|
|
|
 Re: (المسألة الأساسيّة في الفلسفة) (Re: صلاح عباس فقير)
|
كان للماركسيّة بريقٌ ورُواء، لم يكن مردُّه في الحقيقة، إلا لعاملين اثنين:
العامل الأوّل: كونها رؤيةً فكريّة منهجيّة جامعة، ذات طابع رساليّ،
فكان الماركسيّ إنساناً يحمل رسالةً إنسانية كونيّة.
يدغدغ وعيَ المنتمين إليها مصطلحاتٌ لها إيقاع ورنين: الديالكتيك
والمادّية الجدليّة، بقوانينها الثلاثة أو الأربعة، والمادية التاريخية.
رغم أنّ هذه المفاهيم معظمها لم يصمد في ميزان النقد العلميّ،
وتلك قضيّة أخرى.
العامل الثّاني: كون الماركسيّة تتضمّن كثيراً من القيم والمبادئ الأخلاقيّة،
انحيازاً للفقراء والمساكين، ونضالاً من أجل تحقيق العدالة الاجتماعيّة.
ذلك رغم أنّ النظرية لم يكن فيها مكانٌ معتبرٌ للقيم الأخلاقيّة، لكنّها استطاعت
أن توظّف الرصيد الأخلاقي الفطريّ الكامن في نفوس أتباعها.
| |
 
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: (المسألة الأساسيّة في الفلسفة) (Re: صلاح عباس فقير)
|
وإلى ذينك العاملين انضافت عوامل أخرى، من صميم الفكرة،
فحوّلتها إلى ما يُشبه الدّيانةَ الأرضيّة:
*فهناك دعوةٌ لاصطفاف الناس في فسطاطين:
-فسطاط المؤمنين من البروليتاريا ومن انحاز إليهم بنضال.
-وفسطاط الكافرين من البورجوازية وأصحاب الرأسمال.
وهناك جهادٌ مرير تخوضه الطبقة العاملة والمنحازون إليها،
يُتوّج بديكتاتورية البروليتاريا.
*وهناك وعدٌ للمجاهدين بجنّةٍ في الأرض، سُمّيت بالمجتمع
الشيوعي الذي تزول فيه التناقضات، ويعمّ فيه الوئام والسّلام،
ويكون شعاره:
من كلٍّ حسب قدرته، إلى كلٍّ حسب حاجته.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: (المسألة الأساسيّة في الفلسفة) (Re: صلاح عباس فقير)
|
أبرز المفاهيم التي استُخدمت في نشر التصوّر الديني الماركسي:
مفهومُ "المسألة أو المشكلة الأساسيّة في الفلسفة".
حيث لم يخلُ كتابٌ تعليميٌّ ماركسيٌّ، من تناول هذه المسألة،
وفيما يلي، من أجل فهم مضمون هذه المسألة المهمة، ألخّص لكم ما
أورده الداعية الشيوعي الشهير جورج بوليتزر، ضمن كتابه "مبادئ
أوّليّة في الفلسفة"، في درسٍ تحت عنوان: (ما هي النظرة المادية للعالم؟)،
يُزري الكاتب بأولئك الذين يرمون الماركسيّة بوصف المادية، قاصدين
بالمادية معاني لا أخلاقيّة من شراهةٍ ورغبةٍ جامحةٍ في التمتّع، وذلك
خلافاً لمعناها الفلسفيّ الصحيح، وهو أنّها (نظرةٌ للعالم، أي طريقةٌ في
فهم ظواهر الطبيعة وتأويلها اعتماداً على مبادئ محددة، وكذلك فيما
يتعلّق بالحياة الاجتماعيّة)(ص138).
ثمّ يُحدّد مفهوم المادية بأنّه يتعلّق بالظواهر التي لا يمكن إدراكها بإحدى
الحواس، ثم يقول: (وهناك من جهةٍ ثانية أشياء لا يمكننا رؤيتها أو
لمسها أو قياسها، ولكنها موجودة مع ذلك، كأفكارنا وعواطفنا ورغباتنا
وذكرياتنا وإلخ.. ولكي نعبر عن كونها ليست مادية نقول بأنها فكريّة،
وهكذا نقسم الموجودات إلى نوعين: المادية والفكرية). ثم يستخدم مفهوم
الروح بدلاً من الفكر، ويقول:
(التمييز بين المادة والروح له أهمية كبرى، ويجب علينا أن نفهم تحديد
هذا التمييز في جميع صوره وأشكاله: بين النفس والجسد في الأديان، بين
الكينونة والفكر، بين الطبيعة والروح، وهو نفس التمييز).
ثم يذكر تحت عنوان: "مشكلة الفلسفة الأساسية": أنّ الفلاسفة أنفسهم
كانوا يجهلون أنّ هذين المبدأين: المادة والروح، هما الفكرتان العامّتان في
الفلسفة، قائلاً: (ومع ذلك لا يزال هناك في أيامنا هذه أكثر من فيلسوف
من فلاسفة الجامعة البرجوازية، لا يمكنه إدراك هذا التمييز الأساسيّ
في عظمته وبساطته وما يؤدي إليه من نتائج، فهو بهذا أقلّ من العامل
المناضل الذي تثقف في مدرسة الماركسية)(ص140).
إذن (العالَم في مجموعه يُفسّر بمبدأين فقط)، وهنا بحسب مفهومه تكمن
مشكلة الفلسفة الأساسيّة، ويصوغها كما يلي:
(إذا كان هناك حقّاً مبدآن فقط لتفسير العالم:
-فأيُّ هذين المبدأين يفسرُ الآخر؟
-أيُّهما الأصل وأيُّهما الفرع؟
-أيُّهما خالد لا حدّ له يتفرّع عنه الآخر؟)
المادّة (الكون والطبيعة)، أم الروح (الفكر والوعي)؟
قال:
(ويكون الجواب الأول أساس المادية الفلسفية،
وأما الجواب الثاني فإنّا نلقاه في جميع المذاهب التي تتفرّع عن المثالية الفلسفية).
هذا هو جوهر الطرح الماركسيّ، لهذه القضية المهمة، وبناءً عليه يزُجُّون بالدّين
ضمن مفهوم المثاليّة المتعالية عن الواقع، واللا مبالية بالقوانين التي تحكم حركة
تطوُّره.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: (المسألة الأساسيّة في الفلسفة) (Re: صلاح عباس فقير)
|
وفي مواجهة هذه الرؤية الماركسية، أقدم رؤية إسلامية، عبّر عنها العلامة محمد
باقر الصدر، في كتابه "فلسفتنا"، يقول:
(إنّ لمسألة تكوين مفهوم فلسفي عام عن العالم، مركزاً رئيسيّاً في العقل البشري)،
نعم فهي مسالة فطريّة، وهذا المفهوم الفلسفيُّ، يُبنى على قاعدة أعمّ الحقائق،
وكما رأينا فإنّ الماركسية شيّدته على أساس أنّ الوجود فيه عنصران: عنصر
مادّي تدركه الحواس، وعنصر روحي لا تدركه الحواس، فالذين يقولون بأولوية
الواقع المادي على الفكري هم الماديون، والآخرون هم المثاليّون.
يرى محمد باقر الصدر أنّ هذا الطرح الماركسي خاطئ، وينبغي أن تكون هناك
خطوتان:
*- في الخطوة الأولى، يكون السؤال كما يلي:
(إنّ هذه الكائنات التي يتشكل منها العالم، هل هي حقائق موجودة بصورةٍ مستقلّة
عن الشعور والإدراك؟ أو أنّها ليست إلا ألواناً من تفكيرنا وتصوُّرنا؟)
قال: (والإجابة بالتقدير الأول تلخّص الفلسفة الواقعيّة أو المفهوم الواقعيّ للعالم،
والإجابة بالتقدير الثاني، هي التي تقدم المفهوم المثاليّ للعالم).
*- وفي الخطوة الثّانية، يكون السؤال كما يلي:
(إذا كنّا نؤمن بواقع موضوعيّ للعالم، فهل نقف في الواقعيّة على حدود المادة
المحسوسة، فتكون هي السبب العامّ لجميع ظواهر الوجود والكون، بما فيها من
ظواهر الشعور والإدراك؟
أو نتخطاها إلى سببٍ أعمق، إلى سببٍ أبديّ ولا نهائي، بصفته المبدأ الأساسيّ
لما ندركه من العالم بكلا مجاليه الروحي والمادي معاً؟).
ثم يستنتج باقر الصدر النتيجة المهمة التي تنتج عن ذلك، قائلاً:
(وبذلك يوجد في الحقل الفلسفي للواقعيّة مفهومان:
-يَعتبر أحدهما أنّ المادة هي القاعدة الأساسيّة للوجود، وهو المفهوم الواقعيّ المادي.
-ويتخطى الآخرُ المادة إلى سببٍ فوق الروح والطبيعة معاً، وهو المفهوم الواقعيّ الإلهي).
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: (المسألة الأساسيّة في الفلسفة) (Re: صلاح عباس فقير)
|
وينتج عن ذلك:
-أنّ الواقعية ليست وقفاً على المفهوم المادي.
-وأنّ المثالية ليست هي الشيء الوحيد الذي يعارض المفهوم المادي للعالم.
ثم يؤكد باقر الصدر:
(أن المفهوم الإلهي للعالم، لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية،
أو التمرد على شيءٍ من حقائق العلم الصحيح، وإنما هو المفهوم الذي
يعتبر الله سبباً أعمق، ويُحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد
إلى قوّة فوق الطبيعة والمادة، وبهذا يزول التعارض بينه وبين كل حقيقةٍ
علميّة تماماً؛ لأنّه يُطلق للعلم أوسع مجالٍ لاستكشاف أسرار الطبيعة
ونظامها، ويحتفظ لنفسه بالتفسير الإلهي في نهاية المطاف، وهو وضع
السبب الأعمق في مبدأ أعلى من الطبيعة والمادة، فليست المسألة الإلهية
كما يشاء أن يُصوّرها خصومها، مسألة أصابع تمتدُّ من وراء الغيب،
فتُقطّر الماء في الفضاء تقطيراً، ... فإذا كشف العلم عن أسباب المطر،...
