تغنى الكحلاوي في يوم رحيله، وامام ضريحة "وداعا روضتي الغناء، وداعا معبدي القدسي"
بقلم: عبدالغني كرم الله
إن رايتم طفل، تهمس قدميه، الحافية، لتراب الدار، وهو يدخل الحوش وجسا، في غبشة الفجر، وفي باله ندى فرح، ونهر خوف، وبعد قليل، شاهدتم الطفل، نفسه، مربوط بحبل، في حظيرة الحمير، لم يكن لصا صغيرا، فالدار داره، بل هو المسروق، فقد سرق منه شئ عزيز "قلبه"، فقد رأيتم ابراهيم الكاشف، حين كان طفلا، حقيقة، لا مجاز، أو مبالغة، ما أصعب طعم وثمن الحب، حين يكون ولهاً، عشقا عبقريا، حب الفن!.
كل ما جناه، أنه كان يحب الاغاني، طفل تحسبه خرج من رحم وتر، كما تخرج الألحان من نقرات فنان، يتقرفص عند قدمي المغني، انى كان في احياء مدينة مدني المتباعدة، يرخى اذنه للغط المدينة، "عرس فلان اليوم، وحنة فلانة الصبحية، ووداع علان، حين كانت البلاد تفرح وتصنع الفرح لكل مناسبة، لم يكن الحزن رفيقها"، فيجري الطفل الولهان وراء اثر العرس، أو الخطبة، أنى كانت، ينسى الوقت والدار والاهل، في حضرة الاغاني، حتى يجمع المغني شلته، ويمضي، فيتذكر الطفل نفسه، واهله، وداره، ينفض التراب عن جلبابه، بعد فناء صادق مع الاغنيات والالحان والكلمات، فيمضي للدار، وقدمية تهمس للتراب خطوات حذرة، وفي البال يدندن الألحان، وقلبه الطبل، واذنيه المستعمين، فحيلم، ويحلم "بأي شئ يحلم هذا الطفل العبقري، الهائم في ظلمات مدني في قلب الليل، لكن أمه الحنون؟ هل تنام الأم؟ كل شفيق بسوء ظن مولع؟ يلتهب حشاها، فتربطه في حظيرة الحمير، (كم كنت احب الحمير، ونما حبي، وفاض)، ومن عجب، تعلم من الحمير، الصبر، والصمت، وكل شئ نبيل فيها، سوى صوتها.
ينام الطفل قرب الحمير، لا يبالي، كلاهما يحمل على ظهره الكثير، فراشه تراب الوطن، وملاءته السماء التي تسحره، وفي قلبه ترقد ملايين الالحان، والاغنيات، منتظرة ألف الترقب، وأوان الميلاد.
اترفسه الحمير؟ كلا ورب الجمال، وخالق لغة الكون، باذنيها الطويلة تسمع الحانه النائمة، بين قلب صغير، غض، حداء ليلي، وصفير يمد من شربها من ماء الحياة، فترخي اذنيها، وتنام قربه، وهي تحس بأنه ظهره "مثل ظهرها"، سيحمل عن كاهل الشعب احزان واخفاق وهموم، ويحلق بها في افاق لا يطالها شئ، سوى عذب الصوت الكامن في هذ الطفل النائم، المتعب، على سرير التراب.
يصحو الطفل، وندى العرق على خده، يبلل الارض الحلوب، ووردة نمت من زمزم نداه، ففرهدت في لا وقت، بأكسير ماء من خد وضئ، حالم، ينفض جلبابه، ولم يكن ثمن حبه، النوم مع الحمير، فقط، بل والحرمان من المدرسة، كي لا يصبح مغني، ولكن أيعيش وجه عباد الشمسن ويتلفت لغير الشمس، ولو بترت زهرته، ففي قبرها تتلفت حيثما تكون الشمس، "لو متنا، لحاربت المقابر".
اقرانه في سور المدرسة، وفي مقاعد الفصول، والفتى العبقري، بشعره السبيبي، يحوم الازرقة، يسمع غناء الحشرات، وهديل القمري، مؤمن مثل سقراط، والنبي ويونج ومحمود، بأن العلم "تذكر"، والعبقرية في اعماقنا "وفي انفسكم افلاتنظرون"، تمدد سور المدرسة، في قلبه، للحياة برمتها، كانت معلمته، واللحن كامن في قلبه، يقتات من الغيوم، والظلال والاشجار والهفيف والخرير، والجوى، جذوره تشرب رحيق، وتنمو تلكم الزهرة، كل آن، في حقول قلبه، الأمي، النقي، الفطري، كنبي للفن. (يتبع)..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة