سياساتها الخارجية، رضوخا للخارج، بغريزة حب البقاء وحفظ الحياة، ولكنها، في الوقت ذاته، تزيد من ضغط حذائها على رقبة الشعب. والذين يتحدَّثُون عن سقوط “المشروع الحضاري” عليهم أن يُرْجِعُوا البَصَرَ كَرَّة أو كَرَّتَيْن.

    ففي حقيقة الأمر، مشروع الإنقاذ مشروع استعمار داخلي، يرمي لاستعباد الشعب، وهو لا يكتفي بالسيطرة السياسية والاقتصادية، شأن كل ديكتاتوريات الدنيا، التي أورد السر سيد أحمد نماذج منها، بل يتحكم في حياة المجتمع، ويزحف على الحَيِّز الخاص للناس، ويهدف إلى الاستيلاء على روح الشعب وتجريده من نفسه، وتفريغه من هويته، وملئه بهوية الإخوان المسلمين، والوهابية، والدواعش. والحرب ضده يجب أن تكون حرب تحرير من ربقة العبودية، وليست فقط من أجل التعددية والتحول الديمقراطي. وإلا فهي تعددية الأقنان، وديمقراطية العبيد. والذي يظن أن أحمد بلال، وعبد الرحمن الصادق، وود ناس الميرغني، الذي لا يسمع له حس أو صوت، وحسن إسماعيل، وغيرهم، ليسوا أقنانا واهم ليس إلا.

    وعندما تكون الحرب حرب تحرير، لا توضع لها سقوف زمنية، ولا يُقاس هدف المقاومة بكونه “قابل للتحقيق في فترة زمنية معقولة”. بل يُصْبِِحُ الهدف النهائي هو الانعتاق من أسر العبودية، وتدمير المُسْتَعْبِد، واقتلاعه من الجذور. إنها معركة خلاص الروح من الجَرَّة التي سُجِنَت فيها، والتي سوف لن تنتهي إلا بتحطيم الجَّرَّة حتى لو استمرت ألف عام وعام.

    أما الهدف الآني فهو المحافظة على شعلة المقاومة حية، متضرمة، وحمايتها من رياح اليأس والإحباط، أن تُطْفِئَها، وتُذهِبَ بضوئها.. وواجب القادة السياسيين، وقادة الرأي، والمفكرين، والمثقفين، والمبدعين هو صرف الجهد والوقت وطاقات الفكر والإبداع في تنمية هذه الشعلة، حتى تقوى وتكبر، وتصبح حريقا يعصف بالنظام. فإما انتصرنا، في جيلنا هذا، وحررنا أنفسنا وأجيالنا القادمة، أو متنا دونها، وأورثنا الراية لأبنائنا وبناتنا وأحفادنا وحفيداتنا. نواصل.
                  

04-27-2018, 08:17 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48812

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. الباقر العفيف الدعوة لدخول الانتخابات � (Re: Yasir Elsharif)

    الدعوة لدخول الانتخابات كوسيلة لمقاومة النظام: ما وراء الفكرة(4) التغيير الخميس, 26 أبريل, 2018 زمن القراءة المقدر: 13 دقيقة


    الباقر العفيف

    خلصت في الحلقات الماضية إلى أن دعاة المشاركة في الانتخابات، بوصفها وسيلة مستحدثة لمقاومة النظام، انطلقوا في أطروحتهم من المنطلق الخاطئ، ودخلوا للقضية مدخلا خاطئا، وطرحوا الأسئلة الخاطئة فيما يتعلق بالأزمة في السودان. فأما مُنطَلَقِهم ووقودهم المُحَرِّك فهو اليأس من رحمة الله ونصره، والخوف على الشعب من عنف النظام وبطشه، والإحباط من فشل المعارض وعجزه. وأما مدخلهم على المعضلة فكان تشخيص العلاج بدلا عن تشخيص المرض. وأما أسئلتهم التي طرحوها فكانت حول حواشي الموضوع ولم تتناول لبه وجوهره، أي طبيعة النظام.

    ولذلك كان خطابهم كله موجها للمعارضة، ولم يكن موجها للنظام، أو لأهل الحكم وحواضنه ومؤيديه. والنتيجة هي أنهم أعفوا النظام من المسؤولية في المساهمة في حل الأزمة التي صنعها بيديه، ولم تصنعها المعارضة. فبدلا عن أن يطالبوا النظام بالاعتراف بفشله، والتصالح مع شعبه، وإبداء حسن النية بتحقيق السلام، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وتهيئة المناخ لانتخابات حقيقية وليست عبثية، طالبوا المعارضة بالتخلي عن شعار إسقاط النظام، والخضوع للأمر الواقع، والقبول بانتخابات يخوضونها بأيد مُكَبَّلة، وأفواه مُلجَمَة، وألسن مقطوعة. وهذا أمر مدهش حقا.

    ربما كان اليأس من النظام، وكون أهله “صم بكم عمي فهم لا يعقلون”، أيضا وراء تجاهل هؤلاء مخاطبة الحكومة. فالنظام أثبت خلال مسيرته الطويلة أنه نظام عدمي، طائش، وغير مسؤول.. تقوده عصابة باعت نفسها للشيطان ففسدت وأفسدت. ويجلس على قمته رجل معتوه، ناقص عقل وقلب ودين، لا يأبه لمثل هذه الدعوات، وأنه ماضٍ في طريق الهاوية مهما كانت النتائج، حتى ولو تَشَظَّى الوطن دويلات، وهلك الناس أجمعون. ربما رأى دعاة المشاركة أن يُطَبِّقُوا المثل السوداني الشهير “المجنون في ذمة الواعي”. وأنهم توصلوا لنتيجة مفادها أن أهل النظام مجانين، وأن قادة المعارضة، رغم عجزهم، عاقلون. لذلك فمن واجبهم مسايرة المجنون ومصانعته وإرضائه، وبذلك ربما يتفادون شره.

    يَبْرُزُ هذا الطرح الغريب عند السر سيد أحمد الذي يقر بأن “أهل الحكم مقتنعون بحجم الأزمة”، ولكنهم “غير قادرين” أو “غير راغبين” في “دفع الثمن السياسي اللازم ليجعل خطوات الاصلاح هذه تكتسب معنى وتأثيرا مباشرا على الأرض”. ثم يتساءل عن “كيفية مواجهة هذا الوضع”.. وبطبيعة الحال فإن هذا التساؤل يشير لإجابة واضحة تجعلك تتوقع منه مخاطبة “أهل الحُكْم” وحِثَّهم على أن يغيروا ما بأنفسهم، حتى يصيروا “أكثر قدرة” و”أكثر رغبة” في الإصلاح.. ومخاطبة حواضن النظام المتعددة، من حركة إسلامية، ومؤتمر وطني، وهيئة علماء، وخلافهم، يُحِثُّهم على الدخول في مراجعات فكرية، وإعمال العقل، وإظهار نوع من المسؤولية الدينية والأخلاقية والجهر بكلمة الحق عند السلطان الجائر.. ومخاطبة “الإسلاميين الواقفين على الرصيف” كما أخبرنا بهم، يحثُّهم على النزول من على رصيفهم، والتكفير عن سيئاتهم في حق البلد، وأن يلعبوا دورا يضغطون فيه نظامهم الذي ارتكب من الخطايا ما جعلهم “يحردون” منه، وأن يقوموا بما يقوم به مبارك الكودة حاليا، مثلا، إلخ. ولكنك تُفاجَأ بأنه يخالف كل هذه التوقعات، ويتجه بخطابه صوب الجهة الخطأ، أي صوب “القوى السياسية المعارضة”، التي يبدو أنها من شدة هوانها على الناس صارت “الحيطة القصيرة”، وينصحها بتقديم المزيد من التنازلات لاسترضاء النظام.