يُخيّل لأولئك المادّيين أن المسألة الإلهيّة لم يبق لها موضوع).
فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص 179- 182م.
هذا وقد تناول العلامة محمد باقر الصدر، هذه المسألة بشيءٍ من التفصيل،
وأثبت بمنهجيّةٍ فلسفيّةٍ واضحةٍ، ومن خلال العلم الحديث: أنّ المفهوم
الإلهي للعالم، هو المفهوم الفلسفيّ الصحيح.
وأنصح بقراءة هذا الكتاب المهم، لمن يريد أن يتبيّن حقيقة المسألة.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: (المسألة الأساسيّة في الفلسفة) (Re: صلاح عباس فقير)
|
إنّ ممّا يُحمد للماركسيّة كونُها أتاحت لعامّة الناس أن يتفلسفوا،
بمعنى أن يكون لهم موقف كلّيّ عاقل من الحياة كلّها،
يؤطر فكرهم ووعيهم،
ويستقطب جهدهم وحركتهم،
حتّى رأينا الداعية الشيوعي بوليتزر يؤكد
أن العامل الماركسي البسيط قد يتفوّق في وعيه
الفلسفي على الدكتور البورجوازي!
وهذا الموقف من أصداء الفطرة الإنسانيّة،
التي تسرّبت إلى الوعي الماركسي، ضمن ما تسرّب
إليه، بدافع موقفه الأخلاقي القوي من الفئات المستضعفة
في المجتمع.
ولكن مع الأسف تخلّى الماركسيون عن هذه الرؤية،
بتأثير طوفان العولمة.
لو كانوا ملتزمين بهذا الجوهر الفطريّ النّقيّ،
وواجهوا به تيار العولمة الرأسمالي،
لاكتشفوا الإسلام في سياق الواقع،
فأصبحوا خير ممثّليه،
لكن صارت تلفُّهم الحيرة،
ومن يهتمّ بالإسلام والتدين منهم يلج إليه من إحدى حلقاته
الأضعف وعياً وفكراً وجهداً.
***
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: (المسألة الأساسيّة في الفلسفة) (Re: صلاح عباس فقير)
|
***
أن يكون للإنسان رسالةٌ في الحياة:
أزعم أنّ هذا هو الفارق الأساسي بينه وبين الحيوان،
ومن المعلوم أنّ هذا من البدهيّات في الإسلام،
إذ كلُّ مسلمٍ مطالبٌ بتأطير وعيه وسلوكه،
في إطار العقيدة الإسلامية وفي إطار قيم الشرع.
***
وممّا يؤسف له أن هذا التأطير يتمّ،
وتكون ثمرته إنتاج كائناتٍ متطرّفة ومنغلقة عن الواقع،
رسالتها في الحياة: أن تتبوّأ موقعاً تقوم منه
بإصدار الأحكام على الأفراد وعلى المجتمع
الذي يعيشون فيه.
في حين أنّ من يقرأ القرآن الكريم،
يجد أنه يؤطر وعي المسلم بربطه بملكوت السموات
والأرض، وبقيم التفكر والنظر، وبالعمل الصالح،
فهو إنسان يحمل أعظم رسالةٍ،
ومسلّح بالإيمان والخُلق وبالكلمة الطيبة،
يعرف أنّه ليس مكلّفاً من الله عزّ وجلّ بمنصب القضاء بين
عباده، ولكن أن يكون قدوة حسنة وأنموذجاً.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: (المسألة الأساسيّة في الفلسفة) (Re: صلاح عباس فقير)
|
الإنسان المسلم ليس مخيّراً بأن ينتمي أو لا ينتمي
إلى رؤيةٍ إسلاميّة تستقطب وعيه وجهده:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
فأنت مسلم ليس بصلاتك ونسكك فقط،
وإنما بحياتك كلّها،
ففي كلّ عملٍ أنت مطالب بأن تستحضر معنى الإخلاص،
أي أنك تقوم بهذا العمل وتبذله لله تعالى وحده،
وإلا فإنّه قد يكون وبالاً عليك،
في الدنيا والآخرة.
هذه هي الحقيقة،
والحقيقة الأكبر منها: أن المسلم عندما يؤطر وعيه بإسلامه وإيمانه؛
فإنّه عندئذٍ يكون أكثر وعياً وسموّاً وإدراكاً وارتقاءً،
في مدارج الإنسانية.
***
والإسلام في الحقيقة ليس قيداً،
بل هو الإطلاق من كل القيود،
والانطلاق في ملكوت السموات والأرض،
والسّير على صراطٍ مستقيم،
منحازاً إلى الفقراء والمستضعفين.
| |
|
|
|
|
|
|
| |
النذير حجازي
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست