الأستاذ محمود: بين "إنصاف" عبدالله الفكي و "تحامل" محمد محمود. بقلم إبراهيم عبد النبي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-20-2024, 08:55 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-21-2015, 12:35 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48926

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الأستاذ محمود: بين "إنصاف" عبدالله الفكي و "تحامل" محمد محمود. بقلم إبراهيم عبد النبي

    11:35 AM Feb, 21 2015
    سودانيز أون لاين
    Yasir Elsharif - Germany
    مكتبتي في سودانيزاونلاين



    سلام للجميع
    هذه سلسلة من مقالات كتبها الأخ الأستاذ إبراهيم عبد النبي وسمح لي بوضعها في هذا المنبر لمزيد من النقاش حول موضوع الأستاذ محمود محمد طه..
    ياسر

    ــــــ
    ــــــــــــ

    الأستاذ محمود: بين "إنصاف" عبدالله الفكي و "تحامل" محمد محمود (1)
    إبراهيم عبدالنبي



    قبل أكثر من عامٍ من الآن، منذ نوفمبر عام 2013 وحتى الآن، أدرتُ خيطاً في المنبر الخاص بالجمهوريين (الصالون) داعياً الأستاذ عبدالله الفكي البشير، للحوار حول بعض المحاور في كتابه (محمود محمد طه والمثقفون)، حيث أشدْتُ بالقيمة التوثيقية العالية للكتاب، ولكني حددتُ أن هناك بعض "الهَنات" التي شابت الكتاب، من قبيل مجانبة المؤلف، في خلاصات بعينها، لأسس البحث العلمي (المحايد)، بالمدى الذي ربّما يزيد من "التغييب" و "العزلة"، خصوصا أن مؤلف الكتاب أعلن أن كتابه يأتي بسبيل من "كسر" طوق العزلة والتغييب الذي ضربه بعض المثقفين حول فكر الأستاذ محمود ومواقفه!

    ولكنّ الأستاذ عبدالله الفكي امتنع، على طول المدى، عن الدخول في الحوار، دون إبداء أي سبب، رغم مناشدة بعض أعضاء "المنبر" له بالدخول في الحوار لإبداء رأيه حول ما أبديتُه من ملاحظات، وما وجّهته لكتابه من نقد.. علماً بأني استبعدتُ، ابتداءً، أن يكون هناك قصد أو تعمد من جانب الأستاذ عبدالله في أن تشوب كتابه تلك (الهنات)، خصوصا في ظل ما بذله من جهد مضنٍ، ومقدّر!

    وكان نقدي لكتاب الأستاذ عبدالله على محاور، من ضمنها محور بعنوان (المحاباة البحثية)، تحدثتُ فيه عن عدم حياد الباحث تجاه النقد الموجه إلى فكر ومواقف الأستاذ محمود، من بعض المثقفين! وضربتُ مثالا لذلك بموقف الباحث من د. محمد أحمد محمود، وكتاباته عن الأستاذ محمود، خصوصاً في موضوع الخفاض الفرعوني، ونسب الأستاذ محمود إلى الشيخ الهميم، ممّا ورد في كتاب د. محمد محمود الذي درج البعض على ترجمة عنوانه كما يلي: (السعي نحو الألوهية: دراسة تحليلية لفكر محمود محمد طه)، وهو بالإنجليزية:

    Quest for Divinity:
    A Critical Examination of the Thought of Mahmud Mohammad Taha


    وكان الأستاذ عبدالله الفكي قد شمل د. محمد محمود ضمن فريق د. خالد المبارك ود. محمد وقيع الله، في هذا، ولكنّه استل د. محمد محمود من هذا الفريق استلالا، دون أي دليل، كما يلي:
    (من المهم الإشارة إلى أن محمد أحمد محمود، التزم منهجا علميا صارما في دراسته عن الأستاذ محمود، وهو بعيد كل البعد عن أولئك الذين وسمتهم بالمستنتجين للنتائج البكماء والخلاصات العرجاء في مسألة صلة الأستاذ محمود بالشيخ الهميم، كما هو الحال لدى محمد وقيع الله)!!

    هذا بالإضافة إلى أني تطرقتُ إلى بعض الخلاصات والتقريرات الأخرى، المتحاملة فيما أرى، من كتاب د. محمد محمود.. علما بأني سوف أؤجل، إلى حلقة قادمة، استعراض خلاصات د. محمد محمود حول "الخفاض الفرعوني" و "نسب الأستاذ"، وأعطي الأولوية في هذه الحلقة الأولى، والحلقة التي تليها، لأحكام "قيمية"، أطلقها د. محمد محمود، على الأستاذ محمود، في سياق استعراضه لموقفين هامين للأستاذ محمود، يكاد يكون حولهما إجماع (معاكس) لما خلص إليه د. محمد محمود!

    جديرٌ بالذكر أن الأستاذ عبدالله البشير وصف كتاب د. محمد محمود، هذا، كما يلي: (الكتاب يعد أول دراسة نقدية شاملة لفكر الأستاذ محمود، تصل إلينا من مثقف سوداني أكاديمي له خبرة طويلة في الأكاديميا الغربية والعربية والسودانية ).. ثم ذهب الأستاذ عبدالله ليفصّل القول:
    (ففوق المنهج العلمي الصارم الذي التزمه محمد أحمد محمود، فإن أهمية دراسته تأتي أيضا من كونه كان على معرفة بالفكرة وبالمجتمع الجمهوري من الداخل، إذ التقى الأستاذ محمود وقضى بعض الوقت في معيته، وكان لفترة وجيزة من بين تلاميذ الأستاذ محمود.4 إلا أنه لم ترد إشارة لذلك في الكتاب)!

    وقد وضع الأستاذ عبدالله تفسيرا للحاشية (4) كما يلي:
    (مقابلة مع عصام عبدالرحمن البوشي، 17 ديسمبر 2009، مدني؛ مقابلة مع النور حمد، 22 نوفمبر 2009، الدوحة)!!

    وكما نرى، الأستاذ عبدالله الفكي البشير أكد أهمية كتاب د. محمد محمود لسبين: أولهما أن الكتاب تم إعداده وفق (منهج علمي صارم)! وثانيهما (وهو الأهم في نظر الباحث) أن د. محمد محمود كان (على معرفة بالفكرة وبالمجتمع الجمهوري من الداخل، إذ التقى الأستاذ محمود وقضى بعض الوقت في معيته، وكان لفترة وجيزة من بين تلاميذ الأستاذ محمود)!!

    أول ما يقدح في (شهادة) الأستاذ عبدالله الفكي هذه عن (تلمذة) د. محمد محمود للأستاذ محمود، أنها مستندة إلى (أخبار شفاهية، وروايات سماعية)! ولعلي لا أحتاج أن أذكر، هنا، أني أحاكم الباحث عبدالله إلى (معياره) الذي وضعه بنفسه! فهو قد عاب، في كتابه، خلاصات بعض من انتقدهم قائلاً إنها (تقوم على الروايات السماعية والأخبار الشفاهية غير الدقيقة)، ومن ثَمّ وسمها بأنها (نتائج بكماء) و (خلاصات عرجاء)!! علما بأن عبدالله أقر، في كتابه حسب المقتطف أعلاه، أن د. محمد محمود، نفسه، لم يشر إلى معلومة (التلمذة) هذه في كتابه!

    وفي تقديري، أرى أنه كان على الأستاذ عبدالله، ومن منطلق (الصدقية البحثية)، أن يتأكد، على الأقل، من معلومة (التلمذة) بنفسه من الدكتور الفاضل، ويثبتها في كتابه للقاريء! بدلا من الاعتماد على (الأخبار الشفاهية) و (الروايات السماعية) عنها! فدكتور محمد محمود موجود، والاتصال به متاح! والتلمذة (خصوصا في أمر كالفكرة الجمهورية) لا تجزي فيها (شهادة) الشهود! خصوصا إذا كان (المعني بالتلمذة) على قيد الحياة، وقد اختار (السكوت) في مقام هو أنسب المقامات للإفصاح عن هذه (التلمذة)، ألا وهو إصدار كتاب في (تحليل) فكر (المعلّم) المفترض! والباحث عبدالله، لا بد يعلم أن معلومة (التلمذة) ذات وزن عند القاريء _خصوصا القاريء غير المطّلع_ من حيث اعتماده لصدقية (نتائج) و (خلاصات) الدكتور، حول شخص الأستاذ محمود، وفكره، وتلاميذه! كيف لا، ود. محمد محمود، بشهادة الباحث عبدالله، يكتب عن (معرفة بالداخل بالفكرة وبالمجتمع الجمهوري)!

    لذلك: سأستعرض في هذه الحلقات بعض (النتائج) و (الخلاصات) التي استخلصها د. محمد محمود، في كتابه، بغرض إثبات أن الباحث عبدالله الفكي أعطى كتابة د. محمد محمود أكثر مما تستحق بكثير! وتغاضى عن مثالب عديدة فيها! فكتابة د. محمد محمود، في تقديري، تسير في نفس اتجاه كتابات غيره التي ذمّها الأستاذ عبدالله الفكي، إن لم تجزْها!! فالأستاذ عبدالله ذمّ بعض الكتابات قائلا إنها:
    (تنقصها المعلومات وضعف الإلمام بالحقائق التاريخية.. واتسمت بالضعف والسطحية والمهاترة والمجافاة للمصادر والمراجع، الأمر الذي يجعلها لا ترقى لمستوى الدراسة العلمية، وإنما تظاهرة بحثية هتافية فاقدة للأركان العلمية، وينقص أصحابها الورع العلمي والحصافة والكياسة المعرفية، كما أنها تقوم على الروايات السماعية والأخبار الشفاهية غير الدقيقة)!!

    وفي هذه الحلقة، والحلقات التالية، سنرى كيف أن د. محمد محمود يتبع أسلوبا غريبا في كتابه، حيث يأتي بمقتطفات من كتب الأستاذ محمود وأحاديثه، بمراجعها، ثم يقفز منها إلى نتائج وخلاصات تبدو وكأنها معدّة (مسبقا) عنده، ولا تسندها المقتطفات التي أتى بها!!

    أما الآن، وكما قلت أعلاه، فسوف أستعرض في هذه الحلقة الموقف الأول من موقفين أرى أن هناك شبه إجماع عليهما، حتى من كثير من المعارضين، وهما: 1- موقف الأستاذ محمود المناهض لحل الحزب الشيوعي عام 1965، انطلاقا من كفالة حرية التعبير والتنظيم! و 2- دور الإخوان الجمهوريين، تحت رعاية الأستاذ، في تأسيس ورعاية وإدارة أركان النقاش والحوار في الجامعات والشوارع والميادين العامة!

    فلنسمع، أولا، ماذا قال دكتور محمد محمود في كتابه عن موقف الأستاذ (المناهض لحل الحزب الشيوعي) سنة 1965!!

    على صفحة 21 من كتابه يحدّث د. محمد محمود قراءه عن موقف الأستاذ محمود، المناهض لحل الحزب الشيوعي، فيقول:
    (كان طه ناشطاً في الحلف العريض المناهض لحل الحزب الشيوعي، وقد كتب ردا شن فيه هجوما حارقا ضد منشور الترابي، حيث وصفه بأنه "متهافت، و سطحي، وينضح بالغرض، ويتسم بقلة الذكاء الفطري". وقد أكد طه على نقطة أساسية وهي أن المادة المتعلقة بحرية التعبير وحق التنظيم وفق القانون هي روح الدستور وأصل كل القوانين. إلا أن موقف طه كان ذا طبيعة أكثر تعقيدا. فدافعه لاتخاذ ذلك الموقف، لم يكن فقط إيمانه بكفالة حق حرية التعبير وحرية التنظيم للشيوعيين، بل، للمفارقة، كان مدفوعا بكراهيته العميقة للشيوعية، وللماركسية أيضا! وقد احتج بأن الحزب الشيوعي عندما يضطر للعمل السري، تحت الأرض، فإن الشيوعية ستكسب سحرا مغريا وجاذبا، وبالتالي تمثل خطراً أكبر)!!

    أولا: لم أسمع أن هناك شخص هو (على معرفة من الداخل بالفكرة الجمهورية والمجتمع الجمهوري) وتتلمذ للأستاذ (سواء لفترة وجيزة أو غير وجيزة)، قد وصف الأستاذ محمود بأنه كان مدفوعا لعمل أي شيء من منطلق (كراهية عميقة) - (profound antipathy)!! فالأستاذ محمود يدعو إلى (محبة الأحياء والأشياء)! ويقول إن (محبة الأحياء والأشياء) من (مقتضيات العبودية)! بل (لا تصح عبودية العبد بدونها)! وكثيرا ما يستدل بقول الشيخ العبيد ود ريّه: (الما عندو محبة، ما عندو الحبة)!

    الأمر الواضح، لي على الأقل، أن (خلاصة) د. محمد محمود أن الأستاذ محمود في مناهضته لحل الحزب الشيوعي (كان مدفوعا بكراهيته العميقة للشيوعية، وللماركسية أيضا) ما هي إلا مجرد تحامل، لم يقم الدكتور عليه دليلا!! بل أقوال الأستاذ، وفعاله، تدل على عكس ما يريده د. محمد محمود تماماً!! ثم إن (الحجة) التي نسبها د. محمد محمود للأستاذ بعد تقريره (المجحف) هذا: (وقد "احتجّ" بأن الحزب الشيوعي عندما يضطر للعمل السري، تحت الأرض، فإن الشيوعية ستكتسب سحرا مغريا وجاذبا، وبالتالي تمثل خطرا أكبر) لا تقف في مصلحة خلاصته!! فهذه الحجة رفعها الأستاذ محمود، في وجه الترابي، تحديدا، حيث (حجّ) الترابي بأن (مجاهدته في حل الحزب الشيوعي) لن تحقق له ما يريد! ذلك أن الاضطهاد والكبت لا يوقف الأفكار، بل يزيدها سحرا، ويزيد من عطف الناس عليها!! فقد قال الأستاذ محمود، تحديدا، ما يلي:
    (ومهما يكن من الأمر فإنّ الدكتور الترابي ليس ضد الشيوعية إلا بعقله الواعي الذي يظهره لسانه، أما تكوينه الداخلي، في محتويات ثقافته، فإنها من نفس المادة التي صُنِعت منها الشيوعية! ولذلك فإن أقواله ضد الشيوعية! وأعماله لمصلحة الشيوعية، من حيث لا يدري.. ومن هذا القبيل مجاهدتُه الشديدة في حل الحزب الشيوعي! فإنّ حل الحزب الشيوعي لا يضر الحركة الشيوعية، بل يمكّن لها في البلاد.. لأسباب عديدة منها:
    1- الشيوعية فكرة.. والأفكار لا تحارب بسن القوانين التي تضطهدها، وإنما تحارب بالأفكار.
    2- الشيوعية حركة عالمية، وليست حركة في داخل السودان وحده، ومحاربتها بالقوانين لا تقتلها، وإنما تضطرها لتنزل تحت الأرض، وتستمر في نشاط سري يزيد من سحرها ويغري بها).. الخ

    هذا ما كان من أمر (المقتطف)! وكان أولى بالدكتور أن يورد (السياق) الذي ورد فيه هذا المقتطف الذي خرّج منه زعمه بأن الأستاذ محمود، كان (للمفارقة) مدفوعا (بكراهيته العميقة) للشيوعية وللماركسية أيضا، في دفاعه عن كفالة (حرية التعبير والتنظيم) للحزب الشيوعي! أليست (خلاصة الدكتور هذه) هي عين (المفارقة)؟؟

    الواضح أن د. محمد محمود "اقتلع" عبارة الأستاذ محمود من سياقها، ليحمّلها ما لا تحتمل، ويخلص منها إلى ما يريد من (إدانة) جاهزة (مسبقا) عنده!

    جدير بالذكر، أن (الحجة) التي تقول بأن اضطهاد الأفكار وكبتها، بالقوانين أو بالمحاربة، يزيد من سحرها وإغرائها وعطف الناس عليها، إنما هي (حجة) دارجة عند الأستاذ، وقد استخدمها فيما يخص فكره هو نفسه، وكذلك فيما يخص الدعوة الإسلامية، أول ما انبثقت!

    علاوة على ما ذكرتُ أعلاه، فإنّ أبلغ مثال، عندي، على تحامل الدكتور هو ما قرّره الدكتور بنفسه!! ذلك أن دكتور محمد محمود قرّر، في كتابه، أن الأستاذ (يقف بقوة إلى جانب التسيير)، ومعنى ذلك أن الأستاذ (يؤمن) بمبدأ (التسيير) في الحياة!! فقد ذكر الدكتور في (الفقرة الثانية) على صفحة (112) من كتابه ما يلي:
    (في سياق مراجعته وتقييمه للمواقف التقليدية في الجدل (حول التسيير والتخيير) يقف طه بقوة إلى جانب "التسيير". بل إنه يعادل موقف من يقولون بالتخيير، بالشرك، ويقرر إن سوء فهم هؤلاء للموضوع ناتج عن ملاحظتهم السطحية لبعض تصرفات البشر، وعن فهمهم السطحي لبعض آي القرآن)!!

    فكيف يتسنى لمؤلف محايد أن يقرر عن شخص، في كتابه، أنه (يقف بقوة إلى جانب التسيير)، بل يقرر عنه إنه (يعادل موقف من يقولون بالتخيير "بالشرك")، ثم يقرر في سياق آخر، من نفس الكتاب، أن (ذات الشخص)، حين دعا لكفالة حرية التعبير، وحرية التنظيم، للحزب الشيوعي، بل تحمّل الأذى في سبيل ذلك، كان مدفوعا ("بكراهيته العميقة") لمذهبية هذا الحزب الفكرية؟؟ الواقع، أني لا أعلم أحدا من الماركسيين، ولا حتى من غلاة معارضي الأستاذ، قد وجه اتهاما كهذا للأستاذ: ("طه" في مناهضته لحل الحزب الشيوعي كان مدفوعا بكراهيته العميقة للشيوعية، وللماركسية أيضا)!! فلم يبق، إذن، إلا التحامل، والإجحاف! بل إن (صيغة) الاتهام نفسه (مرتبكة) ولا تستقيم!!

    الواقع، المثبت، أن الأستاذ محمود لا يقف بقوة إلى جانب (التسيير) فحسب، بل هو يقول بالتسيير "المطلق"! ويقول إن كل الغرض من العمل، في الشريعة، أن يقودنا لاستيقان هذه الحقيقة (حقيقة التسيير المطلق في الوجود) فنبلغ حريتنا، من ثَمّ! ومن هذا المنطلق، يقول الأستاذ محمود عن (الماركسية)، التي يزعم د. محمد أن الأستاذ (يكرهها كراهية عميقة)، ما يلي:
    (ميزاننا، إذنْ، اليُمْكن نَزِنْ بيهُو الماركسية هو: (لا إله إلا الله).. هو دقة التوحيد المنتظم الوجود، في أعلاه، وفي أسفله!! وانطلاقاً من هذا الميزان يجب أن نصحّح مفهوم شائع، هو: أن الماركسية ما حقها يتكلّم عنّها الناس _خصوصاً إذا كانوا دعاة إسلام_ ذلك لأن الماركسية "رجس من عمل الشيطان"، وأنها لا حاجة لنا بها!! وأول ما يجب أن يُصحّح بميزان: (لا إله إلا الله) هو: أن ليس هناك باطل مطلق يمكن أن يدخل في الوجود!! كل ما دخل في الوجود إنما دخل بإرادة إلهية! والإرادة لا يمكن أن تكون باطل مطلق! وما نراه نحن باطل في الإرادة، إنما هو باطل "حكم"، باطل "شرع"، باطل لمصلحة وجهة نظرنا نحن! لكن، من وجهة نظر الحق، ليس هناك إلا الحق!! وماركس ما جاء بحاجة ما أوحاها ليهو الله! حتى الإلحاد الإنتو ما عايزنّو في الماركسية، ما دخل في الوجود إلا بوحي إلهي، لحكمة إلهية، يجب أن يتابعها الناس، حتى تنجلي ليهم! ومن الخطأ أن نرفض أي شئ من التراث البشري بحكمنا عليه أنه باطل مطلق)!!

    ويقول الأستاذ محمود أيضا:
    (النقطة البنبتدي منّها، هي نقطة عدم الرفض المطلق لماركس! ونقطة عدم القبول المطلق لماركس! يجي هذا من اعتبار أن فكره إنما هو نشاط بشري، فيهو خطأ، وفيهو صواب.. ولما نحن نقول إننا سنرى ما ليهو وما عليهو في الميزان، معناه إننا سنضع، في كفة الحسنات، حسناته، ونضع، في كفة السيئات، سيئاته.. والمجهود الإسلامي، كله، له هيمنته، على النشاط البشري كله.. لما قال، عن كتابنا: "مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه.."، يعني أن كتابنا، يعني أن ديننا، مهيمن على الأديان، و كتابنا مهيمن على الكتب.. الكتب دي مش مجرد الكتب الأربعة المنزلة من السماء.. وإنما كل كتاب، حتى كتاب "رأس المال" بتاع ماركس، القرآن مسيطر عليهو، ومهيمن عليهو، ويستطيع أن يظهر الخطأ الفيهو، ويظهر الصواب الفيهو.. من هذا المنطلق نستطيع أن نتكلم عن "الماركسية"..)!!

    إلا أن المتتبع لكتابات د. محمد محمود، خصوصا كتابه محل إشادة عبدالله الفكي، لا شك يلحظ مثل هذه الأحكام "الشخصية" التي يطلقها الدكتور في حق الأستاذ محمود!! خصوصا اتهامات "العداوة" و "الكراهية" و "المقت" و "البغض"!!

    فهو، على صفحة (23) من كتابه يقول، مثلا، عن تأييد الأستاذ محمود لنظام مايو ما يلي:
    (كان طه من أوائل من سارعوا إلى تأييد الانقلاب العسكري، قائلا إن النظام الجديد قد وقف حائلا دون الطائفية. ومرة أخرى يظهر أن عداء طه وكراهيته للطائفية أكبر من التزامه بالديمقراطية)!

    وفي سياق آخر، على نهاية صفحة (22) وبداية صفحة (23)، يخبر د. محمد محمود قراءه أيضا عن "كراهية" أخرى عند "طه"! فهو يقول تعليقا على موقف الأستاذ محمود، من هزيمة يونيو، أن طه (يمقت) الأنظمة العربية العلمانية! بل يعتقد، مع قبيل من الإسلاميين، أن الله يشاركهم (مقتهم) هذا للأنظمة العربية العلمانية! وفي هذا منتهى التحامل من الدكتور!! لنسمع الدكتور:
    (تجاوب طه مع هذه الهزيمة الماحقة والمروّعة كان براجماتيا، ودينياً أيضا. فقد رأى في الهزيمة يد الله: أي أن الهزيمة كانت نذيرا عريانا ليعي العرب (والمسلمون) قلة حنكتهم وسوء تدبيرهم! فقد كان طه، وبعض الإسلاميين، يظنون أن الله يشاركهم مقتهم للأنظمة العلمانية العربية، ويمقتها كما يمقتونها، خصوصا نظام عبدالناصر)!!

    بالإنجليزي:
    Taha’s response to this devastating and shocking defeat was both pragmatic and religious. He saw in it the hand of God: this was a rude awakening to show the Arabs (and the Muslims) the folly of their ways. This much was shared by Taha and some Islamists who believed that God shared their loathing of Arab secularist regimes, particularly Nasser’s regime.


    جدير بالذكر أن هناك معلومة بسيطة يعلمها كل من تتلمذ (ولو لفترة وجيزة) للأستاذ محمود، وهي أن هزيمة يونيو لم تفاجيء الأستاذ محمود، فهو قد توقعها، وحذّر منها! حيث كان، إبان الأزمة وقبل الهزيمة بأيام معدودات، يحاضر في كوستي قائلا إن جمال عبدالناصر، بإعلامه المضلّل، إنما يخدع العرب ويسوقهم إلى مواجهة هم فيها مهزومون حتماً! هذا، في حين كان اليساريون والناصريون يخرجون في مظاهرات هادرة، عقب محاضراته، وهم يهتفون ضده (محمود عميل صهيوني)!

    وقد صدقت كل كلمة قالها الأستاذ محمود في هذا الخصوص، حتى تلك التي تتعلق بالمستقبل البعيد، من قبيل قوله إن العرب، بانسياقهم وراء بطولات ناصر الزائفة، سوف يأتي عليهم يوم يهرولون فيه نحو السلام، ولن يجدوه، حتى بتنازلات أكبر بكثير مما يرفضونه آنذاك!! وقد حدث!! علما بأن بعض هذه المحاضرات مسجلة ومنشورة على موقع الفكرة!!

    ولكن: إسقاطات وتقريرات الدكتور في حق الأستاذ محمود، من قبيل إضماره "العداوة" و "البغض" و "المقت"، لا تقتصر، للأسف، على "الطائفية" و "الشيوعية" و "الماركسية"، بل تتعدّاها إلى مجال آخر، حيث التحامل والإجحاف أكثر "قتامة"! فالأستاذ محمود "مُعادٍ للفكْر"، بحسب الدكتور!! هكذا!! أليس هذا عجبا!!؟؟

    فعلي صفحة (32) من كتابه يقول د. محمد أحمد محمود، عن الأستاذ محمود والجمهوريين، ما يلي:
    (بسبب معاداة طه للفكر، نمت وسط الجمهوريين ثقافة داخلية قوامها عدم الثقة في المعرفة المستقاة من الكتب. وقد ساهم الموروث الشفاهي للمجتمع في تزويد الجمهوريين ببعض "الكبسولات" من المعرفة الصوفية. ولكن المصدر الأساسي لمعرفة الجمهوريين وغذائهم الفكري المستديم كان كتابات طه الخاصة)!!

    Owing to Taha’s anti-intellectualism, the Jumhuris developed an internal culture that was mistrustful of book knowledge. The community’s oral tradition provided members with some encapsulations of Sufi knowledge, but the main source of their knowledge and their constant intellectual diet was Taha’s own writings.


    أكتفي بهذا الآن، وأواصل، بعون الله، في الحلقة الثانية..

    إبراهيم عبدالنبي

    (عدل بواسطة Yasir Elsharif on 02-21-2015, 02:26 PM)

                  

03-01-2015, 07:39 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48926

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود: بين andquot;إنصافandquot; عبدالله الفكي و andquot;تحاملandquot; محمد (Re: Yasir Elsharif)

    الأستاذ محمود: بين "إنصاف" عبدالله الفكي و "تحامل" محمد محمود (2)


    إبراهيم عبدالنبي

    استعرضنا، في الحلقة الأولى، بعض (نتائج) و (خلاصات) د. محمد محمود، في كتابه، حتى انتهينا آخر الحلقة إلى تقريره إن (طه معادٍ للفكر)! وإن هذا (العداء) أثر على تلاميذه، بحيث (نمت لدى الجمهوريين ثقافة داخلية قوامها "عدم الثقة" في المعرفة المستقاة من الكتب)! ولذلك، لم يحوزوا إلا نزرا ضئيلا (كبسولات) من المعرفة الصوفية، هي حصيلتهم من الثقافة الشفاهية للمجتمع السوداني!!

    كما اطلعنا، في ذات الحلقة، على التقارير (اليقينية الجازمة) من الباحث عبدالله الفكي أنّ محمد محمود: (التزم منهجا علميا صارما في دراسته عن الأستاذ محمود) وأنه: (يكتب عن معرفة من الداخل بالفكرة الجمهورية وبالمجتمع الجمهوري)، وأنه: (بعيد كل البعد عن أولئك الذين وسمهم عبدالله الفكي بالمستنتجين للنتائج البكماء والخلاصات العرجاء)!!

    على هذا، وبما أن عبدالله الفكي أعلن أن كتابه يأتي بسبيل من (إنصاف) الأستاذ محمود، فإن تقاريره هذه عن كتاب محمد محمود، تجعله أحد رجلين: إما أنه لا يعرف (حقيقة) موقف الأستاذ محمود من (الفكر)! أو أنه (لم يقرأ) كتاب د. محمد محمود، واكتفى بآراء آخرين عن (الكتاب)، وأطلق تقاريره هذه، بناء على (آراء آخرين)!!

    ولأي سائلٍ محايد، أن يسأل الدكتور: إذا كان طه (معادٍ للفكر)، كيف يكون قد أنتج (فكرا)، يستحق أن تصدر كتابا في (تحليله)؟!؟ ثم، أليس ظلما أن يُوصَم بمعاداة الفكر، رجلٌ ظل طول وقته يدعو الناس، جميع الناس، إلى تحقيق (الفكر الذي يملك أن يفلق الشعرة، ويملك التمييز بين فلقتيها: أيهما أبيض، وأيهما أسود)!؟!

    لذلك: أفضلُ شيء، هنا، في مقام إثبات تحامل الدكتور، أن أورد بعض أقوال الأستاذ محمود الدالة على موقفه من (الفكر)، مثل قوله هذا:
    (ولسنا ندعُو، أولَ ما ندعُو، إلى شيءٍ أكثر، ولا أقل من إعمال الفكر الحر فيما نأتي وما ندع، من أمورنا _الفكر الحر الذي يضيق بكل قيد_ ويسأل عن قيمة كل شيء، وفي قيمة كل شيء، فليس شيء عنده بمفلت عن البحث، وليس شيء عنده بمفلتٍ عن التشكيك.. فلا يظننّ أحدٌ أن النهضة الدينية ممكنة بغير الفكر الحر، ولا يظننّ أحدٌ أن النهضة الاقتصادية ممكنة بغير الفكر الحر، ولا يظننّ أحدٌ أن الحياة نفسها يمكن أن تكون منتجة، ممتعة بغير الفكر الحر)!!

    علما بأن الأستاذ محمود يرى أن الشعب السوداني، تحديدا، هو أجدر، وأقدر الشعوب، على تحقيق قيمة (الفكر)! و التخلق بفضيلة (الفكر)!! فلنَسمع، ولنُسمع الدكتور، والباحث عبدالله الفكي، ما يلي:
    (أنا أعتقد أنه مافي مجتمع، من المجتمعات التي نعرفها، في مستوى يمكنها أن تتحسّن، ثم هي عاجزة عن التحسّن، زي بلادنا نحن! وسبب عجزها عن التحسّن أنه "الفكر" مُجْدِب! والشاعر قال: ولمْ أرَ في عيوبِ الناس عيْباً، كنقصِ القادرينَ على التّمامِ! فالسودانيين قادرين على التّمام، ثم ناقصين!! وأنا أفتكر نقصهم مُلتمس في أنه "الفكر" مُجدِب! إلى الحدود الأنّو الجهل يستعلن، ويحارب الفكر، ثم يجد من يسمع ليهو! ومافي دخيرة للبلد، ليتغير وضعه من هذا الجدب، في الفكر، إلا الشباب المثقف! ومافي أداة لتعين الشباب المثقف على "الفكر" وتجويد "الفكر"، وتصفية "الفكر"، كالنهج الإسلامي)!!

    و (للمفارقة) أن محمد محمود (خصّ بالشكر) في مستهل كتابه بعض زملائه (جمهوريين وآخرين)، قال إنه ظل لفترة طويلة يناقشهم في الفكرة الجمهورية. وقد عدّ من الجمهوريين دالي، وستيفن هوارد، وآخرين! وحيث أن الدكتور نسب الأستاذ إلى (معاداة الفكر) والجمهوريين إلى (ضعف الثقافة) من ثمّ، فإني هنا، أسأله، كما سأله د. القراي من قبل: هل يجد د. محمد محمود، في نفسه، أنه أكثر اطلاعا وعلما بالثقافة العامة، أو الدين، من هؤلاء الجمهوريين الذين ناقشهم، خصوصا (دالي وستيفن)؟؟

    على كلٍّ، الأمانة تقتضي أن أقرر هنا، أن هناك فعلا، اتجاه من اتجاهات (التفكير) –ولا أقول (الفكر)_ لا يرضاه الأستاذ محمود، على وجه التحقيق! هذا الاتجاه هو أن ينحو الإنسان، إلى أن يبيع "كرامة فكره" بحطام الدنيا! ومن ذلك أن يكون "الفكر" الذي يتبناه "غير أصيل"، و "متكلّف"، مجاراةً منه لتيارات معينة، وخدمة لأجندة أطراف أخرى، مقابل بعض "الحطام الدنيوي"! فعن هذا النوع من (اتجاه التفكير) يقول الأستاذ محمود ما يلي:
    (الإنسان منذ أن وجد، قبل الأديان، كان عنده شعور بالحاجة للحرية! الحاجة للحرية حاجة مودعة فينا، موش شيء بنتكلّفوا، ولا هو ترف، ولا هو نافلة! شيء مودع فينا، زي حاجتنا للطعام! حاجتنا للحرية زي حاجتنا للطعام! الجسد، أو المعدة بتجوع، والعقل بجوع! غذاء المعدة الطعام، وغذاء العقل الحرية! لكن الإنسان بطبيعته، لنشأته الحيوانية، بِشعر بحاجة المعدة، قبل ما يشعر بحاجة العقل! وبطبيعة الحال، من أجل دا، كتير من الناس بسخّروا عقولهم لإشباع معداتهم! حتى الإنسان يبيع "كرامة فكره"، بحطام الدنيا، البشْبِع معدته! دا طبعاً الجانب الحيواني فينا! لكن ما من شك أنّنا كلّ مرة بنرتفع من الجانب الحيواني، لنشرّف الجانب الإنساني)!!

    وعلى ضوء هذا القول، أواصل استعراض وجه آخر من وجوه (المعرفة من الداخل) _اقرأ: (وجوه التحامل)_ في كتاب محمد محمود.. فقد ألصق على صفحة (32) من كتابه (خلاصة) أخرى متحاملة من خلاصاته (الجاهزة)! هذه المرة ليصم "دور الجمهوريين" في تأسيس أركان النقاش، وإدارتها! علما بأن (فضل) الجمهوريين في تأسيس أركان النقاش، وإرساء ثقافة الحوار السلمي، بتواضع وأدب، في الشارع والجامعات، واحتمال صنوف الأذى في ذلك، أمر اعترف لهم به حتى غلاة معارضيهم! ولكن الدكتور، من باب التعريف ربما، يحمل خلاصة (مسبقة) جاهزة، لا بد من إلصاقها على هذا الدور التاريخي! ولم لا، فالدكتور يسعى إلى تقديم طه، وفكره، وحركته، إلى القراء الذين لا يملكون معرفة (مسبقة)!

    يقول الدكتور عن دور الجمهوريين في تأسيس الأركان، على صفحة (32) من كتابه، ما يلي:
    (كانت حركة الجمهوريين العامة في الشوارع لافتة للنظر، فأنت تراهم في مجموعات من اثنين أو أكثر يجوبون شوارع معظم المدن والأرياف يناقشون الجمهور، والمشاة، وقد أصبح هذا منظرا مألوفا في معظم المدن والمحليات. فالجمهوريون كانوا أول من أسس نشاط أركان النقاش في جامعة الخرطوم. وقد انتشرت هذه الممارسة من ثم إلى بقية الجامعات. والجانب الصارخ في حركة الجمهوريين هو مشاركة النساء في الحركة العامة بالشوارع في نشاطات المجموعة، وقد كانت هذه المشاركة العامة مخالفة لما هو معهود في المجتمع السوداني الذكوري. إلا أنه من المهم، على كل حال، أن أؤكد أن الجمهوريين لم يكونوا يمارسون نشاط الأركان بأريحية وعقل مفتوح، بل كانوا يتبنون نهجا دعويا صفويا منطلقين من كونهم يمتلكون حقيقة الإسلام وأنهم هم معلمو الشعب، معتقدين بشدة أن المسألة مسألة وقت حتى يقتنع الناس بالحق الذي عندهم)!!

    لنسمع (لنتيجة) و (الخلاصة) النقدية (المهمة) مرة أخرى:
    (إلا أنه من المهم، على كل حال، أن أؤكد أن الجمهوريين لم يكونوا يمارسون نشاط الأركان بأريحية وعقل مفتوح، بل كانوا يتبعون نهجا دعويا صفويا منطلقين من كونهم يمتلكون حقيقة الإسلام وأنهم هم معلمو الشعب، معتقدين بشدة أن المسألة مسألة وقت حتى يقتنع الناس بالحق الذي عندهم)!!

    هذه النتيجة لا علاقة لها بالمقدمة! بل هي مجرد حكم قيمي (جاهز)، وإسقاط متعمد، ألصقه الدكتور على الحقيقة التاريخية التي سردها، ليكسبه صفة (الموضوعية)، والحياد! وإلا فأين النتيجة (صفويون)، من المقدمة ("يجوبون" الشوارع و"يناقشون" "الجمهور" و "المشاة")؟؟ إن هذا التقرير يعكس للأسف، أن الدكتور، في سبيل حرصه على إسقاط خلاصاته القيمية (الذاتية) الجاهزة، لا يلقي بالاً حتى إلى معنى (المصطلحات) التي يستخدمها، ومدى انطباقها، على الوقائع التي يتصدى لها!

    لا ريب عندي، فيما أعتقد، أنّ لدى د. محمد محمود مشكلة أساسية تجاه (طه) و (الجمهوريين)! وهي مشكلة ربما تكون ناتجة من (شعور) معين تجاه الأستاذ محمود، والجمهوريين، نتيجة جولات نقاشه مع الأستاذ، أو مع الجمهوريين، خصوصا من (خصهم بالشكر) في كتابه! ولعلنا نستطيع أن نتحسس (جانبا) من (المشكلة) في قول الدكتور هذا، على صفحة (34) من كتابه:
    (من المؤكد أن موت طه قد خلق لدى الجمهوريين أزمة قيادة، حيث كان طه هو مركز القيادة الروحية والتنظيمية للحركة. وبالتالي لم يكن مفاجئا أن تحدث أزمة قيادة لدى الجمهوريين. ولكن ليس هذا هو كل الأمر، فيما يتعلق بالصدمة القاسية التي حاقت بالجمهوريين. فالأزمة الحقيقية لحركة طه ليست أزمة قيادة، بل يمكن وصفها على أنها "أزمة استقلال فكري"! ذلك أنه، بالرغم من أن طه يركز في تنظيره على مفهوم "الحرية"، بل "الحرية الفردية المطلقة"، إلا أن هذا الجانب بالتحديد هو ما فشل في أن "يعطيه" لتلاميذه! فالحركة الجمهورية التي أنشأها مثلت انعكاسا لمفهومه هو للوصاية، حيث "لكل لطيف سلطان طبيعي على كل كثيف"! وكانت نتيجة هذه الوصاية الفكرية الشاملة التي مارسها على أتباعه، أن افتقرت حركته إلى المصادر الداخلية اللازمة لإنجاب القامات الفكرية والروحية من داخلها، مما جعلها غير قادرة على الاستمرار بعد وفاته)!!

    أعيد خلاصة الدكتور حول (الأزمة الحقيقية للجمهوريين) مرة أخرى لمصلحة مناقشتها:
    (الأزمة الحقيقية لحركة طه ليست أزمة قيادة، بل يمكن وصفها على أنها "أزمة استقلال فكري"! ذلك أنه بالرغم من أن طه يركز في تنظيره على مفهوم "الحرية"، بل "الحرية الفردية المطلقة"، إلا أن "هذا الجانب بالتحديد" هو "ما فشل في أن "يمنحه" لتلاميذه"! فالحركة الجمهورية التي أنشأها مثلت انعكاسا لمفهومه هو للوصاية، حيث "لكل لطيف سلطان طبيعي على كل كثيف"!)!!

    الأزمة، إذن، ليست أزمة (قيادة) فحسب! بل هي أزمة (استقلال فكري) سببها الأساسي وجود أزمة (فكر) و (التزام) وأزمة تسلط (وصاية) لدى المفكر (طه)!! ولا شك أن هذه، بالطبع، (خلاصة) أخرى (مسبقة) في سياق التعريف بطه وفكره! ولنا أن نسلّم أيضا، كما يريد عبدالله الفكي، أنها (أبعد ما تكون من "النتائج البكماء" و "الخلاصات العرجاء") التي استخلصها الناقدون الآخرون (المغضوب عليهم)! من منطلق أن عين (الرضا) عن كل عيب (كليلة)، بالطبع!

    على كل حال، أول ما يُقال في دحض خلاصة محمد محمود هذه، أن أبجديات المعرفة بعلوم الدين، و (فلسفة الدين) على الأخص، بل ما تعطيه البداهة، حتى من التركيب اللفظي لمصطلح (الحرية الفردية المطلقة)، أنه لا يمكن (لإنسان) أن (يمنح) أو (يهب) الحرية الفردية المطلقة (لإنسان) آخر! ذلك أن (الحرية الفردية المطلقة) _بين قوسين_ إنما هي (هبة من الله تعالى) ينعم بها تعالى _(أي: يمنحها)_ على من أحسن العبودية له، وأسلم _عن وعي ورضا_ إرادته المحدثة إلى الإرادة الإلهية القديمة! وحتى في هذه، فإن غاية الفرد البشري، في هذا المضمار، السير السرمدي باتجاه التخلق بأخلاق الذات، في (الحرية الفردية المطلقة)! وهيهات!! بل إن (الحرية)، من حيث هي، إنما هي (نفحة من نفحات الإطلاق تضوعت على أهل الأرض)، فيما يقول الأستاذ محمود!

    وللمرء أن يتساءل: هل لم يمر الدكتور، في سياق اطلاعه على "فكر طه"، على قول الأستاذ أن (الحر حرية فردية مطلقة، في الحقيقة، هو الله)، بدليل أنه (لا يُسألُ عمّا يفْعل! وهُمْ يُسألون)!؟؟ حيث: (لا يُسأل عمّا يفعل) تعطي الإطلاق! و (هم يُسألون)، تعطي القيد!

