الخلق من تراب

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 11:28 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-10-2017, 03:18 PM

عبد الوهاب السناري
<aعبد الوهاب السناري
تاريخ التسجيل: 11-16-2014
مجموع المشاركات: 229

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الخلق من تراب

    02:18 PM January, 10 2017

    سودانيز اون لاين
    عبد الوهاب السناري-نيروبي
    مكتبتى
    رابط مختصر

    ماهية التراب الذي خُلِق منه الناس

    هنالك شبه إجماع بين المفسرين أن في التراب الذي خُلِق منه الإنسان، كما ورد في القرآن الكريم، إشارة إلى آدم، عليه السلام. لكن الرازي كان من أوائل المفسرين، إن لم يكن أول من طرح، إحتمال أن يكون في التراب الذي خُلِق منه الإنسان، إشارة إلى ماء الرجل ودم الطمث (إستناداً على ما كان سائداً أن الإنسان يخلق نتيجة إختلاط ماء الرجل ودم الطمث)، وليس إلى أبينا آدم. ولعل الرازي إستند في تأويله هذا على ما ورد في القرآن الكريم من أن عيسى، عليه السلام، وأن صاحب الجنة، بل أن الإنسان، خُلِق من تراب، مثلما خُلِق آدم من تراب. فهل التراب الذي خُلِق منه آدم ليس التراب المعروف والمشتق من التربة؟ وهل هو نفس التراب الذي خُلِق منه بقية الناس؟ وهل التراب ضربٌ من ضروب المجاز، القصد منه الإشارة إلى نطفة الرجل وبويضة المرأة كما أشار الرازي، أم لأبوي كل إنسان، لا لأن آدم خُلِق منه، بل لأن عناصر أجسام جميع الآباء أُشْتقت منه بالتغذية؟

    قبل الخوض في هذه التفاصيل كان لزاماً علينا أن نقف قليلاً لتعريف التراب. فهو مشتقٌ من التربة، والمُكَوِن الرئيس للطبقة السطحية الهشة التي تغطي صخور القشرة الأرضية، والتي نتجت عن تفتت الصخور وإنحلال بقايا المواد العضوية، نباتية كانت أو حيوانية أو غيرها. والتربة هي طبقة الأرض الصالحة، من الوجهة الحيوية والطبيعية والكيميائية، لأن تكون مهداً لحياة النبات، وذلك لتوفر عناصر نموه فيها. ويمكننا القول أن أجساد جميع الحيوانات، بما في ذلك الإنسان، تنبت من التربة عن طريق التغذية، لأن غذاءها مشتقٌ مباشرةً، أو غير مباشرةٍ من النباتات التي تنبت من التراب. كما، ويحق لنا القول أيضاً أن جميع النباتات والحيوانات هي في حقيقة الأمر تراب، لأن جميع عناصر أجسامها مشتقة منه، ولأن هذه العناصر تعود إلى التراب بعد موتها، حيث تتحلل إلى مواد أقل تعقيداً بفعل كائنات متخصصة تسمى المُحَلِلات. يحدث ذلك التحلل بمساعدة العوامل الطبيعية، مثل الحرارة والماء. وعندما تعود هذه المواد المتحللة إلى التربة، يقوم النبات بإمتصاصها، ومن ثم يتغذى عليها ويصنع منها مواداً، تتغذى عليها سلسلةٌ من الحيوانات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لتكتمل بذلك الدورة الغذائية.

    إجتمع رأي رواد التفسير أن آدم، عليه السلام، خُلق مباشرةً من التراب، وأن في التراب الذي خُلِق منه الناس، إشارة إلى آدم، لأنه أبو البشر والإنسان الوحيد الذي خُلِق من تراب. لكن الآية الوحيدة التي أكدت صراحةً على خلق آدم من تراب، ورد فيها أن عيسى، عليه السلام، خُلِق أيضاً من تراب:
    إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون (59): سورة آل عمران (3).

    ولكن، إذا ورد في القرآن الكريم أن كلاً من آدم وعيسى قد خُلِق من تراب، وإن شُبِه التراب الذي خُلِق منه عيسى بالتراب الذي خُلِق منه آدم، وإن لم يميز القرآن الكريم بين التراب الذي خُلق منه عيسى والتراب الذي خُلِق منه آدم، ألا يدل ذلك أنهما خُلقا من نفس التراب؟ وعلى الرغم من تأكيد النص السابق على خلق كلٍ من آدم وعيسى من تراب، إلا أن المفسرين قالوا أن هذا النص يقارن بين معجزتي خلق آدم من التربة، أي من دون أب أو أم، وبين خلق عيسى من دون أب. قد يكون هذا الرأي مقبولاً، لولا أن المولى، جل شأنه، أوضح لنا بصريح العبارة، أن صاحب الجنة الذي إغتر بجنته خُلِق أيضاً من تراب، مثلما خُلِق كل من آدم وعيسى من تراب:
    قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37): سورة الكهف (18).

    ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أن القرآن الكريم أكد في أربعة نصوص أخرى، أن جميع الناس خُلِقوا من تراب:
    يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5): سورة الحج (22).
    وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20): سورة الروم (30).
    وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11): سورة فاطر (35).
    هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67): سورة غافر (40).

    ولا يمكن، لمن أخذ بالمعنى الظاهر لهذه النصوص، إلا أن يخلص إلى أن جميع الناس، بمن فيهم آدم وعيسى، خُلِقوا من تراب. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ليس عن خَلْق جميع الناس من تراب، بل عن ماهية التراب الذي خُلِق منه آدم، مقارنةً بالتراب الذي خُلِق منه بقية الناس. ولما لم يميز القرآن الكريم صراحةً بين هذين الترابين، فقد قال المفسرون، إستناداً على قصة هيكل آدم الطيني، أن التراب الذي خُلق منه آدم مشتق من التربة، بينما في التراب الذي خُلِق منه بقية الناس، إشارة إلى آدم، عليه السلام. وذلك على الرغم من عدم وجود أي نصٍ يدعم هذا الرأي صراحةً.

