المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش.. دكتور عبد الرحمن الغالي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 10:57 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-01-2016, 09:05 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش.. دكتور عبد الرحمن الغالي

    08:05 AM March, 01 2016

    سودانيز اون لاين
    عمر عبد الله فضل المولى-
    مكتبتى
    رابط مختصر

    الحلقة الأولى : الإهداء والمقدمة والتوطئة

    المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إهـــــــــــداء أول

    إلى تلك الروح الوثابة الواثقة بربها، الروح التي حلّت بذلك الجسد النحيف فأرهقته ولكنها كشفت له الحُجب وأجْلت له الظُلَم وأنارت له ولآلاف الأرواح التي تبعته دياجر الظلمات: ظلمات العادة المستكنة في النفس البشرية، وظلمات النفس المجبولة على الأثرة والشح، وظلمات الإستعلاء الأجوف.

    إلى صاحب تلك الروح الطاهرة والهمة العالية والإرادة الصلبة والعقل الذكي ، وإلى الأرواح التي سارت خلفه لم تربطها به وشيجة من فانيات الوشائج والعلاقات، سارت معه تشده وتشدها معانٍ استعصت على الطمس وجلّت عن المادة فاسترخص هو وأصحابه معها حياتهم وأبناءهم وذويهم فخلفوا وطناً عزيزاً كريماً، ومادةً نسج على منوالها ناسجون رتقوا فتقها ورفعوا الراية وأعادوا ألقها وبهاءها.

    إلى روح السيد عبد الله بن السيد محمد خليفة المهدي عليهما السلام وصحبه أهدي هذه الكلمات.

    إهداء ثانٍ

    إلى " إلف شفق" التي برهافة حس الكاتب إلتقطت اللحظة التاريخية، لحظة إلتقاء شمس الدين التبريزي بجلال الدين الرومي فكانت "قواعد العشق الأربعون"، رواية فيها من جد الفكر وكده ما فيها، وفيها من صفاء الروح ما فيها، وفيها من دعوة الحب ما فيها، ومن عبقرية الروائي وإبداعه ما فيها. وفيها إشارات ذكية من الماضي وما يمكن أن يقدمه للحاضر.

    وبعد رحلة طويلة – كرحلة شمس الدين التبريزي – فيها من الشوق والتوق ما فيها- إلتقى رجلان أعظم مقاماً في التصوف وأرسخ قدماً وأكبر نفساً وهمة وأشد توقاً لإحياء الدين فأثمر لقاؤهما إحياء للدين وحياة لوطنٍ وبعثاً لأمة.

    وبين " قونية" و " المسلمية" نضح إناءُ نفسِ "إلف شفق" بمعاني الحب والخير – مهما اختلف الناس معها في صغائر التفاصيل - ونضحت أوانٍ أخرى بما تعي فكل وعاء بما فيه ينضح.

    المقدمة: هذا الكتاب

    تدور أحداث رواية شوق الدرويش للكاتب السوداني حمور زيادة في القرن التاسع عشر إبان الثورة المهدية في السودان وتمتد حتى بُعيد الغزو الثنائي إسماً البريطاني فعلاً.

    فازت الرواية بجائزة نجيب محفوظ مما حقق لها زخماً لا سيما في السودان. جاءت حيثيات لجنة التحكيم صريحة مباشرة في دوافع منح الجائزة، إذ تطابقت وجهة نظرها السياسية والأيديولوجية مع الرواية فكان هذا هو العامل المرجح في فوز الرواية. لم تغلف اللجنة رأيها وإنما تبنت أحكاماً قطعية تقريرية في قضية أقل ما يقال عنها أنها تحمل وجهات نظر مختلفة لدى أصحاب الشأن السوداني بل وحتى الدول التي انغمست في ذلك الصراع.

    هذا الفوز وبالحيثيات التي سيأتي هذا الكتاب على ذكرها – في تقديري – قد صار عبئاً على الرواية وكاتبها، وخَصَم من حيادية اللجنة ومهنيتها.

    يقوم الكتاب في الباب الأول بتلخيص الرواية والتعليق على بعض الحقائق التاريخية المغلوطة دون الخوض في النقد الأدبي والتعرض لفنيات الرواية . ويلفت النظر إلى أن الرواية استمدت مادتها الأساسية من كتاب الأب أوهروالدر الذي صاغه ونجت باسم ( عشر سنوات في معسكر المهدي) ويرى أن الرواية إن هي إلا صياغة أدبية لذلك الكتاب.

    لن يطيل هذا الكتاب الحديث في الجدل الممتد حول التوظيف السياسي الأيديولوجي للجوائز الأدبية وإن مرّ عليه فمسه مساً خفيفاً يفي بغرض الإشارة، إذ سينصرف جل جهده لتناول جوهر الرواية وثيمتها الأساسية في ذم المهدية ونعتها بالتطرف والكذب والوحشية والهمجية والتخلف واعتبارها تمرداً طارئاً أوقف تطور السودان وقطع رسالة " الإستعمار" التحضيرية التي ما لبثت أن أستعادتها بوارج الجيش المصري الإنجليزي التي حررت السودانيين من المهدية وفتحت لهم مجال التطور على حد زعم الرواية.

    تبنى كاتب الرواية وجهة نظر الجيش الغازي، فرأى في السودان أرضاً خلاءً يقطنها ثلة من السود الذين بالغ في الإكثار من وصف سوء خَلْقهم وخُلُقهم: سوء خَلْقهم من حيث سواد البشرة وقبح المنظر مع الروائح العطنة واتساخ الأجساد والملابس إلى آخر أوصافه، وسوء خُلُقهم بانتشار الكسل والنفاق وتفشي المفاسد الاجتماعية والاخلاقية العديدة التي ذكرها وأجرينا لها تلخيصاً في الفصول الأُوَل من هذا الكتاب.

    ولأول مرة فيما قرأت من كتب أرى كتاباً يتحدث عن محاسن الاستعمار العثماني - المصري في السودان، إذ أجمع مؤرخو الثورة المهدية - بمن فيهم الذين مهدوا لقمعها وإعادة إحتلال السودان – على ظلمه ومبالغته في الوحشية حتى صار ذلك الباعث الأول على اندلاع الثورة المهدية في السودان.

    يناقش هذا الكتاب بعد ذلك العهد التركي المصري ليبين في المقام الأول أنه كان استعماراً كأبشع ما يكون الإستعمار إذ ركّز على صيد البشر قبل نهب الموارد، ثم يمضي الكتاب في تبيين انغراس كراهية ذلك النظام في الوجدان الشعبي مستدلاً بما وقر في ذاكرة السودانيين الجمعية وبما جادت به قريحتهم من أدب شعبي في ذمه. ويبين أن ذلك الحكم لا يمثل المصريين بل هم والسودانيون سواء في نيل أذاه، ويستدل على ذلك بأقوال نخبة من المفكرين المصريين أنفسهم.

    وينتقل الكتاب بعد ذلك ليزيل ركام الدعاية الحربية الذي أهيل على صورة المهدية وينفي صفة التاريخ عن تلك الكتابات إذ لايمكن وصفها إلا بالدعاية الحربية والتاريخ منها براء. فإذا كان التاريخ رصداً أميناً لأحداث وقائع أمة ما، فينبغي لكاتبه أن يتحلى بصفات تؤهله لكتابة ذلك التاريخ، منها معرفته بالبلاد وأهلها وطبائعهم وثقافتهم، ومنها إلمامه وتأهيله العلمي لذلك العمل – حيث أن التاريخ علم كسائر العلوم- ثم منها حياده وعدالته وخلوه من الغرض إلى غير ذلك من الشروط.

    ولكن تاريخ السودان والمهدية على وجه الخصوص كتبه عسكريون أجانب محاربون إتخذوا من الكتابة سلاحاً أشد مضاءً من أسلحتهم الفتاكة، حيث حشدت تلك الكتابات الرأي العام البريطاني خلف خطة " إستعادة " السودان وحاصرت كل رأي أو موقف سياسي يتحفظ على ذلك. وفي سبيل تعبئة الرأي العام إمتلأت تلك الكتابات بشتى الأكاذيب التي اتضح زيفها منذ وقت مبكر. فضحها كتاب أكاديميون أجانب ووطنيون.

    وقد استخدم "الفاتحون" ثلاثة أسلحة ماضية لتبرير غزو السودان وقمع المهدية وتمكين حكمهم. أولها الآلة الإعلامية التي أتينا على تمهيدها للغزو ثم استخدمت لتبرير الفظائع المرتكبة بعد الغزو . وثانيها الآلة العسكرية التي حصدت المدافعين وتعقبتهم في مجازر استمرت لأكثر من ربع قرن. ثم جاءت الآلة الثقافية التي أكملت وتكاملت مع فعل الآلتين الاعلامية والعسكرية. والآلة الثقافية التي لم يلتفت الكثيرون لخطرها بسبب استفظاعهم لآلة القتل العسكرية وذهولهم عن آثارها، لا تقل خطراً عن سابقتيها. وقد أوضحت ورقة جيدة كتبها الباحث الأمريكي البروفيسور نوح سالومون استاذ الأديان بكلية كارلتون بعنوان (نقض المهدية: الاستعمار البريطاني كإصلاح ديني في السودان الإنجليزي المصري 1898-1914) بعضاً من أوجه ذلك السلاح الثقافي. ولهذا الوجه الثقافي فطنت رواية (الأشياء تتداعى )(Things Fall Apart) للكاتب النيجيري الكبير شنوا أشيبي حيث تدور فكرتها حول السلاح الثقافي الذي حوّل وجه الشعب المستعمَر بعد أن زرع فيه هوية جديدة غسلت أدمغة الشعب وأدت إلى خذلان بطل الرواية لما حاول استنهاض قومه ضد المستعمِر.

    وفي سبيل إزالة أثر الآلة الإعلامية السالب يقوم الباب الثالث بدفع الإفتراء عن المهدية، ويبين تسامحها بالوقائع المعلومة وشهادات الخصوم والمحايدين الذين لا تربطهم أدنى شبهة إرتباط بها، ثم بالوثائق الثابتة بعد أن يؤصل ويستقصي مفهوم الجهاد في المهدية وضوابطه ، ويستعرض التسامح الذي لقيه خصوم المهدية ومحاربوها ويبين إكرام المهدية للمشائخ ورجالات الجماعات الدينية، ويبين تسامح المهدية مع المسيحيين لاسيما الأوربيين والذي إعترف به ونجت نفسه المسؤول الأول عن الحملة الدعائية ضد المهدية. ويمضي الكتاب في الحديث عن العدل ونفي المحسوبية والفساد المالي ويتحدث عن حوادث فتح الخرطوم ويدحض المطاعن التي أُلصقت بذلك الحدث.

    وفي الباب التالي يبين الكتاب الأبعاد الثقافية والفكرية والعلمية للمهدية وقادتها ودولتها والوعي العلمي والسياسي الذي تمتعوا به ويعقد فصلاً في المزايا الشخصية والفكرية والنفسية لقائدي المعسكرين : المهدي وغردون مستعيناً بشهادات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا تمت للمهدية والتعاطف معها بصلة. ويضع معايير عامة للدروشة ليرى القاريء مدى إنطباقها على أي من الشخصيتين.

    ثم يمضي الكتاب في الباب الخامس ليتحدث عن الخليفة عبد الله وعن شهادات الأعداء التي تنفي التهم المثارة ضده، ثم يذكر الفصل شهادتين مهمتين لشخصين اتسما بالعدالة والمعاصرة للخليفة والقرب منه. وكلا الرجلين لا يمكن أن يتهما بالتعصب للمهدية إذ واصلا عملهما بعد المهدية وأدليا بشهادتيهما بعد زوال دولتها : أولهما هو الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم الذي صار شيخاً لعلماء السودان والمؤرخ محمد عيد الرحيم. ويستشهد هذا الباب بوقائع وشهادات تبين الظلم الفادح الذي تعرض له الخليفة. وتذكر نتفاً من إنجازاته الضخمة، ويفرد الباب حيزاً كبيراً ليوضح وعي الخليفة السياسي بما يدور حوله في العالم والإقليم ومعرفته الدقيقة بالبلاد وقواها الإجتماعية ودوافع أهلها السياسية والاجتماعية ثم يوضح السمات العامة لأسلوبه في الإدارة.

    ثم يأتي للحديث عن الرضا الشعبي الواسع الذي حظي به الخليفة وعهده مستدلاً بالشهادات المحايدة، وبالمواقف التي هي أصدق إنباءً عن ذلك الإلتفاف ومنها الموت الفدائي العظيم معه في كرري والهجرة إليه بعد زوال سلطته ثم الموت معه في أم دبيكرات.

    ويستشهد الباب السادس بدراسة مهمة أعدها الباحثان الأمريكيان ( ريتشارد ديكميجيان ومارقريت فايزوميريسكي) بعنوان( القيادة الكاريزمية في الإسلام: مهدي السودان) . تبين تلك الدراسة ثبات الولاء للمهدية منذ بدايتها وإلى ما بعد زوال دولتها حيث تدرس 140 قائداً مهدوياً حافظ 90% منهم على ولائهم للمهدية وتدرس خلفيتهم الإجتماعية لتيبن أن المهدية حظيت بمساندة كل قطاعات المجتمع السوداني.

    ويستشهد هذا الباب أيضاً للتدليل على بقاء الولاء للمهدية بدراسة للبروفيسور حسن أحمد إبراهيم بعنوان ( الانتفاضات المهدوية ضد الحكم الثنائي في السودان 1900- 1927) والذي عدد فيه الانتفاضات المهدوية التي استمرت لفترة طويلة وفي أنحاء متفرقة من البلاد.

    ويناقش الباب السابع المعارضة الداخلية للمهدية وقضايا مثارة مثل قضية الجهادية وتفلتاتهم وقضية التعاون الحبشي في مواجهة الهجمة الأوربية وقضية محاباة الخليفة لأهله وسياسة التهجير. وفي قضية العرض الحشبي لللتعاون مع المهدية في مواجهة الهجمة الآوربية يوضح الباب مستعيناً بورقة الدكتور هارولد ماركوز ( مهمة رود 1897) وبوثيقة أوردها الدرديري محمد عثمان في مذكراته مع بقية المراجع التي تناولت القضية وهكذا.

    ثم يعرض الكتاب في باب تالٍ مقارنة بين المهدية والحكمين السابق والتالي لها من حيث التسامح والقهر : ليبين تعامل تلك النظم الثلاثة في الحرب وفي أحوال السجون والتعامل مع الأسرى والإلتزام بحقوق الإنسان ويتطرق لموضوع الرق والأسباب الحقيقة للغزو الثنائي للسودان والحريات الدينية وغيرها من الأوجه. ويستشهد هذا الفصل بدراسة بعنوان ( السيد عبد الرحمن المهدي: دراسة في المهدية الجديدة في السودان 1899- 1956) لحسن أحمد إبراهيم . كما يستعرض القمع الديني للمهدية والطرق الصوفية مستشهداً بورقة نقض المهدية التي بيّن كاتبها الحظر الذي فرضه الحكم الثنائي على المهدية ورموزها: من زي وشعائر عبادية الخ. بل والحظر على الطرق الصوفية التي رأوا فيها خطراً لكونها تحظى بقبول شعبي واسع خارج سيطرة الحكومة ولكون مؤسساتها من زوايا وخلاوى ومعاهد يتم تمويلها ذاتياً. فتبنت الحكومة البريطانية سياسات قمعية تجاه الطرق الصوفية عكس ما قد يتبادر للأذهان. وفي المقابل زرع الحكم الثنائي نمطاً من الإسلام الرسمي يسهل خضوعه ويتوافق مع الحاجات الإستعمارية. وتشير الورقة إلى أن الإستعمار البريطاني تخلى عن العلمانية في سبيل نقض المهدية ومحوها من الوجود إذ تتلخص فكرة العلمانية حسب رأي الورقة في إبعاد الدين عن السياسة وحصره في الجانب الشخصي وفي خصخصة المؤسسات الدينية وفي تناقص الأهمية الإجتماعية للمعتقدات الدينية ويخلص الكاتب إلى عدم إنطباق تلك المواصفات الثلاث على سياسة بريطانيا الدينية في السودان.

    ويلمح هذا الباب إلى الفرق في التعامل بين المهدية والحكم الثنائي مع الصوفية.

    ثم يخلص الكتاب في الباب التاسع ليبين بعض أوجه عطاء المهدية وإسهاماتها التي لم تغب حتى عن المؤرخين الأجانب ويبين بعض وظائفها التي يمكن أن تقوم بها مجدداً ودورها الديني والوطني الذي ظلت تلعبه والذي يمكن أن تلعبه، فأهم خلاصة لهذا الباب هي أن المهدية ليست فقط حركة تاريخية وإنما حركة مستمرة متجددة ولا تقل أهميتها الدينية والوطنية اليوم عما قامت به بالأمس. ويبين هذا الباب دور المهدية اليوم في ترسيخ الفكر الوسطي من حيث النظر والعمل والتبشير، كما يبين عطاءها الوطني وأهميته لبقاء البلاد والحفاظ على تماسك لحمتها الإجتماعية.

    يحتوي الكتاب على بعض الوثائق التي كان من الممكن تلخيصها والاكتفاء بذلك ولكن رأينا إعادة نشرها لأهميتها مثل خطاب الخليفة للملكة فكتوريا وعهد الأمان النبوي لغير المسلمين الموجود بكنيسة جبل الطور والوارد في كتاب ونجت ورد الدكتور محمد سعيد القدال على خطاب المنظمة العربية والثقافة والعلوم الذي يوضح للأسف الشديد استمرار وجود بعض العقليات الخديوية في أرفع المؤسسات العربية الإقليمية.

    وأخيراً فالمهدية كتاب مفتوح للتدبر والتفكر، وهي كتاب ذو صفحات عديدة: صفحة الإصلاح المجتمعي حيث ابتغت إصلاح الفرد والجماعة وتخليصهم من الرذائل ونقائص السلوك الفردي والجماعي. وصفحة إصلاح سياسي تحريري وصفحة إصلاح ديني وغيرها من الصفحات. وهي – أي المهدية – في سعيها من طور الدعوة إلى المقاومة إلى الدولة إلى إنهيار الدولة مرّت بأطوار وشارك فيها لاعبون مختلفو الثقافات والدوافع والقدرات والميول وشارك معها بالمعارضة والمدافعة آخرون بنفس التفاوت وأكثر. وهي كتجربة بشرية إجتماعية ذاخرة متشعبة لن يجدي معها منهجان: منهج الشانيء الجاحد لكل خير فيها، ومنهج رد الفعل المقدِّس لكل فعل فيها. فحتى صاحب الدعوة نفسه ربط تحقيق مقاصده بإخلاص مؤيديه وتجردهم وإلتزامهم بالسنة الراتبة الجارية التي لخصتها الآية الكريمة ( ولينصرن الله من ينصره). فكم من مرّة أنّب أهله وعشيرته الأقربين على مفارقتهم لجوهر دعوته وميلهم إلى الدنيا وزخرفها، وكم من منشور عاتب فيه المعتدين من أنصاره مذكِّراً أن النصر لا يكون مع الظلم وكم من مرّة نسب تخلف الوعود بقيام الدين كما كان يرتجي بسبب دخول كلاب الدنيا و طلابها، وبسبب مداخلة حب الدنيا وما يستتبعه من تقديم المغانم على المعاني. وكذلك تتردد نفس عبارات التقريع في المرويات الشفاهية عن خليفته.

    والمهدية كتجربة بشرية حدثت فيها أخطاء بلا ريب، لا سيما في مجال الدولة والسياسة وهذا شيء لا يعيبها ولا ينتقص منها، فليس هناك من تجربة بشرية خلت من ذلك ولا حتى فترة النبوة والخلافة الراشدة - في الاسلام – وماصاحبها من الدخول الجماعي في الدين الجديد دون تشرب الجميع لمبادئه وعمليات الارتداد الجماعي لبعض القبائل والصراع السياسي المعروف في التاريخ الاسلامي. إذن النهج الصحيح هو دراسة أية تجربة وفق مقاييس ومعايير محددة - يرتضيها العقل وتقتضيها النزاهة والموضوعية – والنظر إلى مواضع الصواب ومكامن الخطأ ومعرفة ما أصابت من نجاح وما وقعت في من فشل وإدراك ما قاد إلى النجاح وما أدى إلى الفشل.

    إذن ليس من غرض هذا الكتاب تقديس التجربة المهدية وتنزيهها عن كل خطأ، ولكن هذه العبارة القصيرة الفضفاضة العامة لا ينبغي أن تكون مدخلاً لغمط حركة أدت على الصعيد السياسي إلى تحرير البلاد من حكم أجنبي متمكن ما كان يُرجى التخلص منه، وإلى توحيد قبائل السودان ومناطقه تحت حكم وطني لأول مرة، وإلى خلق كينونة وإسم للسودان. وأدت على الصعيد الإجتماعي إلى العدالة الإجتماعية والمساواة وفتح باب الترقي على أسس موضوعية مثل الكفاءة ورضا الناس بدلاً عن الوراثة والأسس الطبقية وأدت إلى تلاقح وتمازج ديمغرافي كبير وأدت إلى إزالة المفاسد الخلقية في المجتمع كما أفلحت في خلق شخصية سودانية جديدة معتدة بذاتها وفجرت الطاقات الكامنة فيها. وأدت على الصعيد الفكري إلى تجاوز التفرق المذهبي وإلى فتح باب الإجتهاد وإلى تثوير التصوف وجره نحو الإيجابية والتفاعل مع قضايا الناس في المعاش والمعاد، وأدت إلى كسر الهالة الزائفة للتدين الرسمي الشكلي الوالغ في تأييد السلطان الجائر وتبرير ظلمه ونهبه بمقولات فقهية بالية. وقادت لتحرير الإنسان بعد تحريره من كل سلطة زمنية أو روحية وإيكال الأمر كله لله فلم يعد الفرد يخشى خزعبلات الدجالين ولا سيوف المتسلطين فاسترخص الموت وأسبابه وجاء بأمور غير مسبوقة أدهشت الأعداء قبل الأصدقاء.

    هذا بعض عطاء المهدية، وفي المقابل نجد أخطاء إدارية وسياسية وعسكرية وحوادث فردية وجماعية حدثت في ظروف دعوة تكوينية تحارب إستعماراً أجنبياً واقعاً كما تحارب جبهات إستعمار متربص متعددة، وتحاول إصلاح مجتمع متنافر غرس فيه الاستعمار التركي أمراض لم يكن يعرفها. وبناء مجتمع متماسك لم يعمل سوياً إلا في عهدها، كما تواجه جماعات محلية ارتبط بعضها بمصالح مع الحكم التركي بينما ارتبط بعضها الآخر بحياة البداوة التي لا تريد ولا ترضى لها بديلاً، ولا تفهم ولا تتفهم أسس الدولة الحديثة والإدارة الواحدة وتنظيم المجتمعات على أساسها والذي يستدعي ضربة لازب تخلي البعض عن حرياته على أساس العقد الإجتماعي المعروف اللازم لكل إجتماع بشري يضم أشتاتاً من الناس.

    إن أكبر مراجعة تمت للمهدية قام بها أنصار المهدية أنفسهم، إذ اختط قائد المهدية في الطور الذي أعقب الهزيمة طريقاً جديداً حقق به فتوحات تالية لا تقل عظمة وقيمة للدين والوطن من الفتح الأول، فتوحات أتم فيها مابدأته الدولة المهدية واستدرك فيها ما عجزت عن تحقيقه بحكم الظروف المذكورة آنفاً وحاول جاهدأ إكمال رسالتها النظرية في تجاوز الانقسام في المجتمع السوداني وفي الدعوة السلمية . وابتدع أساليب جديدة في تحقيق الأهداف السياسية بالكفاح السلمي المدني الذي التزم به التزاماً صارما إلى غير ذلك من المجالات التي ليس من غرض هذه المقدمة الدخول فيها ولا من غرض الكتاب إستقصاؤها وإن تمت الإشارة لبعض تلك الإنجازات في ثنايا الكتاب.

    وبعد فهذا جهد المقل، كتبته في ظروف شدة وقلة في الوقت والمراجع أرجو أن يكون جهداً محموداً ينفع ويفتح الباب لجهد آخر من آخرين هم أقدر مني وأوفر جهداً. وهو جهد سبقته جهود ضخمة جبارة رصينة متبصرة من آخرين أكبر علماً ومقاماً بلا أدنى ريب جزاهم الله خير الجزاء ونفع بهم.

    عبد الرحمن الغالي

    توطئة

    شوق الدرويش في ميزان العقل والعدل

    كنت و لا زلت ممن يهوون الآداب والفنون ويقدرونها حق قدرها ويعرفون خطرها. وكنت ولا زلت من الذين تستهويهم الكلمة الجميلة واللحن الموحي والأداء الرائع والأعمال الفنية الساحرة مهما كان مضمونها ومحتوى رسالتها، وما الفن في جانب من جوانبه إلا سحر يذهل العقل ويوقظ الروح. وبين ذهول العقل ويقظة الروح وإلتهاب العواطف يتجاوز المرء عن مدركات عقله ويدع روحه تستريح محلقة في الأجواء متخففة من ثقل العقل، ذلك السحر الذي أشار إليه المعصوم صلى الله عليه وسلم: ( إن من البيان لسحرا) وإليه أشار عمر: ( خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته يستميل بها الكريم ويستعطف بها اللئيم) روى ذلك الجاحظ في البيان والتبيين على ما أذكر والجاحظ بلا ريب هو مبتدع " البطل النقيض" Anti- hero في الأدب العربي إن لم يكن قاطبة، يستعمل قلمه السلس وعلمه الغزير في رسم شخصيات منبوذة فيجعلها موضع بطولته: كالبخلاء وكرسالته في فخر السودان على البيضان والمحاسن والأضداد الخ. ولبدر شاكر السياب قصيدتان في ديوانه أنشودة المطر ذواتا صلة قوية بما ذكرنا هما " المومس العمياء" و" المخبر" تجعلان القاريء يرى بُعداً يحجبه عنه التنميط المستقبِح – بكسر الباء- لهذين الفعلين الشنيعين. والسياب عبقري حوّل هزيمة العدوان الثلاثي الغاشم إلى نصر ونصر المعتدين إلى هزيمة:

    يا حاصد النار من أشلاء قتلانا منك الضحايا و إن كانوا ضحايانا

    كم من ردى في حياة و انخذال ردى في ميته و انتصار جاء خذلانا

    إنّ العيون التي طفّأت أنجمها عجلنّ بالشمس أن تختار دنيانا

    ××

    إن الحديد الذي صنتِ الحياة به غير الحديد الذي وافاكِ بالعطب

    و الخير في بندقيات قذائفها حتف المغيرين و الميلاد في قضب

    لكنه الشر في خبز حقائبه عون لأعدائكِ الجوعى و في قرب

    وقد صدق.

    لذلك لا أستنكر أن يكتب كل كاتب ما يرى من كتابة تحمل ما شاء لها أن تحمل من الرسائل والمضامين، فعلى الرسالة نَحْكُم بعد أن نُحَكّم العقل، ويمكن أن نستعير أبيات الأعشى بعد أن نجعلها للعقل:

    حكمتموه فقضي بينكم أبلج مثل القمر الزاهر

    لا يأخذ الرشوة في حكمه ولا يبالي غبن الخاسر

    ولن أحكم هنا - في هذا الكتاب - على أدبيات النص وفنياته وأسلوبيته، فإن مضمون النص قد تناول أمراً عظيماً كأعظم ما تكون الأمور. أمر يرتبط بكيان الأمة السودانية وتاريخها ومكوناتها الثقافية والروحية ويمتد ليشمل حاضرها ومستقبلها بل ومحيطها الإقليمي والعالمي.

    وقد بَنَتْ اللجنة التي منحت الرواية الجائزة – ومن ثم منحتها رواجها – أحكامها على رؤية سياسية وأيديولوجية واضحة ليس فقط في موضوع الرواية – المهدية في السودان – وإنما في إسقاط تلك الرؤية على الواقع المعاصر في العالم الاسلامي لا سيما الشرق الأوسط، وبذلك استحقت الرواية أن تُحمل محمل الجد، فالرواية أصبحت لا تتعلق بالتاريخ فقط وإنما بحاضر السودان ومحيطه، وهي تحاول إحياء رؤية ظننا – ظن تحقيق ويقين- أنّا قد تجاوزناها.

    فهل تمهد الرواية الطريق لشيء يراد بالسودان؟ أم هي مجرد كتابة متمردة ناقمة كشأن ارتباط الأدب في عصرنا الراهن – لا سيما الرواية- بالمغالاة في كسر المألوف وصدم المشاعر؟ فإن كانت الأخيرة فلا تثريب عليها فستنتهي الرواية إلى المكان اللائق بها في ميزان التاريخ علواً أو هبوطاً. وإن كانت الأخرى فإن من أوجب الواجبات دحض الإفتراءات وإحقاق الحق وتحطيم الأصنام التي طال مكوثها بين ظهرانينا والله المستعان.

    عبد الرحمن الغالي

    أبها في 11 ربيع الأول 1437 من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام

    الموافق 22 ديسمبر 2015 من ميلاد المسيح عليه السلام

                  

03-01-2016, 09:09 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة الأولى : الإهداء والمقدمة والتوطئة

    المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدرويش

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إهـــــــــــداء أول

    إلى تلك الروح الوثابة الواثقة بربها، الروح التي حلّت بذلك الجسد النحيف فأرهقته ولكنها كشفت له الحُجب وأجْلت له الظُلَم وأنارت له ولآلاف الأرواح التي تبعته دياجر الظلمات: ظلمات العادة المستكنة في النفس البشرية، وظلمات النفس المجبولة على الأثرة والشح، وظلمات الإستعلاء الأجوف.

    إلى صاحب تلك الروح الطاهرة والهمة العالية والإرادة الصلبة والعقل الذكي ، وإلى الأرواح التي سارت خلفه لم تربطها به وشيجة من فانيات الوشائج والعلاقات، سارت معه تشده وتشدها معانٍ استعصت على الطمس وجلّت عن المادة فاسترخص هو وأصحابه معها حياتهم وأبناءهم وذويهم فخلفوا وطناً عزيزاً كريماً، ومادةً نسج على منوالها ناسجون رتقوا فتقها ورفعوا الراية وأعادوا ألقها وبهاءها.

    إلى روح السيد عبد الله بن السيد محمد خليفة المهدي عليهما السلام وصحبه أهدي هذه الكلمات.

    إهداء ثانٍ

    إلى " إلف شفق" التي برهافة حس الكاتب إلتقطت اللحظة التاريخية، لحظة إلتقاء شمس الدين التبريزي بجلال الدين الرومي فكانت "قواعد العشق الأربعون"، رواية فيها من جد الفكر وكده ما فيها، وفيها من صفاء الروح ما فيها، وفيها من دعوة الحب ما فيها، ومن عبقرية الروائي وإبداعه ما فيها. وفيها إشارات ذكية من الماضي وما يمكن أن يقدمه للحاضر.

    وبعد رحلة طويلة – كرحلة شمس الدين التبريزي – فيها من الشوق والتوق ما فيها- إلتقى رجلان أعظم مقاماً في التصوف وأرسخ قدماً وأكبر نفساً وهمة وأشد توقاً لإحياء الدين فأثمر لقاؤهما إحياء للدين وحياة لوطنٍ وبعثاً لأمة.

    وبين " قونية" و " المسلمية" نضح إناءُ نفسِ "إلف شفق" بمعاني الحب والخير – مهما اختلف الناس معها في صغائر التفاصيل - ونضحت أوانٍ أخرى بما تعي فكل وعاء بما فيه ينضح.

    المقدمة: هذا الكتاب

    تدور أحداث رواية شوق الدرويش للكاتب السوداني حمور زيادة في القرن التاسع عشر إبان الثورة المهدية في السودان وتمتد حتى بُعيد الغزو الثنائي إسماً البريطاني فعلاً.

    فازت الرواية بجائزة نجيب محفوظ مما حقق لها زخماً لا سيما في السودان. جاءت حيثيات لجنة التحكيم صريحة مباشرة في دوافع منح الجائزة، إذ تطابقت وجهة نظرها السياسية والأيديولوجية مع الرواية فكان هذا هو العامل المرجح في فوز الرواية. لم تغلف اللجنة رأيها وإنما تبنت أحكاماً قطعية تقريرية في قضية أقل ما يقال عنها أنها تحمل وجهات نظر مختلفة لدى أصحاب الشأن السوداني بل وحتى الدول التي انغمست في ذلك الصراع.

    هذا الفوز وبالحيثيات التي سيأتي هذا الكتاب على ذكرها – في تقديري – قد صار عبئاً على الرواية وكاتبها، وخَصَم من حيادية اللجنة ومهنيتها.

    يقوم الكتاب في الباب الأول بتلخيص الرواية والتعليق على بعض الحقائق التاريخية المغلوطة دون الخوض في النقد الأدبي والتعرض لفنيات الرواية . ويلفت النظر إلى أن الرواية استمدت مادتها الأساسية من كتاب الأب أوهروالدر الذي صاغه ونجت باسم ( عشر سنوات في معسكر المهدي) ويرى أن الرواية إن هي إلا صياغة أدبية لذلك الكتاب.

    لن يطيل هذا الكتاب الحديث في الجدل الممتد حول التوظيف السياسي الأيديولوجي للجوائز الأدبية وإن مرّ عليه فمسه مساً خفيفاً يفي بغرض الإشارة، إذ سينصرف جل جهده لتناول جوهر الرواية وثيمتها الأساسية في ذم المهدية ونعتها بالتطرف والكذب والوحشية والهمجية والتخلف واعتبارها تمرداً طارئاً أوقف تطور السودان وقطع رسالة " الإستعمار" التحضيرية التي ما لبثت أن أستعادتها بوارج الجيش المصري الإنجليزي التي حررت السودانيين من المهدية وفتحت لهم مجال التطور على حد زعم الرواية.

    تبنى كاتب الرواية وجهة نظر الجيش الغازي، فرأى في السودان أرضاً خلاءً يقطنها ثلة من السود الذين بالغ في الإكثار من وصف سوء خَلْقهم وخُلُقهم: سوء خَلْقهم من حيث سواد البشرة وقبح المنظر مع الروائح العطنة واتساخ الأجساد والملابس إلى آخر أوصافه، وسوء خُلُقهم بانتشار الكسل والنفاق وتفشي المفاسد الاجتماعية والاخلاقية العديدة التي ذكرها وأجرينا لها تلخيصاً في الفصول الأُوَل من هذا الكتاب.

    ولأول مرة فيما قرأت من كتب أرى كتاباً يتحدث عن محاسن الاستعمار العثماني - المصري في السودان، إذ أجمع مؤرخو الثورة المهدية - بمن فيهم الذين مهدوا لقمعها وإعادة إحتلال السودان – على ظلمه ومبالغته في الوحشية حتى صار ذلك الباعث الأول على اندلاع الثورة المهدية في السودان.

    يناقش هذا الكتاب بعد ذلك العهد التركي المصري ليبين في المقام الأول أنه كان استعماراً كأبشع ما يكون الإستعمار إذ ركّز على صيد البشر قبل نهب الموارد، ثم يمضي الكتاب في تبيين انغراس كراهية ذلك النظام في الوجدان الشعبي مستدلاً بما وقر في ذاكرة السودانيين الجمعية وبما جادت به قريحتهم من أدب شعبي في ذمه. ويبين أن ذلك الحكم لا يمثل المصريين بل هم والسودانيون سواء في نيل أذاه، ويستدل على ذلك بأقوال نخبة من المفكرين المصريين أنفسهم.

    وينتقل الكتاب بعد ذلك ليزيل ركام الدعاية الحربية الذي أهيل على صورة المهدية وينفي صفة التاريخ عن تلك الكتابات إذ لايمكن وصفها إلا بالدعاية الحربية والتاريخ منها براء. فإذا كان التاريخ رصداً أميناً لأحداث وقائع أمة ما، فينبغي لكاتبه أن يتحلى بصفات تؤهله لكتابة ذلك التاريخ، منها معرفته بالبلاد وأهلها وطبائعهم وثقافتهم، ومنها إلمامه وتأهيله العلمي لذلك العمل – حيث أن التاريخ علم كسائر العلوم- ثم منها حياده وعدالته وخلوه من الغرض إلى غير ذلك من الشروط.

    ولكن تاريخ السودان والمهدية على وجه الخصوص كتبه عسكريون أجانب محاربون إتخذوا من الكتابة سلاحاً أشد مضاءً من أسلحتهم الفتاكة، حيث حشدت تلك الكتابات الرأي العام البريطاني خلف خطة " إستعادة " السودان وحاصرت كل رأي أو موقف سياسي يتحفظ على ذلك. وفي سبيل تعبئة الرأي العام إمتلأت تلك الكتابات بشتى الأكاذيب التي اتضح زيفها منذ وقت مبكر. فضحها كتاب أكاديميون أجانب ووطنيون.

    وقد استخدم "الفاتحون" ثلاثة أسلحة ماضية لتبرير غزو السودان وقمع المهدية وتمكين حكمهم. أولها الآلة الإعلامية التي أتينا على تمهيدها للغزو ثم استخدمت لتبرير الفظائع المرتكبة بعد الغزو . وثانيها الآلة العسكرية التي حصدت المدافعين وتعقبتهم في مجازر استمرت لأكثر من ربع قرن. ثم جاءت الآلة الثقافية التي أكملت وتكاملت مع فعل الآلتين الاعلامية والعسكرية. والآلة الثقافية التي لم يلتفت الكثيرون لخطرها بسبب استفظاعهم لآلة القتل العسكرية وذهولهم عن آثارها، لا تقل خطراً عن سابقتيها. وقد أوضحت ورقة جيدة كتبها الباحث الأمريكي البروفيسور نوح سالومون استاذ الأديان بكلية كارلتون بعنوان (نقض المهدية: الاستعمار البريطاني كإصلاح ديني في السودان الإنجليزي المصري 1898-1914) بعضاً من أوجه ذلك السلاح الثقافي. ولهذا الوجه الثقافي فطنت رواية (الأشياء تتداعى )(Things Fall Apart) للكاتب النيجيري الكبير شنوا أشيبي حيث تدور فكرتها حول السلاح الثقافي الذي حوّل وجه الشعب المستعمَر بعد أن زرع فيه هوية جديدة غسلت أدمغة الشعب وأدت إلى خذلان بطل الرواية لما حاول استنهاض قومه ضد المستعمِر.

    وفي سبيل إزالة أثر الآلة الإعلامية السالب يقوم الباب الثالث بدفع الإفتراء عن المهدية، ويبين تسامحها بالوقائع المعلومة وشهادات الخصوم والمحايدين الذين لا تربطهم أدنى شبهة إرتباط بها، ثم بالوثائق الثابتة بعد أن يؤصل ويستقصي مفهوم الجهاد في المهدية وضوابطه ، ويستعرض التسامح الذي لقيه خصوم المهدية ومحاربوها ويبين إكرام المهدية للمشائخ ورجالات الجماعات الدينية، ويبين تسامح المهدية مع المسيحيين لاسيما الأوربيين والذي إعترف به ونجت نفسه المسؤول الأول عن الحملة الدعائية ضد المهدية. ويمضي الكتاب في الحديث عن العدل ونفي المحسوبية والفساد المالي ويتحدث عن حوادث فتح الخرطوم ويدحض المطاعن التي أُلصقت بذلك الحدث.

    وفي الباب التالي يبين الكتاب الأبعاد الثقافية والفكرية والعلمية للمهدية وقادتها ودولتها والوعي العلمي والسياسي الذي تمتعوا به ويعقد فصلاً في المزايا الشخصية والفكرية والنفسية لقائدي المعسكرين : المهدي وغردون مستعيناً بشهادات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا تمت للمهدية والتعاطف معها بصلة. ويضع معايير عامة للدروشة ليرى القاريء مدى إنطباقها على أي من الشخصيتين.

    ثم يمضي الكتاب في الباب الخامس ليتحدث عن الخليفة عبد الله وعن شهادات الأعداء التي تنفي التهم المثارة ضده، ثم يذكر الفصل شهادتين مهمتين لشخصين اتسما بالعدالة والمعاصرة للخليفة والقرب منه. وكلا الرجلين لا يمكن أن يتهما بالتعصب للمهدية إذ واصلا عملهما بعد المهدية وأدليا بشهادتيهما بعد زوال دولتها : أولهما هو الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم الذي صار شيخاً لعلماء السودان والمؤرخ محمد عيد الرحيم. ويستشهد هذا الباب بوقائع وشهادات تبين الظلم الفادح الذي تعرض له الخليفة. وتذكر نتفاً من إنجازاته الضخمة، ويفرد الباب حيزاً كبيراً ليوضح وعي الخليفة السياسي بما يدور حوله في العالم والإقليم ومعرفته الدقيقة بالبلاد وقواها الإجتماعية ودوافع أهلها السياسية والاجتماعية ثم يوضح السمات العامة لأسلوبه في الإدارة.

    ثم يأتي للحديث عن الرضا الشعبي الواسع الذي حظي به الخليفة وعهده مستدلاً بالشهادات المحايدة، وبالمواقف التي هي أصدق إنباءً عن ذلك الإلتفاف ومنها الموت الفدائي العظيم معه في كرري والهجرة إليه بعد زوال سلطته ثم الموت معه في أم دبيكرات.

    ويستشهد الباب السادس بدراسة مهمة أعدها الباحثان الأمريكيان ( ريتشارد ديكميجيان ومارقريت فايزوميريسكي) بعنوان( القيادة الكاريزمية في الإسلام: مهدي السودان) . تبين تلك الدراسة ثبات الولاء للمهدية منذ بدايتها وإلى ما بعد زوال دولتها حيث تدرس 140 قائداً مهدوياً حافظ 90% منهم على ولائهم للمهدية وتدرس خلفيتهم الإجتماعية لتيبن أن المهدية حظيت بمساندة كل قطاعات المجتمع السوداني.

    ويستشهد هذا الباب أيضاً للتدليل على بقاء الولاء للمهدية بدراسة للبروفيسور حسن أحمد إبراهيم بعنوان ( الانتفاضات المهدوية ضد الحكم الثنائي في السودان 1900- 1927) والذي عدد فيه الانتفاضات المهدوية التي استمرت لفترة طويلة وفي أنحاء متفرقة من البلاد.

    ويناقش الباب السابع المعارضة الداخلية للمهدية وقضايا مثارة مثل قضية الجهادية وتفلتاتهم وقضية التعاون الحبشي في مواجهة الهجمة الأوربية وقضية محاباة الخليفة لأهله وسياسة التهجير. وفي قضية العرض الحشبي لللتعاون مع المهدية في مواجهة الهجمة الآوربية يوضح الباب مستعيناً بورقة الدكتور هارولد ماركوز ( مهمة رود 1897) وبوثيقة أوردها الدرديري محمد عثمان في مذكراته مع بقية المراجع التي تناولت القضية وهكذا.

    ثم يعرض الكتاب في باب تالٍ مقارنة بين المهدية والحكمين السابق والتالي لها من حيث التسامح والقهر : ليبين تعامل تلك النظم الثلاثة في الحرب وفي أحوال السجون والتعامل مع الأسرى والإلتزام بحقوق الإنسان ويتطرق لموضوع الرق والأسباب الحقيقة للغزو الثنائي للسودان والحريات الدينية وغيرها من الأوجه. ويستشهد هذا الفصل بدراسة بعنوان ( السيد عبد الرحمن المهدي: دراسة في المهدية الجديدة في السودان 1899- 1956) لحسن أحمد إبراهيم . كما يستعرض القمع الديني للمهدية والطرق الصوفية مستشهداً بورقة نقض المهدية التي بيّن كاتبها الحظر الذي فرضه الحكم الثنائي على المهدية ورموزها: من زي وشعائر عبادية الخ. بل والحظر على الطرق الصوفية التي رأوا فيها خطراً لكونها تحظى بقبول شعبي واسع خارج سيطرة الحكومة ولكون مؤسساتها من زوايا وخلاوى ومعاهد يتم تمويلها ذاتياً. فتبنت الحكومة البريطانية سياسات قمعية تجاه الطرق الصوفية عكس ما قد يتبادر للأذهان. وفي المقابل زرع الحكم الثنائي نمطاً من الإسلام الرسمي يسهل خضوعه ويتوافق مع الحاجات الإستعمارية. وتشير الورقة إلى أن الإستعمار البريطاني تخلى عن العلمانية في سبيل نقض المهدية ومحوها من الوجود إذ تتلخص فكرة العلمانية حسب رأي الورقة في إبعاد الدين عن السياسة وحصره في الجانب الشخصي وفي خصخصة المؤسسات الدينية وفي تناقص الأهمية الإجتماعية للمعتقدات الدينية ويخلص الكاتب إلى عدم إنطباق تلك المواصفات الثلاث على سياسة بريطانيا الدينية في السودان.

    ويلمح هذا الباب إلى الفرق في التعامل بين المهدية والحكم الثنائي مع الصوفية.

    ثم يخلص الكتاب في الباب التاسع ليبين بعض أوجه عطاء المهدية وإسهاماتها التي لم تغب حتى عن المؤرخين الأجانب ويبين بعض وظائفها التي يمكن أن تقوم بها مجدداً ودورها الديني والوطني الذي ظلت تلعبه والذي يمكن أن تلعبه، فأهم خلاصة لهذا الباب هي أن المهدية ليست فقط حركة تاريخية وإنما حركة مستمرة متجددة ولا تقل أهميتها الدينية والوطنية اليوم عما قامت به بالأمس. ويبين هذا الباب دور المهدية اليوم في ترسيخ الفكر الوسطي من حيث النظر والعمل والتبشير، كما يبين عطاءها الوطني وأهميته لبقاء البلاد والحفاظ على تماسك لحمتها الإجتماعية.

    يحتوي الكتاب على بعض الوثائق التي كان من الممكن تلخيصها والاكتفاء بذلك ولكن رأينا إعادة نشرها لأهميتها مثل خطاب الخليفة للملكة فكتوريا وعهد الأمان النبوي لغير المسلمين الموجود بكنيسة جبل الطور والوارد في كتاب ونجت ورد الدكتور محمد سعيد القدال على خطاب المنظمة العربية والثقافة والعلوم الذي يوضح للأسف الشديد استمرار وجود بعض العقليات الخديوية في أرفع المؤسسات العربية الإقليمية.

    وأخيراً فالمهدية كتاب مفتوح للتدبر والتفكر، وهي كتاب ذو صفحات عديدة: صفحة الإصلاح المجتمعي حيث ابتغت إصلاح الفرد والجماعة وتخليصهم من الرذائل ونقائص السلوك الفردي والجماعي. وصفحة إصلاح سياسي تحريري وصفحة إصلاح ديني وغيرها من الصفحات. وهي – أي المهدية – في سعيها من طور الدعوة إلى المقاومة إلى الدولة إلى إنهيار الدولة مرّت بأطوار وشارك فيها لاعبون مختلفو الثقافات والدوافع والقدرات والميول وشارك معها بالمعارضة والمدافعة آخرون بنفس التفاوت وأكثر. وهي كتجربة بشرية إجتماعية ذاخرة متشعبة لن يجدي معها منهجان: منهج الشانيء الجاحد لكل خير فيها، ومنهج رد الفعل المقدِّس لكل فعل فيها. فحتى صاحب الدعوة نفسه ربط تحقيق مقاصده بإخلاص مؤيديه وتجردهم وإلتزامهم بالسنة الراتبة الجارية التي لخصتها الآية الكريمة ( ولينصرن الله من ينصره). فكم من مرّة أنّب أهله وعشيرته الأقربين على مفارقتهم لجوهر دعوته وميلهم إلى الدنيا وزخرفها، وكم من منشور عاتب فيه المعتدين من أنصاره مذكِّراً أن النصر لا يكون مع الظلم وكم من مرّة نسب تخلف الوعود بقيام الدين كما كان يرتجي بسبب دخول كلاب الدنيا و طلابها، وبسبب مداخلة حب الدنيا وما يستتبعه من تقديم المغانم على المعاني. وكذلك تتردد نفس عبارات التقريع في المرويات الشفاهية عن خليفته.

    والمهدية كتجربة بشرية حدثت فيها أخطاء بلا ريب، لا سيما في مجال الدولة والسياسة وهذا شيء لا يعيبها ولا ينتقص منها، فليس هناك من تجربة بشرية خلت من ذلك ولا حتى فترة النبوة والخلافة الراشدة - في الاسلام – وماصاحبها من الدخول الجماعي في الدين الجديد دون تشرب الجميع لمبادئه وعمليات الارتداد الجماعي لبعض القبائل والصراع السياسي المعروف في التاريخ الاسلامي. إذن النهج الصحيح هو دراسة أية تجربة وفق مقاييس ومعايير محددة - يرتضيها العقل وتقتضيها النزاهة والموضوعية – والنظر إلى مواضع الصواب ومكامن الخطأ ومعرفة ما أصابت من نجاح وما وقعت في من فشل وإدراك ما قاد إلى النجاح وما أدى إلى الفشل.

    إذن ليس من غرض هذا الكتاب تقديس التجربة المهدية وتنزيهها عن كل خطأ، ولكن هذه العبارة القصيرة الفضفاضة العامة لا ينبغي أن تكون مدخلاً لغمط حركة أدت على الصعيد السياسي إلى تحرير البلاد من حكم أجنبي متمكن ما كان يُرجى التخلص منه، وإلى توحيد قبائل السودان ومناطقه تحت حكم وطني لأول مرة، وإلى خلق كينونة وإسم للسودان. وأدت على الصعيد الإجتماعي إلى العدالة الإجتماعية والمساواة وفتح باب الترقي على أسس موضوعية مثل الكفاءة ورضا الناس بدلاً عن الوراثة والأسس الطبقية وأدت إلى تلاقح وتمازج ديمغرافي كبير وأدت إلى إزالة المفاسد الخلقية في المجتمع كما أفلحت في خلق شخصية سودانية جديدة معتدة بذاتها وفجرت الطاقات الكامنة فيها. وأدت على الصعيد الفكري إلى تجاوز التفرق المذهبي وإلى فتح باب الإجتهاد وإلى تثوير التصوف وجره نحو الإيجابية والتفاعل مع قضايا الناس في المعاش والمعاد، وأدت إلى كسر الهالة الزائفة للتدين الرسمي الشكلي الوالغ في تأييد السلطان الجائر وتبرير ظلمه ونهبه بمقولات فقهية بالية. وقادت لتحرير الإنسان بعد تحريره من كل سلطة زمنية أو روحية وإيكال الأمر كله لله فلم يعد الفرد يخشى خزعبلات الدجالين ولا سيوف المتسلطين فاسترخص الموت وأسبابه وجاء بأمور غير مسبوقة أدهشت الأعداء قبل الأصدقاء.

    هذا بعض عطاء المهدية، وفي المقابل نجد أخطاء إدارية وسياسية وعسكرية وحوادث فردية وجماعية حدثت في ظروف دعوة تكوينية تحارب إستعماراً أجنبياً واقعاً كما تحارب جبهات إستعمار متربص متعددة، وتحاول إصلاح مجتمع متنافر غرس فيه الاستعمار التركي أمراض لم يكن يعرفها. وبناء مجتمع متماسك لم يعمل سوياً إلا في عهدها، كما تواجه جماعات محلية ارتبط بعضها بمصالح مع الحكم التركي بينما ارتبط بعضها الآخر بحياة البداوة التي لا تريد ولا ترضى لها بديلاً، ولا تفهم ولا تتفهم أسس الدولة الحديثة والإدارة الواحدة وتنظيم المجتمعات على أساسها والذي يستدعي ضربة لازب تخلي البعض عن حرياته على أساس العقد الإجتماعي المعروف اللازم لكل إجتماع بشري يضم أشتاتاً من الناس.

    إن أكبر مراجعة تمت للمهدية قام بها أنصار المهدية أنفسهم، إذ اختط قائد المهدية في الطور الذي أعقب الهزيمة طريقاً جديداً حقق به فتوحات تالية لا تقل عظمة وقيمة للدين والوطن من الفتح الأول، فتوحات أتم فيها مابدأته الدولة المهدية واستدرك فيها ما عجزت عن تحقيقه بحكم الظروف المذكورة آنفاً وحاول جاهدأ إكمال رسالتها النظرية في تجاوز الانقسام في المجتمع السوداني وفي الدعوة السلمية . وابتدع أساليب جديدة في تحقيق الأهداف السياسية بالكفاح السلمي المدني الذي التزم به التزاماً صارما إلى غير ذلك من المجالات التي ليس من غرض هذه المقدمة الدخول فيها ولا من غرض الكتاب إستقصاؤها وإن تمت الإشارة لبعض تلك الإنجازات في ثنايا الكتاب.

    وبعد فهذا جهد المقل، كتبته في ظروف شدة وقلة في الوقت والمراجع أرجو أن يكون جهداً محموداً ينفع ويفتح الباب لجهد آخر من آخرين هم أقدر مني وأوفر جهداً. وهو جهد سبقته جهود ضخمة جبارة رصينة متبصرة من آخرين أكبر علماً ومقاماً بلا أدنى ريب جزاهم الله خير الجزاء ونفع بهم.

    عبد الرحمن الغالي

    توطئة

    شوق الدرويش في ميزان العقل والعدل

    كنت و لا زلت ممن يهوون الآداب والفنون ويقدرونها حق قدرها ويعرفون خطرها. وكنت ولا زلت من الذين تستهويهم الكلمة الجميلة واللحن الموحي والأداء الرائع والأعمال الفنية الساحرة مهما كان مضمونها ومحتوى رسالتها، وما الفن في جانب من جوانبه إلا سحر يذهل العقل ويوقظ الروح. وبين ذهول العقل ويقظة الروح وإلتهاب العواطف يتجاوز المرء عن مدركات عقله ويدع روحه تستريح محلقة في الأجواء متخففة من ثقل العقل، ذلك السحر الذي أشار إليه المعصوم صلى الله عليه وسلم: ( إن من البيان لسحرا) وإليه أشار عمر: ( خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته يستميل بها الكريم ويستعطف بها اللئيم) روى ذلك الجاحظ في البيان والتبيين على ما أذكر والجاحظ بلا ريب هو مبتدع " البطل النقيض" Anti- hero في الأدب العربي إن لم يكن قاطبة، يستعمل قلمه السلس وعلمه الغزير في رسم شخصيات منبوذة فيجعلها موضع بطولته: كالبخلاء وكرسالته في فخر السودان على البيضان والمحاسن والأضداد الخ. ولبدر شاكر السياب قصيدتان في ديوانه أنشودة المطر ذواتا صلة قوية بما ذكرنا هما " المومس العمياء" و" المخبر" تجعلان القاريء يرى بُعداً يحجبه عنه التنميط المستقبِح – بكسر الباء- لهذين الفعلين الشنيعين. والسياب عبقري حوّل هزيمة العدوان الثلاثي الغاشم إلى نصر ونصر المعتدين إلى هزيمة:

    يا حاصد النار من أشلاء قتلانا منك الضحايا و إن كانوا ضحايانا

    كم من ردى في حياة و انخذال ردى في ميته و انتصار جاء خذلانا

    إنّ العيون التي طفّأت أنجمها عجلنّ بالشمس أن تختار دنيانا

    ××

    إن الحديد الذي صنتِ الحياة به غير الحديد الذي وافاكِ بالعطب

    و الخير في بندقيات قذائفها حتف المغيرين و الميلاد في قضب

    لكنه الشر في خبز حقائبه عون لأعدائكِ الجوعى و في قرب

    وقد صدق.

    لذلك لا أستنكر أن يكتب كل كاتب ما يرى من كتابة تحمل ما شاء لها أن تحمل من الرسائل والمضامين، فعلى الرسالة نَحْكُم بعد أن نُحَكّم العقل، ويمكن أن نستعير أبيات الأعشى بعد أن نجعلها للعقل:

    حكمتموه فقضي بينكم أبلج مثل القمر الزاهر

    لا يأخذ الرشوة في حكمه ولا يبالي غبن الخاسر

    ولن أحكم هنا - في هذا الكتاب - على أدبيات النص وفنياته وأسلوبيته، فإن مضمون النص قد تناول أمراً عظيماً كأعظم ما تكون الأمور. أمر يرتبط بكيان الأمة السودانية وتاريخها ومكوناتها الثقافية والروحية ويمتد ليشمل حاضرها ومستقبلها بل ومحيطها الإقليمي والعالمي.

    وقد بَنَتْ اللجنة التي منحت الرواية الجائزة – ومن ثم منحتها رواجها – أحكامها على رؤية سياسية وأيديولوجية واضحة ليس فقط في موضوع الرواية – المهدية في السودان – وإنما في إسقاط تلك الرؤية على الواقع المعاصر في العالم الاسلامي لا سيما الشرق الأوسط، وبذلك استحقت الرواية أن تُحمل محمل الجد، فالرواية أصبحت لا تتعلق بالتاريخ فقط وإنما بحاضر السودان ومحيطه، وهي تحاول إحياء رؤية ظننا – ظن تحقيق ويقين- أنّا قد تجاوزناها.

    فهل تمهد الرواية الطريق لشيء يراد بالسودان؟ أم هي مجرد كتابة متمردة ناقمة كشأن ارتباط الأدب في عصرنا الراهن – لا سيما الرواية- بالمغالاة في كسر المألوف وصدم المشاعر؟ فإن كانت الأخيرة فلا تثريب عليها فستنتهي الرواية إلى المكان اللائق بها في ميزان التاريخ علواً أو هبوطاً. وإن كانت الأخرى فإن من أوجب الواجبات دحض الإفتراءات وإحقاق الحق وتحطيم الأصنام التي طال مكوثها بين ظهرانينا والله المستعان.

    عبد الرحمن الغالي

    أبها في 11 ربيع الأول 1437 من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام

    الموافق 22 ديسمبر 2015 من ميلاد المسيح عليه السلام

                  

03-01-2016, 10:16 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الله أكبر ولله الحمد
                  

03-02-2016, 05:20 AM

محمد أبوجودة
<aمحمد أبوجودة
تاريخ التسجيل: 08-10-2004
مجموع المشاركات: 5265

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    السلام عليكم ورحمة الله تعالى، وبركاته أخانا عمر فضل المولى،

    والسلام والرحمة والبركة على أخينا الدكتور عبدالرحمن الغالي،

    وألف مرحب بهذا الإنشاء والتدبير والتفكير بصوتٍ جهير ..

    عبدالرحمن الغالي، مُبدِع و ناظر وباحث و حَركي، يُجبر القارئ على الاقتداء والتمثّل بِـ والاستماع له بـ "عينٍ واعية" ..


    وَ سلامٌ ورحمة وبركة، على أخينا حمّور زيادة، الكاتب السـوداني البريع، والحائز بروايته " شوق الدرويش" على جائزة نجيب محفوظ بالقاهرة.



    ........
    وعسى أن تكون عودة قريبة بإذن الله تعالى..

    (عدل بواسطة محمد أبوجودة on 03-02-2016, 05:23 AM)
    (عدل بواسطة محمد أبوجودة on 03-02-2016, 05:26 AM)

                  

03-02-2016, 07:48 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة الثانية:

    الباب الأول:

    المدخل

    (1)

    قالت إيزابيل الليندي، الكاتبة الشيلية ذائعة الصيت: ( اتصلت بي معلمة حفيدتي ذات الأعوام السبعة وقالت لي كتبت حفيدتك موضوعاً عن العائلة قالت فيه: عائلتي ليست مهمة، الشخص الوحيد المهم في عائلتي هو جدتي لأنها تملك خيالاً كبيراً. سألتُ حفيدتي عن معنى: خيال كبير. قالت أنت تستطيعين تذكر أشياء لم تحدث!)

    ايزابيل الليندي لها مذكرات بعنوان ( بلدي المُخْتَرع :مذكرات)

    My Invented Country: A Memoir

    (2)

    ( وشرعت الصفوة الأوربية تصنع صفوة من السكان الأصليين، أخذت تصطفي فتياناً مراهقين وترسم على جباههم بالحديد الأحمر مبادئ الثقافة الأوربية وتحشو أفواههم بأشياء رنانة، بكلمات كبيرة لزجة تلتصق بالأسنان ثم تردهم إلى العاصمة وقد تزيفوا، إن هؤلاء الأفراد هم أكاذيب حية تسعى قد أصبحوا لا يملكون ما يقولونه لإخوتهم لأنهم لا يزيدون على أن يرجعوا ما يسمعون)

    جان بول سارتر

    (3)

    ( ولكن يكفي أن ندع هذه الجزرة ماثلة أمام أعينهم حتى يركضوا. أما أن يثوروا فذلك ما كنا مطمئنين إلى أنه لن يكون: أي واع من هؤلاء السكان الأصليين يمكن أن يمضي إلى قتل أبناء أوربا الحسان؟ لأن غايته أن يصير أوربياً مثلهم. لقد كنا نشجع تلك الألوان من الأسى وفي ذات مرة لم نجد ضيراً في أن نمنح أحد الزنوج جائزة غونكور)

    (انتهى عهد جوائز غونكور السوداء وجوائز نوبل الصفراء)

    جان بول سارتر

    (4)

    قرأت رواية شوق الدرويش بعد أن صح عزمي على التوقف إلى حين حين عن قراءة الروايات واستنفدت جهدي في مقال أفرغت فيه ما يجيش بصدري تلقاء الرواية (فن الرواية) والنقد الأدبي أسميته ( العالم الافتراضي: أطياف الرواية وأشباحها) ولكن ....صح مني العزم والدهر أبى كما قال حافظ إبراهيم، ومن عجائب تداعي المعاني أن حافظاً قال في قصيدته:

    أمة قد فتَّ في ساعدها

    بغضُها الأهل وحب الغُربا !

    قال الإمام علي( عرفت ربي بنقض العزائم) فقرأت رواية شوق الدرويش فاستلتْ من جوفي هذا الكتاب.

    الفصل الأول: الرواية والجائزة

    الجائزة:

    (1)

    الرواية للكاتب حمور زيادة، فازت بجائزة نجيب محفوظ وهي جائزة يقدمها قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة سنوياً لإحدى الروايات الحديثة مع ترجمة الرواية الفائزة للغة الانجليزية وتقديمها لأكبر عدد من المتلقين باللغة الانجليزية. الجائزة تُعنى بصورة أساسية بأمرين: تشجيع الكتاب الشباب وتقديمهم لقارئ اللغة الانجليزية.

    والجائزة مثل غيرها من جوائز الأدب العالمية قد نالت حظها من النقد مثل نقد (نوبل) و(غونكور) الذي افتتحنا به هذا الكتاب أخذاً من سارتر.وقد أقر الدكتور (كيال اسمبارك) عضو لجنة جائزة نوبل للأدب بالعامل السياسي رغم محاولة التواري خلف الكلمات حيث روي عنه أنه (قال إن التأثير السياسي لا مناص منه ولكنه أكد أن وصف الجائزة بأنها ذات طابع سياسي مجرد فكرة خاطئة..... يجب التفريق بين التأثر بالسياسة وبين النية السياسية التي تحظرها أكاديمية نوبل)

    من النقد الموجه لجائزة نجيب محفوظ أنها تخلق جيلاً من الكتاب الذين يكتبون وتتوجه إحدى عيني الكاتب منهم تلقاء الغرب والأخرى للترجمة كما قالت (سامية محرز)، كما أن هناك تساؤلاً كبيراً حول أولوية الجماليات والجدارة الأدبية.

    بينما مضى الناقد المصري الدكتور سيد البحراوي لمدى أبعد حينما وصفها (أنها تمثل واقعاً تصنعه بنفسها ولذلك اعتُبرت خطراً عظيماً على الرواية العربية وعلى مجال الأدب في العالم العربي بل وعلى المستقبل العربي)

    وقال زياد إبراهيم القاص والمحرر الثقافي للبوابة عن فوز روايتين أصدرتهما دار نشر واحدة : (المفارقة هنا أن كلا الروايتين من إصدار دار "العين"، ولم تتقدم الدار للجائزة في كلا المرتين، بل تم اختيارهما بناء على رغبة لجنة التحكيم، وهذا حق أصيل للجنة، في حال أن تكون الأعمال المتقدمة ضعيفة، ولكن ما حدث يطرح علامات استفهام حول مدى نزاهة اللجنة. الروائي الكبير رءوف مسعد علّق قائلًا: أن من حق لجنة التحكيم اختيار أعمال غير مقدمه للجائزة، وهو ما حدث مع الروائي حمور زيادة، والسوري خالد خليفة في العام الماضي، مضيفًا أن الجائزة أصبحت مُسيسة، وأن اختيار عملين متتالين لدار "العين" أمر مثير للشكوك والريبة، الكاتب الصحفي سيد محمود، رئيس تحرير جريدة القاهرة أوضح أنه علم منذ شهرين عن طريق مصادره الصحفية، أن الجامعة الأمريكية تقوم بترجمة أولى لرواية "شوق الدراويش" لـ حمور زياد، لذا توقع حصول الرواية على الجائزة.)

    ومثل هذا النقد طال حتى صاحب اسم الجائزة الكاتب الكبير نجيب محفوظ حينما نوهت لجنة جائزة نوبل وركزت على روايته (أولاد حارتنا) . الرواية التي أثارت جدلاً في وقتها ورأى كثير من الناس أنها ليست أفضل أعمال محفوظ مما أثار شبهة كبيرة حول أولوية الأجندة الأخرى على جماليات الرواية. وطال النقد أيضاً جوائز البوكر العربية والفوضى الضاربة بأطنابها في معايير أختيارالروايات الفائزة وأتُهمت من قبل أكثر من ناقد رصين. قال الكاتب الروائي الراحل (خيري شلبي) عندما استُبعدت روايته: ( أنا لاتنطبق عليّ معايير الجائزة) ووصف د. حسام عقل دخول بعض الروايات بأنه (ثمن سياسي لا أدبي) وقال ( إن مصر بظرفها الثقافي المتكلس لن تتمكن من تقديم جوائز عربية كبرى)

    وقال الروائي والناقد والأكاديمي شكري المبخوت: ( إن نتائج تحكيم الجوائز الأدبية العربية تمثل في الغالب مصدر تساؤلات وارتياب إلى حد الحديث عن مؤامرات تحاك بعيداً عن الضوء كما أن مجالس أمنائها موجهة في الغالب) .

    (2)

    تكونت لجنة التحكيم من الدكاترة: تحية عبد الناصر ورشيد العناني ومنى طلبة وشيرين أبو النجا وهمفري ديفيس. قدم القرار على شكل إفادات من أعضاء لجنة التحكيم.

    جاء في أقوال د. تحية عبد الناصر:

    ( شوق الدرويش رواية تتألق في سردها لعالم الحب والاستبداد والعبودية والثورة المهدية) ....( والرواية تمثل اتجاهاً جديداً في الأدب السوداني في تضفيرها لتاريخ الثورة المهدية وتناول أبعاد العنصرية والعبودية وأشكال الحب).....( إنها ليست فقط قصة حب تتداخل في قصة الثورة والتطرف الديني والعبودية ولكنها تستوحي القهر بأشكاله في كل زمان وكل مكان).

    وجاء في أقوال د. رشيد العناني:

    ( في تصويرها للدمار الذي سببته الانتفاضة المهدية وهي حركة دينية متطرفة عنيفة رواية شوق الدرويش بمثابة تجسيد قوي للمشهد الحالي في المنطقة حيث تعم الفوضى نتيجة للتطرف الديني).

    وجاء في حيثيات د. منى طلبة:

    ( ثورة اتخذت طابعاً متطرفاً دموياً) ...( فالدرويش المهدي الذي يمتطي جواد المذابح الدامية شوقاً لله وثأراً من الكفرة..الخ)

    وقال الدكتور همفري ديفيز ( "شوق الدرويش رواية تاريخية ملحمية تتناول لوحة متعددة الألوان وواسعة النطاق من الشخصيات والأحداث لترسم صورة لزمان ومكان آخر لمعظم القراء. قد يجد الجمهور الإنجليزي تشابها مثيرا للاهتمام بين استحضارها لثقافة متعددة الأوجه، بما فيها من ثقافة تم تدميرها وإعادة تشكيلها، والأحداث الراهنة).

    وجاء في أقوال د. شيرين أبو النجا

    (تنبع أهمية رواية شوق الدرويش من كونها تكشف تشابك علاقات القوى على المستويين الإقليمي والمحلي منذ اندلاع الثورة المهدية 1881 وحتى سقوط الخرطوم 1885. وبالرغم من أن السردية ترتكز على التاريخي إلا أنها تنجح في تخييل عالم روائي كامل، يموج بشخصيات تكاد تقترب من كونها نماذج في العشق والفساد والتواطؤ والجشع. شوق الدرويش ليست مجرد رواية عن الثورة المهدية كما قد يتصور البعض، بل هي الرواية المهمشة والمعتمة عن مسار ومصير الثورة المهدية. تقوض شوق الدرويش الرواية الرئيسية عن الثورة المهدية عبر تصوير الحدث من خلال العبد بخيت منديل، الذي يقع في حب ثيودورا ذات الأصل اليوناني.)

    ولئن أعطت جائزة نجيب محفوظ الرواية زخماً فقد جاءت شهادة المحكمين خصماً عليها وفتحت عليها باباً ذا عذاب شديد، فصارت عبئاً ثقيلاً على الراوي والرواية.

    فقد جاءت الحيثيات سياسية فجة مباشرة كما ترى كأن الرواية أشفت غليل اللجنة تجاه المهدية في السودان. هذا ما لحظه عدد كبير من النقاد الذين كتبوا عن الرواية منهم الكاتب مصطفى البطل ومامون التلب والدكتور عز الدين ميرغني والاستاذ محمد عبد السيد واندهش الاستاذ عيسى الحلو كما ذكر "البطل" من حماسة كثير من الروائيين المصريين واستحسانهم للرواية. وتلخص عبارات الكاتبة أريتا كيرينيا الآتية كل ذلك أصدق تلخيص : ( والمثير للانتباه هو ما ورد في كلمة لجنة التحكيم لجائزة نجيب محفوظ حول الأسباب والحيثيات التي ساهمت في فوز الرواية) وقالت بعد أن اقتبست فقرات من تلك الحيثيات: (مما دفعنى للتساؤل عن نزاهة لجنة التحكيم فى هذا الشأن ، كما احيت بداخلي التساؤلات القديمة الجديدة التى تثار حول الجوائز والتوظيف السياسى والايديولوجى لها ، و محاولات استغلال بعض الاعمال والاسماء الروائية المخضرمة او الشابة ضمن هذا الاطار ، أيضا قد يتم استغلال هذه السطور من نص حكم لجنة التحكيم من قبل اشخاص كثر لن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الرواية وقراءتها لاستيعاب ماأراد الروائى "زيادة" أن يعبر عنه من تأويلات وقراءة جديدة لفترة تاريخية مهمة من فترات التاريخ السودانى الحديث .) .

    الرواية:

    (1)

    ملخص الرواية والملاحظات الأدبية عليها:

    لعل أقصر وأصدق تلخيص للرواية هو ما جاد به قلم الأديب والمدون الكاتب الروائي والناقد والصحفي الموريتاني محمد ولد محمد سالم في مقاله الموسوم ("شوق الدرويش" علاقة حب باهتة وأسئلة مستعصية) :

    ( تقدم رواية "شوق الدرويش" للكاتب السوداني حمور زيادة التي دخلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2015 حكاية الشاب السوداني بخيت منديل مع الفتاة المصرية من أصول يونانية ثيودورا أثناء حكم المهدية في السودان.

    بخيت زنجي اختطفه النخاسون صغيرا وباعوه عبدا لأوروبي مقيم في الخرطوم، وبعد سنوات يجد حريته وتضطره المجاعة إلى اللحاق بجيش المهدي الذي غزا مصر، وهناك يقع في الأسر والعبودية مرة أخرى، لكنه لا يلبث أن يتحرر ويعود إلى السودان، ليتعرف على ثيودورا أو حواء كما صار اسمها بعد الأسر، وهي راهبة شابة جاءت إلى السودان لتعمل مدرّسة في إحدى مدارس التنصير في الخرطوم أيام الحكم العثماني المصري أواخر القرن التاسع عشر، ولما استولى جيش المهدي على الخرطوم سنة 1885 أسرت ثيودورا، وأخذت إلى أم درمان، ووقعت في نصيب أحد الأعيان من أنصار المهدي، سلبه جمالها الفاتن وأرادها لمتعته، لكنّها تمنّعت عليه، فتركها لخدمة زوجته، حتى توفيت زوجته فأصبحت هي مدبرة المنزل، وأثناء ذلك تعرفت على بخيت، وكان أفطس الأنف أجعد الشعر خشن الملامح، يعمل بالأجر في مختلف الأعمال اليدوية، فكانت تلقاه في السوق وتجالسه عند بسطة أحد أصدقائه، وقد أعجبتْ به، وأُغْرِم بها.

    لكنّ ثيودورا تاقت إلى مصر وتدبرت حيلة للهرب، إلا أن مهربيها خانوها، وسلموها إلى رجال سيدها، وحملت إلى منزله وضربت حتى ماتت، وفقد بخيت صوابه حين علم بموتها، وأصبح مخبولا يمشي في الشوارع سكران، وقد أمسك به جنود المهدي على تلك الحالة، فأخذوه إلى السجن، ليؤدي عقوبة تعزيرية، لكنّ الإهمال واللامبالات السائدة في السجن جعلته يقضّي فيه سبع سنوات شهد فيها أنواع العذاب والإهانة ما وضعه على شفا الموت مرات عديدة، ثم خرج أثناء الفوضى التي أصابت الخرطوم بعد استيلاء الجيوش المصرية البريطانية عليها، وبعد خروجه يبدأ بخيت في قتل الرجال الذين قتلوا ثيودورا واحدا واحدا، ويقع في الأسر وقد قتل منهم ستة وبقي واحد، لم يتمكن من الوصول إليه.)

    وبعد أن لخص الرواية قدم النقد المختصر الآتي:

    ( لكنّ الرواية لا تخلو من عدة مشاكل، فعلى مستوى البناء الفني، نجد أن الكاتب قد أكثر من عملية الاسترجاع (الفلاش باك) مما يسبب تشويشا يجعل القارئ في بعض الأحيان لا يتبين هل هو أمام لحظة حاضرة أم لحظة ماضية، فتصعب عليه إعادة بناء الأحداث، ففي الفصل 5 يبدأ الفصل باسترجاع لحياة السجن، ثم فجأة يقفز إلى أحداث حياة بخيت الحاضرة أثناء عمله في السُّخْرَة، ودون أن نجد ما يوضح ذلك الانتقال، وكأن حوادث السخرة تلك وقعت أثناء السجن، وربما تكون هيمنة الراوي العليم على كل مفاصل السرد، وغياب صوت الشخصية هو ما سبب ذلك، لأن الاسترجاع في الغالب يكون عن طريق ضمير المتكلم، والصوت الداخلي للشخصية، وهي تستعرض في ذهنها ماضي حياتها، ويحتاج تعدد الأزمنة إلى تعدد الأصوات، وتعدد تقنيات السرد، لكي تكون لدى الكاتب مرونة في التنقل، فعن طريق الذاكرة مثلا تستطيع الشخصية أن تقفز من الحدث الحاضر إلى أحداث ماضية، لكنّ الرواي العليم الذي يروى عن الشخصيات لا يستطيع ذلك،.

    من المشكلات الفنية أيضا اشتمال الرواية على حكاية طويلة امتدت على عشرات الصفحات هي حكاية للدرويش الحسن الجريفاوي، وهو شخصية ثانوية لا يرد له دور في الأحداث الفعلية إلا في اللحظات الأخيرة عندما أمسك هو ورجاله ببخيت واقتادوه مكبلا بالأغلال إلى المسلمية ليشنق فيها، وذلك بعد أن قتل بخيت سيده التاجر إبراهيم ود الشواك، فتلك الحكاية الطويلة عن حياة الجريفاوي وعبادته ودروشته، ثم نهضته في الجهاد لا علاقة لها بمتن رواية بخيت وثيودورا، ويمكن حذفها دون أن تترك أي خلل في الرواية، والعجيب أن تسمية العنوان "شوق الدرويش" مستوحى من حكاية الجريفاوي لأن بخيت لم يتدروش، ودخوله الجندية لفترة قصيرة كان فرارا من المجاعة.

    على مستوى المنظور الفكري إذا تجاوزنا حيلة التشويق التي وضعنا فيها الكاتب في البداية، والتي لم يلبث أن حلها حين عرفنا أن بخيت قتل غرماءه، إذا تجاوزنا ذلك فإن الرواية تبدو عادية خالية من أية دهشة، أو منظور فكري واضح، وهي في الأصل قائمة على علاقة حب غير منطقية بين عبد - قبيح كما تصفه الرواية – وفتاة بيضاء بارعة الجمال، تمنّعت على سيدها الثري وابنه، ولم يكن بخيت منديل نصرانيا فيكون ميلها إليه وسط أمة من المسلمين مبررا، ولم تكن تريده أن يهرّبها ويخلصها من عبوديتها فيكون ذلك معقولا، ولم يكن واقعا في العبودية حين التقته فيكون ميلها إليه من باب الاشتراك في الهم، وكان بيت سيدها مليئا بالعبيد الذين قد يكونون أحسن منه طلعة، وحتى إن سلمنا بامكانية علاقة الحب تلك فإننا نجد أنها ظلت باهتة متوقفة في نقطة واحدة، ولم تتحرك إلا عندما أراد بخيت الانتقام لثيودورا، فحبهما لم تعانده قوة تقف في وجهه، وتصارعه وتعطيهما فرصة الكفاح من أجله، وبالتالي بعده الإنساني العميق، وليس أدل على ذلك من كون ثيودورا لم تمت من أجل الحب، بل ماتت وهي تحاول الهرب إلى مصر، وبخيت لم يقتل الرجال الستة لأنهم ظلموه ووقفوا في وجه حبه، بل لأن حظهم السيء جعلهم يشاركون في قتل ثيودورا، وهذا يسلب فعل بخيت بعده الإنساني ويحوله إلى مجرد عملية انتقام دامية.

    إذا عدنا إلى الفترة السياسية التي اختارها حمور زيادة لروايته، وهي فترة روائية خصبة على عدة مستويات، فهناك صراع سياسي عسكري بين أطراف متعددة للصراع، هي الأتراك والإنجليز والمصريون وحركة المهدي، وهناك صراع إيماني بين الدروشة وحياة الإنسان العادي، وصراع ديني بين المسيحية والإسلام ، وهناك صراع من أجل لقمة العيش في زمن اجتاحت فيه السودان مجاعة مرعبة، وقد حاول زيادة رصد كل ذلك، ونجح في جوانب كثيرة منه، لكن اتخاذه لتلك الصراعات كلها كخلفية لحدث الحب بين بخيت وثيودورا قلل من التركيز على تلك الصراعات، ومن دورها في الأحداث، وجعل رؤية الكاتب لها مشوشة، فهو يقدم صورة ناصعة للدرويش حسن الجريفاوي، في نفس الوقت الذي ينظر فيه إلى ضابط الاستعمار الإنجليزي غوردون باشا الذي كان حاكما للخرطوم وقتله جيش المهدي على أنه "حاول نشر الأمل في مدينة (الخرطوم) يخنقها اليأس"، هذا التذبذب حاصل أيضا في حياة ثيودورا نفسها، فهي جاءت لتُنَصّر أبناء السودان، فأمسك بها رجال المهدي وأرغموها على الإسلام، فسعيها لم يكن برئيا في البداية لكي تثير تعاطف القارئ في ما آلت إليه في النهاية، والأمثلة على هذا الاضطراب والتذبذب كثيرة في الرواية، وربما كان تركيز الكاتب على علاقة الحب الباهتة وسيلة للخروج من تلك الأسئلة المستعصية التي رمى بنفسه فيها من غير أن يكون قد عرف كيف سيخرج منها.)

    وفي نفس الاتجاه النقدي علقت أريتا كيرينيا :

    (لم استسغ العاطفة الجياشة ، المغرقة فى الرومانسية عند "بخيت منديل" تجاه "ثيودورا/حواء " رغم وجود "مريسيلة " الحسناء السودانية التى بذلت أقصى جهدها مضحية بالكثير لاسترضائه، كما لم افهم الدوافع أو المبررات النفسية "لبخيت منديل" بأصراره على الانتقام لحبيبته التى لم ترق أو تلين أمام كل تلك العاطفة القوية النبيلة .

    إيضا لم أجده تصرف مفهوم من سعيد أفندى المالك المصرى للعبد" بخيت منديل " بإعطائه حريته و ومنحه كمية كبيرة من المال ، رغم فقره وعوزه وسعيه لجمع المال .)

    وأنأ أضيف هنا بعض الملاحظات دون التورط في النقد الأدبي :

    (1) في إسم الرواية: شوق الدرويش

    بطل الرواية ليس درويشاً – حتى في عرف أعداء المهدية- فهو ينتمي لمجموعة الرقيق السابق للمهدية والذين نالوا حريتهم بقيام المهدية وانضمامهم للجهادية. أما الدرويش في عرفهم فهو من آمن بالمهدية وقاتل عن إيمان بها.

    في معنى الشوق:

    إفتتح الكاتب روايته بمقولة إبن عربي ( كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه) وقد وردت هذه المقولة في رسالة الذي لا يعول عليه أو ما لا يعول عليه (لإبن عربي) وهي مجموعة من الحِكم والأحكام تفوق الثلاثمائة.

    واختتم روايته بأبيات ذكرها ابن عربي في مفتتح الباب الثمانين ومائة والذي عنوانه ( في معرفة مقام الشوق والاشتياق وهو من نعوت المحبين العشاق) من كتاب الفتوحات المكية. قال:

    شوق بتحصيل الوصال يزول

    والاشتياق مع الوصال يكون

    وأول ما يلاحظه المرء هو أن تعريف ابن عربي للشوق والاشتياق والفرق بينهما ينسف مقولة الافتتاح، يقول ابن عربي:

    (الشوق يسكن باللقاء فإنه هبوب القلب إلى غائب فإذا ورد سكن والاشتياق حركة يجدها المحب عند اجتماعه بمحبوبه فرحا به لا يقدر يبلغ غاية وجده فيه فلو بلغ سكن لأنه لا يشبع منه فإن الحس لا يفي بما يقوم في النفس من تعلقها بالمحبوب)

    (فالشوق ما سكن والاشتياق ما بقي)

    فكلامه هنا قد جبّ المفتتح لأن الشوق هو ما يسكن باللقاء عكس الاشتياق . إلا أن يكون المفتتح إشارة – وبتأويل بعيد- لشوق ميتافيزيقي وبطل الرواية بعيد عنه. ويرتبط الشوق بالحب عند ابن عربي بلا انفكاك ، قال في الفتوحات : (ولما كان الحب لا يتعلق إلا بمعدوم كما قدمناه في باب المحبة كذلك الشوق لا يصح أن يتعلق بحاضر وإنما متعلقه غائب غير مشهود له في الحال ولذا كان الشوق من أوصاف المحبة ولهذا يطرد وينعكس فيقال كل محب مشتاق وكل مشتاق محب ومن ليس بمشتاق فليس بمحب ومن ليس بمحب فليس بمشتاق)

    وارتباط الشوق بالحب المرتبط بالغفران الصوفي أيضاً لاينطبق على بطل الرواية الذي طاح في الناس تقتيلاً دون مبرر. وابن عربي كما لايخفى هو صاحب أبيات المحبة المعروفة الواردة في ترجمان الأشواق وهي أبيات أُتخذت عنواناً للتسامح وراجت في عصرنا الحاضر أيما رواج:

    لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

    إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

    لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .

    . فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ

    وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ

    .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن

    أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .

    . ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني

    هذا، والأبيات مطبوعة طباعة رديئة وعلى شكل نثري متصل لا على هيئة القافية التي تختم البيت فتستقل به. وبها أخطاء طباعية فالهاء في آخر الكلمات تكتب تاءاً (فربه =فربة، صعبه = صعبة) والحرف (من) ساقط من البيت:

    هو من صفات العشق لا من غيره *** والعشق داء في القلوب دفين

    وهناك شك عظيم في فهم الطابع لكلام إبن عربي ولكن ما بال الكاتب والمصححين.

    (2) تغيير إسم أحد أبطال الرواية:

    وهناك خطأ فني فادح في الرواية لا أدري كيف فات على الكاتب ومن استشارهم في العمل وعلى المصححين، وإن عذرناهم فكيف نعذر لجنة التحكيم الخماسية ؟ وقد وقع الخطأ في اسم شخصية مهمة في الرواية وهي شخصية عبد القيوم، إبن إبراهيم الشواك الذي صارت البطلة جاريته، وله ولوالده معها حكايات وحيث كان هو من طلب من البطل دفن البطلة بعد موتها الخ. نجد أن الكاتب قد نسي إسمه فصار في نهاية الرواية عبد الغفار بدلاً عن عبد القيوم ، وتكرر الإسم مرات عديدة فيصعب عزو ذلك لخطأ طباعي.

    (3) أخطاء وتصويبات:

    هناك بعض الأخطاء التاريخية في الرواية أخطاء حقائق ووقائع وليس قضايا رأي أو فن فعلى سبيل المثال:

    • قال الكاتب عن ثورة اليونان 1862: ( الثورة التي أجبرت الملك على التنحي لإبنه . ما فهم قط عواصف السياسة التي منحت البرلمان سلطات أكثر على حساب الملك) ص 65-66

    والصحيح أن أوتو ملك اليونان لم يتنح لإبنه. بل لم يكن له إبن أصلاً حسب بعض المصادر التاريخية ولكنه أجبر على التخلى عن الحكم وجيء بأمير دنماركي. ولم يجبره البرلمان وانما أجبره الجيش. فقد خضعت اليونان للدول الثلاث بريطانيا وفرنسا وروسيا بعد أن تدخلت هذه الدول عسكرياً ودمرت الأساطيل التركية والمصرية أثناء حرب إستقلال اليونان عن الامبراطورية العثمانية في عشرينات وثلاثينات القرن التاسع عشر. ونصبت هذه الدول الأمير أوتو ابن لودفيغ الأول ملك بافاريا ليكون أول ملك على اليونان، وكان لايزال حينها في السابعة عشر من عمره. . أجبر الملك أوتو من قبل العسكر على قبول دستور للمملكة عام 1843. وفي عام 1862 خلعه الجيش عن العرش ونفي مع زوجته أميليا ليستبدل في العام التالي بأمير دانمركي هو كريستيان ويليام فرديناند أدولفوس جورج، الذي أصبح جورج الأول ملك اليونانيين.

    • وقال في صفحة 131 عن الخرطوم: (أنشأها خورشيد باشا):

    والصحيح أن الخرطوم باتفاق المصادر كانت معسكراً لجيش الاحتلال التركي المصري ثم تحولت إلى عاصمة في عهد عثمان جركس باشا في عام 1824 وليس صحيحاً أن مؤسسها خورشيد. كان عثمان فظاً غليظ القلب فنكل بالناس واتسم عهده بالظلم والقسوة ... وقبل أن تتم له إقامة ثمانية أشهر في إقليمه الجديد أصيب بالسل وقضى نحبه وكان أول دفين من العظام في العاصمة التي أسسها حسب تعبير شبيكة

    • وقال أن عقوبة تدخين التنباك – في عهد المهدية- 3 أشهر سجناً والصحيح أن عقوبتها الجلد تعزيراً.

    • وذكر أن القهوة كانت ممنوعة في المهدية ولم أسمعه إلا منه، والغريب أن أوهروالدر ذكر القهوة عشر مرات في كتابه فمرة حينما أكرمه بها المك عمر وتارة عندما تحدث عن التجارة بين المهدية والحبشة الخ بل ذكر أن سوق أمدرمان في عهد الخليفة كان به قسم للقهاوي.

    • وقال الكاتب في صفحة 447: ( فحق عليه قول المهدي أن أقل أصحابه أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)

    والصحيح أن الامام المهدي قال أن أدنى أصحابه رتبة ينال رتبة الشيخ عبد القادر الجيلاني، وقد ذكر المهدي ذلك في عدد من المكاتبات فلا موجب لوهم إلا أن يكون كسلاً أو غرضاً وكلاهما مذموم.

    قال المهدي في خطاب إلى فرج الله قائد الحامية التركية بأمدرمان وقد استشهد كاتب الرواية بجزء منه: (فإن سلمتم لنا حزتم الكرم وصرتم من أحبابنا وأصحابنا الذين بشرنا سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأنهم كأصحابه رضوان الله عليهم وأدنى أصحابي رتبة ينال مقام الشيخ عبد القادر الجيلاني عند الله)

    وقال في منشور آخر لأهل الشرق يطلب منهم ملازمة عثمان دقنة: ( وأبشروا بما بشرني به النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن أصحابي كأصحابه وأن عوامهم لهم رتبة عند الله تعالى كرتبة الشيخ عبد القادر الجيلاني) ثم قال ( واعلموا أن من بايع الشيخ المذكور- يعني دقنة – فقد بايعني ومن استشهد معه فكأنما استشهد معي ومن صحبه فقد صحبني)

    • ذكر الكاتب أن جيش الغزو كان قوامه من المصريين وتتردد أطروحة أن الحكم الذي أعقب الغزو كان حكماً مصرياً وكلاهما خطأ بيّن.

    ( فالجيش الغازي كان يتكون حسب كتاب تاريخ قوة دفاع السودان من 25600 مقاتلا ثلثهم من الانجليز والثلث الثاني من المصريين والثلث الأخير من السودانيين الذين تركوا السودان قبل المهدية وسكنوا مصر) . وقال هولت إن ثلث جنود الحملة كانوا من البريطانيين (ص 271). وفي مصدر آخر جاء التقدير الآتي: (ولما هبت الثورة المهدية في السودان خرجت أعداد كبيرة من المجندين السودانيين إلى مصر. وشكلوا قسما مهما في الجيش المصري، فقد قدرت أعدادهم بـ 3700 سوداني من تعداد الجيش البالغ 12 ألف جندي. عاد معظم هؤلاء في حملة كتشنر وفي عام 1924م كان عدد السودانيين في الجيش المصري 11 ألفا من أصل 13 ألف جندي .)

    كانت القيادة العليا بلا ريب وباتفاق المصادر من البريطانيين.

    ولا شك أن مصر نفسها كانت تحت الاحتلال البريطاني المباشر بعد القضاء على ثورة عرابي رحمه الله والتي حلّ البريطانيون بعدها الجيش المصري وأعادوا تكوينه.

    أما طبيعة الحكم فقد كان حكماً ثنائياً إسماً بريطانياً في حقيقته، فالحاكم العام تسميه بريطانيا وتوافق عليه مصر ولم يحدث أن سمت بريطانيا حاكماً غير بريطاني. وكل المناصب العليا العسكرية والسياسية والإدارية يشغلها بريطانيون واحتُفظ للمصريين بالوظائف الدنيا.

    وكما قال أحدهم: (وكما سيكتشف الوطنيون المصريون سريعاً فإن "المنفعة" الوحيدة التي جناها المصريون من إتفاقية الحكم الثنائي كانت هي دعم الاقتصاد السوداني من الخزينة المصرية. لقد صنع المسؤولون البريطانيون كل القرارات الإدارية في السودان وحصدوا كل المكاسب السياسية)

    وقد ذكر كرومر رأياً إستغلالياً مسيئاً حول استعانة بريطانيا بالمصريين في حكم السودان أورده نوح سالومون إضافة للأسباب السياسية التي سنذكرها لاحقاً :

    (ربما كانت هناك أسباب أخرى تبين لماذا استجلب البريطانيون المصريين ليعملوا تحتهم. فبعد أن عدّد كرومر كل عيوب الشخصية المصرية -ومن بينها عدم حب الإستطلاع وإنعدام المبادرة، وغياب ملكة العقلانية، والقدرية والخضوع - علق على مزايا هذه العيوب بالنسبة للبريطانيين. يعلل كرومر قائلاً: بينما يقود الاختلاف الجذري في الشخصية بين الشرقي والأوروبي لعدم القدرة على الفهم المتبادل بين الجنسين، إلا أن هناك شرطاً إحترازياً واحداً هو بمثابة الرباط بين الجنسين. فبمجرد أن تشرح للمصري ما يجب عليه فعله فإنه يهضم الفكرة سريعاً . إنه مقلد جيد وسيعمل نسخة مخلصة جداً بل وأحياناً ذليلة جداً من عمل أستاذه الأوربي. ربما يكون تحضُّره مظهراً خادعاً قشرياً، إلا أنه سيتبنى الرسالة والمصطلحات والشعارات إن لم يكن روح النظم الإدارية الأوربية. وستكون تحركاته – حقيقةً – في أحيان كثيرة تحركات إنسان آلي، ولكن الإنسان الآلي المصنوع بمهارة بمقدوره إنجاز قدر عظيم من الأعمال المفيدة. ولن تنشأ ضرورة لتوظيف أعداد كبيرة من المرؤسين الإنجليز. ولكن في المقابل طالما كان للمصريين قليل من سلطة المبادرة ولايدركون في كثير من الأحيان بصورة جيدة أسباب معلميهم في توجيههم لإتجاه معين، فإن الانتكاسة ستحدث إذا تم سحب الإشراف الإنجليزي منهم.)

    قال اللورد كرومر : ( انجلترا وليست مصر هي التي قامت بفتح هذه البلاد) ( فخلال فترة الإعداد وتنفيذ السياسات كانت القيادة الأعلى واليد الطولى لبريطانيا ولذلك فإنه من السخف الإدعاء بأنه كان يمكن للحكومة المصرية إعادة فتح السودان دون مساعدة بريطانيا بالرجال والمال والقيادة العامة)

    (وقد وصف كرومر مهندس اتفاقية الحكم الثنائي وصفها أنها "مولود الانتهازية الانتقالي" والتي وضعت القيادة العليا العسكرية والمدنية في أيدي الحاكم العام الذي تعينه بريطانيا والذي يسير أمور الحكومة فعلياً في استقلال تام عن مصر )

    • وردد كاتب الرواية فرية الخطاب المدسوس المنسوب لخليفة المهدي والذي زعموا فيه أنه أرسله للملكة فكتوريا عارضاً عليها زواج الأمير يونس الدكيم . ولنا تعليق بعد إيراد الخطاب ونصه هو:

    خطاب خليفة المهدي إلى الملكة فكتوريا

    بسم الله الرحمن الرحيم

    وبعد فمن العبد المعتصم بمولاه القاهر خليفة المهدي عليه السلام عبد الله بن محمد خليفة الصديق إلى "عزيزة قومها فكتوريا ملكة بريطانيا"

    سلام على من اتبع الهدى . أما بعد فاعلمي أن الله عز وجل هو ملك الملوك القادر المقتدر الذي ليس كمثله شيء وجميع ما في الكون فهو في حيز قبضته لا يعجزه في الأرض ولا في السماء ولو أراد أن يهلك أعداءه في أقل من خطوة (خطرة) بال لكان جديراً بحصول مراده ولكنه لكرمه يمهل ولا يهمل ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين. وقد أرسل الرسل الكرام لإيضاح السبل للأنام وجعل نبينا محمداً خاتمهم رسولاً عاماً إلى كافة الخلق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً فكان ناسخ الملل وفاسخ الدول وكل من آمن به وصدق ببعثته فاز برضاء الله وأدرك من الحظ الأوفر ما تمناه ومن كفر به وأنكر بعثته باء بخزي من الله وصار إلى النار وبئس القرار.

    ولما كان المهدي المنتظر عليه السلام هو خليفة نبينا محمد الذي أظهره الله لدعوة الناس كافة إلى إحياء دين الإسلام وجهاد أعدائه الكفرة اللئام ، وأنا خليفته القافي أثره في ذلك فإني أدعوكِ إلى الإسلام فإن أسلمت ِ وشهدتِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واتبعتِ المهدي وأذعنت لحكمي فإني سأقبلك وأبشرك بالخير والنجاة من عذاب السعير وتكونين آمنة مطمئنة ، لكِ ما لنا وعليك ما علينا وتتصل بيننا المحبة في الله ويغفر الله لك جميع ما فرط منك في زمن الكفر كما وعد بذلك في قوله تعالى ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وإن أبيت إلا الجحود إعتماداً على ما عندك من الاستعدادات والجنود فاعلمي أنك في غرور كبير وبعد عن السداد والتدبير إذ أن ما نحن بصدده فهو الدين الحق الذي تكفل الله الملك القادر بنصرته وتأييده ورفع مناره وتشييده فلا طاقة لأحد بمقاومته ولا سبيل إلى مغالبته ضرورة أن قدرة الله غالبة فلا تقاوم وبطشه شديد فلا يُصادم. وإن كنت تظنين توهماً أن جيوش المهدية القائمة بتأييد السنة المحمدية مثل عساكر أحمد باشا عرابي الذين أدخلتِ الغش عليهم بالدنيا حتى افتتنوا بها عن دينهم وتخذلوا عن نصرته ومكّنوكِ من الاستحصال على البر المصري وصاروا أذلة أسرى لا يستطيعون المدافعة عن أنفسهم فهذا توهم فاسد وغرور كاسد فإن رجال المهدية رجال إلاهيّون طبعهم الله على حب الموت وجعله أشهى لهم من الماء البارد للظمآن فلذا صاروا أشداء على الكفار كأصحاب رسول الله الأبرار لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يثنيهم عما هم بصدده صدمة صادم بل لا يرون لجميع ما سوى الله التأثير لصدق يقينهم بربهم القدير ولا يريدون حياة الدنيا الذاهبة الساحرة وإنما يرون أن نعيمهم الدائم وعيشهم الناعم معد لهم في الدار الآخرة. بخلاف ذلك فإنهم لو صدقوا مع ربهم وكانوا على حسن إسلامهم وطرحوا حب الدنيا وراء ظهورهم وحفظوا الله فيما أمرهم به لأنجدهم بنصره ولما توصلت عساكركِ إلى هزيمتهم والاستيلاء على بلدهم ولو نظرت بعين البصيرة والإنصاف لعلمت الفرق. ثم مما يقضي عليك بتمني الغرور الفاسد منك أنك بعد أن بلغك ظهور المهدي المنتظر عليه السلام ومحاربة دول الأتراك له وظفره بهم في عدة وقائع سوّلت لك نفسك أن منك الكفاية لحربه والاستيلاء عليه فبادرت إلى إرسال أحد رجالك المشاهير المدعو هكس باشا ومعه جيش عرمرم مؤلف من أجناس شتى وعدد منوعة وذلك من بادي رأيك بدون إمعان نظر في العواقب بلا مشورة باقي الدول في ذلك توهماً منكِ أنك ستظفرين بالنصر على جند الله الغالب فعندما حضر ذلك الجيش في ألوف مؤلفة وعُدد معددة ما ثبت أمام حزب الله إلا نصف ساعة بل قضى الله عليه بالدمار والبوار عن آخره. وكان هلاك ذلك الرجل المدبر الشجاع بجيشه بأسباب سوء تدبيرك وكثرة غرورك ولم تغنِ عنه كثرة العدد ولا قوة العُدد بل صار إلى النار وغضب الجبار. ثم ما اعتبرت بذلك ولا دبرت حالك بل صرت تجهزين عساكركِ من بادي رأيك جردة بعد جردة بكل فج لمحاربة الله ورسوله ومهديه تارة بسواكن وتارة بدنقلة وتارة بوادي قمر حتى أهتكتِ (أهلكت) بسوء صنيعك من رجالك ما ينوف عن عدة ألوف. ومن ذلك هلك كثيراً ( كثير) من رؤساء رجالك المعروفين لديكِ بالشجاعة وحسن التدبير والثبات وقوة العزم كالجنرال غوردون باشا هلك بالخرطوم والجنرال استيوارت هلك بأبي طليح واستيوارت الثاني ومن معه من القناصل بوادي قمر وفلان وفلان وما يكثر عددهم من مشاهير رجالك كما هو بعلمك. ومع كثرة دعواكِ التقدم في مجالات الحروب وتفوهك بقوة البأس والشهامة فما بال عساكركِ رجعت من السودان القهقرى بالخيبة والهزيمة قانعة منها بالكلية ولا شك أن موجب ذلك الهرب محض الخوف من سطوة حزب الله الغالب كما هو بديهي وأنهم صاروا الآن إلى أسوأ حال وأضيق مجال تائهين في أودية الحيرة لا يهتدون إلى المخلص سبيلاً. وكل هذا من سوء تدبيرك واستبدادك برأيك عن باقي الدول ولو رفعت المشورة إليهم كما هو الواجب عليك لأرشدوك إلى ما يسكن روعك في الجملة وكانوا إما أن يشيروا عليك بالكف عن مصادمة حزب الله الذي لا طاقة لك بمقاومته وتكوني مقتصرة على محافظة بلدك لا غير وإما أن يمدوك بالرجال والأسلحة ويحزّبوك على حرب حزب المهدية وحينئذ لا يتوجه عليك العار وحدك عند حصول الهزيمة بل يكون ذلك بالاشتراك. والحاصل أنك أخطأت الرأي وصرت إلى نقص كبير ولا مخلص لك من ذلك إلا بالإنابة إلى الله المالك والدخول في ملة الإسلام واتباع المهدي عليه السلام فإنكِ إن فعلت ذلك وسلمت الأمر لنا تظفرين بمقصودك من السعادة التامة والراحة الحقيقية التي هي الفوز عند الله بدار النعيم المقيم الذي فيه ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

    وإن كنت لا تزالين على غرورك واستبدادك برأيك فأقدمي على حرب حزب الله بنفسك بجميع جيوشك واستعداداتك الحربية لنرى كيف عاقبة أمرك فتهلكي بحول الله وقوته أو تعذري من مات أو فرّ من رجالك الذين تطفّلوا على محاربة حزب الله بمقتضى غرورك.... واعلمي يقيناً أني مؤيد من عند الله وبه قوتي ونصرتي لا بنفسي فإني عبد ضعيف لا قوة لي من نفسي وإنما عصمتي بالله واعتمادي على الله وهو كفيل بنصرة من اعتمد عليه واعتصم به ومن ثم فكل من بادرنا بعداوة يقتل على يدنا بعون الله وقوته ولو كان الثقلين. فأعي ذلك جيداً ولا تغتري بما يلوح على نظرك من العدد والجنود فإن ناصية كل شيء بيد الله ولن يغلب الله أحد بل هو القاهر فوق عباده. وإنك إن لم تسلمي لأمر الله وتدخلي في ملة الإسلام واتباع المهدي عليه السلام فاحضري بنفسك وجنودك لحرب حزب الله وإن لم تحضري فاستعدي في محلك فإن حزب الله سيطأ دارك بإذن الله في الوقت الذي يريده الله ويذيقك السوء بما صددت عن سبيل الله وفي هذا كفاية لكِ والسلام)

    فالخطاب كما ترى ليس فيه ما أُلصق به – على سبيل السخرية والتنقُّص والزراية – من حديث عن تزويج الملكة بأحد أمراء المهدية . واستنكار الخطاب على كل حال ينم عن إحتقار للذات بلا ريب، فما الغريب في مخاطبة كائنٍ من كان إذا تعدى حدودك وجاء طامعاً في ممتلكاتك بأية لغة شئت؟ وما الغريب في تحدي الخليفة لها وقد سبق له الإنتصار على قواتها في عدة معارك كما ذكر هو نفسه، وما الغريب أن تنتصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة وتاريخ البشرية محتشد بأمثلة لا تحصى ولا تعد من طالوت وموسى ومحمد الذي سخر بعضهم منه صلى الله عليه وسلم بقوله: (كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.). وحتى إذا نحينا جانبا الجوانح المليئة بالأيمان والنفوس العالية العزيزة وأتينا إلى السياسة وخياراتها، فهل من الحكمة إبداء الاستعداد للمواجهة أم إظهار الاستكانة لتلك الدول التي اقتسمت القارة قبل أن تجيء إليها ؟ أليس من البديهيات أن كلفة قهر المقاوم أكثر من كلفة قهر القانع وأن التلويح بالقوة افضل لروح الجند والمواطنين ؟

    لم يكن في ذلك الخطاب غرابة فأوربا كانت تحمل المهدية محمل الجد وقد استعانت ايطاليا ببريطانيا لتخفيف ضغط الأنصار عليها واستجابت بريطانيا باحتلال دنقلا لجذب إنتباه الخليفة بعيداً عن كسلا. والانجليز أنفسهم أخذوا قوة المهدية مأخذ الجد فنالت أكبر قدر من الاستعداد العسكري والجهد الدبلوماسي المصاحب كما سنرى كما نالت حملتها أكبر قدر من التغطية الإعلامية. وكان من تكالب الاستعمار عليها أن حاربت البلجيك وفلول الاتراك والمصريين ومرتزقة الأوربيين في الجنوب وحاربت الطليان والإنجليز والاتراك والمصريين وأذنابهم في الشرق وحاربت الغزو البريطاني المصري المطعم بمرتزقة من الشمال وكان الفرنسيون على أعتاب فشودة.

                  

03-03-2016, 08:25 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    نواصل
                  

03-03-2016, 10:00 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة الثالثة

    الفصل الثاني:

    1) نبيذ قديم في قناني أقدم

    (1)

    شوق الدرويش ...دعاية أوهروالدر في ثوب روائي جديد وبرواية أحد السكان الأصليين بعد أن نزع منها ما أفلت من أوهروالدر وونجت من محاسن وحقائق. أكثر فيها الكاتب من رؤيته العنصرية الكارهة لقومه مع نزع كل خير عنهم ووصمهم بكل شر. هذا هو الانطباع الذي جال بخاطري بدءاً ثم ترسخ بعد النظر والتأمل فهالني ما قرأت.

    أول ما لفت إنتباهي للتماهي مع كتاب أوهروالدر ( عشر سنوات في أسر معسكر المهدي) هو أخذه صورة الغلاف من كتاب أوهروالدر . وهي صورة أخذت بالقاهرة لأوهروالدر والراهبتين كاترينا تشينكاري واليزابيتا فينتيوريني وأمتهم عديلة (slave girl) بعد تهريبهم الذي أشرفت عليه مخابرات الجيش المصري- مكتب الحرب وموله الكاهن سوقارو وشهد على عقد الاتفاق بين الكاهن والمهربين ونجت وتم ختمه وايداعه في مكتب الحرب. والوثيقة بكاملها موجودة في كتاب أوهروالدر/ونجت.

    وثاني ما انتبهت له في ذلك التماهي أن بطلة الرواية سافرت في نفس الرحلة التي سافر فيها أوهروالدر ووصفها في كتابه باليوم والتاريخ والصحبة وخط السير . ويمضي كاتب شوق الدرويش في النسج على منوال (أوهروالدر/ونجت) في العنصرية والاستعلاء بعد أن ينزع كل ملمحٍ خيّرٍ أو إنساني عن بلاده الأم.

    وكان كتاب أوهروالدر جزءاً من السلاح الذي تم به غزو السودان. والكتاب في أصله كتبه أوهروالدر بالالمانية ثم ترجمه يوسف كوزي للانجليزية ثم حرر الكتاب وعدل فيه رئيس قلم المخابرات ونجت الذي كتب كتاب المهدية والسودان المصري وهو مختصر لكتاب أوهروالدر. والحقيقة أن الكتاب قد أعاد كتابته ونجت كما توضح المعلومات المذكورة فيه : اسم الكتاب ( عشر سنوات في أسر معسكر المهدي 1882-1892 مأخوذ من المخطوطات الأصلية للأب جوزيف أوهروالدر القسيس السابق للبعثة النمساوية بالدلنج، كردفان. بقلم الميجور ف. ر. ونجت مدير الاستخبارات العسكرية بالجيش المصري وصاحب كتاب المهدية والسودان المصري)

    وفي المقدمة يوضح ونجت انه اقترح على أوهروالدر أن يكتب روايته الشخصية وتجربته المتنوعة والمُرّة. ويقول ( يجب أن نأخذ في الحسبان أن الظروف التي عاش فيها أوهروالدر في السودان منعته من الاحتفاظ بأي سجل مكتوب لحياته لذلك تم الاتفاق أن أشرف على كتابه الذي نادراً ما دعت الحاجة للاضافة إليه). ترجم السوري يوسف أفندي كودزي المخطوطة من الألمانية ترجمة عامة للانجليزية ( وقد أعدتُ كتابتها بالكامل في شكل سردي)

    كان الكتاب كما أراد له رئيس مخابرات الجيش المصري أن يكون، سلاحاً يهيء الرأي العام البريطاني ويضغط في اتجاه الموافقة على غزو السودان، وسنرى ذلك تفصيلاً في وقته لذلك جاءت خاتمة الكتاب نداءاً عاطفياً حاراً بضرورة "فتح " السودان محرضاً على المهدية التي تشكل خطراً في رأيه يمتد أثره لكافة دول الجوار الاسلامي التي ينظر أهلها للمهدي بإعجاب ممزوج بقلق حسب تعبيره وينبه إلى أن (ثورة المهدي قد حطمت تقدم 50 عاماً) حينما ( تقدم المستكشفون والمبشرون لقلب بلاد الزنج وغرسوا ديانة المسيح – تلك الراية التي تحمى العالم – في أبعد نقاط) (وأن عصابات المتطرفين زحفت على وجه الأرض محطمة كل أثر مسيحي وأن الخليفة عبد الله يقتلع بحماس كل أثر للحكم المصري وأنه ابتعد عن كل تأثير أجنبي فهو لا يريد شيئاً من خارج حدوده) ثم أخذ صراخه يشتد ( هل تظل الطرق التي تقود من حلفا إلى سواكن أغنى مقاطعات أفريقيا مقفلة) ثم يتحدث في لغة عاطفية ( باسم رفاق الأسر وباسم الشعب السوداني وباسم كل الأمم المتحضرة أسأل السؤال التالي: إلى متى تظل أوربا وقبل ذلك الأمة التي لها دور في مصر والسودان والتي قامت بحق بتحضير الأعراق المتوحشة إلى متى تنظر أوربا وبريطانيا العظمى ساكتة دون حراك لفظائع الخليفة)

    أعقب كتاب أوهروالدر/ونجت كتابات أخرى صبت في نفس الاتجاه وجاءت (مبررة للغزو الانجليزي المصري بحجة أنه سيحرر أهل السودان من ظلم الدراويش وينقلهم إلى رحاب الحياة المدنية التي بشر بها المستعمر الأوربي آنذاك وصاغ الحجج والبراهين المؤيدة لشرعيتها السياسية والموارية لسوأتها الامبريالية) بحسب تعبير د. أبو شوك.

    من تلك الكتابات كتاب "السيف والنار" لسلاطين و" سجين الخليفة " لنيوفيلد و "السودان بين يدي غردون وكتشنر" لإبراهيم فوزي وكلها ( كانت تصب في معين الحرب الدعائية التي نظمها قلم المخابرات)

    لم يعد هناك أدنى شك بعد مرور هذه الفترة الطويلة في أن تلك الكتابات لا تمت للتاريخ أو الواقع بصلة. بل لقد تم الاعتراف بذلك منذ وقت مبكر ومن ذوي البشرة البيضاء والعيون الخضراء أنفسهم، وسنرى فيما بعد أن هذا التوصيف ذو دلالة عميقة لكاتب الرواية.

    لقد كانت شهادة شرشل وهو الفتى القادم مع الحملة نفسها أكثر إنصافاً مع أنه كان أولى بالتحامل، فهو كان شاباً غض الإهاب يأتي في حملة عسكرية في أجواء مشحونة بالثأر لغردون وفي ظل تكالب إستعماري يغذي الروح الوطنية لكن كل ذلك لم يمنعه من ذكر الكلمات التالية: ففي معرض توصيفه لدور الإمام المهدي في السودان قال:

    (مهما قيل عن المهدي فيجب ألا ننسى أنه القائد الذي بث روح الحياة والأمل في قلوب بني وطنه. لقد كان هو الزعيم الذي حرر بلاده من الحكم الأجنبي وحول شعبه من حياة بائسة بلا معنى إلى حياة مفعمة ومليئة بالروعة، لقد أشعلت روح المهدي في صدور السودانيين المتواضعة شعلة الوطنية والانتماء للدين)..(ولذلك فإنني أعتقد أنه في سنوات المستقبل القريب إن هبت رياح التقدم والازدهار وأعقبها قطار الوعى والتعليم في ذات المسار لشعب وادي النيل فعندها لن ينسى أول مؤرخ عربي يود أن يوثق لتاريخ تلك الأمة أن يكتب اسم محمد أحمد المهدي في مقدمة أبطال شعبه)

    وتحدث عن خليفة المهدي في نفس الكتاب بعد معركة كرري وانسحابه: ( عندما وصل لم يكن معه رقيق وكان عاريا من السلاح بلا شك وكان للهاربين سبب وجيه ليكونوا متوحشين معه، لقد قادهم للدمار وكان قطع عنق هذا الرجل الوحيد سهلاً ومع ذلك فلم يهاجمه أحد)...( الطاغية الظالم كارثة السودان المنافق الخليفة المكروه والمجسد لكل الرذائل كما تم تصويره للعين الأوربية، هذا الشخص موضع الكراهية المُرّة من قبل مواطنيه كما هو الاعتقاد في أوربا وجد أمناً وترحيباً بين جنوده الفارين. سارع الأمراء الباقون على قيد الحياة لجانبه. عبر كثيرون منهم السهل المميت). ثم تحدث عن الشهداء ومضى للأحياء قائلاً: ( ومع ذلك فالذين بقوا أحياء لم يترددوا في ولائهم. علي ود حلو الذي تهشمت ساقه بشظية قذيفة لم يحس بالألم، شيخ الدين والمخضرمين عثمان دقنة وإبراهيم الخليل وغيرهم أقل شهرة ساروا إلى جانب الخليفة ولم يتخلوا عن قضيتهم حتى في هذه الظروف بالغة الشدة.

    سارعت إليه عبر الظلام المتجمع جموع المحاربين المبتئسين مشتتي الأذهان والذين ظلوا يحتفظون ببنادقهم المتهالكة. والجرحى كانوا يعرجون في منظر يثير الشفقة، كانت الجمال والحمير محملة بالأغراض المنزلية، النساء يبكين ويلهثن ويسحبن معهن أطفالاً صغاراً. ما يقارب ثلاثين ألفاً مع قليل من الزاد والماء الذي يبقيهم على قيد الحياة، الصحراء من أمامهم والزوارق الحربية تجوب النهر وشائعات المطاردة من ورائهم.)

    هذا ما كتبه تشرشل في ذلك الوقت. وبعد فترة تغيرت الدعاية الحربية التي صبغت كتابات الغزاة لتصير أكثر إنصافاً وموضوعية، وجاء جيل من الكتاب السودانيين انتقلوا من التأثر بتلك الكتابات مؤخراً بفضل تحول المؤرخين الأوربيين أنفسهم وبفضل توفر وثائق جديدة. قال مكي شبيكة ( وأثناء ما كنت أبحث وأحقق وأقرأ عن تاريخ السودان خاصة والتاريخ عامة ظهرت لي مفاهيم اعتقد أنها خاطئة في المنهج التاريخي لكثير من الذين كتبوا وخاطئة عن دوافع الثورة المهدية ورسالتها…….وفي هذا الجزء الأول أرجو أن يقتنع القارئ مثل ما اقتنعت بتصحيح المفاهيم الآتية) ثم ذكر الآتي ( لم يكن المهدي متعطشاً للدماء كما صورته بعض الكتابات.صحيح أنه يصر على اتباع المهدية ولكن بالحجة والبرهان وفي صبر وترى أنه يكتب ويكرر الخطابات للجماهير وللزعماء الدينيين وللعلماء قبل أن يرسل الإنذار النهائي وبالمثل يخاطب الجند والأهالي والقادة في الحاميات الحكومية ويكرر ذلك مراراً قبل أن يهاجمهم) .

    وقال هولت معضداً ما ذكرنا:

    ( يجب ألا نغفل الكيفية التي نمت بها ونضجت الأفكار المتواترة عن المهدية، إذ أنها لم تكن مجرد أفكار محلية أو متوارثة، بل جاءت نتيجة تأثرها بالحكم الانجليزي وما نشره من اتجاهات على مدى 50 عاماً أو يزيد. وقد هاجم معظم الكتاب الأول من الأوربيين المهدي وعهده ولكن الموقف تغير عقب وفاته إذ دُوفع عن ذكراه حتى من أعدائه وتغيرت النظرة إليه باعتباره رجلاً تعالى في تدينه وتفانى من أجل عقيدته..... بينما وجه إلى الخليفة نقد لاذع إذ صور باعتباره رجلاً قاسياً جاهلاً ولم تجر محاولة لإعادة تقييم صفاته وأهدافه قبل أن يؤلف ثيوبولد كتابه في 1949 وهكذا أصبح إهمال الخليفة أو تجريحه شيئاً عادياً تأثر به تدريس التاريخ في السودان وتأثرت به فكرة السودانيين الحديثة عن المهدية) وقال أيضاً ( وهذا التقييم الذي يعتبر سلاطين مسؤولاً عن كثير من جوانبه قد بالغ في إبراز عيوب الخليفة دون أن يعطي تفسيراً واضحاً للأخطاء) .

    وقال ثيوبولد:( سلاطين كان أقيم الأوربيين في نظر الخليفة وقد لقى معاملة عطوفة لحد التكريم وأُعطي منزلاً وزوجات ورقيق وبعد هروبه رد الجميل لآسريه بنشر كتاب السيف والنار في السودان الذي ركز فيه على الأحداث الأليمة وشوه الدوافع التي حدت بالخليفة إلى اتيان معظم أفعاله وجلّل اسمه بسواد سيلصق به إلى أجيال عديدة قادمة وأفلح في تصويره كطاغية متوحش متعطش للدماء)

    ومما يدل على أن كتابات هؤلاء كانت دعاية وليست حقائق ما ذكره ثيوبولد أنه اطلع على التقرير الرسمي الذي قدمه سلاطين لونجت فكان مختلفاً تماماً عما دبجه في كتابه ( يعني السيف والنار) الذي نُشر واطلع عليه العالم .بل وحتى بعد نجاح الغزو واحتلال السودان اختلفت التقارير الرسمية التي نشرت عن المعلومات في مفكرة يوميات الاستخبارات المكتوبة بقلم الرصاص والتي لم تنشر وتختلف كذلك عن تقارير قادة الحملة.

    وفي نفس الإطار مضى ألان مورهيد حينما تحدث عن أن الشعور العام في أوربا لاسيما في انجلترا هو اعتبار المهدية شراً مستطيراً، وعزا مورهيد ذلك العداء إضافة لهزيمتهم ورغبتهم في الثأرإلى أن المهدية تحدت العقيدة المسيحية وذكر أنه في جو الحرب يتم تضخيم كل شيء في إطار الدعاية وأن أي كاتب يقف موقفاً مستقلاً أو يطرح رؤى مستقلة دفاعاً عن العرب سيتهم بالخيانة. وأنه كان يتم حجب الاتصالات و"سنسرة" الآراء المحايدة. ثم يخلص مورهيد:

    ( من المستبعد أن يتحسس رجال أمثال أوهروالدر وسلاطين أية فضائل أو محاسن في آسريهم ومن المستبعد أنهم حتى كانوا يلمون بحقائق الأمور بالضبط فقد نظروا للأمور من مواقفهم كأسرى.)

    ويقول زلفو:( وإن كان هذا مفهوماً – أي الكتابات المتحاملة – في العصر الفيكتوري فهو ليس بالمعقول ولا المقبول الآن وهناك عشرات الألوف من الوثائق تغطي كل أحداث عهد الخليفة وتحكي الحقيقة. فاستمرار هذه السمة حتى الآن جريمة تاريخية كبرى) .

    وقال البروفيسور نوح سالومون استاذ الأديان الأمريكي بكلية كارلتون في ورقة قيمة عن المجهودات البريطانية لنقض المهدية ومحو آثارها:

    ( وقبل بدء غزوهم الوحشي للعاصمة السودانية في سبتمبر 1898 كانت الإدارة البريطانية قد بدأت حملة علاقات عامة وضعت غزو المهدية ليس فقط تحت اسم الشفقة على الشعب السوداني ولكن أيضاً دفاعاً عن الفهم البريطاني للإسلام الصحيح... في الحقيقة فإن الرأي العام البريطاني كانت تتم تغذيته باستمرار بدعاية مصنوعة بعناية عن انتهاكات نظام المهدية...كان صانع البروباقاندا ( الدعاية ) الرئيسي للحكومة البريطانية ضد المهدية هو فرانسيس ريجنالد ونجت والذي كان وقتها مدير الاستخبارات العسكرية في القاهرة.....أثناء تعيينه بالقاهرة رتب ونجت هروب إثنين مهمين من أسرى الخليفة النمساويين: أوهروالدر وسلاطين...وبعد أن استخلص منهما المعلومات ونقحها عبر القنوات العسكرية المناسبة كتب قصتهما الشخصية في الأسر ونشر الكتابين بعنوان "عشر سنوات في أسر معسكر المهدي" و "السيف والنار" هذه القصص المختتمة بصور ملطخة بالدماء والتي تصور وحشية وبربرية الأنصار سببت هياجاً عظيماً في إنجلترا.....هذان الكتابان مع كتاب شارلس نيوفيلد "سجين الخليفة: إثنا عشر عاماً من الأسر في امدرمان" والذي نشر بُعيد الاحتلال، بررت – ثلاثتها- الغزو للرأي العام البريطاني ومع ذلك فإن الكتاب الذي وصف بصورة قاطعة ونهائية انتهاكات المهدية كان كتاب ونجت نفسه "المهدية والسودان الآنجليزي المصري" المنشور في 1891.)

    ولن نطيل في كتابة التاريخ وارتباطها بالغرض ولا الكم الكبير من الوثائق المزورة ولا الكم الهائل من الوثائق المخفية إلى حين ولا المُبادة وكل ذلك معروف ولكنه قد يطيل الحديث ويخرج بنا عن السياق المقتضب الذي نريده. أنظر الهامش

    ومع ذلك فلم يخل كتاب أوهروالدر/ونجت من لمحات نطق قلمهما فيها بالحقيقة سنعرض لها في حينها جرياً على المقولة الإنجيلية ( من فمك أدينك) والفضل ما شهدت به الأعداء.

    رواية شوق الدرويش بدت كأنها سباحة عكس تيار الوعي والتاريخ، فهي لم ترهق نفسها بقراءة مصادر أخرى للتاريخ ولا ما توفر من معلومات ووثائق ولا نظرت للوقائع في سياقها الكلي التاريخي بعد انحسار غبار المعارك وانجلائها وخفوت صوت إعلامها، ولا استفادت من المراجعات الكثيرة التي حدثت في المواقف: مواقف الدول الاستعمارية ومواقف المؤرخين ومواقف أهل السودان أنفسهم من أيد المهدية ومن عارضها. وحري بالكاتب الجاد أن يلم ببعض ذلك. وأكثر من ذلك فقد تبنت أفكارا غاية في الرجعية والعنصرية.

    (2) متلازمة العنصرية وإحتقار الذات وتمجيد الجلاد

    للرواية رؤية واضحة ومشاعر قوية عن ناس وأماكن وأحداث تلك الفترة. تبرز تلك الرؤية وتلك المشاعر طوراً من خلال أبطال الرواية وتارةً على لسان الراوي، الراوي العليم كما يسميه نقاد الأدب، وفي أحايين أخرى يندغم الراوي في بطلته البيضاء ومن خلفهما شبح أوهروالدر/ ونجت .

    أما من حيث الناس فيتربع الأوربيون على قمة التصنيف بلا منازع إذ يتم تصويرهم على أنهم رسل الحضارة والمدنية والعقلانية ويتسم مظهرهم بالنظافة ويتفنن الكاتب في التغزل في لونهم الأبيض ويندغم بياض الأجساد مع الملائكية. كما يتم تصويرهم كمحررين. ويليهم في الترتيب وفي الصفات الأتراك والمصريون، وإذا حدث أن أضطر الكاتب للمقارنة فللأوربيين القدح الأعلى على هاتين الطائفتين، حيث أن خيرهم قد شملهما فلا ينكره إلا جاحد. كما يتم تصوير ديانتهم ( في نظر الكاتب إذ المسيحية لا تُنسب إليهم) باستمرار بصفات الايجاب عكس النظرة السالبة للاسلام.

    ويأتي أهل البلاد في الطبقة الأخيرة، ولكن الكاتب لا يتحدث عنهم بإشفاق ولا حتى بحياد بل بلغة هي للكراهية والتأفف والاحتقار أقرب منها لتقرير الواقع الاجتماعي في ذلك الزمان. يصب الراوي جل غضبه على قبح هيئات السودانيين وسوء طباعهم وكان للسواد نصيب الأسد فلكل إمرءٍ من اسمه نصيب!. ولا يتم ذكرهم إلا متبوعاً بالتشنيع عليهم إما بلونهم أو صفاتهم الجسدية أو الخلقية. وسأورد أمثلة كثيرة أرجو أن يتسع لها صدر القارئ الكريم.

    أما من حيث الأماكن فيتبع وصف المدن وصف ساكنيها حيث تنهال اللعنات على بلاد السودان ومدنه. وأما من حيث الأحداث فالكاتب يتبنى تماماً موقف الكتاب الأم فيرى في الاستعمار البريطاني لمصر رسالة تمدينية ويرى مقاومته جحوداً مصرياً ويكرر وصفه لحركة عرابي بأنها "هوجة" وفوضى وتمرد على أحسن الأحوال. ويصف عرابي بوصف نعف عن ذكره منفرداً هنا وسنأتي به في ثنايا الاستشهاد إن شاء الله.

    أما فيما يلي السودان فيرى الكاتب أن الحكم المصري التركي رغم أخطائه كان خيراً للسودان من المهدية، التي يراها حركة دراويش متوحشين قساة وانها استغلت نزعة الشر والبربرية الكامنة في الشعب السوداني، ونزعة الغيب واللامعقول فاثمرت توحشاً طال ملائكة الرحمة رسل الحضارة من الأوربيين والأتراك والمصريين كما طالت أبناء البلاد أنفسهم فانقلبت عليهم وأكلتهم فارتدوا عنها إلى أن جاءت سنابك كتشنر فدكت دولة الشر وحررت السودان ووضعته على طريق المدنية.وللوصول لهذه الخلاصة يتحدث الكاتب بطريقة مسيئة عن المهدية وقائدها وقادتها ويسفه أحلامها وأحلام أتباعها في مفارقة واضحة لنبرة التبجيل لقائد المعسكر الآخر وإنسانيته ونبله وبطولته وشعبيته وسط السودانيين كما سنرى.

    وفي سبيل الوصول لفكرته أيضاً تبنّى الكاتب كتابات الدعاية الحربية آنفة الذكر لاسيما عمدتها، والثيمة الأساسية فيها كانت ضرورة إنقاذ السودان من شر المهدية ولكن الكاتب كما أسلفت يتطوع بتصفية ملامح الخير التي تسربت من تلك الكتابات ويضيف اليها تهماً جديدة مخترعة تطوعاً من عنده. وهذا أحد المآخذ عليه.

    وفي السياق الكلي أرى أن الكاتب تبنى آراء غاية في الرجعية والاستلاب: الرجعية حينما نضحت صفحات الرواية بمفاهيم عنصرية حاطة لكرامة الانسان، وحينما أعادت نفس المبررات الواهية للاستعمار بعد أن تخلى الاستعماريون أنفسهم عنها واعتذر بعضهم عنها.

    أما الاستلاب فقد كان في التماهي مع الاستعمار والنظر من زاويته السياسية والثقافية والاجتماعية وتبنى حتى نظرته الجمالية. وباختصار فالرواية تجسيد كامل مستنسخ للنظرة الخديوية الخاضعة للنفوذ الأجنبي المعطلة لامكانات النمو الذاتي المصري نفسها.

    وبعد، فهذا أوان نبدأ ذكر الشواهد التي تكفي بنفسها للدلالة ولا تحتاج تعقيباً ثم ندلف للفصول التالية التي تناقش دعاوى الكاتب حول المهدية ووقائعها وواقعها وموقعها من أهل السودان وتاريخهم ومن السياق الاجتماعي والتاريخي للانسانية من حيث قضايا الرق والاستعمار ونشوء الوطنية وحقوق الانسان وهلمجرا.

    قال الكاتب ما يلي من عبارات تفصح عن نفسها ولا تحتاج إلا القليل من التوضيح:

    ( العساكر السودانية تنهب البيوت) ص 12 ويعني العناصر السودانية ضمن الجيش الغازي.

    (الأَمة السوداء) ص 25

    ويذكر مكونات الجيش الغازي ويقول ( بعض كتائب من العسكر السودانية هم الأشد غلظة على بني جلدتهم) ص 45

    ( لا يأتي من هؤلاء البرابرة خير) ص 72

    (تمجد الرب لأنه خلقها بيضاء. تشفق على من شوههم السواد) ص 130-131

    (تقاربها في البياض المشرق) ص 130

    ويقول عن بلاد السودان ( بقعة من الظلام) ص 131

    وعن سكانها ( هل رائحة السود قبيحة كلون بشرتهم) ص 132

    ويصفهم بالعبيد ذرية العبيد ( يذكرها الأب بولس بخبر أبناء نوح : حام دعاه أبوه عبداً لإخوته وأبناءه عبيداً لأبنائهم) ص 132

    ( رائحتهم قبيحة عطنة . رائحة ثقيلة كفاكهة عفنة أما عرقهم فسام) ص 132

    ( ليس فيهم سحر المصريين ولطفهم) ص 132

    ( طبعهم الغدر. متوحشون لكنهم كحيوانات المزرعة فكوني أنت الراعي لخراف الرب السوداء) ص 132

    ( أما الأهالي فسود جلودهم غليظة) ص 133

    بعد وصول البعثة التبشيرية واحتفاء الأتراك والأوربيين بأفرادها يقول: (اعتبروهم إضافة إلى رسالة الحضارة التي تنحت في صم بربرية البلاد) ص 134

    ( ترقب المارة السود كخنافس نشطة) 134

    (يرتدون شقة من الدمور بلا سراويل ويسيرون حفاة تفوح من شعورهم الخشنة الثائرة) ص 134

    ( ثيودورا تحس الظلام يشع من سواد البشر) ص 134

    (هذه البلاد الساكنة ليس فيها ما يشد القارئ لو كنا ذهبنا إلى الحبشة) ص 139

    ( الحرس الخمسة شديدو السواد) ص 141

    ( شاب.... أسود ككحل العين) ص 142

    ( على عكسها هي اليونانية المصرية البيضاء) ص 142

    وعن تناسلهم يقول ( أبي كان سيصبح ديكاً فخوراً في بلاد كهذه) ص 143

    ( ولدت وعاشت مدللة جارة للمتوسط تقضي حاجتها في صحراء بلاد السودان ..يا أبانا الذي في السماء امنحها القوة) ص 145

    ( هذه بلاد شريرة إنهم يذبحون الغزلان) ص 148

    (قبائل الجبال سود.. رجالها عراة) ص 153

    (لونها كنحاس متسخ ) ص 153

    وعن بربر: ( مدينة كالحة فقيرة) ص 157

    ( لديه حس اجتماعي لا يناسب البرابرة) ص 157

    ( من يتخيل أن هذه البلاد الموحشة يغني أهلها هذا الكلام) ص 159

    ( إنه مجرد بربري أسود يا هوتنسيا) ص 159

    ( جماعة من الأتراك والأوربيين العاملين هنا . لطاف يحبون الحياة) ص 160

    ( إنهم – اليونان والمصريين- ظرفاء حقاً) ص 160

    الخرطوم ( رائحة المدينة تعبق بالأريج الذي يغطي على رائحة الأهالي الغريبة) ص 160

    ويقول متحيزاً ضد عرابي والمسلمين: ( وقائع ما، هوجة وجنون في الاسكندرية، قتل المصريون المسلمون الناس في الشوارع)

    الخرطوم ( إنها ليست مدينة هذه قرحة عفنة) ص 164

    ( بعد تسعة عشر عاماً هنا أصبحت بربرياً تماماً. حتى لوني أوشك أن يتحول إلى اللون الأسود) ص 164-165

    ( أما لوني فصار أسود لا يناسب إلا هذه الأرض) ص 165

    ( لكن الخادم السوداء انتصرت) ص 166

    ( في معية خصي أسود) ص 168

    ( دينهم غريب) ص 169 ( الحارس الأسود) ص 169

    (مدن مختلفة يسكنها البرابرة السود) ص 171

    (تشرف على أربع من الخادمات السود) ص 173

    ( البلاد الأوربية السوداء) ص 175

    ( جنود الحامية....كلهم من السود) ص 176

    ويسخر قائلاً: ( وهم يقسمون السواد إلى ألوان عجيبة فيقولون رجل أزرق للحالك السواد ورجل أخضر لمن كانت سمرته غامقة والأبيض عندهم مضحك) ص 177

    ويقسم سكان السودان تقسيماً عنصرياً: ( سكان السودان شعوب مختلفة وقبائل عدة. أكثرهم عدداً السود وهم زنج من سكان أفريقيا الأصليون هؤلاء أدنى سلالات البشرية. لا يوجد منهم في الخرطوم إلا العبيد) ص 177 الصحيح الأصليين .

    ( العرب ...فيهم بقية من وحشية يسهل أن نخلصهم منها) ( آحاد من الزنج أهل البلاد) ص 178

    (أنجيلا فتاة سوداء ) ص 183 ( ظهر الفتاة السوداء) ص 184 ( ظهرها الأسود كساه الدم) ص 184

    ( هذا حكم هين تذكري أن المسلمين يقطعون الأيدي) ص 185

    ( الانسان متوحش ناكر للجميل ..سرقت اليوم خادمة سوداء صليبي الفضي) ص 186

    ( كره المصريون الأوربيين الذين ما حملوا لهم إلا كل خير . تنكروا لجميلهم) ص 187 ( بلايا ما بعد هوجة الفلاحين معية عرابي) 187

    الخرطوم ( القساوسة الذين يحاربون الفجور يحبونها رغم فسق أهلها وبيوت دعارتها وحفلات اللواط الدائمة) ص 188

    عن فضل العزيز قال ( كتلة سوداء متغضنة) ( لم تصدق قط أن هذه العجوز كان لها ملاحة تؤهلها لذلك) يعني للعمل مع فرقة الغوازي المصرية ص 191

    ( لن يهزم البرابرة السود الحكومة) ص 195

    ويمجد غردون قائلاً: ( البطل الانجليزي الشهير غردون) ( والسودانيون يحبونه)

    وعن المهدي يقول ( متعصب مسلم يدعي أنه مبعوث من الله لحرب الكفار) ص 190

    ويصف ثورة السودانيين بالتمرد والتحرير بالإحتلال ( المتمردون احتلوا أغلب البلاد) ص 196 ( محاصرة تماماً بالآلاف من المتمردين الدراويش) ص 197

    ( كلهم بيض ..وسواده بينهم كضحكة فجة) ص 199

    (قال بخيت متعجباً ما أغربهم هؤلاء النصارى طيبون لكن مثواهم النار) ص 203

    على لسان الأوربي عن بخيت ( أنت قبيح ..قبيح لدرجة أنك جميل) ص 203 ( ان ماءك به دود)

    وعلى لسان الراوي ( خرج البرابرة السودانيون من جحورأحيائهم البعيدة ليغزو الحكمدارية) ص 209

    ( نهب البرابرة قصر خلوصي) ص 210 ( هؤلاء الدراويش خطرون) 211 ( لن أترك بلادي لهؤلاء السود الهمج) 211 ( لمعاونة الدراويش) ( البرابرة السودانيون يتذمرون) ( عرابي خرا) 212

    ( للرب تصاريف يعلمها. رعايته قد تكون عبداً أسوداً ) الصحيح أسود 218 ( ينظر إلى سواده ) 218 ( أنت أخي الأسود) 224 ( هو قرد قبيح كما أريده كم سعره) 228 وتتردد كلمة قرد عدة مرات في صفحتي 228-229

    وعنده السودانيون أكلة لحوم بشر إذا جاعوا يأكلون حتى الأبناء:

    ( عندما أكلت أمها أخاها الصغير) 236 ( الجائعون كسروا أبواب البيوت ودخلوا عليهم فأكلوهم) 237 ( عرضت بنتها للبيع) 238 ( سيأكل إبنتي) 238 ( وجدت أمها على الأرض تبكي ملوثة بالدم وبقايا طفلها الوليد في قدر نحاسية) 239.

    ( ليس مسؤوليتك إنه مجرد بربري) 245

    ( روحه بيضاء كنور القديسين ... تشفق عليها أنها محبوسة في جسد أسود غليظ الشفتين قبيح كمدينة أمدرمان) 246

    ( لكن روحه مشرقة كالاسكندرية) 246

    (يحيط بها السود أصواتهم قبيحة) ( رائحتهم خانقة مقززة يغطيهم الغبار والحماس) 251 والسودانية الوحيدة الفاضلة ( لونها خمري رائق ) 252

    ( دعكت جلدها لتطهره من رائحة آسريها) 253 ( رائحتهم تقتلها) 253 ثم كلام كثير عن العبيد والزنوج يختمه قائلاً: ( أمس رأيت عبداً من المستنقعات الاستوائية يقولون أنهم أكلة لحوم بشر. رائحتهم كالخراء) 255.

    (نادراً ما يسئ الترك والمصريون معاملة عبيدهم) ثم يجد تبريراً للأوربيين في الإساءة لعبيدهم قائلاً ( لا أعرف كيف يسمح الرجل الأوربي لنفسه بهذا ربما هو تأثير هذه الأرض المتوحشة) 256

    ( حريماً من العبيد الأسود) 257 ثم يبلغ الذروة في الاستلاب واحتقار الذات حينما يستكثر أن يخالط المصريون السودانيين:

    ( عرفت أن العمال الفقراء من المصريين يعيشون مع السودانيين في أحيائهم الوطنية. وبعضهم متزوج منهم ويعيشون في أسر مستقرة. هؤلاء العمال دخلوا السودان بعد الفتح لأن أهل البلاد ليس بينهم من يجيد الصناعة أو أعمال العالم المتمدن. لماذا انتهوا للحياة مع السود هكذا؟ هل لأنهم فقراء مثلهم؟ لكن كيف نسوا أنهم ينتمون إلى أمة عظيمة بينما هؤلاء السود مجرد رعايا لهم) ص 257

    ( يا لهم من جزارين) ص 259 ( رائحة بخيت التي كقرحة أليفة) 267 ( رائحته خانقة) 269 ( جسده مقزز) 269 ( عشرة دراويش قذرين) 270 ( عبد أسود برجله عرج) 273 ( كفه الأسود) 277 ( في لجة السواد الذي يحوطها) 280 ( خاتنة سوداء ) 280 ( أما في البلاد السوداء فلا شيء. تأملته. عبد أسود. شعره جعد ككتل فلفل.) ( أنفه غليظ بشع) ( رائحته نفاذة عطنة) 291 ( إنه أسود كأبيه) 294 ( اشتقت للعالم المتمدن. مللت هذا السواد والدماء) 295 ( يا أخي الأسود) 305 (زنجي هزيل) 320 .

    ويقول على لسان الراوي ولم يجر الحديث على لسان أحد الأجانب : (كانت من نساء العرب. حسناء بمقاييسهم) 332

    ( العائدون رجعوا بالغنائم وترجع بأسود هزيل) 340 ( لو كنت مثل بقية السود تعرف السحر) 352 ( الأوربيون لا يقدمون نموذجاً جيداً للإنسان المسيحي أو المتمدن... كيف ننشر كلمة الرب وهؤلاء يقدمون نموذجاً سيئاً ... إنه يتشبه بالمسلمين) 346

    (عطش هو لظلم الجهادية ضيق شوارع أمدرمان جثث الحمير المنتفخة، شجارات السكارى) 353

    ( كيف تفكرون في غزو مصر؟ لماذا تكرهوننا؟ ألم نحسن إليكم ؟ هل هذا بسبب الخديوي؟ كلنا نكرهه) ( لكن أنتم تكرهون مصر ذاتها) 354

    وقال عن المهدي: ( هذا درويش كذاب. لقد أحسنت إليكم مصر. حكمناكم بما يرضي الله. كنا نكرم سادتكم وشيوخ قبائلكم ولكنكم لا تردون المعروف بخير) 354 ( يا سوداني أنتم ناكرو جميل لا غير. بلاد السودان في خير حال تحت الحكم المصري. لكنكم مهاويس دين) 355

    (أنت قبيح)359 ( كانت تحب لونه الأسود تقول إن ماءه دود عفن) 359

    ويقول عن أمدرمان في عهد الخليفة:

    ( الناس... يكنزون الأموال. المقربون يكيدون لبعضهم. في السوق كثر الغش والمشنقة لا يجف الموت عليها والصبية يجمعون كل صباح من جانب بحر النيل جثث مواليد تخلصت منهم أمهاتهم هرباً من عار الحرام) 378

    ( يأتيه العبد الأسود النحيل) 385 ( مريسيلة... حبة عنب سوداء) 391. ويقول بصوت الراوي:

    ( هذه البلاد اللعينة أرض الدم والدموع. هنا عاشت سنوات ذل كأنها لم تكن إنساناً ) ( تكره كل ذرة تراب في هذه المدينة القبيحة ) ( تكره الوجوه السوداء التي تغطيها الندوب واللحى ) (وإيمانهم المتعفن بمتنبئ مجنون) 415 ( بدائيون همج) 415 ( لا نريد أطفالاُ سوداً يؤمنون بدرويش ميت) 418 ( لن يكون زوجها عبداً أسود ) 418 وتقول البطلة : ( إن هؤلاء الوحوش لا يمكن إلا أن يعاملوا بالكراهية والتوحش الذين هم جديرون به) 423 . ( الاستثناء الوحيد هو بخيت سقط سهواً إلى هذه البلاد الوحشية. لولا أنه أسود لولا أنه عبد من الدراويش) 423 ( أليس يونس ود جابر أسود مثله) 424 ( لا تراني إلا عبداً أسود لا يستحق) 428 ( العبد الأسود بحبه المجنون) 434 ( العودة إلى الحضارة والعالم المتمدن) ( العودة لبلاد لايحكمها الدم) 437 ( هب بجسده الأسود) 442

    ولاتعليق

                  

03-04-2016, 05:08 AM

محمد حيدر المشرف
<aمحمد حيدر المشرف
تاريخ التسجيل: 06-20-2007
مجموع المشاركات: 20359

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    عمر سلامات وكيف الحال ومشتافين يا صاحب ..

    الناقد الموريتاني عمر ولد محمد سالم أخطأ كثيرا في فهم الجوهر الحقيقي للرواية ..

    Quote: من المشكلات الفنية أيضا اشتمال الرواية على حكاية طويلة امتدت على عشرات الصفحات هي حكاية للدرويش الحسن الجريفاوي، وهو شخصية ثانوية لا يرد له دور في الأحداث الفعلية إلا في اللحظات الأخيرة عندما أمسك هو ورجاله ببخيت واقتادوه مكبلا بالأغلال إلى المسلمية ليشنق فيها، وذلك بعد أن قتل بخيت سيده التاجر إبراهيم ود الشواك، فتلك الحكاية الطويلة عن حياة الجريفاوي وعبادته ودروشته، ثم نهضته في الجهاد لا علاقة لها بمتن رواية بخيت وثيودورا، ويمكن حذفها دون أن تترك أي خلل في الرواية، والعجيب أن تسمية العنوان "شوق الدرويش" مستوحى من حكاية الجريفاوي لأن بخيت لم يتدروش، ودخوله الجندية لفترة قصيرة كان فرارا من المجاعة.

    Quote: والعجيب أن تسمية العنوان "شوق الدرويش" مستوحى من حكاية الجريفاوي لأن بخيت لم يتدروش، ودخوله الجندية لفترة قصيرة كان فرارا من المجاعة

    ليس في الامر عجب ..

    العجيب, في واقع الامر, هو وصف الجريفاوي بالشخصية الثانوية ..

    فالرواية من الناحية التأريخية التي يريدون الزام العمل الادبي بها .. هي حكاية "الجريفاوي" باكثر من "بخيت متديل" ..

    وعندي كتابة حول هذا الامر بالتحديد, سأحاول البحث عنها ..

    مودتي التي تعلم ..

                  

03-05-2016, 04:49 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: محمد حيدر المشرف)

    الحلقة الرابعة

    الفصل الثالث:

    مقولات الرواية السياسية الأخرى:

    انبنت الرواية في واحدة من ثيماتها الأساسية على مقولة التعصب والتطرف الديني في المهدية والذي ينتج ضربة لازب المغالاة في قمع الخصوم وغير الموالين. هذه "الأطروحة" لازمتها في الرواية أطروحة أخرى مكملة لها وهي افتراض أن المهدية تمرد طارئ على نظام مهما كانت سوءاته فهو أفضل منها، وأعقبها نظام حرر السودانيين من أنفسهم ومن عسف المهدية وتعصبها ولا عقلانيتها. هذه المقدمة ليست استنتاجاً استنتجناه أو استنتجته لجنة التحكيم وفرحت به فكافأت الرواية ولكنها رسالة واضحة قوية تطفو على صفحات الرواية فلا تحتاج غوصاً للإمساك بها.

    فمنذ مفتتح الرواية يقرر الكاتب أن الحرية أتتهم على بوارج الغزاة وخيولهم في سبتمبر 1898 مع دخول الجيش المصري للبلاد (ص 10)

    قال ابن عربي رحمه الله

    ألا إن الرموز دليل صدق

    على المعنى المغيّب في الفؤاد

    والرمزية واضحة مباشرة إن كان ثمة رمزية أصلاً.

    ثم تأتي العبارات تترى في مدح الحكم التركي وذم المهدية وتعصبها ووحشيتها من شاكلة:

    قوله عن المهدي: ( هذا درويش كذاب. لقد أحسنت إليكم مصر. حكمناكم بما يرضي الله. كنا نكرم سادتكم وشيوخ قبائلكم ولكنكم لا تردون المعروف بخير) 354 ( يا سوداني أنتم ناكرو جميل لا غير. بلاد السودان في خير حال تحت الحكم المصري. لكنكم مهاوييس دين) 355

    بعد وصول البعثة التبشيرية واحتفاء الأتراك والأوربيين بهم يقول: (اعتبروهم إضافة إلى رسالة الحضارة التي تنحت في صم بربرية البلاد) ص 134

    ويمجد غردون قائلاً: ( البطل الانجليزي الشهير غردون) ( والسودانيون يحبونه) وهو إنساني( رفض أن يطرد أسر المؤيدين للدراويش. المؤن لا تكفي ولكن غردون يصرف الذرة لأسر سودانية معروف أن لها أبناء يقاتلون على الجانب الغربي من النهر ويحاصرون الخرطوم) 388 وفي المقابل لهذه الصورة تماماً: تصف الرواية المهدي بأنه ( متعصب مسلم يدعي أنه مبعوث من الله لحرب الكفار) ص 190 ودرويش كذاب واتباعه بالبرابرة الدراويش المتمردين ثم تلصق بهم صفات حيوانية مثل ( يخرجون من جحورهم) ( ثم انتشروا كالجراد) وتصف الثورة بأنها تمرد وأنها فوضى ( اندلعت الفوضى في السودان) وتصف فعل السودانيين في بلدهم بالاحتلال ( المتمردون احتلوا أغلب البلاد) ص 196 ( محاصرة تماماً بالآلاف من المتمردين الدراويش) ص 197 في مقابل وصفها لاحتلال الجيش الغازي بالتحرير.

    ثم يمضي الكاتب ليكيل للمهدية تهم التعصب والوحشية والقتل الجزافي ليتحدث عن وحشيتها في الأبيض والخرطوم حيث يتم القتل والسبي والسجن في القيود والذبح والسحل داخل البيوت وفي الشوارع: ( مات عشرون ألف وزيادة ونهبت المدينة وأخذت النساء سبايا) ( أمر – المهدي – بتوزيع النساء قبل غروب الشمس من لها زوج ترد أليه ومن ليس لها تزوج أما الكافرات مثلهما فحازهما الأثرياء والأمراء) 247 ( الآباء يزحفون في قيودهم) 248 ( من مات منا لم يدفنوه قالوا ان الكلاب النصارى لا يستحقون الدفن) ( تحطم الباب وعبروا جثته اليهم. ذبحوا الأب بولس أمسك به أربعة منهم وقطع خامس عنقه)250 ( آخر ما شاهدته أجسادهن تُجر خلفها) 251 ( أُجبرا على اعتناق الاسلام) ( كبس أنصار الله المدينة قتل الترك في الشوارع والبيوت) 426 ( سيده مذبوح على درجات السلم) 426 الاغتصاب ( ذهبوا بها حيث يشبعها عشرات المؤمنين) 427 ( الدم باسم الله الدم لأجل الله الدم يا مهدي الله) ( كُسرت المهدية فخرج المغبونون يأخذون بثأراتهم...عبيد ذاقوا الذلة فقراء أضناهم التكفف عربان حارو الدماء يطلبون دماً بدم) 430 ( لكنه في المهدية ولغ في الدم وخاض في الموت) 439 ( في التركية كان مؤمناً مظلوماً وحين شرح الله قلبه للمهدية صار ظالماً شاكاً) 439 ( ما بال رسالة الله تنشر الموت)

    ثم كلام طويل عن شك المؤمنين بالمهدية فيها وفي جدواها وفي ظلمها ونكوصهم على أعقابهم إما ارتداداً أو إنزواءاً وهروباً للخمر.

    (دك المجاهدون حملة رايات مهدي الله المسيد وقتلوا الطلاب والحواريين الذين رفضوا ترك التصوف والايمان بالمهدي) 453

    ويستعير الكاتب كلمات أوهروالدر في لوم غردون على تساهله مع أسر المنضمين للمهدية من سكان الخرطوم ليضعها على لسان بطلته

    ( إن هؤلاء الوحوش لايمكن إلا أن يعاملوا بالكراهية والتوحش الذين هم جديرون به) 423

    قال أوهروالدر بعد أن وصفهم بالوحوش المتعصبين ( بكل تأكيد كان يتوجب أن يلقى هؤلاء المتعصبون المهدويون المنافقون معاملة مختلفة جداً من الأوربيين المتحضرين).

    ويمثل سجن الساير مكاناً محورياً في الرواية: حيث يتم تصويره مجسداً لفكرة الرواية عن ظلم المهدية ووحشيتها ولا عقلانيتها. فالسجن مكان فظيع يتكدس فيه الناس وزبانيته يسومون الناس سوء العذاب والمتهمون فيه لا يعرفون حتى تهمتهم ولا يعرفون لبقائهم أجلاً معلوماً هم بالغوه، فربما أتت بك وشاية أو انتقام من أي أحد من زبانيته أو لمجرد نزوة من الخليفة. والعملة السائدة فيه هي الرشوة الخ.

    الباب الثاني:

    الحكم التركي المصري للسودان

    الفصل الأول: طبيعة الإستعمار التركي المصري

    وكيف يصح في الأفهام شيء

    إذا احتاج النهار إلى دليل

    أبو الطيب

    لم يدّع الحكم التركي المصري لنفسه رسالة ولم يغلف أهدافه المعلنة وهي الحصول على ذهب السودان ورقيقه بحسب تعبير هولت. اتفقت على ذلك كل المصادر التاريخية بلا استثناء.

    كتب محمد علي باشا لإبنيه إسماعيل وإبراهيم:

    ( وإنكم عاقدون عزمكم على أنكم متى أخذتم بنصره تعالى السود استخرجتم نسوانهم وصبيانهم فأبقيتموهم هناك وبعثتم بذكورهم الصالحين لأعمالنا إلى الأمام، وحين يبلغ عدد هؤلاء الذكور عشرة آلاف تعقبونهم بإرسال ما استوقف واستبقى من النساء والصبية أيضاً) . وبهذه الطريقة ( بلغ عدد السودانيين في الجيش المصري 30 ألفاً في عهد محمد علي)

    وقد أثارت تلك الفظاظة الفجة والتعدي البين "المقدوم مسلم" فرد برسالة على الدفتردار مستغرباً غزو المسلمين وموضحاً أن هذا محض ظلم لاتسعهم إلا مقاومته والموت شهداء. قال المقدوم :

    (إلى حضرة دفتردار تابع باشي محمد علي. مني إليك جزيل السلام ومزيد التحية والإكرام. أما بعد فخطابك الذي أرسلته فهمناه وما فيه من جهة السيال والطمأ وغير ذلك فهمناه طيب إن كان نحن مسلمين وتابعين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالأمر والنهي في زمان السلاطين المتقدمين أنتم أهل بحر ونحن أهل بر وكل سلطان يحكم أهل بلده بما قال الله ولا نحن تحت ملككم من زمان السابق. كل سلطان يحكم رعيته بما قال الله وهو المسؤول. أما أنتم فغير مسؤولين عن حكم ديار الغير)........ (ولا ظهر في زمن السلاطين المتقدمين من العثماني من خاطبنا بهذا الخطاب ولا من يرسل التجريدة على بلاد الإسلام إلا أنتم في زمن محمد علي باشا غزيتم ديار المسلمين)...........( وأنتم مسلمين تحت سلطان آل عثمان خليفة رسول الله ولكن نحن خارجين في حكمه ولا هو مسؤول بنا يوم القيامة كل راع مسؤول عن رعيته يوم القيامة.......... نحن ما خالفنا كتاب الله ولا سنة رسوله ولا عهد الله لكم بقدوم بلادنا. أنتم غاصبين وظالمين وسايلين كما قال الشيخ فجاز دفع سايل. إن جيت بلادنا أنت سايل وظالم ونحن مظلومين إن متنا في دارنا متنا مظلومين وشهداء بين يد الله.)

    وهو نفس الرد الذي ساقه السلطان محمد الفضل بن عبد الرحمن الرشيد سلطان دارفور حيث قال في خطاب وجهه لمحمد علي: ( إنكم طالبون دولتنا وطاعتنا وانقيادنا لكم هل بلغكم أننا كفار وجب لكم قتالنا وأبيح ضرب الجزية علينا ..... نحن مسلمون وما نحن كافرون ولا مبتدعون ندين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    سام النظام الغازي السودانيين سوء العذاب معتمداً على تفوق آلته العسكرية. وعارضته كل قبائل السودان ومجموعاته وممالكه حين دخوله فبالغ في وحشيته لقمع المقاومة. فحينما انتصر على الشايقية احرق مدينة كورتي وتتبع جيش الشايقية في كجبي وحنك ثم إلى جبل الدقر (ورماهم بقنابل المدافع فخرجوا منها منهزمين فتبعهم فرسانه قتلاً وأسراً قيل وكانوا كلما أسروا رجلاً قطعوا أذنيه تشويهاً له )

    ولما حدث مقتل إسماعيل باشا نكّل النظام بالسودانيين نكالاً لم يسمعوا به من قبل حيث أباد الدفتردار في حملته الانتقامية سكان مدينة شندي ( واستمر في مطاردة المك نمر مخلفاً وراءه مجزرة امتد مسرحها لمئات الأميال ووجدت القرى والمدن التي مرّ بها نفس مصير شندي وهي المتمة والعيلفون وتوتي ومدني) وأضاف أبو شامة إلى ضحايا الحملة الانتقامية آخرين حيث قال: ( قضى الدفتردار على كثير من الحسانية وأهل الحلفايا والعيلفون وشندي وأحرق الدامر وهاجم القبائل البدوية بما فيها الكبابيش الذين أعانوه عند دخوله بالجمال إلى كردفان) وأضاف شبيكة كسلا ومعارك المك نمر ومساعد الثلاث في بربر التي حاصراها بعد حرق الباشا ومعركة النصوب ومعركة أخيرة قرب الحدود الحبشية.

    وروى صاحب كتاب دور الأزهر في السودان تلك المجازر التي طالت بيوت الله والعلماء وطلاب الخلاوى قائلاً: ( طلب منه – أي محمد خسرو الدفتردار- أن يقمع الثورة الناشئة آنذاك فهب من حينه متوجهاً إلى الأبيض يقتل ويسفك ويحرق القرى واحتمت القبائل بالجزر على النيل وتوجه شمالاً فقتل أهلها ولم تسلم منه حتى بيوت الله فخربها وحرقها وحرق من احتموا بها...... ولم ينج من سيف الدفتردار أحد حتى العلماء فقد قتل في المتمة الشيخ الريح السنهوري العالم ومعه أكثر من مائة طالب أمامه كانوا يدرسون عليه الفقه المالكي، وقتل العالم قمر الدين حفيد الشيخ مجذوب وحرق مسجد الدامر. كذلك قتل بالمدفع الشيخ أرباب الكامل خليفة أرباب العقائد مؤسس مدينة الخرطوم كما قتل الشيخ صالح ولد بانقا العالم الذي ورد ذكره وقبض على العلامة الفقيه إبراهيم عيسى مؤسس المسجد المعروف وضرب ضرباً مبرحاً..... وقد قدر مجموع من قتلوا في حملة الدفتردار الانتقامية بثلاثين ألفاً)

    هرب المك نمر بعد إحراق الباشا وانضم إليه كثير من الناقمين وأسسوا على الحدود مملكة ظلت تناوش الاتراك لنحو 50 عاماً . وفرت كثير من القبائل من موطنها الأصلي خوفاً من سطوة الأتراك وجبروتهم واسترقاقهم للناس وأخذهم أموالهم. ( هجر السكان مناطقهم الزراعية خوفاً من الضرائب التي تُجبى لمصر..أما الذي لا يدفع فقد كان له التعذيب والربط في الشمس والضرب وسجن القطط في ملابسه) وذكر شبيكة فرار أهل الشمال هرباً من الضرائب إلى كردفان وسنار مستشهداً بتقرير أحد مديري دنقلا في 1256 هـ حيث ذكر خراب 550 ساقية وفرار رجال 2011 ساقية من أصل 5900 ساقية

    أرتفعت المقاومة للحكم التركي في كل أنحاء الوطن شماله وجنوبه من ديار الشايقية والجعليين وغيرهما إلى المسبعات وامتدت المقاومة إلى دارفور بعد غزوها وضمها، وإلى جبال النوبة وجنوب السودان حيث تركزت هجمات الأتراك لصيد المواطنين وأخذهم رقيقاً وسنأتي لاحقاً على موضوع الرق. كما أخذت القوات الحكومية تنهب المواطنين وممتلكاتهم فنشرت الرعب في جنوب البلاد، ويمكن اقتطاف ما يلي للتدليل على تلك القسوة. قال الكاتب السوفيتي سيرجي سمرنوف:

    ( كانت السلطات المحلية تقوم بالاستيلاء على أبقار القبائل النيلية والذرة وسن الفيل بواسطة القوات المسلحة ومتى وجدت معارضة من الأشخاص قامت باستعمال النيران في القرية وأخذ العشور من القرويين) (أُجبر دينكا جانق على الهرب وترك أبقارهم).

    وتأكيداً لذلك قال الكاتب المصري حسام الحملاوي: (وكأي قوة استعمارية دأبت الإدارة المصرية على نهب الموارد السودانية بطريقة منظمة، فتم نهب الصمغ والعاج وريش النعام من أجل التصدير للسوق العالمي. ونهبت الثروة الحيوانية من جمال وأبقار وثيران وكباش لسد احتياجات مصر من اللحوم ومنتجاتها الصناعية من الجلود والصوف. وكان النهب يتم عن طريق الحملات العسكرية أو بشراء الحيوانات من أصحابها بأبخس الأثمان. ولنوضح مقدار النهب يكفى أن ننظر للأرقام عن الكميات التي صدرت إلى مصر في عام واحد (1835 – 1836) : 4000 ثور، 7000 بقرة، 250000 جلد بقر، 64000 جلد ماعز، 19600 جلد ضأن، وظلت تلك الكميات في الازدياد المستمر طوال فترة حكم المصريين.)

    وقد وثق هرب القبائل الجنوبية من عسف الأتراك أحد تقارير البعثات الكاثوليكية في عام 1850 حيث جاء فيه:

    ( أبحرنا في شواطئ مهجورة لأن المتوحشين المساكين الذين يعيشون على ضفاف النهر في خوف دائم من الأتراك وكثيراً ما وجدوا معاملة قاسية في حملات الأتراك السنوية)..( لقد قوبل الكاثوليك بالشك في جنوب السودان حيث ارتبطت بعثات البيض التبشيرية في أحيان كثيرة بالأتراك الذين أتو قبلها)

    ولقد اتفقت كل المصادر التاريخية المغرضة والمنصفة، القديمة والحديثة على أن أهم أسباب قيام الثورة المهدية هو فساد الحكم التركي المصري وطغيانه . وعزا شقير كراهية السودانيين لذلك الحكم ( للعنف الذي اتصف به الفتح المصري الأول وعلى وجه الخصوص ما كان من أعمال التخريب التي قام بها الدفتردار إضافة للضرائب الباهظة) وجعل شقير العنف السبب الأول يليه الضرائب. وعن عموم سخط السودانيين قال هولت ( يمكن لحركة ثورية أن تنجح عادة إذا انتشر السخط بين أفراد المجتمع عامة ولم يقتصر على طبقة واحدة أو منطقة محددة وبحيث يكون صادراً عن مشاكل رئيسية وليس عن أخطاء سطحية أو فورة مؤقتة) وقال: ( أما النظام المصري لجباية الضرائب بما صحبه من عنف واغتصاب فكان إشكالاً مستديماً) وأكثر من ذلك فعندما عين الخديوي توفيق غردون حاكماً على السودان برر ذلك في خطاب التعيين حيث جاء فيه ( وعندما كان هدفنا المخلص أن نفعل ما هو عدل وحق لإزالة كل مصادر عدم الرضاء وأن نحافظ على الإنصاف بين الأهالي) .

    فهم غردون الرسالة وحينما وصل السودان قام بإلغاء متأخرات الضرائب وإعفاء ضرائب الثلاث سنوات القادمة وأحرق دفاتر محصلي الضرائب وأسواطهم في الميدان العام) قال شقير (وطمأن غردون الأهالي من عدم اعتداءات الباشبوزق...وأمر بجمع دفاتر الضرائب على الأطيان في ساحة عمومية ووضعت فوقها السياط وآلات الضرب وأضرم فيها النار ثم زار السجن فأخلى سبيل الجميع ما عدا القلة) وكفى بذلك دليلاً.

    أضاف هولت سبباً آخر لكراهية السودانيين الحكم التركي المصري ( كان الحكم المصري مكروهاً ليس فقط بسبب أخطائه بل أيضاً بسبب صيغته حيث كان حكماً أجنبياً مستمراً)

    لقد بقيت تلك الفظائع محفورة وحية في الذاكرة السودانية لفترة طويلة قال وار بيرق عن مشاعر السودانيين عشية الحرب العالمية الأولى في عام 1914 : (مسلمو السودان لن يؤيدوا تركيا لأن فظائع الأتراك ما زالت محفورة في ذاكرتهم وكراهيتهم للأتراك بقيت دون تغيير)

    الفصل الثاني

    الخديوية لا تمثل المصريين

    وأكثر من ذلك فقد اعتبر كثير من المصريين أن نظام محمد علي باشا وسلالته لا يمثل المصريين بل كان له دور سالب حيث رأى الدكتور سيد البحراوي ( أن محمد علي باشا نجح في القضاء على امكانيات التطور الطبيعي في شعب مصر وأحل محلها مجموعة من الفئات الجديدة التي أصبحت تابعة لأوربا) .

    وقال الأديب والمسرحي المصري محمد فريد أبو حديد: ( كان حكام الأمة يلهون في حياتهم الرخيصة لا يبالون شيئاً سوى سلطانهم وكبريائهم الجوفاء ويسخرون الأمة في إقامة حكمهم الذي نخره الجهل والغفلة) ويصف الكاتب حركات الوهابية والسنوسية وحركة جمال الدين الأفغاني في مصر والمهدي في السودان بأنها كانت استجابة الأمة في وجه الهوان والتهاون والاستبداد والحكم الأجنبي ثم يقول: ( أليس من أعجب العجائب مع هذا أن توصم حركة المهدي بأنها لم تكن سوى حركة عداء ضد شعب مصر) ( ألم تكن سوى إحدى الثورات الشعبية العربية) ( لم يعد خافياً في أيامنا الحاضرة أن ثورة المهدي كانت موجهة ضد طغيان الحكم العثماني وممثله في مصر فهي موازية لثورة عرابي ضد هذا الحكم نفسه) ( فوا عجباً للاستعمار إذ يتدسس إلى حكم مصر فيحتلها في سنة 1882 ثم يقوم بالدعاية العريضة لإظهار المهدي في صورة الثائر على مصر وصورة المعادي لشعب مصر! وأعجب من ذلك أن تلك الدعاية وجدت قبولاً عند طوائف شتى أخذت تردد صيحة الاستعمار بعضها سيء النية وبعضها حسن النية ولكنه واهم مغتر)

    وقد ذكر الأستاذ هيكل في حلقاته في قناة الجزيرة ( أن أسرة الملك ليوبولد ملك بلجيكا أخذت الكونغو كملكية شخصية واغتنت منه وكذلك ملوك البرتغال في أنجولا والخديوي اسماعيل في السودان جمع مالا وأن فتح السودان أيضا كان لجمع أملاك له ثم صرنا نحن نتمسك بسيادة التاج على السودان. لم يستعمل محمد علي باشا مصرياً واحداً (في الإدارة العليا). الخديوي إسماعيل استعمل من هيكس لبيكر لميستنغر لهوتنسر، بل أتى بكولن بونت وهو أمريكي انهزم في الحرب الأهلية الأمريكية وحارب ضد فكرة تحرير العبيد والسود وجاء به ليحكم في السودان فماذا نتوقع منه......لكن على أية حال بقتل غردون باشا وبالهزيمة الساحقة للوجود المفترض أنه مصري ومصر ليست لها علاقة به في واقع الأمر)

    ويوضح الخطاب التالي الذي كتبه محمد علي باشا إلى المسؤول عن جرجا نظرته للمصريين، جاء في الخطاب: ( فأخبرنا أنه قطر- أي السودان- وخيم الهواء لا يصلح لإقامة الجندي التركي، ولما كان الجنود الأتراك هم بني جنسنا وكان من الواجب أن يكونوا بحسب الحال والوقت بجانبنا على الدوام وأن يُحْموا ويصانوا من إرسالهم إلى الميادين البعيدة ذات الحرارة الشديدة فقد أوجبت الحال أن يُجمع من أقاليم الصعيد مقدار من العساكر ليرسلوا إلى تلك البقاع فاستصوبنا أن تجندوا نحو أربعة آلاف جندي بحيث يكون هؤلاء الجنود قسمين. أحدهما يجند في القرى الواقعة فيما بين منفلوط وقنا ويجمع من فرشوط ويقوم بأمر تعليمه وتدريبه إبراهيم أغا ناظر المهمات)

    وذكر البروفيسور أبو سليم في آخر ورقة كتبها قبل وفاته رحمه الله أن (الجيش الذي جاء باسم سلطان الإسلام ليس به مصري ) وعن غربته عن المصريين قال ( ولا بد أن أهل السودان قد اندهشوا لإبن الباشا الذي لا يتكلم العربية) ولم يكن هذا خاصاً به ولكن بكل الطبقة التركية التي حكمت مصر نفسها، قال أبو سليم مواصلاً حديثه: ( ولكن ينبغي أن نحذر من استعمال لفظي التركي والمصري فالسودان لم يفتح بجنود من أصل مصري ولم يكن للمصريين نصيب في الوظائف ذات الإعتبار لا في مصر ولا في السودان) ( حكم محمد علي وأسرته السودان بواسطة مجموعة من الإثنيات المتوسطية عاشت في مصر منذ القرون الوسطى ومع ذلك تتعصب للعرق التركي وتتحدث باللغة التركية وتتأفف من العنصر المصري وتضعه في وضع حقير وقد سموهم بعبارة الفلاحين على وجه الاحتقار وكان من العيب أن يتحدث التركي باللغة العربية)

    وقال عبد الودود شلبي: ( إن محمد الدفتردار أحد عمال محمد علي في حكم السودان كان يخرج لاصطياد الآدميين على عادة غلاة القراصنة والاستعماريين في ذلك العهد) وقال رافضاً منطق حق الفتح وغزو السودان ( إن السيوف لا تزرع محبة والحروب لا تمنح حقاً للغزاة والقتلة) ويقول ( إن نظام الحكم الذي ثار عليه الشعب المصري هو نفسه نظام الحكم الذي ثار عليه الشعب السوداني) ( وان الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة العرابية هي نفس الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة المهدية) وقال ( أما وحدة الفتح أو الغزو أو الدفتردار وأمثاله من حكام مصر فهي وحدة لا تكون إلا بين القاتل والضحية أو الاستبداد والحرية) ( ولو كنت سودانياً لرفضت هذا المنطق)

    ولذلك حينما هبت الثورة المهدية ساندها قطاع عريض من المصريين وتطلعوا لها. بل لقد ذكر أهروالدر/ ونجت ذلك: ( كتب له – أي للخليفة – كثير من الشيوخ والعلماء في القاهرة وفي أجزاء أخرى من مصر داعين له للاستيلاء على البلد وأكدوا له بأنه سيجد ترحيباً)

    وقال (كتب المهدي عدداً من الخطابات لكبار الشيوخ والأعيان في القاهرة ولولا وفاته فلا شك أن نفوذه وتأثيره سيتغلغل بدرجة كبيرة في مصر. فقد آمن عدد كبير في مصر بأنه المهدي الحقيقي بالإضافة إلى أنه الآن حاكم مئات الآلاف من الناس)

    وذكر الأستاذ العقاد رأي الاستاذ محمد عبده في ميل المصريين للمهدي فقال :

    ( ومن ذلك أن الجماعة اوفدت الشيخ محمد عبده إلى لندن لإثارة المسألة بحذافيرها أثناء قيام المهدي بثورته في السودان وكان زبانية الاستعمار - كعادتهم – يخيفون المصريين من مقاصد المهدي ويشيعون عن " مخابراتهم السرية " أنه ينوي غزو وادي النيل كله وأن الحكومة المصرية لا تقوى على صده بغير المعونة البريطانية. فلما سأل (سُئل) الشيخ محمد عبده في حديث جرى بينه وبين مندوب صحيفة البال مال غازيت عن هذا الخطر المزعوم قال: " لا خطر على مصر من حركة المهدي إنما الخطر على مصر من وجودكم أنتم فيها، وأنكم إذا غادرتم مصر فالمهدي لن يرغب في الهجوم عليها ولن يكون في هجومه أدنى خطر فهو الآن محبوب من الشعب لأنهم يرون فيه المخلص لهم من الإعتداء الأوربي وسينضمون إليه عند قدومه")

    (كان التياران اللذان يجسدان الرأي العام المصري يومئذ هما التيار الإسلامي الذي يقوده محمد عبده وأشياعه. والتيار الوطني الذي يقوده أحمد عرابي وأنصاره. هذان التياران كانا أصدق تمثيلاً لموقف المواطن المصري من رأي السلطة الخديوية، هذان التياران تجاوبا مع الثورة المهدية تجاوبا وثقته (رسالة العوام) بقلم أحمد العوام من قادة الثورة العربية. ووثقته مقالات مجلة (العروة الوثقى) التي كان يحررها من باريس الشيخان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.)

    قال اللورد كرومر عن محمد عبده: ( كان ضد الخديوي وضد الباشوات...كان خيالياً وغير عملي ولكنه كان وطنياً مصرياً قحاً) ( كان في عداء مع الخديوي)

    وقال صاحب كتاب دور الأزهر في السودان: ( كان مع استاذه الثائر الاسلامي جمال الدين الأفغاني يلهبان الشعور الديني والوطني ضد الاستعمار البريطاني وكانا يكتبان في مجلة العروة الوثقى التي كانا يصدرانها في باريس دفاعاً عن الثائر محمد أحمد المهدي والثورة السودانية)

    الفصل القادم:

    التركية في الوجدان السوداني:

    الهوامش

    زلفو سابق ص 25

    نفسه ص 26

    مكي شبيكة السودان في قرن 1819-1919 مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة 1947 ص 27- 28 ويقصد المقدوم الصيال وصائلين وصائل. والصائل في الفقه هو المعتدي على النفس والمال والعرض، وربما قصد بالطمأ الطمع.

    نعوم شقير تاريخ السودان تحقيق وتقديم محمد ابراهيم أبو سليم ص 171

    شقير سابق ص 198

    زلفو ص 23-24

    عبد المحمود أبو شامة: المسيحية في السودان من نبتة إلى المهدية ص 60

    شبيكة سابق ص 36- 37

    محمد سليمان دور الأزهر في السودان ص 53-54

    هولت: المهدية في السودان ص 35

    أبو شامة سابق

    شبيكة ص 52-53

    سيرجي سمرنوف: دولة المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفيتي ترجمة هنري رياض دار الجيل ص 18

    حسام الحملاوي السودان: الشمال والجنوب والثورة مقال بموقع الاشتراكي عن القدال، محمد سعيد. تاريخ السودان الحديث 1820 – 1955. القاهرة، 1993. ص 72 – 73.

    Humanitarian Intervention: A History edited by Brendan Simms and D.J.B.Trin p 287

    لاستقصاء جميع أسباب الثورة المهدية أنظر الصادق المهدي : يسألونك عن المهدية الفصل السادس والكتاب موجود بموقع الأمة

    http://www.umma.org/umma/ar/page.php؟page_id=238http://www.umma.org/umma/ar/page.php؟page_id=238

    هولت سابق ص 34

    نفسه 35

    ابو شامة سابق 126-127

    ابو شامة 130 وهولت 113

    محمد محجوب مالك: الداخلية لحركة المهدية ص 106-107 نقلا عن شقير

    هولت ص 24

    GABRIEL WARBURG, Islam, Sectarianism and Politics in Sudan since the Mahdiyya. London: C. Hurst and Co p 76

    سيد البحراوى: محمد على قضى على تطور الشعب المصرى /اليوم السابع 30/4/2011

    http://www.masress.com/youm7/402052http://www.masress.com/youm7/402052

    بابكر بدري حياتي ج 1 تقديم د. محمد فريد أبو حديد ص 11

    نفسه ص 12-13

    http://www.aljazeera.net/programs/with-haykal/2006/10/9/%D9%87%D9%8A%D9%83%D9%84-%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86

    مكي شبيكة السودان في قرن ص 31

    كتاب تاريخ الدولة العثمانية: ملامح من العلاقات السودانية التركية تحرير د. يوسف فضل 2004 وورقة د. أبو سليم بعنوان دور العثمانيين في أفريقيا وفي السودان على وجه الخصوص ص 64

    عبد الودود شلبي: الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ودعوته ص 5-15

    Wingate,op. cit

    عباس محمود العقاد: عبقري الإصلاح والتعليم الإمام محمد عبده ، هنداوي 2013 ص 92

    الصادق المهدي العلاقات السودانية المصرية سلسلة اوراق سياسية لجنة شباب حزب الوفد

    محمد سليمان مصدر سابق نقلاً عن كرومر مصر الحديثة ص 180 -181

    نفسه ص 109

                  

03-06-2016, 04:37 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة الخامسة

    الفصل الثالث

    التركية في الوجدان السوداني:

    وإذا ما انتقلنا إلى الأدب والشعر وهو أكبر مجسد للشعور الجمعي للمجتمعات لا سيما الشعر الشعبي فنجد أن كراهية ذلك الحكم قد تغلغلت في كل الأوساط والمجتمعات. بل حتى الذين أيدوا الحكم التركي لم يغب عنهم عسف النظام وكراهية الناس له. قال أحمد بن الحاج علي (كاتب الشونة) وكان ممن عاصر الغزو وعمل بعد ذلك معه يرثي دولة سنار، قال في مبتدء ذلك الحكم:

    فلو رأيت ما حل من ضرر

    أجريت دمعك إعلاناً وإسرارا

    أئمة الدين يا هذا لهم شرف

    ففيهم حكّموا الرصاص والنارا

    تبكي مساجد أهل الله خامدة

    ترمي عليهم دموع الحزن أقطارا

    وقال الشيخ محمد شريف نور الدائم مبيناً بعض أنواع العقوبات التركية على من لم يدفع الضرائب في مختتم ذلك الحكم:

    وما أبت السودان حكم حكومة

    (إلى) إن أتى ضعف المطاليب من مصر

    كالثلث والثلثين للمير وحده

    وللشيخ والنظار أضعافه فادر

    بضرب شديد ثم كف مؤلم

    من بعد الإلقاء في الشمس والحر

    وأوتاد ذي الأوتاد من بعض فعلهم

    وأشنع من ذا كله عمل الهر

    البيت الأخير يشير إلى تعذيب فرعون بالأوتاد التي يربط عليها المعذبين وكان الأتراك يستخدمون الخوازيق، كما يشير إلى عقوبة حبس القطط في الملابس الداخلية.

    ومن خلال جدلية العسف والمقاومة دخلت الحياة الشعبية أمثال ومصطلحات جديدة مثل عشرة في تربة ولا ريال في طلبة ومثل الخازوق ومثل الأمثال النابذة للخيانة : التركي ولا المتّورك ألخ.

    أما الشعر الشعبي فهو حافل نكتفي منه بنتف قليلة جداً خوف الإطالة .

    قال شاعر الميرفاب مستجيراً بالمك نمر من ظلم الترك:

    ود الميرفاب الماسك الدرب يتكلّس

    هانوه الترك وطاع تبع الرسن واسّلّس

    مصاغ البنات بي عيني شفتو اتملّص

    والبطي في الطلب لي جيتي ليك ما اتخلّص

    وقال انقيب آخر (أي شاعر) محرضاً المك نمر على قتال الترك أبياتاً قد تخرج عن سياق الحياء في فظاعة التركماني وعدم وقوفه عند حد لمن يطيعه نعف عن ذكرها ومن أرادها فليرجع إليها في نفثات اليراع صفحة 15.

    وقد فرت كثير من القبائل كما أسلفنا ومن بقي تعرض لعسف الترك. قال أحدهم معرضاً بالذين لم يتمردوا وبقوا في أماكنهم تحت سطوة الأتراك:

    يا الأرباب بحكي لك حكاية الطاعوا

    بانت عليهم العوجة ولي جناهم ضاعوا

    الحي ما استتار والمات رقد باوجاعوا

    ياكلو فيهم الترك متين ما جاعوا*

    وحينما أصدر إسماعيل باشا منشوراً يأمر فيه بجمع الخيل من الشايقية وزعه أحمد باشا الجزار وهدد أن من لا يقدم حصانه يعدم شنقاً أو بالخازوق قال شاعرهم:

    الباشا علّمنا الهوان

    وحمانا لدات العنان

    نتلاقا بي سيوفنا السنان

    ويتفرجن معز القنان

    وقال شاعر الشكرية بعد أن فروا من عسف أراكيل باشا حاكم السودان 1857 إلى البطانة:

    الباشا البعنو لو

    شن عرضو وشن طولو

    كان حجّر حلّو لو

    حت شرق الله البارد هولو

    البعنو لو : أي الذي يقصدونه

    كان حجّر حلّو لو: أي إذا منع شيئاً أحلوا له ذلك وقال بعضهم حلوله أي قراه جمع حلة أي إذا تحكم في القرى فحتى الخلاء ملكه؟ وقد رواها د. الحبر يوسف بصيغة أخرى فقال

    الباشا دا البِشْكُولُه

    شِنْ عَرْضُو وشِنْ طُولُو

    كان حِرِم حَلَّلُوا

    حتى شرق الله البارد هولو

    وقال شاعرهم يحثهم على الفرار لا الإذعان لأن من يذعن يهلك ومن يفر ينجو

    فرعون يوم هلك وقفت جبارة موسى

    ديك ود سند فطس قبال تجي لو الخوسة

    ( يعني ديك ود سند مات فرقاً وخوفاً قبل ذبحه بالموسى)

    وروى نعوم شقير أبيات يتذمر قائلها من ظلم الحكام الترك ويغبط ود ثروة التاجر الذي إلتجأ إلى دارفور:

    إن كان الترك حوض رملة حوض الرملة قط ما بيروى

    شن بيناتنا من غير سروة لمكان ما سكن ود ثروة

    وقال المادح النبوي الشهير حاج العاقب:

    يا مجير جيرنا

    من زمناً ذل فقيرنا

    الصغير يحكم كبيرنا

    كل يوم ناساً تغيرنا

    إما ديرو وإما ديرنا

    إما جيب المهدي أميرنا

    ونختم بأبيات بت مكاوي التي قالت تحرض المهدي على الثورة بعد أن طفح الكيل وتجمع البركان مؤذناً بالانفجار. قالت ببصيرة نافذة نابعة من فطرة سليمة ألّن يفل الحديد إلا الحديد، وهو ما آمن به فرانز فانون حيث قال: ( إن الاستعمار ليس آلة مفكرة، ليس جسماً مزوداً بعقل وإنما هو عنف هائج لا يمكن إلا أن يخضع لعنف أقوى...إن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما) وقال غارودي ( الاستعمار نهب ولكنه بالدرجة الأولى قتل)

    قالت بت مكاوي:

    طبل العز ضرب هوينه في البرزة

    غير طبل أم كبان أنا ما بشوف عزة

    إن طال الوبر واسيه بالجزة

    وإن ما عمّ نيل ما فرخت وزة

    فعمّ النيل وأفرخ الأوز وجاء نصر الله والفتح وتخلص السودانيون من ذلك النظام الهمجي الحيواني.

    الهوامش:

    محمد سليمان: دور الأزهر في السودان ص 38- 39

    والقصيدة بكاملها في كتاب الشعر في السودان د. عبده بدوي ص 59- 63 ابو شامة ص 61

    أغلب النماذج مأخوذة من نفثات اليراع لمحمد عبد الرحيم

    * وفي رواية ياكل فيهم الاتراك متين ما جاعو

    الحبر يوسف نور الدائم، ملامح الشخصية السودانية موقع شبكة المشكاة الاسلامية

    شقير نفسه ص 216

    قرشي محمد حسن: مع شعراء المدائح ج 1 ص 50

    فرانز فانون سابق ص 36

    روجيه غارودي : حوار الحضارات ص 61

    محمد عبد الرحيم: نفثات اليراع وأم كبان الحرب

                  

03-07-2016, 03:32 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    كتاب المهدية قراءة رواية شوق الدرويش

    الحلقة السادسة

    الباب الثالث : دفع الإفتراء

    الفصل الأول: المهدية والتسامح

    1) الجهاد في المهدية: مفهومه ودواعيه وضوابطه

    كان المهدي داعياً إلى الله ، لذلك لم يكن همه النصر الذي كان واثقاً منه وإنما هداية الخلق. وبنظرة فاحصة إلى كتابات المهدي وكتب التاريخ ووقائعه يستطيع المرء أن يلمح بسهولة الملامح التالية في مفهوم الجهاد عند المهدي:

    1) القصد هو هداية الخلق وليس قتل الكفار ورد هذا في منشورات سنقتطف منها لاحقاً إن شاء الله. وكان يفضل تحقيق تلك الأهداف بلا قتال

    2) أن الجهاد عنده لرد الظلم والمستهدفون به المحاربون فقط بل حتى المحارب الذي يلقي سلاحه ويستسلم يُقبل منه ولا يقتل.

    3) أنه لم يأخذ في حروبه بالمباغتة وإنما ينتظر حتى يبدأ عدوه بمقاتلته ثم يكون الإذن بالقتال وسنرى هذا.

    4) أنه لم يقاتل إلا بعد أن يرسل الإنذارات المتكررة.

    5) أنه لم يقاتل غير المحاربين ولو كانوا في المعسكر الآخر.

    6) أنه كان يأخذ الناس بالظاهر بل عفا عن عدد كبير من الأعيان مع ثبوت خيانتهم وسنأتي على أمثلة كثيرة جداً على ذلك.

    7) أنه كان يحرص على عدم قتل أعيان المدن المحاصرة ويدعو لتأليفهم وسنرى أمثلة على ذلك.

    8) أنه كان سهلاً كريماً يحب العفو لدرجة أن كثيراً من المدن التي أرادت الاستسلام كانت تريد ضمانته والتسليم له شخصياً لمعرفتهم أنه سيعفو عن كل من يسلّم.

    9) أنه كان لا يرد طلباً في العفو والمسامحة لذلك طمع كل الناس في عفوه واستعفائه وقد أورد أوهروالدر نفسه روايتين توسط فيها الأب بونومي لغيره لدى المهدي وسنوردهما في موقعهما.

    10) أنه كان يعامل النصارى بالرفق، والملاحظة التي قد يستغرب لها كثير من الناس أنه لم يُقتل مسيحي واحد غير محارب وسنورد ذلك في حينه. وقد عزا أوهروالدر ذلك إلى التزام المهدي بتعاليم الرسول ( ص) ووثيقة الأمان التي كتبها للنصارى والموجودة بدير جبل الطور بسيناء وسنذكرها كاملة.

    11) أما فتح الخرطوم الذي اتخذ منه كاتب الرواية تكأة ليؤلف أساطيره حولها فقد كانت عجباً في التسامح:

    أ‌) فقد كان واضحاً أن المهدي لم يرد فتحها بالقوة وكان يريد تسليم أهلها سلماً. وكاتب غردون كتابات عديدة حار فيها كثير من المؤرخين إذ كانت تأتي ردود غردون رافضة لكل اقتراح ومع ذلك لم يقفل المهدي الباب. مع أن سياسة غردون كانت هي كسب الوقت أملاً في وصول حملة الانقاذ. ولم يفتح المهدي الخرطوم إلا مضطراً حينما اقتربت بعثة الانقاذ وتغلبت على الأنصار في أبي طليح. قال هولت : (بناء عليه أرسل المهدي وقد أرضى ضميره بعد إنذاره عدوه ،أرسل محمد عثمان أبا قرجة ومعه المدافع)

    ب‌) أمّن المهدي سكان الخرطوم الخارجين عنها.

    ت‌) خاطب الجيش بألا يقتل إلا المحاربين فمن سد عليه بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن.

    ث‌) أمّن أعيان الخرطوم وعيّن أشخاصاً لضمان سلامة عدد من العلماء والكبراء وعلى رأسهم غردون نفسه وكان قبل ذلك قد عرض على غردون التسليم مع كامل الإكرام أو إلحاقه بأهله أو فتح المجال له ليرجع إلى أهله.

    ج‌) لم يعامل أهل المدينة بالفقه التقليدي ولا اعتبرهم كفاراً يستحل نساءهم وأموالهم. فلم يسمح بالسبي ولا أخذ أموال الناس وإنما ضم لبيت المال الأموال الحكومية لا الملكية الشخصية وسنرى ذلك.

    ح‌) لم يعامل المسيحيين بأخذ الجزية عنهم، بل رفع ذلك إجتهاداً كما ذكر ذلك أوهروالدر، وحتى لو لم يذكره فإننا لانجد نصاً في منشوراته يأمر بأخذ الجزية منهم ولا نجد في كتابات المؤرخين من روى ذلك وسنورد حوار المهدي مع القسيسين الذي أورده أوهروالدر وتعامله مع النصارى الذي أورده أبو شامة.

    خ‌) وحتى حينما تحدث تجاوزات من الجيوش كان يامر برد المظالم في حينها وكان يرى أن النصر لا يكون مع الظلم وسنورد كلامه في ذلك إن شاء الله.

    مبررات الجهاد وضوابطه

    • كان المهدي ساعياً في إقامة الدين والسنن ومحاربة الفساد الذي استشرى، ومكافحة المظالم التركية التي ذكرناها في الفصل السابق والمفاسد السياسية والاجتماعية والخضوع والانقياد لغير المسلمين. قال الامام المهدي عن الترك (1299 هـ 1882):

    (إن الترك كانوا يسجنون رجالكم ويسحبونهم في القيود ويأسرون نساءكم وأولادكم ويقتلون النفس التي حرم الله بغير حقها وكل ذلك لأجل الجزية التي لم يأمر الله بها ولا رسوله ومع ذلك لم يرحموا صغيركم ولم يوقروا كبيركم. كيف نسيتم هذا كله ولم تأخذكم الغيرة في دين الله ولا في انتهاك محارمه)

    • لم يبدأ المهدي الترك بالقتال. فأول معركة وقعت حين أرسلت الحكومة وفدأً بقيادة أبي السعود العقاد لإستدعاء المهدي. وحينما رفض جردت حملة عسكرية للقبض عليه. روى نعوم شقير أن عساكر الحكومة هم من ابتدر القتال قال ( فلما رآهم العساكر ابتدروهم بالرصاص)

    ونلاحظ في سياق الأحداث التالي:

    أن المهدي عندما رفض الامتثال للإستدعاء كان يعلم أن الحكومة لا محالة محاربته، وكان يعلم إطّلاع "أبي السعود" على حالهم وعدّتهم وعتادهم وأنه سيبلغ الحكومة، ومع ذلك ترك "أبا السعود" يرجع وقد ذكر الكردفاني ذلك حين قال ( ولم يتعرض _ المهدي – له –لأبي السعود- بمكروه لكونه رسولاً والرسل لا يتعرض لهم بسوء كما هي عادة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم)

    • وكعادته لم يقاتل المهدي إلا بعد إنذار فقد أرسل برقية من الكوة للحاكم ينذره.

    قال في منشوره للخديوي : (وأخبرت الحكمدارية بأني المهدي المنتظر وقد كان بها محمد رؤوف وما تركت لأهلها في إيضاح هذا الأمر شيئاً. وأنا في انتظار الأخبار وتسليم الأمر لله الواحد القهار، فما كان منهم إلا أن أضربوا عما أخبرتهم به صفحاً وطووا عن قبوله كشحاً وبادروني بالمحاربة من غير روية ولا تثبت في هذا الأمر الديني)

    • وكان هذا دأبه فحينما تبادل الخطابات مع الشلالي وردّ الشلالي مهدداً، طلب الأنصار من المهدي عدم مكاتبته وأن يهاجمه دون إنذار فرفض وقال لهم لا بد من إنذار قبل الحرب .ويؤكد ذلك خطاب أرسله المهدي للشلالي قال فيه:

    ( أما قولكم أنا قتلنا العساكر غدراً في الوقعتين قبل أن يحاربونا فهذا كذب صريح لأنهم في الوقعتين ابتدأونا بالمحاربة والضرب بالسلاح حتى حاربناهم وقتلناهم......وقولكم أن الحكومة أرسلتهم ليقفوا على ما عندنا من الأدلة باطل أيضاً ضرورة لأن الحكومة لو أرادت المراجعة والاطلاع على ما عندنا من البراهين لأرسلت الصلحاء والعلماء أهل المذاكرة والدراية ولم ترسل العساكر الأغبياء وتعطيهم الأسلحة).

    • وحربه كانت بإزاء نظام باطل فاسد معتدٍ خاضع لغير المسلمين ومع ذلك بدأ بالقتال فيجب مقاتلته بكل مقياس عقلي أو ديني. وقد ورد المقياس العقلي في المثال الأول الذي ساقه المهدي في ظلم الترك وضرورة محاربتهم غيرة للدين ورداً للظلم، وورد ردّه الفقهي على دعاية الحكومة وأذنابها في خطابه للشلالي بتاريخ رجب 1299هـ:

    "وقولكم إن الذين قتلناهم من العسكر مسلمون ومتبعون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم نسأل عن دمائهم بين يدي الله باطل لأن القطب الدرديري قد نص في باب المحاربة على أن أمراء مصر وعساكرهم وجميع أتباعهم محاربون لأخذ أموال المسلمين منهم كرها فيجوز قتلهم كما قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ...) .

    لم يكتف المهدي بمخاطبة القادة بل كان يخاطب الجنود وأهل المدن قبل القتال مثل مكاتبته لهكس باشا مباشرة وكتابته منشورات للجنود المرافقين وزعت في طريق الحملة ليقرأها الجنود نذراً وعذراً.

    • حرص المهدي على توضيح أن المستهدفين بالقتال والجهاد هم المحاربون وحدهم، روى الشيخ بابكر بدري المشهد التالي في فتح الخرطوم بعد أن جمع المهدي الجيش: (وبعد ذلك قال : إذا فتح الله عليكم فغردون لا تقتلوه والشيخ حسين المجدي لا تقتلوه والفقيه الأمين الضرير لا تقتلوه ولهم رابع نسيته ثم قال ومن رمى سلاحه لا تقتلوه ومن قفل عليه بيته لا تقتلوه فعارضه رجل أسمع صوته ولا أرى شخصه قائلاً يا سيدي في بعض الجردات التي قتلناها رأينا العسكري يرمي سلاحه فإذا تعديناه أخذ سلاحه من الأرض ويرمينا أو يضربنا به فقال المهدي (عم) بعد ما سمع كلامه: الذي تجدونه في خط النار فاقتلوه) .

    ويستفاد من هذه الفقرة الصغيرة عدة أمور :

    أولها أن المهدي أمّن كبراء الخرطوم مع أنهم كانوا يبرزون العداوة للمهدية مثل غردون والشيخ الضرير الذي ألف رسالة في إبطال المهدية وغيرهما.

    ثانيها عدم قتل غير المحاربين بل وحتى المحارب الذي يستسلم.

    وثالثها أن ذلك كان معروفاً لأعداء المهدي حتى قبل فتح الخرطوم بدليل إلتزام أصحابه بعدم قتل من يلقي سلاحه ومعرفة جيش الحكومة لذلك بدليل رميهم لسلاحهم لمعرفتهم أنهم لن يُقتلوا إذا فعلوا ذلك.

    وتأمين غير المحاربين يشمل مسلمهم وغير مسلمهم وسنناقش في نقطة لاحقة معاملة الأسرى المسيحيين الأوربيين ومعامل النصارى بصفة عامة.

    كان التوجه العام للمهدي هو الوصول لأهدافه دون إراقة دماء ومعاملة الناس بالرفق فكان يطيل حصار المدن ويكاتب رؤساءها وأعيانها طالباً التسليم دون إراقة دماء وعارضاً الأمان عليهم كما كان يعامل الفارين بلطف ويوصي على معاملتهم باللطف. كما كان يعلن العفو عمن سبق منهم أذى للمهدية وللأنصار.

    الحلقة التالية: شواهد وشهادات

    الهوامش:

    Charismatic Leadership in Islam: The Mahdi of the Sudan RICHARD H. DEKMEJIAN and MARGARET J. WYSZOMIRSKI: (Initially, it called for a return to puritanical Islam, but stopped short of proclaiming a jihad (holy war) against the government. Instead, the Mahdi called upon his people to execute a hijra—an escape from their 'sinful' environments to join him in a new life of perpetual asceticism.)

    (As the government's coercive intentions became manifest (e.g. Aba fighting), the call for a jihad became one of the most explicit and frequent themes of the leader's message.)

    ( في البداية دعت- المهدية- للعودة للإسلام النقي ولكنها لم تعلن الجهاد ضد الحكومة وبدلاً عن ذلك دعا المهدي أتباعه للهجرة : الهرب من بيئتهم الآثمة والالتحاق به في حياة جديدة من الزهد الدائم. وحينما ظهرت نوايا الحكومة القمعية " مثل معركة أبا" صار نداء الجهاد أوضح وأكثر الأطروحات تردداً في رسالة القائد)

    كتب المهدي منشوراً يدعو للهجرة إليه وقد حدد رمضان موعداً لذلك مما يدل على أنه لم يكن ينوي القتال حيث وقعت معركة ابا في رمضان في نفس الوقت الذي كان يزمع فيه أن يكون بقدير. وجاء في أحد منشوراته الداعية للهجرة إلى قدير قبل موقعة أبا ( أما الترك فطاعتهم بعد إمام الدين كفر وضلال ...فإن تعرضوا عليكم فقاتلوههم فقد أجازكم الله في قتالهم)

    هولت ص 115

    الصادق المهدي يسالونك عن المهدية

    شقير ص 338

    محمد محجوب مالك سابق ص 100

    شلبي ص 168

    السيد علي المهدي : جهاد في سبيل الله ص 29

    محمد محجوب مالك ص 102 وكذلك جهاد في سبيل الله ص 30

    بابكر بدري سابق ص 35

    قال هولت: ولا يوجد ما يدعو للشك فيما يؤكده السودانيون بصفة عامة من أن غردون قتل برغم أوامر المهدي ص 121

                  

03-08-2016, 06:11 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة السابعة

    الفصل الثاني: شواهد وشهادات:

    1) شهادات أوهروالدر/ ونجت في كتابهما

    الغريب في الأمر أن كتاب أوهروالدر/ونجت ومع أنه كتب بروح مبشر حاقد ناقم على المهدية أن قطعت عليه عمله مقرونة مع روح مسؤول مخابرات يريد أن يتم عمله في فتح البلاد إلا أن أنوار الحقيقة تسربت من بين كفيهما لتقف شاهداً على زور تلك الاتهامات، فأصبح الكتاب يكذب بعضه بعضاً. فمما ورد في الكتاب:

    القبض على البعثة التبشيرية في الدلنج:

    جاء في الكتاب أنه قد تم أسر أفراد بعثة المبشرين بكردفان ومع أن البعثة كانت مسلحة بالبنادق ومع اعترافه بأنها أمدت بعض النوبة بالسلاح في حربهم مع المهدية إلا أن أحداً من مبشريها لم يقتل بل اكتفى المك عمر قائد قوات المهدية بأخذ السلاح منهم وعاملهم بلطف، جاء في الكتاب:

    ( استقبلنا المك عمر بطريقة لطيفة وأحضر لنا قهوة)

    وحينما جيء به (أوهروالدر) وأفراد البعثة إلى معسكر المهدي ذكر في عدد من المرات كرم المهدي وخلفائه ولطف معاملتهم . قال :

    ( جلبونا لقطية الخليفة شريف حيث دعانا للدخول للظل وإراحة أنفسنا وأبعد عنا الجوع وأعطانا ماءً لنشرب وتركنا نرتاح) ثم أخذوهم للمهدي حيث يصف ذلك (حيانا بلطف وسألنا عن جنسياتنا وسبب مجيئنا للسودان....لما رأى إجهادنا أعطانا مشروب قمر الدين) ( ثم أعطانا قمر الدين مرة أخرى وأخذ يهش عنا الذباب) ( لم يطلب منا المهدي أبداً اعتناق الاسلام وانما اخذ يحدثنا عن مزاياه) ( تجمع الناس حولنا مهددين ولما رآنا المهدي رجع وأمرنا أن نمشي أمام جمله ليحمينا) ثم قال عن تحديد مصيرهم ( عقد مجلس للنظر في مصيرنا حيث أشار الحاج خالد أن الشريعة لا تبيح قتل القسيسين غير المحاربين بالإضافة إلى أنهم أسرى) ومثل هذا التسامح هو الذي أغرى الأب بونومي رئيس البعثة للتوسط. قال أوهروالدر( حينما اتُهم المك عمر بالغلول أرسل إليهم (للمبشرين) ليتوسطوا له لدى المهدي فذهب بونومي إلى المهدي وأخبره بأن النوبة هم من سرق الغنيمة وليس المك عمر)

    وحينما طلب المبشرون المأسورون من المهدي الذهاب إلى أهلهم قال أوهروالدر: ( استمع لنا بلطف وقال في الوقت الراهن الطرق خطرة ولا أريد أن يصيبكم أذى) وقد صدق إذ حكوا هم أنفسهم أن الشعور العام لدي السودانيين والثوار كان معادياً لهم حتى داخل المعسكر.

    ولحمايتهم من مضايقات الناس أمرهم بلبس القفطان الذي يلبسه المصريون، قال أوهروالدر( وأخذنا بنصيحته الجيدة)

    وقال أوهروالدر يصف المهدي: ( المهدي متمكن جداً في فن كسب الناس ابتسامته الصافية وسلوكه الحميد وكرمه ومزاجه المعتدل) وحينما أرسل القنصل النمساوي هانسال خطاباً للمهدي عارضاً فيه دفع فدية لكل المسيحيين الأوربيين مقابل إطلاق سراحهم:( أبدى المهدي سعادته بالخطاب وقال إن نظام الفدية كان معمولاً به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه {أي المهدي} غيّره وكذلك الجزية { ضريبة الرأس التي يدفعها المسيحيون} ووعدنا أن يحمينا) تم القبض على الرجل المبعوث بخطاب الفدية في طريق رجوعه للخرطوم ووجدوا معه خطاباً من المبشرين وبعد أن شرح المبشرون للمهدي مضمون الخطاب تم إطلاق سراح المبعوث) ولما ادعى الاسطمبولي أنه كان السبب في إطلاق سراح المبعوث علّق أوهروالدرقائلاً: (ولكننا ندين في ذلك للنوايا الحسنة والنزعة اللطيفة للمهدي) وقال ( ولما علم المهدي بكذب الاسطمبولي في ترجمة الخطاب سامحه) .

    ويمضي أوهروالدر وتتسرب منه الشهادات : ( سلّمنا على المهدي فرد علينا بألطف وأرق طريقة وأطعمنا بيده وأكل معنا – لقد كان مدهشاً أن يفعل ذلك لأن كثيراً من المسلمين يعتبرون مجرد الأكل أمام المسيحيين خطأ)

    (وجّه المهدي أحمد سليمان بإعطائنا كل ما هو ضروري لحياتنا من بيت المال)

    (ولما اشتكت إحدى الراهبات للمهدي أمر بإحضارهن في حمايته، طلبن أن يكن في حماية أتباع المهدي من الإغريق والذين طلبوا أيضاً ذلك فوافق المهدي الذي أشفق عليهن من قلبه على ذلك الطلب)

    ثم ياتي فيقول أن تعامل المهدي الرحيم معهم لم يكن بدافع الشفقة ولكن إتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم الذي إلتزم التسامح مع الرهبان وأمر أصحابه بذلك. ثم يورد عهد الأمان الذي منحه النبي (ص) للنصارى والرهبان والذي توجد نسخة منه في دير جبل سيناء كاملاً. قال أوهروالدر:

    ( ومن الحقائق المعروفة جيداً في القرآن أن النبي محمداً يأمر باحترام الرهبان والأشخاص الأتقياء الذين كرسوا حياتهم للعبادة وعلاوة على ذلك فهو يخبر أتباعه بأن من واجبهم أن يفعلوا كذلك. وتأكيداً لهذا فإنني _ والكلام لأوهروالدر_ هنا أقتبس ترجمة لقطعة مشهورة توجد في مخطوطة محفوظة في الدير اليوناني بجبل سيناء:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين بشيراً ونذيراً ومؤتمناً على وديعة الله في خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً.كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعيدها فصيحها وعجميها معروفها ومجهولها: كتاباً جعله عهداً. فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدّى ما أمره كان لعهد الله ناكثاً ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئاً وللعنة مستوجباً، سلطاناً كان أم غيره من المسلمين المؤمنين.

    وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو وادٍ أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون من ورائهم ذاب (ذاباً) عنهم من كل عدة لهم بنفسي وأعواني وأهل ملتي وأتباعي كأنهم رعيتي وأهل ذمتي. وأنا أعزل عنهم الأذى في المؤن التي يحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلا ما طابت به نفوسهم وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك.

    ولا يغّير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سائح من سياحته. ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ولا يدخل شيء من مال كنيستهم في بناء مسجد ولا في منازل المسلمين. فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله. ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزية ولا غرامة. وأنا أحفظ ذمتهم أينما كانوا من بر أو بحر في المشرق والمغرب والشمال والجنوب وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه. وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضيع المباركة لا يلزمهم ما يزرعوه لا خراج ولا عشر ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم.

    ويُعانوا عند إدراك الغلة باطلاق قدح واحد من كل أردب برسم أفواههم. ولا يلزموا بخروج في حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما أكثر( من ) إثني عشر درهم (درهماً) بالحجة في كل عام. ولا يكلف أحداً (أحد) منهم شططاً. ولا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ويخفض لهم جناح الرحمة. ويكف عنهم أدب (؟) المكروه حيثما كانوا وحيثما حلوا. وإن صارت النصرانية ( يعني المرأة) عند المسلمين فعليه برضاها وتمكينها من الصلوات في بيعها. ولا يحيل بينها وبين هوى دينها.

    ومن خالف عهد الله واعتمد بالضد من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله.

    ويُعانوا على مرمة بيعهم ومواضعهم ويكون ذلك معونة لهم على دينهم ومعا (وفاءً/ وفقاً) لهم بالعهد. ولا يلزم أحداً (أحد) منهم بنقل سلاح بل المسلمين يذبوا عنهم ولا يخالفوا هذا العهد أبداً إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا. وشهد بهذا العهد الذي كتبه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم لجميع النصارى والوفاء بجميع ما شرط لهم عليه من أثبت اسمه وشهادته آخره.

    علي بن أبي طالب، ابو بكر بن أبي قحافة، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، أبو الدرداء ، ابو هريرة، عبد الله أبو مسعود (يقصد ابن)، عباس بن عبد المطلب، فضيل بن عباس، زهير بن عوان ( الزبير بن العوام)، طلحة بن عبيد الله، سعد بن معاذ، سعد بن عبادي ( عبادة)، ثابت بن قيس، أبو خيثمة، هاشم بن أمية ( بن عبية) حارث بن ثابت، عبد الله بن عمرو بن العاص، عمرو بن يسن، معظم بن قريشي،عبد العظيم بن حسن.

    وكتب علي بن أبي طالب هذا العهد بخطه في الثالث من المحرم ثاني سني الهجرة الموافق أول أغسطس 622 للميلاد ووقعه النبي بنفسه ( وفي الأصل العربي وختم بخاتم النبي صلى الله عليه وسلم)

    وتعضيداً للروايات المتواترة التي ذكرها بدري وهولت وغيرهم من الكتاب عن توجيه المهدي بعدم قتل غردون قال أوهروالدر: ( لما أحضروا رأس غردون للمهدي بدا عليه الانزعاج الشديد لموته)

    بل أكثر من ذلك يروي أوهروالدر أن الأوربيين لم يكونوا مقيدين ولم يقيد أحد منهم إلا في ظروف معينة: (رجال أمثال لبتون وسلاطين وصالح المك .. كان يُنظر إليهم في معسكر المهدي كرجال شجعان وقادة ماهرين وكانوا حقاً يخشونهم وهذا هو السبب الذي وضعوا عليهم السلاسل والأغلال، لقد اعتقدوا أنهم يمكن أن يفروا) وكان ثلاثتهم قد عرض على غردون خدماته والانضمام إليه فرفض. فإذا كان التقييد بالسلاسل لا يتم إلا لعلة فكيف بالقتل؟! قال أوهروالدر ( لم يكن لدى المهدي أدنى شك في ميول هؤلاء ولقد عاملهم بأقصى درجات الشك ولكن حتى بالنسبة لهؤلاء المتوحشين كانت فكرة قتل رجال مخلصين للحكومة وقاتلوا بشجاعة دفاعاً عن مديرياتهم كانت تلقى اعتراضاً إلا إذا قدموا سبباً مقنعاً وكافياً لقتلهم).

    وذكر أوهروالدر أيضاً (أن المهدي استقبل روفيرسي استقبالاً حسناً وأهداه حصاناً) ( ولما مرض روفيرسي بعثه المهدي لكازقيل ليغير الهواء لأن هواءها أفضل)

    ويدل تواصل المبشرين وهم في معسكر المحاصرين للأبيض مع سكان الأبيض أن حركتهم لم تكن مقيدة حيث ذكر التالي( أرسلوا لنا خطابات وتلقوا منا أموالاً وملابس) والحقيقة أن الخطابات والرسل لم تقف عنهم أبداً من سلطات ومبشري الأبيض ومن غردون والمبشرين بالخرطوم قبل فتحها ومن مصر حتى نجحت تلك المراسلات في تهريب بعضهم. ورغم نجاح تهريب الأب بونومي إلا أن عامل المهدية في كردفان لم يسيء معاملة الباقين ولم يشدد عليهم وعزا أوهروالدر ذلك لإنشغال الشريف محمود حاكم الأبيض بوفاة المهدي.

    وذكر أوهروالدر في نقاش المهدي الديني معهم أنه ناقشهم حول مزامير داؤود وختم قائلاً( أعلم أنكم – المسيحيين – ناس طيبون جداً وأنكم تطعمون الجائع وحدثنا عن أعمال الرحمة).

    هذا جانب من الأقوال التي تناثرت في كتاب أوهروالدر/ ونجت عن تسامح المهدي وهي أقوال وشهادات شديدة الأهمية نظراً لأن كتابهما كان المحرض الأول ضد الدولة المهدية وعلى عزو السودان.

    1) المهدية والمسيحيين:

    لخص الأستاذ أبو شامة سياسة الإمام المهدي نحو الأوربيين المسيحيين في عدة نقاط أهمها:

    1) عدم محاكمة أي أوربي على أية تهمة أو جريمة قام بها قبل الثورة.

    2) عدم إكراه أي منهم على قبول الإسلام وإنما الاكتفاء بعرض الإسلام فقط .

    3) عدم قتل أي أوربي لأي جرم مهما بلغ.

    4) مساعدة المسيحيين وخصوصاً الأوربيين للعيش في المعسكرات وفيما بعد في أمدرمان بإضافتهم لشخصيات لها وزنها السياسي والاقتصادي وقدرتها على رعايتهم وحمايتهم من الجهلاء وضعاف العلم. وفي أمدرمان أبدلوا هؤلاء بقادة من نفس مواطنيهم ما أمكن وفي كل الحالات لو ظهرت حوجتهم للمال فإن بيت المال يقوم بالصرف عليهم.

    5) رغم تجسس بعضهم عفا المهدي عنهم. ( مثل بونومي ولبتون وأوليفربان وغيرهم)

    6) ولما غادر المهدي الأبيض لفتح الخرطوم ترك أهل الكنيسة بها.

    7) وفيات المبشرين بعد الثورة قلّت عنها قبل الثورة.

    هذا وقد ذكر أبو شامة سبل كسب العيش بالنسبة للأوربيين المسيحيين في المهدية حيث كان سلاطين يعيش على بيت المال وكان الشماس دومينيكو بولوناري مسؤولاً عن حديقة الكنيسة الكاثوليكية وإدارة طلمبتها في مقابل مال من بيت المال، وعمل لبتون في معمل الذخيرة ثم في البواخر لقاء أجر من بيت المال، وعملت الراهبات على كسب عيشهن من الخياطة وعمل أوهروالدر عملاً خاصاً في صناعة الصابون مع لبتون ثم عمل في صناعة صنارات صيد السمك ثم في صناعة زراكش الثياب.

    2) شواهد أخرى على العفو والتسامح

    المنكر فيك – وفي مهديَتك

    عليك تدنيه – من شدة رأفتك

    أحمد ود سعد

    من الشخصيات التي حاربت المهدية أو أساءت للمهدي وعفا عنهم:

    1) عبد الله ود إبراهيم: كان بالأبيض عندما حاصرها المهدي . غادر القلعة لما علم بدنو المهدي منها وذهب مباشرة لقتل الإمام المهدي بسلاح ناري ولما فشلت المحاولة عاد مسرعاً للأبيض وبعد فتح الأبيض سامحه المهدي بل وعيّنه قائداً لفرقة تحت إمرة حمدان أبو عنجة.

    2) كبراء الخرطوم الآتية أسماؤهم أوصى المهدي بالحفاظ على حياتهم وعيّن لهم من يقوم بذلك وهم: الشيخ محمد حتيك قاضي القضاة والشيخ الأمين الضرير شيخ الاسلام والشيخ محمد السقا والسيد حسين المجدي والمفتي شاكر والسنجك محمد قرضية وإبنه أحمد وأحمد بك جلاب مدير الخرطوم والشيخ محمد الخراساني والشيخ سليمان الدراوي ومحمد سليمان ومحمد طه الشامي والشيخ صالح أورباوي وفرج باشا الزين القائد العام .

    3) ضباط حامية أمدرمان فرج الله وعبد النبي. (حيث سمى المهدي فرج الله أميراً على عساكره وجعل له مرتباً قدره 20 ريالاً في الشهر يجرى له من بيت المال وأمر أصحابه بعدم التعرض له)

    4) حسين باشا خليفة مدير بربر ودنقلا عفا عنه بعد أن سلّم وعيّنه أميراً على العبابدة فنكث العهد

    5) الفكي مختار الكناني رفض مرور المهدي حينما كان ملاحقاً من الترك في هجرته وأعدّ جيشاً لمحاربة المهدي ولما وقع في الأسر عفا عنه. والتزم للمهدي بتسريح جيشه فنقض العهد.

    6) عفا عن الملك تيفرا مك فنقر رغم أنه أتى مبايعاً له مع زعماء الجبال فنكث العهد وخانه مع راشد بك حيث سهل مروره وكتم خبره لولا رابحة الكنانية فعفا عنه ثم خان مرة ثانية مع الشلالي حيث حاول قبض طلائع المهدي.

    7) عفا عن عثمان الطوبجي بالأبيض وأكرمه وسمح له بإقامة احتفال المولد تطييباً لخاطره.

    8) المضوي عبد الرحمن: هاجر إلى قدير وانضم للمهدي نكث عهده وذهب للعيلفون وقام بعمليات نهب وقابل الحكمدار عبد القادر حلمي ثم انضم للمهدي مرة أخرى بعد واقعة شيكان فعفا عنه وبعد وفاة المهدي هرب إلى مصر عن طريق الحبشة. ومن عجائب الحكايات أن الحكومة المصرية قبضت عليه وأرادت محاكمته بتهمة المشاركة في المهدية وتأليب سكان الخرطوم عليها إلى أن تدخل الزبير باشا موضحاً أن الثورة كانت عامة إنخرط في سلكها كل الناس

    9) محمد شريف نور الدائم: أبلغ عن المهدي في بداية الدعوة ونظم قصيدة في هجائه بايعاز من عبد القادر حلمي ولم ينتقم المهدي من استاذه وإنما تلقاه عندما جاءه بالاحترام وبحسب تعبير شقير (فاستقبله المهدي أحسن استقبال وأمر بذبح النياق إحتفالاً بقدومه وبقي في صحبته غير مهان) وظل محمد شريف على قيد الحياة طيلة فترة المهدية.

    10) سلاطين باشا: بعد تسليمه وادعائه الاسلام عفى عنه، قال غردون في خطاب لرئيس حملة الانقاذ( سلاطين مع المهدي والمهدي لم يصادر ماله بل أبقاه له كله وهو يحسن معاملته) . ولكن سلاطين أرسل لغردون خطاباً يخبر فيه عن ضعف جيش المهدي، ولما كان غردون في حاجة ماسة لرفع الروح المعنوية لسكان الخرطوم المحاصرين فقد أفشى ذلك الخطاب وأرسل منشوراً إلى جنوده وأهل الخرطوم ينقل فيه حديث سلاطين. وقد وصل ذلك المنشور للمهدي ومع ذلك لم يُقتل وإنما حبس لأجل معلوم ثم أطلق سراحه بعد طلبه الغفران.

    11) محمد سعيد حاكم كردفان: أرسل له المهدي رسلاً أثناء حصار الأبيض فقتلهم وبعد أن تم فتح الأبيض عفا عنه وأكرمه وعظمه ثم نكث فكان يكاتب غردون سراً فقتل بذلك.

    12) صالح المك: حارب المهدية في عدة مواقع وأُوكل إليه قمع الثورة المهدية في الجزيرة ورفع حصار سنار وقتل الأمير أحمد المكاشفي في سقدي. تم حصاره وأسره وأُرسل للمهدي فأكرمه وعفا عنه. ثم بعد ذلك نكث وكاتب غردون وضُبط خطابه مع السفينة التي أرسلها غردون لمصر فأسرها الأنصار ومع ذلك لم يُقتل.

    13) لبتون سلّم وذكر لأحدهم أنه سلّم لعدم وجود من يؤازره في حرب المهدي ومع ذلك عفا عنه المهدي مرتين ثم عاد وراسل غردون وأفشى أحوال الأنصار وأصبح ينتظر النجدة وقد قُبضت مراسلات غردون له مع رجل قبطي اسمه صالح شنودة ومع ذلك لم يقتل وسجن إلى حين فتح الخرطوم ثم أطلق سراحه.

    14) زوجة أبي السعود وهو أول من قاتل الامام المهدي بالجزيرة أبا. كان أحمد سليمان قد أعطاها خادمة فوهبتها لبنتها وجاءت متضررة للمهدي فكتب لأحمد سليمان: (إن زوجة أبي السعود بنت العقاد أعطت الخدامة التي أعطيت لها لبنتها لما أُرسلت إلى محمد صالح ساتي علي وقد تضررت المذكورة إلينا ولإلفها لمماليكها وموافقتهم طلبنا لها بذلك وقد وافقت التي أرسلتموها لها فجزاك الله أحسن الجزاء)

    15) وكنت قد جمعت بعض مواقف الامام المهدي التسامحية مع الشيخ محمد شريف وارجعتها لموقعها من الاثار الكاملة وكذلك مع الفكي الازيرق وغيرهما لم أذكرها لبعدي عن مراجعي. وهذه المواقف ليست حالات عارضة وإنما كانت سلوكاً وديدناً.

    وقد وصف هولت المهدي ( بالنفور من الخصام وعدم قطع العلاقات إلا بعد استنفاد أقصى وسائل الإبقاء عليها)

    16) وعند تسليم المدن كان النسق هو: يتم إعطاء الأمان للسكان لاسيما الرؤساء ، ويسمح لهم بأخذ متعلقاتهم الشخصية وممتلكاتهم مثل الأمتعة والمنقولات أما الأشياء التي تخص الحكومة مثل السلاح والذخيرة والمهمات فتورد لبيت المال.

    17) فعلى سبيل المثال لما قبلت حامية بارا بالتسليم أعطاهم الإمام المهدي الأمان وطلب من الأمير النجومي المحافظة على رؤساء وجنود الحامية وعموم أهلها من أذى الجوامعة. وكان على رأس الحامية النور بك عنقرة الذي أصبح فيما بعد من أمراء المهدية. وعن كسلا قال هولت ( وكما حدث في أماكن أخرى رأت الحامية أنه من الأفضل لسلامتها أن تطلب شروط السلام من المهدي ذاته بدلاً من الوقوع تحت رحمة القائد المحلي) وتم تأمين حاكمها احمد رفعت إلى أن نكث وغدر حينما حاول الانقلاب واستعادتها اثناء غيبة دقنة من المدينة. وعن الأبيض قال شقير أن المهدي كان يستعد لفتح الأبيض حينما أنهكها الحصار ولكن جورجي الاستامبولي استشفع المهدي شفقة على أهل الحامية وعلى أصدقائه القساوسة فسمح له المهدي بالذهاب إليهم وإقناعهم بالتسليم ثم ذكر معاملته الطيبة لهم ولمحمد سعيد حاكمها

    18) وذكر معاوية يسن في رده على شوقي بدري عن أحداث التيارة نافياً سبي النساء مايلي ( حين جاء مبعوث المهدي منذراً المدينة بالتسليم للإمام محمد أحمد المهدي، قرر المغاربة مقاومة الثائر الزاحف إلى قدير. ولا بد أنه كان قرار كثير من قبائل "أولاد الريف". وعلى ذلك استعد المدافعون عن البلدة لمقاومة المهدي بحفر خندق كبير، والخندق في كل أرجاء السودان يسمى القيقر، وأنت بذلك أدرى.

    في تلك المعركة ألحق المهدي هزيمة كبيرة بالمدافعين. وقتل غالبية الذكور، وبقيت النساء والأطفال ومنهم أجدادنا الذين خيرهم الامام المنتصر بين أن يذهبن طليقات، أو إن شئن يرافقنه في زحفه صوب البقعة. وانشقت عائلتنا نصفين. ذهب بعض جداتنا إلى أن هذا القائد الذي ضمن للحرائر أمنهن وشرفهن لحريٌّ بهن أن يرافقنه حتى لو أفضى ذلك إلى الموت. وهذا هو شق عائلتنا التي تقيم في حي مكي بأم درمان)

    3) شواهد من منشورات ومكاتبات الإمام المهدي

    • من خطاب للأنصار الذين يحاصرون الخرطوم:

    ( فألفوا عباد الله الذين يخرجون مسلمين ومنقادين بأنواع التآليف وتلقوهم بالإكرام والتشريف لتنالوا هذا الثواب الظريف وتقوموا بقصد الدين الحنيف ولا تتلقوا أحداً من المنقادين بتعنيف حيث يقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة.) (فألفوا أبناء أبويكم آدم وحواء عليهما السلام وأكرموهما في أبنائهم صلة لهما وبراً بهما وشفقة على عباد الله سبحانه إذ أن الله يعامل عبده بما يعامل به عبيده فالذي تحبون أن يعاملكم به عند ورطتكم وخوفكم تعاملوا به عباد الله تعالى يعاملكم الله في اليوم الهائل بالشفقة والاكرام) (فيسروا أحبابي ولا تعسروا وألفوا ولا تعنفوا ولا تنظروا لمن استشهد من الأنصار فتحقدوا بسبب ذلك على من كان مع الكفار فإن قيامنا هذا لله لا لنفس ولا لسوء اختيار بل في سبيل الله ومن استشهد من الأنصار فقد نال عظيم المقدار) ( وأكرموا الذين يأتون مسلمين وخصوصاً العلماء ومن كانوا أهل وظائف كبار وبالأخص نحو الأمين الضرير فقد قال صلى الله عليه وسلم : أكرموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر ولذلك أسرار مع دعاية نحو ذلك إلى اتساع الدين وإنما نحن دعاة لا منفرين)

    • ( وحيث فهمتم ما ذكر فإني لا لأؤاخذكم بما فات منكم ولا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) ( وعليكم أمان الله ورسوله وأمان العبد لله وليس عليكم حرج فيما مضى) وذكر في الحاشية (تحشية: سنرسل لكم عبد القادر ود أم مريوم لزيادة الطمأنينة في الأمان)

    • ومن خطابه رداً على خطاب غردون الأول:

    (أما الهدية التي أرسلتها فعلى حسب نية الخير فجزاك الله الخير وهداك إلى الصواب واعلم أنه كما كتبنا لك انا لا نرغب متاع الحياة الدنيا وزينتها وإنما هي قصد المترفين الذين لم يكن لهم عند الله نصيب فها هي مرسلة إليك مع ما نرغبه من اللبس لأنفسنا ولأصحابنا )

    وفي المقابل كان رد فعل غردون ركل الهدية وإحراقها والتفوه باساءات وكتابة خطاب جانبت لغته اللياقة. كان المهدي يخاطبه بغردون باشا عزيز بريطانيا وكان رده : المتمهدي وخطابك الركيك الخ

    • وفي خطاب آخر لغردون قال:

    (لذلك لاطفت جميع الأكابر وأهل الدولة بالقول والفعل ليعرفوا ما عند الله فيرغبوا فيه) ( ومن وقع في قبضتنا من الأكابر من الدولة والحكام ما عملنا معه إلا الخير والإكرام)

    وقال لغردون عن محمد سعيد حاكم كردفان

    ( وليكن معلوماً عندك يا حضرة الباشا أن جميع الذين قتلوا على يدي أنذرتهم أولاً إنذاراً بليغاً وها هي واصلة إليكم إنذار ولد الشلالي بعد مخاطبته لي وإنذار هكس بأجوبة عديدة للعامة وجواب مخصوص له ولأكابر جيشه وقد أرسلنا إلى باشا الأبيض بجواب فقتل رسلنا وبعد أن وقع في يدنا أكرمناه وأعطيناه جبة جميلة ليتدرج إلى الصدق مع الله ولا زلنا نكرمه ونعظمه فلم يصدق وما زال يقع فيما يهلكه ونحن نصفح عنه حتى أخذته نيته فمات ومع ذلك لأجل مبايعته لي ومجالسته معي فقد أتانا خبر بعد موته أنه عفى عنه في الآخرة فصار من السعداء)

    • من رسالة لعثمان دقنة:

    (وحيث لايخفى عليك حبيبي أن قيامنا هذا لله ولمحض الدلالة إليه من غير ضغينة على أحد من قبل النفس فإن ذمة الاسلام عزيزة ولا بد من الوفاء بها لأهلها فيلزم على مقتضى وعدكم والتزامكم بتنجيز المطلوب بتحمل الأذايا في الله واستئلاف الخلق قولاً وعملاً اقتداءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعاً لقوله تعالى( ولا تزال تطّلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين).

    ( فعلى هذا كل من كان رافعاً رأسه عناداً للمهدية ولو آذى بالفعل إذا أذعن واتبعها وانضم..فلا تحصل له مؤاخذة بما سلف)

    ( وحذروا جميع ناساتكم من اقتحام النهي الوارد في قوله تعالى : " فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً" وقد ورد لنا من رسول الله (ص) أن ثواب الناجين من المؤمنين لنا أكثر من ثواب الكفرة الهالكين) ( ولهذا السبب كنا أصدرنا منشوراً من عندنا لكافة العملاء المحاصرين بالخرطوم هذه صورته واصلة إليكم)

    • ومن مكاتباته لغردون ( وكانت عديدة كما ذكرنا)

    قال في خطاب بتاريخ 10/10/1884 ص 80 ( ولولا مراعاة حسم دماء المسلمين لضربت صفحاً عن مخاطبتك وبادرتك بالهجومات التي لا أشك في نجاحها) وكتب له في 6/1/1885 ص 82( فإن أسلمت وسلمت عفونا عنك وأكرمناك وسامحناك ) وفي 7/1/1885 كتب له ( وبعد فإن أراد الله سعادتك وقبلت نصحنا ودخلت في أماننا فهو المطلوب وإن أردت أن تجتمع على الإنجليز الذين أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاكهم فنوصلك إليهم) ص 83 وقال ملاطفاً له ( لأننا قد سمعنا مراراً فيك الخير ولكن على قدر ما كاتبناك للهداية والسعادة ما أجبتنا بكلام يؤدي إلى خيرك كما نسمعه من الواردين والمترددين وللآن ما آيسنا من خيرك وسعادتك كما سمعنا من الفضل) ( ولذلك طال ما كاتبناك لترجع إلى وطنك وتحوز فضالتك الكبرى ولئلا تيأس من الفضل الكبير أقول لك : قال الله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما") وفي سياق الترفق به استشهد المهدي في رسائله لغردون بأقوال المسيح عليه السلام فقال ( وقد قال المسيح عليه السلام يا معشر الحواريين ابنوا على موج البحر داراً ، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً) ص 58 وقال في منشور آخر ( وتعلم ذلك أنت حقيقة من سيرة عيسى عليه السلام وحوارييه وقد قال كببت لكم الدنيا فلا تنعشوها بعدي)

    • وفي تأمين الخارجين من المدن وملاقاتهم بالاكرام كان يحث المحاصرين على الرفق فقال ( وليكن ذلك بلطف وعطف... مع البشارة قال تعالى إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام كتب ربكم على نفسه الرحمة)

    • وفي تأمين الرؤساء كتب إلى خشم الموس بك ( فلا تظنوا أننا نطلب أموالكم وما ملكت أيديكم إن سلمتم وصرتم من أصحابنا) ( فإن سلمتم عفونا عنكم ورضينا عليكم وكنتم من الأصحاب) ( وجميع أموالكم التي بأيديكم في الوابورات والتي بالبر تكون لكم ما عدا حق الميري الخاص وأسلحته الخاصة) ص 82

    • وكتب لضباط حامية امدرمان بمثل خطابه لخشم الموس

    • وكتب إلى زقل ( حبيبي حيث أن المطلوب هو حسن الدلالة إلى الله والرفق بخلق الله) ص 150

    • وكتب في منشور آخر:( ومادام حبيبي أن الرفق من سنة الأنبياء والمرسلين التي نحن نريد إحياها) ( تجرون فك سراح المسجونين بود مدني مع رد كافة ما ضبط معهم)

    • وكتب للخليفة ليكاتب أهل الخرطوم ( وليكن العفو عنهم وعن أموالهم كمثل ما كتب لأهل الققرة ولكن تستثنى أموال الميري والسلاح)

    • وكتب مخاطباً السجان: ( فمن أُتى إليك به للحبس فاستعمل فيه الرفق وأجر عليه حسب الحدود المشروعة، ولا يصير تشغيل المحابيس إلا في ضرورة)

    ولو أردنا الاسترسال لضاق المجال، إذ تضم مجلدات المنشورات السبعة التي جمعها أبو سليم رحمه الله آلاف الشواهد وليس بين يدي إلا مجلد واحد.

    4) إكرام المشائخ:

    تنقل المهدي خلال سني دراسته بين عدد من شيوخ العلم وصادف عدداً من مشائخ الطريق، وكانت علاقته – إذا إستثنينا غيرة أستاذه - طيبة معهم. ولم تشكل المهدية _ رغم مظاهر صفائها العقائدي ورغبتها في الأخذ من النبع الأول للإسلام _ لم تشكل قطيعة مع الصوفية والتطرق. حيث نهل المهدي من نبع التصوف السني النظري في مقروءاته وعاشر أهل الطرق وعرف للطريقة إيجابياتها وأكمل نقصها .وقد برز ذلك في فترة مبكرة حيث أورد في واحد من أوائل منشوراته بتاريخ يونيو 1881 ركائز الطريقة الصوفية وسماتها الست واستكملها بإيجابيات ست أخرى فكانت المهدية جماع خصائص الطريقة مقرونة بالبعد الايجابي الحركي الجهادي التوحيدي الوحدوي. ومما يدل على إحتفاء المهدي برجالات التصوف ذكره في ذلك المنشور عدداً من الأولياء الذين رحبوا بمهديته ونصحوه بعض النصائح مثل الشيخ الطيب والشيخ التوم والشيخ البصير والشيخ القرشي والشيخ عبد القادر الجيلاني. وسنرى أن أهل الطرق ورجالات الدين كانوا من أوائل أتباعه حينما نأتي لتحليل طوائف المجتمع التي تولت القيادة في المهدية.

    وقد رأينا كيف أكرم المهدي المخالفين فكيف بالموافقين؟ ،ومن شواهد إكرامه للمشائخ المنشور الذي أمر فيه بتوقير أبناء العبيد ود بدر بعد وفاته ( وإنزالهم منزلته في التوقير والاحترام وعدم التعرض لجماعتهم وأتباعهم والنظر إليهم بعين المحبة) ص 116 وكتب إلى ذرية الشيخ الولي الشهير بالعيلفون عند وفاة أبيهم الخليفة حمد محمد بركات قائلاً ( فوافقوه وانضموا إليه أنتم وهو في طاعة الله)( فليقم مقام أبيه ولينحي نحو آبائه الأكرمين) وذكر أبو سليم أن (الوثيقة أصلية مختومة بختم المهدي الرابع واحتمالاً بخط المهدي وبأسفلها إمضاء السيد عبد الرحمن المهدي وتعليق يقول بأن هذه الوثيقة تدل على أن المهدي لم يمنع رجال الطرق من عباداتهم ومشائخهم) ووثيقة أبناء العبيد أعلاه أيضاً يمكن استنتاج ذلك منها.

    وكتب المهدي محذراً من التعرض لأولاد البشير نور الدائم وسمح للطوبجي بالاحتفال بالمولد النبوي بالأبيض هو ومن ينتمون إليه. وكتب إلى سعد أحمد بدر وأبناء أخيه احمد موسى والطاهر العباس وحسب الرسول رداً على مكاتباتهم بأن يتبعوا الأمر الذي كتبه لهم الخليفة قائلاً ( وكذلك الأمر الصادر منه ( الخليفة) في مادة إتباع الناس لمشائخهم السابقين على نهج المهدية لأن الذي عمهم الله جميعاً ببركتها ونظمهم في سلكها اعتمده والسلام)

    وكتب للشيخ محمد النور من عمد بارا كتاباً يسمح له بقراءة الصلاة الجزولية أورده شقير جاء فيه : ( وبعد فمن عبد ربه محمد المهدي إلى حبيبه محمد النور وقاه الله الشرور، إننا قد قلنا أن من أمكنه أن يصلي على النبي بالصلوات الواردة المأثورة فخير لأجل الإقتداء ومن كان لا ينشط لذلك فليصلي على النبي بما ينشطه من جزوليته أو غيرها والسلام)

    ونقول حتى لو تم الأمر بإلغاء الطرق ورفع المذاهب والتوحد حول المهدية لإزالة التفرق في الدين ومواجهة المستعمرين فقد بقيت المعاملة الطيبة لهؤلاء.وسنعود بإشارات سريعة على إكرام المشائخ والعلماء في فقرات قادمة

    5) العدل

    والرفق تابعه العدل وشواهده كثيرة حيث بدأ المهدي بنفسه فقال:

    ( أحبابي سألتكم بالله العظيم ونبيه الكريم من كانت له علىّ مظلمة والحال أني ناسي لذلك فليطلبني قبل الآخرة فإني قد اتهمت نفسي بذلك) ( من كانت له مظلمة على الخلفاء والأمراء والأشراف فليطلب ذلك)

    ولما سارت سرية محمد عبد الكريم نهب أفراد منها التجار فرفع أحدهم عريضة للمهدي فقال ( نبهنا على محمد عبد الكريم بأن يسيروا بالعدل ولا يظلموا أحداً وحيث أنه حصل منهم هذا الظلم فالأحسن أن ترسل لهم لإرجاع هذه السرية لأن الظلم لا يُرجى معه نصر)

    وكتب للأنصار جهة السبلوقة بعدم التعدي على الأهالي:

    (حيث لا يخفى عليكم أن الظلم نار ودمار وهو محرم كتاباً وسنة وليس من دأب الأخيار ، إنما هو طريق الكفار الفجار وأنتم أنصار الله وقد خرجتم في سبيل الله فاحذروا من فساد هجرتكم وصونوا أنفسكم من التعرض للناس في حقوقهم وأموالهم بالطريق لغاية وصولكم ذهاباً وإياباً. كذلك واعلموا أن من تعدى على أحد في نفسه أو ماله بغير وجه حق فنحن غير راضين عليه ولا بد أن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة.)

    وقال في خطاب لأهل الشرق: ( فقريب يورثكم الله أرضهم وديارهم فعليكم بالعدل والإحسان)

    وأوامره في رد المظالم كثيرة منها خطابه لمحمد خالد زقل عامل دارفور يذكره بالرفق بالرعية وبرد أموال أحد الذين اشتكوا من عمال الغنائم الذين أخذوا أمواله غنيمة لبيت المال والذي ختمه بقوله ( والحال بوصول هذا عندكم تردوا لهم كافة أموالهم وما أخذ منهم)

    وقال ( فلازم راحتهم ولا يعودوا لنا ثاني مرة شاكين ).

    ومثل شكوى عثمان صالح أرباوي الذي ذكر تعدي خمسة أشخاص من جيش عبد الحليم مساعد عليهم وأخذهم ممتلكاتهم كتب المهدي إلى مساعد ( ما دام حبيبي ان الرفق واللين سنة الأنبياء والمرسلين التي نحن نريد احياها إذ تعلمون أن الله تعالى أظهرنا رحمة للأمة ولم يظهرنا نقمة للمسلمين) وعند وصول جوابي هذاعندكم تفكوا سراح المسجونين بولد مدني وفداسي ....مع رد كافة ماضبط منهم) ( وأحضروا الخمسة أنفار الموضحين الذين كانوا السبب في ذلك)

    ومثل خطابه لبلال رمضان يعتذر له عن خطأ نائبه عثمان محمد فرح ويأمر برد ما أخذ منه. ومثل كتابه للخليفة يطلب منه تدارك أمر جماعة أحمد سليمان الذين ظنوا أن أحدهم أخفى شيئاً من الغنائم قائلاً ( فالواجب رد المذكورين عن هتك حرمه المصون عن الغلول وإن بان شيء ما هو معلوم عنده فليكن تبيّنه بالحضرة من غير هتك لحرمته على من تظن منهم العداوة بالسوابق التي أنفذها في الله)

    ومثل زجره للذين أخذوا من الأمين الضرير خادمه وتنبيهه لهم مراراً باكرامه وافساح المجلس له ثم طلبه منهم رد ما أخذ منه. ومثل أمره بإكرام نساء أعيان الخرطوم في عهد التركية والسعي في راحتهن ومثل هذا كثير لا يحصى.

    6) نفي المحسوبية

    وفي نفي المحسوبية كتب ( وتكون راحة جميع الأخوان والأصحاب كبيراً وصغيراً من بيت المال ولتفرغ الاخوان لخدمة الدين وراحة المسلمين لا يخدم أحد لنفسه ولا لجماعته فكل مؤمن بالله ورسوله ومهديه ومعاون على هذا الدين يكون على راحة المسلمين ولا يستبد أحد بطائفة لجماعته ولا بقبيلة لرايته ولا بجهة ومعلومية لأمره لأن هذا فيه خدمة النفوس والاتكال على غير القدوس مع أن البيعة على زهد الدنيا والاتكال على الله وبذل النفس لإقامة الدين وحيث كان الواجب القيام بالبيعة فالأخوان جميعاً فليخدموا الأعشار والزكوات والغنائم لبيت المال ولا يأخذ أحد لنفسه ولا لجماعته شيئاً.)

    وفي خطاب لمحمد الخير يذكر وظيفة بيت المال وأمينه:

    (إذ أنه -كما لا يخفى على ذكي فطنتكم- لا يريد بها إلا راحة عباد الله المساكين والأرامل والمنقطعين)

    ويأمر الأمراء في نفس المنشور برد الأموال التي استدانوها من بيت المال: ( أما من يكون تحت يده شيء منها فليتجرد التجرد الكلي ولا يترك بطرفه درهماً ولا ديناراً ولو إبرة ومن أخذ شيئاً من ذلك يؤخذ منه كرهاً ويخرج اسمه من دفاتر أنصارنا وسلك أصحابنا)

    وقال في منشور آخر رابطاً الخلافة والإمارة والنيابة بالرفق والعدل:

    (لا أتمم لكم خلافتكم ولا إمارتكم ولا نيابتكم عنا في الأحكام إلا أن تشفقوا على خلق الله) وقال ( وتنصفوهم من أنفسكم إذا إدعوا عليكم)

    7) وفي الفساد المالي

    قال: ( هذا وقد استفسر الأمناء ... واستفسروا فيمن كانوا محتاجين قبل وعادمين ما يقوتهم بموافقة كلام أهل الصداقة وبعد فتح المدينة صاروا أغنياء غناءً تاماً حتى صاروا يرسلون الرسائل لمصر بالألف جنيه ونحوه، هل يغنّمون أم لا؟ فالمذكورين بعد الوقوف على حقيقة ذلك بشواهد تدل على أنه ليس ملكاً لهم يؤخذ منهم لبيت المال وأما من أخذوا شيئاً بإدارته للأرباح فهؤلاء تعطى لهم أرباحهم ويرجع الأصل لبيت المال)

    وقد أشار صاحبا الدراسة حول كاريزما المهدي إلى أن السياسة الاقتصادية كانت تعكس المباديء الاسلامية والمهدوية في التقوى والزهد وقالا بصفة خاصة:

    (و في محاولة منه لمنع النزعة القبلية لسلب المهزوم للمكسب الشخصي وضع المهدي القاعدة الإسلامية القديمة ( لكلٍ حسب حاجته). وعليه فقد تم إعتبار الغنائم وأنواع الثروة الأخرى ملكية عامة أو مجتمعية تخص كل المجتمع المهدوي.)

    الهوامش:

    WINGATE, Ten Years Captivity In The Mahdi’s Camp, third edition London Sampson Low, Marison andcompany

    والترجمة منقولة من كتاب محمد حميد الله مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص561-563 وهي تتطابق مع النص الإنجليزي الذي أورده ونجت/أوهروالدر سوى الخطأ في أسماء بعض الصحابة الشهود. والجدل حول صحة الوثيقة ليس من غرض هذا الكتاب.

    أبو شامة سابق ص 133-137

    Wingate op.cit

    السيد علي المهدي سابق ص 92

    مع أن هؤلاء العلماء ألفوا الرسائل في تكذيبه والتحريض عليه. قال المهدي :

    (فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وقد يدخر للمتأخرين ما عسر على المتقدمين فلا تغتروا بالخطب التي يؤلفها في ذمنا وتكذيبنا علماء السوء كأحمد بن اسماعيل الولي وحسين مجدي والمفتي شاكر ومحمد ود حتيك وود الدليل وأمثالهم ممن وقع في عرضنا فهؤلاء ممن أدخل الله في قلوبهم النفاق بحب المال والجاه)

    رسالة الشيخ أحمد الأزهري ضد المهدي عنوانها "النصيحة العامة لأهل الإسلام عن مخالفة الحكام والخروج عن طاعة الإمام"

    رسالة المفتي شاكر مفتي مجلس استئناف السودان عنوانها: بطلان دعوى محمد أحمد المتمهدي

    رسالة الضرير بعنوان هدى المستهدي إلى بيان المهدي والمتمهدي

    شقير ص 522

    محمد عبد الرحيم نفثات اليراع ص 97

    شقير ص 493

    نفسه ص 506 والخطاب بتاريخ 4 نوفمبر 1884

    (ابو سليم ج 4 ص 325).

    ( ج 1 ص 420، ج 2 ص 242، ج3 ص 86، ج 5 ص 285)

    هولت 185

    شقير 379- 380

    http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-57324.htm

    ابو سليم ج 4 ص 200

    هولت 110

    ابو سليم نفسه ص 61-62

    ابو سليم سابق ج 4 ص 209-211

    الأثار الكاملة ج 4 ص 58

    الصادق المهدي يسالونك سابق الفصل السابع

    وذلك قوله ( الطريقة فيها الذل والانكسار وقلة الطعام وقلة الشراب والصبر وزيارة السادات فتلك ستة والمهدية فيها أيضاً ستة الحرب والحزم والعزم والتوكل والاعتماد على الله واتفاق القول فهذه الاثنتا عشرة لم تجتمع لأحد إلا لك) والكلام للشيخ الطيب في حضرة نبوية رواها المهدي

    شقير ص 619

    ابو سليم ص 161

    نفسه ص 65

    نفسه ص 185

    RICHARD H. DEKMEJIAN and MARGARET J. WYSZOMIRSKI op.cit

                  

03-09-2016, 08:27 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الفصل الثالث : فتح الخرطوم وحوادثه

    أ‌) النساء

    أشرنا آنفاً إلى توجيهات الامام المهدي الآمرة بمعاملة المواطنين بالرفق والمحافظة على حياة الرؤساء ابتداءاً من غردون وإلى تعيين أشخاص مكلفين بذلك وإلى عدم قتل غير المحاربين وحتى من ألقى سلاحه فلا يقتل. والآن ننظر ما حدث في فتح الخرطوم.

    قال الشيخ بابكر بدري حينما دخلوا الخرطوم - وكان ممن دخلوها- دخلوا منزلاً خاوياً:

    (فوجدنا فيه الزبيب والدقيق والقمح والسمن واللحم المقدد وجوالات الذرة ولم نجد به أحداً فلم نلمس شيئاً من هذه المأكولات لأني كنت صائماً ولو كنت غير صائم لا يمكن أن آكل كصاحبي حتى يصدر الإذن من ولد النجومي عن المهدي ( عم) بإباحة ما يؤكل وفعلاً لم يصدر الإذن إلا ضحى الثلاثاء)

    وتحدث عن زيارة المهدي يوم الجمعة التي أعقبت فتح الخرطوم:

    (فلما خرجنا من باب السور قابلته إمرأة تبكي وقالت يا سيدي المهدي إبنتي بأطفالها في الزريبة وهم متعبون إئذن لي في أخذها فقال لها ماهي الزريبة؟ قالت المكان الذي جُمعت فيه النساء. فطلب أحمد سليمان وهو واقف مكانه فقال له: ما الزريبة؟ فقال أحمد سليمان : الزريبة اسم المكان الذي جمعنا فيه نساء الخرطوم اللائي لم نجد لهن معارف. قال له أمش بنا لها لأنظرها. فلما وصل أمر أحمد سليمان قائلاً: ياأحمد كل هذه الحريمات يوزعن قبل غروب الشمس فمن عرفها أحد أو عرفت هي أحد (أحداً) تُسلّم إليه والشباب ممن لم يُعرفن ولا يعرفن أحداً زوجوهن)

    وكتب الامام المهدي منشوراً يوضح بجلاء ما أورده بابكر بدري يمنع فيه زواج الأنصار من النساء الخارجات من ققرة الخرطوم وعنونه إلى كافة عملائه والنقباء والأنصار. قال بعد مقدمة قصيرة :

    ( فإن النساء الخارجات من الققر جميعهن أحببنا أن يعطين لأزواجهن ولا يجوز لأحد من أصحابنا وأحزابنا أن يتزوج بهن. فذوات الأزواج تسلم لأزواجها وكل من لا زوج لها يجمعها لدى أمين يكون مأمون جداً ويجري راحتهن حتى نرى حكم الله فيهن والحذر من التزويج لأحد بواحدة من نساء القياقر المذكورة صغيرة أو كبيرة ثيباً أو بكراً ومن تزوج بواحدة من المذكورات قبل نظر حكم الله فهو الجاني على نفسه والسلام) بتاريخ 5/2/1885 وجاء في تحشية الخطاب ( وكذلك من لها ولي محرم تسلم له بالضمان.. كل من أذعن لتنبيهنا وعلم صدق دلالتنا إلى الله فلا يترك طرفه إمرأة ولا جارية صغيرة ولا كبيرة بل ذوات الجواري والسراري إذا قدر الله منكم من استلم منهن شيئاً يرجعه عند بيت المال الذي هو منوط بأمره)

    ب) المسيحيون والبعثات التبشيرية

    لم تتعرض الكنائس عند فتح الخرطوم لأية هجمات من قوات الأنصار ومبنى الكنيسة الوحيد الذي تعرض لهجوم هو مبنى الكنيسة الكاثوليكية لأنه لم يكن كنيسة عند الفتح ( كان غردون قد أجّرها بعد أن أخلاها القسسة واستعملها مخزناً للسلاح)

    قال أبو شامة ( والذي لا شك فيه أن جميع رجال الكنيسة لم يكن فيهم غير بولوناري في مسرح العمليات لكي يصاب أو يقتل وهذا انطبق على الكنيسة القبطية)

    ومما يعضد ذلك سكوت الأب جوفياني فانتيني في كتابه المسيحية في السودان عن أي اضطهاد طال المسيحيين أو أسراهم في عهد المهدية والغريب أن المسيحية في العصر الحديث قد دخلت السودان أول مرة عام 1842 على يد القس الايطالي لويجي منطوري الذي حضرالخرطوم هارباً من اضطهاد المطران أبو سلامة مطران الكنيسة الإثيوبية للكاثوليك

    وكذلك شهادة هولت:

    ( وفيما عدا أولئك الأشخاص الذين شاركوا في محاولة الاتصال بالخرطوم عومل أهل الأبيض معاملة طيبة. فجميع الأغراب، ويقصد بهم أولئك الذين من أصول غير سودانية أو مصرية بما فيهم المبشرون الذين كانوا في دلنج مثل أورفالدر، وضعوا مجتمعين تحت إشراف جورجي استامبولي وهو تاجر سوري أتخذ إسم محمد سعيد المسلماني)

    ج) عدم إشراك الجهادية

    وزيادة في التحوط وحرصاً على أرواح السكان أمر الامام المهدي بعد إشراك الجهادية في فتح الخرطوم خوفاً عليهم من تجاوزاتهم. وقد اعترف اوهروالدر (ونجت) بذلك وعزاه لعدم ثقة المهدي فيهم وخشيته إنضمامهم لغردون وهذا بعيد نظراً لسوء حال الخرطوم المحاصرة وفرار أهلها منها وتدهور موقف غردون العسكري. والصحيح ما ذكره مكي شبيكة :

    ( طلب المهدي عدم إشراك الجهادية في الهجوم على الخرطوم خشية أن يعيثوا فيها فساداً كما قاموا به في كسلا عندما تمردوا على الحكم التركي المصري ونهبوا المدينة وقتلوا كل من صادفهم في الطريق.)

    د) دفن الموتى

    وبعد أن ذكرنا ما ذكرنا من إكرام المهدية للناس ورفقها بهم واكرامها للنصارى نأتي لقول الرواية على لسان أحد أبطالها المسيحيين ( من مات منا لم يدفنوه قالوا إن الكلاب النصارى لا يستحقون الدفن. تركوا جثثهم تنتفخ في العراء) ص 249

    وقد سبق وعلمنا أن عدد القتلى من النصارى كان قليلاً جداً كما ذكر ابو شامة وأغلب القتلى كانوا من حملة السلاح لا الموظفين والرهبان وكبراء المدينة.

    وقد أشار المهدي لهذه الواقعة لما علم بوجود جثث في الشوارع في خطاب بعثه للخليفة عبد الله جاء فيه بعد التسمية وحمد الله والصلاة والديباجة:

    ( حبيبي إن الجيفة سترها ومواراتها أمر مشروع وقد كان صلى الله عليه وسلم جعل يوم بدر قليباً فوارى فيه المشركين. ونحن لكثرة القتلى منهم في زماننا ما أمكننا دفنهم ومواراتهم. وكان سبق تنبيه إلى أهل الخرطوم أن يدفنوا جنائز القتلى فواروا الاخوان بعضاً وتركوا بعضا. والآن حبيبي فليكن الإذن في كل من له ميت أن يدفنه ولو كنت أعلم ذلك من سابق لحصل التنبيه. والسلام)

    والمعلوم أن فتح الخرطوم كان من أواخر الفتوحات وأن أغلب جيش غردون كان معه بالخرطوم.

    الهوامش:

    بابكر بدري سابق ص 37 وكانت آخر وصية أوصى بها المهدي الجيش كما روى على المهدي ( عاهدوني على كسر الرقاب وأن لا تأخذوا شيئاً من الغنيمة ولو إبرة في خيط) كتاب جهاد ص 91 وكسر الرقاب أي على الموت

    نفسه ص 38

    Wingate

    وأيضاً أبو شامة ص 142

    جوفياني فانتيني: المسيحية في السودان ص 63- 65

    هولت ص 75

    أبو سليم ج 4 ص 255

                  

03-10-2016, 10:21 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة التاسعة

    الباب الرابع

    الفصل الأول: علماء لا دراويش

    كان الإمام المهدي قارئاً نهماً وعالماً محققاً . وقد تنقل كثيراً في كل مظان العلم بالسودان وكان يزمع الهجرة لمصر للإستزادة من العلم في الأزهر ولكن أحداً من تلاميذ الشيخ محمد الخير دله على الذهاب إلى الغبش لأن فيها بغيته العلمية. فنهل منها بعد أن نهل من مسيد كترانج الذي كان أشبه بالجامعة .

    قال عنه المؤرخ محمد عبد الرحيم وكان من معاصري المهدية وكتب بعد انقضائها: ( كان أعلم أهل زمانه في السودان بلا جدال) . وكان الشيخ العالم أبو القاسم أحمد هاشم أيضاً مشاركاً في المهدية وقريباً من قائدها وخليفته، كان يقول عن المهدي: ( إنه أعجوبة الأعاجيب) وكان بعد انقضاء الدولة يشرح لخاصته ( ذكاءه وعلمه وتواضعه وحبه لمعالي الأمور وبعده عن سفاسفها وشجاعته وصبره وزهده في الدنيا مع تمكنه منها وحبه للخير لجميع الناس ألخ ) .

    ويظهر ذلك من لغته العالية الرفيعة ومن كمية المصادر والكتب والتفاسير التي يرجع إليها ومن معرفته بالعلوم المختلفة . قال توفيق أحمد البكري:( فقد حفظ القرآن الكريم وجوّده ولم يفته النحو والصرف والفقه والتفسير والتصوف وأُولع بالأدب والعلوم العقلية فدرس الفلسفة والعلوم الطبيعية والمنطق وأقبل على التفسير فقرأ فيه قدراً كبيراً ووجد بخطه على ظهر نسخة من كتاب تفسير الجلالين ما يفهم منه أنه قرأه أكثر من سبع وأربعين مرة على مشايخ كثيرين)

    ( قال صاحب شقائق النعمان في حياة المهدي ووقائع السودان: كان للمهدي إلمام كبير بالسنة وعلم الحقائق وكان يميل كثيراً لمذهب الشافعي رضى الله عنه كما أنه كان فقيهاً بارعاً أصولياً متكلماً محدّثاً مفسراً أديباً كاتباً شجاعاً واعظاً.)

    ولذلك لما قام بأمر المهدية كاتب كل المشائخ والعلماء واستجاب له عدد كبير من المشائخ والعلماء الذين لم يرتبطوا بمصالح مباشرة مع الحكم التركي وهم الأكثرية. فعلى سبيل المثال استجاب له من المشائخ والعلماء وكثير منهم أزهريون:

    عبد الغني السلاوي صاحب الحاشية على تفسير البيضاوي والشيخ الحسين الزهراء والشيخ محمد الأمين الهندي وأبناؤه الشيخ على ويوسف...والشيخ أحمد الجعلي وأسرته والسيد المكي والشيخ العبيد ود بدر والشيخ حمد النيل والشيخ الطاهر المجذوب وأهله ومنهم ابنه العالم محمد الطاهر والشيخ المضوي عبد الرحمن والشيخ المنا اسماعيل والشيخ محمد الخير عبد الله والشيخ احمد المصطفى الأمين أم حقين والشيخ أحمد المكاشفي والشيخ محمد البصير والشيخ العالم إسماعيل الكردفاني والعالم إبراهيم شريف الدولابي والشيخ أحمد هاشم وأسرته ومنهم أبناؤه: الطيب وأبو القاسم ومحمد، والشيخ عمر الأزهري وآل أبو صفية ومن آل الشيخ الكباشي استشهد المصباح في الداير ومحمد واستشهد محمد أحمد وعبد الرحمن مع ود النجومي. والشيخ أحمد علي وآل الحجاز ومنهم الشيخ مدثر وسليمان وآل بادي محمود بادي والشيخ محمد عمر البنا والشيخ القاضي أحمد جبارة والشيخ محمد البدوي، ومنهم علي إبن الشيخ الأمين الضرير الذي كان كما وصفه عون الشريف "عالماً بايع المهدي وشهد شيكان وكان من أمراء المهدية ولقبه المهدي بعلي الصادق وظل أميراً حتى استشهد مع ود النجومي وتولى أخوه عبد الرحمن الضرير الامارة بعده إلى نهاية المهدية ". والفقيه ود الصليحابي وود برجوب وغيرهم كثر.

    ومن المذكورين أعلاه عدد صاحب كتاب دور الأزهر في السودان عشرة أزهريين غير من لم يذكرهم ولم نذكرهم نحن إذ هذا كله على سبيل التمثيل كما لايخفى. وقد بقيت الأغلبية الساحقة من هؤلاء على ولائها طوال عهد المهدية ، منهم من استشهد ومنهم من مات في المهدية ومنهم من مد الله في أجله إلى زوال الدولة وقد روى زلفو أن السيد المكي والشيخ محمد البدوي هما من أقنعا خليفة المهدي بالانسحاب بعد تأكد الهزيمة في كرري ثم جاء عثمان دقنة معهم وشارك في ذلك الاقناع.

    وكل واحد من هؤلاء علَم وصاحب عِلم، فعلى سبيل المثال:

    كان الشريف محمد الأمين الهندي من أكبر علماء القراءات وكان أزهرياً ارتحل لمصر ثم للمدينة المنورة ودرس بها ثم درّس بمكة. وألف عدداً من المؤلفات في علوم القرآن منها أربع منظومات طوال هي: منظومة الصيانة وأبياتها 489 بيتاً في أحكام القراءات والضبط والرسم والتجويد ومنظومة المعارف في مشكلات الرسم والمواقف وهي في القراءات السبع ورواياتها الأربع عشرة ومنظومة مقدمة الأحكام وأبياتها 588 بيتاً ومنظومة الفوائد في علل الهمز والزوائد. بايع الإمام المهدي برهد كردفان. مات بالرهد وصلى عليه الإمام المهدي.

    كان المهدي يعلم علماء زمانه ومكانتهم وكان يكرمهم، لما قدم الشيخ محمد الامين قابله المهدي خارج الأبيض على مسافة ومعه الخلفاء وكان المهدي يكرمه ويزوره في موقعه.. وكان يحمل الطعام للشريف بنفسه فقال له الشريف: ( الناس الحق عليهم يأتوك ولا يحق لك أن تأتيهم) .

    (وقد أفرد الشريف يوسف الهندي باباً أسماه: الوصية المهدية على السادة الهندية). وكثير من أهل الطرق الذين قابلناهم يذكرون إختصاص المهدي لأجدادهم بحسن المعاملة مثل السيد المكي والشيخ الجعلي والمجاذيب وأل الهندي وهناك مرويات كثيرة في ذلك منها مارواه عبده بدوي من سماحه للشيخ محمد احمد نور بقراءة الجزولية وقد جاء ذلك في سياق نفيه للحديث الشائع عن أمر المهدي باحراق الكتب قال:

    (وقد شكك الدكتور مكي شبيكة في أنه هو الذي أمر بإحراقها يؤيد هذا الرأي في نظرنا أنه عثر في مكتبته على روح البيان وكثير من كتب التفسير وكتب الشعراني وابن عطاء الله وأنه كـان يـقـرأ بـعـض هذه الكتب على أصحابه كما أن الشيخ محمد نور احمد حين أصر على قراءة الجزولية أقره عليها) وشاهد آخر ذكره بابكر بدري في حديثه عرضاً حيث ذكر أنه إشترى تفسير الكشاف للزمخشري من أحد العساكر الجهدية الذي أخبره بأنه أخذه (نهبه) من بيت شيخ الدين وكان ذلك بعد الغزو الثنائي .

    وكان الشيخ محمد الطاهر المجذوب عالماً وشاعراً مجيداً والشيء من معدنه لا يستغرب. وهناك رواية متداولة مشهورة أن الشيخ ألفا هاشم الفلاتي قد أتى في طريقه للحجاز ونزل ضيفاً على الشيخ محمد البدوي شيخ الاسلام وعرض عليه قصيدة مهملة ( غير منقوطة) يمدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم طالباً أن يشطرها أحد شعراء السودان في تحدٍ مبطن فأرسل الشيخ البدوي القصيدة مع أحد الهجانة للشيخ محمد الطاهر المجذوب بمنطقة حمرى بأعالي نهر عطبرة طالباً منه تشطير القصيدة وقد رووا أنه قبل أن يكمل الهجان طعام الضيف أكمل المجذوب تشطير القصيدة. وأنا أوردها هنا للفائدة:

    ألا واصــــل الله الســـــــلام مـــــــرددا *** لأكـــرم رســــل الله طـــرا وأســــعدا

    وأوســــــــع آلاء وكمـــــــــل طــــــــوله *** لأوســـع كــل الرســل سـعدا وحمـدا

    محمـــد الصــدر الـمعــلى مكـــارماً *** ومصـلح حــال الكــل أحمــر اســودا

    رســـــول له الآمــــال أطــــر رحــالـهــا *** ممهـــــــد أحكـــــام الإلــــه موطـــــــدا

    مدمــــــر أعـــــــداء الـمصـــــور للـورى *** حســــــــام لــردع الـملحــــــد أرصـــــــدا

    وصــــول لأرحــــام رســــــول مطهــــــر *** وموئـل ماســور الـهــــدى رام معــــــردا

    مســــــهل آمــــــال ومصــــلح صـــــالح *** وكم ســـــامد لولاه أهـلكه الــــردى

    ومســــعد عـاص دار حـــول مــــدامـه *** وحمـــــود أعمـــال كمـا هــو مــــــاردا

    هــــو الــــدر حــــــد الســــرور عــلومـه *** هو الروح أعلى الرسل أكرمهم هدى

    حســــام عــــلا هــــــام العــــــدو وطلـه *** مطــــاع كـلام ســاد كـــلا وســــودا

    هو الأصـل لوح الكل أصلح صالح *** هداهم هدى الإسلام كهلا وأمــردا

    وأكمــــل محمــــود وأعلى محــامدا *** وأســـــمح مســــئول وأطهـــــر مولــــــدا

    همــــى راحــــه مــــــاء لأهــــــــل وداده *** داروا همـــو ممـــــا همـــــاه وأســـعدا

    وكـــم عـــطاه للمــــلا كـــل عـــادم *** كمـــا رمحــه صــد العـــدو واصـعدا

    ومــــــا أمـــــــه السُّــــــــؤّال إلا وأوردوا *** ركـــاما همـا صاروا له الكل وردا

    ولا رامـــــــــه الــــرواد إلا أراهــــــــــمو *** مـــــــوارد ســــــــمه عــــــــم ســــــــرمـدا

    معــالمـه أهـــــــدى المعــــــــــالم كلــهـا *** ولــــــم لا وهــــــو طـــه أولـى الـهــــــدى

    مراحمـــــه كــم عـم هـاطل رعدها *** مطامـعــــه أحــلى وأســــــهل مـــــــوردا

    وعـــــلم هـــــداه مســعد كــل سـالك *** مســالكه راعـــى الصـــراط الممهدا

    فمـــــد لا روح العـــــلا طــــــوع أمــــره *** وصـــارم أهـــــل اللــؤم والوهم والردا

    ســلام كروح المســك والعـود روحه *** لأحمــــد ما صــــاح الحمـــــام مـــرددا

    إلـــه الســــما والـى مراحـــــم طــوله *** له الدهـــــر ماســح الســـماء وأرعــدا

    كانت للشيخ محمد المجذوب مقدرة على الارتجال، قال في معركة هندوب:

    "هـندوبُ" تعـرفُ صـبْرَنــــــــــــــــــا كـيف ارتكَبْنـا للـمـصــــــــــــــــاعِبْ

    و«هشـيـمُ» تشهدُ عزمَنـــــــــــــــــــا كـيف ادَّرَعْنـا للـمـصـــــــــــــــــائب

    يـا طـالـمـا صدنـا بـهــــــــــــــــا صـيـدَ الغضنفر للثعـالـــــــــــــــــب

    جـــــــــــــــــــــــــيشًا يرنُّ سلاحه كـالرعـدِ إذ مـا الـمزْنُ صــــــــــــائب

    و«سـواكـنٌ» تدري بنــــــــــــــــــــا أنـا لـدَى الهـيجـا نُضـــــــــــــــارب

    بـالـمشـرفـــــــــــــــــــــــيِّ كأنه وَقْعُ الصَّوافعِ فـي الـمضـــــــــــــــارب

    زمـنًا رصَدْنـا نحـوهــــــــــــــــــــا نُبـدي العجـــــــــــــــــائبَ والغرائب

    ونَئزُّ فـي أرجـائهــــــــــــــــــــــا كـاللـيثِ إذ نشَبَ الـمخـالــــــــــــــب

    ولطـالـمـا برزَتْ لنــــــــــــــــــــا مـنهـا العسـاكرُ والكتـــــــــــــــائب

    مـن كلِّ فجٍّ يـمــــــــــــــــــــــــنةً بـل يسـرةً مـن كلِّ جـانـــــــــــــــــب

    فتجـاذبتْهـم خـيلُنا تـرمـي بـهـم رَمْيَ الثـــــــــــــــواقب

    الـبـيضُ تلعبُ فـيـهـم فـوقَ العـمـائمِ والعصــــــــــــائب

    حتى أتتْ أخبـارُنـــا مـن مـصرَ تكتبُهـــــــــــا الجَوائب

    وأَقـرَّ وَيْكَ بفضْلِنـا الأعـداءُ فـي كلِّ الـمكــــــــــــــاتب

    وتحقَّقـوا أن لا نُبـــا لـي، بـالـمشقَّةِ والـمتـــــــــــــــاعب

    نحـيـا لـديـنِ الله بـل فـي شأنِه نلقَى الـمعـــــــــــــــــاطب

    متـوسِّلـيـن إلـيـه بـالـــــــــــــــــــمهديِّ وُجْهةِ كل راغب

    وخليفة المهدي عبـــــــــــــــد الله مفتـــــــاح المطالــــب

    ما إن رحلنا عنهمو جزعــــاً ولا خــــوف المطــــــالب

    بل طـــــاعة لولـــــينا فليدر ذا كـــــــل الأجــــــــــانب

    ومثل المجذوب كان السلاوي شاعراً وعالما، قال في مدح المهدي:

    راق الصبوح ورقت الصهباء مذ كان فيها للعليل شفاء

    ربيـــة نبــــوية ملــــــكية مـــــهدية روحــــــية وسماء

    شمسية قمرية ما فض عنها ختمها في دنها ورقـــــــــاء

    ...........

    أجلى الصدى وأزاح أنواع الردى وسمت به فوق السما علياء

    إلى آخر القصيدة،

    وقال حسين الزهراء ايضاً يمدح المهدي:

    أهاجك وصل بالأباطح يلمع لها فيه ما شاء السراب الملمّع

    أم البرق في شطر العقيق ولعلع فهاجك يا هذا العقيق ولعلع

    أم الواقع المتبول بين أجادع عليه بها طير المنية وقّع

    .....

    وأسنى صلاةٍ حان وقت أدائها وتكبيرها كالعيد فيها مسبّع

    وطلعة شمس من سنا الغيب عززت بإشراق بدر والكواكب شُرّع

    بها انبهرت شمس السنا من سنائها حياءً فواراها لثام وبرقع

    عماد الهدى أس الجدى معدم العدا بدا وإليه الناس في الأرض نُجّع.

    الخ

    وله قصيدة متينة السبك أيضاً في مدح المهدي:

    الأمر جد والخطوب جداد

    وجنود مهدي الورى أمجاد

    نزلوا بجرعاء الحمى من حاجر

    فبدت لهم من حاجر أزواد

    مهج تقعقع في شتات جسومها

    فكأنها بنشيدها أعواد

    قُضُبٌ يحرك "معبداً" أوتارُها

    يزهى به الإنشاء والإنشاد

    ألخ

    وقال إبراهيم شريف الدولابي في مدح المهدي:

    هو مجمع البحرين بحر شريعة طام وبحر حقيقة مسجور

    سر الوجود وترجمان الحضرة العليا ومُظهر غيبها المستور

    قد كان قوّام الدجى متبتلاً متواصل الإحسان غير فخور

    طلق المحيا خاشعاً متواضعاً كهف الفقير وجابر المكسور

    الخ.

    بل حتى شعراء اللغة العامية ( مثل ود سعد وود التويم وود أب شريعة وود تميم وود سليمان وغيرهم) كان لهم حظ كبير من العلم وتتردد في القصائد النبوية للشعراء المهدويين أسماء علماء السيرة والتفاسير وكتبهم وأسماء سائر العلماء والشعراء والمتصوفة حيث نسمع: إبن هالة وابن مدركة وعياض والبرعي وابن الفارض وابن عادل وخليل الكردي وابراهيم بن أدهم والجيلي وأبا يزيد البسطامي و الجنيد والسبتي ولبيد وزروق المغربي والبارقليط ألخ

    وللمزيد عن الحركة الفكرية يمكن الرجوع لكتاب أبي سليم بنفس العنوان ولكتاب نفثات اليراع الذي أشار لتدهور الأدب بعد المهدية ولآراء محمد المهدي المجذوب ومحمد المكي ابراهيم ومحمد ابراهيم الشوش ومحمد محمد علي عن تطور الشعر في عهد المهدية عنه في عهد التركية وهذا باب آخر لا نود الخوض فيه

    أردت أن أقول أن المهدية قامت على أسس من العلم والدين والعقل ولم تكن ثورة دراويش كما قالت الرواية دون تبصر. فقائدها كما علمنا، وكذلك العلماء الذين اتبعوها عن بصيرة. وقد انعكس كل ذلك على الدولة وفكرويتها ونظم عملها في كل مجالات تسيير الدولة : النظام الإداري والمالي والعسكري الخ. والناظر إلى ذلك لايملك إلا أن يندهش من الدرجة العالية من توثيق المكاتبات وضبط الحسابات وحصر السكان والإدارات والمهمات الخ.

    وكذلك من عقلانيتها استفادتها القصوى من كل الخبرات المحلية والأجنبية لتسيير دولاب الدولة . وقد عقد هولت في كتابه فصلاً جيداً عن استفادة المهدية من الخبرات التي عملت في العهد التركي واستشهد بقائمة للأسماء التي عملت بالادارة المركزية والأقسام الفنية بدولة المهدية حيث قال: ( وبتحليلها نجد أنه من بين 152 موظفاً مسجلاً بها كان هناك 63 من المصريين الأقباط أو المولدين) وقد ذكر متولى محمد العتباني في مذكراته أحوالهم بعد فتح الخرطوم وترحيلهم الى جنوبها ما يلي : (ومضت علينا أيام و نحن فى أشد الضيق حتى جاءنا رسول من بيت المال: أحمد سليمان أحد أقارب المهدى يسأل عن عمال السلك فدلوه على إسماعيل حلمى و سيد أحمد حسين الذى كان معنا أيضا ، وهو مهندس امتداد خطوط التلغرف ، أخذونا الى أمين بيت المال ، وهناك قال لنا نريد إنشاء محطة فى بيت المال بأم درمان و إقامة أعمدة تلغراف و محطة فى بيت مال الخرطوم للإتصال بين الخرطوم و أم درمان بسرعة و زودونا بالعمال و مستلزمات العمل و أمروا لنا بمنازل نسكن فيها و بكل ما يلزمنا من مستلزمات الحياة ، نقلنا أسرنا الى أم درمان و شرعنا فى العمل و انتهى بحمد الله فى أيام قليلة ، ثم التحقنا ببيت المال و العمل فيه، و أصبحنا فى سعة من العيش)

    وكان لقادة المهدية وعلمائها إحاطة كبيرة بالواقع المحلي والإقليمي والدولي. وقد لفت نظري في رد علماء المهدية المدافعين عنها ذلك الوعي. فقد فطن الحسن سعد العبادي في رده على علماء الحكومة للبعد الاستراتيجي الحقيقي بعيداً عن دعاوى الخلافة الإسلامية وحجة خصوم المهدي بعدم شرعية الخروج عليها حينما( نادي بضرورة قيام المهدية لمقاومة الغزو الأوربي المهدد لديار المسلمين.)

    كما كان الحسين الزهراء أكثر وعياً من خصومه بالأهداف البريطانية حيث ( هاجم فتاوى علماء مصر وأسقط ولاية آل عثمان وبطلان ولاية محمد علي وأولاده وهاجم محمد توفيق والي مصر لتفريطه وإعطاء الانكليز الفرصة للإستيلاء على مصر التي هي باب طريقهم إلى الهند ومحاولتهم الاستيلاء على السودان لأنه البلاد المتوسطة بين مصر وأملاكهم الجنوبية الإفريقية)

    وهذا عين ما قاله غلادستون كما أورده داؤود بركات في سلسلة مقالاته عن الثورة العرابية:

    (عرف القارئ من كلامنا عن الطَّور الأول من أطوار الثورة العرابية منذ خمسين سنة مضت أن الحكومة الإنكليزية كانت تريد امتلاك قناة السويس، وأن امتلاك هذه القناة لا يكون تامًّا — بل لا يكون صحيحًا — إلا إذا وضعت هي يدها على القاهرة والإسكندرية. وعرف فوق ما تقدم كلمة غلادستون منذ ١٨٧٧: إن مصر هي البيضة التي تفرخ لنا الإمبراطورية الأفريقية، ثم قوله في سنة ١٨٧٥: إنَّا سنملك غدًا السودان وتمديدنا من هناك فوق اليبس الأفريقي لنصافح إخواننا في رأس الرجاء الصالح وجنوب أفريقيا.) .

    أما في الجانب العسكري فقد تفوق قادة المهدية العسكريون على قادة الجيوش الأجنبية المحترفة في الجوانب الاسترتيجية والتكتيكية وفي المناورة رغم قلة السلاح وتخلفه التقني . وإذا أخذنا عثمان دقنة مثالاً، فهذا القائد كان مضرب المثل في التمسك بالمهدية والولاء الأصم والطاعة الفائقة لقادته منذ بيعته للمهدي في كردفان حتى وفاته في1926، وعندما سُجن واستمر في الحبس لأكثر من ربع قرن كان يصر على موقفه من أنه إذا أُطلق سراحه سيعود للقتال، وعندما عرض عليه الانجليز تحت ضغط الرأي العام نفيه لمكة لإداء فريضة الحج والبقاء هناك رفض البقاء وعاد ليموت في السجن.، بالرغم من كل ذلك إلا أن سلوكه العسكري كان يتسم بالمرونة الفائقة لا الإندفاع الأهوج المتهور فكان يضرب ويتراجع ويناور وينسحب ورغم هزائمه الكبيرة في بعض الأحيان وتشتت جيشه إلا أنه كان ينسحب ليجمع جيشاً جديداً، وبهذا الأسلوب أبطل مفعول التفوق البريطاني في شرق السودان، قال هولت ( أثبت التدخل البريطاني عدم فاعليته من الناحية العملية فقد احتفظ عثمان دقنة بكل من سنكات وطوكر وسيطر الأنصار على طريق بربر سواكن) .

    ومع خوضه لعدد ضخم من المعارك إلا أنه لم يقبض عليه لا في معارك الشرق التي خسرها ولا الشمال ولا في كرري ولا في أم دبيكرات، وكان هو الذي أحدث أكبر خسائر في الجيش الغازي في كرري. فهل ينطبق على مثل هذا القائد على سبيل المثال لفظ درويش؟

    الهوامش:

    د. محمد سعيد القدال الامام المهدي لوحة لثائر سوداني ص 34-35

    محمد عبد الرحيم سابق ج 1 ص أ

    عبد الحميد أبو القاسم: النفائس في أخبار وآثار شيخ الاسلام أبو القاسم احمد هاشم ص 12

    (كان مثجاً يسيل غرباً، فإذا أطنب وأطال يتلئب له القول ويسلس وإذا أوجز كان رشيق العبارة ممسكاً بناصيتها يسجع من غير تكلّف. وكنت تتبعت كتاباته وحاولت إرجاعها لمرابطها فوجدته بحراً ومن يقرأ مجالسه التي جمعها أبو سليم وفيها الكثير من التفسير والأدعية يعلم ذلك.

    قال في راتبه ( فأجد فيها الحلاوة مع القيام بما فيها من العلاوة) والعلاوة هنا الهداية وهذا مأخوذ من قول عمر في تفسير قوله تعالى ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) قال عمر: نعم العدلان ونعمت العلاوة، فالعدلان هما الصلوات والرحمة والعلاوة هي الهداية.

    وقال: ( يا من هو عند المنكسرة قلوبهم) وهذا مأخوذ من الحديث المنسوب لموسى فقد روي (أنه قال : يا رب أين أجدك ؟ قال : عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) مدارج السالكين ابن قيم الجوزية وللحديث القدسي المرفوع ( أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي)

    وقال في أحد خطاباته حينما قبض الانصار على باخرة أنجليزية

    ( فوجدنا فيها العجر والبجر) ومن تعبيراته أيضاً ( ظنهم أن السراب هياب وان الجيفة وظيفة) وقوله عن الدنيا (عرفوا أنها سم مضموخ)

    ومن جميل سجعه:

    ( فإن سعيهم عند الله مشكور وفعلهم مبرور ومكانهم عند الله معلوم مزبور) أي مكتوب

    ( فجزاكم الله خيرا ووقاكم ضيرا وهنأكم سيرا)

    ( ولو كان مثل ورق الشجر ونبت الوعر وموج البحر)

    ( فإذا وجد صافيا من الأكدار فحينئذ يستحق القنية والادخار)

    ( إلا أنك تدري أن التحلية لا تكون إلا بعد التخلية)

    ومثل قوله للشاعر احمد اب شريعة

    ( فقل ما شئت فينا من غير إطراء، فمدحك مقبول عندنا فانتعش به في نفسك وحرض اخوانك من العباد، وشنّف أسماعهم في كل ناد، واحتسب أجرك على الله واجعل التقوى لك أوفر زاد) .

    وقوله: (حيث أن المصائب تبين الحقائق وتخرج الدقائق، وتدر الأنوار وتصفي الأخيار كما قال بعضهم:

    لله در النائبات فإنها

    صدأ اللئام وصيقل الأحرار) ألخ وهذه شواهد من جزء واحد من آثاره وهو جزء المكاتبات الرسمية فما بالك بكتاباته في الأدعية والرقائق..

    شلبي: سابق ص نقلاً عن مهدي الله توفيق احمد البكري ص 12

    شلبي سابق نقلاً عن شقائق النعمان في حياة المهدي ووقائع السودان محمد عبد المجيد محمد السراج ص 97

    كذلك أنظر شقير ص 352

    عون الشريف قاسم، موسوعة القبائل والأنساب في السودان الجزء الثالث ص 1357

    زلفو سابق 525- 527

    د. ابراهيم القرشي الشريف محمد الأمين الهندي قطب القرآن وخاتمة المحققين حياته وآثاره

    نفسه

    د. عبده بدوي الشعر السياسي في السودان ص 43

    هذه الرواية وردت في المسيد للطيب محمد الطيب وفي كتاب آخر أغلب ظني أنه (تارخ سواكن والبحر الأحمر) لمحمد صالح ضرار ولم أحققهما لبعدي عن مكتبتي. وأصل القصيدة بالخط العريض الأسود وتشطير المجذوب بالخط العادي

    انظر نفثات اليراع لمحمد عبد الرحيم والشعر والمدائح عند الأنصار رباح الصادق

    هولت ص 285

    http://www.atabani.net/mzkratmutalihttp://www.atabani.net/mzkratmutali

    محمد محجوب سابق ص 131

    نفسه ص 132

    الثورة العرابية وأثرها بمصر وعلى العالم (٥)داود بركات جريدة الأهرام١٥ أكتوبر ١٩٣١

    http://www.hindawi.org/blogs/97469384/http://www.hindawi.org/blogs/97469384/

    كذلك قال سمرنوف: (عقب حفر قناة السويس 1859-1869 وبغرض السيطرة على أقطار شرق أفريقيا الواقعة جنوب السودان ازداد اهتمام بريطانيا لاحتلال السودان) ص 11

    هولت سابق ص 102

    الحلقة القادمة: بين المهدي وغردون : معايير الدروشة

                  

03-12-2016, 11:25 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة العاشرة

    الفصل الثاني

    بين المهدي وغردون : معايير الدروشة

    مررنا في الفقرات السابقة على جوانب من شخصية المهدي ومواقفه وفلسفته وسنعرض في السطور التالية لغردون.

    اعتمدت الرواية _ شوق الدرويش _ في وصفها لغردون على أدبيات العهد الفيكتوري فصورته بطلاً محبوباً وسط السودانيين إنسانياً تسببت إنسانيته الزائدة في قتله بينما صورت المهدي في المقابل كدرويش متنبيء كذاب يقود جماعة من الوحوش المتطرفة إلى آخر أوصاف الرواية.

    وبأدنى رجوع للمصادر التاريخية المتعددة نجد دون كبير بحث وتنقيب الحقائق والشهادات التالية عن غردون ممن عاصروه وعملوا معه من البريطانيين وغيرهم. كذلك يشْخص سلوكه السياسي دالاً على شخصيته.

    وقد تضافرت عدة عوامل دينية وتاريخية في العهد الفيكتوري لتجعل من غردون أسطورة مقدسة لا تقبل النقد، ولكن بعد سنوات قلائل على مقتله بدأت تلك السحابة الكاذبة في الانقشاع. فقد ذكر زلفو أن أول ذلك كان كتاب ( شخصيات بارزة في العهد الفيكتوري ) لمؤلفه ( ستراخي ) والذي تعرض فيه لغردون بناءً على معلومات استمدها من ( تشالي لونق) الأمريكي الذي رافق غردون في رحلته الأخيرة. قال زلفو عن ذلك الكتاب: ( وأبرز بوضوح كل نقائص شخصيته من كذب وحالات نفسية تصل إلى الجنون ومن سرقة وقسوة تصل إلى درجة الوحشية أحياناً وظلت شخصيته تتأرجح بين الرأيين إلى أن حاول المؤرخون الحديثون تبرئته من كل تلك التهم بالنظر إليه نظرة علمية حديثة بتحليل شخصيته تحليلاً نفسياً) .

    وقبل شهادة مرافقه نذكر شهادات ايفلين بيرنق ( الذي صار فيما بعد اللورد كرومر) الذي امتلأت يوميات غردون بذمه.

    قال كرومر عن غردون : ( كان متطرف العناد مندفعاً متهوراً منساقاً لانفعالاته، كان يتخذ آراء سريعة دون تعمق ونادراً ما يصمد على رأيه).

    وحينما تم تعيين غردون اعترض كرومر بشدة على تعيينه وبحسب كلمات هولت: ( كان يشك في صلاحية غردون للعمل ولكن رده الرسمي استند إلى رأي الحكومة المصرية بشأن عدم صلاحية تعيين مسيحي حاكماً للسودان التي (الذي) اتخذت ثورته طابعاً دينياً) . كان غردون متقلب الآراء فقد رفض في البداية الاستعانة بالزبير ثم قبل ولما سأله كومر عن السبب في تغيير رأيه أجاب ( بأن لديه إحساساً داخلياً يدفعه للثقة بالزبير، فعلق كرومر:( إنني لا أثق في الآراء المبنية على الأحساس الغيبي).

    قال هولت : ( وضع غردون حتى قبل أن يصل لمصر ودون أي أساس أولي من المعلومات عن المشاكل التي ستواجهه خطة مستفيضة للعمل بمقتضاها)

    واستعرض هولت بتفصيل كبير تقلبات غردون نذكر منها رأي وزراء بريطانيا: (كما يبدو تبدُّلُ أفكاره في بيان أعلنه لسكان السودان بتاريخ 26 فبراير إذ تخلى غردون عن سياسته السلمية وأعلن أن قوات الحكومة البريطانية في طريقها إليه وأنها ستصل إلى الخرطوم خلال أيام قليلة. وقد يكون هذا التأكيد ناتجاً عن سوء فهم أو لعله كان نوعاً من الخداع. وقد أثبتت الأيام التالية زيف ما جاء في البيان وبالتالي تأثرت مكانة غردون الشخصية ، تلك المكانة التي كانت سلاحه الأخير وربما الوحيد. وحينما انتاب وزراء بريطانيا كثير من القلق ولم تكن لهم فكرة واضحة عن الموقف في السودان وبدا لهم أن المبادرة انتقلت إلى شخص بعيد لايمكن التنبوء بما سيفعل). وقال هولت: (وكلما تقدم غردون نحو الجنوب يبتكر خططاً وينفذ إجراءات لم تبن إلا على حكم متقلب ومتسرع وسطحي على حقيقة الوضع القائم في السودان) وقد لخص هولت في كتابه عيوب غردون في الآتي:

    ( وقد عانى غردون من قصور كبير بسبب جهله التام باللغة العربية .... وخلال الشهور العصيبة التي أمضاها بالخرطوم كان يجهل معظم ما يجري حوله.. وثانيا كما عرف بيرنق _ كرومر _ عنه تماماً نجده قد اتصف تفكيره بخيال خصب فغمر رؤساءه ومرؤوسيه بخطط مفصلة غير مترابطة.. وثالثاً : كان رجلاً مسرفاً في ميوله ومن ميوله ما كان ثابتاً مثل كرهه للإرتباط بالرسميات والتقاليد ومنها ما كان طارئاً هوائياً مما أدى إلى ضياع الثقة وإثارة الحفائظ ومن ذلك أزمته العاطفية المرتبطة بالزبير باشا ، وقد بالغ البريطانيون كثيراً في تصورهم مدى قدرة غردون على كسب السودانيين ........ وعلى كل فإن ما اكتسبه من نفوذ لدى السودانيين حتى في الوقت الذي وصل هذا النفوذ إلى أوجه كان أقل جداً مما تصوره هو أو تصوره الرأي العام البريطاني. وفوق هذا فإن اتجاهات السودانيين كانت تغيرت فبينما كان بإمكان حاكم أجنبي مسيحي في عام 1879 أن يضمن لهم أحوالاً أحسن من تلك التي يوفرها لهم الحكام السابقون الأتراك أصبح ذلك متعذراً في عام 1884 بعد أن ظهر بينهم حاكم مرسل من قبل الله للقضاء على طغاتهم وإنشاء مجتمع ديني. فمن جميع الزوايا كان بإمكان المهدي أن يبز غردون)

    وقال صاحبا ورقة القيادة الكارزمية في الاسلام عن غردون : ( جعلت منه خدمته السابقة في السودان ومآثره البطولية في الصين بطلاً في بريطانيا ولكن ليس في السودان كما توهم البريطانيون)..(وبكل تأكيد في الوسط الثوري في 1884، لم يكن من الممكن مقارنة غردون بالمهدي لأنه لم يكن بوسعه أبداً الحصول على ذلك التفاني العميق الذي استطاع خصمه ذو الكاريزما خلقه وسط الجماهير)

    فأوهروالدر يرى أن غردون قد سبب الأذى لنفسه حينما رفض تعاون رجال شجعان مخلصين عرضوا عليه خدماتهم على ما فيها من مخاطرة مثل صالح المك ولبتون. وفي هذا الصدد نجد أنه قد دخل في عداوات وأساء إلى عدد من الأوربيين مثل كرومر وسلاطين وغيرهما. واستغرب زلفو من صرف غردون لاستيوارت وغيره من الاوربيين رغم حوجته الماسة لهم في الحامية وإدارة المدينة. وخلافه مع الزبير أيضاً دليل على شخصيته. ونسب جمال الشريف ذلك التضارب لمؤامرة بريطانية كانت تريد احتلال السودان وابعاد مصر عنه وفسر بها السلوك المتضارب لغردون وبعثته .وفي الحقيقة فإن مهمة غردون قد اكتنفها تضارب وغموض يدعو للشك وقد حمل غردون معه أكثر من خطاب يوضح مهمته في السودان( بل وحتى حملة غزو السودان كان بها الكثير من الغموض والتضارب الذي قد يعطي مصداقية كبيرة لنظرية الشريف من أن احتلال السودان كان مخططاً له من قبل مجموعة متنفذة أخفت أهدافها عن الذين قد يعترضون على ذلك) . وقد صدر أكثر من توجيه وتعدلت المهمة أكثر من مرة وتعدل خط سيرها أكثر من مرة ولسنا في معرض الحديث عن ذلك إذ هو خارج نطاق كلامنا.

    فأنت ترى مما سبق صفات لا يمكن وصف صاحبها إلا بالدرويش: (الانبتات عن الواقع ورسم الخطط المبنية على الخيال الخصب والركون الى الاحساس دون معطيات عقلية مع عدم ترابط تلك الخطط، إضافة للتقلب وعدم الثبات عليها) فإذا أضفنا إليها العناد والتهور والانفعال وعدم معرفة البيئة وخاصية فقدان الأصدقاء والزملاء وعدم الاستفادة منهم فربما فسر ذلك سلوكه السياسي الغريب الذي وسم وصبغ أداءه بالسودان والذي جعل المؤرخين يذهبون في تأويله كل مذهب.

    أما المهدي فهناك شهادتان تلخصان الموقف بشأن هذه المقارنة أولاهما شهادة ونجت حيث قال ( لا شك أن هذا الرجل قد أُوتى أقوى رأس وأصفى بصيرة ذهنية في مليوني الأميال المربعة.)

    وشهادة هولت: (فمن جميع الزوايا كان بإمكان المهدي أن يبز غردون)

    أما سلوكه وسلوك أتباعه الزاهد فيأتي عن فلسفة وعلى بصيرة وليست عن إنبتات عن الواقع:

    قال المهدي في منشور بتاريخ 20 جمادى الثاني 1301هـ الآتي: "فمن نفذ قلبه إلى ما عند الله من خير، وترك ما في الدنيا من ضير، لا يسمى درويشا وإنما يسمى عاقلا ومدركا وبصيرا، وناصرا لدين الله حيث أنه وافق أراده الله وترك ما لا يريده وذلك البصيرة فلزم من سمى مثل هذا ( أي الشخص الموصوف ) بالدرويش الذي هو ذاهب العقل التغرير والجلد".

    الهوامش:

    شلبي ص 40

    هولت ص 106

    RICHARD H. DEKMEJIAN and MARGARET J. WYSZOMIRSKI

    قال مايكل آشر أن غردون وولسلي طبخا مؤامرة وحولا المهمة من كتابة تقارير لاحتلال انظر

    Michael Asher Khartoum: The Ultimate Imperial Adventure

                  

03-12-2016, 11:29 AM

مني عمسيب
<aمني عمسيب
تاريخ التسجيل: 08-22-2012
مجموع المشاركات: 15691

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    يا الطال غيابك طال سنة وزيادة !

    ابو عمير الانصاري المتخلف والله ليك السلام والاشواق المردمة ..

    وينك يا رجل لعلك طيبة ؟ وشنو سر الغياب يشهج الله فاقداك .

    وبركة الشفناك بخير ياوش الخير .

                  

03-14-2016, 11:17 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: مني عمسيب)

    الأخت منى عمسيب

    موجود بكثرة في وسائل التواصل الاخرى وقد شغلتني شواغلها

    تحياتي الطيبات

    وسأعود للمنبر ولكم بعنف لا هوادة فيه

                  

03-14-2016, 11:27 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة الحادية عشرة

    الباب الخامس

    الخليفة عبد الله

    الفصل الأول: الشهادات

    كان الخليفة عبد الله مهاجراً إلى الله، وكان متشوفاً متشوقاً نذر نفسه لقضية الدين. وحينما صادف المهدي قرت روحه ووجد بغيته، فهذا عن الجانب العقدي في إيمانه برسالة المهدية. أما مزاياه الشخصية والقيادية فكثيرة منها: الصلابة في الرأي والصبر والدأب والمثابرة وقوة الإرادة والبصيرة التي تخترق الحجب والمقدرة العسكرية والإدارية وحسن إدارة البشر والانفتاح لللإستفادة من كل ماهو نافع دون التخلي عن الثوابت.

    وقد حمل الخليفة عن الإمام المهدي أعباء كثيرة إدارية وعسكرية. وقد أشار المهدي لأهمية الخليفة في المهدية وفي أداء رسالتها وسد مداخل تقويضها في أول منشوراته، وأشار لمنزلته الدينية والدنيوية في منشور آخر وأشار لحمله الأعباء العسكرية عنه وإراحة باله منها في منشور غير تينك المنشورين وهكذا.

    كان الخليفة على علم بتركيبة البلاد السياسية والاجتماعية وكان على علم بالسياسة الدولية ، وكانت تحضر له الصحف المصرية ويترجم له ما يجد من الصحف الأجنبية وكان ملماً بكل ما حوله.

    كانت له بصيرة نافذة وحدس غريب وموهبة فطرية في السياسة وتشابكاتها وبالدول وأطماعها وموجبات ودواعي سلوكها السياسي، هذا فضلاً عن موهبته العسكرية ووعيه الاستراتيجي.

    قال أوهروالدر: (أنه أمر غريب أن الخليفة له تبصر بأساليب الأجانب أكثر كثيراً من معظم المواطنين)

    وقال الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم عن حدسه وبصيرته: (وحسن الفراسة حتى أنه ليكاد يعرف ما في سريرة جلسائه)

    وقال زلفو( ويخيل للمرء كثيراً لو أن الخليفة اتبع غريزته وخبرته وذكاءه بدون أن يحاول تغليف قرارته بالصبغة الشرعية القانونية لأراح نفسه كثيراً. )

    كان ذا همة عالية فكان يتابع كل تفاصيل دولته من أحوال السوق والشوارع إلى التفاصيل السياسية في أمدرمان والأقاليم إلى تفاصيل أخبار جيوش المهدية المنتشرة في كل السودان إلى تحركات الدول الأجنبية المتربصة بالمهدية. وقد وصف أوهروالدر يومه الطويل المليء بالعمل إلى آخر الليل حيث يستمع في نهايته للمدائح. ولايدري أوهروالدر بعد ذلك شيئاً عن مناجاة الخليفة لربه. وقالت دراسة غربية عن قيادته:

    (وكما قلنا سابقاً فإن الصعوبات التي تواجه الحركات الثورية دون إستثناء بعد رحيل القائد الكاريزمي موثقة بصورة جيدة. والمهدية ليست إستثناءً مع أنه ولدرجة نسبية فإن خلافة الخليفة عبد الله لم يثبت أنها ألحقت ضرراً بالمقارنة للأحوال المشابهة الأخرى. ولا شك أن الشرعية التي منحها المهدي للخليفة عبد الله كان لها أثر قوي على مجرى صراع السلطة الذي أعقب ذلك. وهنا نجد حالة نادرة حيث تم بالفعل إنتقال الكاريزما من القائد لخلفه مثل حالة ثنائية غاندي / نهرو .)

    رسمت الآلة الإعلامية الاستعمارية صورة قاتمة للخليفة عبد الله، وكان ذخيرتها كتابات الكتاب المأسورين في المهدية.

    كانت دوافع تلك الحملة – التي سُخرت فيها إمكانيات دول كبيرة – معلومة. وقد أوضحنا جانباً من ذلك فيما سبق من صفحات على ألسنة بعض الكتاب الذين التزموا قدراً من الموضوعية والأمانة العلمية مثل استشهادنا بهولت وثيوبولد ومورهيد وتشرشل.

    ولكن حتى كتابات الدعاية الحربية برزت في ثناياها إشراقات كثيرة في شخصية الخليفة عبد الله وفي أفعاله تتناقض في محصلتها النهائية مع تلك الصورة المرسومة.

    1) شهادات أوهروالدر/ونجت :

    والمتصفح لكتاب أوهروالدر/ونجت يجد المواقف والشهادات التالية للخليفة عبد الله:

    وأنا هنا لا أستقصيها كلها ولا أرتبها موضوعياً بل بحسب تسلسل ورودها في الكتاب والمغزى سيكون واضحاً:

    وبعد وفاة المهدي :

    ( سعى الخليفة لمصالحة جميع الجهات والمجموعات) ( وسعى لخلق وحدة واتفاق على أساس الدين الجديد الذي أوجده المهدي والذي إذ توفى مؤسسه سعى لتجنيبه المطاعن)

    ( عامل الخليفة حتى تلك اللحظة أخويه الخليفتين والأشراف والدناقلة بأقصى درجات الاحترام)

    وعن رضاء الناس عنه وصف أوهروالدر العرضة التي حضرها أكثر من مائة ألف مواطن وجندي يرددون بحماس صيحات التكبير التي تردد صداها الجبال وختم قائلاً( أكدت الجموع ولاءها للخليفة واستعدادها للموت مائة مرة من أجله وأجل أهدافه) ثم وصف تدافع الحشود نحوه.

    وقال في نفس المعنى بعد الحديث عن إلتزامه الصارم بأداء الصلوات الخمس في المسجد ( بعد الصلاة يسير ويتبعه مئات الفرسان وآلاف المشاة وهم يصيحون ويظهرون علامات الفرح)

    ( ولما أبلغ الخليفة علي ود حلو المصلين أن الخليفة مرض مرضاً شديداً ولكن رحمة الله أنقذته ارتفع صوت المصلين فرحاً بشفائه حتى وصلت لمسامع الخليفة في منزله ولما ظهر بالمسجد بعد ثمانية أيام لم تعرف الفرحة حدوداً وسمعت صيحات الفرح على بعد عدة أميال)

    وعن رضا السكان قال:

    ( كانت الضريبة الوحيدة التي تحصل من قبل نظام الخليفة هي الزكاة (2,5%) وبدا السكان بصفة عامة راضين وسعداء. كانت هناك كميات كبيرة من الأموال في بيت المال وفي ذلك الوقت لم تكن هناك ولا حادثة قمع للسكان)

    (كان هناك عدد من الإغريق واليهود والسوريين كلهم يعملون بصورة طيبة في التجارة)

    وعن قبول حكمه حتى في مصر قال: ( كتب له عدد من الشيوخ والعلماء في القاهرة وفي أجزاء أخرى من مصر كتبوا له داعين لاستلام البلاد – مصر – وأكدوا له أنه سيجد استقبالاً حاراً)

    وعن إنجازاته وحسن إدارته قال ما مختصره:

    نظم السوق في أمدرمان وخططها وجعل لها شيخ سوق ومحكمة خاصة ونظم بيت المال وأنشأ مصنعاً لسك العملة الوطنية ومطبعة حجر لطباعة الخطابات والمنشورات والراتب وأنشأ متحفاً سُمي بيت الانتيكات حوى عدداً من الأشياء مثل الغنائم من الحبشة ومصر ومقتنيات من دارفور، كان القسم الحبشي أكبرها وضم تاج وعرش الملك يوحنا وضمت مقتنيات دارفور كسوات السلطان يوسف وسلطان المساليت وغيرها. كما احتوى بيت المال على مصحة وصيدلية عليها طبيب مصري تحتوي على أرفف محملة بالأدوية.

    وأنشأ مصنع صابون تابعاً لبيت المال إضافة لمصانع الصابون الخاصة. كما أنشأ نظام حسابي دقيق في بيت المال بكل العوائد والمنصرفات يعمل فيه كتبة عملوا في الحكم المصري.

    وأجرى تجارب تكللت في النهاية بصنع الذخيرة والبارود محلياً وهو الانجاز الذي مكنه من تحقيق انتصارات الحبشة.وقد وضعت البودرة المصنعة محلياً في المتحف (بيت الانتيكات)

    أجرى تحسينات على النظام القضائي ومنع الازدواجية وجعل على رأسه قاضي الاسلام ونوابه ومجلس قضاء . وقال عن عدالة رئيس القضاء: كان القاضي أحمد قاضي الاسلام رجلاً جيداً وعمل على حماية البيض.

    وبنى مسجداً يسع 70 ألف مصلّ وعمل جزءاً مسقوفاً يسع 30 ألف مصلٍ كان السقف من ألواح الحديد وكان المسجد مفروشاً بالرمل الناعم.

    أنشأ بيت الأمانة وبناه بالطوب المحروق لحفظ البودرة والذخيرة والسلاح الخ وساحة للأعلام ومبنى للطبول.

    نظم السوق وقسمه : قسم للصيادلة، الأقمشة، الخضار، الصاغة، الحدادين، المطاعم، القهاوي، الأحذية الخ

    عمل سوقاً منفصلة للنساء.

    وقال عن أمدرمان: ( أمدرمان في الوقت الحالي بالأخص مدينة نظيفة وصحية) وكان ذلك بفضل متابعته واهتمامه بنظافة المدينة، قال أوهروالدر:

    ( كان مغرماً بالتجوال في المدينة وحينما يرى شارعاً ضيقاً يأمر المهندس ببناء طريق واسع مستقيم لكل الأماكن الرئيسية)

    وكان شيخ السوق يرفع تقريراً يومياً عن كل شيء يحدث في السوق وكذا رئيس القضاء وحكام الأقاليم.

    أما السجن وهذا يستحق تفصيلاً أكثر لأن بعضهم حاول أن يرميه بكل ذميم من قسوة وعشوائية. فقد قال أوهروالدر الحقائق التالية عن السجن:

    • اشتمل السجن علي فناء يقضي فيه المسجونون النهار وحجرات ينامون فيها.

    • يسمح لأهل وأصدقاء السجناء بزيارتهم

    • يسمح للسجناء بشراء الطعام كما يسمح لذويهم إحضار الأكل لهم.

    • يسمح للذين يقضون فترات طويلة ببناء أكواخ (قطاطي) يسكنون فيها داخل السجن لا يشاركهم فيها احد.

    • يقوم القاضي بزيارة شهرية ومعه كاتبه لعمل قائمة بالمساجين والمدة التي قضوها وترفع للخليفة.

    • يقوم الخليفة بمراجعة القائمة ويعمل تحريات دقيقة حول المساجين ويطلق سراح بعضهم.

    • لم يقيد الأوربيون المسجونون إلا أثناء حصار الخرطوم خوفاً من هربهم لغردون.

    وعن حالة الأمن قال:

    ( وعلى كل حال فقد فعل الخليفة الكثير لتحسين أمن المواطنين في المديريات)

    وكان الخليفة قد جمع السلاح من أيدي المواطنين.

    وقال عن أمدرمان:

    ( ونادراً – ويا للغربة – ما تحدث جرائم قتل عكس ما هو متوقع نظراً لطبيعة السودانيين المتوحشين)

    وعن التسامح في عهده قال:

    ( رغم هرب الأب بونومي لم تتم إساءة معاملة الباقين)

    وقال عن تمرد الجهادية بالأبيض: ( عاملهم الشريف محمود - عامل كردفان – باحترام وأعطاهم الحبوب في حين رفض إعطائها للجلابة الذين ضربتهم المجاعة) وقال عن عفو الخليفة:

    ( حينما قتلوا صالح بيه في 1887 وجدوا ضمن أوراقه خطاباً من بونومي {الذي هرب إلى مصر} لي – أوهروالدر – ينصحني بالثقة في العربي الذي لن يفشل في أخذي إلى حلفا. جُلب هذا الخطاب مع العميل الآخر للخليفة وتُرجم له وكان حانقاً ولولا ملاكي الحارس حماني لكنت رُميت في السجن) لاحظ أن القسيس بونومي هرب ويبعث خطاباً مع أحدهم لتهريب أوهروالدر ومع ذلك لا يسجن. وكذلك معاملته لنيوفيلد الذي كان يستحق الإعدام في نظر أوهروالدر ولكن لم يحصل له مكروه. عزا أوهروالدر نجاته لكونه ألمانياً وليس انجليزياً.

    وقال عن معاملة الخليفة للأسرى المسيحيين:

    ( وفي العيد كالعادة جاءه كل المساجين الأوربيين، كان رفيقاً ولطيفاً معهم وسألهم إن كانوا يشتكون من إساءة معاملة في السجن أو ظلم وطلب منهم أن ينظروا إليه كحامي لهم ) وعلق على ذلك قائلاً: ( إنعكس كلام الخليفة الطيب علينا إذ أظهروا لنا عطفاً واحتراماً كبيراً)

    وقال عن تثبته في قضية حسين خليفة الذي كان حاكماً لبربر في العهد التركي وخيانته وقد مرت علينا مواقفه مع المهدي:

    ( كل أنواع التقارير وردت عنه ولكن الخليفة رفض أن يصدقها حتى أخبره كرار العبادي عندها أيقن الخليفة بعدم ولاء حسين خليفة).

    وقال عن تسامحه مع الهندي ( شخص هندي) الذي أدعى معرفته بتصنيع الذخيرة واتضح كذبه : ( أُحضر أمام الخليفة ويا للغرابة لم يعاقب وعلق الخليفة قائلاً : "إنه غريب مسكين فقير وبالطبع فإنه فعل ذلك ليعيش". أنه أمر غريب أن الخليفة له تبصر بأساليب الأجانب أكثر كثيراً من معظم المواطنين)

    وروى مشهد إنساني للخليفة حين فقدت مصرية إبنها في انفجار مخزن الذخيرة فأخذت تصيح وتشتم المهدية. هددها الأنصار وكان الخليفة حاضراً فوبخهم قائلاً " دعوها تبكي فإنها محروقة" وفي هذا الحادث كان الخليفة أول الحاضرين حينما سمع صوت الانفجار جاء معه رجل أو رجلان فقط.

    وحينما اتهموا أحد الأجانب العاملين " بحادث الذخيرة" رفض الخليفة أن يكون الحادث مدبراً وقال ( أمر الله)

    وقال أوهروالدر عن حرية حركة الأوربيين :

    ( في ذلك الوقت لم تكن القيود على الأوربيين شديدة وكان يسمح لهم بالتجارة والسفر حتى الدامر حيث كان التجار المصريون يذهبون ويجيئون إليها بحرية) وقد كان هذا مدخل هرب من هرب منهم.

    وقال عن انحسار الرق في عهده:

    ( الرقيق الذكور كانوا يستوعبون في الجيش)

    وقال ( لم يستمر صيد الرقيق بنفس الطريقة التي كان عليها قبل المهدية فقد كان الخليفة واعياً وأعلم من أن يرسل حملات كبيرة لصيد الرقيق من المديريات البعيدة لأنه كان يخشى أن يستقلوا وينقلبوا عليه. كما أن الأشخاص العاديين لم يكن يسمح لهم بامتلاك أسلحة نارية)

    وقال (منع الخليفة تصدير الرقيق لمصر وعبر البحر الأحمر لأنه كان يخشى أن يعترضهم الانجليز ويجندوهم كجنود في الجيش)

    ( كما تم السماح بإعطاء الرقيق رجالاً ونساءاً أوراق حرية)

    وحكى أوهروالدر في رواية هربه أنه ظهر لهم ( حارس أُرسل من بربر ليتأكد أن التجار المصريين لا يصدرون الرقيق من السودان لمصر ورووا لهم كيف أنهم قبضوا في اليوم السابق على تاجر ومعه 5 رقيق وأطلق سراحه لما دفع ثمن الرقيق). فقد كان عامل المهدية على بربر يرسل دوريات لمراقبة منع تصدير الرقيق.

    وأشار أوهروالدر إلى أسس الترقي في المهدية فقال: ( وكان الترقي في الجيش حسب الكفاءة مما جعل كثيراً من الرقيق السابق يرأس الآخرين)

    قال أحمد ود سعد :

    وجميع الظامي من منهلك يشرب

    والجيش التابعك جميعه اتهذب

    خليت الحر يقول يا سيدي للعب.

    وهذا أعلى أنواع التحرير لا التحرير القانوني البارد بل تحرير الواقع المعاش.

    قالت يوشيكو كوريتا:

    "يجدر بنا أن نسجل أن استيعاب القسم الرئيسي من العبيد الذكور في جيش الدولة المهدية قد ساهم إلى درجة معينة في الارتفاع نسبيا بالمكانة الاجتماعية للزنوج المنبتين قبلياً Detribalized Negroes في هذه الدولة الثورية حتى لو ظل المواطنون العرب يحملون تحيزاتهم العنصرية والثقافية" .. "لقد هرب العديد من سادتهم وانضموا للجهادية ليحصلوا على الحرية" .

    وذكر تغاضيه عن تمرد المرضي أبو روف قائلاً: ( لم يسأله الخليفة حتى هددت وقاحته الملاحة في النيل الأزرق والتي تعتمد عليها أمدرمان في إمدادات الذرة)

    وقال في استمراره في التصالح مع قبائل الجنوب وهي السياسة الثابتة التي اختطها المهدية : ( تُركت القبائل الزنجية على النيل الأبيض دون إزعاج من قبل الدراويش).

    هذه افادات تسربت من كتاب وضِع أساساً للتحريض على خليفة المهدي ودولته فكيف بالكتابات المنصفة وكيف بشهادات الأقربين؟

    2) شهادتان

    أبو القاسم أحمد هاشم

    وأورد هنا شهادتين لرجلين إشتركا في العلم والمعاصرة لخليفة المهدي والمشاركة اللصيقة في أحداث المهدية وفي العدالة والنزاهة وفي انهما اتخذا موقفاً مرناً من الغزو الانجليزي المصري والعهد الذي تلاه فلا يتهما بالتعصب للمهدية هما العالم أبو القاسم أحمد هاشم والمؤرخ محمد عبد الرحيم. قال الأستاذ عبد الحميد إبن الشيخ أبي القاسم عن أبيه: ( لم تكن صلة الشيخ أبي القاسم بالمهدية صلة المتعصب المتطرف ولكنها كانت صلة العالم الوقور الوطني الذي وجد في المهدية روح الدين وأصالة الوطن) كان أبو القاسم كاتباً للمهدي ثم عينه الخليفة كاتباً لأسراره وكان له دور كبير في العمل الكتابي في المهدية كما روى أبو سليم ثم في عهد الحكم الثنائي صار شيخاً لعلماء السودان وقام بإنشاء المعهد العلمي.

    شهادته:

    قال إبنه في كتابه ( كان رأيه في المهدي حسناً صريحاً وكذلك رأيه في الخليفة عبد الله ويذكره بكل خيرويصفه بالحزم والدهاء والذكاء والتيقظ الفطري وأنه لازم الصلوات الخمس في جماعة مدة 16 عاما لايؤخره عن ذلك إلا لطف رباني وينسب إليه البأس والجبروت والقهر عند الحاجة وحسن الفراسة حتى أنه ليكاد يعرف ما في سريرة جلسائه. ويعتقد أنه بريء من الشبهات التي حصلت في أيام حكمه لأنه يكل الأمر إلى شيخ الإسلام ومجلس القضاء فهم الذين يدينون المتهم ويوقعون عليه عقاب الجريمة أو يفرجون عنه، وذكر أنه كان يمتعض كثيراً إذا تبين له جور مجلس القضاة في أي حكم وربما نكل بمن يعرف فيهم العبث في ذلك.) وقال ( لقد عرضت على الشيخ – يعني أبا القاسم- بعض ترجمة من كتاب أوهروالدر – عشرة (عشر) سنين في أسر المهدي - فأنكرها ونفى كثيراً من الوقائع التي جاءت فيه محرفة وقد عرضت عليه صورة الامام المهدي التي تنشر عنه فقال إنها لاتمثل صورته الحقيقية) ( وقد تكلم معه بعض خاصته في أن يكتب تاريخ المهدية حسب علمه ومشاهداته فلم يقبل وقال لهم: لو أنني كتبت تاريخ المهدية فلن تبقوا في هذا البلد، وكان ذلك إبان عنفوان الحكم الاستعماري الانكليزي) وقال :( كما أن الشيخ يحفظ للخليفة كل التقدير والاحترام وقد سُئل مرة عن بعض الحوادث التي تعرض فيها بعض الخارجين على الخليفة فذكر أن الخليفة لم يظلم أحد (أحداً) قط فجميع الذين نالهم العقاب الصارم كانوا قد خرجوا عن الطاعة والأمر وعرضت قضاياهم على مجلس القضاة ليقولوا كلمتهم فيهم وينالوا الجزاء الأوفى وأن مثل الخليفة كمثل أي حاكم حتى في أرقى وأحدث الدول لا يسكت عن الفتنة ولا يترك للخارجين الحبل على الغارب ليعيثوا فساداً... كما أن الخليفة كان يقبل النصيحة المخلصة. لقد حصل بعد موقعة المتمة في أخريات المهدية أن جيء ببعض بناتها الشابات سبايا مع الجيش إلى أمدرمان فذهب الشيخ أبو القاسم والشيخ الطيب ومدثر إبراهيم الحجاز ومعهم بعض كبار رجال الجعليين إلى خليفة المهدي وأخبروه بأنهن حرائر لا يصح سبيهن فوافق الخليفة على إطلاق سراحهن)

    وتعضيداً لرواية الشيخ أبي القاسم في قبوله النصح والشفاعة روى محمد عبد الرحيم قبوله شفاعة الحردلو في الشيخ محمد أحمد عمارة أب سن مع إقراره بذنبه بعد أبيات الحردلو الشهيرة وروى قبوله شفاعة محمد خالد في الشيخ البنا ونسب كتاب جهاد في سبيل الله الشفاعة للشيخ طه الجعلي وكان يزمع نفيه لمشاركته في فتنة الإشراف وقال الحردلو مادحاً الخليفة ومستشفعاً للمشاركين في تلك الفتنة:

    فوق لَقا فوق مَحل، في الجاية ما بتتمحَّن

    وفـرَّاج كُربـة الهـم القبايلـو بوحَّـن

    وكِت حسناتـك السيتِن قبيـل ما صَحَّـن

    صبر أيوب بتتقلبـو الليـالي إن شَحَّـن

    عِجْـل البُرْبُـرَة الوقفن قرونـو شَراتي

    نطح الصومعـة، ولي أماتو جايي يتاتي

    وكْتَ الطـار مرق، رِكب السديس العاتي

    والله البِـواردك في مَشارْعـك خـاتـي

    وهذا يدل على جانب مهم في شخصية الخليفة يناقض تلك النظرة التي تصوره بعبعاً مخيفاً لا يستشفع عنده ولا ينشد الشعر عنده. وقد روى عبد الله الطيب أن الخليفة رغم أنه كان مرهوب الجانب إلا أنه كان خفيف الظل يعرف الفكاهة وأنه كان استنشد الحردلو هجاءه فأنشده الحردلو:

    متل الشوك حرابكم

    وبرق الضان جبابكم،

    وعادم الدرشة عقابكم

    وأسود يوما جابكم

    وهذا فيه ما فيه من الدلالات على سعة صدره وإطمئنان الحردلو لعاقبة كلامه.

    محمد عبد الرحيم:

    ( وعلى كل حال أقول إني لازمت الخليفة حيناً من الدهر وسبرت أخلاقه وصليت خلفه وسمعت وعظه ورأيي كمؤرخ يزن الأمور بميزان العدل أنه كان رجلاً حكيماً حاذقاً ناسكاً كريماً بطلاً لا يهاب المكاره ولا تأخذه في الحق لومة لائم ولا يعفو عن المسيء ويضرب بيد الظالم ولو كان من ذوي قرابته) وقال: ( وقد أمر الخليفة الجيش بحفظ القرآن الشريف فكنت تسمع للناس دوي ( دوياً) بالجامع كدوي النحل وقد حفظ القرآن أناس في العقد السادس من عمرهم. ولقد زرت يوماً محمد بك الملك ( ملك أرقو) حال قدومه للخرطوم فذكرنا خليفة المهدي فقال: إن لم يكن للخليفة من عمل صالح إلا أنه حفظنا القرآن الكريم بعد الشيب لكفى) وقد ذكر حسن نجيلة (وأظن في كتابه ذكرياتي في البادية) نقلاً عن أحد شيوخ الكبابيش شهادة كهذه أنهم تعلموا القراءة والكتابة وحفظوا القرآن في فترة وجودهم بأمدرمان في عهد المهدية .

    الهوامش:

    زلفو ص 193 نقلاً عن محمد عبد الرحيم :( ما كان الخليفة غافلاً أو جاهلاً بما يطبخ له طي الخفاء بل كانت له جواسيس ومراقبين في القاهرة يراجعون الصحف اليومية ويقطعون منها قصاصات عن تحركات الجيوش ومفاوضات السفراء وجلسات الوزراء وكل ما يكون به مساس بالكلام عن استرجاع السودان وترسل له تلك القصاصات داخل مظاريف توضع بين طلبات المنافاتورة التي يصدرها تجار السودان بمصر إلى السودان وبعد أن يراجعها الخليفة يكتب بذلك إلى قواد جنده بالحدود، وكفى بنا برهان على يقظته أنه لما تقدمت طليعة اللورد كتشنر أمر بسحب حامية عكاشة وتعزيز حامية صواردة.

    عبد الحميد سابق

    RICHARD H. DEKMEJIAN and MARGARET J. WYSZOMIRSKI, op.cit

    Wingate, op.cit

    وذكر شقير وغيره أنه صنع ألغاماً نهرية لمنع تقدم بواخر الجيش البريطاني ولكنها انفجرت ومات الفني الذي يصنعها. كما تقدمت صناعة السفن في عهده

    يوشيكو كوريتا علي عبد اللطيف وثورة 1924 ترجمة مجدي النعيم- مركز الدراسات السودانية- ص 50

    عبد الحميد ابو القاسم : سابق ص 18

    عبد الحميد سابق ص 13-17

    نفثات اليراع ص 37 -38

    السيد علي المهدي سابق ص 148

    حوار أجراه الشيخ حسين وموجود على الرابط أدناه

                  

03-14-2016, 11:32 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة الثانية عشرة

    الفصل الثاني

    ملامح من إنجازاته وأسلوب إدارته

    1) الإنجازات:

    وقد ذكر هولت بعض الأحكام الكلية عن عهد خليفة المهدي التي تشير إلى الإنجازات التي حققها وإلى طريقة إدارته للحكم من حيث المرونة وتعديل السياسات والتوجيه بالعدل والشورى في إتخاذ القرارات وكان نتيجة كل هذا الرضا الشعبي الواسع الذي حظيت به سنين حكمه والذي مثله أفضل تمثيل إلتفاف الناس حوله بعد زوال سلطته وهجرتهم إليه وموتهم معه وسنعرض لذلك الرضا في فصل لاحق.

    قال هولت إضافة لشهادته التي أثبتناها في الفصل الأول عن إنجازات الخليفة:

    ( بالإضافة لذلك فهناك جانب بنائي في عهده لم يجد إلتفاتاً كافياً من الكُتّاب)..( لم تكن جميع أيام الخليفة مجرد مرحلة سادها الأسف والتحسر على ما سبقها من عهد ذهبي إنتقالي _ يعني عهد المهدي_ وإنما كانت أيضاً فترة تنظيم وتوازن ماهر بين القوى يكشف عن إرادة قوية وقدرة إدارية تتميز بالكفاءة عملت في حدود الخبرات المحدودة التي كانت في متناول يدها وإن فشلت كثيراً في التنفيذ بسبب الأخطاء الكامنة في الأدوات التي تم اللجوء إليها)

    وقد عقد فصولا جيدة في أنجازات الدولة على عهد الخليفة وكنا قد ذكرنا مختصراً من إنجازاته التي وردت في كتاب اوهروالدر/ ونجت.

    كما كتب زلفو كلاماً قيماً عن إنجازات الخليفة وبنائه دولة متماسكة تحكمها إرادة واحدة وأسس سليمة في الإدارة والقضاء والنظام الاقتصادي والبريد تمكنت رغم الحصار من إنتاج أغلب احتياجاتها.

    2) ملامح منهج الخليفة الإداري

    الشورى والمشاركة: لجان تقصي الحقائق:

    وقال هولت عن أسلوبه في التقصي وتكوين اللجان حينما ينشأ خلاف أو ترفع إليه شكوى ( وجرياً على أسلوبه المعتاد في مثل تلك الخلافات أرسل الخليفة ثلاثة مندوبين للتحري والإفادة) كان هذا في قضية الخلاف بين عبد الرحمن النجومي ومساعد قيدوم.

    وحين ظهر مدعي العيسوية بالقلابات وتآمر مع بعض أتباعه على قتل حمدان أبي عنجة وكاتبه الأمير يونس بشأنه أرسل بعض القضاة للقلابات للحكم في قضيتهم.

    وحين توفي حمدان أبو عنجة بعث أحمد علي ليشرف على اختيار قائد للجيش - بعد تلمس ميول الجنود - خلفاً لحمدان حيث تم اختيار الزاكي طمل برضا الجيش . وحينما اشتكى الجهادية من خلافات القادة في شرق السودان (أرسل الخليفة أربعة مندوبين من بينهم محمد خالد والطاهر المجذوب لدراسة الموقف) وفي شكوى مساعد قيدوم وعربي دفع الله ضد محمد خالد زقل ( أرسل الخليفة وفقاً للتقليد الذي جرى عليه في علاج مثل تلك الخلافات وكلاء عنه لدراسة الموقف)

    وقال زلفو عن هذه النقطة :

    ( أغلب قراراته - إن لم تكن جميعها – خصوصاً تلك التي تمس أموراً لم يشتهر بالحذق فيها كالقضاء والشرع اتخذها إما بعد عقد مجالس شورى أو كانت أحكاماً أصدرها قاضي الإسلام ومن خلفه هيئته القضائية . ويخيل للمرء كثيراً لو أن الخليفة اتبع غريزته وخبرته وذكاءه بدون أن يحاول تغليف قرارته بالصبغة الشرعية القانونية لأراح نفسه كثيراً. )

    المرونة ومراجعة السياسات:

    وكان الخليفة يراجع سياساته حسب الموقف فلم يكن جامداً أو متعصباً، ذكر هولت: (ولعل إسراع الخليفة في إعادة تقييم سياساته وتعديله لها كلياً خير ما يبرئه من تهمة تعمد إرسال الحملة – حملة النجومي – عن عمد للكارثة التي حلت بها ) وذكر جملة من التعديلات مثل تهدئة سكان الشمال وتركيز الجهاد في الشرق وتحسين الوضع الاقتصادي وعمل رصيد من الذخيرة الخ) ومثل هذه المراجعات ذكرها أوهروالدر ايضا وذكر استجابته لشكاوى المواطنين من تشدد بعض الأمراء وتغييرهم نزولاً عند تلك الشكاوى.

    3) العدالة:

    وعن عدالته استشهد هولت برسالته التي يقول فيها:

    (أمنعوا الجيش من التعدي والظلم وتخريب الزرع ودخول المنازل غير مسموح به)

    واستشهد العقيد برسالته التي يزجر فيها الامير النور ابراهيم لإعطائه بعض الأراضي الزراعية لأهله من التعايشة.. ويأمره برد الأراضي الي أهلها ورفع الظلم عن المظلومين والتي جاء فيها:

    ( قد بلغنا أنكم اجريتم قسمة أطيان الأهالي التي زرعوها بأيديهم للأهل التعايشة ظلماً و بدون وجه حق وهذا ما لا يرضي الله ولا رسوله ولا يرضينا ... فيلزم بوصول أمرنا إليكم ان تسلموا كافة ديار أهالي البلد التي زرعوها.. وترفعوا الأهل التعايشة عن خصوص ديارهم .. ولا يأخذوا من ديار الأهالي المزروعة شبرا واحدا .. وكيف يحصل منكم ذلك الظلم مع ان الأراضي واسعة وليس فيها ضيق وهي كافية لأكثر من الأهل الذين توجهوا الي تلك الديار)

    كما استشهد برسالة أخرى تعكس معايير الإمارة عنده وذلك عندما كتب للأمير يونس الدكيم عند تعيينه أميرا علي دنقلا :

    ( قد ندبناك لأن تكون عاملا علي الجيش بجهة دنقلا .. قصدنا في ذلك ان تسير بهم علي قدم الحق و ميزان الصدق وتعمل فيهم علي حسب ما يرضي الله ورسوله وعلي سكة الامام المهدي وتوسع دائرة الاسلام وتشفق عليهم وتوقر كبيرهم وترحم صغيرهم وتجمع كلمتهم علي الدين وما فيه رضا رب العالمين وتنزلهم منازلهم وتؤمرهم وتحترمهم وتتحمل هفواتهم.. وتعظهم بالكلام الحسن وتدلهم الي الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتترك حظوظ نفسك لمصلحة الدين.. وتلزم التواضع والانكسار والخضوع لمولاك.. وتجتنب العجب والرياء والسمعة.. وتكون واقفا علي ميزان الحق فلا تقدم علي شئ حتي تعلم حكم الله فيه.. وتكرم الرجال الذين معك في الجيش وتتحملها ولا تري في نفسك زيادة عليهم لا في دين ولا دنيا.. لا تزجرهم او لا تنهرهم في المجامع مثل محلات الصلوات والعرض و الجماعات فان محلات الجمع تحصل للرجال فيها زيادة .. فانتبه لنفسك ولا يصدر منك كلام بطال )

    وأورد شقير منشور منع الظلم الذي أصدره الخليفة في 1306 هـ

    4) الرضا الشعبي:

    وعن الرضا الشعبي الذي حظي به عهده قال هولت:

    ( وعندما استفاق السودان بعد مجاعة 1306 هـ الكبرى استرجع شيئاً من رخائه خاصة بعد توقف سيل الحملات العسكرية الكبرى من الناحية العملية ونال حكم الخليفة جانباً من الرضا حتى بين القبائل النيلية.) ويؤكد هذه الحقيقة تقرير رسمي للمخابرات عن الفترة من 14 إلى 27 سبتمبر 1890 يتحدث عن زيادة عدد طلبات العودة للسودان

    وذكر هولت أنه وبالرغم من الدعاية الرسمية ضد حكم الخليفة إلا أن المخابرات العسكرية المصرية كانت تفهم أن الأمور ليست بهذه البساطة بل وأدمجت تقريراً قدمه التاجر السوداني ( مصطفى الأمين) عن الأوضاع في السودان في تقريرها لشهر سبتمبر 1892 استعرضه هولت وعلق عليه قائلاً:

    (وهكذا كان مصطفى الأمين يلمس تزايد مساندة السودانيين بالتدريج للنظام الجديد ومن ثم حذر ونجت من أن أي غزو للسودان تقوم به الحكومة المصرية سيقابل بالمقاومة من جانب نفس القبائل التي كانت أكثر مطالبة بعودتها وأن مثل تلك المعارضة ستزداد مع الأيام وقد استقر

    القبائل التي كانت أكثر مطالبة بعودتها وأن تلك المعارضة ستزداد مع الأيام وقد استقر البقارة المهاجرون في أماكنهم الجديدة وتعايشوا سلمياً مع السكان الأصليين).( وفي نفس الوقت نما شعور بأن أي تقدم مصري معناه محاولة المساس باستقلالهم وكان هذا الشعور على أشده في أمدرمان)

    ويؤيد تقريره كما ذكر هولت عريضة تقدم بها الدناقلة المقيمين في مصر إلى بلنت سنة 1895 قال فيها:

    ( انهم يطالبون بالتوسط للسماح لهم بالعودة لأنهم سينالون الأمان هناك) (وأن الخليفة صرّح بعودة اللاجئين) ( وأنهم سيكونون أكثر راحة هناك) وقال بلنت: (وقد استطعت أن أفهم منهم أنهم يعتبرون إستقلال بلادهم عن الحكومة المصرية ميزة طيبة) .

    وحتى وقت متأخر ظلت المهدية مثار إعجاب كثير من المصريين، قال صاحبا البحث في القيادة الكارزمية في الاسلام عن حملة النجومي : (وهناك دليل يشير إلى أن المهدية كحركة سياسية كان لها معجبون كثر في مصر لا سيما في حياة المهدي وهذا صحيح خاصة بالنسبة للإثنية المصرية – المصريين أبناء البلد – الذين يشعرون بمشاعر التضامن مع السودانيين ضد البريطانيين وعملائهم الاتراك في القاهرة)

    الهوامش:

    هولت ص 10

    الباب الخامس الفصل الأول من هذا الكتاب

    زلفو ص94 وما بعدها

    جاء في كتاب جهاد في سبيل الله ( وانتدب خليفة المهدي 10 قضاة برئاسة رئيس القضاة ( ذكرهم) يحمل تعزيته لجيش الأمير حمدان في القلابات وأخبرهم أنه يرى تعيين الزاكي طمل في مكان الأمير حمدان ولكنه يترك الأمر للجيش فيولي من يختاره فاختار الجيش الزاكي طمل. بعد وصول القضاة المذكورين أعلاه للقلابات اتصلوا بالأمراء والمقاديم وقد وجدوهم خارج القلابات في انتظار هجوم الجيش فقدموا مكاتبات خليفة المهدي إلى أحمد كريم الدين كاتب جيش أبي عنجة فتلاها ثم تم اختيار الزاكي طمل للقيادة بدلاً عن حمدان ابي عنجة )

    زلفو سابق ص 100

    هولت ص

    نفسه ص 205

    د.سيد احمد العقيد : الخليفة عبدالله وحكم التاريخ ص ١٦٥

    نفسه ص 118

    شقير ص 917-918

    نفسه 205-206

    نفسه ص 228

    نفسه ص 220- 221

    RICHARD H. DEKMEJIAN and MARGARET J. WYSZOMIRSKI

                  

03-15-2016, 07:29 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة الثالثة عشرة

    الباب السادس

    دلائل الرضا الشعبي واستمرار الولاء للمهدية:

    1) الولاء للمهدية وشعبيتها

    صورت الرواية أن المهدية كانت مكروهة من أغلب الشعب السوداني بل وأكثر من ذلك أن أغلب من آمن بها ارتد على أعقابه وصار كافراً بها أو شاكاً فيها. وأن أمدرمان صارت مرتعاً للفجور والفساد وصار كل من فيها " سكير ليل مجاهد نهار" حسب تعبيره.

    أما مناصرة الأغلبية الساحقة من الشعب السوداني فلم ينكرها حتى نعوم شقير حيث قال: ( وقد صدّق أهل السودان خاصتهم وعامتهم دعوى المهدي ونصروه وهم لا يشكون أن من مات في سبيله فنصيبه الجنة والحور العين حتى صاروا يتمنون الموت وينادون عند رؤية القتال :" الجنة جات قريبة تحت المدفع وتحت الزريبة"... ولم يبق في السودان من شك في دعوى المهدي إلا نفر قليل من الأدباء العقلاء )وأضاف شقير ( هذا وقد اهتز لمهدي السودان العالم الإسلامي في جميع الأقطار وهاجر إليه جماعة من مصر والحجاز والهند وبلاد المغرب قصد زيارته والوقوف على حاله ولو أطال الله في أمده وزاد في توفيقه لقلب وجه الشرق إنقلاباً عظيماً ولكن الله لطف بعباده) وسمى خليفة المهدي من هؤلاء عمالاً على نجد والحجاز وغيرهما.

    وهناك شواهد لا تحصى على تمسك الغالبية العظمى من السودانيين بالمهدية، وقد أوردنا جزءاً منها نقلاً عمن لا يُشك في عدائه للمهدية مثل تقارير المخابرات المصرية وكتابات الأسرى.

    ولكن هناك شواهد عملية هي أبلغ من كل كلام، منها:

    1. الموت الأسطوري في كرري وقبلها وهو موت لا ينشأ فقط عن محبة لأنا لم نشهد هذه الظاهرة في كل من يحبون بلادهم ونظمهم السياسية، بل ينشأ عما هو أكبر من ذلك. المؤرخ الامريكي جي إيه روجرز J.A.ROGERS و من خلال كتابه " اعظم رجال العالم من ذوي البشرة الملونة" نقل بعض إفادات جي دبليو ستيفنس والذي قال واصفا ما شاهده بنفسه في ارض المعركة :(إن جاز لي ان أقول ان قواتنا قد بلغت الكمال .. فلابد لي ان اعترف بان المهدويون (المهدويين) بروعتهم.. قد فاقوا حد الكمال ! لقد كان جيشهم في كرري من اعظم وأشجع الجيوش التي حاربناها طوال مواجهاتنا الطويلة في حروب المستعمرات .. وكان دفاعهم مستميتاً عن امبراطورية شاسعة و مترامية الأطراف افلحوا في الحفاظ عليها لوقت طويل وبكفاءة عالية ) ثم يصف صاحب الكتاب المؤرخ الامريكي J.A.Rogers ما حدث بعد ذلك :

    ( لقد ابقي الخليفة عبدالله علي جذوة المقاومة مشتعلة الي حين سقوطه في ارض معركة ام دبيكرات ..بينما ظل العنيد عثمان دقنة مقاوماً حتي وقع في الأسر ولم يغفل روجرز ان يورد تعليقه الشخصي علي إفادات المراسلين الحربيين قائلا :

    (ولكن ستظل المهدية اعظم مثال للبطولة والتفاني.. يمكن ان يوفره لنا التاريخ الإنساني) والتفاني هو مربط الفرس ومكان الاستشهاد هنا

    2. وبعد الهزيمة العسكرية الساحقة للمهدية وزوال كل سلطة للخليفة وللدولة سار الخليفة وتبعه آلاف الرجال والنساء من كل أصقاع السودان وهذا دليل لا يدانيه دليل.

    وحينما عزم الخليفة على معاودة الكرة إلى أمدرمان سار معه الآلاف واستشهدوا معه في أم دبيكرات رغم أنهم خبروا التفوق العسكري الانجليزي ورغم تخيير الخليفة لهم وسماحه لهم بالتحلل من بيعته . وقد كتب ونجت في تقريره عن معركة أم دبيكرات أن الأسرى كان فيهم 29 أميراً من كبار أمراء المهدية غير الشهداء وأن عدد الأسرى بلغ 3 ألف رجل و6 ألف من النساء والأولاد

    3. لم تمت جذوة المقاومة المهدوية مع استشهاد الخليفة وأصحابه وسجن بقية الأمراء وإنما قام عدد من الانتفاضات المهدوية هي:

    انتفاضات :علي عبد الكريم 1900 الفكي محمد الأمين تقلي 1903 آدم محمود سنار 1904 موسى أحمد القضارف 1906 سليمان بشير ود مدني 1906 عبد القادر ود حبوبة الحلاويين 1908 محمد المزمل شركيلا 1908 محمد علي برشم من راجا 1908 الفكي جميل القطينة 1909 الفكي محمد جمعة أبو حراز كردفان 1909 مختار الهاشمي الجابراب 1910 ثورة الرماش 1910 الفكي محمد الرضي مروي 1910 (لم يحدث قتال) الفكي عكاشة أحمد 1912 الياس موسى حسين 1914 الفكي أبكر في عطبرة 1915 أحمدو دمبو في قدير 1915 محمد أوهاج موسى (الهدندوي) ومحمد الحاج سمبو (الفلاتي) كسلا 1918 السيد محمد السيد حامد سنجة 1919 الفكي عبد الله السحيني نيالا 1921 ولم ولم يقف الأمر عند الثورات المهدوية بل شملت مقاومة الغزو كل مناطق السودان حيث قامت الثورات التالية في جبال النوبة على سبيل المثال تمرد جبل كترا في 1904 وثورة تلودي في 1906 وانتفاضة الملك عجبنا 1908 وانتفاضة الدلنج 1909 وثورة الفكي علي الميراوي 1915 بل لقد ثارت معظم الجبال مثل تلودي وهيبان والداير كادقلي وغيرها وكذلك حدثت ثورات في الجنوب مثل ثورة الزاندي 1905 وثورة دينكا العالياب بقيادة بو يول أردينت 1921-1922 وثورة النوير 1928-1930 وسبقت هذه الثورات الكبرى ثورات عديدة منذ 1901 وما بعدها منها ثورة دينكا أجار 1901 ودينكا أتوات 1903 والنيام نيام 1903 والشلك 1915وثورات النوير 1913-14-17 والأنواك 1913 والتبوسا 1926 الخ وهذا على سبيل التمثيل

    4. قامت حكومة الغزو بعدد من الإجراءات القمعية سنذكرها تفصيلاً في فصل لاحق لاستئصال المهدية ولو كانت المهدية حركة مكروهة لانتهى أمرها بزوال سلطتها.

    5. انبنت سياسات الحكومة الدينية والعسكرية والسياسية والادارية على الاعتقاد الجازم بخطر تجدد المهدية:

    عسكرياً: على سبيل المثال ظل السودان يحكم بحاكم عسكري هو نفسه سردار الجيش المصري إلى 1924 وظل الاحتفاظ بقوة عسكرية كبيرة والمطالبة بزيادة العدد والميزانيات الى وقت متأخر. وقد أشرنا في فصل من هذا الكتاب إلى مكاتبات السلطات الاستعمارية في الخرطوم للندن والقاهرة لاطلاق يدهم في القمع وذكرنا طلباتهم بزيادة الميزانية العسكرية حتى وقت متأخر لمواجهة الحركات المهدوية وكذلك طلبهم الاحتفاظ بقوات كافية تأهباً لقمع تلك الحركات.

    سياسياً: ظلت سياسة قمع الأنصار هي السائدة حتى الاستقلال لم تتخللها إلا فترات تغير قصيرة ولخدمة أغراض محددودة. وظل زعيم الأنصار بعد المهدية – السيد عبد الرحمن محظوراً من السفر لمناطق عديدة من السودان مثل دارفور وكردفان والفونج ودنقلا وانتهى بهم الأمر بعد تاريخ طويل وتطورات ليس هذا مجالها إلى تأسيس حزب ضرار لمعاقبته على مطالبته بالحكم الذاتي. وسنرى في فصل تالٍ مصير الذين تبنوا سياسة مرنة مع السيد عبد الرحمن.

    7. ومما يدلل على تمسك السوادنيين بالمهدية تطلعهم – بعد مقتل قادتهم وسجنهم – لأية قيادة. ظهر ذلك جلياً في هجرتهم لإبن المهدي رغم القيود المفروضة ورغم عدم إمتلاكه للسلطة ولا المال. وعلى العكس من ذلك هاجر هؤلاء وتركوا أهلهم وممتلكاتهم متحدين المخاطر في ظاهرة غريبة لا يمكن تفسيرها إلا بالولاء لعقيدتهم.

    8. وقد قضت سنة التاريخ على أية حركة أو ثورة تستمر عدة سنوات أن تخمد جذوتها ويقل الحماس لها ويضعف بفعل الانهاك ويتساقط قادتها بعوامل عدة لا سيما في ظروف التحديات الداخلية والخارجية والحروب الاستعمارية. ولكن المهدية كانت إستثناء غريباً. ففي دراسة أجراها باحثان أمريكيان عن القيادة الكاريزمية في الإسلام: متخذين من المهدي نموذجاً ذكرا فيما يختص بالنخبة أو الصفوة المهدوية الآتي:

    ( اختيرت مجموعة من 140 من قادة المهدية تتضمن الشخصيات الأساسية في دولة المهدية: شخصيات دينية بارزة، أمراء قبليين، قادة عسكريين، إداريين وآخرين لهم قرابة بالمهدي والخليفة عبد الله.

    تم الحصول على المعلومات الشخصية عن هؤلاء القادة من معجم الشخصيات السودانية لريتشارد هل ومصادر أخرى في المهدية.

    التحليل المنهجي لهذه المعلومات أثمر عدداً من الرؤى المهمة:

    جدول (1) ترتيب النخبة المهدوية

    العدد النسبة المئوية

    الذين قتلوا في معارك قبل 1898 31 22,1%

    الذين قتلوا في أمدرمان وأم دبيكرات 21 15%

    مجموع القتلى في معارك المهدية 52 37,1%

    الذين قاتلوا للنهاية وبقوا أحياء 49 35%

    الذين قتلوا أو سجنوا في عهد الخليفة 16 11,4%

    الموت الطبيعي 9 6,4%

    المنشقون 14 10%

    الجملة 140 100%

    البيانات في جدول(1) هي بمثابة مقياس لمدى الالتزام والولاء. فخلال أعوام المهدية الثمانية عشر إنشق فقط 14 قائداً أغلبهم إنشقوا في النهاية حينما بدا السقوط قريباً. وحقيقة أن المنشقين يشكلون فقط 10% من جملة القيادة هو دليل عل تماسك الحركة المهدية، وعلى الرغم من التكتلات والشقاقات الداخلية المستمرة إلا أنه تم تحقيق درجة عالية من الوحدة حينما تتم مواجهة العدو.

    النسبة العالية للقادة الذين قتلوا في المعارك ( 52 شخصاً أو 37,1%) يمكن إعتبارها مقياساً عاماً على الإلتزام والولاء القوي. والدرجة العالية من الالتزام والولاء توضحها بصورة أفضل أعداد القادة الذين بقوا مخلصين للحركة حتى زوالها. فقد حارب ما لا يقل عن 70 رجلاً أي 50% من العدد الكلي حتى النهاية في معركة أم درمان وأم دبيكرات، هذا بالرغم من الانقسامات الداخلية ووفاة المهدي المبكرة وتفوّق قوة السلاح البريطاني الذي لا يقهر.

    وأكثر من ذلك فلم يتخلّ عن الفكرة أو يفر أحد من النواة الداخلية للقادة والمكونة من 18 قائداً، وبالنسبة للذين بقوا أحياء بعد الانهيار الأخير في 1899 استمر كثير منهم يقاومون في المناطق البعيدة عن المركز لعدة سنوات.

    جانب آخر مهم من جوانب القيادة هو مصادر التجنيد. وأسفر تحليل البيانات عن خلفية القادة المائة وأربعين الكبار في المهدية عن التقسيم الاتي:

    جدول (2)

    مصادر التجنيد

    التصنيف العدد النسبة

    قادة دينيون 24 17,1%

    قادة قبليون 41 29,3%

    مجموعة مختلفة من عامة الناس 43 30,7%

    أقرباء المهدي 7 5%

    أقرباء الخليفة 14 10%

    تجار رقيق 5 3,6%

    تجار 6 4,3%

    الجملة 140 100%

    تعزز النتائج تحليلنا – وما زال الكلام للباحثين - السابق للمجموعات القيادية بالمهدية وكذلك تأكيدات هولت والكتاب العرب فيما يتعلق بتركيبة النخبة. كما توضح الجاذبية العامة لرسالة المهدي.

    تتكون الفئة الأكبر من القادة من العامة (غمار الناس) بنسبة 30,7% الأمر الذي يمكن أن يشير لمدى السند الشعبي.

    المجموعة الثانية من حيث الحجم تتكون من زعماء القبائل ( 29,3%) وهذا يشير لإنتشار السخط القبلي على التركية.

    يشكل القادة الدينيون والزّهاد ثالث أكبر فئة (17,1%) الأمر الذي يعكس الاستياء العميق من التدين الرسمي المفروض من قبل السلطات. يشكل أقرباء المهدي والخليفة المجموعة الرابعة ( 15%) . هناك أيضاً مجموعة صغيرة من التجار (4,3%) وتجار الرقيق ( 3,6%). وينبغي ملاحظة أن النسبة الأخيرة لتجار الرقيق أقل من تقديرات المؤرخين العرب والأوربيين. ومن المحتمل أن يكون عدد تجار الرقيق أعلى إلى حد ما.)

    هذا ما ورد في تحليل قادة المهدية وقد احترز صاحبا الدراسة عند ذكرهما للصعوبات التي تواجه الدراسة فتحدثا عن ( إحتمال المعلومات الخاطئة حول خلفية القادة ) وتحفظا على استخدام المصادر الغربية حيث قالا:( ولاستخدام نظرية ويبر لدراسة الشخصيات في التاريخ الإسلامي يجب أن يبذل جهد خاص لتقليل الاعتماد على المصادر الغربية " المسيحية" لصالح الأعمال المحلية)

    وتعضيداً لما ذكرته الدراسة من إقبال مشائخ القرآن على المهدية اعتبر هولت أنها ثورة "الفكية" أي أهل الخلاوى. وكذلك اعتبرها دالي، قال صاحب دراسة ( نقض المهدية: الاستعمار البريطاني كإصلاح ديني في السودان الإنجليزي المصري 1898-1914):

    ( كتب –هولت – عن الثورة المهدية كانت ثورة "الفكية" وكان قائدها مناسباً جداً لذلك حيث كان رجلاً مقدساً نال التعليم التقليدي في السودان....عارض "الفكية" بشدة فرض النظام التركي المصري قادة إسلاميين عليهم فناصرت الأغلبية منهم المهدية أو على الأقل في بدايتها)

    ثم استدرك الكاتب استدراكاً صحيحاً حينما قال:

    ( ومع ذلك فمن المهم ألا نصف المهدية كرجوع للطرق الاسلامية التقليدية في السودان. فقد قدم صعود المهدي نظاماً جديداً بالكلية للحكم الإسلامي في السودان.)

    9) الوجدان السوداني

    لم يقتصر أمر الولاء للمهدية على القادة والأمراء ، فقد شكل زوال الدولة صدمة للسودانيين عبر عنها شعراؤهم الشعبيون في قصائدهم. بل وأكثر من ذلك يري الشاعر والناقد محمد المهدي المجذوب أن تلك النهاية شكلت إتجاهاً جديداً في الشعر السوداني إذ إتجه شعراء المهدية لملجأ المديح النبوي هرباً من الواقع الأليم حيث تم صبغه هو الآخر برنة أسى وحزن.

    وفي نفس السياق قال محمد عبد الرحيم حينما تحدث عن فساد الأخلاق واختلال المعايير بعد زوال دولة المهدية :

    ( وعلى اثر الانقلاب الهائل الذي طرأ على الحياة السودانية ولم يلبث أن تغلغل في أحشائها وتركز في قرارتها كان الشعراء أشد إحساساً به وأكثر عبوساً وتجهماً له وكانوا أقدر على تهويله وتجسيم أمره ولا سيما في الأخلاق وقد اعتورها ما مسخها من خبث ورياء وأثرة ونفاق ومكر هيأ للسافل أن يعلو وللرفيع أن يسفل فتحكمت الشرور والآثام وانفسح المجال للخبثاء والدساسين وامتلأ الجو بأنفاس دنسة وظواهر شاذة في الحياة السودانية)

    قال شاعرهم:

    انقلب الدهر كسر المرق بتُمامة

    والصقر الكبير يزعق وخاطفا حمامة

    التمساح غرق واحتاج لو لي عوامة

    أنا شفت الأسد يجري وتسكو نعامة.

    وأبرز تجلي لذلك الأسى وتلك الروح المتمسكة بالمهدية هو قصيدة الشاعر أحمد ود سعد أو على الأصح مناحته (السادة الخيرة).

    وكاتب القصيدة لم يكن صاحب منصب فيُتهم بالأسف لفقده ولم يكن من عشيرة الخليفة بالدم ورغم المجزرة الجماعية وما أعقبها من قمع ومنع لكل ما يمت للمهدية بصلة أو نسب: من أوراد وزي وشعر الخ ، قال ود سعد قصيدته أو مناحته على الأصح والتي يحن فيها إلى المهدية ودولتها الفاضلة وقادتها وأيام عبادتها ويتحسر على زوالها وإبدالها بالمفاسد التي نُصبت لها الرايات. فيفتتح القصيدة بوصف حيرته بعد ذهاب تلك الرفقة الطيبة ويبدأ بحنين يفوق حنين النوق وتتكرر متلازمة دوب وهي كلمة ترمز للحنين ومنها اشتق الدوباي اسمه:

    يا دوب للجيرة

    العمانا خيرة

    جات المانديرا

    ومسخت الديرة

    والمانديرا هي أعلام الرايات التي تنصب في الخمارات التي عادت في العهد "الجديد"

    ﻳﺎ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺠﺒّﺔ

    ﺟﻼ ﺷﻮﻓﻮ ﺍﻟﻜِﺒّﺔ

    ﺇﺳﻼﻣﻨﺎ ﺇﺭّﺑﺎ

    ﺣَت ﺩﻳﻨﺎ ﺍﻧﺴﺐّ

    ومع هول الكارثة وشدة الحيرة يشرع في الاستغاثة

    ﻳﺎ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺠﻤﻌﺔ

    ﺍﻟﺨﺎﺗﻴﻦ ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ

    ﻟﻲ ﻓﻴﻜﻢ ﻃﻤﻌﺔ

    ﻗﺸّﻮﻟﻲ ﺍﻟﺪﻣﻌﺔ

    ثم يشرع في الحنين:

    ﺩﻭﺏ ﻟﻲ ﺍﻟﺒﻨﺪﻭﺭﻫﻢ

    ﺩﻭﺏ ﻟﻲ ﺍﻟﺒﻨﺸﻮﺭﻫﻢ

    ﺩﻭﺏ ﻟﻲ ﺍﻟﺒﻨﺰﻭﺭﻫﻢ

    ﻭﺳﻤﺎﻉ ﻣﻨﺸﻮﺭﻫﻢ

    ﺩﻭﺏ ﻟﻲ ﺭﺍﺗﺒﻬﻢ

    ﻭﺗﺮﺗﻴﻞ ﺣﺰﺑﻬﻢ

    ﺩﻭﺏ ﻟﻲ ﺻﺎﺣﺒﻬﻢ

    ﺍﻟﻤﺎ ﺑﻜﺬﺑﻜﻬﻢ

    دوب لي جمعتهم

    وصلاة جمعتهم الخ

    ثم يذكر قائد الدولة ويبكي عليه ويذكر صفاته الحميدة من اليقظة والجد والتدين الحقيقي وروح الفروسية ويذكر ما يذكِّره به: " سيد أمباية" التي ارتبط سماع صوتها بالنفرة للجهاد وتتداعي المعاني ثم يتذكر ركوبه الخيل للجهاد فيشتاق السرايا المبعوثة لحماية ثغور الوطن - من أعدائه المتكالبين - بهمة لا تعرف الوهن وعزيمة لا تلين ومع السرايا يذكر أكبر رايات المهدية الراية الزرقاء:

    دوب للمو لاهي

    دوب للمو ساهي

    سيدي عبدالله

    تاج أهل الله

    وين سيد امباية

    الراكب أب فراية

    دوب للسرايا

    والزرقة الرايا

    ولم يقتصر الأمر على التحسر والنواح والنوستالجيا الحزينة وإنما بقيت المشاعر متقدة ومتوثبة، فرثاء رقية إمام لأخيها عبد القادر ليس رثاء أخت لأخيها ولا رثاء قبلي ولا نواح حزين وإنما قصيدة مليئة بالفخر والتحريض والايمان برسالة يلتف حولها الناس وأن هدفهم نصرة الدين. فهو يجمع الانصار ليس لقضية خاصة كما حاول أن يشيع بعضهم بل لدافع أكبر معلوم للجميع. فأنت لا ترى في القصيدة نسق المناحة والتحسر ولا شعور التيتم والضياع بعد فقد الراحل وإنما ترى فيها قصيدة قيلت بلسان الجماعة لا ضمير الأخت الثكلى فهي تذكر فروسيته وملكاته القيادية ومحافظته على عقيدته ومناقبه الجهادية وتعدد رقية الأماكن التي أقام فيها أخوها لجمع الأنصار وتصف حالتهم من الحزم والعزم والتمسك بالمهدية وهذا ما ذكره ود حبوبة صراحة أمام المحكمة الإيجازية التي حاكمته إذ قال: ( إن رغبته أن يُحكم السودان بالشريعة وفقاً لتعاليم المهدي وأن الشعب السوداني يفضل المهدية على الحكم الحالي ) . قالت رقية رحمها الله:

    بتريد اللطام أسد الكداد الزام

    هزيت البلد من اليمن للشام

    ســــــــــــــيفك للفقــــر قــــلّام

    ديّم فى التقر انصارو منزربين

    بالصفا واليقين حقيقة انصار دين

    بالحربه ام طبائق قابلوا المرتين

    فى وش المكن رقدوا التقول نايمين

    ديّم فى التقر انصاروا زاربنوا

    من عهدوا القبيل بعيسى تاهمنوا

    اتلمـوا العمـد ليهـــم نقــــر سنو

    الهوج و الشرق طار المنام منو

    ديّم فى التقر قال العمير للسوم

    القوى والضعيف من عينو طار النوم

    الكفرة النجوس ما بختوا من اللوم

    حجـرت الدرب خـليت جمـالو تحــوم

    الأسد النتر وقال الدين منصور

    لمولوا الاورط جابوها بالبابور

    العمد الكبار كلامهم بقى مدحور

    فقشت المدير وكرمّت بالمامور

    الأسد النتر بى جيهة الابقار

    لمولو الاورط شايلين سلاح النار

    ود حبوبة قام و رتب الانصار

    فى كتفية ديك كم شَبّعِن صقار

    الإعلان صدر و اتلمت المخلوق

    بى عينى بشوف اب رسوة طامح فوق

    كان جات بالمراد و اليمين مطلوق

    ما كان بنشنق ود اب كريق فى السوق

    بتكلم بقول بوريك مين حسبو

    نايبو السنين منّو الرجال حسبوا

    كل الخاصموك فى الاخرة ما كسبوا

    التبعــــوك جــنود لله إنتســبوا

    الاعلان صدر و اتلمت الحلال

    نصبولو السلاح واتكرنف الخيال

    قدر الله إنْ حصل و الزمن ميال

    منسول من ابوك ماك ود حرام دجال

    رضوان الإله يملأ الضريح كافور

    مسك الرحمة فاح منو بيلوح النور

    أغفر سيئات كل من يجيكا يزور

    فى الفردوس هناك يتمنى مهما يدور

    وتتكرر نفس المعاني في رثاء بت مسيمس لود حبوبة فهو حارس مشارع الحق كما قالت:

    تور بقر الجواميس العليك الرك

    يا عقد الحديد للحلبي ما بتنفك

    تورك يا أم رشوم في الحلق عشرق

    دقيت الجسر وحاجر مشارع الحق

    الهوامش:

    شقير ص 618-619

    وقد عدد الخليفة في خطاب لحياتو بن سعيد أورده شقير الوفود التي جاءته من الهند وبخارى ومكة وتونس والحبشة وغيرها

    د. محمد المصطفى موسى، في ذكري معركة كرري .. مؤرخ أمريكي يعيد رسم اللوحة الحقيقية للمعركة

    http://www.alrakoba.net/news-action-show-id-162066.htmhttp://www.alrakoba.net/news-action-show-id-162066.htm

    نفسه

    وهذا يشبه موقف المهدي في سماحه لأتباعه في أبا بالتحلل من بيعته لأنه علم أن الحكومة سترسل لا محالة حملة عسكرية وهم في وضع ضعيف ولم يخيب الأنصار ظنه إذ ثبتوا معه كما ثبتوا مع خليفته من بعده.

    شقير ص 959

    تعكس ثورة كسلا مدى التصميم والتمسك للأنصار وأن هذه الانتفاضات ليست قبلية وانما مهدوية فقائدا الثورة أحدهما هدندوي والآخر من الفلاتة. وسيرة القائد الهدندوي مثلا تقول أنه حارب مع عثمان دقنة في الشرق وأُسر في 1885 وسجن بالقاهرة ولما أُطلق سراحه عاد لأمدرمان وساند الخليفة حتى زوال دولة المهدية فالتحق بالخليفة شريف بالشكابة وعندما أعدم الخليفة شريف حكم عليه بالسجن 5 سنوات ولما أتم المدة ضمنه أحمد عبد الكريم سمح له بالمغادرة لكسلا ليعيش مع أهله فصار يحرض أهله ضد الحكومة فكان المحرك لثورة كسلا مع محمد سمبو حيث هاجموا حامية كسلا وقتلوا بعض العساكر قبل أن يقضى عليهم مع بقية الثوار.

    وكانت ثورة ضخمة حيث هاجم السحيني حامية نيالا بخمسة ألف مقاتل احتلوا الحامية لفترة .

    انظر على سبيل المثال:

    Mahdist Risings against the Condominium Government in the Sudan, 1900-1927

    Hassan Ahmed Ibrahim

    The International Journal of African Historical Studies

    Vol. 12, No. 3 (1979), pp. 440-471

    Hassan ibid 115

    Charismatic Leadership in Islam: The Mahdi of the Sudan

    تجار رقيق سابقون

    كذلك يشير لأهمية معايير الكفاءة والولاء وغيرهما من المعايير الموضوعية وليس المعايير الوراثية أو التقليدية

    ليس هناك قرابة رحمية بين المهدي وخليفته فالصحيح من الناحية الإحصائية فصلهما

    ماكس ويبر

    Noah Salomon op.cit p 10

    محمد عبد الرحيم نفثات اليراع ص 32

    التمام نوع من القش الضعيف

    Mahdist Risings,op. cit p 445

                  

03-16-2016, 08:00 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة الرابعة عشرة

    الباب السابع: قضايا أثارت جدلاً

    1) الجهادية

    رأينا فيما مضى الدوافع التي انطلقت منها كتابات الثلاثي أوهروالدر-ونجت-سلاطين، وآثارها الكبيرة على الدراسات التاريخية السودانية عامة وعلى صورة الخليفة عبد الله تحديداً ونجاحها في تحقيق الأهداف السياسية الآنية وفي تلطيخ صورة الخليفة. ودون الدخول في تفاصيل الحوادث الفردية والرد عليها، فقد تصدى لذلك كُتّاب جمعوا إفاداتهم من شهود العيان مثل كتاب السيد علي المهدي وكتاب كرري لزلفو وغيرهما وهي كتابات صادقة وموثقة وتستحق القراءة.

    ويمكن القول عموماً أن المنهج الذي اتبعه الخليفة في تفويض إصدار الأحكام القضائية والجنائية للقضاة ومجالسهم والأحكام السياسية إلى اللجان ومجالس الشورى هو منهج كافٍ في تبرئته من كل محاولات التلطيخ والإفتراء.

    ولكن تبقى قضية مهمة في تقديري تحتاج لإعمال الفكر فيها وهي قضية الجهادية أو القوات النظامية الإحترافية الموروثة من الحكم التركي وتجاوزاتها.

    ذكرنا أن محمد علي باشا غزا السودان لهدفين رئيسيين هما البحث عن الذهب لتقوية دولته مالياً لبناء إمبراطوريته والتقوي في وجه الإستانة، والهدف الثاني هو تجنيد الرقيق لبناء جيش قوي لإمبراطوريته .

    نجح محمد علي في اصطياد وتجنيد أعداد ضخمة من الرقيق صاروا العمود الفقري لجيشه. وحينما قامت المهدية ( الدعوة والحركة والثورة) جنح قائدها إلى تحقيق أهدافه بأقل إراقة ممكنة للدماء فلم يقاتل إلا مدافعاً في المعارك الأولى ( أبا – راشد – الشلالي – شيكان) أو مضطراً للهجوم بإستثناء معركة الأبيض الأولى والتي خسرت فيها الحركة خسائر كبيرة.

    كان النمط السائد هو محاصرة المدن لتسلم سلمياً، وقد تم ذلك في عدد من المدن مثل بارا والأبيض وأمدرمان وسنار وكسلا. وكان من المؤمل أن تسلم الخرطوم على نفس النهج لولا عناد غردون فقد بقى المهدي يحاصرها شهوراً طويلة ويكاتب غردون على أمل تحقيق ذلك الهدف السلمي.

    الشاهد أن المهدي كان يعرض الأمان على القادة والسكان والحاميات. وكان يعرض عليهم الإنضمان للحركة والمساهمة في بناء الدولة كل حسب مجاله. وقد ذكر هولت دراسة بين فيها عدد الذين عملوا في العهد التركي ثم عملوامع المهدية ألمحنا إليها فيما مضى. فبقيت قضية جنود القوات الحكومية والتي ذكرنا مصدرها.

    نظر المهدي إلى تلك القوات كقوات سودانية، وأشرنا إلى حثه المحاصرين الخرطوم للترفق بها لأجل هذا العامل. وكانت خلاصة رؤية المهدي الآتي:

    1) هذه أعداد مدربة على السلاح وعلى الجندية، وكانت السُنّة العفو عن كل من أتى مسلّما من المدنيين فتم التعامل معهم على هذا الأساس : أساس العفو والاستفادة من خبراتهم القتالية وقوتهم. الخيار البديل هو إما قتلهم أو تجريدهم من السلاح وتسريحهم ولا يخفى خطل الخيارين.

    2) فتحت المهدية عموماً باب الترقي في كل المجالات السياسية والإدارية والعسكرية فصار الأساس هو الكفاءة، وانتفت المعايير التقليدية من وراثة وأصل إجتماعي وطبقي فوجد هرلاء فرصتهم لتحقيق كينونتهم وذاتهم، وقد أشار لهذه النقطة أغلب من كتب عن تاريخ المهدية تقريباً.

    3) انضم للجهادية أغلب الرقيق إما إقتناعاً بالثورة أو سعياً للحرية أو طمعاً في وظيفة ثابتة. وقد فاتت هذه النقطة – نقطة تحرير الرقيق عند انضمامهم للجيش - على العالم الكبير حسين الزهراء وكانت أحد نقاط خلافه مع مجلس القضاء الذي كان يترأسه حينما رفض شهادة الجهادية بينما قبلها كل مجلسه بإجماعه على أنهم أحرار.

    4) لا شك أن بقية المقاتلين الأنصار جاءوا بدافع عقائدي غاب عن أغلب الجهادية الذين جاءوا بالدوافع التي ذكرناها.

    5) إنطلاقاً من هذه الخلفية: الخلفية الإجتماعية لهؤلاء الجنود وحالة الإنبتات القبلي ( كما أسمتها يوشيكو كوريتا) والفراغ الأيديولوجي وهما العاصمان في عهد المهدية وما قبلها، وانطلاقاً من حملهم للسلاح وتقاليد الجيوش التي عملوا فيها ( الجيش التركي المصري أو الجيوش الخاصة) كانت تبدر منهم تفلتات كثيرة: فقد ثاروا في كسلا في العهد التركي وقتلوا ونهبوا سكان الأبيض المدينة التي كانوا يدافعون عنها ضد المهدية والتي يفترض عليهم حمايتها لا نهبها، وتمردوا على المهدية في كردفان بل ومات حاكمها في حربه معهم حينما لحقهم بجبال النوبة. ولذلك إجتمع بهم المهدي قبل معركة شيكان وأعفاهم من قتال أولياء نعمتهم الترك والانضمام إليهم إذا رغبوا، وأبعدهم عن فتح الخرطوم، ولذلك أيضاً كان خليفة المهدي يجعل معسكراتهم خارج المدن.

    6) كان قادة المهدية إبتداءً من المهدي وخليفته إلى القادة المباشرين للجهادية يدركون هذه الحقائق وقد سعوا لمعالجتها بالتربية والقدوة وأحياناً بأساليب الضبط والربط العسكري.

    7) الخلاصة ورثت المهدية هذا الوضع، وضع حملة سلاح رمتهم أقدارهم في أيدي أجانب استرقوهم وقطعوهم عن أهلهم ومواطنهم وجنّدوهم قسراً، فعفت عنهم واستوعبتهم وفتحت لهم أبواب الترقي العسكري والاجتماعي ولكن لا بد مما ليس منه بد فقد حدثت منهم تفلتات دفع ثمنها سودانيون ولكن دفعت المهدية الثمن الأغلى والأعلى حينما استُغلت تلك الأحداث لدمغها بالوحشية والظلم. لقد كان جزاء تسامح المهدية ورتقها للنسيج الاجتماعي تلك الحملة الشعواء. لقد نبّه قائد الحملة الأمير محمود ود أحمد قائد الجعليين بأن هذا الجيش به تفلتات وأنه ليست له تلك العواصم التي للأنصار فلا بد من إخلاء الطريق أمامه، وهذا أمر منطقي لكل صاحب طوية سليمة خالٍ من الغرض، فكان من الطبيعي حقناً للدماء وعوناً للجيش والبلاد على صد الغزاة أن يُسمح له بالعبور فلم يتم وكان ما كان من أحداث لا نريد أن ندخل في تفاصيلها.

    تلك هي في تقديري الملامح العامة للقضية.

    أما شواهد ذلك فعن تكوين قوات الجهادية في جيش المهدية أضاف زلفو الآتي:

    بدأ تكوينها حينما تجمع عدد من الأسرى من الجنود السود ممن وقعوا في الأسر في حملات راشد والشلالي وبعد سقوط حاميات كردفان وكان لحمدان أبي عنجة الدور الأكبر في تنظيمها وتدريبها وهي جيش نظامي وليس عقائدي . كانت علاقتهم بأبي عنجة ممتازة ولذلك لم تظهر تفلتاتهم في حياته قال زلفو ( وما اشتهر به الجهادية من شراسة خلق وحب للنهب وانتزاع ما يرغبونه بالقوة لم يظهر إلا بعد وفاة ابي عنجة) وفي ذلك نظر إذ تشير ثلاث حادثات إلى غير ذلك منها تمردهم بالأبيض في عهد السيد محمود عبد القادر رغم معاملته الطيبة لهم وجمع الإمام المهدي لهم ومخاطبتهم قبل الاشتباك مع هكس وعدم إشراك المهدي لهم في فتح الخرطوم وكلها قبل فتح الخرطوم. قال زلفو وكان الخليفة يعرف صفاتهم هذه فكانت معسكراته دائماً خارج المدن)

    أما الحادثتان اللتان ذكرناهما عن المهدي فقد أورد علي المهدي:

    ( وإستعداداً للمعركة الفاصلة طلب المهدي جميع الجهدية أصحاب السلاح الناري التابعين لحمدان أبي عنجة والتابعين لود النجومي والتابعين لولد بلال فلما اجتمعوا مصطفين مر عليهم ثم قال لهم مشيراً لجهة هكس : هؤلاء أهلكم الذين كانوا يحسنون فيكم ويعطونكم الوظائف وطيب المأكول فإن شئتم فانضموا عليهم فإن نصرتنا بالله وليست نصرتنا بكم ) والثانية ذكرناها في أحداث فتح الخرطوم

    وعن تفلتهم أورد هولت خطاباً من النجومي يشكوا منهم :

    ( ذكر النجومي في تقرير له أن الجهادية عمدوا إلى السلب والنهب بسبب ما كانوا يعانون من نقص في الغذاء والكساء. وفشلت الإنذارات والسجن والغرامات التي فرضها في كبح جماحهم ومن ثم أرسل النجومي دوريات ليلية من الخيالة.)

    وكتب النجومي ( ومعظم الجهادية هجروهم إلى الأعداء بما فيهم جميع رجال المدفعية وعددهم 35 لم يبق منهم سوى ثلاثة)

    أما عن المعاملة الطيبة لهم فقد أشار المهدي في أحد منشوراته الى الرابطة الوطنية بهم خلافاً للترك والمصريين حيث قال: ( لأنه سبحانه وتعالى جعل الجنسية ليورثنا الشفقة القلبية)

    وذكرت كوريتا الملاحظة التالية: "كذلك لاحظ مراقب مصري موقفا متسامحا نسبيا أبداه المشاركون في الثورة المهدية تجاه الجهادية والضباط السودانيين الذين حاربوا إلى جانب حكم أسرة محمد علي، ثم استسلموا لجيش المهدية، مقارنة بمعاملتهم القاسية للضباط المصريين" .

    وذكر شقير ما يلي عن معاملة الخليفة لهم:

    ( وقد أدرك الخليفة قدر السود في الحرب فأكرمهم وأحسن معاملتهم وأوصى عماله في الجهات بمداراتهم)

    2) تفاصيل المسألة الإثيوبية والتعاون الإفريقي في وجه الإستعمار:

    إتخذ كثير من الكتاب والمؤرخين من قضية عرض منليك التحالف مع المهدية ضد الدول الأجنبية مثالاً لضيق أفق المهدية وتعصبها، وسنرى في ما يلي من أسطر أن الخليفة تعامل مع العرض بكل جدية ولم يقفل الباب حتى بعد أن إتضحت له الدوافع الإثيوبية وحتى بعد أن ثبت له تنسيق الإمبراطور منليك مع فرنسا على الأقل هذا إذا لم تصل للخليفة أنباء إتفاقه مع بريطانيا.

    أولاً: رواية الدرديري محمد عثمان

    روى الدرديري محمد عثمان في مذكراته ملخصاً للمفاوضات التي تمت بين السودان وإثيوبيا وكان والده محمد عثمان مبعوث الخليفة لمنليك فقال:

    { وإتماماً للوثائق التي تمكن المؤرخ من تبين الحقائق فقد رأيت أيضاً أن أنقل للقاريء ما حوته سجلات وزارة الداخلية السودانية بشأن تلك السفارة التي قام بها المغفور له والدي بين المرحوم الخليفة عبد الله التعايشي طيب الله ثراه وبين جلالة امبراطور الحبشة آنذاك :

    ( في عام 1896 بعث الإمبراطور منليك الثاني جبرتياً يدعى أحمد الطيب إلى الخليفة عبد الله التعايشي خليفة الامام المهدي الكبير وحاكم السودان في ذلك الحين يبدي رغبته في إقامة علاقات ودية وإبرام معاهدة صداقة بين السودان وإثيوبيا.

    وقد تجاوب الخليفة مع هذه الرغبة ووافق على الطلب إلا أنه اشترط أن يتلقى رسالة مكتوبة توضح التفاصيل وتؤكد المعاني الواردة في أقوال الرسول.

    ولم يلبث الإمبراطور منليك الثاني عقب عودة الجبرتي أحمد الطيب وإبلاغه اشتراطات الخليفة عبد الله، أن بعث برسول آخر يدعى الحاج أحمد الجبرتي وحمله رسالة مكتوبة أكد فيها ما سبق أن بينه الرسول السابق الجبرتي أحمد الطيب من رغبة الامبراطور في إقامة العلاقات الودية وقيام تعاون صادق بين البلدين.

    وبناء على هذه الرسالة، ووفقاً للإتجاه السوداني الرامي إلى تعزيز صلات المحبة والوفاق بين السودان وجاراته فقد عين الخليفة عبد الله : محمد عثمان حاج خالد ليقوم بمهمة التفاوض وحمله رسالة مكتوبة وأخرى شفوية أوضح فيها الأسس التي يجب أن يبنى عليها الإتفاق وهي:-

    1) رفض كل تدخل أوربي في شؤون البلدين، وعدم السماح للأوربيين بدخول الحبشة أسوة بما هو متبع في السودان.

    2) وقف الإعتداءات التي تقع في الحدود.

    3) فتح أسواق القلابات وهاشمي للأنصار والأحباش على السواء.

    وفي 30 سبتمبر 1896 غادر السيد محمد عثمان حاج خالد أمدرمان في طريقه إلى اثيوبيا يرافقه الحاج أحمد الجبرتي.

    وكانت الرحلة شاقة عسيرة محفوفة بالمخاطر نظراً لوعورة الطرق وصعوبة المواصلات وعدم توفر أسباب الأمن.

    وعندما وصل السيد محمد عثمان ورفيقه إلى مدينة لبو قابل الرأس منقشا حاكم المدينة حيث شرح أمر الرسالة التي يحملها واتفقا على وقف الإعتداءات في الحال.

    وفي أديس أبابا قابل السيد محمد عثمان الإمبراطور منليك الثاني واتفق معه على النقاط التي حددها الخليفة عبد الله. وفيما يلي ملخص لما دار بين الرسول والامبرطور من حديث:-

    1) قال الإمبراطور أنه لا علاقة له مع الأوربيين إلا التجارة التي هي من مصالح البلاد وان إبطالها سيكون سيئاً على البلدين عامة وأشد سوءاً على الحبشة خاصة، بالإضافة إلى أن معظم التجار الأوربيين قد عاشوا في الحبشة لسنين طويلة وارتبطت مصالحهم بها.

    2) أبدى الإمبراطور منليك استعداده لقبول إشتراطات أخرى ..ثم عرض مساعدة الحبشة للخليفة بالجيش والسلاح في حالة إغارة أي جيش أوربي على السودان.

    3) وافق الإمبراطور على فتح الأسواق السودانية والحبشية للتجارة بين الأنصار والأحباش وأصدر أوامره للرأس منقشا لكي يبلغ الناس بأن الأحباش والأنصار قد أصبحوا أصدقاء وأن الأسواق قد أصبحت مفتوحة للجميع حتى أمدرمان.

    4) تساءل الإمبراطور عما إذا كان من الممكن إطلاق سراح الأسرى المعتقلين في أمدرمان فرد السيد محمد عثمان بأنه لا علم له بهذا الموضوع وأنه لا يحمل إذناً للتباحث فيه.

    5) قال الإمبراطور : إن الإيطاليين يحتلون كسلا وهي المنطقة التي يحكمها الرأس منقشا فإذا كنتم تريدون الإتصال به فإني سأتخذ الإجراءات لإخطاره بذلك.

    ولما وافق السيد محمد عثمان على عرض الإمبراطور طلب الإمبراطور منقشا في الحال وأمره بأن يقدم أية مساعدات يطلبها ( الأنصار) .... وهنا طلب السيد محمد عثمان أن يكتب منقشا للخليفة رأساً.

    وعاد السيد محمد عثمان وقد رافقه رسول آخر من قبل الإمبراطور منليك وقابل الرسول الخليفة عبد الله وتباحث معه بشأن الأسرى الأحباش وأبدى له شديد رغبة الإمبراطور منليك واستعداده لإرسال أي شيء يطلبه الخليفة...كما أن الإمبراطور سوف يلجأ إليه إذا أعوزه شيء كذلك

    وقد وافق الخليفة على إطلاق سراح الأسرى وعبر عن سروره بنتيجة المفاوضات التي توصل إليها السيد محمد عثمان مع الإمبراطور. ثم كلف الخليفة الرسول بأن يبلغه أن ( نور الفدري) قد خرج عليه وأنه استولى على بني شنقول وطلب إليه القيام بتأديبه.

    وفي عام 1897 أرسل الإمبراطور منليك رسولاً آخر يسمى محمد الطيب ليبلغ الخليفة بأنه قد أرسل جيشاً كبيراً لمحاربة (نور الفدري) وللمحافظة على الحدود كما رجا منه ألا يصغي لأية أخبار تناقض ما يحمله الرسول وأن يعتمد على الصداقة التي بينهما. وأن يكون يقظاً في محاربة الأوربيين. وأن لا يألو جهداً في طردهم من بلاده.

    وأرسل الإمبراطور للخليفة علماً فرنسياً لكي يرفعه أمام الجيش إذا تقدم الانجليز لمحاربته مبيناً له أن هذا العلم سوف يمنعهم من التقدم.

    غير أن الخليفة عبد الله رفض استلام العلم وأعاده مع الرسول قائلاً: انه إذا التقت الأرض والسماء ضده فلن يرضى أن يكون تحت حماية أوربية.)}

    علق الدرديري محمد عثمان قائلاً:

    ( هذا ما سجلته الوثائق المحفوظة في وزارة الداخلية... وهي تصور التفكير السوداني السياسي في أواخر القرن الماضي وهو تفكير يلتقي فيه الماضي والحاضر على أساس وطيد من مصلحة السودان وخلق أبنائه وطباعهم ونزعاتهم الحرة.

    ثانياً : ورقة البروفيسور هارولد ماركوس: عن إتفاق رود/منليك

    وجاء في ورقة نشرها البروفيسور هارولد ماركوس في مجلة الدراسات الإثيوبية الآتي عن بعثة رود ومهمته :

    1. تلخصت أسباب الرحلة والمفاوضات في الآتي: بعد هزيمة منليك للإيطاليين في عدوة في أول مارس 1896 تغير توازن القوى في منطقة القرن الإفريقي بشدة وتقلص الدور الايطالي وإتجه منليك للتوسع في كل الحدود التاريخية للحبشة. وردت تقارير عن تزايد النشاطات الإثيوبية في منطقة أرض الصومال وهي المنطقة التي تقع ضمن الحماية البريطانية التي حددها البروتوكول البريطاني الايطالي في 1894 كما وردت أخبار عن توقيع منليك اتفاقية مع فرنسا يعد فيها بتقديم دعم دبلوماسي وعسكري للمصالح الفرنسية في الإقليم وأشارت نفس التقارير أن الفرنسيين حثوا منليك على تقديم المساعدة في المجهود الحربي السوداني ضد البريطانيين. وفي ديسمبر 1896 علم البريطانيون أن وفداً إثيوبياً كان قريباً في أمدرمان وأن طرق التجارة بين أثيوبيا والسودان عبر القلابات والقضارف قد أعيد فتحها.

    وفي ظل التقارير السابقة بدت هذه المعلومات نذير شؤم بالنسبة للحكومة البريطانية والتي قررت أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوات لمنع اية تجارة سلاح محتملة بين اثيوبيا والسودان. وكذلك صار واضحاً أن العمليات العسكرية البريطانية في السودان تتطلب في نهاية المطاف ضبط مساحة واسعة على الحدود الإثيوبية، ولذلك قررت إرسال بعثة دبلوماسية للإمبراطور منليك برئاسة السير " ر. رود " كبير ضباط اللورد كرومر في القاهرة.

    2. وفيما يخص السودان في هذه البعثة جاء في الورقة:

    ( ولأن السيطرة على حوض النيل كانت لها الأولوية في تفكير صانعي السياسة البريطانيين فقد بدأت التوجيهات للبعثة بمسألة الحدود السودانية الإثيوبية. فقد نصح لورد كرومر بأن تسعى البعثة لتحرير منليك من فكرة أن التقدم "البريطاني " في وادي النيل ليس موجهاً ضده بأي شكل من الأشكال وبناءاً عليه فقد وجه "رود" بتوضيح أن العمليات ضد الخليفة تهدف فقط لإستعادة المحافظات التي كانت تحت الحكم المصري في السابق ولن تتضمن أي تعدي على أراضي الحبشة.

    وقد اقترحت مذكرة وزارة الخارجية أن يُعطي منليك خيارين فيما يتعلق بالحرب الأنجلو مصرية في السودان: إما أن يبقى محايداً وفي هذه الحالة ستضمن بريطانيا العظمى ألا يحدث تعدي على الحدود الحبشية كما كانت موجودة قبل الثورة المهدية. أو أن يمنح بريطانيا العظمى مساعدات عملية وفي هذه الحالة فإن حكومة جلالتها ستكون مستعدة لإستخدام مساعيها الحميدة لضمان تعويض مناسب من الأراضي للحبشة. اتبعت المذكرة أيضاً مقترح لورد كرومر " بأن يسمح للأثيوبيين بالنزول على الضفة اليمنى للنيل الأزرق مثلاً من كركوج حتى فامكا وأضافت أن هذا التنازل ومعه نصيب في التنمية التجارية لمنطقة بني شنقول سيكون أكثر من مرضٍ لطموح منليك في هذا الصدد، وعليه فقد تم إخطار "رود" أن يوضح أن بريطانيا العظمى ليس لها اعتراض في الاعتراف بالحدود الحبشية بين خطي عرض 10-15 درجة شمال والذي لا يتجاوز مجال النفوذ المخصص لإيطاليا وفق بروتوكول 15/4/1891 وستوافق على توسع لإثيوبيا حتى إقليم النيل الأزرق الذي يقع بين كركوج وفامكا إذا كان ذلك ضرورياً لغرض ضمان تحالف منليك وتعاونه ضد الدراويش.)

    وفي 10 مارس غادر رود مصر لإثيوبيا ومعه ونجت مدير الاستخبارات العسكرية والكابتن كونت قليشين عضو قسم المخابرات بمكتب الحرب وآخرون.

    قرر رود تأجيل تصحيح وضع الحدود الغربية " أي السودانية" حتى تتم هزيمة المهدية أولاً وحينها " سيكون لنا قوة معنوية تدعمنا في توضيح مطالبنا بشروط واضحة نفتقدها كلياً الآن. وأكثر من ذلك أحس ونجت أنه إذا أجرينا مفاوضات الحدود هذه في غياب قوة بريطانية فعلية على أرض الواقع في السودان فمن المرجح أن يشجع ذلك الملك على المضي قدماً وبقوة كبيرة في الاحتلال الفعلي. وأكثر من ذلك فقد علم البريطانيون أن السياسة الفرنسية هدفت لإحباط وإعاقة السياسة البريطانية في مصر وانها إذا ضمنت النفوذ في أعالي النيل فسيؤدي ذلك لجلاء البريطانيين عن مصر. ولذلك إذا كان منليك حقيقةً حليفاً لفرنسا فإن الموافقة على تنازلات كبيرة جداً في وادي النيل فقط لكسب مساعدة منليك ضد المهدويين سيؤدي لتقوية الطموحات والإدعاءات الفرنسية في هذا الاتجاه.

    3. وفي 7 مايو قدم رود على طاولة المفاوضات موضوع حياد منليك في الحرب ضد المهدويين وموضوع إتفاقية أكثر الدول تفضيلاً . وعد منليك بسهولة " بالعمل بأقصى ما يستطيع لقطع مرور السلاح والذخيرة عبر إمبراطوريته للمهدويين والذين وصفهم بأنهم أعداء إمبراطوريته" . ومن الواضح أنه لم تكن له نية حقيقية في مساعدة الخليفة وشعر بأن التعهد بعدم التدخل في السودان ربما ينتج عنه تنازلات مجزية من البريطانيين له في أرض الصومال.

    4. في 14 مايو 1897 وقع "منليك" و"رود " معاهدة من ثمانية بنود في احتفال كبير شملت التجارة وحدود الصومال وفتح طريق زيلع هرر ومعاملة تفضيلية لبريطانيا ودخول البضائع لاثيوبيا عبر ميناء زيلع ودخول الذخيرة والسلاح لاثيوبيا عبر أرض الصومال البريطانية وتعهد منليك بمنع حركة السلاح والذخيرة للخليفة وقواته.

    5. في رده على الانتقادات التي وجهت للبعثة وأنها فشلت في مهمتها وأعطت الاثيوبيين تنازلات أوضحت الورقة رأي المفاوض: " كان من المستحيل إجلاء الأثيوبيين عن النقاط التي كانوا يحتلونها دون اللجوء للسلاح وكان الفشل في الوصول للتسوية سيؤذي مساعينا في تأمين حياد ايجابي وصداقة على الجبهة الغربية. وقال صاحب الورقة شعرت الحكومة البريطانية أن التنازلات ليست إلا خسائر بسيطة مقارنة بإنهاء النزاع الحدودي وتأمين صداقة ماكونين ورغم أن تلك التعهدات بعدم تزويد الخليفة بالسلاح تبدو واهية ولكن الأيام أثبتت أنها كانت عظيمة الأهمية للحكومة البريطانية في ذلك الوقت.

    6. وعن مطامع منليك في السودان ورد الآتي في ورقته للتفاوض:

    ( قال منليك أن الوثيقة التي قدمها " تضع ما يعتقد هو أنه الحدود الحقيقية للإميراطورية الإثيوبية وتحدد من ناحية أخرى ما يمكن وصفه منطقة نفوذ يضم كل الأراضي التي كانت تخضع لإثيوبيا في أية فترة سابقة وأن رغبته المعلنة إعادتها مرة أخرى لسيطرته . بعث" رود"

    بنسخة من هذه الوثيقة الشهيرة والتي تظهر أن الخط الذي وضعه الملك منليك يقطع الجزء الأكبر من المحمية البريطانية في أرض الصومال تاركاً شريطاً ضيقاً على البحر بينما على الجانب الغربي من إثيوبيا تضم منطقة أكبر من أي تنازل يمكن لأي تعليمات أن تفكر فيها، تمتد المنطقة فعلياً حتى النيل الأبيض نفسه بينما تمتد المطالبة النظرية حتى فكتوريا نيازا والخرطوم.

    7. وجاء تقييم ضابطي الاستخبارات البريطانيين: ونجت وقليشين بعد أن قررا أن وجود ونفوذ الاثيوبيين لا يتعدي قندر وان حدود السودان تحت قبضة المهدية جاء تقييمهما على النحو التالي:

    (خلص ضابطا الاستخبارات إلى أن لمنليك القدرة على إحتلال جزء كبير من الحدود الغربية ولكنه يمتنع من ذلك فقط لأنه يعتقد أن اللحظة الحاضرة ليست مناسبة للدخول في مشروع ربما يجعله وحيداً في مواجهة المهدويين ولكن إذا كانت قوات الخليفة مشغولة بمواجهة الزحف الإنجليزي المصري من الشمال فمن المعتقد ألا يتردد منليك في إحتلال ليس فقط مقاطعة بني شنقول الشمالية ولكن كل البلاد الواقعة بينها وبين النيل الأبيض.( أنظر مذكرة ونجت وكونت 7 مايو 1897)

    ثالثاً: رواية هولت:

    أ‌) قال هولت: ( كان الخليفة على علم منذ أمد طويل بالأطماع المتعلقة بهذا الجزء من أملاكه كما تلقى صحفاً من مصر علم منها بأمر المفاوضات الجارية بين انجلترا وإيطاليا بشأن الحدود الشرقية في صيف 1890.... فقد تم الوصول إلى إتفاق في 15 أبريل 1891 إنجليزي إيطالي اعترفت بمقتضاه إيطاليا بمطالب مصر وحقوقها في السودان بما فيها كسلا على أن يسمح لها بإحتلال كسلا مؤقتاً إذا تطلب القتال مع المهدية ذلك) ثم تحدث عن التكالب والتنافس الأوربي لا سيما الصراع الفرنسي البريطاني حيث ( نبه مجلس الوزراء الفرنسي في 17 نوفمبر 1894 على وزير المستعمرات بضرورة احتلال أكبر مساحة ممكنة من الأراضي توقعاً لزحف بريطانيا من أوغندا) ( كما فرضت فرنسا نفوذها على الحبشة . ومع توتر العلاقات بين منليك وإيطاليا عقب إلغاء معاهدة أوتشياللي طلب حاكم الحبشة معونة فرنسا وسمح سراً بمرور السلاح عن طريق الصومال الغربي) (وقد وصل لاجارد حاكم الصومال الفرنسي إلى أديس أبابا في مارس 1897 في مهمة خاصة وحصلت الحبشة على تأييد فرنسا القوي لكل إدعاءاتها في الضفة اليمنى من النيل الأبيض من خطي 5 – 14 درجة شمالاً)

    ب‌) وذكر هولت أن منليك بعد أن ألغى إتفاقه مع إيطاليا وتخوف من حربها أرسل مسلماً إسمه محمد الطيب عارضاً السلام ولكن رسالته كانت شفهية وأورد رد الخليفة التالي: ( لسيد الأحباش منليك نخبرك أن محمد الطيب الذي أرسل من قبلك طلباً للسلام وصل إلى بلاطنا وأبلغنا شفهياً برغبتك ألا وهي طلب السلام والمذكور محمد الطيب عائد إليكم فإذا كنتم راغبين في السلام كما ذكر مبعوثكم فاكتبوا إلينا بذلك كتاباً رسمياً عليه ختمكم تطلبون فيه ذلك حتى يمكننا النظر فيه وإعطاءكم رداً شافياً والسلام على من اتبع الهدى) صفر 1313 يوليو اغسطس 1895.

    ت‌) ولما جاء الرد الاثيوبي المكتوب أوضح الخليفة شروطه قي خطاب أورده هولت جاء فيه: ( وأما فيما يتعلق برغبتكم في تحقيق السلام بيننا وبينكم فاعلموا أنه لا يوجد بيننا وبين الأوربيين إلا علاقة الحرب ونحن لا نقبل مجيء الأوربيين إلى بلادنا الإسلامية من أجل الشراء والبيع أو بحجة الترحال. فإذا كان موقفك مثل موقفنا بحيث ترفض دخول الأوربيين لبلادك إلا في حالة الحرب وبحيث لا تتصل بهم كما هو حالنا فيمكن في هذه الحالة عقد اتفاق سلام بيننا وبينكم) ص 256

    ث‌) ورغم رفض منليك قطع علاقاته مع الأوربيين إلا أن علاقة البلدين ظلت جيدة رغم عدم عقد التحالف حسب رواية هولت حيث قال: (ورغم تحسن العلاقات بين منليك والخليفة فيما بين عامي 1895-1898 وبرغم تقدم المفاوضات الخاصة بعقد تحالف بينهما منذ الصيف السابق إلا أنه لم توجد أية محالفة رسمية)

    ج‌) وتعضد رواية هولت للوقائع استنتاجاتنا التي سنذكرها أدناه على الرغم من عدم وصوله لنفس الاستنتاجات.

    العرض الإثيوبي وتعامل الخليفة معه:

    ومما مضى من سطور يتضح لنا من موقف منليك الآتي:

    1. أنه ما عرض التعاون مع المهدية إلا بعد أن دخل في عداوة مع إيطاليا بعد أن ألغى من طرف واحد اتفاقية أوتشيللي فأراد أن يؤمن جبهته الغربية.

    2. أنه بدأ التعاون مباشرة مع الفرنسيين لدرجة التحالف العسكري كما سبق أن أوضحنا وإن أخفى ذلك وادعى أنه لأغراض التجارة.

    3. وأنه ختم ذلك بالتعاون مع بريطانيا بل والتحالف معها ، فقد عرضت عليه بريطانيا إما الحياد في حربها مع المهدية أو التعاون معها فإختار التعاون معها وتم الإتفاق على منع مرور السلاح والذخائر للمهدية، وفي المقابل أُعطي تنازلات في بقية المناطق بل وفي داخل السودان نفسه.

    4. ومما يؤكد عدم حسن نواياه تجاه السودان ودولته سرعة إستجابته للمطالب البريطانية بشأن السودان والمهدية كما روى المفاوض البريطاني وثانياً عرضه لخريطة توضح أطماعه في السودان تصل حتى النيل الأبيض، وثالثاً ما ذكره للبريطانيين من أنه يعتبر المهدويين أعداءً له. ولما أرسل وفده الأخير للسودان في 1898 كان قد عقد سلفاً ذلك الاتفاق اللئيم مع بريطانيا في مايو 1897.

    5. ومما يدل على مكره – الذي لم يفت على بصيرة الخليفة النافذة وذكائه الفطري- أنه:

    ح‌) أرسل عرضه بصورة غير رسمية مع أحد المسلمين من رعاياه ولم يرسله مع أحد رجال دولته المفوضين، وأرسله شفاهة ولم يرسله مكتوباً فكان رد الخليفة الأول كما رواه هولت رد رجل دولة حصيف تضمن المطالبة بكتابة عرض واضح بأسس السلام ومختوم بختم الملك حتى يتم دراسته والرد عليه،فعل الخليفة ذلك حتى لا يكون العرض من باب العلاقات العامة ولا يستغل العرض للتلويح بالتحالف مع المهدية لرفع سقف مطالبه مع بريطانيا التي خشيت بالفعل من مثل هذا التحالف فسارعت للاتفاق معه وتقديم تنازلات في الصومال الغربي وفي حدود السودان.

    خ‌) وفي كل مباحثاته مع الخليفة لم يتعهد بقطع العلاقات مع الأوربيين بل إدعى أنها علاقات تجارية لازمة له والشاهد أنها كانت علاقات عسكرية سياسية.

    د‌) ومما يدل على طبيعته الماكرة من العرض السابق : إرسال الرسالة الشفوية حتى لا يؤخذ عليه شيء ومراوغته البريطانيين حيث أخذ منهم ما يريد وأرسلهم في النقاط الصعبة في التفاوض لحاكم أرض الصومال لإكمال التفاوض بحجة عدم معرفته بالتفاصيل نسبة لتشدد ذلك الحاكم في قضايا حدود إقليمه. ومن مكره إنكاره معرفة ما لايرغب فيه. ومن مكره طلبه تبسيط لغة الاتفاق مع بريطانيا ونزع كل الاشتراطات خوفاً من المكر البريطاني، وحرصه على ترجمة فرنسية للاتفاق مع بريطانيا تكون مرجعاً إذا اختلف النصان الأمهري والانجليزي وفي هذا ما لا يخفى من التحوط والتقوّي بفرنسا من باب خفي. ومن مكره إرساله وفداً بعد اتفاقه مع البريطانيين يحض الخليفة على قتال البريطانيين وهذا ما يريده لينقض على السودان أو على أقل تقدير ليأمن إنصراف الخليفة وانشغاله بحدوده الشمالية. وكذلك من مكره إرساله رسالة تطلب من الخليفة ألا يسمع لأية أخبار مخالفة لما جاء به الوفد في خطوة إحترازية لإحتمال سماع الخليفة باتفاقه مع البريطانيين ضده.

    ذ‌) ولا ننسى أن منليك كان قد استعان بالطليان في الإطاحة بالإمبراطور الإثيوبي والجلوس مكانه على العرش، وعقد معاهدة واتشياللي التي اصبحت اثيوبيا بموجبها تقريبا محمية ايطالية ولما تمكن انقلب على ايطاليا وهزمها مستعينا بأسلحة فرنسا.

    ر‌) ومما يؤكد كل هذ الشكوك التقرير الذي كتبه ونجت وكونت وأشرنا إليه أعلاه.

    كيف تعامل الخليفة:

    ومع كل ما سبق ذكره من نقاط كان بعضه معروفاً حينها وكان بعضه خافياً، نجد أن تعامل الخليفة قد إتسم بقدر كبير من المرونة والتغاضي مع منليك، فهو:

    1) لم يقفل أبداً باب التفاوض حتى مجيء آخر وفد قبل أشهر قليلة من دخول كتشنر. وكان الوفد محل حفاوة وإكرام ذكره هولت في كتابه.

    2) كان يفرق بين الدولة الوطنية الإفريقية والدول الأوربية الإستعمارية، فلم يرفض التعاون مع الحبشة مع أنها دولة مسيحية بل تجاوب معها ولم ترد في رده أية إشارة لذلك بل كان واضحاً في ربطه التعاون مع الحبشة بعدم تعاونها مع الدول الأوربية الإستعمارية والتي كان يعلم كما أوضحنا اتفاقاتها على تقاسم أفريقيا.

    3) ومن الملاحظ أن حروبه مع الحبشة إتخذت طابعاً دفاعياً وحتى حينما انتصر عليها في مرات عديدة اكتفى بالرجوع إلى قواعده بالسودان الذي حررته المهدية من الحكم التركي.

    4) ونلاحظ أيضا أنه لم يتشدد في قضايا الحدود مع لإثيوبيا بل طلب من منليك وقف إيواء المنشقين على الدولة والمحاربين لها وقد أشار هولت لمرونته في قضية بني شنقول.

    5) وافق الخليفة على طلب منليك بإطلاق سراح الأسرى

    هذا هو ملخص القضية الإثيوبية لأن بعض المصادر تصور الإثيوبيين في صورة الساعين للوحدة الإفريقية وتصور الخليفة شخصاً محدود الأفق متعصباً رافضاً لذلك التعاون. وهي تعكس واقعية الخليفة وإدراكه الواسع للبيئة الدولية والاقليمية التي تحيط به كما يكشف عن تفريقه بين الدول التوسعية الطامعة والدول الافريقية وان اختلفت معه في العقيدة وتبين سعة أفقه وسعة صدره وفهمه لأسس التعامل بين الدول وتوضح بجلاء معرفته لأولوياته ومكامن الخطر على دولته وكما قال هولت في خاتمة كتابه: (فالظروف السائدة في أواخر القرن التاسع عشر كانت لا تسمح ببقاء دولة إسلامية مستقلة في جزء من إفريقيا يتعرض لصراع الدول الأوربية الإستعمارية.)

    الهوامش:

    انظر حسن أحمد إبراهيم محمد رحلة محمد علي باشا إلى السودان- التقرير الرسمي (تحقيق وتقديم)

    علي المهدي سابق ص 127

    هناك مكاتبات كثيرة في شأن ضرورة حضور الجهادية لمجالس الامام المهدي لأجل تلقي التربية الدينية والسلوكية

    نفسه ص 27

    شقير ص 907

    الدرديري محمد عثمان: مذكراتي ص 83-87

    Harold G. Marcus: The Rodd Mission of 1897, Journal of Ethiopian Studies

    Vol. 3, No. 2 (JULY 1965), pp. 25-35

    http://www.jstor.org/stable/41965725؟seq=1#page_scan_tab_contentshttp://www.jstor.org/stable/41965725؟seq=1#page_scan_tab_contents

    والتي تعطي معاملة تفضيلية في التجارة والعبور الخ لبريطانيا

    نهاية تلخيص الورقة

    هولت سابق 38-39

    ذكر هولت العمل المشترك مع الفرنسيين لاحتلال أعالي النيل تحت إشراف لاجارد في 1897 وذكر تقدم حملة إثيوبية مصحوبة بأوربيين من أعضاء بعثة بوتشان وصلت حتى ملتقى السوباط بالنيل في مارس 1898 كما ذكر شقير حديث مارشان مع كتشنر في فشودة وأنه كان ينتظر وصول العون الذي طلبه من فرنسا لمقاتلة الأنصار ليأتي عبر الحبشة.( شقير ص 942 )

    قال هولت : وعندما وصل المبعوثون لأم درمان في ذي القعدة ( مارس – أبريل 1998 ) كانت قوات كتشنر قد وصلت إلى العطبرة وقوبل الضيوف هذه المرة بتشريف كبير ووضعت ترتيبات متعددة للترحيب بهم الخ ص

                  

03-30-2016, 04:00 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الله أكبر أكبر ولله الحمد
                  

03-17-2016, 09:25 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: محمد حيدر المشرف)

    Quote: عمر سلامات وكيف الحال ومشتافين يا صاحب ..

    الناقد الموريتاني عمر ولد محمد سالم أخطأ كثيرا في فهم الجوهر الحقيقي للرواية ..

    Quote: من المشكلات الفنية أيضا اشتمال الرواية على حكاية طويلة امتدت على عشرات الصفحات هي حكاية للدرويش الحسن الجريفاوي، وهو شخصية ثانوية لا يرد له دور في الأحداث الفعلية إلا في اللحظات الأخيرة عندما أمسك هو ورجاله ببخيت واقتادوه مكبلا بالأغلال إلى المسلمية ليشنق فيها، وذلك بعد أن قتل بخيت سيده التاجر إبراهيم ود الشواك، فتلك الحكاية الطويلة عن حياة الجريفاوي وعبادته ودروشته، ثم نهضته في الجهاد لا علاقة لها بمتن رواية بخيت وثيودورا، ويمكن حذفها دون أن تترك أي خلل في الرواية، والعجيب أن تسمية العنوان "شوق الدرويش" مستوحى من حكاية الجريفاوي لأن بخيت لم يتدروش، ودخوله الجندية لفترة قصيرة كان فرارا من المجاعة.

    Quote: والعجيب أن تسمية العنوان "شوق الدرويش" مستوحى من حكاية الجريفاوي لأن بخيت لم يتدروش، ودخوله الجندية لفترة قصيرة كان فرارا من المجاعة

    ليس في الامر عجب ..

    العجيب, في واقع الامر, هو وصف الجريفاوي بالشخصية الثانوية ..

    فالرواية من الناحية التأريخية التي يريدون الزام العمل الادبي بها .. هي حكاية "الجريفاوي" باكثر من "بخيت متديل" ..

    وعندي كتابة حول هذا الامر بالتحديد, سأحاول البحث عنها ..

    مودتي التي تعلم ..

    مرحب بالاخ الحبيب محمد حيدر المشرف

    عساك ومن تحب بالف خير

    وشكرا لمرورك وتعليقك

                  

03-17-2016, 07:26 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة الخامسة عشرة

    1) سياسة تهجير القبائل:

    أثارت هذه السياسة لغطاً كبيراً وقابلت رفضاً من كثير من قبائل السودان لا سيما قبائل دارفور والجزيرة. ومهما يكن من رأي حول هذه السياسة وإيجابياتها وسلبياتها، فمن المؤكد أنها لم تكن تهدف للتقوّي بتلك القبائل في مواجهة إنقسام داخلي داخل النخبة السياسية في دولة المهدية لأسباب بسيطة:

    1) أولاً أن تلك السياسة كانت عامة شملت الجزيرة وكردفان ودارفور.

    2) ثانياً أنها في دارفور نفسها شملت القبائل العربية وغير العربية.

    3) ثالثاً لم يحظ الخليفة ولم تحظ تلك السياسات بموافقة تلك القبائل الدارفورية بل نفرت عنها أشد النفور حتى اضطُّر الخليفة لتهديد أهله التعايشة بحرب تستأصل شأفتهم بل وبدا فعلاً في إخضاعهم بقوة السلاح حتى رضخوا مذعنين. فلا يعقل أن يحضر لأمدرمان أناساً وهم له ولها كارهين لحماية نظامه. وقد نبّه لهذه النقطة كثير من المنصفين حيث ذكرها هولت ونفى هذا الغرض السياسي، كما ذكرها زلفو مستشهداً بدراسة موسى المبارك ومضيفاً إليها حججاً أخرى منطقية. قال زلفو ( وقد مثلت دارفور قرحة الخليفة الدائمة وأجبرته على الاحتفاظ دائماً بأكبر حشد عسكري باستثناء العاصمة والقلابات أثناء حروب الجبهة الشرقية فلم ينقص جيشه في دارفور أبداً عن 20000 مقاتل وزاد أحياناً كثيرة عن 36000 مقاتل)

    وفيما يبدو لي أن الخليفة اضطُّر لتلك السياسة لمواجهة واقع معين فيه الآتي:

    1) إختلال ديمغرافي بيِّن بين السودان وجيرانه المحاربين: مثل إثيوبيا ومصر إضافة للجيوش الأوربية المتربصة في عدة جبهات. كان الخليفة يقابل جيوش الحبشة بنسب لا تزيد عن الربع في كل المقابلات.

    2) كان لتلك الدول جيوش نظامية واحتياطي كافٍ ونظام راسخ للتجنيد متى ما اختلت النسبة، بينما كانت المهدية حركة شعبية طوعية تعتمد على المواطنين الذين لبوا نداءها وتركوا أعمالهم، فكان لا بد من مصدر دائم متجدد لإمداد الجيش بالمقاتلين. صحيح أن المهدية ورثت بعد حين قصير قوات الجهادية التي كانت تعمل تحت راية الجيش المصري التركي أو على الأصح من بقي منهم في السودان ولكنه ظل مصدراً ثابتاً غير متجدد. كان من أهداف سياسة التهجير خلق رصيد إحتياطي دائم للجيش.

    3) ثم أن تلك القبائل – لا سيما البدوية منها – صارت في بعض الأحيان مصدر قلق وتمرد وثورات بدلاً أن تكون رصيداً للدولة الناشئة، وذلك ناجم عن روح البداوة واعتياد نمط العيش البدائي القائم على النبو عن كل سلطة مركزية دعك من روح الإغارة وقيم الفروسية التي تعني عند بعضهم النهب والإستعلاء على بعضهم بعضاً. فكان لا بد من السيطرة على تلك القبائل بجلبها تحت يد الدولة وبصرها.

    هذه بعض الأهداف العامة الاستراتيجية العسكرية الأمنية التي بلا ريب لم تغب عن نظر الخليفة، وربما قصد أهدافاً أخرى لا نجزم بها مثل الصهر والإمتزاج القومي لا سيما وأن المهدية والخليفة على وجه الخصوص كان شديد الإنتباه لأهمية تجاوز الأسس القبلية لأسس أعم في سبيل الحفاظ على الدولة. والخليفة نفسه لم يكن من المؤمنين بالقبلية بدليل شوقه الدائم وبحثه الشديد عن المهدي قبل المهدية، فكانت ميوله وكان قلبه يتجه صوب معانٍ مختلفة عن الحياة القبلية التقليدية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لم يكن الخليفة قائداً في قومه إذ كانت زعامة القبيلة في جهة أخرى ، وخطابه لأهله التعايشة الذي يتساءل عن إستنكاف التعايشة عن طاعته يدل على أنه كان من غمار الناس .

    ومهما يكن من سلبيات لهذه الهجرات أو التهجير مثل التمردات التي نجمت عنها أو نقص الإهتمام الكافي بالزراعة وغيرهما من السلبيات فالنتيجة التي يجب أن يخلص إليها كل ذي إنصاف أنها لم تكن قطعاً للتقوي بعشيرته في مواجهة داخلية.

    ثم أن الخليفة تراجع بعد حين عن هذه السياسة لا سيما بعد المجاعة واهتم بالزراعة وعمد إلى إلى خلق نظام سياسي إقتصادي يهتم بمعاش الناس وتطوير سبل حياتهم وإلى هذا أشار حتى ونجت وإليه أشار كل المؤرخين الموضوعيين.

    وإليك عزيزي القاريء بعض آراء هولت في القضية:

    فهو يرى أن هدف هذه السياسة (هو تقليل قوة قبائل البقارة المتمردة أو إضعافها) وأن سياسته ( إنبنت على الإطاحة بشيوخ القبائل الوراثيين التقليديين وتهجير القبائل المشكوك في ولائها)

    ويبريء هولت الخليفة قائلاً ( وقد أسيء فهم الدافع الذي جعل الخليفة يستدعي البقارة ويبدو أن هدفه لم يكن إغراق أقاربه البدو في خيرات الأقاليم النيلية بقدر ما كان يرغب في وضع قبائل يعرف هو مدى ميلها للفوضى تحت رقابته) ( فمن الخطأ الاعتقاد بأن التعايشة جاءوا مغتبطين إلى أم درمان كما يحدث عندما يدخل أبناء الصحراء المتجولون إلى أرض خضراء تفيض لبناً وعسلاً. ومن الخطأ أيضاً الظن بأن بقاءهم في العاصمة كان استقراراً أقدموا عليه بمحض اختيارهم. فإن تتبع إستدعاءاتهم يكشف عن عكس ذلك. ففي 16 ربيع الثاني 1305 هـ ( أول يناير 1888) أرسل الخليفة إلى عثمان آدم طالباً منه إرسال جميع العرب المشكوك في ولائهم إلى أم درمان قبل مغادرته دارفور. وخص بالذكر قبائل البقارة الثلاث: الرزيقات والهبانية والتعايشة . وقد سبق استدعاء هذه القبائل لمركز قيادته بينما كان في شكا ولكن التعايشة أحدثوا شغباً ولم يستسغ زعيم التعايشة الوراثي الغزالي أحمد خواف ارتقاء إبن عراف القبيلة للسلطة العامة، ومن ثم قتل في الشهر التالي الرسل الذين جاؤوه من قبل عثمان آدم ومعهم عهود الأمان.

    وعندما أبلغ عبد الله بهذا التمرد كتب في 20 جمادى الثانية (3 مارس) لعثمان آدم مزوداً إياه بخطابات للتعايشة على أن يتم توزيعها عند الحاجة. ووجه أحد هذه الخطابات للقبيلة بصفة عامة وشيوخها بصفة خاصة. وهي تبلغهم عفوه عن أخطائهم السابقة إذا انضموا فوراً لعثمان آدم. أما الغزالي فتقرر عزله من زعامته حيث أنه حنث بيمينه وكان على التعايشة أن يعزلوه فهو وأتباعه أعداء للمهدية . ووجهت رسالة أخرى للغزالي ذاته ذكر فيها بزيارته للخليفة في الأبيض وحلفه يمين الولاء للمهدي. وعرف حينئذ أنه حنث بيمينه وولى الأدبار بعد مهاجمة رجال قبيلته ذاتها الذين عاونوا المهدية وأمر بالتوجه إلى عثمان آدم مع إعطائه الأمان، وأكد له بأنه إذا لم ينفذ هذا فيستم القبض عليه ووضعه في السجن. والخطاب الثالث لشخص اسمه صالح حوا ومن الواضح أنه قائد التعايشة الذين خضعوا لعثمان. وقد صدرت إليه التعليمات بالقبض على الغزالي وأنصاره والانضمام بجميع قواته إلى عثمان ويبدو أن الخليفة استنفد صبره سريعاً ففي 12 رجب ( 25 مارس) أرسل لعثمان آدم إنذاراً تجري إذاعته في شتى أنحاء بلاد التعايشة على أن يتم القضاء على القبيلة إذا ما كانت لا تزال ترفض المجيء )

    ثم تحدث عن إنذار آخر ختمه بالتساؤل عن سبب عدم تلبيتهم أوامره بالحضور لأمدرمان أهو إنكارهم للمهدية واختيار العمي على الهدي أم لاستنكافهم عن اتباع الخليفة احتقاراً له فقال : ( وإذا كان ذلك لأنكم ترون أنفسكم أكبر من أن تتبعونا وتحسدوننا على ما ترون وتتمنون فعل مثله أفلا تعلمون أن القوة الإلهية تزين ما تأتي به ومصيره إلى الزوال وأن الله يضع سره في أضعف خلقه ؟)( فإن كان لكم القوة على محاربة المهدية فاستعدوا إذن ولن يفيدكم ذلك)

    هذا ما ذكره هولت وهو وإن برأ الخليفة من تهمة ابتداع سياسة التهجير للتقوي بأهله ونظر إليها على العكس من ذلك في سياق عدم اطمئنان الخليفة لتلك القبائل إلا أنه لم يفطن للهدف الأهم والذي ذكرناه في سياق مناقشتنا للقضية.

    2) الرق: سيتم نقاش الرق في الباب الثامن

    3) المعارضة الداخلية للمهدية:

    في سياق تطور الدراسات المهدوية انتقلت الكتابات كما ذكرنا من طور الدعاية الحربية إلى طور أكثر أكاديمية وحيادية ثم برزت في الآونة الأخيرة دراسات عديدة بالاستفادة مما توفر من مصادرتاريخية مكتوبة وشفاهية وما توفر من مناخ أكاديمي يعين على البحث بعيداً عن الضغوط السياسية بعد إنقشاع غبار المعركة وانجلائه ولو بصفة جزئية. وقد أوردنا بعض هذه الدراسات هنا ومنها الدراسات الغربية الحديثة مثل دراسة كاريزما القيادة في الاسلام : مهدي السودان ودراسة نقض المهدية: الاستعمار البريطاني كإصلاح ديني في السودان الانجليزي المصري 1898- 1914 وغيرهما. وقد ظهرت دراسات سودانية كثيرة ولكن ظهر في فترة ماضية نوع من الدراسات سعى لدراسة الإتجاهات المعارضة للمهدية في محاولة لخلق مشروعية لتلك المعارضة منها كتاب محمد محجوب مالك المقاومة الداخلية لحركة المهدية الذي مر علينا ذكره ومشروع نحو معارضة للمهدية وأبرز إتجاهاته ورقة الدكتور عبد الله على إبراهيم: نحو مشروعية لمعارضة المهدية: المهدية والكبابيش وتحقيق الدكتور عوض السيد الكرسني لوصية الشيخ محمد ود دوليب بعنوان : نحو مشروعية لمعارضة المهدية نصيحة الشيخ محمد ود دوليب وغيرها من الدراسات التي درست التمردات القبلية في أثناء المهدية . وهو جهد محمود في الكشف عن الأبعاد السوسيولوجية والتاريخية والاقتصادية والسياسية في معارضة المهدية، وهناك اوراق ودراسات كثيرة بحثت في التمردات القبلية في عهد المهدية. ومهما يكن من أمر فإن تلك الحركات كانت أقل بما لا يقارن من الحركات التي نشأت في العهدين السابق والتالي للمهدية رغم آلة القمع المتطورة لدى الإستعمارين. وكذلك لم تكن تلك الحركات شاملة وإنما حالات معزولة . والأهم لم تكن دوافعها مبررة بالمقاييس الوطنية أو الأخلاقية.

    أما أن الأغلبية الساحقة من الشعب السوداني قد إنضمت في سلك الدعوة والثورة والدولة المهدية فهذا مما لا شك فيه ولا مراء.

    وأما المعارضة فقد كانت دوافعها مختلفة:

    • فبعضها ارتبطت مصالحه بصورة مباشرة بالنظام التركي المصري: سواءً أكانت مصالح تجارية أو اقتصادية أو وظائف مهنية أو سياسية أو حظوة لدى النظام كما هي عادة الإستعمار في الإستعانة بأقليات معينة : قبلية أو دينية لمساعدته في تثبيت أركانه. وقد تعاونت هذه المجموعات بقوة مع الحكم التركي ودعمته بلا هوادة.

    • وقلة من الأعيان والكبراء رفضت النزعة الثورية والتحررية وروح المساواة الاجتماعية والطبقية في المهدية.

    • وقلة من المستهترين الذين رفضوا النزعة التطهرية المحاربة للمجون.

    • وهناك النزعة البدوية الرافضة للقيود التي يحتمها نشوء مجتمع مدني ودولة تسود فيها قيود القوانين العامة وتتوق لمواصلة حياة البداوة وما يلازمها من حرية في الحركة بل وحتى حياة السلب والإغارة .

    • وهناك من إنضم لسلك الدعوة وسلم لقيادة المهدي الملهمة وكاريزماه الطاغية ولكن حدث بعد وفاة المهدي التطلع والتنافس الطبيعي حول السلطة بل والاختلاف حول التوجهات والتكتيكات السياسية وهذا شيء مشروع إذا ما اتبع الوسائل المعروفة للتنافس بعيداً عن التآمر على الفكرة ونفسها والتعاون مع الأجنبي. وفي هذه النقطة أثبتت دراسة الباحثين الأمريكيين عن المهدية أن المهدية كانت أقل عرضة من غيرها لمثل هذا النوع من التنازع على مدى التاريخ الإسلامي كله.

    ولكن كل هذه المجموعات من داخل المهدية وخارجها لم تشكل في جملتها قطاعاً غالباً والدليل على ذلك ما ذكرناه سابقاً من إستمرار الولاء للمهدية وانتشار الثورات في الحكم الثنائي رغم القمع المتواصل وغيرها من الدلائل. وإذا كان الشعر معبراً عن لسان الجماعات فيمكن الاستشهاد بنماذج في هجاء المهدية لنرى المبررات التي استندت عليها وما نقمه أصحابها على المهدية فعارضوها:

    قال أحدهم:

    لا مريسي ولا طنيبير ولا تمباك ولا سنجير

    ودا كلو من مهديك الكبير وعقرباً تطقك يا محمد الخير

    فهذا يفتقد اللهو والمجون

    وقال آخر:

    مقدم ناس لقيت أبو دقناً راخيها

    طاقيته سعف بي إيدو شاقيها

    وجبته مرقعة حتى الجلود فيها

    من دغشاً كبير صلاته باديها

    لا عارف ليها فقه ولا جيهة

    إن ذاكرك بي الجنة تقول كان فيها

    وهذا يرفض الزهد وخشونة الملبس وترك النوم والقيام للصلاة.

    وقال الحردلو:

    من دار الأمير نرحل نشيل الفنقة

    ونشكم الحمير من الشهيق والهنقة

    لبسنا الجبب بِقَلّنا وقرة وزنقة

    ولبسنا العمم بقت سماحة الخنقة

    فالحردلو هنا يرفض الزي الخشن وما يشير إليه من جد وتشمير في الحياة ويحن لحياة البادية ودعتها من ملبس خفيف وتتبع للصيد بنوعيه والمسادير وتوابعها الخ. هذا وللحردلو شعر كثير في مدح المهدية وخليفة المهدي كما روى محمد عبد الرحيم.

    وقال صالح جلطة زعيم الكبابيش ينصح خاله بعدم الإنضمام للمهدية وكانت فئة صالحة من الكبابيش قد انضمت للمهدية رغم موقف زعيمها. قال:

    يا طير إن مشيت سلم علي خالي

    قول ليه لا ترقع دليقك تبقى أنصاري

    أنا بتبطح في الرغام والدنيا زاهيالي

    بقاصر في السنين لما تروق داري

    ما شفنا الإمام خليفته بقاري

    فهذا يريد "التبطح" ورغد العيش وينقم على المهدية أن يكون خليفة المهدي من البقارة فهنا مبرر الرفض هو الاستعلاء الإجتماعي وهذا أحد ثلاثة أسباب ذكرها د. عبد الله علي إبراهيم في رفض هؤلاء للمهدية وهي النزعة الارستقراطية والتراتبية الاجتماعية التي أبطلتها المهدية، ونمط الحياة المتقشف والمتطهر للمهدية لا سيما تحريم الخمر وثالث الأسباب وأهمها المصالح التجارية بين الكبابيش والحكم التركي المصري قال د.عبد الله: (اتفق المؤرخون إجمالا حتى بعض أولئك الذين لم يكن باعث معارضة الكبابيش للمهدية شغلا شاغلا لهم مثل سلاطين على أن موقع الكبابيش الاستراتيجي على طرق التجارة بين كردفان ومصر والفائدة التي تقع لهم من نقل هذه التجارة والصمغ بالذات، هو واحد من أهم أسباب خصومة الكبابيش للمهدية.)

    . ومن المعلوم أن تلك المصالح صارت تحالفاً قوياً أمدت فيه الحكومة التركية المصرية صالحاً بالسلاح والمال لمحاربة المهدية باتفاق المصادر.

    قال محمد عبد الرحيم معلقاً على هذه الأبيات: ( فهم لا يتعرضون للمهدي في ذاته ولا يأخذون عليه شيئاً في أعماله وتصرفاته إلا أن يكون خليفته من البقارة) وحديث المؤرخ مقصور على الأبيات إذ ذكر الأسباب الأخرى في فقرة تالية من كتابه.

    وكما ترى فإن هذه الأشعار رغم ما فيها من روح الفكاهة وصلاحها للمؤانسة فإن منطقها لا يصمد إذا سارت الأمور ناحية الجد والبحث الرصين في الدوافع. قال الحردلو :

    لو ما جور زمان وناساً بصرها قليل

    شرك أم قيردون كيفن بصيد الفيل

    وهيهات.

    الهوامش:

    زلفو سابق ص 104

    كان جيش حمدان 60 ألف مقابل 240 ألف وجيش الزاكي 60 ألف مقابل 250 ألف على سبيل المثال.

    هولت 174 - 178

    د.عبد الله علي إبراهيم:المهدية والكبابيش ورقة في كتاب دراسات في تاريخ المهدية ص 121

    قالها الحردلو في مدح الخليفة بعد قضية الأشراف منوهاً لوقوف الأغلبية الساحقة مع الخليفة:

    أنصارك كتار تامين عبرة الكيل

    يشبهو نبت الربا وكتين ركوب الخيل

    لو ماجور زمان الخ

    أما عبد الله أبو سن فقد انضم للمهدية في وقت مبكر ولحق بالمهدي في الأبيض.

                  

03-19-2016, 07:49 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة السادسة عشرة

    الباب الثامن : جرد الحساب

    الفصل الأول: مقارنة بين تعامل المهدية والحكمين السابق والتالي لها:

    رأينا في الفصول السابقة تعامل المهدية وأحطنا بالصورة الكلية للحكم التركي وهنا نقدم نماذج وحالات لتعامل الاستعمارين الأول والثاني : وهما العهدان السابق والتالي للمهدية.

    الرسل:

    قتل محمد سعيد حاكم كردفان رسل المهدي الثلاثة الذين أرسلهم للتفاوض معه أثناء حصار الأبيض

    الجواسيس:

    قتل هكس طلائع المهدي الذين وقعوا في أسره بتقطيع أطرافهم والتمثيل بجثثهم.

    التمثيل بالقتلى:

    وعلى ذكر التمثيل بالقتلى كانت قوات الحكومة في الأبيض قد مثلت بجثة أحمد ود جبارة حيث قطعت رأسه ومزق جسمه لأشلاء استنكاراً لانضمام تركي للمهدية وكذلك مثل حاكم دنقلا مصطفى ياور بجثة الأمير أحمد الهدي وقطع رأسه ورؤوس عدد ممن كان معه بعد معركة القيقر قرب الدبة. وهي المعركة التي استشهد فيها أعيان الشايقية والمناصير وغيرهم مع أحمد الهدي. وبعد نهاية المعركة فركة جاء سلاطين باشا بهيئة أركان الجيش المصري وتفقد المقتولين فلما تبين بينهم السيد موسى الكاظم لفه في قماش ولف معه بابكر ود كوكو وصب عليهما الجاز وأحرقهما (جهاد 202). وكذلك قطع جيقلر رأس الشريف أحمد طه وعلقه بأبي حراز وبعث به للخرطوم فعلق بها أياماً كما تم حرق حلة الشريف حسب رواية شقير. وكما يلاحظ القاريء أن التمثيل بالجثث هنا يأتي من كبار المسؤلين.

    قتل غردون من شك في تعامله مع المهدي

    حيث قتل حسن الشلالي وكان من قواده الحربيين وشقيق يوسف الشلالي القائد المشهور الذي مات في حربه مع المهدي وذكر متولي محمد العتباني الذي تربطه بالرجل صلة نسب أنه كان يذهب للخوجلاب لزوجته التي تسكن مع أهلها فشك غردون أنه يذهب للتخابر مع المهدي فقتله.

    سياسة العنف قبل المهدية:

    ويذكر المؤرخون أن غردون قد تحول لسياسة عنيفة بعد أن رفض المهدي قبول تعيينه حاكماً لكردفان.ولا تعني هذه العبارة أن سياسته كانت رحيمة أو متسامحة فلم يمضي وقت يذكر بين عرضه ذاك للمهدي وبين رفض المهدي له، بل ان العرض نفسه قدمه غردون قبل أن تطأ أرجله الخرطوم. وقد تواترت الشهادات على قسوته في كل فترات عمله بالسودان قال سمرنوف: ( وساد الاعتقاد بأن على القوات الحربية تنفيذ أوامر غردون وإعدام من خالف أمره وامتلأت السجون وأضحت البلاد تحت سلطة دكتاتورية عسكرية) ص 29 وقال ( وفي يوليو 1878 بدأ يلوح في الأفق تغيير في أساليب غردون فقد أخذ على عاتقه المسؤولية الكاملة عن فرض سياسة القمع وأصبح أقسى وأقل حذراً في أساليبه). وفي سبيل تنفيذ سياساته أمر غردون الجلابة بإخلاء جميع الأقاليم الواقعة جنوب طريق الأبيض دارا ( وحين لم ينفذ أمره لجأ غردون إلى وسيلة قاسية هي التنبيه على شيوخ القبائل في المنطقة بإصطياد الجلابة وتسليمهم للمحطات الحكومية)

    عنف سلاطين :

    قال أوهروالدر كان سلاطين كارثة بالنسبة للعرب وقد قتل منهم آلاف . وقال هولت : حينما أحس بالأمور قد بدأت تفلت من يديه (أصدر سلاطين أمراً بإعدام ستة من المتآمرين) في دارفور .

    الغدر:

    نسبت الرواية صفة الغدر للسودانيين ظلماً والمعروف عن السودانيين الوفاء والمواجهة عند الغضب لا الغدر: وهذه بعض أمثلة الغدر في الحكمين الاستعماريين:

    حادثة قتل جيسي سليمان بن الزبير بعد استسلامه وتأمينه، قال هولت: ( وقتل سليمان وتسعة من قواده رمياً بالرصاص في اليوم التالي وهو الإجراء الذي أتهم من أجله جيسي بالغدر). وكان الحكمدار قد كتب للزبير بالقاهرة ليثني ولده عن العصيان ويأمره بالتسليم فكاتبه وامتثل سليمان لأمر والده وسلم رغم معارضة رابح . وكذلك اعتقال الزبير نفسه وسجن الفكي على الميراوي بعد إعطائه الأمان ثم الغدر به . قال د. حسن: (لعل أهم انتفاضة شهدتها بلاد النوبة خلال الحرب العظمى هي انتفاضة الفكي في جبال الميرى 1915 م، والتي انضمت لها الجبال المجاورة وقبائل المسيرية والحمر. سببت هذه الانتفاضة قلقاً كبيراً للحكومة، فأرسلت حملتين للقضاء عليها؛ ولكنها اضطرت أخيراً إلى مفاوضة الثوار حتى تتفرغ للقضاء على السلطان علي دينار الذي أقضَّ مضاجع الحكومة في دارفور آنذاك. سلَّم الفكي علي للحكومة بعد أن وعده المسؤولون بالعفو عنه، ولكنهم غدروا به وسجنوه في حلفا مدة سبع سنوات.)

    قتل ونهب المواطنين:

    حينما صد عساكر الحكومة هجوم الأنصار على الأبيض رجعوا المدينة وعاثوا فيها فساداً وقتلاً ونهباً للمواطنين الذين يفترض أنهم حماتهم.

    وحينما تمرد الجهادية على المهدية في الابيض وذهبوا لجبال النوبة وأعلنوا ولاءهم للخديوي ورددوا نشيد الولاء له ورفعوا علمه واعلنوا أنفسهم سلطة مستقلة عن المهدية وتابعة للخديوي عاملوا المواطنين بقسوة شديدة قالت عنها كوريتا: (في حالة حركة الأبيض فشل المتمردون رغم أنهم لجأوا إلى جبال النوبة التي كانت بلا شك الموطن الأصلي لقسم منهم في بناء علاقة ودية تقوم على المساواة مع أهل الجبال وبدلاً عن ذلك اختاروا أن يظهروا كحكام للبلاد كممثلين للسلطة الخديوية في هذه المنطقة) ( ولكنهم أخذوا لاحقاً يعاملون سكان المنطقة باستبداد)

    عهد الحكم الثنائي: وفظائعه

    الغزو ومعاملة الأسرى والجرحى:

    حينما تم غزو السودان استخدم الانجليز أسلحة فتاكة وقتلوا الأسرى والجرحى مما أثار حتى الرأي العام البريطاني وقد كان السودان من أوائل الدول التي جرب فيها مدفع المكسيم إن لم يكن اولها وكان الجيش الغازي قد أتى ببنادق سريعة الطلقات ورصاص متفجر ومدفعية حديثة وسفن مدرعة ومدفعية عائمة .

    أشعل مقال نقدي حاد لفظائع كتشنر كتبه الصحافي ايرنست بينيت والذي رافق الحملة أشعل جدلاً واسعاً حيث تم الرد عليه بقسوة من قبل المدافعين عن كتشنر ويقال أن تشرشل كان يؤيد في مجالسه الخاصة أقوال بينيت. وقد ظهر ذلك التأييد في الطبعة الأولى من كتابه حرب النهر ( 1899) ولكنه خفف من نقده لكتشنر في الطبعة الثانية للكتاب (1902) خوفاً من الأثر الذي يمكن أن يحدثه الرأي العام على مستقبله السياسي. من تلك الفظائع قتل الجرحى حيث قال زلفو وأدت مقاومة الجرحى وإصرارهم على القتال حتى آخر رمق إلى:( بروز مظهر آخر من مظاهر الحروب (وهو) قتل الجرحى بعد إستسلامهم) ( وأدى بالتالي إلى استغلال تلك الذريعة _ مقاومة الجرحى _ استغلالاً بشعاً بواسطة قوات السردار في مجزرة انتقامية لم يشهد تاريخ الحروب لها مثيلاً إلا قليلاً ووصلت تفاصيل فضيحتها إلى أسماع العالم وأثارت ضجة كبيرة). قال تشرشل (وأود أن أسجل هنا بما أحسسته أنا شخصياً عن الشعور الطاغي وسط الحملة أنه من دواعي سرور السردار ورضائه أخذ أقل عدد من الأسرى.. ويستطرد المؤلف " شرشل" ويذكر أن الدعاية الضخمة التي سبقت الحملة والمعركة أدت إلى تلك المجازر وأثارت مشاعرهم للدرجة التي دفعتهم للإعتقاد بأن اتيان ذلك الأمر الشائن عمل صحيح. فقد صورت لهم الأعداء كحشرات سامة لا تستحق أن تعيش ونتج عن ذلك أن أعداداً كبيرة من الجرحى قتلوا بعد المعركة) وقال في موضع آخر:(إن النصر في معركة كرري ليتوارى خجلاُ من العار الذي لحق به من جراء جريمة الذبح والقتل اللا إنساني لجميع الجرحى في أرض المعركة الذين فاق عددهم الستة عشر ألف جريح ـ والمسؤول عن ذلك هو كتشنر).

    (ويتطرق روجرز للروح الانتقامية العمياء التي تميزت بها قيادة كتشنر الميدانية لمعركة كرري ويذكر كيف انه امر بإعدام 20 الف جريح ببربرية تتناهي مع كل قيم الانسانية مما عرضه لانتقادات جارفة في البرلمان البريطاني في حملة تزعمها اللورد ريتشارد ريدموند والذي لقب كتشنر ب " جزار امدرمان ") وهذا ما ذكره هولت أيضاً حيث قال : (أثارت هذه المذبحة الدموية النقد في بريطانيا)

    إستباحة أمدرمان: النهب والضرب والإذلال:

    قال بابكر بدري: ( قاسينا متاعب كثيرة في أيام إباحة المدينة الثلاثة للعسكر حيث كانوا يدخلون المنازل فيأخذون ويأكلون منها ما رأته عيونهم ووصلت إليه يدهم ومن عارضهم فلا نعلم ما يحل به ومهد لهم ما ذاع من الأخبار المبالغ فيها من القتل والضرب المبرح الذي لا يقل عن كسر عضو أو أعضاء فاستسلم الناس)

    السخرة:

    وبعد انتهاء مدة الاستباحة بدأت السخرة وهي أخذ المواطنين بالقوة ليعملوا على تسوية الشوارع وإزالة الأوساخ وغيرها من أعمال الحكومة بغير أجر ودون تحديد زمن معين يمكن الناس من القيام بأعمالهم التي يتعيشون منها.

    فظائع الحكم الثنائي وقمعه: السجن وظروفه

    ولئن افترضنا جدلاً أن ذلك العنف أثناء المعارك كان مبرراً أملته عوامل الحمية وسَوْرة الغضب وفورته، فيصعب تبرير ذلك السلوك الوحشي الذي استمر لأكثر من أربعة عقود ضد المهدية وقادتها ومؤيديها.

    ففي دراسة لبروفيسور حسن أحمد إبراهيم عن السيد عبد الرحمن المهدي والمهدية الجديدة في السودان (1899-19569) تمر علينا الحقائق الآتية:

    ( فعل ونجت الحاكم العام وسلاطين المفتش العام ما بوسعهما لسحق أنصار المهدية بكل أدوات القمع المتاحة وبعد أن أبرق ونجت زوجته فرحا ومعلناً إنتهاء المهدية اتضح له أن جذوتها بقيت حية فكتب مطالبا بالتعامل الحاسم والقوي معها. لذلك اختط هو وسلاطين سياسة قاسية من القمع وعدم الاعتراف لاستئصال المهدية استهدفت الأمراء وأسرهم لتحطيم القيادة الروحية والسياسية للأبد.

    تم سجن أمراء المهدية برشيد مع الأسرى السابقين في مكان غريب عليهم وفي مناخ شديد الرطوبة دمر صحتهم، ونسبة لسوء الأحوال الجوية وسوء أوضاع السجن توفي بعض الأمراء في السجن فتم نقل أهم 28 أميراً مع عوائلهم إلى دمياط في نهاية 1901، بينما تم نقل 23 أميراً يلون الأوائل في الأهمية إلى حلفا. وألحق بهم 5 من الذين قاموا بثورات أو عصوا أوامر الحكومة وهم علي عبد الكريم ومحمد الزاكي وعلى أبو القاسم والشريف آدم عبد الرحمن وابراهيم الترجماوي قاضي الإسلام السابق في عهد الخليفة.

    وقادت ظروف السجن السيئة لاحتجاجات من الوطنيين المصريين والليبراليين البريطانيين حيث كُتبت مقالات في الأهرام والمنبر واللواء والمؤيد تنوه بسوء أحوال الأسرى وكيف أنهم يعيشون أوضاعاً قاسية ويعاملون معاملة غير إنسانية.

    وكتب عضو البرلمان عن حزب الأحرار بريلسفورد والذي زار سجن دمياط في 25 مارس 1908 وقابل السجناء كتب مقالات مشابهة في الديلي نيوز والنيشن وظل هو وأعضاء البرلمان من الليبراليين يساءلون البرلمان عن صحة الأسرى ويطالبون بإطلاق سراحهم.

    ظل الأسرى مقيدين بالسلاسل على أرجلهم حتى 1909 ( عشر سنوات وأكثر لبعضهم) حيث تم فكها عنهم ما عدا عثمان دقنة.

    وإثر الحملة المصرية والبرلمانية البريطانية المحرجة تم إطلاق سراح بعضهم مع بقائهم تحت المراقبة.

    وفي عام 1908 تم نقل كل سجناء دمياط إلى حلفا عدا عثمان دقنة الذي اُلحق بهم في نهاية السنة وذلك بغرض إبعادهم عن أعين الصحافة الوطنية المصرية وأعين أعضاء البرلمان البريطاني.

    تم إبعاد أبناء المهدي وخلفائه لمصر لتعليمهم تعليماً حرفياً غير ديني لقطع الطريق على قيادتهم الدينية ولإدماجهم في النظام الجديد. تم نفي بعض الأسر إلى عطبرة. وفي زيارة الملك جورج تم إطلاق سراح بعضهم مع بقائهم تحت الإقامة الجبرية في أمدرمان. تم إطلاق بعض السجناء مع شرط وجود ضامن لهم مع الاقامة الجبرية.

    في 1916 بقي في السجن علي عبد الكريم وعثمان دقنة إلى وفاتهما. توفي علي عبد الكريم في السجن عام 1941 كأطول مدة يقضيها سجين سياسي في العصرالحديث. أما عثمان دقنة فقد بقي في السجن تحت حراسة جنود مصريين يتم تغييرهم باستمرار. وفي 1924 سُمح له بالحج والاقامة بمكة ولكنه رفض فذهب إلى الحج وعاد ليموت في السجن 27 ديسمبر 1926. و قد قامت حملات لإطلاق سراحه بعد مرضه في السجن دون جدوى .(إذ كان مبلغ حقدهم عليه عظيماً وكان شموخه أعظم من ذلك.وهذا تعليق مني وليس من تلخيص الكتاب).

    وفي عام 1919 ( أي بعد عشرين سنة) قسمت الحكومة السجناء الأنصار إلى ثلاث فئات:

    الأولى من 77 شخصاً سمح لهم بالعيش في أي مكان

    الثانية من السيد عبد الرحمن المهدي و19 أميراً بالإضافة لأفراد أسر المهدي والخليفة : يبقوا تحت المراقبة الخاصة وعليهم التبليغ الراتب للبوليس.

    الثالثة مجموعة المتطرفين : وهولاء بقوا في السجن.

    تم إسكان أسر المهدي والخلفاء الثلاثة قرب "الضابطية" لتسهيل المراقبة. كانت الحكومة لا ترغب بسكنى بعضهم بأمدرمان ولكن حكام بعض الاقاليم رفضوا استقبالهم لخوفهم من حدوث إضطرابات بمناطقهم. تم اسكان بعضهم بأماكن نائية كالمخيلف ريفي الجبلين لأبناء الخليفة عبد الله والخليفة شريف.

    ويخلص الكاتب إلى أنه ورغم سجن الأمراء والقادة والقمع المستمر والحظر وحرمان الأنصار من القيادة الروحية والسياسية لكن الحكومة فشلت في كسر التمسك بالمهدية واعتقاد الناس بها وإطفاء جذوتها من النفوس. قال غابريل واربيرق عن ميل السودانيين للمهدية ورفضهم للغزو : ( لاشك أن الأغلبية الساحقة من السودانيين المسلمين يفضلون أن يحكم بلدهم مسلمون بدلاً عن البريطانيين الكفار أو حتى المصريين المسلمين ولكنهم كانوا حذرين) وقال ( قاد خطر عودة المهدية صناع السياسة في السودان في كل أوجه الإدارة لا سيما في مجال السياسة الدينية. كان العامل الحاسم في السياسة الدينية التي وضعها ونجت وسلاطين هو أنهما أدركا حقيقة أنه بينما تم هزيمة المهدية في ميدان المعركة إلا أنها احتفظت بشعبيتها ومحبتها وسط قطاع كبير من السكان)

    قمع الانتفاضات بالقسوة المفرطة:

    وقد مثلت الانتفاضات المهدوية دليلاً شاخصاً على ذلك التمسك وتلك الروح التي لم تنكسر رغم فارق السلاح الهائل وأضاف قمعها نماذج أخرى للوحشية:

    • قُتل الخليفة شريف والفاضل والبشرى وأثقلت جثثهم بالحجارة ورميت في النيل. وعن بقية أبناء المهدي قال السيد عبد الرحمن وكان هو ممن أصيب برصاص الانجليز في الشكابة: (لقد كانت المعاملة في رشيد قاسية جدا وكان البرد وسوء الكساء والغذاء أسبابا في القضاء على جميع أخواني الأسرى فقد قتلهم السل واحدا فواحد ولم ينج إلا الطاهر المهدي الذي مات بحلفا متأثرا بالعلة التي أصابته أثناء الأسر برشيد وعلى المهدي الذي عاش حتى توفاه الله عام 1945م.)

    • شنق محمد الأمين قائد ثورة كردفان دون محاكمة أمام الجمهور بالأبيض. قال الحاكم العام بالإنابة الكولونيل ناسون : ( قد يكون الحكم قاسياً دون ضرورة ولكن أشعر أن تأثيره سيكون مفيداً على البلاد)

    • (الفكي السحيني، فقد شنق علناً . إلا أن مؤيديه تجمعوا حول نيالا. إزاء هذه التطورات الخطيرة، أرسلت الحكومة حملة عسكرية قوية طافت جنوب دارفور واعتقلت أعداداً كبيرة من المواطنين وحرقت منازلهم واستولت على ماشيتهم وصادرت ممتلكاتهم. وهكذا، وبحلول مايو 1921 م، أدت هذه المجازر والأساليب الوحشية إلى هدوء الأحوال نسبياً في دار مساليت) .

    • عبد القادر ود حبوبة:

    وقد تم اعدامه بعد محاكمة سريعة ايجازية لا دفاع فيها ولا استئناف وعلى يد قاض مدني لا معرفة له بالقانون الجنائي وتم شنقه في يوم الأحد وهو يوم لا يسمح القانون الانجليزي السائد وقتها بتنفيذ الاعدام فيه كما أورد د. حسن نقلاً عن أحدهم في كتابه مما جعله يستنتج من القسوة والإسراع بالعقوبه : (أن الحكومة كانت معنية بالانتقام أكثر من العدالة ).

    كذلك شنق ومعه عدد من الثوار وقد أثارت الأحكام القاسية على أتباعه الرأي العام البريطاني إذ قامت احتجاجات واسعة على إعدام حتى من لم يشارك في القتل وكذلك تمت مصادرة الأموال وهي تخص الورثة كما قال المحتجون: ( وتحت ضغط من أسمتهم الحكومة البريطانية بالبرلمانيين العاطفيين قالت إن العقوبة يجب أن تكون بعد محاكمة عادلة وأن يتم إعدام من شارك فعلياً في القتل .... وأن يحكم المشاركون الآخرون بالسجن والمصادرة وأصرت الحكومة أن تُخطر قبل تأييد أي حكم بالإعدام . وإحتجاجاً على ذلك قدم سلاطين إستقالته محتجاً بأن قانون الرحمة هذا سيفتح الباب لتكرار الانتفاضات. وتحت رجاءات ونجت الذي قال أنه يتفق معه سحب سلاطين إستقالته)

    ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة.

    هذا وقد تعاملت الحكومة البريطانية مع السيد عبد الرحمن بالتضييق والشك ولم تتحول تلك السياسة إلا في أوقات قليلة حبنما احتاجوا لنفوذه وشعبيته إما في مقاومة الدعاية التركية أو في تهدئة الانتفاضات المهدوية والحركات العيسوية الخ.

    وقد دفع كل من تبنى سياسة مرنة تجاه الإمام عبد الرحمن ثمن ذلك ومنهم: شارلس آرمين ويليس رئيس المخابرات آنذاك والذي كان من أنصار مصالحة الحكومة مع الأنصار وفوائدها للطرفين، فقد تم عزله ثم نفيه لأعالي النيل. ومنهم جيفري آرشر الحاكم العام نفسه والذي زار الجزيرة أبا في 14 فبراير 1926 فقوبل بموقف متشدد من مجلسه ( مجلس الحاكم العام) وأُجبر على الاستقالة.

    القمع الديني:

    السياسة الدينية للحكم الثنائي: إكمال ما بدأته الآلة العسكرية في محو المهدية ونقضها:

    تلخص ورقة كتبها الاكاديمي نوح سالومون السياسة الدينية البريطانية أفضل تلخيص لا سيما إسمها.

    رأت الورقة أن دراسة التبشير في الحقبة الإستعمارية إنصبت على قضية إستجلاب دين أجنبي وزرعه ونشره بين السكان ولكنها أهملت الطرق التي سعت بها الإدارات الإستعمارية "لإصلاح" الأديان المحلية نفسها للتوافق مع أهدافها الإدارية والأمنية. وأوضح الكاتب أن ورقته ستناقش كيف تبنّت الإدارة البريطانية وروجت لنمط معين من الإسلام السني الرسمي على أمل أن يكبح نفوذ الحركات العيسوية والصوفية في أوساط السكان المحليين وكيف أن السياسة الدينية إنبنت على قمع المهدية ونقضها ومحو آثارها وتدمير البيئات التي يمكن أن تعيدها أو تعيد إنتاجها.

    فمن ملامح السياسة الدينية البريطانية في السودان وضع إطار نظري يخرج المهدية من الاسلام ويصنفها كحركة مهرطقة زنديقة ويتبع ذلك قمعها ومنع رموزها وطقوس عباداتها وتجمعات أنصارها لأداء شعائرها ويمنع زيها وما يدل عليها. وأكثر من ذلك تتبنى تلك السياسة الهجوم على التصوف باعتباره البيئة التي خرجت منها المهدية إضافة لذلك تعتبره خطراً لاعتماده على الجهد الشعبي في تسيير أعماله وعدم خضوعه لسيطرة الحكومة ومن ثم تبنت سياسة التضييق عليه وعلى مؤسساته التعليمية وخلقت في المقابل مؤسسات تعليمية مركزية خاضعة لسيطرة الحكومة ومؤسسات رسمية تتبنى ذلك النمط الجديد من الاسلام الرسمي الذي يتعايش مع المستعمر وسياساته.

    قال صاحب الورقة:

    (ومنذ الأشهر الأولى للإحتلال تم جهد منسق لتطهير السودان من أي أثر للمهدية... ويمكن قراءة إستخفاف كتشنر الوحشي بالطائفة التي اتبعت المهدي كخطوة إبتدار لحملة الستة عشر عاماً للقضاء على المهدية وتشجيع نمط جديد من المذهبية السنية الرسمية) (إستخدم البرنامج عدة تاكتيكات: من السحق الجسدي لأنصار المهدي النشطاء وأنصار المهدية الجديدة أو المجموعات الصوفية الأخرى موضع الشك، إلى محاولة إنشاء مؤسسات شعر البريطانيون أنها تمثل شكلاً صحيحاً من الإسلام ولكنهم قصدوا أيضاً أن يكون شكلاً يمكن حكمه بسهولة أكثر)

    وردّ صاحب الورقة على إدعاء كتشنر أن السودانيين يعتبرون المهدية خارجة عن الاسلام السني فقال:

    ( ولا بد أن كتشنر كان يعلم جيداً أنه كان هناك أناس في السودان يقولون عن أنفسهم أنهم مسلمون ولا يزالون مساندين نشطاء للمهدية، بما أنه كان يعمل بجد لقمع تنظيماتهم في الشهور التي أعقبت الغزو) وقال معضداً: ( شكل الأنصار قطاعاً كبيراً من السكان، وفي السنوات التي أعقبت الغزو كانوا أتباع إبن المهدي، السيد عبد الرحمن ( هولت ودالي 2000:111). إن الزعم أن المهدي كان يُعتبر مهرطقاً ( زنديقاً) – لدى السودانيين - أمر مُشكل بنفس القدر حيث أنه لم ينل فقط سنداً عريضاً بل أن صعوده واحتلاله لمنصب المهدي كانت له سوابق في المعتقد السني وفي حركات مشابهة على طول شمال إفريقيا والشرق الأوسط (هولت 1958: 21-23)

    وعن قمع للانصار وكبت حرياتهم الدينية قال:

    ( بالإضافة لتدمير قبة المهدي فقد منع البريطانيون الزي المهدوي، الجبة المرقعة الدالة على الزهد وأرسل الذين قبضت عليهم وهم يرتدونها للأعمال الشاقة، وأكثر من ذلك فقد منعوا التجمعات المهدوية للصلاة وقراءة الراتب – كتاب الأذكار المهدوي- في العلن "دالي 1986:121 )

    وطال التضييق الطرق الصوفية حيث نظر الإدارة البريطانية بالسودان (للإسلام الصوفي والعيسوية السودانية ليس فقط كتهديدات للحكم البريطاني في السودان، ولكن أيضا باعتبارها مسيئة للغاية للمشاعر الفيكتورية للمسؤولين البريطانيين ولِما كان ينظر إليه على أنه العلاقة الصحيحة بين المستعمر والمستعمر)

    كتب ونجت لكرومر في 13 يونيو 1901:

    ( ولكن ما لم تتخذ بعض الخطوات فإن هذه الطرق – يعني الصوفية- يمكن أن تصبح مصدر مشاكل في المستقبل)

    وهذا نفس رأي أحد حكام الاقاليم وأحد واضعي السياسة الدينية (براون) حاكم بربر في العشرينيات وعضو الخدمة السياسية منذ 1902 وما بعدها.

    وصاحبت مشاعر الخوف نظرة احتقار وتشويه قال سولومن : (( وبالنسبة لبراون – حاكم بربر - فإن الصوفية بطبيعتها عنيفة ومتطرفة ومملوءة بالكراهية. فالشيوخ ليسوا مخادعين وعدائيين للحكم البريطاني فقط وإنما لمواطنيهم كذلك) وعن إحتقاره للصوفية كتب براون: ((الإحتفال المسمى الذكر، أعتقد أنه مخالف للإسلام الصحيح، ولكنه في هذه البلاد وسيلة لإثارة الحماس الديني المشترك، مشهد شيطاني وضيع مع مزيج من الوحشية والشهوانية والتي كثيراً ما توجد في الدين العاطفي، تخلط به الإثارة البهيمية اللاإنسانية نفسها بالفناء في المعبود مع إستسلام الروح الذي يمنح إسمه للإسلام. ) فكان طبيعياً أن يطالها القمع: (( ومع ذلك لم يقتصر القمع البريطاني للجماعات الدينية على المهدويين. فقد اعتُبرت الجماعات الصوفية خطراً باستثناء الختمية والتي عارضت مباشرة المهدي، وقد فعل البريطانيون كل ما في وسعهم لإعاقة ظهورها مرة أخرى)

    كتب كتشنرمذكرة لمديري الأقاليم:

    ( من أراد من الناس الدراسة الدينية فيجب عليه فعل ذلك في العاصمة حيث سيتم إنشاء مدرسة تحت الرقابة المحكمة، وسيتم إعادة إنشاء المساجد في المدن الرئيسية ولكن المساجد الخاصة والتكايا والزوايا وقبب الشيوخ الخ. لا يمكن السماح بإعادة تأسيسها لأنها بصفة عامة شكلت مراكز للتطرف والإنحراف عن الإسلام. وأي طلب للإذن بأي أمر من الأمور أعلاه يجب أن يحول للسلطة المركزية).

    وعن خلق المؤسسات البديلة :

    (يجب إبدال الإسلام الذي تنتشر مقاعد قيادته ومنابر تعليمه عبر القرى والمدن والذي كان معلموه هم شيوخ الطرق الصوفية بسلطة مركزية واحدة ومقعد تعليم رسمي واحد في العاصمة تحت رقابة السلطات البريطانية وإدارتها غير المباشرة)

    وتم إنشاء مجلس علماء السودان ليكون حارساً للإسلام الرسمي. وعلق صاحب الورقة على مجلس علماء السودان قائلاً:

    ( الوظيفة الأساسية لمجلس العلماء لم تقتصر على إيجاد نوع معين من الإسلام الرسمي ولكن أيضاً محاربة الإسلام الشعبي)

    ثم لاحظ الكاتب المفارقة الطريفة الآتية وهي أن الحكم البريطاني قد فارق كل أسس العلمانية في تعامله مع المهدية والصوفية وفي سياسته الدينية بينما كانت الدولة العثمانية التي تسربلت بالدين في مواجهة المهدية ، كانت قد تخلت عن القوانين الاسلامية وتبنت القوانين الاوربية: قال:

    ( تفترض أطروحة العلمانية:

    1. فصل الدين عن السياسة والاقتصاد والعلوم

    2. خصخصة الدين في مجاله الخاص

    3. تناقص الأهمية الاجتماعية للمعتقدات الدينية

    ولكن حينما ننظر للنموذج البريطاني في السودان نجد أن كلاً من مواصفات "فان دير فير" الثلاث المذكورة أعلاه لا تنطبق عليه. فخصخصة الدين هو بالتحديد ما كان يخشاه البريطانيون لأن هذا يعني إسلاماً خارج سيطرتهم. وبدلاً من ذلك حاول البريطانيون خلق إسلام جديد ليزيح إسلام الطرق الصوفية والعيسوية المحبوب في السودان.)

    ( وفي عكس مثير للإهتمام للأطروحة العامة للعلمانية حيث يفترض في الحكومة العلمانية أن تشجع خصخصة الدين قال كتشنر ان المؤسسات الدينية الخاصة هي التي تشكل أعمق خطر على السودان)

    وعن علمانية الدولة العثمانية قال:

    ( أخيراً، فإن أهم تجديد في العهد التركي- المصري كان تبني إصلاحات التنظيمات العثمانية في 1850. تبنت هذه الإصلاحات القوانين الأوربية العلمانية للتعامل مع القانون التجاري والجنائي بينما حصرت سلطة القوانين الإسلامية على قضايا الأسرة والأحوال الشخصية) إنتهى الاقتباس من الورقة.

    والشاهد أن الدولة العثمانية لم تأخذ من الخلافة إلا اسمها حيث أضطرت تحت ضغط التكالب الأوربي عليها إلى الرضوخ له والتخلي عن كل ذاتية أو استقلال. فقد بلغت من الضعف مبلغاً سميت لأجله رجل أوربا المريض وخشي الأوربيون موتها المباغت فتفاوضوا على تقاسم تركتها. وتدخلت الدول الأوربية في شؤونها بحجة حماية الأقليات المسيحية التي تسكن داخل الدولة العثمانية فتذرعت فرنسا بحماية الكاثوليك وروسيا بحماية الأرثوذوكس وبريطانيا بحماية البروتستانت ، فإضطرت تركيا العثمانية إلى إصدار قوانين لحماية الأقليات ثم قوانين تحاكي القوانين الأوربية فأصدرت التعديل القانوني المسمى ( خط شريف كولخانة في 1839) ثم (خط همايون في 1856) ثم الدستور في 1876 وقد علق كاتب على الدستور قائلاً: (النقطة الهامة التي تستوجب الاهتمام هنا هي ان الدستور لا يستخدم لقب “خليفة” عندما يرد ذكر رئيس الدولة، بل يستخدم لقب “سلطان”. وفي حين يتضمن لقب “خليفة” مغزى دينيا واضحا، لا يتضمن لقب “سلطان” اي مغزى ديني، لا واضح ولا غير واضح) .

    وكل هذه الخطوات عرفت بمرحلة التنظيمات وخلاصتها تبني القوانين الأوربية العلمانية وحماية الأقليات المسيحية.

    الهوامش:

    مذكرات العتباني سابق

    هولت ص 87

    نفسه ص 42

    شقير ص 301-303

    د.حسن أحمد ابراهيم الحركة الوطنية السودانية (1899 - 1956

    انظر ونجت سابق

    يوشيكو كوريتا: ص 48

    د. محمد أحمد اسماعيل المقدم: المهدي ص 509

    زلفو كرري ص 546- 547

    د. محمد المصطفى موسى: في ذكري معركة كرري: شهادات منقولة عن مراسلي صحف عالمية شهيرة من ارض المعركة

    http://sudanile.com/index.php…http://sudanile.com/index.php…

    هولت ص 272

    بابكر بدري حياتي ج 2 ص 3

    نفسه ص 3

    Hassan Ahmed Ibrahim, Sayyid ʻAbd Al-Raḥmān Al-Mahdī: A Study of Neo-Mahdīsm in the Sudan, 1899-1956 p 13

    بقي السيد عبد الرحمن تحت الإقامة الجبرية حتى عام 1923 حيث سمح له ولأول مرة بزيارة الجزيرة أبا

    Gabriel R. Warburg, , Islam, Sectarianism and Politics in Sudan since the Mahdiyya. London: C. Hurst and Co pp 75-76

    نفسه ص 74

    جهاد في سبيل الاستقلال مذكرات السيد عبد الرحمن المهدي http://www.umma.org/umma/ar/page.php؟page_id=238http://www.umma.org/umma/ar/page.php؟page_id=238

    Hassan , ibid

    د. حسن سابق

    Hassan ibid

    ذكر د حسن في ورقة أخرى أن ثورة نيالا قادت لتقويض السياسة المتساهلة التي سار عليها "وليس" وإبدالها بسياسة متشدة تم فيها سحب مناديب السيد من كردفان ودارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأبيض ومنع جمع الزكوات بواسطة الوكلاء وتفريق تجمعات سكان الغرب بالجزيرة أبا وكانت النتيجة النهائية هي السقوط المأساوي لوليس وتعيين ديفيس

    Mahdist Risings against the Condominium Government in the Sudan, 1900-1927

    Hassan Ahmed Ibrahim

    The International Journal of African Historical Studies

    Vol. 12, No. 3 (1979), pp. 440-471

    Noah Salomon op.cit

    ولو يدري صاحب شوق الدرويش أن الحكم البريطاني قد حارب الصوفية ونظر إليها كخطر لأنها أفرخت المهدية في نظره بل لقد قامت سياسته الدينية كما هو معروف على غرس دين رسمي وهذا من المعروف المتفق عليه بين مؤرخي السياسة الدينية البريطانية أثناء الحكم الثنائي

    فريد اسسرد : المفهـــوم العثمانـــي للعلمانيـــة صحيفة الاتحاد

    http://www.alitthad.com/paper.php…http://www.alitthad.com/paper.php…

                  

03-20-2016, 04:04 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة السابعة عشرة

    الفصل الثاني

    أثر الإستعمار السالب على الجسم السياسي السوداني في مقابل محاولات المهدية التوحيدية:

    وضعت فظاعة الغزو التركي المصري وتفوق السلاح الناري القوى الاجتماعية والأجسام السياسية السودانية أما خيارات تراوحت بين المقاومة، والفرار والابتعاد عن سطوته، وقبول الأمر الواقع على مضض، والخضوع والتعاون.

    كانت أول الأجسام السياسية القوية التي واجهت الغزو التركي واستبسلت في مواجهته هي مملكة الشايقية فخطّت صفحات مضيئة من البطولة والإباء حال إختلال ميزان القوى العسكري بينها وبين النصر. فعمل الحكم الغازي على تكسير كل إمكانات المقاومة في تلك المملكة الفتية فعمل فيها قتلاً وقهراً، ثم عمل على تجريدها من أدوات الحرب وأهمها بلا شك الخيل فصادر كل خيول المملكة وسكانها. وإضطر قسم كبير من أبناء المملكة للخضوع والعمل تحت إمرة الجيش الغازي، فإضطروا إلى تنفيذ سياساته القمعية الظالمة، فهذا على سبيل التمثيل. واضطر قسم كبير من القوى الاجتماعية الأخرى للفرار والهجرات الجماعية كما ذكرنا آنفاً مستشهدين بعديد المؤرخين. بينما بقيت البقية الباقية تحت حكومة الأمر الواقع حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

    هذا بينما تعاملت بعض قيادات القبائل كقادة الكبابيش وبحكم موقع القبيلة في طريق التجارة مع مصر ، تعاملت مع الحكم الجديد فارتبطت مصالحها بالنظام الجديد. وكعادة النظم الغازية فإنها تصطفي مجموعات تتعامل معها لتمكين سيطرتها على البلاد المفتوحة، اصطفى النظام الجديد الطريقة الختمية على سبيل المثال وتعامل معها ومنحها ميزات تفضيلية على الطوائف الأخرى وهكذا.

    فلما اعتملت عوامل الثورة واكتملت ، وهبّت الغالبية الساحقة من أبناء السودان ضد الحكم الغازي في ثورة شاملة تجمع لأول مرة تلك المكونات الاجتماعية في منظومة واحدة ، وجدت القوى المرتبطة بالحكم الجديد نفسها في خندق واحد معه.

    ورغم بذل الثورة الجديدة وقائدها كل جهد لتوحيد السودانيين واستخلاص المتعاونين مع النظام السابق منه وفتح باب التسامح أمامهم بل وفتح الباب لهم للإسهام في العهد الوطني الجديد، لم يكن هناك بدّ من تواصل ذلك الانقسام.

    صحيح أن الأغلبية الساحقة ناصرت الثورة، وصحيح أن كثيراً من عامة الناس في تلك المجموعات القبلية والدينية المرتبطة بالنظام الغازي قد انضمت للثورة بل صاروا من قادتها . وصحيح أن أغلبية من سيروا الدولة الوطنية الناشئة كانوا ممن عملوا في العهد التركي، وصحيح أن كثيراً من قادتها العسكريين كانوا أيضاً قادة في الجيش التركي السابق ولكن بذرة الانقسام السياسي الخبيثة كانت قد وضعتها حوادث الغزو التركي وتبعاته.

    أيضاً من ثمار الحكم التركي المرة وآثاره السالبة نشره تجارة الرقيق بين السودانيين. لا أحد ينكر أن تلك التجارة القبيحة المنتنة قد سبقت العهد التركي ولكن سياساته القصدية قد روجت لها ترويجاً ذكرناه في حديثنا في الفصل المتعلق بالرق.

    أيضاً من ثماره الخبيثة على الجسم السياسي السوداني : صيده الرقيق ونزعهم عن بيئاتهم الاجتماعية والقبلية وإلحاقهم بالجيش كآلات عسكرية صماء، هذه الكتلة الاجتماعية منزوعة الهوية صارت مشكلة سودانية فقد تم قطعها عن جذورها الاجتماعية فلم تعرف لها إنتماءاً إلا الحكومة الغازية التي سخرتها لتنفيذ مطامعها الاستعمارية وللدفاع عن إمبراطوريتها في وجه الانتفاضات الوطنية وهذا وضع قلّ أن نجد له مثيلاً في حركات التحرر، فالغالب أن تحارب تلك الحركات المستعمر وجنوده من أهل البلاد الغازية ولكن في وضع السودان كان على الثورة أن تقاتل ضد هؤلاء. وبالرغم من السياسة الحكيمة التي تبنتها الثورة وقائدها في استيعاب هؤلاء في قوات الدولة الوطنية وفتح باب الترقي السياسي لهم بصعودهم لمقعد القيادة العسكرية وفتح باب الترقي الاجتماعي لهم، إلا أن مشاركتهم كانت احترافية عكس مشاركات جموع الشعب السوداني الذي كان مستقراً بالبلاد وهبّ عن طواعية إما إقتناعاً بأيديولوجية الثورة أو بغرض التحرر من طغيان الحكم الغاشم الأجنبي أو نكاية في أذياله الذين استغلوا قربهم من النظام لتحقيق مصالح ذاتية على حسابهم، أو لمجرد الحمية الوطنية وإعجاباً بروح التحدي والفحولة والشجاعة وقيمها في مناهضة الصلف الأجنبي.

    وبالطبع هناك مجموعة إلتحقت بالثورة بعد تأكد ظفرها وهم الذين أسماهم محمد أبو القاسم حاج حمد الملتحقين بالمهدي المنتصر. وهناك من التحق بالثورة وقلبه مع النظام القديم ومصالحه الضائعة. ولكن هذه الأنواع على تعددها لم تكن متساوية في أعدادها فقد أوضحت الدراسة التفصيلية عن كاريزما القيادة في الاسلام والتي استعرضناها في فصل سابق أن الأغلبية الساحقة شاركت عن قناعة وبقيت على ولائها إلى آخر يوم في الدولة، وبرهنت الانتفاضات المهدوية بقاء الولاء إلى ما بعد سقوط الدولة كما برهن إلتفاف الحشود الضخمة تحت راية المهدية بقيادة إبن المهدي ذلك التجذر في الولاء.

    أما قضية الجهادية السودانية (الرقيق السابق في الجيش التركي المصري ) فقد ناقشناها وناقشنا بعض جوانبها السالبة.

    أما القلة التي اندست وسط جموع المؤمنين بالثورة فقد اشتكى منهم المهدي نفسه في مرحلة مبكرة حتى قبل فتح الخرطوم حيث قال في خطاب لعبد الله عوض الكريم أبو سن: ( ومعلوم عند العارف ما جرى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الذين يُنسبون ويفسدون. ولولا أولاد الحرام وكلاب الدنيا الذين يتداخلون مع أنصارنا لقام الدين. ولكن لله في ذلك حكمة فلنفوض الأمر له مع الاجتهاد في إزالة كل سوء حتى يقوم الدين فكونوا أعواناً في ذلك)

    وبالعودة إلى أثر ذلك الانقسام السالب في الجسم السياسي فحينما تم الاحتلال الثاني للبلاد تبنت الإدارة الغازية كثيراً من السياسات السابقة للمهدية حيث تم النظر للمهدية كتمرد طاريء على الحكم التركي المصري تم القضاء عليه، وكان من بقية ذلك تبني نفس القوى التي ناصرت التركية وحاربت المهدية. كما أن الجهادية الذين جاءوا مع الجيش الغازي تم تشكيل هويتهم بعيداً عن الولاء الوطني فصار ولاؤهم الأول للجيش المصري الذين هم قوامه.

    وقد مررنا على حادثة تمردهم في الأبيض على عهد المهدية وإعلان ولائهم للخديوي. وقد أوضحت يوشيكو كوريتا في كتابها ( علي عبد اللطيف وثورة 1924) الخلفية الاجتماعية والسياسية لمن أسمتهم بالزنوج المنبتين قبلياً ودورهم في تاريخ السودان. وقدمت دراسة نقدية اجتماعية سياسية لجمعية اللواء الأبيض وتحدثت عن جذورها وارتباطها بمصر. وقد كانت كوريتا واعية بما يمكن أن تثيره تلك الدراسة في الضمير الوطني السوداني لذلك صدّرت آراءها بمقولة مهمة حيث قالت : (وقد يجرح هذا من ثمّ مشاعر الناس الذين ما يزالون يعزّون ذكرى هذه الحركة الوطنية ، لكن يجب أن نبدأ من إدراك نقائص الحركة الوطنية وليس فقط تمجيدها إذا أردنا التفكير بجدية في مسألة الوطنية) .

    قالت كوريتا فيما يتعلق بالحركة – ونحن نذكر ذلك ولا زلنا نتحدث عن الأثر التركي المصري في انقسام الجسم السياسي السوداني- وأنا هنا ألخص باقتضاب بعض ماجاء في الكتاب:( جاء في النظام الأساسي للجمعية : يرمز الأبيض إلى القانونية والسلمية والاعتدال، ...(5) الأهداف: توحيد السودان مع مصر وإجلاء بريطانيا عن السودان. (6) ومع ذلك، هذه المنظمة ليست معادية للحكومة الراهنة التي تحكم السودان من الناحية القانونية طبقاً لاتفاقية 1899 الانجليزية المصرية. (7) الإجراءات اللازمة للوصول إلى الأهداف: أفعال الإحتجاج بهدف مساعدة مصر في المفاوضات) .

    وترى كوريتا ( أن اللواء الأبيض هي جمعية كونت كتنظيم يساعد مصر وهي منظمة تشكلت على إفتراض أنها قد فوضت سلفاً حقوقها في التمثيل إلى مصر ص 33). وفي مظاهرة 26 يونيو 1924 تم رفع العلم الأخضر ( علم مصر) وكانت أكثر الشعارات إنتشاراً بين المتظاهرين هي: "يعيش الملك فؤاد ملك مصر والسودان" و" يعيش سعد زغلول". وتحدثت الكاتبة عن عزلة الحركة الجماهيرية وعن عدم تعبيرها عن نبض الشارع السوداني في عدة مواطن فقالت: ( وربما يعود هذا بالطبع إلى الطبيعة المحدودة لجمعية اللواء الأبيض التي لم تستطع كمنظمة أن تستجيب بفاعلية لتطورات 1924 الواقعية) وقالت: ان استراتيجية تفويض الحقوق إلى الآخرين – مصر – قد آلت إلى الفشل وقد حالت دون تعاون الجمعية مع قوى مختلفة داخل المجتمع وبالتالي دون تطورها إلى حركة شعبية فعالة ص 35) . وقد عرفت الحكومة المصرية جميل حركة اللواء الأبيض وحفظته لها: ( أمر – محمد نجيب – بترحيل جثمان علي عبد اللطيف من المقابر العادية التي دفن فيها إلى مقابر الشهداء وأقيم حفل تأبين كبير له دُعيت له العازة. لقد كرمت الحكومة المصرية ذكرى قائد جمعية اللواء الأبيض التي نادت بوحدة وادي النيل ومنحت زوجته العازة معاشاً استمرت تتقاضاه حتى وفاتها في 1987 ص 84). قال الدرديري محمد عثمان وهو أحد أعضاء الجمعية: ( كانت حركة اللواء الأبيض أساساً من صنع المصريين. هم الذين ألقوا بالفكرة في أذهان السودانيين فعمل السودانيون على تكوينها والمصريون هم الذين هيئوا لها الجو وهم الذين عضدوها بنفوذهم ومساعيهم ودعاياتهم وأساليبهم في التنظيم والتكتيك والتدبير)

    وأضاف الحكم الثنائي إنقساماً أخطر بتبنيه سياسة المناطق المقفولة وحصره التنمية في مناطق الجدوى الاقتصادية فقط وحصره التعليم أيضا في مناطق محددة وبغرض محدد هو تفريخ كادر يساعد الادارة الاستعمارية مما انتج انقساما حاداً بين شمال السودان وجنوبه وانقساما في معدلات التنمية ومستوياتها : التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهذا موضوع يطول الحديث عنه ويخرج بنا عن سياق موضوعنا الأساسي.

    وسنعرض لمجهودات المهدية في توحيد السودانيين وبناء التماسك القومي في الباب الأخير من هذا الكتاب

    الهوامش:

    . مثل العطا ود أصول الذى استشهد في معركة النخيلة والأمير عمر ود تِرْحُو وبابكر ود نية الذي شارك في إخماد تمرد أبو جميزة الأمير أحمد الهِدَىْ و أحمد ود عكود وود عبود ، وأحمد ود الطيب وغيرهم من فرسان الشايقية وتنطبق تلك المشاركات على كل القبائل حتى التي اتخذ قادتها موقفاً مغايراً.

    أصدق مثال على مزاج الفحولة أبيات شغبة المرغومابية في ذم إبنها حسين واستنهاضه لترك حياة القراءة حينما عيرته بلين الملمس وضخامة البطن وترك القتال وغزل النساء ( بطنك كرشت غي البنات نافي دقنك حمست جلدك خرش ما في). وكلمات البقارية ( من قبائل البقارة رعاة الأبقار) التي قالت ما معناه إن كنت المهدي فبها وإلا فنتبعك من أجل فحولتك وفروسيتك.

    أبو سليم ج 4 ص 17

    ذكر رونالد لاموثي في كتابه السابق ذكره أنه يريد تحويل هؤلاء الجنود الذين وصفهم بأنهم آلات حربية لا تاريخية بدون وأسماء ولا وجوه إلى كائنات بشرية من لحم ودم واستشهد بحادثة فاشودة التي يذكرها التاريخ على أنها مواجهة بريطانية فرنسية ولكنه يذكر أن جل جيش كتشنر كان من السودانيين السود وان جنود مارشان كانوا من السود السنغاليين إضافة لجنود بلجيكا الكونغوليين والعمالة الاثيوبية من حمالين الخ فالشاهد أن هناك ذوات مسترقة مهملة تم محو انسانيتها وطمس هويتها.

    يوشيكو كوريتا سابق ص 20

    كوريتا ص 32 نقلاً عن سليمان كشة : اللواء الأبيض.

    الدرديري محمد عثمان سابق ص 50

                  

03-21-2016, 04:14 PM

حماد الطاهر عبدالله
<aحماد الطاهر عبدالله
تاريخ التسجيل: 06-29-2006
مجموع المشاركات: 2159

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    (الدرديري محمد عثمان سابق ص 50)....

    حبيبي الأنصاري ولد الأنصار......عمر عبدالله فضل المولى.......... تحياتي

    إنت آدم فضل المولي ... أخوك؟

    تابعتكم صفحة صفحة ونقلتها حتى بلغت 172 صفحة بالحجم المتوسط للخط (14) وإنتهت بالسطر عاليه.......

    ثم ماذا ..... إنتهى الكتاب أم هنالك بقية؟

    نسيت أقول ليك .... بارك الله فيك.......

                  

03-22-2016, 08:42 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: حماد الطاهر عبدالله)

    الحلقة الثامنة عشرة

    الفصل الثالث

    الاستعمار، والتبشير، والرق والمهدية

    الرق والاستعمار:

    من عجائب السياسة ومضحكاتها المبكية أن تكون واحدة من مبررات غزو السودان فرية محاربة الرق. والأكثر إيلاماً أن تكون القوى التي تريد محاربة الرق هي بريطانيا وتركيا ومصر.أما الحكم المصري التركي فما أتى للسودان إلا بحثاً عن الرقيق والذهب كما أوضحنا. ولم يكتف بذلك بل فرض على المواطنين في شمال البلاد تقديم أبنائهم للجندية أو فديتهم بآخرين فنشر مسألة شراء الرقيق بينهم وتقديمهم بدلاً عن أبنائهم كما ذكر المؤرخ السوداني محمد عبد الرحيم. وكانت حكومة التركية تعطي الجنود والضباط رواتبهم رقيقاً لا نقداً وكان المصري أبو السعود العقاد قائد أول معركة ضد المهدية كان تاجر رقيق (وشجعت سياسات محمد علي بتجنيد الرقيق في جيوشه لدرجة كبير تجارة الرق في السودان) أما بريطانيا فهي التي تولت كبر تجارة الرق في العصر الحديث، بل أول سفينة رقيق تجارية كان اسمها (The Good Ship of Jesus) أهدتها الملكة أليزابيث الأولى للسير جون هوكنز وهومبشر وأول تاجررقيق وقد قاد أول سفينة لتجارة الرقيق، ثم صارت الملكة شريكته فيما بعد.

    أدخل الأوربيون الرق إلى أفريقيا لاسيما شواطئها الغربية. قال غارودي: ( لم يكن الرق البتة طرازاً من طرز الانتاج قبل وصول الأوربيين إلى أفريقيا.) وقد لخص غارودي مثلث الرقيق كالآتي:

    (مختزل إقتصاد النخاسة هو ما يلي: تغادر سفينة ( انفرس ) أو (ليفربول) أو (بوردو) وهي موانيء البلاد الاستعمارية الكبرى وهي مشحونة بالدمى واللعب ثم تصل أحد الموانيء الإفريقية مثلاً في جزيرة ( كوره) وعندئذٍ تقايض سلعها التافهة بالعبيد وتقفل راجعة بحمولتها الجديدة حتى ترسي في ( الأنتيل) في أمريكا الشمالية وهناك يباع العبيد لقاء السكر والقطن أو التوابل)

    وفي مثل هذه الرحلات التافهة استطاعت أوربا اصطياد وبيع ملايين البشر غير القتلى ، قال غارودي : ( كل أسير كان يقابله بوجه عام عشرة أموات. فإذا قدرنا عدد العبيد المهجّرين بعشرة ملايين – وهذا العدد حد أدنى – فذاك يعني إفناء مائة مليون من البشر)

    ثم يوضح – وهو أصلاً أمر لا يحتاج لإيضاح- اعتماد الاقتصاد الأوربي في نهوضه في فترة ما على تجارة الرقيق وعلى جهدهم: فأغلب المصارف الكبرى والشركات مثل مصرف بريكلس وشركة لويدز كان أصحابها تجار رقيق، وكل النشاط العلمي والاقتصادي كان يمول من هذه التجارة مثل مخترعات أديسون وحتى أبحاث مالثوس صاحب نظرية السكان مولتها شركة الهند الغربية.

    ورغم دعاوى حقوق الإنسان والدساتير المكتوبة إلا أن ذلك لم يؤثر أصلاً على النظرة لتلك التجارة: ( فقد تكيف الدستور الأمريكي الموضوع في 1776 بصورة مريحة جداً مع هذا الرق الذي كان مصدر الإزدهار إلى ما يقرب من قرن من الزمان. واحترست الثورة الفرنسية من تطبيق مباديء الحرية والمساواة والإخاء على العبيد السود في الأنتيل)

    إلغاء الرق ضرورة إقتصادية لا وازع أخلاقي :

    لقد أُلغي الرق لأسباب إقتصادية وليست إنسانية، وقد لخص غارودي تغير أشكال الإستعمار بتغير الضرورات الإقتصادية وجدلية النمو في الدول الاستعمارية والتخلف في الدول المستعمَرة على النحو التالي:

    (وبعبارة ثانية إن النمو والتخلف عنصرا منظومة واحدة هي المنظومة الرأسمالية وإن تراكم رأس المال الأوربي ثم الانتاج الموسّع – الذي يسمى الآن نمواً- قد تطورا خلال مراحل عدة:

    • إبادة هنود أمريكا بدءاً من القرن السادس عشر، نخاسة العبيد السود التي أصبحت ضرورة لإستغلال المعادن وأراضي أمريكا التي قلّ سكانها نتيجة تلك الإبادة الجماعية.

    • ثم بدءاً من الثورة الصناعية التي جعلها التكديس أمراً ممكناً، لم يعد الاسترقاق يسمح بالإفادة من التقنيات الجديدة وان إلغاء الرق وبدء الحركة الاستعمارية بالمعنى الصحيح: أي السيطرة السياسية والعسكرية على افريقيا وعلى القسم الأكبر من آسيا لتأمين الاستثمارات ذات الريع الأعظم في الصناعة وفي التجارة وذلك بفرض السعر الأدنى على اليد العاملة والأسعار الأعلى للمنتجات المستوردة فرضاً بالقوة)

    هذه التطورات هي التي أدت إلى التخلي عن قوة الأيدي العاملة وكٌلْفتها والتحول لإستعمال قوة الآلة وإلى الهجمة الاستعمارية المباشرة. وتدليلاً على ذلك أورد غارودي ملاحظة مهمة حيث قال : ( ومن الجدير بالملاحظة أن البلدان الأوربية ألغت الرق بحسب ترتيب دخولها في نطاق الثورة الصناعية: إنكلترا أولاً ثم فرنسا الخ)

    وهنا تأتي المفارقة: كانت الذريعة المعلنة للدخول في المرحلة الاستعمارية الجديدة هي محاربة الرق !

    (وبما أن الرق أصبح عائقاً في وجه الأشكال الجديدة للنمو الرأسمالي فإن الأقطار الأوربية صارت تعادي أيضاً المنظومة التي كان يفيدها في المرحلة السابقة) ويلخص غارودي رحمه الله تلك المراحل على النحو التالي:

    ( في المرحلة الاستعمارية، المرحلة التي يتطلب الاقتصاد الإستعماري فيها السيطرة السياسية كان المختزل هو: نجهز جيشاً للغزو ونوجهه إلى البلدان المشتهاة وأحياناً نبحث عن ذريعة ففي " تونكين" مثلاً كان اغتيال بضعة مبشرين ممن اغتصبوا الأرض كافياً لترطيب وجدان الغزاة.... الجيش الغازي يذهب للذود عن الديانة الغربية المسيحية وتصبح الطريق ممهدة أمام التجار. وهنا أيضاً نجد المختزل بسيطاً جداً، المبشر أولاً ثم الجندي وأخيراً التاجر)

    وإلى هذه الثلاثية أشار الدكتورجمال حمدان:

    ( يمكن تلخيص محاور الاستعمار البرتغالي في ثلاثية: الكثلكة – التجارة – الغزو)

    التبشير والاستعمار: أدوار مشبوهة

    كتب بيفانز ستيفن:

    (كانت الحقبة التبشيرية الحديثة وبصور متعددة الذراع الديني للإستعمار، سواءً أكان إستعماراً برتغالياً اسبانياً في القرن السادس عشر أو بريطانياً فرنسياً أمريكياً في القرن التاسع عشر)

    وكتب ادوارد أندروس:

    (ينظر المؤرخون للبعثات التبشيرية على واحدة من الطريقتين: مؤرخو الكنيسة الأوائل الذين صنفوا في تاريخ التبشير أعطوا وصفاً تبجيلياً لمحاولات المبشرين ونجاحاتهم وأحياناً استشهادهم. ووفقاً لذلك كان المبشرون قديسين يمشون بين الناس ونماذج للتقوى المثالية في بحر من الوحشية. ولكن بحلول منتصف القرن العشرين وهي فترة تميزت بحركات الحقوق المدنية ومناهضة الاستعمار وتنامي العلمنة، نُظر للمبشرين بصورة مختلفة تماماً. وبدلاً عن وصفهم بالشهداء يصف المؤرخون الآن المبشرين بأنهم إستعماريون نهّابون متكبرون.

    لم تعد المسيحية رحمة وإنما قوة صلبة عدوانية غاشمة يفرضها المبشرون على الأمم المقاومة المتحدية. ولا شك أن المبشرين يُنظر إليهم الآن كوكلاء –عملاء- مهمين ضمن جنود الدول القومية التوسعية أو جنود الصدمة الأيديولوجية والتي أعمتها حماستها وتعصبها.)

    وقال بول قيفورد:

    ( في هذه المقالة قمت بدراسة كيف سهّلت المجتمعات التبشيرية إنتشار نظم المُثل والمعتقدات الأوربية بين المجتمعات الافريقية وكيف أضعف هذا الانتشار وهيّأ في آن واحد السياسة الافريقية لمزيد من الاحتكاك مع السلطات الاستعمارية.)

    وقال فرانز فانون: ( إن الكنيسة في المستعمرات كنيسة بيض كنيسة أجانب إنها لا تدعو الإنسان المستعمَر إلى طريق الله وإنما تدعوه إلى طريق الإنسان الأبيض إلى طريق المضطهد الغاشم . وأنتم تعلمون أن في التاريخ البعثات التبشيرية كثيراً من المكلفين وقليلاً من المتطوعين)

    وقال موقع التاريخ العالمي للسود: (الإستعمار كان في الأساس وإلى حد ما نتيجة لخيانة المبشرين) .

    التكالب الأوربي الاستعماري على القارة الإفريقية:

    إذن بعد مرحلة الثورة الصناعية جاءت مسألة الاستعمار المباشر وكان مؤتمر برلين هو التتويج الفاضح لتلك المرحلة حيث تم عقد المؤتمر لتنظيم التكالب على المستعمرات دون حرب.

    قال جمال حمدان ( كان مؤتمر برلين 1884 الذي أجمعت فيه القوى الأوربية على أن الإدعاءات الاستعمارية في افريقيا لا تكون إلا بالاحتلال الفعلي إشارة البدء لسباق جنوني مسعور على القارة) ( ففي 1893 أي بعد عقد واحد من مؤتمر برلين كانت كل القارة قد إقتُسِمت بين القوى الأوربية وانخفضت نسبة المساحة المستقلة فيها من 95% في سنة 1885 إلى 8% سنة 1910) والجدير بالملاحظة أن ( كل الصراع الاستعماري في أفريقيا لم يصل أبداً إلى حد الحرب) وقد وصف شقير لقاء كتشنر لما وصل فاشودة وكان يود استباق مارشال وصف لقاءهما وكان ودياً. وأورد زلفو كلام الملكة بشأن شن الحرب على فرنسا : ( فعندما وصلت أزمة فاشودة إلى قمتها ووضح أن الحرب مع فرنسا لا مفر منها علقت فكتوريا " انها لايمكن أن توافق على شن حرب من أجل تحقيق هدف بمثل هذه التفاهة")

    أسباب ودوافع غزو السودان:

    لم يكن ما سيق من حجج لغزو السودان إلا مبررات وكان الهدف هو ما أشار إليه حسين الزهراء في رده على الدعاوى البريطانية والتركية والمصرية ومن لف لفها من علماء السودان وقد ذكرنا كلامه وهو ما أكده حمدان حين قال : ( وبعد هذا بدأت بريطانيا تتطلع إلى حلم ضخم هو طريق الكاب- القاهرة في محاولة عظمى لربط مستعمراتها في أقصى شمال وجنوب القارة على محور طولي) .

    إذن لم يكن غزو السودان وإحتلاله من قبل بريطانيا بسبب الرق أو التطرف المهدوي أو إنقاذ الأسرى وإنما كان سياسة مقررة قبل المهدية نفسها، فعلى سبيل المثال يمكن الإستشهاد بحديث قلادستون رئيس الوزراء البريطاني الذي قاله منذ 1877 ومر علينا آنفاً وصمويل بيكر الذي قال: (وكان دافع الجنرال غردون الذي خلفني هو نفس الدافع وقد توفي وهو على أمل أن تستولي بريطانيا على الخرطوم) وبيكر هو أول من حرض على غزو السودان قبل غردون.

    بل إن كتشنر نفسه جاء قبل سنوات عديدة ( وقبل إثني عشر عاماً بينما كان كل هم بريطانيا هو إخلاء الجنود المصريين من السودان وضمان سلامة بعثة الإنقاذ البريطانية وهي تسرع منسحبة للشمال كان الميجر كتشنر مبعوثاً للمخابرات في مركز الدبة المتقدم يقدح ذهنه في كيفية إعادة غزو هذه البلاد. وأمضى أغلب أوقاته في مسح منطقة دنقلا ومراقبة تيار النيل وارتفاعه وانخفاضه. وتوصل أخيراً إلى أن الحل الوحيد يكمن في خط إمداد مضمون سريع هو السكة حديد يكفيهم مشقة الاعتماد على آلاف الجمال البطيئة والتحرر من حمل قرب المياه لشق الصحراء. وعاد إلى مصر وهو يعزف على هذه النغمة في أنها العلاج الأمثل للتغلب على عقبة الشلالات.)

    صحيح كان هناك تضارب داخل الجسم السياسي لبريطانيا، وعزا بعضهم إخفاء نوايا بريطانيا لعدم رغبتها في إستعداء تركيا(سمرنوف) وعزاه بعضهم لتضارب الرؤى البريطانية بين لوبي كان يسعى لاحتلال السودان وحكومة كانت لا ترى أولوية ذلك ( جمال الشريف). ومهما يكن من أمر فقد إحتار المؤرخون في التضارب الشديد في بعثة غردون والذي أشرنا إلى جزء منه متعلق بخط السير والهدف من الحملة الذي تغير ثلاث مرات، والهدف من الحملة والخطابات الأربعة التي كان يحملها غردون حول مهمته والتناقض بينها والذي عزاه هولت إما لخداع غردون أو لسوء فهم منه لطبيعة مهمته وحاول أو يوفق هولت بين ذلك التناقض بافتراض أن الخطابات كانت تتحدث عن مراحل .

    ومهما يكن من شيء فقد أوضح مؤتمر برلين بجلاء إتفاق أوربا على تنظيم الاستعمار وعدم الدخول في مواجهات . وتنزل ذلك الاتفاق في أوربا وانتج مجموعة من الاتفاقات في الأوربية على الأراضي الافريقية مثل : التعاون الحبشي الفرنسي 1897-1898 والاتفاق البريطاني الالماني 1 يوليو 1890 والبريطاني الايطالي 1891 والبريطاني البلجيكي 24 مايو 1890 والبلجيكي مع القوات المصرية بجنوب السودان واتفاق الكونغو وبريطانيا 12 أبريل 1894 لعزل فرنسا والاتفاق البلجيكي الفرنسي اغسطس 1894 الذي جب الاتفاق البلجيكي البريطاني وهكذا.

    كانت المهدية واعية بذلك وقد علق الخليفة مستغرباً :( بأن الناس لايستطيعون مع الأسف التوقف عن تقسيم أرض لا يملكونها) . وكانت الدول الإفريقية المحيطة بالسودان واعية بذلك ولكنها اتخذت طرقاً مختلفة للتعامل مع هذا الواقع.

    فعلى سبيل المثال كانت مصر عديمة الحيلة فقد تم احتلالها قبل مؤتمر برلين نفسه وتم قمع حركة عرابي الوطنية . أما إثيوبيا فقد بادرت في بداية المهدية لدعم المنشقين على المهدية وأمدتهم بالسلاح ووفرت لهم الملجأ والملاذ كلما إضطروا للهرب بل وعاونتهم عسكرياً. فقد دعمت تمرد صالح شنقة وغيره. ثم قامت بغارات اختطفت فيها النساء والأطفال وقتلت الرجال. و تعاونت الحبشة مع بريطانيا ومصر ضد المهدية وتم إخلاء جزء من الحاميات المصرية عبر الحبشة ولما إضطُرت تحت ضغط المخاطر الاستعمارية لتهدئة الأمور مع المهدية قبِل الخليفة ذلك بشروط منها إرجاع الأسرى وتسليم المنشقين أو عدم السماح لهم بالاعتداءات.

    ثم في مرحلة لاحقة وبعد الحرب مع إيطاليا تحالفت إثيوبيا مع فرنسا وفي تلك الأثناء وقفلاً للجبهة الشمالية الغربية مع السودان عرضت إثيوبيا السلام على المهدية. قبل الخليفة ذلك وأكرم رسل الحبشة وتمت مفاوضات دونتها كل المصادر التاريخية وكانت نقطة الخلاف أن الخليفة كان يرى أن يكون التحالف إفريقياً لا تسمح إثيوبيا فيه للأوربيين بالتدخل ولا تقيم معهم علاقات. وكانت إثيوبيا في حاجة للحماية الفرنسية وكانت قد عقدت معها اتفاق بل ولما جاء الوفد الإثيوبي الأخير في أبريل 1998 للسودان عارضاً رد الملك الاثيوبي جاء حاملاً عرضاً فرنسياً بأن يرفع الخليفة علم فرنسا وحسب مؤتمر برلين يصير السودان أرضاً فرنسية فلا يحق لبريطانيا دخولها.

    رفض الخليفة العرض لأنه إستبدال إستعمار باستعمار و ولكنه لم يقفل الباب أمام علاقة حسنة مع الحبشة.

    بل وأكثر من ذلك في تلك الأثناء كان منليك قد وقع اتفاقاً مع بريطانيا تعهد فيه بمنع مرور السلاح للسودان بل وقدم خريطة يدعي فيها ملكية مناطق تصل حتى النيل الأبيض والخرطوم كما رأينا في فصل سابق.

    ذريعة الرق

    ذكرنا دوافع محمد علي في غزو السودان، وذكرنا أنه استجاب للضغوط الأوربية لمحاربة تجارة الرقيق، كما ذكرنا الأسباب الاقتصادية التي دعت الأوربيين للتخلي عن الرق والانتقال لطور اقتصادي جديد. وسنضيف أمثلة جديدة على عدم جدية الأوربيين في محاربة الرق حتى بعد أن دخلوا في هذا الطور الجديد.

    أما فيما يلي السودان، فكما رأينا فقد كان هدف مهمة غردون الأولى (1873-1879) هو إكتشاف منابع النيل تمهيداً لغزو السودان وإن تدثرت بمحاربة الرق. قال سمروف:

    1) عقب حفر قناة السويس 1859-1869 وبغرض السيطرة على أقطار شرق أفريقيا الواقعة جنوب السودان إزداد اهتمام بريطانيا لاحتلال السودان..... ولأن بريطانيا كانت عازفة عن تحدي تركيا فقد أخفت رغبتها في السيطرة على السودان تحت ستار مساعدة مصر على محاربة تجارة الرقيق) وقال عن بعثة غردون: ( ولم تقم البعثة بإلغاء تجارة الرقيق بطبيعة الحال كما لم تنصرف نيتها وقتئذٍ إلى شيء من ذلك) وهذا ما عضده جمال الشريف اذ قال: إن تجارة الرقيق كانت حجة لإستكشاف منابع النيل ، غردون طيلة السنوات التي أمضاها حاكماً لللإستوائية 1873-1879 لم يبذل أي جهد لمحاربة تجارة الرقيق وقد إتهمته جمعيات محاربة الرقيق بالفشل. وان بعثته كانت لاكتشاف منابع النيل وعمل خرط وقد اصطحب معه جغرافيين ومهندسين) وقال هولت: ( وحتى حينما حاول الخديوي اسماعيل القضاء على تجارة الرقيق استمر تزويد الجيش بجنود من هذا المصدر)

    والأدلة على عدم جدية غردون في محاربة الرق كثيرة قال جيديون ميلر: (وفي أثناء محاولته تكوين تحالف داخل السودان ضد جيش المهدي فقد قدم تنازلات كبيرة لصالح الذين يؤيدون تجارة الرق في الاقاليم الجنوبية إلى أولئك العرب في الشمال. وبينما واصل في معارضة تجارة الرق علناً شعر بأن القضاء على تجارة الرقيق يتطلب تقديم تنازلات مع تجار الرقيق على المدى القصير بل لقد زادت تجارة الرقيق في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. هذه الحقائق مثلت لدى البعض أن أسطورة غردون ما هي إلا غطاء مقنع للارساليات. ودافعهم الانساني لايرتبط بالساعين لإلغاء الرق بقدر ما هو مرتبط بصانعي الانقسام بين الشمال والجنوب ونشر الديانة الغربية) . ومن دلائل عدم جديته محاولته الاستعانة بالزبير وهذا يدل على ان الهدف ليس محاربة الرقيق اذ الزبير في رأيهم تاجر رقيق.

    ولم يقتصر الأمر على غردون فحينما تبنت الهند منع الرق في 1843 و قُدم مقترح تطبيق النموذج في مصر نصح ايفيلين بيرنق (أي كرومر فيما بعد) قائلاً( سيكون أبعد شيء عن الحكمة في الوقت الحاضر محاولة إدخال هذا الإصلاح الجذري، إنني اتعاطف تماماً مع النظرة التي تبناها الإنجليزعموماً في هذا الصدد ولكن من الضروري اعتبار القضية من وجهة نظر الظروف المحلية والرأي المحلي ) وكان ذلك رأي عدد من كبار المسؤلين البريطانيين.

    وقال : (هناك القليل من الاهتمام بسياسات محاربة الرق بين قيادات حكومات الليبراليين والمحافظين...... ليس هناك في النخبة السياسية من يهتم بموضوع تجارة الرقيق وقد شكا غردون من ذلك. ...لم تكن سياسة محاربة الرق جزءاً من الاصلاحات التي اقترحتها بريطانيا على تركيا ومصر في سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر).

    ولم يقتصر الأمر على بريطانيا بل كان هذا نسقاً أوربياً، قال: ( ومنذ السبعينات زادت الشكوك المؤرخين حول المزاعم الانسانية واستراتيجيات محاربة الرق) وقال:( سوزان ماير في دراستها الأكثر تفصيلاً حول دبلوماسية بريطانيا لمحاربة الرق جادلت بأن سياسة محاربة الرق وتجارة الرق تتحدد بصورة كبيرة بالمصالح السياسية فقد استخدمت كوسيلة لتبرير التوسع الامبريالي لجمهور الناخبين الذين كانوا، حتى ثمانينات القرن التاسع عشر (على الأقل) يتشككون في إمتلاك المستعمرات " ولم يدَعْ الأشخاص الذين كانت مهمتهم الدفاع عن المصالح البريطانية في الخارج للنزعة الانسانية أن تملي عليهم سياستهم)

    وفي سياق حديثه عن الاستعمار وأفريقيا (جادل "لفجوي" أن النظم الاستعمارية صارت مدافعة عن الرق وأكبر عائق للتحرر الكامل)

    ( كان صناع القرار في بريطانيا قلقين من أن سياسة محاربة الرق قد تؤذي المصالح البريطانية وتخل بالاتزان في الاقتصاديات المحلية وقد تفتح الباب للقوى الأخرى لاكتساب النفوذ... كانت عملية إنهاء الرق بطيئة وكان ذلك مقصوداً في كثير من الأحيان...كانت الدوافع في كثير من الاحيان غامضة وصيغت لتناسب المصالح التجارية والسياسية)

    المهدية والرق:

    لن نطيل الحديث حول هذا الموضوع ولكن نقول باختصار الحقائق التالية:

    1. صحيح أن الرق كان موجوداً في السودان قبل الغزو التركي المصري ولكنه زاد بفعل سياسات ذلك الحكم كما أوضحنا.

    2. كانت المهدية حركة دينية اجتماعية لها برنامج إصلاحي معين، اهتم برنامجها الاجتماعي بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، وقامت فلسفتها على الزهد وحياة التقشف حتى أن ذلك كان أحد أركان بيعة الولاء للمهدية وقائدها.

    3. عاش قادة المهدية ومناصروها وكل رعايا الدولة حياة تقشف ولم يعمل أي من قادتها البارزين بالتجارة، فضلاً عن تجارة الرقيق.

    4. في دراسة الخلفية الاجتماعية التي أجراها باحثان أمريكيان وشملت 140 قائداً مهدوياً كان تجار الرقيق السابقون يشكلون أقل من 4%. بل لقد أوضح ونجت/ أوهروالدر : ( أن تجار الرقيق الذين أزعجهم تضييق الحكومة المصرية على تجارتهم وتوافدوا على المهدي بدأوا يدركون أن وضعهم صار أسوأ مما كان عليه)

    5. الملاحظ أن علاقة المهدية بجبال النوبة والجنوب كانت طيبة وسلمية في أغلب الأحوال كما سنوضح، وأن المهدية سمحت لهم بالرجوع إلى مناطقهم ومحاربة الأتراك وأن أنظار المهدية كانت متجهة إلى الشمال في سبيل تحرير مصر وإلى الشرق في سبيل تأمين نفسها من الخطر الأوربي المصري الحبشي.

    6. كانت المهدية محاطة بالأعداء في أغلب فترتها وكانت كل الموانيء وطرق التجارة بيد أعدائها فكيف يستقيم أن تقوم تجارة رقيق يصدر للخارج؟ وإذا كانوا يتحدثون عن تجارة داخلية فقد كان كل المجتمع كما أسلفنا مستنفراً للجهاد والدفاع عن الدولة كما لم تكن أيديولوجية الدولة تسعى نحو التجارة وكنز الأموال دعك من الأيديولوجية التحررية والعدالية الثائرة على طلاب الدنيا . هذا لا ينفي بالطبع وجود رقيق في ذلك المجتمع وهو وضع موروث وسنرى أنه تقلص في المهدية عما سبقها.

    7. عملت المهدية على تحرير الرقيق وفتحت الباب أمامه للترقي السياسي والاجتماعي حيث تم تحرير كل من انضم للجهادية، بل لقد تقوى الرقيق على أسيادهم بسياسات الدولة المهدية ، قال أوهروالدر/ ونجت: ( كان للرقيق – تحت نظام المهدية – طرق كثيرة متنوعة للانتقام لأنفسهم من سادتهم وكانوا لا يفلتون الفرصة أبداً حين يجدونها)

    8. منع الخليفة تجارة الرقيق ومنع صيده وتصديره وكانت هناك دوريات لمراقبة ذلك كما منع الخليفة امتلاك السلاح الناري الذي تم حصره على الجيش فقط.

