موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (1 – 2): ترجمة بروف الهاشمي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 04:52 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-23-2017, 07:20 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (1 – 2): ترجمة بروف الهاشمي

    06:20 AM August, 23 2017

    سودانيز اون لاين
    عبدالله عثمان-
    مكتبتى
    رابط مختصر

    موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (1 – 2)
    The Death of Bassiouni: A case of Complex Identity in the Sudan
    روبرت كرامر Robert Kramer
    ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

    مقدمة: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لغالب ما جاء في مقال البروفيسور روبرت كرامر عن أحد الشخصيات اليهودية في السودان، نشر في العدد التاسع والأربعين من "المجلة الكندية للدراسات الأفريقية Canadian Journal of African Studies" الصادرة عام 2015م.
    وذكر الكاتب أن كل المعلومات الواردة في مقاله هي حصاد مقابلات مع عائلة بسيوني، أجراها في الخرطوم ولندن في عامي 1986 و1987م، وفي اتصالات أجراها معهم لاحقا.
    ويعمل البروفيسور روبرت كرامر أستاذا لتاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسيكنسون الأمريكية، ونشر - منفردا وبالاشتراك - عددا من الكتب والمقالات عن تاريخ السودان، خاصة في عهد المهدية، وعن الطريقة التيجانية في غانا. ومن أمثلة أعماله كتاب بعنوان "أم درمان مدينة مقدسة" ومقال (سبق لنا ترجمته) عن "استسلام وجهاء أم درمان".

    المترجم

    ***** ***** ****
    توفي في الخامس عشر من مارس عام 1987م رجل الأعمال المتقاعد داؤود موسى بسيوني (المعروف أيضا باسم ديفيد موشيه بسيوني) في داره بالخرطوم عن عمر يناهز الواحد وثمانين سنة، وعن سبعة من العِيَال، بعد علة مُزْمِنٌة. وظل الرجل اليهودي الممارس لطقوس ديانته، والذي ترأس في أعوام سابقات الجالية اليهودية في السودان، مسجًّيا في سريره، يستمع لتلاوة من الصلوات اليهودية، ومن آيات القرآن أيضا. وكان آخر ما سمعه قبل أن تصعد روحه إلى بارئها آيات من القرآن تلاها عليه زوج سوري لإحدى بناته. وعم سريعا خبر وفاته في المدينة، وتداعى لداره في صبيحة اليوم التالي جمع غفير من أفراد عائلته وأصدقائه لتحضير الجنازة للدفن (أخبرني أحد الأصدقاء بأن الرجل كان قد كفن فى ثوب (سرتى)، وهو عادة من ثياب الزفاف قديما. المترجم). وفي ختام نشرة العاشرة صباحا في إذاعة أم درمان أعلن المذيع عن وفاة "أحمد داؤود بسيوني"، الاسم الاسلامي للرجل.
    وتلقى البعض ذلك الخبر بكثير من الحيرة والارتباك. غير أن ابن بسيوني الأكبر رسم ابتسامة عريضة على وجهه وهو يتساءل بصوت مسموع إن كان والده يهوديا أم مسلما؟ غير أن ما سأل عنه الابن لم يكن أمرا طريفا كما قد يبدو.
    وإن طرحنا جانبا أمر حياة بسيوني الروحية ولغة الصلوات والأدعية التي تليت أمامه وهو على فراش الموت، جاز لنا أن نسأل عن سبب تخيل (أو ربما حاجة) إذاعة أم درمان لإذاعة نبأ وفاته بحسبانه رجلا مسلما. لا ريب أن الإسلاموية (Islamism) كانت في تصاعد مضطرد في عام وفاة الرجل (1987م)، وكان رئيس الوزراء الصادق المهدي يقف موقف المدافع، وقد تناقصت أعداد اليهود بالبلاد حتى قاربت الصفر، وبيع المعبد اليهودي بالبلاد، ثم هدم بعد ذلك بسنوات قليلة. وفي غضون تلك الأيام بدأ الأقباط المسيحيون في الشعور بأن ثمة أخطار قادمة تهدد وجودهم. ورغم كل ذلك، لم يكن من المعتاد أن تغير أسماء الموتى عند إذاعة نعيهم في إذاعة أم درمان، خاصة وأن عائلة بسيوني كانت عائلة قديمة ومعروفة وتجد الاحترام من الجميع، وتشارك بفعالية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. ولعل أحد الأسباب الممكنة لإذاعة نبأ وفاة بسيوني على أنه رجل مسلم – والمصالح السياسة المترتبة على ذلك – نبعت من الرغبة في عد بسيوني واحدا منهم ... كرجل سوداني. بالطبع كان بسيوني سودانيا بالتراث والميلاد والإقامة والجنسية: هذا أمر شديد الوضوح. غير أن ما كان واضحا أيضا هو أن معنى أن تكون "سودانيا" قد غدا أمرا مختلفا عليه منذ أن أمر الرئيس جعفر النميري بتطبيق قوانين الشريعة في عام 1983م، وعودة الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، تلك الحرب التي أفضت في 2011م (بعد نحو 27 عاما من القتال) إلى فصل البلاد إلى قطرين.
    ومن المثير للاهتمام أن عائلة بسيوني كانت، لوقت طويل، تعني أشياء مختلفة لأناس كثيرين. لذا فإن تاريخ عائلة بسيوني وموت كبيرهم يوفران فرصة ممتازة لدراسة الطبيعة الزئبقية لحالة كون المرء "سودانيا". ولعل مثل هذا التمرين مناسب تماما لهذا الوقت الذي ينبغي فيه على السودان وجنوب السودان الاعتراف بمسألة تباين الهويات، إن كانا يأملان في تعايش سلمي، أو حتى في مجرد البقاء كدولتين منفصلتين.
    ولد رب عائلة بسيوني موشي بن صهيون كوشتي في حوالي عام 1842م في مدينة الخليل بإقليم السنجق الواقع تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، لأب يعمل حاخاما سفارديا Sephardic (ينحدر السفارد من اليهود الذين أخرجوا من إسبانيا والبرتغال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثم استقر بهم المقام في منطقة حوض البحر المتوسط والبلقان وبعض المناطق الأخرى. المترجم). ويقول بعض أفراد عائلته بأن جيلين من هذه العائلة كانا قد عاشا من قبل في الأناضول، ثم هاجرا منها لروسيا، حتى استقر بهما المقام في فلسطين. وعمل بسيوني لمدة قصيرة موظفا في الإدارة العثمانية، وتزوج في ذات الفترة بابنة عمه / خاله (cousin) اليهودية، من أهالي أزمير، واسمها باخورة. ثم ارتحل إلى مصر مع زوجه للعمل في التجارة. وهنالك وفق في أن يكون وكيلا لشركة تجارة مصرية كانت لها أعمال تجارية في السودان إبان الاحتلال التركي – المصري. ثم قدم موشي إلى السودان حيث عمل في التجارة بمنطقتي الخرطوم والجزيرة، وتبعه في الهجرة للسودان من بعد ذلك عدد من تجار اليهود بالإسكندرية. وأقام موشي في داره معبدا (يهوديا) صغيرا لرفاقه يغشونه للصلاة. ولم يطلع كاتب هذه السطور على أي وثائق عن بن صهيون أو الجالية اليهودية في السودان في تلك الفترة الباكرة، خلا إشارة ذم واستخفاف بالتجار اليهود في السودان في خطاب بعث به المراسل الحربي البريطاني فرانك باور في عام 1885م، ورد في صفحتى 25 - 26 في كتاب صدر في لندن بعنوان "رسائل من الخرطوم كتبت أيام الحصار Letters from Khartoum written during the siege". ومن غير الممكن الآن معرفة عدد اليهود بالسودان في ذلك الوقت على وجه الدقة. غير أن تعدادا حديثا لهم يعتمد على الذاكرة وليس على التاريخ يزعم بأنه كان هنالك في تلك السنوات ثمان "عائلات يهودية أصلية" في الخرطوم، غير أنه ما دليل أكيد على صحة ذلك الرقم. وذهب تقرير للمخابرات البريطانية كتب بُعَيدَ "استعادة" السودان على يد القوات الإنجليزية المصرية في 1898م إلى أن هنالك تسع رجال من اليهود في كل من الخرطوم وكردفان وبربر وكسلا، مع أفراد عائلاتهم الذين سلموا من فترة المهدية. غير أنه ما من مصدر موثوق يؤكد صحة تلك الأرقام (أشار الكاتب هنا لكتاب أيلي ملكا عن يهود السودان، الصادر عام 1997م، والذي ذكر أنه كانت هنالك ثمان عائلات يهودية في أم درمان قبل ظهور المهدية، وهو أمر لا يصدق، إذ لم تكن أم درمان حينها غير قرية صغيرة جدا، وكذلك لاختلافات كثيرة بين ما ورد في ذلك الكتاب وبين ما ورد في تقرير المخابرات البريطانية ومذكرات بابكر بدري باللغة الإنجليزية، التي ذكر فيها المترجم والمحرر عن أعداد اليهود بالسودان واسمائهم ما لم يرد في تلك المذكرات بلغتها الأصلية. المترجم).
    وظهر محمد أحمد بدعوته للمهدية في 1881م، وأفلح في غضون السنوات القليلة التالية في الانتصار على الحكم التركي – المصري في كثير من أنحاء السودان، وعلى حصار العاصمة. وأخذت تلك التطورات بن صهيون على حين غرة، بيد أنه لم يقم – مبلغ علمنا – بأي محاولة للهرب من السودان والعودة لمصر. وفي أثناء حصار الخرطوم عام 1884م، كان بن صهيون من ضمن التجار الذين قدموا قروضا لحاكم عام السودان، شارلس غردون، لشراء مواد غذائية لسكان العاصمة المحاصرة (أشار الكاتب في الهامش إلى أن عائلة بسيوني لا تزال تحتفظ بالسند المالي / الكمبيالة التي وقعها غردون متعهدا فيها بسَدّ ذلك القرض، وكان من المفروض أن تقوم الحكومة المصرية بتسديدها. غير أن عائلة بسيوني لم تتقدم – كما يبدو – بمثل تلك المطالبة أبدا. المترجم). ولم يكن بن صهيون وزوجه باخورة من ضمن المجموعة الصغيرة من المدنيين (وغالبهم من الأغاريق) الذين فروا من البلاد على ظهر باخرة حكومية في 1884م، والذين اصطادتهم قوات المهدي وقتلتهم. وبحسبانهما من اليهود السفارد فقد كان بن صهيون وزوجه يعدان من مواطني الإمبراطورية العثمانية، وليسا من الأوربيين ولا من قوات الحكومة الذين كان غردون حريصا على إجلائهم لمصر.
    ونجا بن صهيون من العنف الذي صاحب سقوط (فتح) الخرطوم في 26/1/1885م، غير أنه ظل – كغيره من الأجانب - مسجونا عند قوات النظام الجديد. وقيل إن المهدي شخصيا هو من أمر بتغيير اسمه إلى الاسم العربي الأقرب لاسمه اليهودي، وكان اسمه الجديد هو "موسى عبد القادر بسيوني" (علما بأنه كان هنالك من حملة الجنسية المصرية من يحملون نفس اسم بسيوني). وظل اسم " موسى عبد القادر بسيوني" هو الاسم الرسمي للرجل حتى ساعة وفاته. كذلك تحول بسيوني، بأمر من المهدي، إلى الإسلام، مثل غيره من كل اليهود والمسيحيين الذين قبض عليهم بعد سقوط (فتح) الخرطوم، وصاروا من "الأنصار" (علق الكاتب في الهامش على إكراه المهدي لغير المسلمين على الدخول في الإسلام مستشهدا بالآية "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ..."، وزعم أن ذلك كان بسبب تطبيق المهدي للسنة، ورفعها لمقام أعلى من القرآن. المترجم).
    وعقب وفاة المهدي المفاجئة في يونيو من عام 1885م، أمر خليفته عبد الله إخلاء العاصمة القديمة والانتقال لأم درمان. وبالفعل انتقل بن صهيون (الآن بسيوني) إلى عاصمة المهدية أم درمان مع بقية سكان الخرطوم في الفترة التي أعقبت يوم 27 يونيو من نفس العام.
    ألفت الكثير من الكتب والمقالات عما كابده أسرى المهدية بين عامي 1885 – 1898م، بناءً على ما ذكره حفنة من المساجين والأسرى الأوربيين، والذين تعرضت كتاباتهم لكثير أو قليل من "التحرير والحذف والاضافة"، أو شارك وينجت باشا مدير المخابرات المصرية في كتابتها ونشرها. غير أن عرض أولئك الكتاب للحياة في أم درمان لم يصمد أمام النظر الفاحص المحايد. ولا ريب أن كل فرد في أم درمان قد تعرض لمصاعب ومتاعب عديدة في غضون أعوام المهدية الثلاثة عشر بسبب الحروب المتوالية، والتحولات الديموغرافية، والحكومة غير المستقرة، والتجارة غير المنتظمة، وبسبب الجفاف والمجاعة. ولا شك أن سكان أم درمان من غير السودانيين ممن لم تكن لهم عائلات أو روابط قبلية تسندهم كانوا أكثر تعرضا للمعاناة من غيرهم. غير أنه من الثابت أيضا أن أولئك الأجانب الذين تحولوا للإسلام حديثا (وعرفوا جماعيا بالمسالمة أو المسلمانية) أفلحوا في ترتيب أوضاعهم بأنفسهم والتخفيف من معاناتهم المعيشية. فقد دخلوا هؤلاء اليهود مع السوريين والأرمن والأقباط والأغاريق والمصريين في الاقتصاد المحلي، وأقام بعضهم روابط اجتماعية قوية مع بعض العائلات السودانية المعروفة، وعينت الإدارة المهدية بعضهم في وظائف كان من أهمها دار الخزانة المعروفة بـ "بيت المال".
    وعمل بسيوني في عهد المهدية ضمن مجموعة الأجانب الذين عملوا في "بيت المال". وعلى سبيل الاعتراف بتأثيره وسمعته في أوساط المسالمة، عينه الخليفة عبد الله في مجلس للشورى كان يسمى مجلس "العشرة الكرام"، وكان هو الأجنبي الوحيد الذي حظي بذلك الشرف. وكان ذلك المجلس يجتمع بصورة دورية لمناقشة أحوال السوق ومشاكله. وبالإضافة لذلك عهد الخليفة لبسيوني بمهن سرية منها استيراد العطور والأقمشة من مصر عبر ميناء سواكن لزوجاته وأقربائه. ويقال بأن ذلك أتاح لبسيوني الدخول لبيت الخليفة لتلقي طلبات العطور والأقمشة بصورة مباشرة، ومنحه حرية حركة واستقلالية أكبر مما كان مسموحا به لغيره من المسالمة. غير أن كل ذلك لم يعفه من الامتثال والالتزام بقوانين دولة المهدية، التي كانت شديدة الصرامة فيما يتعلق بالقوانين المالية المحددة لاستخدام السلع الترفيهية / الكمالية. فقد سبق أن صادرت شرطة السوق في ثلاث مرات بضاعة بسيوني، التي كانت تتضمن الخمور والسجائر. غير أن عائلة بسيوني تزعم أن بضاعة بسيوني كانت قد صودرت في مرتين، بسبب اكتشاف الأنصار له ذات مرة وهو يؤدي الصلاة اليهودية (كاديش)، وفي مرة أخرى وهو يتاجر بصورة غير قانونية (دون ذكر التفاصيل). ويدل ذلك على أن بسيوني لم يكن فوق قوانين المهدية بأي حال من الأحوال.
    من المثير للاهتمام بأن اسم بسيوني قد ورد في ثلاث مذكرات لكتاب مختلفين. ولم يسبق لأي أجنبي من غير الأوربيين في المسالمة أن ذكر بمثل تلك الكثرة. جاء أول ذكر للرجل في مذكرات جوزيف أورفالدر، القس النمساوي الذي كان يعمل مبشرا في جبال النوبة، وتم أسره من قبل أنصار المهدي في عام 1882م، وقضى في الأسر عقدا كاملا قبل أن يفر إلى مصر. سجل ذلك القس مذكراته باللغة الألمانية، وأعاد وينجت باشا كتابتها وينجت باشا باللغة الإنجليزية، ونشرها باسمه عام 1892م تحت عنوان "عشر سنوات في أسر معسكر المهدي" (للمزيد عن كتابات وينجت التاريخية يمكن الاطلاع على مقال دالي المترجم بعنوان: "الجندي بحسبانه مؤرخا: فرانسيس ريجلاند وينجت ومهدية السودان". وورد في تلك المذكرات ما نصه: "وصل إلى كسلا في عام 1891م تاجر يهودي قادما من مصوع. وكان أمير كسلا أبو قرجة يرغب في البدء في إقامة علاقات تجارية مع مصوع عبر التجار اليهود وغيرهم من غير المسلمين ليأتوا لكسلا ويعرضوا بضاعتهم فيها، وأن يدخلوا لمناطق أبعد في داخل البلاد. ولما فرغ اليهودي من بيع كل ما كان معه من بضائع، نصحه أبو قرجة بالذهاب لأم درمان. وعند وصول الرجل لأم درمان مثل أمام الخليفة، الذي أستدعى يهوديا آخر يدعي بسيوني كان مسئولا عن القادمين الجدد ...".
    أما القس الإيطالي باولو روسيقونولي (أحد قساوسة كمبوني الذي قدم للسودان في 1880م وعمل في مجال التبشير المسيحي في جبال النوبة) فقد أسره أنصار المهدي في الأبيض في عام 1883م، وظل في الأسر لإحدى عشر عاما قبل أن يفر إلى مصر. نشر القس الإيطالي يومياته باللغة الإيطالية في 1898م (للمزيد عن هذه اليوميات يمكن النظر في المقال المترجم بعنوان: "أمدرمان أيام المهدية: ملخص لبعض ما جاء في كتاب للأسير الإيطالي س. روسيقونولي". المترجم)
    جاء في يوميات الأب روسيقونولي أنه كان يرغب في فتح مطعم بسوق أم درمان يتعيَّشَ منه، غير أنه كان معدما ليس معه ما يبني به غرفة خشبية يقيم فيها مطعمه. وأضاف: " أقترح علي الأب اورفالدر أن أطلب العون من يهودي يقال له بسيوني عرف عنه حب عمل الخير. لم أكن أعرف الرجل، وشق على نفسي أن أشحذ من يهودي. وقضيت وقتا طويلا وأنا أتفكر في مسألة سؤال ذلك الرجل وأقلب الأمر في عقلي. وتغلبت أخيرا على نفوري من السؤال، فذهبت إليه وطلبت منه قرضا قدرة عشر طالرات (الطالر هو نقد جرماني فضي). رد عَلَيَّ بسيوني بأنه من أصل إيطالي ومن منطقة لافورنو. واكتشفت أنه يجيد التحدث بلغتي بدرجة متوسطة، وأخبرني بأنه تزوج بامرأة من سيمرانا. وقبل الرجل عرضي ومنحني بكل أريحية ولطف ما طلبته من مال، بل قال لي إن المبلغ هو هدية منه لي. والحق يقال فقد كان الرجل كريما، إذ كان يصر على رفض استلام المبلغ الذي اقترضته منه في كل مرة أحاول فيها رد دينه".
    وأخيرا، أورد بابكر بدري، أحد أنصار المهدي المخلصين، في مذكراته التي كتبها باللغة العربية بين عامي 1944 و1953م أنه قام باستئجار دكان صغير في سوق أمدرمان من بسيوني. وبحسب قوانين ونظم المهدية لم يكن هذا ممكنا إلا إذا كان لبسيوني القدرة المالية لشراء حق تملك محل تجاري بالسوق من "بيت المال". وهذا دليل على أن بسيوني كان عنده ما يكفي من النفوذ والمال لخلق حياة مريحة (رغم عدم تمام ضمان استمراريتها) في وسط كل أجواء عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي كان سائدا في تلك السنوات.
    وكان من ضمن ممتلكات بسيوني وعائلته في فترة المهدية أحد المسترقين، واسمه آدم سليمان عبد الله، من أهالي كتم بدارفور. وكان بسيوني قد ابتاعه في عهد الحكم التركي – المصري، إبان حكم رؤوف باشا (1880 – 1882م). وقد شهد آدم فيما بعد بأن "العرب" قد اختطفوه وهو صبي في عمر التاسعة أو العاشرة، وجلبوه بضاعة للخرطوم لعرضه للبيع. وعقب سقوط (فتح) الخرطوم، صودرت أملاك بسيوني (ومن ضمنها آدم) وأودعت في "بيت المال". غير أن بسيوني أفلح لاحقا في استعادة ما (ومن) صودر من أملاكه، وعاد بآدم لداره في أم درمان. وعمل آدم في تجارة "سيده" بسيوني، إذ كان الأخير يبعث به لسواكن (وللحدود السودانية المصرية في بعض الروايات) لجلب العصور والأقمشة. (ذكر الكاتب في الهامش أنه تحصل على هذه المعلومات من هلالة بنت آدم سليمان في مقابلة شخصية له معها في الأول من يناير عام 1987 في الخرطوم. وذكر أن خاطفي آدم وهو صغير قد يكونون من "أولاد العرب" من رجال القبائل الرحل، أو تجار (جلابة) من الشمال. فأي من هؤلاء هم "عرب" في نظر صبي من تلك المنطقة. المترجم). قالت هلالة بنت آدم سليمان أيضا إن والداها كان يسافر لأي مكان يسمع بوجود "بضاعة ممتازة" فيه).
    وبقي آدم سليمان في خدمة بسيوني إلى أن توفي الأخير في عام 1921م. بعد ذلك انتقل آدم لمنزله الخاص في أم درمان. وليس لنا الآن سوي أن نخمن وضع آدم بالنسبة لبسيوني. ففي شهادة مثيرة ذكر آدم، بعد أن أقسم على قول الصدق وختم ببصمة إبهام يده أمام مسؤول حكومي في يوم 4 /6/1959م، بأنه "آدم سليمان عبد الله الكنجاري، المعروف بآدم بسيوني". وتحتفظ عائلة آدم بتلك الشهادة الرسمية الموثقة. وأكد آدم أيضا في شهادته بأنه نشأ على أنه "موسى بسيوني". وذكرت بنت آدم (المولودة من امرأة من جنوب السودان) التي كانت تعمل في بيت بسيوني أنها نشأت في بيت بسيوني وظلت تعتبره وتناديه "جدي"، وتعد أولاده إخوانا لها. غير أنه من الواضح أن علاقة آدم وبنته بعائلة بسيوني كانت علاقة "سيد بخادم" أو "رئيس ومرؤوس". ففي عهد المهدية (وربما العهد الذي تلاه) كان آدم سليمان يعد قانونا من "ممتلكات" بسيوني، ويقوم بأداء أعمال مالية مفيدة له. غير أن هذا لا ينفي بتاتا ما كان يشعر به آدم وبنته من أنهما فردين في عائلة بسيوني طوال السنوات التي عاشها معهم. وهذا يدخل في باب العلاقة بين "السيد" و"المسترق"، وهي علاقة معقدة ومعروفة في سودان القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وربما في كل أرجاء العالم أيضا.
    أما في ناحية الدين، فقد كان بسيوني بالطبع يقدم نفسه للناس على أنه رجل مسلم، وكان يداوم على الصلاة مع بقية الأنصار في مسجد الخليفة بوسط أم درمان. وكان ذلك أمرا مهما يتعلق بنجاته وسلامته الشخصية في ذلك الوسط المسلم. وما من شك في أنه ظل يكتم إيمانه بعقيدته اليهودية، محافظا على طقوسها وصلواتها وأعيادها في بيته بعيدا عن أنظار الأنصار. بل وكان يعقد مراسم الزواج سرا لأهل طائفته ضمن عشرة من الشهود (يسمون ذلك في اليهودية minyan) ما وسعته الحيلة. وقيل إن الخليفة عبد الله كان على علم بما كان يدور في أوساط المسالمة من ممارسات لا تتفق مع قوانين المهدية، غير أنه كان يتغاضى عن كثير من ذلك لرغبته في الاستفادة من خبرات هؤلاء الأجانب في تحريك عجلات اقتصاد الدولة. وكان ينصح المسالمة بأن "يبقوا ما يعتقدون فيه سرا في قلوبهم، وألا يشيعوه بين أنصاره". غير أن الأسرى الأوربيين، بحسب ما ورد في مذكراتهم المنشورة، لم يكن يلقون مثل ذلك التساهل والتسامح. ولا عجب في ذلك، إذ أن دورهم في اقتصاد دولة لم يكن دورا كبيرا أو مؤثرا.
    ويمكن أن تقارن "المرونة الدينية" عند بسيوني مع سيولة / ميوعة هويته العرقية. فالنسبة لزوجه واليهود الآخرين في عهد المهدية كان بسيوني رجل يهودي من "الخليل"، وذو أصل سفاردي (وربما تجري في عروقه دماء اشكنازية روسية أيضا). وفي ذات الوقت فالرجل من رعايا الإمبراطورية العثمانية، ووصفه اليهودي السوداني ايلي ملكا لاحقا في كتابه المعنون "اليهود في السودان" بأنه تركي الأصل (ترجم مكي أبو قرجة ذلك الكتاب للعربية ونشره عام 2004م. المترجم).
    وبحسب ما ورد في يوميات القس الإيطالي باولو روسيقونولي، فقد زعم بسيوني أنه له أصلا إيطاليا، وأنه من ليفيرنو. وربما لا تدرك الآن عائلة بسيوني صحة (أو كذب) انتسابه لإيطاليا وليفيرنو. غير أننا يجب ألا نستبعد ذلك جزافا، إذ أنه من المعلوم أن ايفيرنو كانت مركزا مهما لليهود السفارد في الإمبراطورية العثمانية في سنواتها المتأخرة. وليهود ليفيرنو صلات قوية بشعوب البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وغيرهما. ومن الصعوبة أن نتخيل أن بسيوني قد انتحل ذلك النسب والتراث للقس الإيطالي، إذ أن الانتحال – إن حدث - لم يكن ليوفر له أي فائدة أو ميزة على الإطلاق. أما بالنسبة للسودانيين في عهد المهدية فالرجل لم يكن سوى المسلم الأنصاري "موسى عبد القادر بسيوني"، أحد أفراد المسالمة المحترمين في أم درمان، وواحد من المستشارين الذين يوليهم الخليفة ثقته.
    وفي الحقيقة فإن كل ما ذكر عن الرجل هو صحيح تماما. وإذا أردنا النظر لأمر هويته من جهة أخرى، يمكن القول بأن بسيوني رجل يهودي سفاردي متعلم، كثير الترحال في مناطق مختلفة من العالم، وعابر للأوطان (transnational)، ويجيد التحدث بعدة لغات. وكغيره من اليهود السفارد، كانت لدية القدرة على التعايش والتأقلم وتبني هويات متعددة ومعقدة، في السودان وفي خارجه كذلك. وبزواجه (الثاني) من امرأة سودانية في غضون سنوات المهدية، غدا عالمه (ووطنه) أكثر تعقيدا.
    [email protected]
                  

08-23-2017, 04:05 PM

أبوبكر عباس
<aأبوبكر عباس
تاريخ التسجيل: 03-04-2014
مجموع المشاركات: 3481

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (Re: عبدالله عثمان)

    من زمن يا عبد الله، داير أشكر أستاذي البروف البيطري بدر الدين الهاشمي على مجهوده العظيم في الترجمة لاثراء المكتبة السودانية

    شكرا يا بروف، ودمت مشعلا من مشاعل الاستنارة
                  

08-23-2017, 05:05 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (Re: أبوبكر عباس)

    مؤكد تهنئة كبير العباسيين بالسودان الأسفيري ح يكون عندها وزنها عند البروف
                  

08-27-2017, 07:48 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (Re: عبدالله عثمان)


    موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (2 – 2)




    موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (2 – 2)


    08-25-2017 11:01 PM


    موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (2 – 2)
    The Death of Bassiouni: A case of Complex Identity in the Sudan
    روبرت كرامر Robert Kramer
    ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

    مقدمة: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة لغالب ما جاء في مقال البروفيسور روبرت كرامر عن أحد الشخصيات اليهودية في السودان، نشر في العدد التاسع والأربعين من "المجلة الكندية للدراسات الأفريقية Canadian Journal of African Studies" الصادرة عام 2015م.
    وذكر الكاتب أن كل المعلومات الواردة في مقاله هي حصاد مقابلات مع عائلة بسيوني، أجراها في الخرطوم ولندن في عامي 1986 و1987م، وفي اتصالات أجراها معهم لاحقا.
    ويعمل البروفيسور روبرت كرامر أستاذا لتاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسيكنسون الأمريكية، ونشر - منفردا وبالاشتراك - عددا من الكتب والمقالات عن تاريخ السودان، خاصة في عهد المهدية، وعن الطريقة التيجانية في غانا. ومن أمثلة أعماله كتاب بعنوان "أم درمان مدينة مقدسة" ومقال (سبق لنا ترجمته) عن "استسلام وجهاء أم درمان".

    المترجم
    ***** ***** ****

    عائلة ممتدة

    أمر الخليفة عبد الله بُعَيدَ توليه خلافة المهدي في 1885م بأن تتولى كل عائلة أمر تزويج نسائها، وإلا ستقوم الدولة على الفور بتزويجهن بمعرفتها. وشجع الخليفة الأنصار بشدة على تعدد الزوجات (مع الالتزام بالحد الشرعي وهو أربع زوجات). وكان ذلك القرار متماشيا مع رؤية المهدي للتكامل الاجتماعي بين مختلف القبائل والمجموعات العرقية بالبلاد، ولكنه كان أيضا استجابة لما أثاره أمران من ثورة وهياج، أولهما هو الحروب المستمرة في غضون سنوات حركة المهدية، والتي سببت نقصا كبيرا في أعداد الرجال، وخلفت أعدادا كبيرة من الأرامل واليتامى، وثانيهما هو الهجرة الجماعية (القسرية) لقبائل غرب السودان إلى أم درمان، استجابة لسياسة الخليفة التي قضت بقدوم رجال تلك القبائل للعاصمة بدءً من عام 1885م. وحث الخليفة بسيوني، مع غيره من رجال المسالمة، على أن يتخذ له زوجة سودانية، لا سيما وهو من أعضاء "مجلس العشرة الكرام" الذي يستشيره الخليفة.
    وكانت المرأة التي اختارها بسيوني (أو بالأصح أختارها له الخليفة بنفسه) هي منى بت بشارة (Manna bt. Bishara، ولعلها "بت المنا") ، حفيدة القبطي شنودة بطرس من اسنا بصعيد مصر. وبزواجه من تلك المرأة عزز بسيوني من ارتباطه بالسودان.
    كان شنودة بطرس هو "حامل العلم Standard bearer " في الجيش التركي – المصري الذي غزا السودان في عام 1820م. ولذا أطلق الأهالي عليه لقب (أبو علم). واستقر شنودة في السودان خلال سنوات ذلك العهد، وتزوج من قبطية من بلده (اسنا) وأنجب منها 5 أولاد و12 بنتا، تزوج معظمهم قبل المهدية. وأثبتت تلك الزيجات (وخاصة زيجات أحفاده لاحقا) قدرا كبيرا من التكامل مع السودانيين عند بسيوني. ومن الثابت أن ولدين من أبناء شنودة تزوجا من امرأتين سودانيتين، وأن سبعا من بناته تزوجن من رجال سودانيين (أورد الكاتب في الهامش، بالتفصيل، أسماء الزوجات والأزواج من السودانيين والأقباط. فعلى سبيل المثال ذكر الكاتب أن عبد النور شنودة تزوج من امرأة سودانية الأصل اسمها فاطمة، وأن حنونة شنودة اقترنت بسوداني من الخندق اسمه النور عبد الحفيظ بانقا. المترجم).
    وكانت زوجة بسيوني (منى) ابنة بشارة شنودة، الذي كان قد تزوج من امرأة اسمها خديجة (وهي ابنة أحد أثرياء التجار الجعليين). وربما للشبه الشديد بين منى ووالدتها، كان بسيوني يسمي زوجه "منى بت خديجة". وفي المقابل كانت زوجته تطلق عليه – بنهج سوداني مميز - لقب "الخواجة"! ويبدو أن الاسمين كانا من باب الدعابة أو الإغاظة المحببة (affectionate teasing). ولا يعلم إن كانت منى في البدء مسيحية (بحسب ديانة أبيها القبطي) أو مسلمة (بحسب ديانة أمها السودانية الشمالية). غير أنه من المعروف أن منى هذه كانت سوداء اللون و"مشلخة" بشلوخ الجعليين المعتادة (ثلاثة خطوط عمودية). وكانت أخت منى الكبرى، واسمها "لولي" قد اقترنت من قبل بسوداني مسلم اسمه بلال الأسيادة ؟ (Al -Asayda)، ولها بنت يقال لها ستنا، تزوجها في سنوات حكم المهدية قائد مهدوي هو محمد خالد زقل (وقيل أن ولده عبد الله هو من تزوجها). كانت تلك عائلة لها صلات وروابط مهمة بالنسبة لبسيوني، إذ أن محمد خالد زقل كان من أقرباء المهدي، وكان رجلا واسع الثراء وعظيم المكانة الاجتماعية، خاصة في سنوات المهدية الباكرة. وقيل أيضا أن محمد خالد زقل هو من اقترح على بسيوني أن يتزوج من منى.
    ويتضح من تلك الزيجات أن عائلة بسيوني شملت عددا من السودانيين، خاصة من رجال ونساء القبائل النيلية في شمال السودان، ولكنها شملت أيضا بعض الأفراد من دارفور وكردفان. وبالإضافة لمحمد خالد، فقد شملت عائلة بسيوني الممتدة عددا من الأمراء في سنوات حكم المهدية، كان اثنان منهم من أقرباء الخليفة عبد الله. وكان منهم أيضا تجار يعدون من الأثرياء في العهد التركي – المصري.
    ويصعب التكهن بمدى تأثير تلك الزيجات على حظوظ بسيوني في عهد المهدية. إلا أنه من الممكن لنا أن نتصور أن تلك الزيجات شكلت للرجل حماية قوية وسندا لا يستهان به. ومن السهل أيضا تخيل وقعها على زوجته الأولى باخورة، والتي حملت من زوجها عديد المرات، ولكنها فقدت جميع أطفالها في الولادة أو بعدها بقليل. وبقيت باخورة في المنزل ضَرّة لزوجة بسيوني الثانية (منى) التي أنجبت لبسيوني ولدين اسماهما هارون وماير، وتوفيا في سنوات طفولتهما. وبعد مرور عدد من السنوات رزق بسيوني بأربعة أطفال، كان أكبرهم هو داؤود بسيوني.

    الحياة بعد المهدية

    بقي بسيوني بالسودان، كغيره من "المسالمة"، بعد هزيمة المهدية في عام 1898م وبدء الحكم الإنجليزي – المصري. وكانت حقيقة مذهلة ومفارقة غريبة أنه لم يهرب من السودان عقب إعادة فتح الحدود سوى عدد قليل نسبيا من اليهود والأقباط والأغاريق والأرمن والسوريين، على الرغم مما حاق بهم في عهد المهدية. (ذكر أبونا دانيال البطريرك القبطي بالخرطوم للكاتب في مقابلة له معه بتاريخ 30/10/ 1986م أن سبب قلة الهاربين من السودان عقب هزيمة المهدية وفتح الحدود هو أن "هؤلاء الأجانب قد شعروا بأنهم كانوا عانوا في عهد المهدية أقصى ما يمكن لهم أن يعانوه". وعبر الكاتب أن ذلك التفسير لم يقنعه. المترجم). وظل بسيوني يقطن في أم درمان عاصمة المهدية السابقة، في رغد من العيش، خاصة بعد أن تملك عددا من البيوت في حي المسالمة (قرب السوق الرئيسي بالمدينة) وفي شارع العرضة وغيره. ولم يجد سببا للانتقال للخرطوم، التي كان المستعمر الجديد يعيد بنائها ببطء.
    وكغيره من الذين تحولوا للإسلام في عهد المهدية، عاد بسيوني رسميا لديانته الأولى رغم احتفاظه باسم موسى بسيوني الذي كان قد أسمي به في المهدية (ولكنه صار يكتبه بالإنجليزية Bassiouni عوضا عن Basyuni) وغدا الاسم بتهجئته الإنجليزية هو الاسم المعتمد في الدوائر التجارية والاجتماعية السودانية. وظلت زوجته الأولى باخورة تناديه باسمه القديم (موشيه)، وبقيت هي في السودان إلى أن وافتها المنية منشغلة بالمساعدة في رعاية أبناء بعلها من زوجته الثانية منى. وشمل هؤلاء بناته مثل نعيمة (المولودة عام 1898م) وايثير Esther(المولودة 1904م) وأولاده داؤود (المولود عام 1906م) وسليمان (المولود في عام 1910م). وأخيرا، شملت عائلة بسيوني أيضا أفراد عائلة منى المسلمين والأقباط.
    ومع تزايد أعداد المهاجرين اليهود من سوريا ومصر والعراق ودول أخرى للسودان بحثا عن الفرص التجارية، تم تكوين جالية يهودية رسمية. واستجلت تلك الجالية لأول مرة في أغسطس من عام 1906م حَبْرا يهوديا مؤهلا (rabbi) من طبريا في فلسطين اسمه سلومون مالكا. وكان بسيوني قد تولى من قبل ذلك التاريخ أمر تشييد معبد يهودي صغير في أم درمان وكان يؤم الناس في الصلاة به، وابتاع أرضا ليقيم فيها مدفنا لليهود. واختارته الجالية رئيسا لها مدى الحياة اعترافا منها بأعماله الجليلة وأقدميته وتأثيره. وأنشئ في عام 1934م فرع للمنظمة اليهودية الخيرية المسماة بني بيرث B'nai B'rith (تسمى أيضا "أبناء العهد") في الخرطوم، أطلق عليها اسم "بن صهيون كوشتى" تكريما لبسيوني (بحسب ما جاء في موقعها في الشابكة (الشبكة) العنكبوتية فإن منظمة "بني بيرث" هي منظمة يهودية أنشئت في نيويورك عام 1843م لخدمة الجاليات اليهودية حول العالم. المترجم).
    وجاء في كتاب إيلي مالكا عن تاريخ اليهود في السودان، أن أول ما قام به الحَبْر سلومون مالكا رسميا بُعَيدَ وصوله للسودان هو تهويد زوجات وأطفال عائلات اليهود السودانيين (المقصود هم الذين تزوجوا أو ولدوا في عهد المهدية). وكانت أولى المُتهوِّدات هي منى، والتي تغير اسمها إلى الاسم العبري "هانا بات إبراهام" ثم تم تهويد عيالها فسميت نعيمة نعومي، وأعطى داؤود اسم ديفيد. غير أن ما ورد في ذلك الكتاب لم يكن دقيقا تماما، فقد قام الحَبْر سلمون مالكا بتهويد بعض أفراد تلك العائلة في 1908م وليس 1906م كما زعم مؤلف الكتاب، أي بعد أوبته من طبريا التي كان قد ذهب إليها ليحضر زوجه وبناته للإقامة معه بالسودان. ولا يعرف على وجه الدقة سبب تأخير تهويد هؤلاء. غير أنه من الملاحظ أن عملية تهويد أفراد تلك العائلة لم تتم إلا بعد أن استقدم بسيوني الحَبْر الأعظم من مصر (واسمه الياهو هازان) إلى أم درمان. لذا يمكننا القول بأن بسيوني ربما كان يسعى لإتمام عملية تهويد أفراد عائلته على يد أكبر سلطة دينية في المنطقة. وابتدءً من عام 1909م تولى الحَبْر مالكا عملية ختان كل صبية اليهود بالبلاد (ومن ضمنهم داؤود بسيوني)، وكان حينها في الثالثة من عمره (خلافا لعادة السودانيين الذين يختنون أولادهم في سن أكبر من ذلك). وفي سنوات لاحقة صار اليهود بالبلاد يختنون أولادهم في اليوم الثامن لميلادهم. واحتفل داؤود وهو في الثالثة عشر من العمر بالبار ميتزفاه Bar Mitavah (هذا طقس من طقوس اليهود لإعلان سن البلوغ والتكليف، فبعد تلك السن ينبغي على اليهودي مثلا الصيام في "يوم التكفير". المترجم). ثم توفي موسى بسيوني في عام 1921م فدفن في مقبرة اليهود بأم درمان، تلك التي أقامها بسيوني.
    وظلت حياة عائلة بسيوني التي عاشت في سنوات ما بعد المهدية مليئة بالأحداث المثيرة. فقد ولد كثير منهم بالسودان وحملوا جنسيته وجوازات سفره، وكانوا يعدون أنفسهم من اليهود، ومن "الأم درمانين" أيضا. ثم ارتبطوا بعد عام 1918م بالخرطوم وبجاليتها اليهودية. وازداد ارتباطهم بأطياف من رجال ونساء المجتمعات السودانية (على سبيل المثال بعائلة منى التي تشمل المسلمين والأقباط). وعاش أفراد فرعين من تلك العائلة الممتدة هما عائلتي فرحانة ولولي (عمة وأخت منى، على التوالي) في الخرطوم بحري. وكانوا يداومون على زيارة دار بسيوني.
    واشتهرت منى بين أفراد عائلتها وفي أوساط رجال ونساء الجالية اليهودية بشدة التدين. فقد عرف عنها الاهتمام والالتزام بكل الطقوس اليهودية (مثل الغُسْلُ قبل إيقاد الشموع في يوم السبت (Sabbath)، وتلاوة بعض آيات التوراة قبل تناول الطعام، والاحتفال بكل الأعياد الدينية). ومن غريب الصدف أن واحدا من جيرانهم السابقين في أم درمان – يوسف بدري، الذي نشأ مع داؤود بسيوني، كان هو ابن الرجل الذي كان قد استأجر من موسى بسيوني متجرا في سوق أم درمان في عهد المهدية. ولا شك أنه يذكره بحسبانه رجلا مسلما، يتوضأ ويصلى على (برش) الصلاة. وكان أبونا دانيال بطريرك الخرطوم يصر على أن بسيوني وجميع أفراد عائلته كانوا "مسلمين مخلصين" منذ أن انتصرت المهدية. بينما ذكر لي أحد سكان أم درمان السودانيين (واسمه الأسطى الجاك) بأنه واثق جدا بأن منى (وبقية أفراد عائلتها) هم من الأقباط. غير أن عائلتين من العائلات اليهودية التي تحولت (أو حولت) للإسلام في عهد المهدية بقيت على إسلامها بعد سقوط المهدية، إحداها هي عائلة منديل، والأخرى هي عائلة إسرائيل. وكانت عائلة إسرائيل على علاقة وثيقة بعائلة بسيوني، وربما اختلط الأمر على دانيال بطريرك الخرطوم، فتحدث عن عائلة إسرائيل وهو يقصد عائلة بسيوني. وذكر يوسف بدري لي في مقابلة معه يوم 30 يونيو 1987م في أم درمان بأنه "لم يكن الناس في تلك السنوات يفرقون كثيرا بين المسلم والمسيحي واليهودي، ... إذ أنهم كانوا يرتدون ذات الملابس ويتزاورون فيما بينهم يوم الجمعة ... ولم تكن ديانة المرء بالأمر المهم، وبالتأكيد لم تكن الدولة تشتغل بمراقبة سلوك الأفراد والجماعات والتزامهم بأصول الدين". ويتضح مما سبق وَثاقة العلاقات بين أفراد المجتمع العاصمي آنذاك بغض النظر عن العرق والدين. بل كانت هنالك بين تلك المجتمعات العرقية والدينية المختلفة بعض عمليات "الاستعارة / الاستمداد الثقافي cultural borrowing" المتبادلة. ولا شك في أن عائلة بسيوني (اليهودية) كانت لها من الروابط والصلات مع السودانيين المسلمين والأقباط أكثر مما كان عند اليهود الآخرين.
    ولم تكن الهوية الدينية لبقية أفراد تلك العائلة موضع شك، خاصة في أوساط مختلف الجماعات اليهودية بالبلاد (التي بلغ أقصى عدد لأفرادها ما يقل قليلا عن ألف فرد)، والتي شملت العرب والمتحدثين بالإنجليزية والفرنسية واليديشية وغيرها، من القادمين من مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا. وسهل على عائلة بسيوني الاندماج مع كل تلك المجموعات اليهودية المتباينة، فغالب أفرادها كانوا نشطاء اجتماعيا، يشاركون بفعالية في كل الشؤون والمناسبات الدينية والاجتماعية والترفيهية والرياضية لجاليتهم (خاصة مع فريق كرة القدم الخاص بهم)، ويتحدثون العربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة. وكان بعضهم أعضاءً في المجلس الإداري الذي يدير شؤون المعبد اليهودي. وكغيرهم من يهود السودان، كانت حياة الواحد منهم تدور في الغالب حول أمور المال والأعمال والمناسبات الاجتماعية في النادي اليهودي بالإضافة إلى أندية أخري مثل النادي الأرمني والسوري والإيطالي والإغريقي. لقد كان مجتمعهم باختصار مجتمعا عالميا/ أمميا.
    وعلى المستوى الوطني العريض، كانت لعائلة بسيوني سمعة طيبة وبروز واضح. فقد تزوجت ابنته الثانية ايثير من يهودي قدم من مصر اسمه سيزر ليفي، وغدت لاحقا مديرة أول مدرسة للبنات بأم درمان في ثلاثينيات القرن الماضي. ودرس داؤود بسيوني الاقتصاد في الجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1926 و1929م، وعاد للسودان ليعمل في مجلس إدارة الاستوائية، ونقل إلى مدينة بورتسودان بين عامي 1941 و1945م، حيث التقى بفتاة يهودية مصرية من الإسكندرية اسمها اليقرا هاروش وتزوجها في عام 1942م. ونقل داؤود بعد ذلك إلى جوبا بين عامي 1946 و1948م. وفي بورتسودان وجوبا أنجبت له زوجه عددا من الأطفال. أما سليمان ولد بسيوني الثاني فقد أصاب نجاحا عظيما، ومن نوع خاص. فقد كان نشيطا جدا في خدمة مختلف شؤون الجالية اليهودية، وكان من أوائل الذين تخرجوا أطباء في السودان، وعمل في مصلحة (وزارة) الصحة حتى بلغ رتبة حكيمباشي مستشفى الخرطوم، وعمل أيضا أستاذا بجامعة الخرطوم. وبعد تقاعده عن العمل هاجر مع عائلته لأسمرا (التي كانت حينها جزءً من اثيوبيا)، وعمل فيها طبيبا إلى أن هاجر بصورة نهائية إلى إسرائيل، بحسب ما جاء في كتاب إيلي مالكا. وكان الرجل قد اقترن في عام 1939م بسيدة من قبيلة المورو اسمها اليزباتا في غضون سنوات عمله بجنوب السودان. وأنجب منها ولدا اسماه ديفيد، على اسم عمه. ونشأ ديفيد سليمان في الجنوب ودرس لاحقا الطب البيطري في جامعة الخرطوم. وطلق سليمان زوجه الجنوبية وتزوج مرة أخرى من فتاة يهودية وأنجب منها ستة أطفال. لا شك أن اقترانه بفتاة سودانية جنوبية لم يكن أمرا مألوفا، بل عده بعض الأصوليين من كبار رجال الجالية اليهودية أمرا مشينا لأسباب دينية وعرقية. غير أن زواج سليمان من اليزباتا كان استمرارا لنهج وتراث عائلته الذي يميل نحو التنوع والشُمُول. وبذلك الزواج من جنوبية صارت لعائلة بسيوني صلات إضافية مع السودانيين، بما فيهم الجنوبيين كذلك (ذكر الكاتب في الهامش أن زميلة جنوبية له أخبرته في تسعينيات القرن الماضي بأن "اسم بسيوني هو في الأصل اسم جنوبي". المترجم).
    وبدأت أوضاع اليهود في السودان تسوء بصورة متسارعة عقب قيام دولة إسرائيل في عام 1948م، وساءت أكثر عقب وصول عبد الناصر لسدة الحكم في مصر في 1954م، بسبب دعوته لضَّرْب عنيف من القومية العربية. وفي ذلك العام توفيت منى. وازدادت شهرة (وخطب) عبد الناصر بريقا ولمعانا عام 1956م بعد إخفاق إسرائيل وبريطانيا وفرنسا في السيطرة على قناة السويس. وتعالت في مصر – ومن ثَمَّ في بقية العالم العربي - الأصوات والسياسات المعادية للسامية، فبدأت أفواج عائلات اليهود تخرج من مصر والسودان بلا عودة. وشمل ذلك نعيمة وايثير وسليمان بيومي. وهاجر غالب اليهود إلى أوروبا والولايات المتحدة، بينما فضل قليل منهم الذهاب لإسرائيل. ولم يبق من تلك العائلة في السودان سوى داؤود وزوجه اليقرا وأطفاله السبعة، إذ كان داؤود قد وعد والده بأن يدفن إلى جنبه بمقابر اليهود بأم درمان، وكان يشعر شعورا قويا بأنه ينتمي للسودان، ولذا آثر البقاء فيه. غير أنه أتهم في قضية ملفقة عام 1967 بأنه "جاسوس إسرائيلي"، وأعتقل لثلاثة أيام. بعدها بدأ الشك يتسرب إلى نفسه، وأصابه الإحباط بسبب ما لاقاه من ظلم رغم حبه للسودان وأهله وارتباطه بهم. غير أنه استمر رغم ذلك في أداء أدوار مهمة في حيوات أناس كثر في مجتمع "المسالمة"، مما منحه اللقب الشرفي "شيخ الحارة". وكان يحس بواجبه في رعاية "المعبد اليهودي" لسنوات طويلة قبل أن يتناقص عدد اليهود إلى أقل من عشرة، وهو العدد الأدنى المطلوب لقراءة التوراة. وأخيرا توفي في داره الذي كانت تملكه الجالية اليهودية.

    وفاة بسيوني

    في صباح اليوم التالي لوفاته كفن داؤود بسيوني تحضيرا لدفنه. وذكر أفراد من العائلة أن فقيدهم كفن في ثوب (سرتي)، وهو عادة من ثياب الزفاف قديما. وقيل إن ذلك الثوب الذي كفن فيه داؤود كان هو ثوب زفاف والدته، منى (ذكر الكاتب في الهامش أن مثل ذلك الثوب سمي على مدينة في الهند هي سورات Surat، وذكر أيضا أن الرحالة الأسكتلندي جيمس بروس زار سنار في عام 1771م ورأى فيها قماش السرتي، والذي كان يأتي من الهند عبر ميناء سواكن. المترجم). ذهب المشيعون بجثمان داؤود بسيوني إلى المقبرة اليهودية، بينما بقيت نساء العائلة في الدار بحسب التقاليد السودانية، وتقاليد اليهودية (السفاردية) أيضا. ووضع جثمان بسيوني في قبره ووجهه يتجه نحو الشرق (في هذه الحالة كان المقصود هو جهة القدس).
    وعاد أهل بسيوني لداره لتلقي العزاء من الأصدقاء السودانيين ورجال ونساء الجاليات الأجنبية من الأرمن والسوريين والأغاريق، إضافة لشخصين من اليهود الذين بقوا بالسودان. استمر العزاء لأربعين يوما، بحسب التقليد السوداني، وخالفت عائلة داؤود بسيوني بذلك التقليد اليهودي الذي يقضي بأن تكون أيام العزاء سبعة أيام لا تزيد (يسمى العزاء عند اليهود شيفاShiva ). وأتى للعزاء رتل كبير من المعزين السودانيين من عائلة منى الممتدة، منهم نساء (مشلخات) يرتدين أثوابا سودانية تقليدية ملونة. قرأ الرجال الفاتحة على روح الفقيد، بينما تعالت أصوات النساء بالعويل مع نساء عائلة بسيوني. وبقيت بدار بسيوني طوال أيام العزاء الأربعين هلالة بنت آدم سليمان (خادم بسيوني السابق). أتت كما قالت لتعزي في أخيها داؤود. وأتى للعزاء كذلك أفراد من وجهاء ومثقفي العائلات الكبيرة كان منهم سيد اسحق محمد الخليفة شريف (أحد أحفاد المهدي) ومحمد داؤود الخليفة (أحد أحفاد الخليفة عبد الله). أتى هؤلاء للعزاء في نجل رجل مهم في المهدية.
    وبعد انقضاء فترة "الأربعين"، كما كان يسميها أفراد عائلة بسيوني، نهض هؤلاء من المراتب الملقاة على الأرض التي كانوا يجلسون عليها أثناء أيام الحداد، واغتسلوا وتعطروا، وتلوا صلوات يهودية (كاديش kaddish) تقال عادة على روح الميت. وقاموا بتحضير طعام إفطار خاص فيه كثير من أطايب الأطعمة. وفي صباح اليوم التالي قامت نساء العائلة بزيارة قبر بسيوني للمرة الأولى ورتلن الكاديش مرة أخرى، ووزعن بعض الأطعمة على كل من كان موجودا بالمقبرة، وتركن بعضها مع بسكويت وحلوى ملفوفة في أوراق ملونة على القبر، ونثرن الماء على ترابه.
    بعد ذلك عادت حياة العائلة بالتدريج إلى طبيعتها. وبعد مرور عام على وفاته هاجر أفراد عائلة بسيوني الذين بقوا في الخرطوم (أرملة بسيوني وولديها) إلى أوروبا بصورة نهائية. وبذا أسدل الستار على حياة أقدم عائلة يهودية في السودان.

    الخلاصة: أن تكون سودانيا

    سن الرئيس الأسبق جعفر النميري في (سبتمبر) 1983م عملية "أسلمة" معاصرة، شملت قانون العقوبات الحدية التي نص عليها القرآن. وكانت حرب أهلية بين الشمال والجنوب قد بدأت في (نحو منتصف) ذلك العام نفسه، بعد أن كان قد خمد أوارها (منذ عام 1972م). وتولى الصادق المهدي رئاسة ثالث حكومة ديمقراطية بين عامي 1986 و1989م. وفي تلك الفترة توفي داؤود بسيوني، وهاجر آخر أفراد عائلته نهائيا لأوروبا. ثم أتى عهد الرئيس الحالي (عمر البشير) بانقلاب عسكري إسلامي مسنود من الجبهة الإسلامية بزعامة حسن الترابي. واستمر ذلك النظام إسلاميا بعد خروج الترابي من سدته. وشهد هذا العهد انفصال جنوب السودان عن السودان.
    وأعلنت الحكومة أنها حكومة "إنقاذ وطني"، وبدأت حملة لأسلمة كل مرافق الدولة، وأنشأت "قوات الدفاع الشعبي" للقيام بواجب "الجهاد"، وأقامت دستورا إسلاميا للبلاد في عام 1998م عَرَّفَ السودان باعتباره "دولة إسلامية"، وصار دين أغلبية السكان (الإسلام) ولغتهم (العربية) هما ما تعرَّف به "القومية / الوطنية السودانية". وكانت تلك الإيديولوجية التي تشددت في أمر الهوية، وجعلتها هوية صَلْدة (hardened) هي ما أزكت نيران الحرب الأهلية، وأفضت في نهاية المطاف لفصل السودان لقطرين. ولعل تلك الايديلوجية (والعاطفة) هي ما دعت لتذكر داؤود بسيوني ك "أحمد داؤود بسيوني" في الإذاعة السودانية، وكأن الشُمول (inclusivity) والقبول بالآخر والتَوْفِيقِيَّة (syncretism) الذي تميزت به تلك العائلة، وهويتها المتفردة لم يعودوا مقبولين أو قابلين للحياة في البلاد.
    لعل تعريف السودان بأنه قطر "عربي" و"مسلم" كان سيثير، بلا ريب، استغراب الأقباط المسيحيين الذين أقاموا بكردفان في القرن التاسع عشر. فعقب مرور ما لا يزيد عن خمسين عاما من وصولهم من مصر للاستقرار في مدن مثل الأبيض وبارا بدأ هؤلاء يعدون أنفسهم "سودانيين". وسجل التاجر القبطي يوسف ميخائيل في مذكراته بأنه ورفاقه كانوا في عام 1875م، وهم تلاميذ بمدرسة الأبيض، يستمتعون بإزعاج مدرس مصري جديد قدم لتوه من بلاده. وأضاف بالقول: "لم نكن نخاف منه لأنه مصري وجبان". وارتعب المدرس المصري من ذلك الاستقبال العدائي وقال بأنه رجل أجنبي لا علم له بأخلاق أولاد السودان وسلوكهم! (ذكر الكاتب أنه اِسْتَقى تلك المعلومة من رسالة دكتوراه لصالح محمد نور عن مذكرات يوسف ميخائيل من جامعة لندن، عام 1962م. وعمل المرحوم الدكتور نور أستاذا للتاريخ بكلية الآدب في جامعة الخرطوم. المترجم). وكان يوسف ميخائيل يشير لأفراد مجتمعه من الأقباط بأنهم "أهل الوطن" قبل زمن طويل من انضمام غالب هؤلاء لأنصار المهدي. وكان يشار لسكان المسالمة بأم درمان في عهد المهدية – بحسب الظرف والحال - بأنهم “مسالمة" أو "أنصار" أو "أهل أم درمان". وكان ذلك إحساسا باكرا بهوية وطنية ناشئة.
    لقد كانت الهوية تعتمد دوما على الموقع (situational) في السودان (أي "أرض السود" أو بلاد السودان" بحسب تسمية الجغرافيين العرب في القرون الوسطى). وتداخلت بطرق ومستويات متباينة عوامل اللون والعرق والقبيلة واللغة والموقع والدين والمهنة في تحديد تلك الهوية. وجعلت تلك العوامل الهوية في السودان ديناميكية الطابع، وسمحت حدودها الاجتماعية المسامية / السميمة (porous) لكثير من الناس بالانتماء لها. فقد جاءت للسودان عائلة يهودية أصلها من فلسطين والأناضول، وصاهرت عائلات من شمال السودان، وعاشت وازدهرت في ذلك البلد (رغم تعرضها في أوقات قليلة لبعض المخاطر). وأحست تلك العائلة بقبول الآخرين في البلاد بهم كسودانيين، وجسد كل فرد فيها - في كثير من النواحي - معنى أن يكون المرء سودانيا في ذلك البلد المترامي الأطراف. غير أن هذا الوضع قد تغير، وغدا السودان مستعدا لهجر نصفه "الأفريقي" وطرحه بعيدا، ولم يعد بالطبع متوقعا أن يسع أو يحتضن عائلة معقدة التكوين كعائلة بسيوني.


    [email protected]





                  

08-27-2017, 08:31 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (Re: عبدالله عثمان)

    وليد المنسي

    شكل الغزو التركي و الإستعمار الثنائي لاحقاً، المنفذان الأساسيان لولوج اليهود الحديث الباحة السودانية. وتراكمت في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين جالية يهودية إنتشرت في المدن الرئيسية آنئذاك وعمل جل أفرادها بالمهنة التى وافقت الشخصية اليهودية منذ القدم، التجارة. فتمدد وجودهم في كل من:الخرطوم، أم درمان، بحري، عطبرة، الكاملين، بورتسودان، الابيض و دنقلا. ولعل أكثر التفسيرات إثارة للدهشة حول إشتقاق كلمة (دنقلا) هي ما ورد في (السودان وثائق و مدونات)TC-R-OMISE1/13/113 إلى أن دنقلا إشتقت من الإسم Dungul وهو إسم يهودي أشتهر بالأهمية و القوة وعاش هناك من قبل أربعة عشر قرناً و عقبها أطلق إسم دناقلة على المنطقة. ولكن ليس هنالك من دليل آخر يعضد هذه الفرضية.
    و أشتهرت العديد من العوائل اليهودية في السودان ومنها: آل إسرائيل، ومنهم إبراهيم إسرائيل، إحدى مؤسسي مؤتمر الخريجين. وهي أسرة إندمجت في النسيج السوداني تماماً و أنتجت العديد من الساسة و الشعراء و منهم ليلى إسرائيل، سكرتيرة جعفر نميري، و آل ساسون، و قد إنحدر منهم أول سفير إسرائيلي لمصر، و آل ملكا، وهم من كانوا يمتلكون مبني وزارة الخارجية الحالي، و منهم الياهو مالكا، مؤلف السفر القيم (بنو إسرائيل في أرض المهدي)، و آل عبودي و كوهين و قرنفلي و منديل و بسيوني و بيومي و تمت سودنة بعض الأسماء في فترة المهدية تقية! ف(حاخام) صار(حكيم).
    منذ عهد المهدية صار حي المسالمة (غيتو فاخر Ghetto) لليهود و الأقباط، بالرغم من العسف الديني، و إنطلقت مخيلة شعراء الحقيبة تتغزل في صباياه (لي في المسالمة غزال) ، ثم إنتقل بعض منهم إلي حي البوستة بعد إنهيار المهدية ثم إنداحوا إلي أماكن آخرى. و كان نادي الخرطوم و النادي اليهودي و صالة غردون للموسيقي( JMH) ، التي أقامها يهودي ألماني، ملاذاً للياليهم.
    لم يكن غريباً أن يتقدم واربورت، عقب الإحتلال الثنائي في العام ١٩٠٠م، وهو من قادة اليهود وقتها، للورد كريمر، بأن يكون السودان وطناً لليهود، وليعقبه ابراهام جلانت بذات الفكرة إلي رئيس المنظمة الإقليمية اليهودية في العام ١٩٠٧.
    و لكن الخيط التاريخي لدخول اليهود السودان لا ينقطع ببدء الغزو التركي، فالعديد من الشواهد ترجعه إلي أزمان ساحقة القدم، ففي عهد الشتات اليهودي الأول، كان لليهود مستعمرتين في جزيرة فيلة ، في الشلال الأول، وقد أشار إلي ذلك سيجموند فرويد في كتابه الشهير (موسي و التوحيد). و كان الهمزاني قد لاحظ في وقت سابق و جود الشرائع الموسوية في بلاد النوبة، ومن بينها ختان الذكور و العديد من الطقوس و العادات. ويمتد هذا الخيط ليتوغل حتى بدايات الديانة اليهودية، في القرن الثالث عشرقبل الميلاد، فمدونات التاريخ الديني السودانية تتغاضى عن عمد واقعة زواج النبي موسي من فتاة سودانية، من كوش، وهى واقعة تتضمنتها التوراة نفسها.
    (و تكلمت مريم و هارون على موسي بسبب المرأة الكوشية التى إتخذها لانه كان قد إتخذ امرأة كوشية) عدد ١١٢.
    و لقد ورد إسم كوش عدة مرات في التوراة، وتشير بعض الأبحاث في علم الأديان التاريخي الحديث إلي أن النبي موسي كان ملكاً على جنوب مصر قبل نبوءته، أنظر مثلاً كتابي( المسكوت عنه: الجذور الوثنية للأديان التوحيدية، دار عشتروت، لبنان، ٢٠٠٣).
    ورغم أن التجسيد المادي لكل هذا التاريخ ينحصر الآن في جالية صغيرة العدد حد التلاشي، أسلم جلها، كان يرأسها قبل عدة سنوات ربيع شلين، وفي مقبرة نبشت معظم قبورها و أرسلت بقاياها لتل ابيب في منتصف السبعينات، و ملفات عتيقة تقبع في اضابير وزارة الأوقاف تحاط بسرية من قبل الأجهزة المعنية و من تهافت خفي و مبتذل للإنبطاح السياسي القادم أمام إسرائيل، إلا أن آثار و إنعكاسات هذا الوجود لا تزال باقية تحت سقف الثقافة السودانية ذات التركيب الإستدماجي، الذى يراكم و لا ينفى، تعكسه بعض اشعارها و طقوسها و عاداتها و تستبطنه متون و حواشي كتاب تاريخها الخفي.
    الشعر السوداني آبان الإستعمار الثنائي يعكس الوجود اليهودي في السودان في أبيات متناثرة، هنا و هناك، نستطيع إذا أعدنا تركيبها أن نكشف بين طياتها مفهوم اليهودي في العقل الجمعي.
    يقول الحاردلو الصغير متغزلاً:
    يا فليوة اليهودي
    يا الفي ديباج بتخودي
    يا قصيبة الوادي السحابو بدوادي
    ويقول آخر متغزلاً:
    طاقة اليهود ما إتفرت
    زى عودك المخرت
    وفي بعض العادات و الطقوس السودانية، يمكننا تبين بصمة الشريعة الموسوية، فعادة (الرحط) ذات جذور يهودية صميمة، فالرحط هو جلد أو سعف يشق في هيئة ازار، و يطرز بالصدف و الودع، كانت الصبايا قديماً يرتدينه في فترة الحيض.
    تقول التوراة:
    (و قل لهم بأن يصنعوا لهم أهداباً في أذيال ثيابهم في اجيالهم و يجعلوا على هدب الذيل عصابة من أسمانجوني) عدد:١٥ -٣٨. ويعتقد روبرتسون سميث في كتابه( ديانة الساميين) ان الرحط هو من أقدم أصناف هذه الأهداب. ولعلنا نذكر ان عادة( قطع الرحط) لها دلالات فرويدية مباشرة!
    أساس عادة زواج الأخ من أرملة أخيه المتوفي جذورها يهودية، سواء مباشرة أو من خلال نقلها بواسطة العرب، وأصلها الحفاظ على الثروة و النسل داخل الأسرة. كما أن إحتفالات النوبة في شمال السودان بعاشوراء (الهبوب)، وهو نفسه إحتفاء اليهود بنجاة النبي موسي و شيعته بالعبور، يشابه إحتفالات اليهود. وهنالك العيد من العادات الآخرى، وضع التوم كتعويذة حول الرقبة، إستئجار الناعيات، تغطية المرآيا في بيوت الحداد و إستخدام البوق عند دعوة الناس لإجتماع أو مناسبة.
    تشى اللغة بقسميها المنطوق و الجسدي بعلاقتها القديمة بالشريعة الموسوية و اللغة العبرية و اللغات التى كونتها، فعلى سبيل المثال، إشارة (القسم) السودانية التى تتضمن ضرب الكف الأيمن على الفخذ الأيمن، التى غالباً ما تستخدمها النساء، هى لغة جسد يهودية صميمة. فلحم فخذ الذبائح كان محرماً عند الكنعانيين و اليهود، و نستطيع تبين ذلك في قصة مصارعة يعقوب للرب الشهيرة في التوراة، و تتضمن الإشارة هذا التحريم، فلحم فخذ الذبيحة مكرس كقربان للإله في حالة الحنث به، لذا فإن الشعائر التعبدية اليهودية القديمة كانت تتضمن وضع الكف على الفخذ دلالة على الولاء للإله و الإخلاص له.
    على صعيد اللغة المنطوقة، ولجت العديد من المفردات العبرية إلي العامية السودانية: قدوم، خابور، فرخة(ليست الدجاجة، إنما معناها السلبي الآخر)، ############، مسطول، المقابل العامي لكلمة داعرة، و جل الكلمات الدارجة التى تشير الي عضو المرأة.
    ثم هنالك كلمة (سحارة)،و هى صندوق خاص لحفظ الملابس. كلمة سيرة، وهى زفة العروس، هى في الأصل( شيراه)، كما يشير د.عبد المجيد عابدين في( مدخل الي فنون القول عند العرب)، ولعلنا نذكر أن من أقدم اسفار العهد القديم نشيد الإنشاد( شير هشريم). ويعتقد كثير من الباحثين أن السيرة تشكل نمطاً عريقاً في القدم عند اليهود من الإنشاد الدوري كانوا يتناشدونه في حفلات الزواج التى تستمر( سبعة أيام). وكانت مزامير داؤود تنشد في معابدهم بين فردين على هذه الطريقة ثم إنتشرت طريقة الإنشاد الدوري في المعابد القديمة ، والإنشاد الدوري الذى يكون بين فردين يذكرنا( بمجادعة الدوبيت)!

    معهد مارشال للدراسات الامنية والإستراتيجية-الناتو-المانيا
    [email protected]


                  

08-27-2017, 08:32 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (Re: عبدالله عثمان)

    آآآآآآسفون لتكرار
    الباندوث فتر

    (عدل بواسطة عبدالله عثمان on 08-27-2017, 08:39 AM)

                  

08-27-2017, 01:30 PM

مدثر صديق
<aمدثر صديق
تاريخ التسجيل: 04-30-2010
مجموع المشاركات: 3896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: موت بسيوني: مثال للهوية السودانية المعقدة (Re: عبدالله عثمان)

    الاهتمام بالترجمة من مؤاشرات نهضة الامم

    و (خالى ههههههه) البروف بدرالدين من من يسهمون بدور كبير في دفع هذه العملية .........

    مشكور الاخ عبدالله .......




    _____________________
    احسنوا الظن بالناس
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de