    وقد طرح الرازي رأياً ثانياً، مفاده أن المني ودم الطمث، والذين يؤدي إلتحامهما إلى خَلْق الإنسان كما كان سائداً في ذلك الحين، هما في حقيقة الأمر تراب. إستند هذا الرأي على الفكرة السائدة في ذلك الوقت، من أن الحمل يحدث نتيجة إختلاط مني الرجل بدم الطمث، وليس نتيجة إلتحام الحيوان المنوي بالبويضة، والذي تنتج عنه البويضة المخصبة أو الزايجوت، كما هو معلومٌ حالياً. كما أن الرازي عَرَّف النطفة، والتي تلي طور التراب، تعريفاً خاطئاً، حين ذكر أنها ماء الفحل. وعليه يمكننا وصف تسلسل خَلْق الإنسان من تراب، إستناداً على تفسير الرازي، كما يلي: إلتقاء نطفة الرجل وبويضة المرأة (تراب)، ويتبع ذلك طور النطفة، والذي عَرَّفه الرازي خطأً بنطفة الرجل. تتحول النطفة بعد ذلك إلى علقة، والتي وصفها الرازي خطأً بأنها قطعة الدم المتجمدة. وقد لا يجد القارئ أي مشقةٍ ليستنتج أن هذا الوصف لا ينطبق على أطوار خلق الجنين في الرحم كما بينها العلم الحديث اليوم.

    أظهر علم الأجنة مؤخراً صدق النصوص القرآنية التي تصف تطور الجنين في الرحم، بدأً بالنطفة، وهي الزايجوب الذي ينتج عن إلتحام الحيوان المنوي وبويضة الأم؛ ثم العلقة، والتي تمثل طور تعلق البويضة المُخصبة بجدار الرحم؛ وإنتهاءً بالمخاض وولادة الطفل. يمكننا إذاً القول أن الوصف الذي أطلقه الرازي على التراب، كان في حقيقة الأمر وصف للنطفة كما نفهما اليوم؛ وأن تعريفه للنطفة على أنها ماء الفحل، خالٍ من الصحة. وأصبح أيضاً بإمكاننا تصحيح وصفه للتراب، والذي قال أنه يشير إلى المني ودم الطمث (البويضة)، على أنه في الحقيقة، وصفٌ للحيوان المنوي والبويضة، أو للمصدر الذي أنتجهما، ولا نعني بذلك سوى الأبوين. ويُعتبر وصف الأبوين بالتراب من ضروب المجاز المرسل المبني على المسببية، حيث تمت تسمية الأبوين بإسم ما تسبب عنهما (التراب).

    أصبح بإمكاننا الآن تصحيح فكرة الرازي عن الخَلْق من تراب بأنه يبدأ بالتناسل الجنسي، والذي يؤدي إلى إلتحام الحيوان المنوي بالبويضة الناتجين عن الأبوين (التراب)، وأن جميع أطواره تحدث في الأرحام، بدأً بالنطفة، وإنتهاءً بمولد الجنين. ولا تنقطع علاقة الإنسان بالتراب بعد خروج الجنين من بطن إمه، لأن غذاءه يتسلسل إلى تراب طيلة أطوار حياته، والتي يمر فيها من طور الطفولة إلى طور الشباب ثم الكهولة ثم الموت. ولعل المولى، جل شأنه، أراد من تضمين أطوار نمو الإنسان بعد ولادته في جميع آيات خلق الإنسان من تراب، لَفْت إنتباهنا إلى الصلة الوثيقة بين الخلق من تراب وبين تغذية الإنسان من تراب، والتي سنري لاحقاً أن القرآن الكريم أطلق عليها إسم النبات. فما السر وراء وصف القرآن الكريم للأبوين بالتراب؟

    بإمكانك تحميل هذا البحث ومقالات أخرى من المواقع التالية:
    https://sites.google.com/site/abdelwahabsinnary/
    https://www.facebook.com/groups/mankindinquran/https://www.facebook.com/groups/mankindinquran/
    https://www.facebook.com/sinnaryabdelwahabhttps://www.facebook.com/sinnaryabdelwahab
                  

01-10-2017, 03:22 PM

عبد الوهاب السناري
<aعبد الوهاب السناري
تاريخ التسجيل: 11-16-2014
مجموع المشاركات: 229

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الخلق من تراب (Re: عبد الوهاب السناري)

    علاقة التراب بأطوار خلق وموت وبعث الإنسان

    إفتتحت الآية 5 من سورة الحج بِحَث من لا يؤمن بالبعث بالتدبر في الخَلْق من تراب:
    يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (7): سورة الحج (22).

    وعلى الرغم من عدم وجود علاقة واضحة بين الخَلْق من تراب وبين إنبات النبات من الأرض، فقد تطرقت الآية 5 من سورة الحج، وهي إحدى الآيات الأكثر تفصيلاً في أطوار الخَلْق من تراب، إلى إحياء الأرض بعد موتها بسبب هطول الأمطار، وإنباتها لكل زوج بهيج من النبات: "وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ". وتطرقت نفس الآية أيضاً إلى الموت: "وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى"، بينما تطرقت الآيتان التاليتان لها إلى إحياء الموتى: "وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى" وبعث مَنْ في القبور: "وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ". كما أن الآية السابقة للآية 20 من سورة الروم التي تناولت الخَلْق من تراب: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ"، تطرقت إلى إحياء الأرض بعد موتها، والذي يحدث نتيجةً لهطول الأمطار، وشبهته بخروج الناس من القبور يوم البعث: "وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ". كما أن الآية 21 من سورة الروم، والتي وردت بعد تلك التي تناولت الخَلْق من تراب، تطرقت إلى خَلْق الأزواج من أنفسهم: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا".
    يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21): سورة الروم (30).

    أما الآية 11 من سورة فاطر فقد جمعت بين الخَلْق من تراب: "وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ"، وبين جعل الناس أزواجاً: "ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا":
    وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11): سورة فاطر (35).

    وقد جمعت الآيات 67 و 68 من سورة غافر بين الخَلْق من تراب وبين أطوار حياة الإنسان منذ مولده وحتى مماته. كما جمعت الآية 67 من سورة غافر بين الخَلْق من تراب: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ"، وبين الوفاة: "وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ"؛ بينما تطرقت الآية التي تليها إلى الحياة والموت: "هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ".:
    هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68): سورة غافر (40).

    وقد إحتوت جميع نصوص خَلْق الإنسان من تراب على طور أو أكثر من الأطوار التي يمر بها الإنسان بعد مولده وأثناء حياته: "ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ"، "ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ"، "ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا"، "وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ"، "ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ". فما العلاقة إذاً، بين البعث وبين الخَلْق من تراب؟ وكيف يمكننا أن نهتدي إلى الإيمان بالبعث من خلال التأمل في الخَلْق من تراب؟ وما السر وراء العلاقة الوثيقة بين نصوص الخَلْق من تراب، وبين خَلْق الأزواج من أنفسهم، وبين جعل الناس أزواجاً، وبين الأطوار التي يمر بها الإنسان بعد ولادته، وبين الحياة والموت، وبين إنبات النبات وإحياء الأرض بعد موتها بسبب هطول الأمطار؟

    سوف نبدأ بحثنا هذا بالإنبات من الأرض في سعينا لتوضيح أوجه الصلة بين نصوص الخَلْق من تراب وبين هذه الظواهر التي إرتبطت به. ورد في القرآن الكريم أن المولى، عز وجل، أنبت الإنسان من الأرض، وأنه أنبت مريم العذراء نباتاً حسنا:
    فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37): سورة آل عمران (3).

    هنالك بعض الملاحظات التي لابد من الوقوف عليها أولاً قبل التعمق في شرح هذه الآية. المعهود في اللغة أن يقال: "أنبتها إنباتاً"، وليس: "أَنبَتَهَا نَبَاتًا"، كما ورد في النص السابق، لأن: "إنبات" هي مصدر: "أنبت"، فَحَلَّ الإسم: "نبات" محل المصدر: "إنبات". الأمر الثاني، المعنى الحرفي لقوله تعالى: "أَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا" أنه أنبتها من الأرض مثل النبات. ولكننا نعلم أن الإنسان لا ينبت من الأرض مباشرةً مثلما ينبت منها النبات، لأن النبات يثبت جزوره في الأرض ويستمد غذاءه منها بواسطة هذه الجزور. الأمر الثالث، على الرغم من عدم ذكر النص صراحةً أن نبات مريم كان من الأرض، إلا أن النبات إقترن في القرآن الكريم بالأرض. ويدعم هذا الرأي أيضاً ما قاله نوح لقومه أن الله تعالى أنبتهم من الأرض نباتا، وأنه سيخرجهم منها إخراجاً:
    وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18): سورة نوح (71).

    لم يجد رواد التفسير تفسيراً منطقياً لوصف القرآن الكريم لإنبات مريم العذراء أو لإنبات الناس من الأرض بالنبات وليس بالإنبات، أو لتشبيه نبات الناس بنبات النباتات من الأرض؛ إلا أنهم برروه من حيث اللغة، ووصفوه بأنه تعبير لطيف. قد لا يختلف إثنان حول إنبات النباتات من الأرض، ولكن قد يتعجب البعض من إنبات الإنسان من الأرض. فالنبات، كما نعلم، يثبت جذوره في الأرض، ويستمد بها غذاءه منها. أما الإنسان، فعلى الرغم من أنه لا يتثبت بالأرض، إلا أنه يستمد أيضاً غذاءه منها بصورة غير مباشرة، بالتغذية على النبات أو على الحيوانات التي تتغذى على هذا النبات. وبذا يحق لنا القول أن الإنسان ينبت من الأرض مثل النبات لكونه يستمد منها غذاءه بصورة غير مباشرة من خلال تغذيته على الحيوان أو النبات الذي يتغذى عليه الحيوان. فعلى الرغم من أن النبات يتغذي بواسطة جزوره، ويتغذي الإنسان بواسطة فمه، إلا أن القاسم المشترك بينهما أن الغذاء المستمد من الأرض يمد جسم كليهما بالمواد التي يحتاجها لكي ينمو ويرمم خلايا جسده الميتة وليتكاثر. ولعل هذا كان السبب وراء وصف القرآن الكريم لنمو جسد مريم في الآية 37 من سورة آل عمران ولوصف نمو جسد الإنسان في الآية 17 من سورة نوح من الأرض بالنبات.

    وقد بين لنا القرآن الكريم في الآية 37 من سورة آل عمران أن نبات مريم العذراء نتج عن الرزق الذي كان يجده عندها زكريا كلما دخل عليها المحراب. فقد تسبب ذلك الرزق، والذي نبت من التراب، في نباتها نباتاً حسناً، لأنها كانت تتغذى عليه. ونقول لمن يظن أن في ورود: "نبات" في الآيتين السالفتين، خرقٌ لقواعد اللغة، أنها وردت بلغة القرآن الكريم، وكان الغرض من ورودها تلقيننا دروساً في علم الأحياء عن أوجه الشبه بين تغذية الحيوان والنبات. وإذا وقفنا على النواحي البلاغية المتضمنة في وصف نمو جسد مريم العذراء أو الإنسان من التراب بالنبات، لتبين لنا أنه تم هنا تشبيه نمو جسد مريم العذراء أو جسد الإنسان من الأرض بإنبات النباتات من الأرض، فحُذِف المشبه به: "النباتات"، ورُمِز إليه بصفةٍ من صفاته: "نبات"، والذي حل محل المصدر: "إنبات"، على سبيل الإستعارة المكنية.

    هذا، وقد أكد القرآن الكريم أيضاً في موضع آخر على خلق الأزواج مما تنبت الأرض في النص التالي الذي يفيض بالعديد من التعابير البلاغية:
    سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36): سورة يس.

    المعلوم أن الأزواج لا تُخْلَق بل تُجْعَل، وأن الأرض تنبت النبات وليس الأزواج الإنسانية، وأن كل زوجين لا يُخْلَقا من جميع أنفس المجموعة التي يعيشان بينها، بل من زوجين بعينيهما من بين هذه الأنفس. لابد إذاً أن تكون التعابير التي وردت في هذه الآية ضرباً من ضروب البلاغة. ولفهم معنى الآية فهماً دقيقاً، لابد من فك رموز هذه التعابير البلاغية أولاً، ولنبدأ ذلك بتحديد هوية الأزواج التي وردتْ فيها. قد لا يخفى على القارئ الكريم أن ورود: "كُلَّهَا" في هذا النص قد يطرح إحتمال أن: "الْأَزْوَاجَ" تشير إلى أزواج جميع الأنواع، وليس فقط إلى أزواج الناس. بيد أن ورود: "وَمِنْ أَنفُسِهِمْ" يؤكد لنا أن الأزواج التي تناولتها الآية تشير فقط إلى الأزواج الإنسانية، لأن القرآن الكريم لم يصف غير الذات الإلهية والإنسان بالنفس في العدد الكبير من المرات (298 مرة) التي تكرر فيها ورود: "نفس" ومشتقاتها فيه. ولعل المقابلة في الآية 11 من سورة الشورى، بين جَعْل الأزواج من أنفس الناس: "جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا"، وبين جَعْل أزواج الأنعام: "وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا"، وردت للتأكيد على أن وصف القرآن الكريم لخَلْق الأزواج من أنفسهم، يقتصر فقط على الناس:
    فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11): سورة الشورى (42).

    قد لا يخفى على القارئ، أنه يجوز من الناحية اللغوية أن يقال: "وجَعَل من أنفس الأنعام أزواجاً"، بيد أن جَعْل الأزواج من الأنفس، إقتصر في هذه الآية، فقط على الناس، دون الأنعام. وهذا ما يؤكد أن الأزواج المشار إليها في الآية 36 من سورة يس هي أزواج إنسانية. كما أن خَلْق الأزواج ضرب من ضروب البلاغة يشير إلى جَعْل أو تصيير هذه الأزواج. فكما نعلم أن الناس يُخْلَقُون فرادى، وليس أزواجاً:
    وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94): سورة الأنعام (6).

    فإذا أخذنا بما ورد في الآية السالفة وبما نراه في حياتنا اليومية، من أن الناس يُخْلَقُون فرادى، لتبين لنا أن خَلْق الأزواج: "سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ" في الآية 36 من سورة يس تعبيرٌ بلاغي يشير إلى جَعْل الأفراد أوخَلْقِهم من أزواج إنسانية أخرى. فعلاقة خَلْق كل فرد بالأزواج تتمثل في أن كل فرد يولد نتيجة تناسل زوجين. وعندما يكبر ذلك الفرد، فإنه يتزوج بزوج آخر، لينتج من ذلك التزاوج أطفال يصبحون أزوجاً مستقبلاً وينتجون أفراداً أُخر، ودواليك. وقد تم في الآية 36 من سورة يس حذف: "جَعْل الأزواج"، وأُستدل عليه بصفة من صفاته: "خَلْق الأزواج"، على سبيل الإستعارة المكنية.

    أما التعبير البلاغي التالي الذي سنقف عنده في الآية 36 من سورة يس، والذي ورد أيضاً في الآية 21 من سورة الروم: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا"، فيتمثل في خَلْق الأزواج من أنفسهم: "وَمِنْ أَنفُسِهِمْ". المعنى الحرفي لخَلْق الأزواج من أنفسهم يدل على خَلْق كل زوجين من جميع الأنفس التي ينتمي إليها هذان الزوجان. لكن المعروف أن الزوجين لا يُخلقان من جميع الأنفس التي ينتميان إليها، بل يُخلق كل زوج من هذين الزوجين من زوجين مختلفتين ينتميان إلى المجوعة التي يعيشون وسطها (أرجو مراجعة القسم الأول من الباب الثالث: ما هي النفس الواحدة وزوجها؟). وتم هنا التعبير بالكل (خَلْق الأزواج من جميع الأنفس بين الجماعة التي ينتمون إليها)، ولكن قُصِد منه الجزء (خَلْق كلٍ من الزوجين من زوجين مختلفتين ينتميان إلى مجموعة الأزواج التي يعيشون وسطها)، على سبيل المجاز المرسل المبني على الكلية. فما وجه الصلة إذاً بين الخَلِق من تراب وبين خَلْق الأزواج من أنفسهم؟

    يمكن لمن تأمل في الآيتين 20 و21 من سورة الروم أن يلاحظ التشابه الكبير في سياقهما، إذ بدأت كل منهما بقوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِْ"، وهي جملة تكررت في القرآن الكريم لتنبيه القارئ وحثه على التأمل في الإعجاز القرآني الذي يرد قبلها أو بعدها. كما أن المقابلة بين قوله تعالى: "خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ" في الآية 20، وبين قوله تعالى: "خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا" في الآية 21 وردت، ليس فقط لحثنا على التدبر في خَلْقِنا من تراب وفي خَلْق الأزواج من أنفسهم، بل أيضاً للربط في عقولنا بين الخَلْق من تراب وبين خَلْق الأزواج من أنفسهم، خاصة إذا علمنا أن كلاً من هذين التعبيرين ورد من باب المجاز. فلا الناس تُخلق من التراب مباشرةً، ولا الأزواج تُخلق من جميع الأنفس التي تنتمي إليها. كما أن الأزواج، والتي نبتت من تراب، هي المصدر الذي يبدأ منه خَلْق الإنسان من تراب أو في الأرحام. وبالتالي يمكننا وصف الأزواج بالتراب من باب المجاز أيضاً.