    يقول السر سيد أحمد، أن على القوى السياسية المعارضة “إعلاء راية العمل السلمي من داخل السودان وتحدي المؤتمر الوطني من خلال صندوق الانتخابات” وينصحها “بالعمل السياسي السلمي.. والصبر عليه، واستغلال أي فرصة متاحة بالمشاركة وليس بالمقاطعة”. فمقدمة السر سيد أحمد لا تقود لنتائجها المنطقية.. فهو بدلا عن مطالبة أهل الحكم الذين عاثوا في الأرض فسادا، ولم يتركوا موبقة في حق الوطن والشعب إلا وارتكبوها، بأن يقوموا هم بالخطوة الأولى بإبداء حسن النية واستعادة الثقة مع الشعب، يطالب المعارضة بتقديم التنازلات المجانية للنظام.. وهذا وضع مقلوب رأسا على عقب.

    وفي علم السياسة يوجد لهذا الوضع المقلوب مصطلح هو “سياسات الاسترضاء”policy of appeasement. أما تعريف تلك السياسة فهو “أن تقدم تنازلات غير منطقية لدكتاتور متسلط وشره للسلطة، وأن تسكت على انتهاكاته أو تقره عليها، مدفوعا بحالة قلق كبير منه على تهديده للسلام”. ارتبط هذا النوع من السياسة باسم نِفِيْل شامبرلين Neville Chamberlain رئيس وزراء بريطانيا منذ منتصف الثلاثينات من القرن الماضي وقبيل الحرب العالمية الثانية، حيث اتبع هذه السياسية مع هتلر، مُقِرَّا له على خرقه لاتفاقية فرساي treaty of Versailles وتَوَسُّعِه في أراضي الراين والتشيك، ظنا منه أن هتلر سيكتفي بما ابتلعه، وأنهم بذلك سيتفادون الحرب. ولقد فشلت هذه السياسية فشلا ذريعا، وأُدِِينَتْ إدانة كبيرة، وذهبت مثلا في التاريخ بوصفها سياسة ضعيفة، قصيرة النظر، زادت شهية هتلر للمزيد من التوسع وإشعال الحرب. وقد أدى فشل تلك السياسة لسقوط شامبرلين من رئاسة الوزارة وصعود ونستون تشرشل الذي قاد الحرب مع دول الحلفاء ضد هتلر. ومثلما فشلت سياسة الاسترضاء مع النازي الألماني فسوف تفشل أيضا مع النازي السوداني.

    وحديث عن الاقتصاد

    أفرد السر سيد أحمد حلقة كاملة عن الاقتصاد أبان فيها فشل النظام في إدارته. فقد أهملت الحكومة دعم المشاريع الانتاجية، بالذات في الزراعة والصناعات التحويلية، أيام الطفرة البترولية التي وفرت لها مليارات الدولارات. وكذلك فشلها في “كبح الانفاق الحكومي عبر تقليص الحكومات المترهلة، والسفريات الخارجية الكثيرة عديمة الفائدة”. كما تحدث عن “سياسات التمكين الاقتصادي، والشركات الرمادية” التي يديرها النافذون ولا تخضع لقانون.

    ولكن هناك قضايا جوهرية في أمر الفشل الاقتصادي للإنقاذ أغفلها السر سيد أحمد. وبالطبع لا يمكن الحديث عن الاقتصاد بغير الحديث عن قضايا الفساد الكبرى، كقضية الأقطان، وبيع أصول مشروع الجزيرة، وسودانير، وخط هيثرو، وفساد البشير وأشقائه، وزوجته “الصغيرة”، وعبد الرحمن الخضر، والمتعافي، وطه، وخلافهم. وبغير الحديث عن الأولويات المختلة للإنفاق الحكومي وتخصيص نسبة تبلغ ال ٧٠٪ من الميزانية للأجهزة الأمنية، والانفاق العسكري، والقصر، وإهمال الإنفاق على الصحة والتعليم وخصخصتهما. كذلك لا يستقيم الحديث حول الاقتصاد بغير الاشارة للدولة الزبائنية clientelist state، ودولة المحسوبية patronage state.. فالنظام بحكم طبيعته وهيكله لا يستطيع خفض الترهل الحكومي لأنه مبني على شراء التأييد عن طريق الوظيفة الحكومية، ما أدى لهذا التفتيت الذري للولايات، واستيلاد ولايات جديدة، كل حين وآخر، بواسطة الانقسام الأميبي، لخلق وظائف جديدة لمؤيدين جدد. فعلى سبيل المثال، دارفور، التي كانت ولاية واحدة، قُسِّمَتْ لثلاثة ولايات، ثم ما لَبِثَت أن تكاثرت، مثل الفطر، إلى خمس ولايات. وكردفان التي كانت ولاية واحدة، قُسِّمَت لولايتين، ثم صارت ثلاث ولايات. وهكذا حتى بلغ عدد ولايات البلد ١٦ أو ١٧، والله أعلم.

    هذه الحكومة المترهلة تحتاج لمصادر مالية ضخمة، مثل مصادر المملكة السعودية، لكي ما تعمل. ومعضلة النظام الحقيقية أنه واقع بين مطرقة العجز عن توفير المال اللازم لتزييت تروس هذه الماكينة الضخمة من جانب، وسندان العجز عن تقليصها من الجانب الآخر. وعجزه عن تقليص حجم الحكومة إنما هو عجز هيكلي يستحيل عليه إصلاحه. لأنه، إن فعل، سيكون بمثابة بتر أطراف الجسم واحدا بعد الآخر، وهذا أمر، بطبيعته، لا ولن يتم اختيارا. إذن هناك حتمية مؤكدة وهي أنه ستجيئ اللحظة التي سوف تتوقف فيها هذه الماكينة عن الحركة قريبا، مما سوف يُعَجِّلُ بانهيارها. وحينها سوف “تَبْرُك” الدولة، أي تُنِيخُ عن نفسها، مثل البعير المثقل بالأحمال، حتى وإن لم تُنِخْها المعارضة.

    ولقد لفت نظري حديث السر عن “تنامي اتجاه الناس إلى أخذ مصيرهم بأيديهم”، نتيجة لفشل الحكومة الاقتصادي. ومثال ذلك “ما شهدته قرية ود بلال بالجزيرة، التي كونت لها شركة للاستثمار والتنمية، وجعلت من سكان القرية حملة أسهم فيها”. أقامت هذه الشركة التعاونية مشاريع ناجحة، واستطاعت توفير التأمين الصحي لسكان القرية، وتقديم الخدمات الاجتماعية، ورعاية الأسر الفقيرة. اجتذب نجاح التجربة اهتمام أهل القرى المجاورة، فصاروا يَحِجُّون إليها لدراسة التجربة بهدف تطبيقها على واقعهم. ومضى السر سيد أحمد ليقول “أثبتت التجربة أنه يمكن عمل شيء إيجابي رغم البيئة الطاردة التي تتميز بغياب السياسات، وعدم ثباتها، وتعقيد الاجراءات، وانعدام الشفافية، في مشاريع الاستثمار الأجنبية، والتباس علاقتها بالسكان المحليين، وعمليات الفساد والمباغتة في القرارت التي تجعل من التخطيط والترتيب أمرا من الصعوبة بمكان”، ورغم ذلك ينصح الحكومة، الموصوفة بكل هذه الصفات المعوقة للاستثمار، أن تتدخل وتعمل على تعميم تجربة قرية ود بلال، في جميع محليات البلاد، وتسهيل إجراءات إنشاء مثل هذه الشركات الريفية. ومرة أخرى يفاجئنا السر سيد أحمد بنتائج لا تتسق مع مقدماته. إذ يستغرب المرء من دعوته لنفس الحكومة الموصوفة في الفقرة أعلاه، وليس حكومة أخرى ربما تأتي في المستقبل، بدس أنفها في تجربة نجحت بعيدا عنها، لتفسدها. فكأن فاقد الشيء، بالنسبة للسر، يمكن أن يعطيه. في الحقيقة يحتاج المرء لقدر هائل من التفاؤل، وكذلك لحسن نية من النوع الذي يفرش الطريق إلى جهنم، وقدر من الموضوعية التي تعبر الحدود إلى الغفلة، objectivity to a fault لكي ما يقترح مثل هذا الاقتراح.. خصوصا وأنه يخبرنا أن التجربة تنمو وتنتشر طبيعيا، وأن القرية باتت تستقبل وُفُودَ من قُرَى مُجاورة تسعى لاستلهام تجربتهم. فالواضح من سرد السر سيد أحمد نفسه أن شرط نجاح التجربة كان البعد عن الحكومة. وأنه افترع سرده بأن الناس “تريد مسك مصائرها بيدها”، يعني “ما بِيَدِ الحكومة”.

    إن هذه التجربة يمكن أن تُقْرَأ قراءة ثانية ومختلفة، حيث يمكن النظر إليها كنوع من أنواع المقاومة. فقد استغنت القرية عن الحكومة، وأدارت لها ظهرها.. شَقَّت قرية ود بلال طريقها للحصول على مصادر رزق، وتوفير فرص عمل، وتوفير خدمات، ومحاربة الفقر في مجتمعها، بنفسها، دون حاجة للحكومة. فهذه القرية إذن ملأت فراغ الحكومة، وفعلت ذلك بواسطة العمل الأهلي ومجتمعها المدني، ولم يبق لهم سوى إعلان الاستقلال ورفع علمهم الخاص بهم على سارية قريتهم. فهل هناك مقاومة أنجع من هذه؟

    نواصل.
                  

05-14-2018, 07:30 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48812

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. الباقر العفيف الدعوة لدخول الانتخابات � (Re: Yasir Elsharif)

    الدعوة لدخول الانتخابات كوسيلة لمقاومة النظام: ما وراء الفكرة (٥)
    الدعوة لدخول الانتخابات كوسيلة لمقاومة النظام: ما وراء الفكرة (٥)


    05-03-2018 05:14 PM
    الباقر العفيف

    في هذه الحلقة أناقش حجتين طرحهما السر سيد أحمد في معرض دفاعه عن دعوته للقوى السياسية بالتخلي عن هدف إسقاط النظام عن طريق الثورة الشعبية، والدخول في الانتخابات القادمة. جاءت حُجَّتُه الأولى في معرض حديثه حول الفرص التي أضاعتها الانقاذ، والثانية جاءت في معرض حديثه عن فترات الانتقال.

    الفرص المهدرة
    يقول السر إن الإنقاذ أهدرت أربع فرص. الفرصة الأولى هي انفرادهم بالحكم وهم مسنودون بتنظيم فعال وقوة مالية كبيرة. وأَزِيدُ على قول السر، أنهم كانوا أيضا مسنودين بما هو أهم من ذلك، ألا وهو التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. هذا الانفراد بالسلطة وَفَّر لهم تماسكا داخليا، ووحدة هدف كانت كفيلة بأن تُمكَّنهم من انطلاقة قوية لتحقيق مشروعهم. الفرصة الثانية هي نجاحهم في إحداث تغيير سياسي في أثيوبيا وأريتريا. هذا النجاح جعل منهم لاعبين مهمين في الإقليم، ووَفَّر لهم هدوءً يحتاجونه في الحدود الشرقية الطويلة مع البلدين. والفرصة الثالثة هي انتاج البترول وتَوَفُّر ريعه المُقّدَّر، بحسب السر، بحوالي ٣٠ إلى ٣٥ مليار دولار. والفرصة الرابعة هي استمرارهم في الحكم لفترة هي الأطول في تاريخ البلاد مما لم يتسنى لحكم "وطني" سواهم.
    ويمضي السر للقول: "ورغم هذه الفرص فإن النظام لم يَتَمَكَّن من تحقيق استقرار سياسي واقتصادي في البلد. بدليل الأزمة الخانقة في هذين الجانبين. وعدم مقدرته على إقناع القوى السياسية من خلال ممارسته وصدقيته بالعمل السلمي واعتماد صندوق الانتخابات وسيلة للتغيير". وهذا كلام صحيح، واضح ومستقيم. ولكن، جريا وراء عادته في عدم اتساق النتائج مع المقدمات، يضع السر نقطة على السطر، ويأتي بنتيجة من الهواء، out of the blue وهو قوله: "وبسبب مقاطعة المعارضة للانتخابات في ٢٠١٠، تَمَّ إهدار وضع طوبة في البناء الديمقراطي".
    أنظر إلى هذا التناقض البَيِّن. النظام ليس له صدقية ولم يفعل القليل الذي يقنع القوى السياسية باعتماد الانتخابات وسيلة للتغيير، مما يجعل المقاطعة أمرا منطقيا. ومع ذلك أهدَرت المعارضة فرصة وضع طوبة في البناء الديمقراطي.
    وأنا كقارئ أتوقع أن تكون النتيجة مستخلصة من المقدمة، أي أن يواصل الكاتب الحديث عن النظام، ويُرِينا حُكْمَه فيه بعد أن أضاع كل تلكم الفرص التي لم تتوفر لغيره. كأن يقول مثلا: "إن نظاما توفرت له كل هذه الفرص الثمينة فأهدرها إنما هو نظام فاشل وفاقد للأهلية والشرعية. إن شرعية أي نظام حكم في الدنيا إنما يستمدها من تحقيق مشروعه للبناء الوطني. وهذا النظام أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه ليس له مشروع للبناء الوطني. بل له مشروع أممي، لا علاقة له بوطننا السودان، أو بشعبنا السوداني. فأولويته الكبرى هي أن يخدم أجندة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. ذلك التنظيم الذي لا يؤمن بالأوطان أصلا، ويحتقرها لدرجة أن يقول مرشده المصري "طظ في مصر". وهدفه المعلن هو استعاذة الخلافة الإسلامية. ولذلك فإن نظاما أهدر ماضينا وحاضرنا لا يجب أن نتركه يهدر مستقبل أجيالنا القادمة ويجب علينا مقاومته بكل ما نملك ومهما كلفنا من جهد ووقت وتضحيات".
    هذه هي النتيجة المنطقية التي تقود إليها مقدمة السر سيد أحمد، ولكنه يبدو كسائق عربة في الطريق العام، يقرر فجأة ترك وجهته، وينحرف بزاوية حادة ليدهس المعارضة في الرصيف، ويحملها المسؤولية، كونها قاطعت انتخابات ٢٠١٠ وبذلك أضاعت علينا وضع لبنة في البناء الديمقراطي. ويَحَار المرء أين هو البناء الديمقراطي الذي رفضت المعارضة وضع طوبة عليه، وهو نفسه يصف النظام بعدم الصدقية، وبأن مشهده العام هو "عجزه في إحداث اختراقات وحلحلة مشاكل البلاد المزمنة، رغم قدرته الفائقة في الحفاظ على السلطة"؟ فكيف يستقيم للمعارضة أن تضع طوبة في بناء لا وجود له؟ اللهم إلا إذا استقام وضع الطوب في الهواء، أو في بنيان مُتوَهَّم كحُلَّة فرعون.

    فترات الانتقال
    يُحَلِّل السر سيد أحمد الفترات الانتقالية الثلاث ليصل إلى نتيجة مفادها أنها كانت فاشلة في تحقيق الانتقال الديمقراطي، وأنها تقوم دليلا واضحا لعدم جدوى الثورات الشعبية، مما يحفز على تجريب الانخراط في الانتخابات. فبالنسبة لثورتي أكتوبر ١٩٦٤، وأبريل ١٩٨٥، فإن من أهم نقائصهما كانت قِصَر الفترتين الانتقاليتين اللتين أعقبتاهما، وبالتالي عجز حكومتيهما عن إنجاز مهامها. فسبب فشل أكتوبر الأساسي هو تصرفات الأحزاب السياسية المتلهفة للعودة للحكم، بعد فطام منه دام ست سنوات. أما بالنسبة لأبريل، فسبب فشلها اختلال ميزان القوة بين المجلس العسكري الانتقالي، وبين التجمع النقابي الذي قاد الانتفاضة، وكذلك بسبب النشاط الهدام لتنظيم الجبهة الاسلامية القومية. ويأسف السر لأنه لم يَتِمّ تقييم أو نقد جِدِّي لفشل الفترات الانتقالية بواسطة الأحزاب السياسية، مما يجعلنا لا نطمئن إلى عدم تكرار الأخطاء والفشل الناتج عنها.
    وبطبيعة الحال هذا حديث سليم جدا نوافقه عليه. ونزيد عليه القول إننا نعرف قدرات أحزابنا السياسية. ونعرف أنه ليس لديها مراكز بحوث ومستودعات أفكار think tanks وهذا لا شك عيب كبير، وأَحَد أهمّ أسباب ركودنا السياسي. ولكن نعلم أيضا أن هذه المهمة قام بها كُتَّابٌ ومحللون سياسيون، سودانيون وغير سودانيين. وهناك أدب كثير كُتِبَ في نقد الفترات الانتقالية. ولقد حُمِّلَت الأحزاب السياسية، وبالذات الحزبين التقليديين الكبيرين، مسؤولية الفشل، وهي أول من دفع ثمنه. فبالإضافة للقهر الذي تَعَرَّضَت له هذه الأحزاب من الأنظمة الشمولية، وحسبها ذلك من عقاب، فإنها دفعت ثمنا باهظا أكبر، هو فقدان الثقة فيها وسط قطاعات مقدرة من الشعب، وبالذات قواه الشبابية الحية. ولقد لعب النظام على هذا السخط العام فَرَوَّج، عبر "كتيبته الالكترونية"، للعبارة المفخخة التي يرددها الكثيرون، "نعمل ثورة عشان يجينا الصادق تااااني"، وذلك لتثبيط الهمم عن الثورة.
    أرى أن من واجب المثقفين، أمثال السر سيد أحمد، أن يواصلوا هذا النقد، وأن يطالبوا القوى السياسية المعارضة بإحداث مراجعات حقيقية في سلوكها عبر التاريخ، وأن تخرج برؤى واضحة حول الفترة الانتقالية القادمة من حيث طول مُدَّتِها، ومن حيث مَهامِها، ومن حيث سلوك الأحزاب خلالها. كذلك على المثقفين واجب تثقيف الشعب عما هو منتظر منه خلال الفترة الانتقالية وما بعدها، وضرورة تنظيم نفسه من خلال المجتمع المدني لحراسة حريته المستعادة.
    إن الأحداث الجسام، والخطوب المُدْلَهِمَّة، عندما تُصيب الشعوب، تُخلف وراءها حكمة عامة. فربما ينطوي الخيرُ في الشرِّ، وربما وُلِدَت الحنايا من بطون البلايا كما يقولون. ولأن أحزابنا افتقدت الخيال، سلَّط الله عليها من لا يخافه ولا يرحمها، ليُجَمِّرها بالنار حتى يُزيلَ خَبَثَها، ويقوي خيالها. ومن حِكَم السادة الصوفية قولهم "من لم يَسِر إلى الله بلطائف الإحسان، سِيْقَ إليه بسلاسل الامتحان". وليس هناك من امتحان تَعَرَّض له شعبُنا، وتَعَرَّضَتْ له أحزابُنا، أكبر من امتحان الإنقاذ. وليس هناك من فتنة عمَّ شَرُّها الناس جميعا، ولم يسلم منها حتى أبوها الذي أشعلها، أكبر من فتنة "الكيزان". فإن لم نتعلم من ثلاثين عاما من العذاب والشقاء، ومن الدماء والأشلاء، ومن الذل والهوان، ومن الأحزان والحرمان، ومن ضياع الآمال والأعمار والأجيال، إذن لا نتعلم أبد الآبدين.
    أما النقطة الأهم، عند السر سيد أحمد، التي أَدَّت لنجاح الثورتين فهي انحياز ضباط في الجيش للثوار. ولكنه يقول سرعان ما "انقلب نفس هؤلاء الضباط على حكم الأحزاب". وهذا صحيح. أما ما لم يقله السر، ولكنه كامن في حديثه، فهو أنه لم يَعُد هناك ضباط ينحازون للثورة هذه المرة. وأنا أرى في هذا خير كثير. لأنه حتى لو حدثت المعجزة ووُجِدُوا، فإن انحيازهم للثورة القادمة سوف يضر ولا ينفع. فقد أثبتت السِّتُّون عام العجاف من عمر بلدنا المستقل، والتي أضاع منها العسكر خمسة وأربعين عاما، أن لا خير في العساكر، وأن ما فعلوه في البلد شديد الشبه بما تفعله الثيران في مستودعات الخزف. المهم أن السر بعد أن يذكرنا بانحياز الجيش للثورات السابقة، وتعذره هذه المرة، يخلص من ذلك للقول: "فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يكون التركيز على العملية الانتخابية خاصة والفترات الانتقالية أثبتت فشلا في إحداث نقلة في عملية الصراع؟".
    ولكي ما نناقش رأيه هذا لابد من الربط بينه وبين حديثه عن الفترة الانتقالية الثالثة التي أعقبت اتفاقية السلام الشامل ٢٠٠٥. يشير السر إلى أن آية فشلها أنها "شهدت إجازة قانون الأمن، بواسطة البرلمان الذي شارك فيه الجميع بمن فيهم الحركة الشعبية والتجمع الديمقراطي الذين فشلوا في إثارة المادة ١٢٦".
    وبالطبع يتحمل ممثلو المعارضة بعض المسؤولية في إجازة تلكم القوانين القمعية في البرلمان تحت سمعهم وبصرهم. ولكن هناك بالطبع فرق بين أن تَعْجَز عن إسقاط قانون قمعي، نسبة لخفة وزنك في البرلمان، وبين أن ترغب في تشريع ذلك القانون، وتدفع بكل قواك لإجازته؟ فهل الحركة الشعبية وأحزاب التجمع هم من فعل ذلك؟ أم الذي فعل ذلك هو النظام الذي احتفظ لنفسه بالأغلبية الميكانيكية؟ أليس النظام هو من لوى ذراع الحركة الشعبية لتسكت عن إجازة القانون؟ أليس هو من مارس عليها الابتزاز بكرت "تقرير المصير"؟ أليس هو من ضغطها لتسحب مرشحها للرئاسة؟ أليس هو من عَطَّل قيام المفوضيات؟ وزَوَّر التعداد السكاني؟ وزور السجل الانتخابي؟ وأتى بالأصم؟ وأفسد الانتخابات؟ ودفع الجنوبيين دفعا ليختاروا الانفصال؟ وأشعل الحرب في المنطقتين؟ ودَمَّر دارفور؟ إن الشيطان الرجيم نفسه يعجز عن فعل ما فعلوا، وإنني أتصوره رافعا قبعته تواضعا أمام هؤلاء المردة الأشرار، أو جالسا القرفصاء عند أقدامهم، كالتلميذ النجيب، ليتعلم منهم أصول المهنة.

    الدليل القاطع على انقطاع العشم في "نظام الكيزان"
    مثَّلَتْ الفترة الانتقالية الثالثة الفرصة الذهبية الحقيقية التي لو كان النظام قادرا أو راغبا في تحقيق الاستقرار السياسي، والسلام الاجتماعي، والنمو الاقتصادي، لما أضاعها. ولكنه لم يمتلك الإرادة السياسية بسبب من طبيعته العدوانية، وأيديولوجيته الاقصائية لكل ما هو آخر في السودان، سواء كان هذا الآخَر اثنيا، دينيا، أيديولوجيا، أو نوعا، كالمرأة. هذا الفشل يثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن من ينتظر سلاما أو تحولا ديمقراطيا من هذا النظام سيكون كمن ينتظر جودو. وكلنا سمعنا خطاب البشير بالأمس القريب الذي يعلن فيه على رؤوس الأشهاد، بأنه لن يترك الملك الذي أعطاه له مالك الملك، لأحد، ولا حتى للمؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية. وأنه غير مشغول البتة بانتخابات ٢٠٢٠، التي يُعَوِّل عليها السر وصحبه. إنها موجة الجنون بالغة مداها، لم يبق لها إلا أن تتكسر على الشاطئ وتذهب جفاء. وأنا لا أدري ما الذي يمكن أن يفعله النظام، أكثر مما فعل، ليقنع دعاة المشاركة في الانتخابات أنهم إنما يُمنُّون الناس بشيء "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا".
    استنساخ أكتوبر وأبريل
    أما كون الشروط التي أنتجت أكتوبر وأبريل لا وجود لها، لأن السياق تَغَيَّر، فهذا من المعلوم للناشطين بالضرورة. ولا أدري من أين أتى الافتراض العجيب أن دعاة الثورة يريدون إعادة التاريخ بحذافيره. إن دعاة الثورة، بالإضافة لمعرفتهم بتغيُّر السياق، من اختفاء الطبقة الوسطى، وتحطيم النقابات المستقلة، والإفقار العام الذي جعل الشعب جاريا يومه كله وراء قطعة خبز، يعرفون أيضا ما أصاب الجيش والشرطة من "أخونة"، وما أصاب ضباطهما من إفساد، وإشغالهم بالشقق والعربات وغيرها من أنواع الرِّشَا التي تفرغهم من النخوة. وهم عليمون بعنف الأمن وأساليبه الدنيئة، التي يجدونها في جلودهم وعظامهم. وهم يعلمون أن البشير صنع جيشا موازيا من مليشيات إجرامية لتحميه من جيشه، الذي يدعي الانتماء له، ومن الشعب. كل ذلك معروف ولا أعتقد أن هناك من له أي أوهام أن أكتوبر ستعود من التاريخ بنفس الكيفية التي جاءت بها في العام ١٩٦٤. أو أن البشير سوف لن يستخدم مليشياته في سفك دماء العُزَّل، فدماء شهداء سبتمبر لَمَّا تجفُّ بعدُ.
    ولكن يعلم هؤلاء النشطاء أيضا أنه مثلما وُلِدَت أكتوبر من أحشاء الشعب السوداني في ظل تلكم الشروط، بالكيفية التي وُلِدَت بها، أي بمخاض هَيِّن ليِّن ميسور، فسوف تولد الثورة القادمة من أحشاء ذات الشعب في ظل الشروط الحالية، وأنه سيكون مخاضا عسيرا، شاقا، وطويلا. والذين يظنون عدم الاستجابة الواسعة من الجمهور لدعوات الانتفاضة دليلا على خطل الدعوة، لا يقرأون تجاربنا وتجارب غيرنا من الشعوب. حدث مثل ذلك في أبريل، حيث كان الطلاب يخرجون لأيام متتابعة من جامعاتهم في مظاهرات تشق الأسواق، يتفرج عليها المارة بسلبية ظاهرة، حتى صدع الطلاب المحبطون بالهتاف المستفز "الشعب جعان لكنه جبان". وحدث مثله في بدايات الثورة المصرية حيث سَخِر الرئيس مبارك من قلة أعداد المتظاهرين لدرجة أن أمر قواته بتجاهلها قائلا لهم: "خلوهم يَتْسَلُّوا شوية".
    لقد شاهد أهل النظام، "أيام العصيان"، علامات الأفول في الأفق، أو كما يقول الخواجات، the handwriting is on the wall. إن منظر الشوارع الخالية من المارة يملأ قلوب الطغاة بالرعب أكثر من منظر الشوارع الممتلئة بالمتظاهرين. مثل هذا العصيان لم يحدث في السودان من قبل، وهو على التحقيق ليس استنساخا من أكتوبر وأبريل. إن المظاهرات المنضبطة التي تسير في الشوارع وهي تردد "سلمية سلمية ضد الحرامية" دون أن تقذف حجرا، أو تتلف شيئا، لم تحدث من قبل بهذه الكيفية. ومن المؤكد أن شعبنا سَيُجَرِّب أشكالا أخرى من المقاومة السلمية لم يجربها في الماضي. وستأتي هذه الأشكال الجديدة تطويرا لمقاومته الحالية للسدود، والسيانيد، وبيع الأراضي. سيجرب شعبنا المقاطعة الاقتصادية، وسَيُصَعِّد من المقاطعة الاجتماعية، كطرد نافع، وبكري، وأحمد هرون من عزاءي السنهوري وفاطمة. وغيرها من المقاطعات التي ستَطَّرِدُ حتى تصل درجة تكسير القوانين، مثل الامتناع عن دفع الإتاوات لحكومة الفساد، وعصيان قانون النظام العام، وغيره من القوانين القراقوشية.
    إن ما حدث في ميدان جاكسون قبل أيام قليلة إنما له دلالة كبيرة لمن يقرأون العلامات. فعندما جاءت كشة المحلية لم يهرب أصحاب الطبالي والفرَّاشات، كما هي عادتهم، هذه المرة. بل انعكست الصورة تماما، فقد هرب عمال المحلية أمام الباعة المتجولين عندما هجم الأخيرون عليهم، بينما لم يتدخل رجال الشرطة الذين أحنوا رؤوسهم للرياح ريثما تمر، وتحولوا إلى متفرجين. وفي الوقت ذاته أسرع رجال الأمن بإنزال بكاسيهم التي كانوا يختطفون بها النشطاء، وحولوها إلى ترحيل مجاني للشعب، وذلك لتخفيف التكدس في الميدان حتى لا يتحول لانفجار. وهكذا أُجْبِر الأمن ليصبح خادما للشعب، رغم أنفه، ولو مؤقتا.
    إن في جُعْبَة شعبنا الكثير من الافعال العبقرية للمقاومة، وستستمر إلى أن تقطع نَفَسْ النظام. إن نَفَس الشعوب، مثل عمرها، أطول من نفس الطغاة الملتاثين. والمقاومة السلمية للظلم والظالمين من أعظم الأعمال وأنبلها، ويجب أن تستمر. "ألا إن منظر الظلم فظيع.. ألا إن منظر الظلم شنيع" كما صدع بها الأستاذ محمود من قبل. وهي سوف تستمر، لأن في استمرارها حياة شعبنا وكرامته ومستقبله. وواجب المثقف العضوي هو ألا يُثَبِّط الشعبَ عنها.
    وكذلك من المعلوم بالضرورة وسط الناشطين، أن الثورة هذه المرة سوف تختلف عن المرات السابقة. فهذه المرة لابد لها من أن "تتسامى بإرادة التغيير إلى المستوى الذي تملك به المعرفة بطريقة التغيير... وهذه تعني هدم الفساد القائم، وبناء الصلاح مكان الفساد" كما قال الأستاذ محمود عن أكتوبر الثانية. والحمد لله أن الإنقاذ سَهَّلت على الثوار هذه المهمة، إذ هدمت أركان الدولة القديمة وأتت عليها من القواعد. لذلك فهي ستُبْنَى من جديد على أسس جديدة ومغايرة. وسينبعث وطننا، عملاقا وشامخا، من رمادهم.
    نواصل.
                  

05-14-2018, 07:32 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48812

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. الباقر العفيف الدعوة لدخول الانتخابات � (Re: Yasir Elsharif)

    [size=150]الدعوة لدخول الانتخابات كوسيلة لمقاومة النظام: ما وراء الفكرة (٦-٦)
    التغيير
    الأحد, 13 مايو, 2018

    الباقر العفيف

    في الحلقات السابقة، وتحديدا في الحلقة الثانية، استعرضتُ وجهتي النظر المختلفتين حول موضوع الانتخابات بكامل التجرد والموضوعية، لدرجة أن بعض القراء التبس عليهم الأمر فلم يدروا إلى أي الوجهتين أنحازُ. ثم ناقشتُ، بصورة نقدية، الحجج التي تقوم عليها وجهة النظر الداعية للمشاركة، بهدف تبيين نقاط ضعفها وقصورها. فعلتُ ذلك من منطلق المساهمة في البحث عن التحليل الأقرب إلى الصواب، وليس من منطلق التعصب الأعمى لرأيي، أو الرغبة المتأججة في إحراز نصر في مناظرة. فكلا الرأيين يُعَبِّران عن تقديرات ذاتية مبنية على تحليل سياسي، يحتمل الخطأ والصواب. ولقد حاولتُ لفت النظر إلى جوانب القصور التي شابت تحليلات الداعين للمشاركة بهدف تسديدها، وليس بغرض تسفيهها.

    وقد أوصلني ذلك التحليل الناقد إلى خلاصة مفادها أن فكرة التخلي عن شعار إسقاط النظام، عن طريق الانتفاضة الشعبية السلمية، وتجريب منازلته عن طريق الانتخابات، إنما خَرَجَتْ من بين صلب اليأس وترائب الخوف. كما أنها تَنمُّ عن قِلَّة حِيْلة، ونضوب رأي. فالواضح أن أصحابها حَارَ بِهِم الدَّليلُ، وانْغَلَقَتْ أمامهم السبل، فما عادوا يرون سوى منفذ واحد، هو الانتخابات، والتي ستكون، بطبيعة الحال، بشروط النظام الذي سوف لن يتحرك بوصة واحدة تجاه إرخاء قبضته الأمنية من أجل عيون الذين قبلوا بمنافسته في الانتخابات. والذي غاب عن هؤلاء أن التنازلات من النظام لا يمكن أن تأتي مِنَّة منه ومنحة، وإنما تُنْتَزَعُ انتزاعا. وإن وسيلة هذا الانتزاع هي الشارع، الذي لابد من استنهاضه سواء كان الهدف إسقاط النظام أو تعديل قانون الأمن. وواهم من ظن أن تقديم التنازلات للنظام والاعتراف الكامل به، لا اعتراف الأمر الواقع الذي يردده البعض ويخلط بينه وبين الأول، وتوطين النفس على القبول بوجوده، والعيش في ظله، سيرقق من قلبه ويحمله على أن يرخي من قبضته. ولهم في قصة العرب مع إسرائيل عبر كثيرة، إذ اعترفوا بها هكذا بالتقسيط، دون أن تدفع هي أي ثمن أو تنازل لهم مقابل اعترافهم ذلك. وسيحصل النظام، التلميذ النجيب لإسرائيل، على اعتراف كل هذه الأحزاب التي تطايرت نحو ناره كالفراشات على نار الهوى، وسيقول لسان حالها “جئنا إليها واحترقنا”..

    ففكرة دخول الانتخابات إذن لا تقوم على عناصر مستقلة بذاتها، أي أنها لا تنهض على قوائم من جنسها، وإنما تستعير قوائمها من فشل المعارضة في تغيير النظام حتى الآن. فهي بطبيعتها ليست الخيار الأول حتى بالنسبة لأصحابها، بل في أحسن حالاتها تمثل الخطة البديلة عن الخطة الأصلية. والخطط البديلة بطبيعتها يُلْجَأ إليها عند فشل الخطة الرئيسية. وهي ما كانت لتجيء إلى الوجود أصلا إذا ما قُدِّرَ للخطة الأصلية أن تنجح. والخطة البديلة ستموت موتا فجائيا فور نجاح الخطة الأصلية، أي فور قيام الثورة.

    ويبقى السؤال المفصلي هنا هو: هل ينسحب فشلنا في تغيير النظام عن طريق الثورة الشعبية طيلة السنين الماضية على المستقبل أيضا؟ وبعبارات أخرى هل يستحيل إسقاط النظام عن طريق الثورة الشعبية؟ إن دعاة المنازلة الانتخابية يؤمنون بذلك. وهناك قلة بينهم لا يتمنون حدوث الثورة أو انتصارها، بحسبانه سوف يقود للفوضى والفتنة وسفك الدماء، والانهيار الشامل. وعليه، فالمحصلة النهائية للدعوة لخوض الانتخابات لا تعدو كونها دعوة غير مباشرة للاستسلام للأمر الواقع. وإناخة بعير المعارضة المُتْعَبْ عند خيمة النظام، مما يعني الانتصار النهائي للكائن الهلامي الشائه المُسَمَّى بالمشروع الحضاري. كما أن الانتخابات في ظل هذا النظام سوف لن تقود إلى تغيير يذكر ولو بعد عقود.

    الانقاذ جماع أمراضنا

    تجسَّدت في الانقاذ جماع أمراضنا السياسية والثقافية والايديولوجية، وبلغت قمة توترها، ولم يبق لها سوى الانفجار أو الانهيار الذاتي. فإذا كانت الطبقة السياسية السودانية وعموم الشعب في الشمال النيلي يعانون من اغتراب عن ذواتهم النوبية، ويعيشون الحياة، ويواجهون العالم بهوية عربية متبناة، فإن الإسلامويين يعانون من اغتراب مزدوج. فهم بالإضافة للاغتراب العام الذي يعانيه الجميع، يعانون من اغتراب أخر أشد وطأة، وذلك بتبنيهم لهوية إسلاموية عابرة للحدود الجغرافية للوطن السوداني، ومستعلية على الأخلاق والأعراف السودانية، وحاكمة عليها. والمعضلة الكبرى، أن اغترابهم ليس فعلا لازما لهم وحدهم، بل جعلوه متعديا ليعم المجتمع كله، وبالقوة الجبرية. لذلك لا يعتبر نظامهم مجرد نظام حكم استبدادي “وطني”، مثل نِظامَي النميري وعبود، بل هو في حكم الاستعمار الاجنبي. وهو لذلك لا يهدد حريتنا وحسب، كشأن الأنظمة السابقة، بل يهدد هويتنا وروحنا وكينونتنا، أي وجودنا. يريد أن يحدث تحولا في هويتنا شبيه بذلك الذي حدث في العهد السِّنَّاري ١٥٠٦ـ ١٨٢١، والذي أنتج لنا هويتنا العروبية الحالية (الصوفية المزاج)، ولكن في اتجاه الهوية الإخوانية/الوهابية (الجلفة المزاج). فلو اكتمل هذا المشروع، لا قَدَّر الله، سيمثل إيغالا في الاغتراب عن هويتنا الأصلية، تكاد تستحيل العودة منه. هذا هو الخطر الماحق الذي نواجهه. فوجودنا هو ما ندافع عنه. وهذا المصير البشع هو ما نحاول أن نمنع وقوعه.

    حرب الوجود وحرب الحدود

    فإذا صح هذا التحليل، وهو عندي صحيح، سيعني أن حربنا مع النظام حرب وجود لا حرب حدود، أي أنها لا تدور فقط حول حدود التغيير السياسي، والاقتصادي والاجتماعي. بل وأيضا على الصعيد الوجودي، أي على صعيد الهوية، وعناصرها الفكرية والروحية والوجدانية، وعلى صعيد اللغة والمفردة والرمز، وهو ما أسميته من قبل “المقاومة الشاملة” للنظام. وهذه المقاومة الشاملة للنظام بطبيعتها مقاومة طويلة المدى، وسوف لن تنتهي بإنجاز التغيير السياسي، الذي يمثل الجراحة التي تستأصل الأورام السرطانية، وإنما ستتواصل بكثافة شديدة بعد ذلك لمحو آثارهم العالقة بالفكر والروح والوجدان، مثلما تتواصل جرعات الكيموثيرابي لمحو آثار الخلايا السرطانية في الجسم المصاب حتى لا تعاود الهجوم مجددا، ربما بشراسة أكبر.

    حكم الوقت

    صحيح أن النظام نجح في البقاء في الحكم لقرابة الثلاثة عقود. ولكنه نجاح لا يُشَرِّف عاقلا، لأنه حققه عن طريق الدمار لا الإعمار، وعن طريق الحرب لا السلام، والكراهية لا الحب. والفرقة لا الوحدة. وبعبارة واحدة عن طريق الدماء القانية الحمرة، لا عن طريق الحقول الزاهية الخضرة. والسؤال الأهم هو: هل حكم الوقت في صالحه أم في صالح الشعب؟ فمن الناحية السياسية، يعلم القاصي والداني والعالم والجاهل، والمؤيد للنظام والمعارض له، وباعتراف أهل النظام أنفسهم أن نظامهم أفلس ماديا ومعنويا. وتقريبا مات سريريا.. فأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون، ويبكون ويردحون.. وما منعهم من إعلان الوفاة إلا وقوف صنمهم الذي بنوه بأيديهم مستندا على بندقية حميدتي. هذه هي المنسأة التي تنتظر دابة الأرض لتقضي عليها. فما هي دابة الأرض؟ في الواقع هناك الكثير من دواب الأرض نحصرها فيما يلي..

    أولا: الحركة الاسلامية

    الحركة الاسلامية إحدى هذه الدواب التي تنخر في المنسأة. فهي الدولة العميقة، التي تسيطر على الخدمة المدنية، والمرافق الحيوية، وعلى المال والأعمال. وهي التي بسطت يدها كل البسط حين سرقت وتحلَّلت، وحين هرَّبت الأموال لماليزيا وتركيا ودبي، وحين جَنَّبّت الأموال في الوزارات والمصالح المختلفة انتظارا لمثل هذا اليوم. وهي التي أمسكت يدها الآن وجعلتها مغلولة إلى عنقها، وهي تَتَبَسَّم في وجه البشير، ذات الابتسامة الترابية الصفراء، ولسان حالها يقول له “اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا هاهنا قاعدون” ما دُمْتَ تزعم أن ربك هو الذي أتاك الملك ولسنا نحن من أتينا به إليك. كذلك للحركة الإسلامية وجود مكثف في الجيش والأمن والأمن الشعبي، إلى جانب الأجهزة السرية الأخرى. والحركة الإسلامية هي التي تكاد تعطل دولاب الدولة الآن. وفي إمكانها أن تعلن العصيان المدني إن أرادت فلا يجد البشير مناصا من الركوع، ولكنها تخشى انفلات الأمر عن السيطرة.

    ثانيا: الإسلاميون المنشقون والحردانون

    ومن الدواب قِسْمٌ مُقَدَّر من قادة وعضوية المؤتمر الوطني الرافض للتجديد للبشير. ومنها المجموعات المنسلخة من الحزب الحاكم، كالشعبي، والإصلاح الآن، ومنبر الخال الرئاسي، وسائحون وغيرها. كل هؤلاء ينخرون في المنسأة بصمت، وأحيانا بخشخشة مسموعة. ويجدر القول هنا أن نخر جميع هذه الأصناف من الإسلاميين ليس في مصلحة الشعب بحال. فهم إنما يصطرعون علينا لا من أجلنا. نحن بالنسبة لهم إنما نمثل الغنيمة، أو على الأصح، الفيء الذي أفاءه الله عليهم دون قتال. نحن عظمة النزاع التي يتقاتلون عليها. وصراعهم انما هو صراع النخاسين فيما بينهم على “زريبة العبيد”، كل يريد امتلاكها خالصة لنفسه. لذلك من مصلحتنا أن يُضعِفُوا أنفسهم، أو يفنوا بعضهم بعضا، وشعارنا يجب أن يكون “واشغل أعدائي بأنفسهم”.

    هل الإسلاميون جزء من الحل؟

    فالإسلاميون يمثلون المشكلة وأصل الداء، ولا يمكن بأي حال أن يكونوا جزءا من الحل، ما دام تعشعش في رؤوسهم تلك الأفكار المسمومة التي هدمت وطنا بحجم السودان. وما داموا عاجزين عن إحداث أي مراجعات فكرية حقيقية في مشروعهم البربري الذي أوردنا موارد التهلكة. وما داموا لا يحسون باغترابهم المزدوج عن أصلهم وهويتهم السودانية (النوبية)، ذلك الاغتراب الذي يجعلهم أقرب للأخ المسلم الفلسطيني والأردني والسوري من مواطنهم السوداني. والذي يجعل نساءهم يذرفن الدموع السواجم على أطفال غزة ولا يشعرن مجرد الشعور بمعناة أطفال دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. وما داموا يرون أن العيب في إخوانهم الذين “فتنتهم السلطة” على حد قول الترابي، وليس في الفكرة الشيطانية التي تجمعهم بهم ذاتها، والتي هي تجسيد للفتنة الحقيقية. وما داموا لا يعترفون بأنهم كانوا أكبر مصدر للشقاق الوطني في تاريخنا. وأنهم منذ أن حلوا بأرضنا، كلعنة آلهة الشر، في الميثولوجيا الإغريقية، لم تذق بلادنا طعم العافية، حيث ظلوا يقفون وراء كل “البلاوي” والفتن والمحن التي حاقت بشعبنا منذ حادثة “رقصة العجكو” بجامعة الخرطوم، وحل الحزب الشيوعي، وحكم الردة على الأستاذ محمود، ثم إعدامه، وهدم الديمقراطية الثالثة، ثم الانقلاب عليها، وبيوت الأشباح، وإشعال الحروب وتأجيجها، وفصل الجنوب، إلى أن أحالوا البلاد إلى حطام وطن يجلسون عليه اليوم.

    وليس أدل على قولي هذا من كلمات عرابهم نفسه، وهو يصف أخلاق حركته، في كتابه (السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع)؟ يقول الترابي: “كانت الحركة أحيانا تعارض كيفما اتفق، وقد تلقى نفسها مفتونة بحمية المعارضة أن تزاود في الحق وتكابر بينما تحب أن يكون ولاؤها بالحق دون عصبية وقيامها بالسلطة دون ميل، أو تنابذ في الخطاب وتهاتر بينما تعلم أن واجبها أن تقول التي هي أحسن وتدفع بها، أو تشاقق في العلاقة أو تهاجر وحقيق عليها أن تبشر ولا تنفر وتجمع صف الأمة ولا تفرقه، أو أن تنافق بظاهر من الموقف وتزدوج بمعاييرها وأولى لها أن تصدق وتستقيم في المخبر والمظهر وأن تقيم الميزان”.

    فكيف يكونوا جزءا من الحل وهم على هذا الحال؟ في الحقيقة سيظل الاسلاميون مشكلتنا الكبرى، وتحدينا الأعظم. فهم شوكة في خاصرة الشعب، وألما في عنقه، وشللا ارتعاشيا أصاب مراكز العصب فيه. وسوف لن تذوق بلادنا العافية إلا بواحد من سبيلين. إما أن ننجح في إقصائهم، أو أن ينجحوا هم في تغيير ما بأنفسهم، ويعودوا إلى حضن شعبهم، وهو أمر يبدو مستبعدا ولكنه ليس مستحيلا، فقد رأيناه يحدث داخل حركة النهضة في تونس. ولا أعتقد أنهم بحاجة إلى ضمانات مستقبلية، تقدمها لهم القوى السياسية الآن، تحفزهم ليقوموا بتلكم المراجعات، أو لكي ما يشرعوا في العودة إلى حضن الشعب. فهذا ما يجب أن تمليه عليهم ضمائرهم، إن استيقظت، لا الوعود بمعاملة تفضيلية لهم في أي مرحلة من المراحل. فهم ليسوا أطفالا مدللين، ويجب أن يتحملوا مسؤولياتهم السياسية والقانونية والأخلاقية. خصوصا وقد خرج من بينهم أفراد شجعان قاموا بمراجعات فردية حقيقية، أحدثوا بها قطيعة مع ماضيهم في الحركة والإنقاذ، مثل الدكتور خالد التجاني والأستاذ مبارك الكودة، وهناك أفراد آخرون يتحركون بحذر في هذا الاتجاه، مثل المحبوب عبد السلام.

    ثالثا: الموقف الإقليمي والدولي

    والموقف الإقليمي والدولي الذي يدفع باتجاه ذهاب البشير هو أحد دواب الأرض هذه. فأمريكا والسعودية والأمارات ومصر كلهم يريدون نظاما خالٍ من الاخوان المسلمين، فهذه الدول صنفتهم إرهابيين. وتجري عمليات استئصال الفكر الإخواني والسلفي في بَلَدَيْ المنشأ، مصر والسعودية. أما في مصر، فقد جرى استئصالهم سياسيا، بقوة الشارع، ويجري استئصالهم عسكريا بقوة الجيش والأجهزة الأمنية. أما تصفيتهم الفكرية فتقوم على قدم وساق. فلأول مرة في تاريخ مصر الحديث يطل المستنيرون الدينيون ودعاة التجديد من على شاشات التلفزة الرئيسية يفتتحون عصر تنوير جديد، ويُعَرُّون أفكار حسن البنا وسيد قطب والمودودي وابن تيمية. ويحاصرون الأزهر، ويضطرونه لتغيير بعض المناهج البالية. وها هي مصر تقرر إزالة مادة التربية الاسلامية من على مناهج التعليم، وتستبدلها بمادة للقيم والأخلاق.

    أما السعودية فيخطو ولي عهدها الشاب بخطى حثيثة، وأحيانا بقفزات قَطَعت نَفَس “المطاوعية” وديناصورات الفقه الوهابي، وجعلت الأرض تميد تحت أقدامهم. وهو يفتح النوافذ ويشرع الأبواب ليدخل الهواء النقي وأشعة الشمس الدافئة على الغرفة الرطبة المظلمة الكئيبة. ويضخ ماء الحياة الدفاق على مجتمع أدمن الجفاف والجلافة والموت. وهو بعبارة واحدة، يستدبر المذهب الوهابي السلفي ويغادر سجنه الضيق إلى رحاب الدنيا الواسعة بكل اختلافها وتنوعها وألوانها وأذواقها.

    وهكذا نرى أن كلا من مصر وهي الأم التي ولدت الفكر الإخواني، والسعودية، (وبالطبع معها الأمارات وبقية دول الخليج) وهي المرضعة التي ظل الأخوان المسلمون يمتصون ثديها، ويتمرغون على حجرها لعقود من الزمان، أدارتا ظهريهما لهم، معلنتان انتهاء عهد طويل من الجهل والغفلة والشر المطلق، الذي أسموه “عهد الصحوة” زورا وبهتانا. إن واجب المثقفين المستنيرين ودعاة التجديد والاصلاح الديني والثقافي في بلادنا العمل جنبا إلى جنب مع رصفائهم من البلدان العربية لرفع وعي شعوب المنطقة التي ظلت عرضة لمسيرة طويلة من تجهيل العقول وإظلام النفوس، تدفع ركائبها حفنة من الحداة الكاذبين، وجيوش من أهل الجهل النشط، على مدي زمني يقارب القرن من الزمان. حتى بلغت موجة التجهيل قمتها بالتسونامي المدمر المُسَمَّى داعش.

    هذه هي ثمرة شجرة الزقوم التي غرسها حسن البنا في العام ١٩٢٨، والتي شُبِّه طلعُها برؤوس الشياطين. وبسقوط خلافة داعش المدوي والسريع، يُسْدَل الستارُ على فصل ويُفْتَح على فصل جديد. أو كما قال الشاعر “انقضى عهدٌ وعهدٌ من جدارٍ قد أقامَ”. وبعبارات أخرى، ليس بعد ذلك سوى الجذر والانحسار، والتحرر من هذا الداء العضال، الذي حول دين الله إلى دين للشيطان، وقلب الشر خيرا، والخير شرا.

    المهم أن علاقة هذه البلدان بالنظام ليست علاقة استراتيجية، وإنما هي علاقة الأمر الواقع من جانب، وعلاقة تحكمها قدرته على تقديم الخدمات الصغيرة مدفوعة الثمن من الجانب الآخر. وواهم من يظن أن للنظام قدرة على ضغط السعودية بتلويحه بسحب “جنوده” من اليمن. فهم أولا ليسوا جنودا، بل مرتزقة. والمرتزق في يد من يدفع له، لا في يد الوسيط الذي يسمسر به. وثانيا، أن تجنيدهم يحل للنظام مشكلة عطالة كبيرة وسط شباب القبائل العربية في دارفور، حيث أصبح التجنيد اليوم “فرصة اغتراب” جديدة، بديلها هو زيادة معدلات الجريمة، من نهب مسلح واغتصاب وفوضى، في هذا الإقليم المُمَزَّق. وبناء على هذا فرهان النظام على تسول اسعافات الخليج قصيرة الأمد من منح وودائع وقروض لإخراجه من أزمته الراهنة إنما هو رهان خاسر.

    هذه الدول تتعامل مع البشير، بحكم الأمر الواقع، وتتربص به في ذات الوقت. ولو كان البشير طاغية صغيرا وحسب، وليس متهما هاربا من العدالة الدولية، لكانت هذه الدول دعمته ضد “الإخوان”، وكان بإمكانه هو أن يضحي بهم من أجل المواصلة في تغذية عروقه المدمنة على السلطة. ولكن، لسوء حظه، فإنهم يعتبرونه عبئا ثقيلا لابد من التخلص منه. ويفضلون عليه عسكريا غيره، كنائبه بكري مثلا. وحتى قطر وتركيا مزاجهما وهواهما قطعا مع الحركة الإسلامية، وليس مع البشير. كل هذا يُحِدَّ من قدرة النظام على التَّسوُّل والمناورة، ويُنْذِر بتطاول الأزمة الاقتصادية، وتفاقم معاناة الشعب. واحتمال انفجار الأوضاع.

    الشعب هو الحل

    بيد أن الرهان الأكبر على الشعب السوداني. فهو المرشح لقلب الطاولة على المَلِكْ الميت، والمنسأة ودواب الأرض. نعم الرهان على الشعب بالرغم عن أنه يمر بأوضاع اقتصادية لم يمر بها منذ “مجاعة سنة ستة” التي انحفرت في الوجدان الشعبي في نهايات القرن التاسع عشر. وهذا ما حفز وكالات الأمم المتحدة لتحذر من خطر وقوع مجاعة في البلاد. ولكن الشعب يحتاج لتعبئة واستنهاض. وطلائع التغيير هي من سوف يضطلع بمهمة الاستنهاض هذه. وسوف لن تستطيع طلائع التغيير النجاح في هذه المهمة، ما لم تتوحد على شيئين أساسيين أولهما قيادة الحراك المفضي لهزيمة النظام بوسائل سلمية، ولكنها حاسمة وجذرية، تقتلعه اقتلاعا من العروق. وثانيهما برنامج سياسي شامل يطرح حلولا يقبلها الشعب للمعضلات الهيكلية التي ظل يعاني منها السودان عبر الحقب، وتفاقمت وتبلورت إلى درجة المرض المفضي إلى الهلاك. وحدة القيادة ووحدة البرنامج هو ما ينتظره الشعب، وهو ما تحتاجه الثورة. وأرى أن واجب السياسيين، والكتاب، والمثقفين انتاج مبادرات تؤدي إلى تحقيق هذين الهدفين. ومن واجب المجتمع المدني السوداني تنظيم نفسه في شكل حركة حقوق مدنية تُحْرِز وتَحرِس حقوق الشعب المنتزعة. وتصبح رقيبا على أعمال الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية.

    هذه هي الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة. بيد أني سأواصل الكتابة في مجال تقديم المبادرات الذي دعوت إليه.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de