    9. والخلاصة أن المهدية كانت أفضل من النظم التي سبقتها فيما يتعلق بالرق وهناك شهادات كثيرة سنورد بعضها فيما يلي حول علاقة المهدية بمناطق صيد الرقيق التقليدية أثناء الحكم التركي وحول محاربة المهدية للرق ومنع تجارته:

    سياسة الجنوب في المهدية

    جاء البريطانيون بهدف محاربة الرق في زعمهم ( بيد أن الوقائع التاريخية الثابتة دحضت هذه المفاهيم لأن كلاً من الجنوبيين والمهديين حاربوا جنباً إلى جنب) . فمنذ فترة مبكرة تجاوبت القبائل الجنوبية مع المهدية، قال هولت: ( وقد بدأت الحركة المهدية في بحر الغزال أواخر عام 1881 عندما زار جماعة من شيوخ الزنج المهدي في جبل قدير وحلفوا له يمين الولاء. وقد أعيدوا لأقاليمهم لطرد الأتراك ووعدوا بممارسة حرية كاملة في أراضيهم)( بايعوا المهدي ونصحوا بالعودة إلى ديارهم لطرد الأتراك ووعدوا بأن تكون لهم الحرية المطلقة) . وقد رأى الجنوبيون في المهدية حركة تمنحهم الحرية، قال شقير: ( لما بلغ مشايخ الجانقي والجور خبر المهدي ونصرته على رجال الحكومة في أبا وقدير هاجروا إليه وبايعوه فأمرهم بالعودة إلى بلادهم وقال لهم : " إذهبوا وأخرجوا الترك من بلادكم فإن الله ناصركم ومتى أخرجتموهم فلتكن بلادكم لكم لا ينازعكم فيها منازع " وكان هذا جل ما يتمناه السود أي الحرية والإستقلال لأنهم لم يتخلصوا من " البحارة" قبل عهد الحكومة حتى وقعوا في الجباة الباشبوزق في عهدها فعادوا إلى بلادهم وجمعوا جموعهم وجاهروا بالعصيان) ثم أخذ شقير يعدد ثورات القبائل الجنوبية حتى تحدث عن هجومهم على لبتون قائلاً : ( فلم يتم لبتون بناء الزريبة حتى أقبل الجانقي علينا مهاجمين وكان الدراويش قد علموهم أن يكرروا عند الهجوم قولهم " الدايم الله الدايم هو")

    وقال سمرنوف عن ذلك التعاون المشترك: ( فقد أدرك المهدي كما أدرك الخليفة أيضاً أن على جميع سكان السودان محاربة العدو المشترك في جبهة موحدة ومن ثم نظر إلى النيليين باعتبارهم حلفاء طبيعيين لإجلاء الغزاة المستعمرين وكان اتجاه السلطة المركزية يهدف إلى تقوية وتطوير الصداقة بين الشمال والجنوب) ( وبالرغم من خطأ بعض التصرفات الصادرة من السلطة المركزية بأمدرمان إلا أن علاقات المهديين اتسمت بالود والصداقة والتعاون مع النيليين). وبالمثل ساهمت قبائل الشلك مثل الديمبو واللير في الحرب مع المهدية . وفي الحرب ضد البلجيك: كانت قوات المهدية مكونة من 700 مقاتل ومؤيدة بقبيلة زاندية بزعامة رنزي . وحاربت قبيلة الباري في صفوف المهدية (وكتب لبتون في هذا الصدد: المهدي المنتظر حظر الاعتداء على الجانق وقد أرسل بعض الدراويش لمعاقبة من قاموا بعصيان أمره) وعن تأييد قبائل الجنوب للمهدية والعلاقة الطيبة معهم قال هولت في صدد حديثه عن متاعب لبتون مع القبائل الجنوبية: ( وبرغم أن القوة الموجودة بهذا الإقليم لم تكن من المسلمين أو العرب إلا أن المهدية استطاعت أن تكسب تأييدهم سريعاً) وقال سمرنوف ملخصاً سياسة المهدية (ومهما يكن فقد كان اتجاه السياسة المهدية متسماً بالمرونة فقد أراد الخليفة في البداية توحيد الزعماء والسلاطين وشجَبَ تجارة الرقيق وحظر السلب والنهب في الغزوات الحربية) وقال : ( لم يسع – امير المهدية في الجنوب- لتجنيد الجنوبيين قسراً في صفوف الجهادية)

    وكذلك كان الحال بالنسبة لجبال النوبة قال ونجت/ أوهروالدر: ( استسلم النوبة بشرط أن يظلوا أحراراً وأن يعيشوا في جبالهم فوافق المهدي على ذلك )

    وعن حظر تجارة الرق في المهدية قال سمرنوف ( وقد أصدر الخليفة منشورات حظرت بشدة على رعايا الدولة المهدية صيد الرقيق بين القبائل النيلية) وأشار إلى الحظر الرسمي الوارد من الخليفة وخلص إلى النتيجة التالية: ( لعبت أعمال الرقيق قبل ثورة المهدية دوراً بارزً في اقتصاد البلاد ولكن تضاءل نظام الرق خلال المهدية)

    وقد أورد هيليلسون في كتابه (نصوص بعامية السودان) خطابين للخليفة باللغة العامية وجههما إلى عبد الرؤوف زعيم الدينكا والجابوري ملك النوبة، وقد خلا الخطابان من أية لغة تهديد وإنما اقتصرا على الترغيب في الجهاد والحضور لأمدرمان. والمذكوران من عمال المهدية على مناطقهما.

    وقد مررنا على شواهد أخرى تؤكد منع المهدية تجارة الرقيق في الفصل المخصص للشهادات عن الخليفة عبد الله ونختم بخطاب الامام المهدي فقد كتب أحمد سليمان أمين بيت المال خطاباً يذكر فيه أن عدد الرقيق الذي وجد بالخرطوم ( مقر غردون الذي يريد محاربة الرق ) كبير جداً وأنه صرف على قوتهم ما يزيد على ألفي ريال ويشكو من كثرة تكاليفهم وينصح ببيعه أو توزيعه على جهات لتصرفه. وقد رد الامام المهدي بالآتي:

    (بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الوالي الكريم والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم وبعد، فمن العبد المفتقر إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى خليله وصديقه خليفة الصديق.

    حبيبي، كما ذكر أحمد أوافق أن تكتب إلى أحمد أمين بيت المال تأمره بأن يوزع الرقيق على الجيش ولو يكن للعشرة أنفار والعشرين نفر رأس حسب الموجود وتوزيعه على الجيش حكم تنزيل المجاهدين بالدفاتر أو ما يناسب وأظن أن هذا أقرب إلى الراحة من البيع وخلافه)

    الهوامش:

    شبيكة السودان سابق ص 42

    أبو شامة سابق

    RICHARD H. DEKMEJIAN and MARGARET J. WYSZOMIRSKI, op.cit

    روجيه غارودي: حوار الحضارات ص 44 وما بعدها

    نفسه ص 54

    .د. جمال حمدان: استراتيجية الاستعمار والتحرير ص 57

    Bevans Steven: Christian complicity in colonialism/globalism

    Andrews, Edward (2010): Christian Mission and Colonial Empire Reconsidered: A Black Evangelist inWest Africa (1766-1816)

    The Vanguard of Colonialism: Missionaries and the Frontier in Southern

    Africa in the Nineteenth Century

    فرانز فانون سابق

    Role of Missionaries in Colonization of Africans, Global black history

    بعد مرور أكثر من مائة عام على تلك الأحداث بدت أفكار شوق الدرويش رجعية عنصرية تبريرية استعمارية مستلبة. مائة عام إعتذر فيها الاستعماريون عن استعمارهم ، حقاً وصدقاً أو نفاقاً ومخاتلة وتبديلاً للجلد في كل مرحلة، واعتذر العنصريون عن عنصريتهم وظهر لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية في مقابل اللاهوت الاستعماري وإدانة له.

    جمال حمدان سابق ص121

    نفسه 122

    زلفو سابق ص 175

    جمال حمدان ص 123

    ذكرناه تحت عنوان علماء لا دراويش

    سمرنوف سابق ص 12

    زلفو ص

    نفسه ص 196

    هولت ص 238

    سمروف سابق ص 11، ص 14

    هولت سابق ص

    Gideon Mailer, The Origin of Humanitarian intervention in Sudan: Anglo American Missionaries after 1899 In: Brendan Simms, David Trim (eds). Humanitarian Intervention. A History. p 287-288

    William Mulligan (2011) 'British anti-slave trade and anti-slavery policy in East Africa, Arabia, and Turkey in the late 19th century' In: Brendan Simms, David Trim (eds). Humanitarian Intervention. A History. p 266-267

    Ibid p 263

    Ibid p 258- 259

    Ibid p p 260

    Ibid p 262

    سمرنوف ص 80

    هولت سابق ص 70

    شقير سابق ص 411- 412

    نفسه ص 414

    سمرنوف ص 200

    نفسه ص 85

    نفسه ص 196

    نفسه ص 178

    نفسه ص 89

    سمرنوف ص 182

    نفسه ص 184

    Wingate op. cit

    سمرنوف ص 130

    1) كراسة هيليلسون نصوص بعامية السودان اعداد أ. عثمان جعفر النصيري ص 20-.21 ومن عنصرية هليلسون أنه جعلهما تحت عنوان ( خطابين من الخليفة لزعماء الزنج) . والمعروف أن هيليلسون عمل بالمخابرات في الحكم الثنائي

    أبو سليم سابق ص 306

                  

03-22-2016, 07:45 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة التاسعة عشرة

    الباب التاسع: عطاء المهدية:

    (1)

    ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

    قرآن كريم

    (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)

    قرآن كريم

    (2)

    ( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ )

    حديث شريف

    (3)

    إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباَ كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل. " ومن الغرباء ؟ قال " النزائح من القبائل "وفي رواية «النزاع من القبائل»

    حديث شريف

    قال ابن الاثير في كتابه النهاية في غريب الأثر : النزاع من القبائل جمع نازع ونزيع وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته ، أي بعد وغاب ، أي طوبى للمهاجرين الذين هجروا أوطانهم في الله تعالى.

    (4)

    (اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!

    مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟

    هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَارًا جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَارًا رَدِيَّةً،)

    عيسى عليه السلام

    (5)

    ( قال الإمام المهدي: "تحصل لنا رتبه بغير ما حصلت بوجودنا" وهذه هي قوام الله لنا حيث عادت المهدية بعد فواتها وجمعت كلمة الدين بعد شتاتها)

    الإمام عبد الرحمن المهدي

    (6)

    (الحياة في سبيل الله كالموت في سبيل الله

    جهاد مبرور)

    محمد الغزالي

    *****

    حاولت لجنة التحكيم أن تربط أحداث الرواية التاريخية على علاتها التي أوضحناها بالواقع المعاصر اليوم من إنتشار للغلو والتطرف وصعود حركات ما يسمى بالإسلام السياسي.

    والذي لا شك فيه أن المهدية كانت استجابة موضوعية لظروف معينة عانى فيها السودان والعالم الإسلامي من الإحتلال الأجنبي وما تبعه من قهر سياسي وظلم إقتصادي وتفسخ إجتماعي وانحلال أخلاقي وركود فكري. وأنها كانت من ناحية أخرى دعوة ودولة تكوينية مؤسسة مزجت الأعراق والعناصر المتنافرة لأول مرة في دولة وطنية واحدة.

    والذي لا شك فيه أن المهدية نفسها لما زالت تلك المؤثرات قد تغيرت إستجابتها في طورها الثاني وفقاً لذلك التغير فعادت سيرتها الأولى التي أرادها لها صاحبها حيث أفسحت مجالاً للتعامل والتعاون الإيجابي مع الاخر خارج الوطن والتعاون والتآخي الوطني مع إختلاف الدين والمذهب وهكذا.

    وتغير الفقه بتغير الظروف أمر معروف في كل عوالم النظر والتطبيق. وما الفقه – في معنى من معانيه – إلا تنزيل النصوص المطلقة المجردة على الواقع الإجتماعي المحدد. لذلك وهِم من وهِم حينما تحدّث عن إسلام مكي وإسلام مدني وإنما هو إسلام واحد تتغير أحكامه بتغير ظروفه وبيئاته ومصالح الخلق المستهدفين بالهداية والإصلاح.

    والذين يتحدثون عن فصام بين المهدية الأولى والمهدية الثانية أو المهدية الجديدة كما اصطلح على تسميتهما إنما ينظرون إلى الظواهر. والناظر للمهدية في طورها الأول نفسه يرى تغير أحكامها واستجابتها لتغير الظروف. وقد مررنا في هذا الكتاب على عدد كبير من المواقف التي تخلت المهدية فيها عنها الأخذ بالعزائم نزولاً لحالة البعض التي لم تقو على الأخذ بتلك العزائم فجاءت الرخص المتعددة في المواضع المختلفة تحقيقاً للمصلحة العامة. وإذا أخذنا قضية الرابطة الوطنية على سبيل المثال نجد أن تلك الروابط الوطنية قد ظهرت منذ فترة مبكرة وفي عدد من المشاهد، لا سيما في تعامل المهدية مع المناطق السودانية التي لم يمتد لها الإسلام. فقد تم التعامل معها وفق منطق وطني إذ تركوا لشأنهم في حكم ذاتي بعد تحريضهم على قتال المستعمر. وكذلك تم التعامل مع الحبشة المسيحية في أخريات الدولة المهدية على أساس من التعاضد الإفريقي في وجه الإستعمار الأوربي مع إختلاف الدين ، ولم يشترط الخليفة دخولها الإسلام وإنما اشترط فقط قطع علاقاتها مع الأوربيين لعلمه بأطماعهم كما رأينا من قبل.

    إذن لا مجال لربط المهدية في أية صورة من صورها بما يحدث اليوم لا سيما بنظام حركة الإخوان المسلمين في السودان أو ما يسمى بنظام الحركة الإسلامية السودانية. ولا أعدو الحقيقة إذا قلت أن نظام الحكم الحالي هو النقيض الموضوعي للمهدية وإرثها في السودان.

    فإذا كان مشروع المهدية – كلها وفي كل أطوارها – هو تكوين وتمتين الهوية القومية والرابطة الوطنية وتوحيد السودان وتمكين أهله من حكم أنفسهم بأنفسهم وفق مباديء الحرية والكرامة والمحافظة على إستقلال البلاد، في الجانب الوطني.

    وإذا كان مشروعها في الجانب الإجتماعي هو تحقيق العدالة الإجتماعية و توفير الرفاه الإجتماعي ورعاية القيم الفاضلة وتهذيب المجتمع وترقيته وتقوية اللحمة الإجتماعية وإزالة الفوارق الجهوية والطبقية والإجتماعية.

    وإذا كان مشروعها الفكري هو تحقيق الإخاء الإنساني العام على أساس التعاون الإيجابي مع إختلاف الملل والنحل، والتعايش على أساس المواطنة بين أبناء الوطن الواحد رغم إختلاف الدين، وإذا كان طرح المهدية الديني يقوم منذ أكثر من قرن على ( النور المفاض ) :الوسطية والتسامح وعدم الإكراه في الدين رغم جماهيريتها الكاسحة في السودان ورغم حماسة أنصارها واستعدادهم الفطري للتضحية. مع ملاحظة أن آخر سلاح استعمله الأنصار كان في مواجهة الجيش الغازي في نهايات القرن قبل الماضي وبدايات القرن الماضي ، وأما ما تلى ذلك من مواجهات فقد كانوا دائماً في موقف الضحية أو المدافع عن نفسه.

    أقول إذا كان هذا هو بعض مشروعات المهدية فإن نظام الحكم الحالي قد شكل النقيض الموضوعي أو الأطروحة الموازية أو البديلة حيث عمل النظام بجد على:

    • تقويض إستقلال البلاد حيث صار شأن السودان يدار من خارج البلاد، بل ودخلت جيوش عديدة أممية وإقليمية وجيوش دول جوار إلى داخل السودان بعلم الحكومة وموافقتها وكل ذلك بثمن بقائها في السلطة.

    • تمزيق النسيج الإجتماعي الذي أبرمه السودانيون، وتمت العودة القصدية للولاءات المناطقية والقبلية ويا ليتها كانت قبلية مثل السابق وإنما قبلية متحاربة أعملت فيها الفتن على نحو مستمر.

    • تبني برنامج إسلاموي متطرف ناف للآخر هدف منه النظام لتغريب غير العرب وغير المسلمين مما أدى لفصل الجنوب وينذر بنفس المصير للمناطق الثلاث بعد أن أشعل النظام حرباً لا هوادة فيها أهلكت الحرث والنسل وشردت السكان وشهدت فظائع كانت مدخلاً إضافياً للتدخل الأجنبي في السودان. تدخل ما جنى منه المضطهدون غير الأماني الخُلّب حيث وجدت الدول الأخرى في نظام فاسد ضعيف محاصر معزول من شعبه ضالتها فأصبحت تمتص منه التنازلات في مقابل بقائه في السلطة بل بدت بعض الدول الكبرى تصرح بأنها لا تريد تغيير النظام وإنما إصلاحه وهي تعلم سبيل الإصلاح ولكنها لا تسلكه.

    • جاءت طغمة حاكمة مترفة فاسدة مجاهرة بالفساد في نقيض للنموذج المتقشف للقيادة المهدوية.

    • حكمت هذه الطغمة البلاد بالحديد والنار ونفذت برنامجاً أدى في نهايته لتكسير كل مظاهر الدولة الوطنية : الجيش القومي، الخدمة المدنية،المؤسسات القومية وقطاعات الخدمات مثل الخطوط الجوية والحديدية والبحرية ودمرت المشاريع الانتاجية الرئيسية مثل مشروع الجزيرة وغيره. يرى البعض أن هذه مجرد سياسات فاشلة مرتبطة بالنظم الدكتاتورية وأرى أن هذا مشروع قصدي : تدمير السودان لأمرٍ يُراد.

    • ونتيجة لكل ذلك حدثت التداعيات المطلوبة: إنهيار الأخلاق وتحلل المجتمع وتفككه، إحتلال البلاد لمركز " الصدارة " في كل المؤشرات السالبة: مؤشر الفساد مؤشرات الدولة الفاسدة مؤشرات التنمية الاجتماعية مؤشرات حقوق الإنسان والحريات الخ. فصارت البلاد جحيماً فحدثت الهجرة والهروب الجماعي.

    • فنحن هنا أمام مشروع نقيض للمهدية من حيث المقاصد والمآلات والنتائج ومن حيث السلوك الفردي والسلوك أمام الدول الأجنبية.

    أقول هذا لأنفي محاولة التلبيس التي يسعى لها البعض لإيجاد شبه متوهم بين دعوة وطنية حاربت مستعمراً غاشماً مدججاً بالسلاح نافياً لحق السودانيين في الحرية إلا إذا نالوها غلاباً، في مقابل هذا الحكم الخاضع الذليل. دعوة قال قائدها فلتبق الدعوة ولتذهب الدولة واستشهد هو وجميع قادته مقبلين غير مدبرين رافضاً رفع العلم الفرنسي ورافضاً إستبدال استعمار باستعمار. دعوة لم تظلم أحداً إلا من ظلم نفسه وباعها لحكم أجنبي فاسد وظاهر على إطفاء شعلة التحرر بحجج واهية : عدم الخروج على سلطان المسلمين الذين كان وقتها ويا لسخرية الأقدار مسيحياً متعصباً.

    دعوة قدم قائدها المؤسس إخوته وأبناءه إلا من كتب الله له البقاء وأهله شهداء في سبيلها وقدم خليفته نفسه وإخوته وإبنه وكذلك فعل بقية قادتها: في تقديم النموذج وضرب القدوة والصدق في الطلب ولم تسأجر المجندين لتزج بهم في الحروب وتتحصن من ورائهم في الحصون وتتنعم بمتع الدنيا الفانية وليس من غرض هذا الكتاب الإطالة في هذه النقطة التي ما يقولها القائلون إلا على سبيل المكايدة فالفرق واضح لذي عينين.

    أما عطاء المهدية فلن نطيل فيه أيضاً ولا نذكره إلا علي سبيل التمثيل،

    العطاء الوطني:

    • نجحت المهدية في تحرير البلاد وإقامة حكم وطني في كامل السودان وخلق ذاتية سودانية وعزة وطنية وتوحيد البلاد وتأسيس بنية إدارية وثقافية وإجتماعية صارت أساساً إستفاد منه السودان في تطوره اللاحق وإنشاء نموذج حداثي لاسيما في الإدارة والترقي على أساس الكفاءة وفتح الباب لتجاوز الوراثة والتحيزات الاجتماعية – الجهوية والطبقية وتحقيق نموذج للعدالة الاجتماعية ومنع الاستغلال وتحقيق مجتمع فاضل صار يشد نموذجه قطاعاً عريضاً من السودانيين.

    • أما في المجال الوطني فقد كانت المهدية مؤسسة للكيان الوطني السوداني الحديث حيث كانت الممالك قبلها أسرية (أسرة الفونج في سنار يعاونها وزراء العبدلاب) وأسرة سليمان صولنج في دارفور، تميزت المهدية بأنها أول دولة وطنية انشأت إدارة على كامل التراب السوداني، وكانت القيادة والمشاركة السياسية متاحة للجميع باختلاف مناطقهم واعراقهم وأوضاعهم الاجتماعية.لم تكن المهدية ثورة جهة أو جماعة أو طائفة فقد تخلى الجميع عن كل إنتماء أضيق وانخرطوا في ولاء واحد كما أوضحنا مراراً في ثنايا هذا الكتاب. وحققت المهدية التحرير السياسي والاجتماعي للسودان والسودانيين وكفلت المساواة وتكافؤ الفرص للجميع في سابقة هي الأولى في تاريخ السودان، حيث الزمت الجميع بزي واحد بسيط ذي معاني، وطلبت من الجميع ترك الألقاب والمناصب والرتب وانعكس كل ذلك في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية حيث اممت المشارع (الموانيء النهرية) للمصلحة العامة وتبنت سياسة أرض رسخت مفهوم العدالة الاجتماعية وقيمة العمل نفسه.

    والمتأمل يجد أن هذا كله ينبثق من جذر روحي وفكري أعمق وهو الدرجة العالية من التوحيد التي تنظر لله وحده إذا كل ما عداه عدم. يستوي في ذلك الملائكة المقربون ومن دونهم من المخلوقات والعمل الصالح وما دونه.

    هذا الفهم التوحيدي الذي استوت فيه كل المخلوقات – ومن باب أولى كل الناس- هو الأصل الذي نبعت منه تلك المساواة الفريدة وهي التي مكنت - في مجتمع عشائري قبلي - أن يتولى الإمارة وقيادة الجيوش بعض الأرقاء السابقين. ويرتبط بالمفهوم السابق مجهودات المهدية في رتق النسيج الاجتماعي حيث عمدت لإزلة الفوارق الطبقية بتعاليم وسياسات قصدية، وإزالة الفوارق الاجتماعية وكان المهدي نفسه رائد ذلك التغيير الاجتماعي وقدوته، إذ تزوج – وكان ذلك أمراً قصدياً - من عدة قبائل من غرب البلاد وجنوبها وشمالها ووسطها حيث تزوج فاطمة بنت أحمد شرفي ابنة عمه أحمد شرفي وعائشة بنت أحمد شرفي بعد وفاة أختها. وفاطمة بنت حاج ابنة عمه. وفاطمة بنت حسين الحجازي من بنات الريف وعائشة بنت إدريس من الفلاتة ونحل الجود سرية والنعمة بنت الشيخ القرشي ود الزين ومقبولة من الفور ومأمونة الحبشية و قبيل الله النوباوية وهكذا.

    وأتت تجربة الدولة المهدية نفسها بتجديد كثير لا يمكن استقصاؤه ونكتفي بالإشارة إليه من حيث نظام الحكم والإدارة والنظام الاقتصادي والتنظيم العسكري والحركة الفكرية فتم سك أول عملة وطنية وتم التصنيع الحربي وفي المجال الفكري والإداري يمكن الإشارة للديوان الذي استحدثته المهدية – حفظ الوثائق – ونظام البريد- وآداب الكتابة- وإنشاء المطبعة ونظام التعليم وتحرير المصنفات المطبوعة والمخطوطة

    كما نجحت المهدية في استنهاض السودانيين وفي التغيير الاجتماعي وخلصت الشخصية السودانية من رواسب التواكل والاستسلام وروح الخرافة وحولتها لشخصية جهادية مضحية منضبطة وعقلانية.

    أما على صعيد التجديد الديني فنكتفي بالتمثيل والإشارة إلى الآتي:

    التجديد في مفهوم المهدية نفسها حيث أنكر المهدي النصوص النقلية ( المتضاربة) وأنكر الشروط والتوقيتات وأنكر التصورات المسبقة بنهاية العالم ولم يستند على النسب النبوي ولم يعول عليه بل ربط المهدية بوظيفة إحياء الكتاب والسنة وقيد محاكمة أقواله وافعاله بمقياس الكتاب والسنة. ومن ملامح التجديد عند المهدي مبدأ توحيد أهل القبلة وتجاوز المذهبية (الفقهية والصوفية) وكان ذلك التجديد من المنكرات على عهده عليه السلام. وفتح باب الاجتهاد حسب مقولته التي أوردناها آنفا. وهو باب ظل موصداً سنين عدداً، فتم فتحه في كل المجالات: السياسة الشرعية- الأحوال الشخصية- الاجتهادات الفقهية في المعاملات وغيرها، استصحابا لروح الإسلام ومبادئه: في رفض الظلم والخروج عليه – العدالة الاجتماعية (سياسة الأرض – تأميم المشارع.. الخ). و من التجديد أيضاً تثوير التصوف حيث تم البناء على إيجابيات التصوف والطرق الصوفية واستكمال نقصها البين وأوضح مثل لذلك نستشفه من منشور الإمام المهدي للشيخ محمد الطيب البصير الذي جاء فيه (ثم يقول الشيخ الطيب: الطريقة فيها الذل والإنكسار وقلة الطعام وقلة الشراب والصبر وزيارة السادات فتلك ستة والمهدية أيضا فيها ستة: الحرب والحزم والعزم والتوكل والاعتماد على الله تعالى واتفاق القول فهذه الاثنا عشر لم تجتمع لأحد إلا لك) . والتجديد في الولاية على الشأن العام: ونفى الأسسس التقليدية القائمة على العصبية القبلية والوراثة وغيرها من الأسس. حيث ابتدع شروط جديدة موضوعية اختصرتها مقولته (من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المؤمنين).

    وهذه الانجازات لم تخف على كثير من الباحثين الأجانب فعلى سبيل المثال: عدد هولت الانقسامات في المجتمع السوداني بين سكان الشمال أنفسهم وبينهم وبين سكان غرب البلاد وصعوبة إدماج البجا في أي عمل مع الآخرين واستغلال الحكومة لهذه الخلافات ثم ختم : ( ولكن كيف أمكن أخيراً لهذه العوامل التي تتصف بالاختلاف والتضارب أن تتآلف لتواجه الإدارة المصرية وتقضي عليها؟ كان هذا هو ما قام به المهدي والرجال الذين اشتركوا معه في قيادة الثورة) وعن تذويب العصبية القبلية قال هولت عن المهدية ( انها أشد عداء للقبلية من الحكم المصري الذي سبقها أو الحكم الثنائي الذي تلاها) وقالت يوشيكو: ( لم يعد المجتمع السوداني بعد تجربة الدولة المهدية مجتمعاً قبلياً)

    و قال ثيوبولد عن المهدي: (وحد السودانيين وغير طريقة وأسلوب حياتهم للأفضل ومنحهم ثقة وإيماناً أكبر بمقدراتهم وبأنفسهم وقادهم نحو الحرية والانعتاق)

    وقد استشهدت كوريتا بنصوص وتعبيرات كتبها الإمام المهدي فقالت: ( وهي التعبيرات التي تظهر في وثائق الالمهدية تلمح إلى أن الإختلاف العنصري قد أعتُبر أمراً لا دلالة له – نظرياً – على الأقل في سياق النظرة الكونية للمهدية التي قامت على مفهوم إطلاق المهدي. وأشارت إلى أن إبراهيم فوزي قد عزا معاملة المهدويين بالرفق للجنود السودانيين الذين حاربوا مع الأتراك إلى نوع من المشاعر الوطنية التي وحدت المشاركين في الثورة المهدية والجهادية.)

    وقال سمرنوف عن عهد المهدية: (وتغلب أهل السودان على مشاكل التفرقة والشتات الاقليمي واللغوي) وقال : (لذلك كانت الدولة التي نشأت وتبلورت خلال حركة التحرر الوطني والتي صهرت وذوبت قبائل السودان في بوتقة واحدة عاملاً آخر من العوامل المساعدة على تكوين القومية السودانية)

    عطاؤها لحركات التحرر الوطني في العالم:

    • كانت المهدية حركة هزت أركان العالم الاسلامي وترامى صداها في كل أنحاء العالم. وقد جاء توقيتها في وقت معاكس لأطماع الحركة الإمبريالية العالمية وفي أوج إنفتاح شهيتها لإلتهام العالم. وقد مررنا على التجاوب الواسع الذي شهدته من سكان العالم الاسلامي ومررنا على قول شقير عن المهدي والمهدية " لو أطال الله في أمده وزاد في توفيقه لقلب وجه الشرق إنقلاباً عظيماً" . ولقد أدركت مصر وتركيا وبريطانيا بل والدول الأوربية مجتمعة خطورة هذه الحركة . وليس صحيحاً ما يردده الكثيرون عند حديثهم عن أسباب نجاح الثورة من أن التراخي والتساهل والاستهانة بخطرها كان من عوامل انتصارها فالحقيقة التي لا مراء فيها أن الحملات قد تتابعت بقوة وبوتيرة عالية في محاولة قمع الثورة بل وقمعها حتى قبل أن تستعد هي للثورة المسلحة إذ كانت في نية المهدي أولاً الهجرة إلى مكان منعزل يكون فيه قيام الدين وتربية الأتباع كما هو معروف. إذن أدركت تلك القوى خطورة الثورة المهدية على الأقل في محيط العالم الاسلامي. قال سمرنوف: ( ان خطر حركة المهدية يكمن في أن يكون بمثابة الشرارة التي تشعل فتيل الصحوة في العالم الاسلامي) وبالفعل بلغ صدى الحركة أسماع العالم فحدثت إضطرابات في مناطق بيعيدة جداً كالهند وآسيا الوسطى دعك من مصر والحجاز وشمال وغرب إفريقيا مما أضطر السلطان العثماني لإصدار منشور في كل العالم الاسلامي ببطلانها.

    • قال عبد الودود شلبي: (فإن خواطر المسلمين من سكانه ( الهند) في هياج شديد بسبب ما شاع بينهم من دعوة محمد أحمد السوداني وبما يكمن في أهوائهم من الميل إلى تصديقه ، وتريد دولة انجلترا أن تصد المسلمين عن حج بيت الله الحرام حتى لا تصل أخبار محمد أحمد، وتورط الانجليز في مقاومته إلى مسامع الهنديين ، ولكن سيحمل هذه الأخبار إلى تلك الأقطار حجاج الأفغانيين والبلوجيين الذين يسلكون إلى الحج طريق البصرة بل يبلغونها على وجه أبلغ مما لو سمعوها بآذانهم) .

    وقد كتب الدكتور محمد المصطفى موسى عن إنعكاساتها في الصحف الأمريكية والروسية والبريطانية، كما كتب البروفيسور يوسف فضل عن هذا البعد الخارجي ورقة مفصلة وضح فيها أبعاد ذلك الانتشار الخارجي. وقد مررنا على بعض مكاتبات الخليفة للمنضمين للحركة من خارج الحدود ولم نشر لمكتابات المهدي العديدة كما أن الحديث عن آثار المهدية على الحركات المماثلة بشرق وغرب أفريقيا خارج عن إطار هذا الكتاب الصغير.

    الحلقة القادمة: المهدية : مراجعات وعطاء جديد:

    الهوامش:

    قال متولي العتباني في مذكراته داحضاً مقولة تحيز المهدي ضد البيضان (ان الذين يروجون لهذا الفكرة يظلمون المهدى ظلما شنيعا فقد كان المهدى زعيما صاحب افق واسع وفهم صحيح كان لا يفرق بين ابيض واسود او بين الزنجى والعربى )

    (للمزيد أرجع لكتاب الحركة الفكرية في المهدية لأبي سليم على سبيل المثال)

    د. محمدابراهيم ابو سليم الآثار الكاملة للامام المهدي ج 1 –ص 78 والمنشور بتاريخ 30 يونيو 1881.

    هولت سابق ص 49

    نفسه ص 24

    يوشيكو كوريتا سابق ص 70

    نفسه ص 50

    سمرنوف سابق ص 164

    سمروف ص 207

    شلبي الأصول الفكرية سابق ص 267

                  

03-23-2016, 11:09 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الحلقة العشرون ( الأخيرة)
    المهدية : مراجعات وعطاء جديد:
    أما عطاء المهدية في أطوارها اللاحقة فلا يقل بأي حال من الأحوال عن عطائها الأول التأسيسي. قال المعصوم صلى الله عليه وسلم : (مِثْل أُمَّتِي كَمَثَلِ الْغَيْث لَا يَدْرِي أَوَّله خَيْر أَوْ آخِره )
    تلخص الكلمات التالية التي كتبتها في ذكرى السيد عبد الرحمن المهدي ملامح عطاء المهدية في طورها الثاني، الطور الذي أعقب ذهاب الدولة وشهد معركة إسترداد الراية التي سقطت ورفعها مرة أخرى بعمل مدني طويل النفس :
    (في التحديث والتغريب:
    (أنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة وقعقعة سنابك خيل " اللنبي" وهي تطأ أرض القدس. البواخر التي مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الخبز ،وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود. وقد أنشاوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم. أنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، أنني جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلاً، عطيل كان أكذوبة)
    بهذه الكلمات قدم مصطفي سعيد بطل رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال مرافعته، التي شكلت واحداً من المواقف المتباينة تجاه تلك الظاهرة الغربية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. تبني الراوي في تلك الرواية موقفاً آخر: مسطحاً أو فلنقل محايداً تجاه الإنجليز الذين(كونهم جاءوا ديارنا لا أدري لماذا هل معني ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا. لأنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً... سكك الحديد والبواخر والمستشفيات ستكون لنا) كما قال في أحد المواضع أو كما قال ساخراً من مصطفي سعيد في موضع آخر (مصطفي سعيد قال لهم أني جئتكم غازياً. عبارة ميلودرامية ولا شك ولكن مجيئهم هم أيضاً لم يكن مأساة كما تصورنا نحن ولا نعمة كما يصورون هم. كان عملاً ميلودرامياً سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافه عظمي) وغير هذين الموقفين تنوعت المواقف من الرفض المطلق فقد شهد السودان أكثر من عشرين انتفاضة مسلحة ضد الحكم البريطاني منيت كلها بهزائم ساحقة ماحقة. فأنزوي كثير من الرافضين الذين بقوا على قيد الحياة وانكفأوا على ذواتهم ورفضهم. وسار آخرون من عوالم الجنوب في اتجاه آخر إذ رأوا "في الغرب" طريق الخلاص الوحيد، وبقيت جموع كثيرة تعاني دوار الصدمة وغياب الرؤية، فهم مشتتون بين أصولهم بخيرها وشرها وبين عصرهم القادم إليهم من الغرب، بخيره وشره. شغل جدل الأصالة والمعاصرة أو الحداثة عوالم الفكر والسياسة والأدب: لم تكن رواية موسم الهجرة أول ولا آخر المعبرات عن ذلك " ولا قنديل أم هاشم" ليحي حقي ، ولا أبيات حمزة الملك طمبل:
    لا خير فيمن تفرنج منا لا ولا في القديم المعمما.
    ولا حيرة المجذوب وتساؤله في مقدمة ديوانه "الشرافه والهجرة" الشرافة: رمز الأصالة والهجرة: إلى المدينة التي هي مظنة المدنية! ولا في انطلاقه وتحرره من أسر أصالته وجذوره ولا في خيبته إذ يفعل ذلك:
    (لم تشف لوعتي اثينة الجدال والحكمة والسؤال
    فقيرة مترفة الجمال
    أخون ألواح الولي والبشارة القديمة
    أضيع الوصية العذراء والتميمة).
    لم يقتصر ذلك الجدل على عالمنا الثالث،ولم ينته الحوار ولم يعتدل الميزان بعد حسب تعبير المجذوب فالقضية مازالت تُشْكِل رغم تقادم السنين على أرباب الفكر وأساطين الثقافة ومثل رمزية الشرافة والهجرة، جاءت رمزية الليكزس والزيتون لتوماس فريدمان ومثلها نهاية التاريخ لفوكوياما وضدها وتجادلها "نهاية التقدمية" لساكيكيبارا الياباني الذي يدعو للتعايش بين الثقافات والقبول بالتعددية وهكذا.
    كيف استطاعت بصيرة الفتي اليافع أن تنفذ إلى رؤية رائدة تفصل بين التحديث والتغريب، ذلك التحديث الذي أتي به قاتلوا أهله "مات ثمانية من إخوانه جراء ذلك الغزو". كيف استطاع التسامي فوق جراحات نفسه وغيظها فلم تسقط نفسه في مستنقعات الحقد الموقع في التهور ولا الانكسار ولا اليأس "البارد" حسب تعبير أبي تمام. كيف حافظ هذا الفتي على جوهر حداثة الغرب وصادم التغريب ومظاهره.
    رائد التحديث:
    تقوم الحداثة على العقل "وعقلنة" كل مناحي ومناشط الحياة وهي بتعبير (ألان تورين) صاحب كتاب نقد الحداثة: هي انتشار منتجات النشاط العقلي: التقنية والإدارية والسياسية تلك المنتجات التي تجلت في النظام السياسي الديمقراطي القائم على أفكار النيابة والانتخاب والتداول السلمي للسلطة. وفي النظام الاقتصادي المنطلق من آلية السوق الحر في الاستثمار وإنتاج السلع والخدمات القائم وعلى العدالة الاجتماعية في توزيع العائد وتتجلى منتجات الحداثة في وصولها لحماية حرية البحث العلمي والتكنولوجي.
    إذن فالحداثة قائمة على العلم والعقل، اللذين يتيحان عبر أنشطتهما تلك المجموعة من النظم السياسية والاقتصادية والتقنية. كان رائدنا أول من فطن لذلك بعد صدمة الاستعمار فكان صاحب أول امتياز لصحيفة سودانية( حضارة السودان)الأسبوعية الأدبية الاجتماعية. كان ذلك في فبراير 1919م. اتخذ من تلك الصحيفة منبراً يدعو لنقل مجتمعة إلى الحداثة لمواجهة الغول الجاثم على صدره بنفس سلاحه. وفي أول عام لصدروها أطلقت نداءً بإنشاء المدارس الابتدائية الأهلية (قبل مؤتمر الخريجين ويوم تعليمه بسنوات عديدة). وبعد عودة الوفد من بريطانيا دعا رائدنا أقرانه من الزعماء وأشركهم في امتياز صحيفته لتكون معبرة عن كل السودانيين في مطالبهم الوطنية. وتتجلى ريادة صاحب كلمتنا في مجال الصحافة في كونه ـ بالإضافة لما سبق- أول من أصدر صحيفة يومية في تاريخ السودان: صحيفة النيل في 1935م. وصاحب أول صحيفة حزبية: صحيفة الأمة. أما ريادته في مجال التعليم فقد انشأ مدرسة أهلية في بيته لأبنائه وأبناء مناصريه (1919م) واردفها بمدرسة أوليه لبناته وبنات مناصريه 1928م لتشجيعهم على كسر الحاجز النفسي وإلحاق أبنائهم بسلك التعليم. وأوعز لصديقه بنقل مدرسة الأحفاد من رفاعة لأمدرمان. وتوالى فيض عطائه في مجال التعليم: مدخل الحداثة:
    • فساهم في إنشاء المدارس الأهلية في كل السودان: مدرسة العمال بعطبرة ـ مدارس النهضة بالأبيض ـ مدرسة مدني الأهلية ـ مدرسة تنقسي الجزيرة وغيرها.
    لم يكن ينظر لهوية أو فكر مؤسس المدرسة لتنال دعمه ورضاه فدعم مدارس المليك ومدارس بيت الأمانة والمدرسة الأهلية الوسطي بأم درمان والمعهد العلمي وغيرها مع اختلاف مؤسسيها معه.
    • وأسس صاحب سيرتنا مدارس في كثير من مناطق البلاد للبنين والبنات لا سيما في مناطق تجمع مناصريه الذين شجعهم على ولوج أبواب التعليم عكس إشاعات مناوئيه المغرضين. فأسس على سبيل المثال مدرسة أولية بالجزيرة أبا (1925م).
    • وكان رائدنا أول سوداني يدخل التعليم الحرفي للبلاد حينما انشأ المدرسة الصناعية والزراعية بالجزيرة أبا. وكذلك شجع على إدخال النسيج والغزل في مدرسة البنات ـ أبا.
    • وكان صاحب سيرتنا رائداً لمحو الأمية حينما انشأ مدارس الإرشاد.
    • ولم يقف دعمه على المجهودات الشخصية وإنما كان أول من جعل لدعم التعليم شكلاً مؤسسياً حينما كون في مؤسسته الخاصة لجنة للبعثات والإعانات التعليمية لها ميزانية سنوية راتبة تنفق على النبوغ المحروم حسب تعبيره (إذ كان حريصاً ألا يقف ضيق ذات اليد عائقاً في طريق تلقي العلم لشاب سوداني). وكلمة سوداني التي ذكرها إنما كان يعنيها فلم يكن ينظر لانتماء أسر الطلاب أو انتماء الطلاب أنفسهم. فقد دعم سفر أعضاء من جمعية اللواء الأبيض لمصر رغم اختلافهم معه ورغم معارضة الحكومة لسفر هؤلاء لمصر(مثل توفيق أحمد البكري ومحمد المبارك) وكان صاحبنا من أكبر المساهمين في إنشاء ملجأ القرش وفي إطعام وكساء تلاميذه، كما أوفد أبن أحد زعماء الدينيين للدراسة مع أبنائه.
    • وكان أول من ساند المرأة في طلب العلم بالخارج إذ أوفد إحدى حفيداته للاستزادة من العلم بالخارج وقبلها شجع إحدى البنات على دراسة التمريض بالخارج بعد أن درست مبادءه بالدايات.
    • ولم يقتصر دعمه على التعليم المدني إذ انشأ المدارس الدينية وفي كل بقاع السودان وانشأ ثلاثة معاهد علمية دينية. وقد طور صاحبنا المناهج في تلك المعاهد والمدارس حينما أدخل فيها ولأول مرة مواداً مدنية.
    وتتوالى مظاهر الريادة والتحديث عند صاحب كلمتنا هذه، فقد حارب العادات الضارة رغم خلفيته الدينية "التقليدية" في نظر كثير من الناس: فحارب عادة الختان التي ثار دفاعاً عنها بعض المدنيين! وحارب العادات المقعدة بالمجتمع عن النهوض: المغالاة في المهور والتبطل في المآتم التي يمضي فيها الناس الأسابيع الطوال في صرف مرهق. وتجلت عبقريته الاجتماعية في إنشاء مدن فاضلة يعمل فيها الناس في رباط من المحبة، تخلو من الجريمة ومن العاطلين والمتسولين ومن شرور النفس البشرية المعتادة متى اجتمع الإنسان إلى أخيه، فقد روى صديقه في تاريخه لحياته كيف إن الإنجليز لما أرادوا تدمير قرية الرحمانية بالنيل الأزرق تصدي ذلك الصديق مذكراً بأن صاحبنا قد انشأ في كل قرية دكاناً يستدين أهلها منه ويكتب كل منهم ما استدانه بنفسه في كراسة يذهب ليحاسب بها نهاية العام. لم تشفع نموذجية القرية في حمايتها من مصير الحرق والتخريب على يدي البريطانيين. كان صاحبنا رائداً في مجال التحديث الزراعي والصناعي فكان أول من أدخل أساليب الميكنة الزراعية من السودانيين. وأول من ابتدع التجارب الزراعية، بل لقد كانت تجاربه مرشداً استفادت منه الإدارة البريطانية مثلما حدث حينما استحدث زراعة القطن بالنيل الأبيض الذي ظن الإنجليز عدم ملائمته لذلك، وعادوا لزراعته بمنطقة الدويم بعد نجاح تلك التجربة.
    • وكان أول من أدخل مسألة تحسين السلالات الحيوانية: الخيول والأبقار. وكان أول من أدخل فكرة المؤسسية في العمل التجاري والصناعي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. وحتى عندما أراد تعيين أحد النابهين الذي هو حفيد صديقه، سكرتيراً له دعا معه المسؤلين عن إدارة المؤسسة التي يعمل بها معلماً واخذ موافقتهم على ذلك وتم الاتفاق أن يتم ذلك على سبيل الإعارة.
    أما الحديث عن ريادة صاحب كلمتنا في مجال التجديد الديني فهي بحر لجى يصعب الخوض فيه في هذه القصاصة. ولكن أهم ملامح ذلك التجديد تجلت في أنه كان من أوائل المنظرين والمميزين لثوابت الدين ومتحركاتة التي تخدم مقاصده لقد اخترق ذلك الاجتهاد سدف الغيب وفتح طريقاً وسطاً للإسلام عصمه من مذمة طرفي قصد السبيل.
    كان أول من وسع مفهوم الجهاد من مجرد القتال إلى كل جهد يُبذل في سبيل الله، وعبر عن الزهد بأن لا تملك الدنيا الإنسان وإن ملكها وإن تكون في اليد لا في القلب. وغير بيعة أصحابه له لتشمل هذا التعديل الهام (في مفهومي الجهاد والزهد) حسب الظرف الزماني والمكاني وما الفقه إلا تنزيل النصوص على واقع حياة الناس. وكان أول من كتب في الحرية الدينية، لم يقتصر في ذلك على احترام الآخر المذهبي ولا الآخر الديني فقط ولا على التعامل معه وأخذ النافع منه بل واعترف بحقه في التبشير بدينه.
    كان أول من أصٍّل في السودان لإسلامية النظام الجمهوري الديمقراطي حينما ذكر(بأن النظام الجمهوري الديمقراطي نظام أصيل في الإسلام ديننا الديمقراطي).
    لقد تميز صاحب كلمتنا هذه بالتسامح الديني والمرونة والبعد عن الانكفاء والتزمت. فلقد شجع الفنون باعتبارها وسائل لتهذيب النفوس ونشر المعرفة وأداة للهو البريء فشجع المسرح والشعر والغناء ففك أسر عاني المطربين (كما حدث مع الحاج محمد أحمد سرور) وصلى على ميتهم (كرومة) رغم استنكار عامة "علماء" ذلك العصر دعك من متزميتهم. وكان راعي ذلك المجتمع الأول إن لم يكن الأوحد.
    وكما فتح ذراعيه للآخر الديني والمذهبي، فتح ذراعية لأبنائه في الجبهة المعادية للاستعمار ورحب بانضمامهم لجبهته الاستقلالية، واستقبل فيما بعد ضيوفهم من الحزب الشيوعي السوفيتي وما كانت إنجازاته كلها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها إلا انعكاسا لحياته الروحية ومبادئه الدينية. نبل المقاصد وواقعية الوسائل مع الإيمان الشديد بقضاياه، ذلك الإيمان الذي أورثه مثابرة دفع ثمنها جسده الذي لم يعرف للراحة طعماً.
    كان صاحب كلمتنا أول من افترع طريق الجهاد المدني والعمل السياسي السلمي. كان واضح الرؤية والهدف منذ صباه الباكر: لابد من رفع الراية التي سقطت.
    استشنع من ينظر للظواهر إهداءه سيف والده لعدوه، ولكنه رأى في إهداء السيف نفسه سلاحاً ضمن أسلحته القائمة على الجهاد المدني، فسيف والده سبق أن استلمه الملك جورج الخامس بقواته لما انتصر على جيوشنا في كرري.
    كان أول من دعا لمؤتمر ضم من يتفقون معه في فكرته مع غيرهم في منزله بالعباسية (1924م) وكان أول من دعا لبلورة كينونة قومية سودانية في ذلك المؤتمر. كان أول من طالب بحق تقرير المصير بصحيفة النيل قبل مذكرة مؤتمر الخرجين.
    تحمل أذي البريطانيين الذين قتلوا أهله وإخوانه وحاصروهـ فلم يكن مسموحاً له بالذهاب إلى غرب البلاد، ولما قبل بقوانين اللعبة التي وضعوها وحقق مقاصده واقترب من تحقيق الاستقلال عبر مؤسسات التطور الدستوري اشتدت ضراوة العقوبات الاقتصادية والسياسية فسحبوا تصديق بعض مشاريعة الزراعية وانشأوا حزبا ضرارا اسموه الحزب الجمهوري الاشتراكي من زعماء العشائر. فلم يكن جمهورياً ولا اشتراكياً بطبيعة الحال. ومن قبل ابتدعوا نظام الإدارة الأهلية كيداً له إذ نظروا لحركته الحديثة المنظمة كخطر ما حق، (قرأت الكاتبة اليابانية يوشيكو كورينا ذلك في سياق أن حركته هي حركة تجاوزت القبيلة إلى رحاب أوسع ومن هنا كان خطرها عليهم). ولكنه استطاع استمالة معظم رجال الإدارة الأهلية لصفه. لقد اتعب رائدنا الإنجليز كما يتْعَب الطفلُ الذي يحاول إغراق "الفلين" بوضع أحجار لاتلبث أن تغرق ويواصل الفلين طفوه على السطح. وقوض رائدنا حكمهم كالماء يمشى على مهل وعلى مرأى من الجدر فلا يلبث أن يدكها دكاً ويذرها قاعاً صفصفاً. لقد كان رائدنا أبا الوطنية إذ تحمل في سبيل الوطن كل أذى، كما كان أبا القومية إذ لم يدخر وسعاً في جمع شمل أبناء الوطن على صعيد واحد، ولم يلتفت أبداً لمكاسب ضيقة بل كان باذلاً كل ما يملك : مادياً كان أو معنوياً في سبيل جمع أبناء السودان، كان كما وصفه صاحب حقيبة الذكريات حينما تعرض لجهده في إنهاء إضراب كلية غردون (كان رحمه الله رحب الصدر سخياً عظيم المروءة سيداً حقاً). ولم يَعْدُ وصفه تقرير حقيقة معروفة فما أصعب وصفه وما أجسر من يحاول ذلك. في ذكراه السابعة والأربعين ...كلمات عييات لا بد من قولهن أسأل الله بهن عوالي المقامات مع صاحب هذه الكلمة حين تأزف الآزفة. رحم الله رائد التحديث في السودان.)
    ولئن أشارت هذه الكلمة إلى عطاء المهدية في طورها التالي لزوال دولتها فإنها بلا شك تقصر عن إستقصائه.
    المراجعات
    جاء الطور الثاني أيضا في ظل استعمار غاشم سماه العقل الجمعي التركية اللاحقة وإن اختلف عن الأول في أنه كان استعماراً لقوة صاعدة عسكرياً واقتصادياً (بريطانيا) بينما كان الاول لامبراطورية متفسخة. في ظل هذا الواقع تمت مراجعات للوسائل كما تمت مراجعات للأهداف التي حالت ظروف الاستعمار الأول دون تحقيقها فعلى سبيل المثال جدد السيد عبد الرحمن الذي إلتف حوله الأنصار البيعة فسماها بيعة الرضا وهي بيعة طوعية لاتجبر أحداً على عقدها ولاترتب على ناقضها عقوبة سوى أن تخلي بينه وبين ما اختار من مذهب أو طريق، ووسع مفهوم الجهاد فصار أوسع من القتال وصار السعي في الرزق وامتلاك أسباب القوة الاقتصادية ضرباً من الجهاد، ووسع كذلك مفهوم الزهد ليصير (إن تمتلك الدنيا ولا تملكك أي تكون في اليد لا في القلب). ولكل المفهومين الجديدين (في الزهد والجهاد) ارتباط وثيق بالتجديد في الوسائل وهما العماد الفكري للطور الثاني، ومن الأصلين السابقين نسل باقي التجديد وأهم ملامحه الجهاد المدني وهو السعي لتحقيق الأهداف بالوسائل السلمية كافة: السياسية والاقتصادية وغيرها، وللجهاد المدني أصل راكز في الإسلام بل وفي المهدية نفسها. ومن ملامح التجديد الديني عند الإمام عبد الرحمن: تبني النهج الوسطي في الإسلام: حيث تم الاعتراف بالآخر المذهبي والتعاون معه واحترامه. وتم الاعتراف بالآخر الملي في الوطن واحترامه. وقامت العلاقة مع الآخر الملي الاجنبي على أساسا المصلحة واستصحاب النافع من منجزاته فـ "الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" وتم تأصيل النظام الديمقراطي وأنه لا يتعارض مع مبادئ الإسلام وقد أشار البروفسور محمد هاشم عوض الاقتصادي الراحل الكبير إلى ريادة الإمام عبد الرحمن في الفقه الاقتصادي وسماه (رائد صيغ التمويل الإسلامية) في ورقة له وهكذا كما سبقت الإشارة.
    كان قائد المهدية واعياً بالمرارات التي حدثت في المهدية فسعى بكل ما يملك لردم شقة الإنقسام في الجسم السياسي السوداني وعمل بكل ما يملك على بلورة قومية سودانية وحرص على العمل القومي ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. فمع أنه كان صاحب امتياز صحيفة حضارة السودان (1919م) – إلا أنه أشرك في عام 1920 الميرغني والهندي معه في ملكيتها . وكان أول من دعا لمؤتمر ضم من يتفقون معه في فكرته مع غيرهم في منزله بالعباسية (1924م) دعا فيه لبلورة كينونه قومية سودانية. واستمر ذلك الموقف الساعي لوحدة السودانيين حينما انشأ حزب الأمة (ويعني كل الأمة السودانية) وعرض على الآخرين الانضمام للحزب ليكون حزب كل السودانيين .ولكنهم رفضوا ذلك. وقال عن ذلك: (لم يدر بخلدي آنذاك أدنى شك في اتفاق الجميع على مبدئه ( أي الحزب ): السودان للسودانيين وإني أرى أن تعدد الأحزاب في الوقت الحاضر والهدف واحد مضر بمصلحة البلاد ولا مبرر له) نقل الدكتور منصور خالد عن الإمام عبد الرحمن قوله بأنه في سبيل لم شمل أهل السودان سيصدق الذي يكذب عليه وسينخدع لمن يريد خديعته ولا يسعنا الاستمرار في تعديد النماذج إذ كانت حياته العامرة كلها سعى في هذا الاتجاه (قبول نتائج الانتخابات الأولى رغم الفساد المصري- رفع العلم..الخ) وقد لخصت كل ذلك مقولته التي صكها فصارت شعاراً ومثلاً سار بذكره الركبان ( لا شيع ولا طوائف ولا أحزاب ديننا الاسلام ووطننا السودان). وكان يعتبر نفسه أباً للجميع وكان له شعور قوي بالامتنان للسودانيين الذين ضحوا بالغالي والنفيس أثناء المهدية فكان تواصله مع كل فئات المجتمع التقليدي والحديث السياسي- الأدبي- الفني.. الخ ومشاركته في كل انشطته. وكانت رعايته للجميع من أيده ومن خالفه. وكان يتألف أعداء المهدية حتى الأجانب منهم وقد نال سلاطين – وما أدراك ما هو – ما ناله من فيض كرمه حينما دارت عليه الدوائر.
    وكان قائد المهدية عظيم الإمتنان لتداعي الشعب السوداني ووقوفه مع دعوة والده العظيم ولذلك كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر للسودان وأهله فما سمع هيعة إلا لباها وما من أمر فيه رفعة السودان وعز بنيه إلا شارك فيه.
    عطاء متواصل وأدوار جديدة :
    ولئن تحدثنا عن بعض عطاء المهدية في صورة عطاء قائدها في طورها الثاني، فقد أسس هذا القائد العظيم مؤسسات سياسية ودينية وإقتصادية مضت بتلك الأسس الأبوية الفاضلة إلى رحاب التطبيق المؤسسي فصارت تلك المؤسسات طوق نجاة البلاد ومحط آمالها وعقل الأمة السودانية وضمير الأمة الإسلامية.
    أما عطاؤها الوطني الحاضر فهو ثباتها على طريق النهج القومي الجامع بعيداً عن الحزبية، واستقامتها على النهج السلمي رغم كل الظروف وتمسكها بالنهج الديمقراطي لا ترضى له بديلاً.
    وعلى هذا النهج انتثرت ثمارها الصالحة حاكمةً ومعارِضةً، فعند الحكم تبسط أيديها لجمع الكلمة حتى ولو امتلكت تفويضاً شعبياً لتحكم منفردة، وتقدم نموذجاً في عفة اليد والتفاني في خدمة مصالح الخلق والقيام بالأمانة وبسط العدل وحفظ حقوق الناس وإكرامهم والمبالغة في صيانة إستقلال الوطن أرضاً وقراراً وغير هذا مما يقوم به الحكم الصالح. وعند المعارضة ترفض كل سلطة لا تأتي عبر رضا الناس واختيارهم ووفق مباديء الحكم الراشد. بل وتقدم عند المعارضة نماذج تستعصي على فهم البعض في التفريق بين المعارضة للنظام الحاكم والمعارضة للوطن، وتفرق بين الثوابت الوطنية التي يجب على الجميع مراعاتها تحت كل الظروف وبين المتغيرات التي يجوز الإختلاف حولها سعياً نحو الأفضل للوطن.
    ويمتد عطاؤها الوطني الفكري ليصالح بين عقائد الناس وولاءاتهم وبين حقوق الجميع في المواطنة، وليصالح بين تراث الجماعات وأصلهم وبين حاضرهم وعصرهم. فكان أن رسّخت مفهوم المواطنة الذي يساوي بين الجميع ورسخت مفاهيم حقوق الإنسان كحقوق لها قدسية لا تمس، وأثمرت مواثيق ثقافية لتحقيق السلم الثقافي والاجتماعي ومحو الاستعلاء الثقافي والإثني.
    وبنفس الطَّرْق على النهج القومي السلمي الديمقراطي طرقت على الوسطية تأصيلاً وممارسة وتبشيراً حتى قوي عودها وصارت ترياقاً يحاصر التطرف الديني والتكسب الديني في البلاد وفي المنطقة.
    فمن أراد وصفات الدواء لأوجاع البلاد السياسية وأسقامها فلن يجد نبعاً يغرف منه إلا هذا النبع جحد من جحد واعترف من اعترف.
    ومن أراد شفاءً لأسقام المنطقة الإسلامية المأزومة فلن يجده إلا في هذا الفكر الوسطي المستنير المحيط بتشخيص الداء العارف بأسرار الدواء الناصح للأمة من غير منٍّ ولا أذى ولا مأرب خاص. هذا هو الدور الذي تلعبه المهدية اليوم وهذا ملخص القضية ومختصرها من غير إطناب فاللبيب تكفيه الإشارة والجاحد لن يفيده طول العبارة.


    الملاحق:
    مقال القدال:
    بيني وبين المنظمة العربية للثقافة والعلوم
    د. محمد سعيد القدال

    لست هنا بصدد الحديث عن تجربة شخصية مرت بي مع هذه المنظمة الموقرة، فليست صفحات الجرائد مسرحا للخلافات الشخصية. ولكن للتجربة انعكاسات على الحركة الاكاديمية، رأيت ان اشرك فيها القاريء السوداني.
    تتولى المنظمة العربية الاشراف على اصدار كتاب باسم: «الكتاب المرجع في تاريخ الامة العربية»، الذي تتولى ليبيا تمويله. وتكونت لجنة عليا لتقوم بتوزيع الابحاث على المختصين. وكان الدكتور ابو سليم، رحمه الله، من اعضاء تلك اللجنة. ورشحني لكتابة الجزء الخاص بالثورة المهدية في السودان. وذكر في ترشيحه إني ألفت خمسة كتب ومجموعة من الابحاث عن المهدية.
    وبعد ان ارسلت البحث، وصلتني رسالة من الامين العام للمجلس التنفيذي تضمنت ملاحظات المشرفين العلميين الذين يتولون تحرير وتقييم الابحاث. وقمت بالرد عليها في رسالة الى الامين العام في ابريل عام 2003م ، وكان ردي على الاعتراضات كما يلي.
    1) ترى اللجنة العلمية اني تعاملت مع الثورة المهدية بمفهومها الحرفي، فتوقفت عند وفاة المهدي وسقوط الخرطوم . فقلت ان تعاملي مع الثورة المهدية لم يك حرفيا وانما كان تاريخيا . فقد اندلعت الثورة للقضاء على الحكم الاجنبي وانتهت عند تحقيق ذلك الهدف . وما حدث بعد ذلك يندرج في اطار مرحلة تاريخية اخرى. وكل الثورات لها بداية ونهاية ولا تمتد الى ابعد من هدفها . فمتى تنتهي الثورة الفرنسية او الثورة البلشفيه؟ ان الكتاب الجامع الذي سوف تصدره المنظمة ، يتناول الفترات التاريخية التي تشكل المعالم الاساسية في تاريخ الامة العربية ولا يتناول كل الاحداث ما كبر منها وما صغر، والا امتد الى عشرات المجلدات .
    2) قالت اللجنة اني تبنيت المقولة التي روجت لها المدرسة البريطانية والتي تصف الوجود المصري في السودان بأنه استعمار . اولا، تستعمل اللجنة العلمية تعبير (الوجود المصري في السودان) ، وهذا تعبير غير دقيق وغير علمي . الافضل ان نقول الحكم التركي - المصري . ثانيا، ان وصف الوجود المصري في السودان بأنه استعمار ليس قاصرا على المدرسة البريطانية ، او على الذين تبنوا مقولتها دون تبصر بينما تمكنت المدرسة المصرية من تفنيدها لما تمتلكه من قدرات اكاديمية اكبر من التي نمتلكها. ثالثا، كيف نصف الجيوش التي ارسلها محمد على باشا للسودان بعدتها وعتادها ودخلت في حروب مع اهل البلاد ، وفرضت عليهم نظاما باطشا وقاسيا ، وصف المؤرخ السوداني (كاتب الشونة) جانبا منه فقال ان (الدفتردار وضع يده بالخراب، فما ترك بالبلاد انيسا ولا تسمع لها حسيسا من حد شندي حتى كترانج) . فهل جاءت تلك الجيوش في رحلة نيلية لتستنشق هواء البلاد العليل؟ وطلبت من اللجنة العلمية مراجعة كتابي «تاريخ السودان الحديث» من صفحة 127 الى 145 عن المقاومة السودانية للحكم التركي - المصري.
    ثم قلت في رسالتي: اذا كانت هناك حاجة لمراجعة فترة الحكم التركي - المصري في السودان، فإن المدرسة التاريخية المصرية اولى بتلك المراجعة ، لأن كتاباتها في هذا الصدد منحازة وتعبر عن موقف الفئات الحاكمة في مصر وليس عن موقف اكاديمي . وليس هذا رأينا نحن الذين انسقنا خلف المؤرخين البريطانيين دون روية، بل قاله الاستاذ محمد انيس، عليه الرحمة، عندما جاء الى السودان عام 1980م، ممتحنا خارجيا لرسالتي للدكتوراة . فقال ان المؤرخين المصريين تبنوا في دراساتهم عن الحكم التركي - المصري في السودان موقف الفئات الحاكمة في مصر وابتعدوا عن الموقف الاكاديمي . واعتقد ان الدكتور انيس من اعمدة المدرسة التاريخية المصرية ، ولم يكن منساقا خلف المؤرخين البريطانيين.
    ان المؤرخين المصريين انساقوا وراء الرأي الذي يقول ان الثورة المهدية كانت خروجا على الشرعية العثمانية ، وانها حطمت وحدة وادي النيل . ولذلك سموا غزو السودان عام 1896م، (استعادة السودان). اي عودة السيادة العثمانية . وهو نفس الرأي الذي اعتمد عليه الاستعمار البريطاني في صراعه الدبلوماسي مع فرنسا حول ازمة فشودة الشهيرة عام 1899م . حيث احتج البريطانيون بان الفرنسيين تعدوا على السيادة العثمانية . فمن الذي انساق خلف الموقف الاستعماري البريطاني؟
    3) ثالثا ان القول بأن المدرسة التاريخية المصرية فندت ما قالت به المدرسة التاريخية البريطانية ، فأمر يحتاج الى وقفة. فتفنيد المدرسة المصرية لا يعدو عن كونه رأي اكاديمي مثل مختلف الدراسات الاكاديمية التي تقبل الرفض والقبول ، وليس الرأي النهائي والحكم الاوحد. فالمدرسة التاريخية المصرية لها انجازاتها المقدرة، ولكنها ليست هي المرجعية التاريخية لما يكتب عن الحكم التركي - المصري في السودان.
    كما ان وصف كتابات المؤرخين البريطانيين بأنها كتابات استعمارية ، فيه اجحاف بحق تلك الكتابات . فقد قدم بعض المؤرخين البريطانيين دراسات عن الحكم التركي - المصري انصفته انصافا لا تجده حتى عند المؤرخين العرب. واشير هنا بشكل خاص الى دراسة البروفيسور هولت بعنوان: (الردة والتحديث في السودان في القرن التاسع عشر)، التي تناول فيها جوانب التحديث التي ادخلها الحكم التركي - المصري، وكيف ان المهدية كانت ردة على ذلك التحديث. وقد ناقشت افكاره بهدوء دون ان اتهمه بالانحياز للعثمانيين ومعاداة المهدية . فالساحة الاكاديمية تموج بمختلف الدراسات، التي يحكم عليها فقط بقوة طرحها وتماسكه ، واشير ايضا الى كتاب البروفيسور ريتشارد هيل بعنوان: (مصر في السودان)، الذي يعتبر مرجعا اكاديميا له وزنه.
    4) دعا الامين العام في رسالته الى عدم اثارة الحساسيات التي اشعلها الاستعماريون ، حتى تتم الاستجابة للمنطق الوحدوي للكتاب. واقول ان الحساسيات التي اشعلتها بعض الانظمة العربية اكثر ضراوة مما اشعله الاستعماريون . الى متى نظل نتخذ من الاستعمار شماعة نعلق عليها كل اخفاقاتنا؟ اما اذا كان للكتاب منطلقات وحدوية، فلن يكون دراسة اكاديمية لأن الدراسات الاكاديمية لا تنطلق من النتيجة التي سوف تنتهي اليها. مثل هذه الابحاث كتابات للدعاية ولن تقوى على الوقوف كثيرا. واذا كانت ليبيا تتولي تمويل الكتاب، فهذا لا يعني ان تفرض رؤيتها على منهج البحث.
    وفي الختام طلبت من اللجنة ان تبحث عن شخص آخر غير منساق للمؤرخين الاستعماريين واكثر تفهما للمنطلق الوحدوي للكتاب.
    وتكرم الامين العام بالرد على رسالتي في 5/5/2003م، وللأسف الشديد جاءت الرسالة تنضح بالتبرير. فيقول ان الكتاب ينطلق من منظورات ثلاثة هي: المنطلق الوحدوي ، الفهم الحضاري ، والتقيد بأسلوب البحث العلمي . ان المنطلق الوحدوي هو الاستنتاج الذي قد تنتهي اليه الدراسة او لا تنتهي . فكيف تكون النتيجة هي منطلق البحث؟ ألم اقل ان اصابع ليبيا النفطية تتخلل البحث؟ لقد سئمنا من تدخل الانظمة الشمولية في كتابة التاريخ، بداية بالاتحاد السوفيتي السابق حتى انظمة البعث والقوميين.
    وماذا يقصد الامين العام بالفهم الحضاري ؟ لا استطيع استيعاب مثل هذه التعابير المعممة. أما التقيد بأسلوب البحث العلمي، فلا يحتاج الى اعلان لأن الذي يحكم ذلك التقيد هو البحث نفسه وليس الاعلان عنه. وهل تقيدت اللجنة العلمية الموقرة بأسلوب البحث العلمي عندما اعترضت على وصف الحكم التركي - المصري بأنه استعمار وفضلت عليه تعبيرالوجود المصري؟ ان استنتاج اللجنة العلمية ، بعيد عن المنهج العلمي وعن الفهم الحضاري وعن حقائق التاريخ الساطعة ، ولم تنظر الى التاريخ الا من زاوية واحدة ضيقة اشد الضيق.
    ان المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، خرجت عن طابعها القومي فيما يختص بالكاتب الجامع، واصبحت تحركها اصابع ليبيا والمدرسة التاريخية المصرية التي لايحظى استنتاجها بالقبول في الساحة الاكاديمية من اميركا حتى الهند .

    من مفارقات الفهم والتبرير في العلاقات السودانية المصرية ، عندما يخدم التأريخ مصلحة مصر في السودان يكون مقبولاً ومستساغاً حتي وإن صدر من دولة الإستعمار البريطاني ، وإلا فهو غير صالح ومجافي للحقيقة ، وإن كانت كل الشواهد تؤكد الحقيقة التأريخية .

    منشور في عدد من المواقع منها
    http://sudaneseonline.com/board/8/msg/-1081979719.html
    وايضا
    http://www.sudanray.com/showthread.php/522-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A8-%E2%80%99%E2%80%99-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%80-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9http://www.sudanray.com/showthread.php/522-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A8-%E2%80%99%E2%80%99-%D8%A7%D9...B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-
    %E2%80%98%E2%80%98


    الهوامش:
    رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَد
    صحيفة السوداني – مقال: إلى رائد التحديث في ذكراه مارس 2006م
    الترمذي
    حسن نجيلة: ملامح من المجتمع السوداني ص 24
    قال السيد عبد الرحمن في مذكراته (وأردت أن أكون جبهة أخرى تطالب بالاستقلال وينبعث وجودها من واقع البلاد وتاريخها، فدعوت الزعماء و الأعيان والتجار في منزلي بامدرمان عام 1923م وحصر الاجتماع زعماء الختمية والأعيان وتحدثنا في المسائل التي تهم البلاد وخطب في الاجتماع السيد إسماعيل الأزهري (جد إسماعيل الأزهري) والشيخ الطيب هاشم وألقى كلمتي على المجتمعين السيد حسين شريف وقد طالبت في تلك الكلمة أن نعلن عدم اعترافنا باتفاقية 1898م التي لم نكن طرفا فيها وبقيام وضع يبرز كينونة السودان وقدمت هذه المطالب للحاكم العام ولكنه لم يرد عليها، ويمكنني القول بأن مؤتمر العباسية قد فشل أما المطالب التي طالبنا بها قد تحققت بعد ثلاثين عاما.
    د.فيصل عبدالرحمن الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني بشأن السودان ص 206
    نفسه ص 207
                  

03-31-2016, 09:21 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الله اكبر ولله الحمد
                  

03-31-2016, 10:18 AM

Ammar Makki
<aAmmar Makki
تاريخ التسجيل: 01-18-2013
مجموع المشاركات: 650

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    من ممكن ان اتقبل على مضض نقدك الموجه لجائزة نجيب محفوظ ..
    ولكن ماذا عن وصول رواية شوق الدرويش الي القائمة المصغرة للبوكر مع خمس روايات اخرى ..

    (عدل بواسطة Ammar Makki on 04-03-2016, 07:37 AM)

                  

04-03-2016, 07:38 AM

Ammar Makki
<aAmmar Makki
تاريخ التسجيل: 01-18-2013
مجموع المشاركات: 650

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: Ammar Makki)

    Up
                  

04-20-2016, 04:56 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: Ammar Makki)

    ساعود ان شاء الله
                  

04-05-2016, 04:03 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الله اكبر ولله الحمد
                  

04-10-2016, 09:44 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الله أكبر ولله الحمد
                  

06-02-2016, 05:07 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الله أكبر ولله الحمد
                  

06-04-2016, 03:03 PM

sadig mirghani

تاريخ التسجيل: 03-03-2014
مجموع المشاركات: 2555

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدروي� (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    والله فترة حكم المهدي بعد دخول الخرطوم كانت وجيزة
    ولكن فترة حكم الخليفة كانت من اسوأ مراحل الحكم الاسلامي
    في السودان والحق يقال.
    ولا توجد عنزتان تنتطحان في تلكم الحقبة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de