    التعبير البلاغي الأخير الذي سنقف عليه في الآية 36 من سورة يس يتمثل في خَلْق الأزواج الإنسانية مما تُنْبِت الأرض. فإذا علمنا أن الأرض لا تُنْبِت إلا النبات، فإن المعنى الحرفي لقوله تعالى: "خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ" أن المولى، جل شأنه، خَلَق جميع الأزواج الإنسانية من النبات الذي ينبت من الأرض. ولا يصح هذا القول إلا إذا كان ضرباً من ضروب المجاز. فالمعلوم أن الأزواج الإنسانية لا تُخْلَق من النبات الذي ينبت من الأرض، بل أنها، كما رأينا من قبل، تنبت نباتاً من التراب نتيجة الغذاء الذي أصله من تراب. ويتمثل المجاز في قوله تعالى: "خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ" في خلق هذه الأزواج من تراب وتغذيتها من التراب الذي يتمثل في النبات أو الحيوان الذي ينبت من التراب. وقد حُذِف النبات في قوله تعالى: "مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ"، وأُستدل عليه بشيء من صفاته: "تُنبِتُ الْأَرْضُ"، على سبيل الإستعارة المكنية. ثم تم بعد ذلك التعبير بالمُسَبب عليه (النبات، والذي تمت الدلالة عليه بجملة: "مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ") بدلاً عن المُتَسبِب (التراب)، على سبيل المجاز المرسل المبني على المسببية. ويمكن للقارئ ملاحظة وجه الشبه بين وصف الآية لخَلْق الأزواج مما تنبت الأرض وبين نبات الناس من الأرض، كما ورد في الأية 37 من سورة آل عمران: "وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا"، وفي الآية 17 من سورة نوح: "وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا". ففي كلا الحالتين يتسبب الغذاء، والذي يتسلسل إلى النبات ثم إلى التراب، في نمو الناس أو نباتهم من الأرض وفي خَلْق الأزواج من النبات الذي تنبته الأرض. فما النبات، في نهاية الأمر، إلا تراب. وما الإنسان الذي خُلِق من تراب وإستمد غذاءه من هذا النبات، إلا تراب، وسيؤل حتماً إلى تراب. وبذا يمكننا تفسير الآية 36 من سورة يس على النحو التالي: "سبحان الذي خلق وأنبت جميع الناس، والذين قد يصبحون يوماً ما أزواجاً، من تراب الأرض، ومن التزاوج بينهم ومما لا يعلمون".

    قبل أن نختم بحثنا عن الظواهر المرتبطة بالخَلْق من تراب، لابد لنا من وقفة قصيرة للبحث في العلاقة بين الخلق من تراب من جهة، وبين الأطوار التي يمر فيها الإنسان في حياته، وبين الموت والبعث من جهة أخرى. ورد في القرآن الكريم أن الإنسان يُبْعث من تراب يوم القيامة:
    وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5): سورة الرعد (13).
    أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (35): سورة المؤمنون (23).
    قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ 82)): سورة المؤمنون (23).
    وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ 67)): سورة النمل (27).
    أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ 16)): سورة الصافات (37).
    أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ 53)): سورة الصافات (37).
    أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3): سورة ق (50).
    وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47): سورة الواقعة (56).

    وقد يذكر القارئ الكريم ما أثرناه من قبل من تطرق الآية 5 من سورة الحج إلى إنبات الأرض لكل زوج بهيج بفعل نزول الأمطار عليها: "وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ". وقد كان الهدف من ذلك هو حثنا لفهم العلاقة بين الخلق من تراب وخروج النبات من الأرض. ولكي تتضح لنا هذه العلاقة فقد شبه القرآن الكريم إنبات النبات من الأرض ببعث الموتى من القبور:
    وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57): سورة الأعراف (7).
    وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9): سورة فاطر (35).
    وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11): سورة الزخرف (43).
    وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11): سورة ق (50).

    فقد لا يخفى لكل من تأمل في الآيات السالفة أنها تشير إلى أن الأنسان، الذي خُلِق من تراب ونَبَت جسمه من تراب في جميع أطوار حياته، سوف يؤول إلى تراب بعد موته، وأنه سيبعث من تراب. ولعل في هذا الربط، بين الخَلْق من تراب وبين الحياة والموت، إشارةٌ إلى العوامل التي يتم من خلالها تحول التراب من صورة إلى أخرى. فالتراب الذي خلق منه الإنسان ورد في القرآن الكريم من باب المجاز ليرمز إلى الإنسان في أي طور من أطوار حياته وحتى في مماته وبعثه، وأيضاً إلى النبات والحيوان لكونها جميعاً تنبت من الترية. فإنبات الناس من الأرض بالتغذية يتسبب في إستمرارية هذه الحياة، ويؤدي إلى نمو جسد الأبوين، والذين عندما يصحبان زوجين، ينتج عن تزاوجها خَلْق جديد من تراب. فما الزوجان أو الأبوان إلا تراب في نهاية الأمر. وعندما يموت الإنسان، فإنه يؤول إلى تراب؛ وعندما يُبعث الإنسان، فإنه يُبعث من تراب. بإختصار، فإن دورة خَلْق وحياة وتغذية وتكاثر كل إنسان على مدار حياته، بل ومماته وبعثه، تدور حول التراب.

    المثير في الأمر، أن آيات الخَلْق من تراب إرتبطت فقط رباطاً عضوياً بكل هذه الأمور المتعلقة بالتراب، لأنها وردت في سياق هذه الآيات، دون أن يتم التصريح بالعلاقة التي تربط بينها وبين الخَلْق من بالتراب في أي من هذه النصوص. وقد لا يفطن المرء، في بادئ الأمر، أن ورود مثل هذه الظواهر المرتبطة بالخَلْق من تراب، كان الغرض منه لفت نظر القارئ وحثه على التأمل فيها وإكتشاف علاقتها بالخَلْق من تراب.
                  

01-10-2017, 03:24 PM

عبد الوهاب السناري
<aعبد الوهاب السناري
تاريخ التسجيل: 11-16-2014
مجموع المشاركات: 229

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الخلق من تراب (Re: عبد الوهاب السناري)

    خلق عيسى وآدم، عليهما السلام

    يتمثل أقوى الدلائل في أن التراب الذي خُلِق منه آدم هو نفس التراب الذي خُلِق منه بقية الناس في قوله تعالى:
    إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون (59): سورة آل عمران (3).

    تُمثل هذه الآية النص الوحيد الذي تطرق إلى خَلْق آدم من تراب، بيد أنها لم تخض في تفاصيل ذلك الخلق. ولكن خلص المفسرون أن الآية ترسم لنا صورةً عن معجزة خَلْق آدم من تراب، أي من دون أُمٍ وأب، وتقارنها بمعجزة خَلْق عيسى من دون أب. ولكن لم يشر هذا النص من قريب أو بعيد لأيٍ من هاتين المعجزتين، بل ورد فيه أن خلق عيسى من تراب شبيه بخلق آدم من تراب. وبينما لم يُفصل لنا القرآن الكريم عن خَلْق آدم من تراب، فقد رسم لنا صورةً واضحة المعالم عن خَلْق عيسى بن مريم من تراب. فلما بشرتْ الملائكة مريم العذراء بغلام إسمه المسيح عيسى، تعجبت ووجلت لأنها لم تمارس البغاء ولم يمسسها بشر من قبل:
    وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21): سورة مريم (19).
    إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47): سورة آل عمران (3).

    وذكر لنا القرآن الكريم أن خَلْق عيسى المسيح بدأ بنفخ الله تعالى من روحه في فرج أمه مريم العذراء:
    وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91): سورة الأنبياء (21).
    وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12): سورة التحريم (66).

    ثم بعد ذلك النَفْخ حملت مريم العذراء:
    فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23): (33): سورة مريم (19).

    وتشير جميع الدلائل القرآنية أنه كان حملاً عاديا، وأنه بدأَ بالنطفة التي تكونت من تخصيب بويضة مريم العذراء بنفخ المولى، جل شأنه، لروحه في فرجها، مروراً بالعلقة، وإنتهى بمولد عيسى، عليه السلام. ولعل أكبر دليل على ذلك أن مريم مرت بالمخاض الذي تمر به كل أنثى تضع وضوعاً طبيعياً. كما أنها ولدت ولادةً طبيعية، أقر بها عيسى المسيح بنفسه:
    وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15): سورة مريم (19).
    وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33): سورة مريم (19).

    فإذا إستهدينا بوصف القرآن الكريم لخَلْق عيسى، عليه السلام، لتبين لنا أنه خُلِق في الأرحام، وأن أطوار الخلق من تراب، بَدْأُ من النطفة ثم العلقة، وإنتهاءً بالمخاض ثم الولادة، تنطبق تماماً على خَلْقِه. ولتبين لنا أن الفرق الوحيد بين خَلْق عيسى وبين خَلْق بقية الناس، إذا إستثنينا خَلْق آدم في هذه المرحلة، أن عيسى خُلِق من أُمٍ فقط، بينما خُلِق بقية الناس من أَبٍ وأُم.

    يطلق علماء البلاغة على التشبيه الذي تضمنته الآية 59 من سورة آل عمران إسم التشبيه التمثيلي، وهو الذي يتم فيه تشبيه صورة بصورة أخرى، ويكون وجه الشبه فيه صورةً منتزعةً من أشياء عدة. وهو أبلغ أنواع التشبيه وأكثرها شحذاً للذهن وإثارةً للخيال. وإذا بحثنا في القرآن الكريم عن الآيات التي ضرب الله، عز وجل، فيها الأمثال، على النحو الذي ورد في الآية 59 من سورة آل عمران، وذلك حين يسبق قوله تعالى: "مَثَلَ" المشبه، ويسبق قوله تعالى: "كَمَثَلِ" المشبه به، لتبينت لنا ثلاث حقائق مهمة عن هذه الآيات. أولها، أن نوع التشبيه فيها جميعاً هو تشبيه تمثيلي، وثانيها، أن الصورة التي تضمنها ذلك التشبيه رُسِمت بمنتهى الجمال لتقريب وتوضيح المعنى إلى أذهاننا. أما ثالث هذه الحقائق فيكمن في وجود جُمَلة مضافة إلى التشبيه في آخر كل من هذه الآيات. فعلى الرغم من أن هذه الجملة المضافة لا تعد ركناً من أركان التشبيه (المشبه والمشبه به ووجه الشبه)، إلا أنها تساعد في تقريب الشبه بين صورتي التشبيه التمثيلي. كما أن حذفها قد لا يخل كثيراً بالصورة التي رسمها وجه الشبه. وفي إعتقادى، أن الغرض الرئيس منها التُأطِير لقاعدةٍ عامة في هذه الآيات بالذات، يمكن أن نستعين بها على التأكد من القصد الذي من أجله ضرب الله تعالى ذلك المثل، خاصة في الآية 59 من سورة آل عمران.

    فإذا وقفنا عند التشبيه التمثيلي في الآيات التالية، والتي شبه المولى، عز وجل، فيها هيئة الذين إشتروا الضلالة بالهدى، بهيئة الذي إستوقد ناراً فأعماه الله، لتبين لنا مدى جمال الصورة البلاغية التي تضمنها المشبه به: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ"، إذ يمكن لأي فنان بارع أو أي مصور فوتغرافي أو أي سينمائي، أن يرسم منها لوحةً أو أن يخرج منها فِلماً غايةً في الإبداع. ولتبين لنا أيضاً أن فهمنا للمثل كان من الممكن أن يكتمل بدون ورود الجملة المضافة إلى التشبيه والتي وردت في آخر الآية، وهي قوله تعالى: "وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ":
    أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17): سورة البقرة (2).

    ويمكننا أيضاً تخيل مدى جمال الصورة البلاغية التي تضمنها المشبه به في الآية التالية: "كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء". وكما هو الحال في الآيات السابقة، فإن حذف: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" لا يخل بالصورة التي أبرزها لنا التشبيه:
    وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171): سورة البقرة (2).

    وإذا تمعنا في جميع الآيات التالية، لتبين لنا مدى جمال الصورة البلاغية التي تضمنها المشبه به، ولعثرنا على الجمل الإضافية التي كان من الممكن أن يفهم التشبيه بدونها، ولكن على الرغم من ذلك، فقد وردت هذه الجمل في جميع الآيات التالية:
    مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261): سورة البقرة (2).
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265): سورة البقرة (2).
    إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117): سورة آل عمران (3).
    وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176): سورة الأعراف (7).
    مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41): سورة العنكبوت (29).
    مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5): سورة الجمعة (62).

    ولنعد مرةً أخرى للوقوف عند الآية 59 من سورة آل عمران، لمقارنة الصورة البلاغية التي رُسِمت فيها عن المشبه: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى"، بالصورة المرسومة عن المشبه به: "كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ"، ولندرس مدى تأثير الجملة المضافة: "ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون" في توضيح وجه الشبه بين الصورتين. فأول ما يمكن ملاحظته عدم وجود تشابه بين الصورة التي رسمتها روايات الحديث عن خَلْق آدم من تراب من غير أُمٍ وأب، وبين الصورة التي رُسمت في القرآن الكريم عن خَلْق عيسى من تراب من غير أب. فخَلْق وتصوير عيسى تم في الأرحام، بينما كان تصوير آدم، كما وصفه رواد التفسير، في خارج الرحم.

    ومما يزيد الأمر حرجاً، أن الجملة المضافة في آخر الآية: ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون"، والتي يفترض منها تقريب الصورتين المشبهتين إلى أذهاننا، لم تزد المعنى إلا تعقيداً ولم تزد الصورة إلا غموضاً. لم يقتصر هذا التعقيد على النواحى البلاغية فحسب، بل تعداه إلى معنى الآية، والذي أشار إليه الرازي بقوله: "في الآية إشكال، وهو أنه تعالى قال: "خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون"، فهذا يقتضي أن يكون خَلْق آدم متقدماً على قول الله له: "كُن"، وذلك غير جائز". فما العبرة في أن يقول المولى، جل شأنه، لعيسى: "كن" قبل أن يخلقه:
    قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47): سورة آل عمران (3).

    لكنه قال لآدم: "كُن" بعدما خلقه، على الرغم من أن الآية 59 تضرب مثلاً بين خَلْق كل من عيسى وآدم، عليهما السلام، من تراب، على الرغم من أن: "كُن" تستبق دوماً حدوث أي أمرٍ أو شيء أراد المولى، جل شأنه، حدوثه:
    بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117): سورة البقرة (2).
    وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73): سورة الأنعام (6).
    إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40): سورة النحل (16).
    مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35): سورة مريم (19).
    إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82): سورة يس (36).
    هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68): سورة غافر (40).

    فلماذا يكون في: "كُن"، في الآية 59 من سورة آل عمران، خرق لهذه القاعدة، إلا إذا حدث ذلك نتيجة لسوء فهمنا للآية الكريمة؟ فلا يمكن تفسير إستباق: "كُن" لخلق آدم تفسيراً منطقياً إلا إذا أخذنا بالرأي القائل أن التراب يرمز إلى الأبوين، (والذين هم في حقيقة الأمر تراب)، وأن آدم خُلِق من أبوين. وعليه، يمكننا تفسير الآية على أساس أن التراب يرمز إلى الأبوين وأن آدم خُلِق من أبوين، كما يلي: أنه عندما أراد المولى، جل شأنه، أن يخلق آدم، قال له: "كُن"، فحدث نتيجة ذلك إتصال جنسي بين التراب (الأب) والتراب (الأم)، فأدى ذلك إلى حمل والدته، ونتج عن ذلك الحمل خَلْقُ آدم في الأرحام، بدأً من النطفة. وبذا تتقدم: "كُن" على خَلْق آدم، ولا يكون في خَلْق آدم خرق لقاعدة: "كُن فَيَكُون". وهذا ما يؤدي إلى إتساق الصورة التي رسمتها لنا الآية الكريمة عن خَلْق آدم مع تلك التي رسمتها لنا عن خَلْق عيسى لأن كليهما قد خُلِق في الأرحام.

    بناءً على ما سبق يمكننا القول أن التراب يمثل الأبوين في حالة خَلْق آدم، ويمثل مريم العذراء في حالة خَلْق عيسى؛ وأنَّ: "كُن" تمثل إصدار الأمر من العلي القدير بخَلْق كلٍ من آدم وعيسى من تراب؛ بينما تمثل: "فَيَكُون" خَلْق كلٍ من آدم وعيسى في الأرحام. لا يتسق هذا التفسير فقط مع قاعدة: "كُن فَيَكُون"، بل يتسبب في إبراز وجه الشبه في التشبيه التمثيلي الذي تضمنته الآية الكريمة عن خَلْق عيسى وخَلْق آدم في الأرحام، ويُبْرِز أيضاً الدور الذي تلعبه الجمله المضافة: "ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون" في تقارب وجه الشبه بين صورتي خَلْق عيسى (الصورة المشبهة) وخَلْق آدم (الصورة المشبه بها)، أسوةً بمثيلاتها من الآيات التي إشتملت على مثل هذا التشبيه التمثيلي. بل ويجعل هذا التفسير سياق الآية متسقاً مع جميع النصوص التي تصف الخَلْق من تراب، والذي أكدت جميعها أنه بدأ بطور التراب (الأبوين)، ومن ثم إنتقلتْ إلى وصف بعض، أو جميع أطوار الخَلْق في الأرحام.

    فإذا وقفنا على الآيات التي تصف خَلْق الإنسان من تراب، لتبين لنا أن قوله تعالى: "خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ" في الآية 59 من سورة آل عمران يطابق قوله تعالى: "خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ" في الآية 5 من سورة الحج، وقوله تعالى: "خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ" في الآية 20 من سورة الروم، وقوله تعالى: "خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ" في الآية 11 من سورة فاطر وفي الآية 67 من سورة غافر، وقوله تعالى: "خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ" في الآية 37 من سورة الكهف. كما أن الأطوار التي يشير إليها قوله تعالى: "ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" في الآية 5 من سورة الحج، وقوله تعالى: "ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ" في الآية 11 من سورة فاطر، والآية 37 من سورة الكهف، وقوله تعالى: "ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ" في الآية 67 من سورة غافر، فتمثل بعض الأطوار التي يتضمنها قوله تعالى: "فَيَكُونُ" في الآية 59 من سورة آل عمران، لأن: "كُن" تمثل إصدار الأمر بخَلْق الإنسان، بينما تمثل: "فَيَكُونُ" أطوار خَلْق الإنسان في الأرحام.

    وإذا أسلمنا أن آدم هو الإنسان الوحيد الذي خُلِق من تراب أو من طين، وليس من أبوين، فلماذا لم يَسْتَثني المولى، عز وجل، خَلْق آدم، وهو أول إنسان خُلِق، أو خَلْق حواء التي قيل أنها خُلِقت من ضلع آدم، من النصوص التالية، والتي تؤكد أن كل إنسان، بما في ذلك آدم وحواء وعيسى، خُلِق من نطفة:
    خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4): سورة النحل (16).
    أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77): سورة يس (36).
    إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2): سورة الإنسان (76).
    أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38): سورة القيامة (75).
    قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19): سورة عبس (80).
    ولماذا لم يَسْتَثني المولى، عز وجل، خَلْق آدم وحواء من النص التالي، والذي يؤكد أن الإنسان خُلِق من علق:
    خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2): سورة العلق (96).

    إن في عدم ورود مثل هذا الإستثناء، تأكيدٌ على أن المولى، عز وجل، خَلَق آدم وحواء في الأرحام من نطفة ومن علقة، أسوةً بخَلْق جميع الناس. فقد تكررت مفردة: "إنسان" 67 مرة في معرض الحديث عن الجنس الإنساني ككل أو للإشارة إلى جميع الناس كأفراد. بيد أن المفسرين قالوا أنها تشير، مرةً إلى آدم، ومرةً إلى بنيه، ومرةً أخرى إلى الأثنين معاً، في الآيات التي تتناول موضوع خَلْق الإنسان من تراب ومن طين.

    وقد يتساءل القارئ عن السر وراء وصف القرآن الكريم للأبوين بالتراب، بدلاً من التصريح بهم. والإجابة هي أن وصف الأبوين بالتراب يساوي بين خَلْق عيسى وبين خَلْق بقية الناس. فإذا أُستعيض عن التراب بالأبوين لوردت نصوص الخلق من تراب على هذا النحو: "خلقناكم من أبوبين" بدلاً عن: قوله تعالى: "خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ". وإن حدث ذلك كان لابد أن يُسْتَثنى خَلْق عيسى من ذلك: " خلقناكم من أبوبين إلا عيسى فقد خُلِق من أٌم". ولكن، فإن قوله تعالى: "خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ" يتضمن خلق جميع الناس، بما فيهم عيسى، عليه السلام. ولعل هذا يفسر السر وراء مقارنة خَلْق عيسى بخَلْق آدم، عليهما السلام، في الآية 59 من سورة آل عمران. فلعل المولى، جل شأنه، أراد أن يؤكد لنا، من خلال هذه الآية، أنه، على الرغم من أن عيسى خُلِق من دون أب، إلا أن خَلْقُه يتساوى مع خَلْق آدم الذي خُلِق من أبٍ وامٍ. ولولا وصف القرآن الكريم للأبوين بالتراب لما إستقام تفسير قوله تعالى:
    مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28): سورة لقمان (31).

    فلكي يتسق خَلْق عيسى مع النص السابق، كان لابد أن يرد في القرآن الكريم ما يساوي بين خَلْقه وبين خَلْق بقية الناس، على الرغم من أن خَلْق عيسى حدث بدون أب، وإلا لتم إستثناء خَلْق عيسى من الآية السالفة. أما إذا ورد في القرآن الكريم أن عيسى خُلِق من تراب، أسوةً بخَلْق جميع الناس، لجاز لنا القول أن خَلْق الناس جميعاً يتم كخَلْق النفس الواحدة، أي بنفس الشاكلة. وبالمثل لو أن آدم خُلِق من التربة، ولو أن حواء خُلِقت من ضلع آدم، لما ورد في القرآن الكريم أن خَلْق الناس جميعاً تم على نفس الشاكلة التي يتم بها خَلْق أي نفس من هذه الأنفس، ولتم إستثناء خَلْقَهما في الآية السالفة. فلكي يتم التوفيق بين نصوص الخَلْق من تراب وبين الآية 28 من سورة لقمان، لابد أن يكون خَلْق جميع الناس تم كخَلْق نفسٍ واحدة، مثلما يتم بعثهم كبعث نفسٍ واحدة. فجميع الناس، بما في ذلك آدم وعيسى، خُلِقوا من تراب، وسيُبْعَث جميع الناس، بما في ذلك آدم وعيسى، من تراب.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de