03:04 PM March, 07 2016 سودانيز اون لاين
Sediq Hamad-LONDON / UK
مكتبتى
رابط مختصر
أخيرا ترجل الفارس، وتوقفت الأنفاس في ذلك الجسد الطويل النحيل الذي لم يكن يعرف الملل أو الكللغرد النص عبر تويتر. إنه حسن الترابي، الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طيلة عمره الطويل العريض، وأثرى الفكر الإسلامي بأطروحاته العميقة، وأثار عواصف بمسالكه الجريئة
وقد حاول الترابي أن يجمع بين ثقافة الشرق والغرب، وبين العلم الشرعي والموقف الشرعي، وبين عمق الفكرة وإشراق الروح. فنجح في الأولى نجاحا مظفرا حيث يعز أن تجد بين عظماء المسلمين في القرن العشرين من جمع بين ثقافة الشرق والغرب بقدر ما جمع بينهما الترابي. وظل كسبه في الموقف الشرعي وفي إشراق الروح مثار جدل دائم.
وقد أتيح لي ضمن عدد وافر من العرب والمسلمين عبر العالم أن أتابع جهد الترابي واجتهاده على مدى عقود، وكان من ثمرات هذه المتابعة أعمال علمية ثلاثة، هي كتابي "الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الإستراتيجي والتنظيمي" وهو دراسة ضافية لمسار الحركة منذ تأسيسها منتصف الأربعينات إلى انقلابها العسكري عام 1989.
"حاول الترابي أن يجمع بين ثقافة الشرق والغرب، وبين العلم الشرعي والموقف الشرعي، وبين عمق الفكرة وإشراق الروح. فنجح في الأولى نجاحا مظفرا حيث يعز أن تجد بين عظماء المسلمين في القرن العشرين من جمع بين ثقافة الشرق والغرب بقدر ما جمع بينهما الترابي"
وثانيها رسالتي: "آراء الترابي من غير تكفير ولا تشهير" -وكان الترابي رحمه الله- يمازحني قائلا: لو أضفتَ جملة: "وذلك أمر عسيرٌ" إلى العنوان لكان أنسب- وهي رسالة خفيفة تتناول بالتمحيص بعض آراء الترابي المستطرَفة التي أثارت عليه أوساطا تقليدية هو أوسع منها اطلاعا على تراث السلف، وأرحب باعا في التأصيل والتنزيل. ثم كانت الثمرة الثالثة بحثا بعنوان: "فقه الحركة وفقه الدولة: عبرة التجربة الإسلامية في السودان" صدر ضمن كتاب لجماعة من المؤلفين.
ويبدو لي أن لحياة الترابي وجهين: وجه المفكر المبدع المتجاوز لعصره، بعقله الثاقب وأصالته الشرعية وجرأته العقلية، ووجه الداهية السياسي المتجاوز لخطوط كثيرة رسمتها ريشته بالخط الأحمر العريض.
أما الوجه الأول فنجده في كتب الترابي ورسائله التي جمعت بين تجريدات "هيغل" الفلسفية ولغة الشاطبي الأصولية، وكانت إسهاما جليلا في تجديد الدين وفي الفقه السياسي. وهذا الوجه -فيما يبدو لي- هو الأثر الذي سيبقى من الترابي بعد رحيله، بسبب ما فيه من عناصر الاطّراد النظري ومَواطن العبرة الباقية، وما يحمله من العلم النافع الذي لا ينقطع.
وأما الوجه الثاني فسيظل تقييمه أكثر إرباكا لمحبي الترابي، وأكثر قتامة في عيون مخالفيه، نظرا لما فيه من التباس أخلاقي ومكايدات سياسية. وكان طبيعيا أن يشوش هذا الوجه السياسي للترابي على وجهه الفكري. ونحن هنا نحاول أن نعطي الوجهين حقهما، بقدر ما تسمح به مساحة مقال، بدءا بالفكري وختاما بالسياسي.
انطلق الترابي من فلسفة في الدين تتمحور حول مفهوم خاص للتوحيد. فالتوحيد عند الترابي ليس مفهوما كلاميا تجريديا وإنما هو فكرة حية يغذيها جهد عملي، وسيرٌ متصل إلى الله تعالى لا يعرف التوقف، وإخضاع للحياة كلها -بمختلف صورها وألوانها- لأمر واحد، هو أمر الخالق سبحانه.
فالتوحيد هنا هو المرادف لمبدأ "شمول الإسلام" الذي نادت به الحركات الإسلامية المعاصرة، وهو إحياء لمفهوم "الإيمان" العملي الذي ألح عليه الصالحون من سلف هذه الأمة، فعبَّر عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في رسالته إلى عدي بن عدي بقوله: "إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبيِّنها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص" (صحيح البخاري).
وحين كتب الترابي عن الإيمان لم ينح منحى جدليا كلاميا -كما يفعل السلفيون المعاصرون- بل نحى منحى عمليا. ففي كتابه عن "الإيمان: أثره في حياة الإنسان" كان همه منصبا على وظيفة الإيمان، لا على قالبه الفلسفي. وحين كتب عن الصلاة كان تركيزه على المعاني العملية والتنظيمية للصلاة، مثل: الوحدة التي يجسدها اجتماع الناس في المسجد، والمساواة التي يعبر عنها اصطفاف المصلين على صعيد واحد، والنظام الموجود في مبدأ اتباع الإمام وفي تسوية الصفوف، والشورى التي توجد في عملية اختيار الإمام، وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن "يؤم الرجل قوما وهم له كارهون."
وقدم الترابي مقولات منهجية أساسية تدل على حس عملي، وعلى وعي عميق بالزمان والمكان. فتحدث عن التمييز بين "الدين والتدين"، وبين "المثال والواقع"، وكتب عن "سنة المدافعة"، و"تجدد الابتلاءات"، و"ركوب متن حركة التاريخ"، و"استثارة فطرة الخير"، و"تناسخ المبادئ"، و"الانتقال من المبادئ إلى البرامج".. وغير ذلك من مقولات ومفاهيم لا تخطئ عين الناظر الواعي أهميتها وحيويتها، وحاجة الفكر الإسلامي والعمل الإسلامي إلى استيعابها.
كما حذر الترابي المسلمين من أن "الدين لا يتسوَّف لأنه هو الحياة لله عبر كل الظروف". فكل توقف تخلفٌ، لأن حركة الزمان لا ترحم الواقفين الجامدين، ولا تنتظر المترددين الخائفين، الذين يعيشون عصرا بوسائل عصور خلت، ولا يميزون بين العنصر الأزلي والعنصر التاريخي في الدين