    كنتُ أود لو أستطيع أن أقول إن الدكتور ربما لا يكون قد مرّ على هذا القول، بسبب من كثرة أقوال الأستاذ محمود، وكتاباته! ولكن للأسف: لا!! فالدكتور (اطلع)! بل (يعرف) أن الأستاذ يقول: (الحرية الفردية المطلقة لا تمنح ولا توهب)! ولكن يبدو أنه كان مستغرقا بإثبات (خلاصته المسبقة) التي تدين الأستاذ، ربما تنفيسا عن (حيرته)! وعدم (فهمه)! لسر التوقف (المفاجيء والتام) لحركة (طه) إثر (موته)! فقد مهد الدكتور لخلاصته هذه الواردة على صفحة (34)، على طول صفحتين قبلها (من 32 إلى 34) بحديث مطول عن حركة الجمهوريين، قال فيه إنها حركة (محيرة) و (مربكة)، وإنه من الصعب أن يفهم المرء، أو يجد تفسيرا، للتوقف المفاجيء والتام لحركة الجمهوريين فورا إثر (وفاة طه)! ثم ألصق فيما يبدو أنه تنفيس عن هذه الحيرة والربكة (خلاصته المسبقة) عن (سر التوقف المفاجيء والتام لحركة طه إثر موته)!

    ومما يثبت أن الدكتور يعرف عكس ما خلص إليه، أنه، أدلى على صفحة (138) بتقرير مغاير!! ظنّا منه، ربما، أن مرور صفحات كثيرة كهذه قد تكون (طمرت) خلاصته المتحاملة، و (غبّت أثرها) على القاريء! فقد عمد الدكتور إلى إيراد (خلاصة جاهزة) أخرى، مغلوطة، تناقض (خلاصته) هذه، وتثبت أن (الحرية الفردية المطلقة) ليست شيئا يمكن لطه، أو أي بشر غيره، أن يعطيه للآخرين! ولا بد للآخرين من العمل الجاد وفق المنهاج لتحقيقها! ولا يظننّ أحدٌ أن الدكتور أورد هذا القول لإنصاف (طه)! لا!! بل قاله لإدراج (خلاصة جاهزة) أخرى: (من أجل تعريف القاريء الذي لا يملك "معرفة مسبقة"، بالرجل وفكره) بالطبع!!

    فعلي صفحة (138) من كتابه _أي بعد مرور مائة وأربعة (104) صفحة على (خلاصته) في صفحة (34)_ يقول الدكتور عن الأستاذ محمود وفكره ما يلي:
    (هناك جانب هام في مفهوم طه للحرية الفردية المطلقة، وهذا الجانب يتعلق بطريقة تحقيقها! فعلى ضوء اعتناقه لمذهب التسيير (الجبر)، كان من المتوقع أن يقول طه إن الحرية هبة من الله ينعم بها على البشر. ولكنّه يقول إن الحرية لا يمكن أن تكون هبة من الله! ولا بد للمرء أن يبذل مجهودا جادا لتحقيقها. وهذا المجهود الجاد يجب أن يكون منظما وموجها وفق منهاج يحدده هو في نظريته حول "تقليد النبي"، حيث يعيد تركيب محمد كنموذج. علما بأن المنطق الداخلي لنظريته هذه يقتضي أن يكون "محمد" شخصا حقق فعلا الحرية الفردية المطلقة، وهذا تحديدا ما يدّعيه طه). 12

    (An important aspect of Taha’s concept of absolute individual freedom is the modality of its realization. In light of his determinism, it might be expected that he would maintain that freedom is bestowed upon human beings. Yet, he argues to the contrary that freedom can never be a gift and one has to work hard to attain it. This hard work has to be systematic and structured and in accordance with the method (minhaj) he outlines in his theory of prophetic imitation, wherein he reconstructs Muhammad as a model. The inner logic of his theory of prayer requires that Muhammad be someone who has actually attained absolute individual freedom, and this is precisely what Taha claims)12.).


    أولا: ألفت النظر إلى نقل الدكتور المغلوط، والمبتور، لأقوال الأستاذ محمود، ليثبت خلاصته هو (المسبقة)! فالدكتور يقول إنه (كان من المتوقع، باعتبار اعتناق "طه" لمذهب "التسيير"، أن يقول إن "الحرية هبة من الله" ولكنه، مع ذلك، يقول "الحرية لا يمكن أن تكون هبة من الله")!! فقوله: (كان من المتوقع) مجرد ذر للرماد في العيون!! فهو يعرف أن (طه) يقول إن الحرية (منحة) من الله! وهذا أساس تعريف الأستاذ للحرية، في نفس الموضع الذي نقل منه! ولكنه للأسف، اختار أن (يتقول) هذا التقول (المجحف) على الأستاذ محمود! فالأستاذ محمود يقول تحديدا (عكس) ما نسبه الدكتور إليه!

    وأنا، هنا، ومن أجل إقامة الحجة على الدكتور أضع، للقاريء الكريم، خلاصته السابقة هذه من صفحة (34): (ذلك أنه، بالرغم من أن طه يركز في تنظيره على مفهوم "الحرية"، بل "الحرية الفردية المطلقة"، إلا أن هذا الجانب بالتحديد هو ما فشل في أن "يعطيه" لتلاميذه!)، مقابل خلاصته اللاحقة هذه من صفحة (138): (ولكنّه يقول إن الحرية لا يمكن أن تكون هبة من الله! ولا بد للمرء أن يبذل مجهودا جادا لتحقيقها)، لأثبت (التحامل) في خلاصته الأولى التي دمغ بها طه على أنه (فشل تحديدا في أن "يمنح" الحرية الفردية المطلقة لتلاميذه رغم تنظيره الكثير عنها)! فهو يقرر بنفسه إن (الحرية لا يمكن أن تكون هبة من الله! ولا بد للمرء أن يبذل مجهودا جادا لتحقيقها)! فهذه الخلاصة الثانية تجعل تحقيق (الحرية) متوقف على (بذل مجهود جاد من جانب الأفراد)! وهذا يعني أن (طه) لا يمكنه أن يمنحها لتلاميذه! وبالتالي يثبت (التحامل) في الخلاصة الأولى!

    ولكن، ما يدعو إلى الأسف والأسى حقا، هو أن ما نسبه الدكتور إلى (طه) في خلاصته (الثانية) هذه، إنما هو مجرد (تقول واختلاق وإسقاط) من جانبه! ولكن: لم لا يسقط ما يريد؟؟ فهو يكتب (عن معرفة من الداخل)!! وأهو: كلّه في سياق تقديم الرجل وفكره وحركته للناس!! وإنصافه منهم!!

    للعلم، ولتصحيح ما أورده الدكتور، الأستاذ محمود (وبعكس ما نسبه إليه الدكتور) يقول إن الحرية، من حيث هي، في أي مستوى كانت، إنما هي (نفحة أي _هبة_ من الله)! ولهذا فهي حق أساسي للفرد البشري، وليست منحة من بشر، وعلى هذا لا يحق لأي فرد بشري، أيا كانت سلطته، مصادرة حرية فرد آخر، في أي مستوى، إلا بموجب قانون دستوري، إثر سوء تصرف ثابت قانونا، من جانب ذلك الفرد في ممارسة حريته! ويقول إنه أي دستور لا ينص على حق الحرية، ليس بدستور، على الإطلاق!

    فلنسمع الأستاذ يحدثنا في كتابه (الرسالة الثانية من الإسلام) عن (الحرية)، بخلاف ما نسب إليه د. محمد محمود:
    (كثير من الفلاسفة يرى أن الحديث عن الحرية الفردية المطلقة نافلة من القول، وإلا فحرية الفرد يجب أن تكون مقيدة، إن لم نرد لها أن تصبح فوضى. وأما الإسلام فهو يرى أن الأصل في الحرية الإطلاق، وإننا حين نتحدث عن الحرية، من حيث هي، وفي أي مستوى كانت، إنما نتحدث عن الإطلاق، من حيث لا ندري، ذلك بأن الحرية المقيدة إنما هي "نفحة" من نفحات الإطلاق "تضوعت على أهل الأرض" بقدر طاقتهم على احتمالها، فكأنّ القيد ليس أصلا، وإنما الأصل الإطلاق، وما القيد إلا لازمة مرحلية تصاحب تطور الفرد من المحدود إلى المطلق. فالحرية في الإسلام مطلقة، وهي حق لكل فرد بشري، من حيث أنه بشري، بصرف النظر عن ملته أو عنصره، وهي حق يقابله واجب، فلا يؤخذ إلا به، وهذا الواجب هو حسن التصرف في الحرية. فلا تصبح الحرية محدودة إلا حين يصبح الحر عاجزا عن التزام واجبها، وحينئذ تصادر في الحدود التي عجز عنها، وتصادر بقوانين دستورية..)!!

    قارنوا بين تقرير محمد محمود هذا: (على ضوء اعتناقه لمذهب التسيير (الجبر)، كان من المتوقع أن يقول طه إن الحرية هبة من الله ينعم بها على البشر. "ولكنّه يقول إن الحرية لا يمكن أن تكون هبة من الله!") وبين قول الأستاذ هذا: (إننا حين نتحدث عن الحرية، من حيث هي، وفي أي مستوى كانت، إنما نتحدث عن الإطلاق، من حيث لا ندري، ذلك بأن الحرية المقيدة إنما هي "نفحة" من نفحات الإطلاق "تضوعت على أهل الأرض" بقدر طاقتهم على احتمالها)!!

    هذا حول (الحرية) و (الحرية الفردية المطلقة) و (خلاصات) الدكتور، و (تقولاته) المتناقضة بخصوصها! فماذا عن (حركة الجمهوريين)؟؟

    أولا: مجرد سؤال، للعلم: ما هو نوع (الحركة) الذي يريد الدكتور للجمهوريين أن يتبنوها الآن؟ ولماذا يريد لهم أن يظلوا يجوبون الشوارع، كما كانوا يفعلون، في وقت الانتشار الواسع، هذا، لوسائط الاتصال، التي قلّصت العالم إلى (شاشة موبايل)، كما نقل الأستاذ عيسى إبراهيم، عن أحد الجمهوريين!

    ثانيا: ألا يعلم الدكتور، بحكم اطلاعه على (الفكر) الذي عكف على تحليله، أن مجال الحركة الأساسية عند الجمهوريين أنفسهم! وأن القصد المعلن من الحركة الخارجية، كان هم الجمهوريين أنفسهم، في الأساس! وقد حدث أن أوقف الأستاذ الحركة الخارجية أكثر من مرة، دون أن يوقف الحركة الداخلية في الجلسات والترشيد! ذلك أن التغيير، في فكر الأستاذ، أساسه الداخل لا الخارج؟؟ ويشهد على هذا العديد من أقوال الأستاذ، من قبيل هذا القول:
    (التغيير، عندنا، يجب أن يبدأ من النفس البشرية!! يبدأ من داخل كل نفس!! فان نحنُ غيّرناها إلى ما هو أحسن، أمكن أن نغيِّر، إلى الأحسن، غيرنا.. وإلا فلا!! فان "فاقد الشيء لا يعطيه")!!

    وهذا القول أيضا:
    (لما كان الفكر الثوري فكراً دقيقاً، وأصيلاً، ونفاذاً، وسليماً، فإن تغييره للواقع لا بد أن يبدأ من داخل النفس البشرية!! ذلك بأن أي تغيير يقتصر على الخارج _على البيئة البشرية، والبيئة الطبيعية_ أعني: المجتمع، والطبيعة، لا يكون تغييراً سليماً، ولا مستقيماً!! ذلك بأن التغيير الخارجي، إنما هو صورة للداخل، أعني: للنفس البشرية!! فإذا كانت النفس خربة بالأحقاد، والضغائن، والعداوات الرعناء، في كلمة واحدة: بالجهل، فإن هذا الخراب يطبع بطابعه التغيير الذي يجري في المجتمع، وفي البيئة)!!

    على كل حال، نعود إلى (الصفوي)!! فالصفوي، في جانب من جبلاّته، هو من يجعل من عقله المجرد حكما على الأشياء، لدرجة أنه، عندما يعجز عقله المجرد عن إدراك الأشياء، (يتخذ من عجزه فضيلة)، فينكر الأشياء، ويجحد وجودها! وهذا معنى القول: (يتخذ من عجزه فضيلة)، كما يشرح الأستاذ! الصفوي ينكر الشيء، ويجحده، لمجرد (عجزه) هو عن إدراكه! وهذه (الصفوية) في أوضح تجلياتها، من حيث أنها وجه آخر للتعالي الأجوف، والتكبر! فالصفوي، مثلا، إن عجز عقله عن إدراك وجود الله، لجأ إلى الطريق الأسهل، وهو نفى وجود الله، ليستريح! وإن عجز عن إدراك الحكمة من الدين والنبوة والرسالة، ودورها جميعا في تطور الخلق، وتقدم البشرية، نفى وجودها وأنكره! وقد قرر الأستاذ عن مثل هذا الشخص إنه (ليس خليقا بأن يحاضر الناس في أي مستوى من المستويات)!!

    حضر، ذات مرة، أحد الشباب إلى الأستاذ محمود، وقد كان رافضا لفكرة وجود الله! وتحدث للأستاذ، بما مفاده، عدم وجود حاجة لأن نحشر شيئا لا نعرفه في تفاصيل حياتنا.. فسأله الأستاذ محمود، بما معناه: كدي إنت هسّع فكّر شوية: هل، في تفاصيل حياتك دي، كل شيء عاوزو بتكون قادر عليهو، ومسيطر عليهو، لتنفّذه! فقال الشاب، بعد سكوت: طبعا في "حتّة بسيطة" كدا الواحد ما بكون عندو سيطرة عليها! فقال له الأستاذ: أهو "الحتّة البسيطة"، الما عندك سيطرة عليها دي، الله! فتّش عليها، بتلْقاهُو!

    يجب أن أقرر، هنا، ما ينبغي أن يقرره كل منصف، وهو أن الأستاذ محمود وتلاميذه، أبعد ما يكونون عن (الصفوية)! وقد شهد لهم في هذا الكثير من الأعداء! بل هم (متواضعون)! و (التواضع) كما يقول الأستاذ محمود هو: (شيمة الإنسان المفكر)! وهو: (أصل الخلق الرصين الذي يسوق إليه العلم الصحيح)! وهو: (أقرب الخصال إلى المعرفة وإلى الله! ومن أجل دا نحن بنضع أنفنا دا _مكان العزة_ بنضعوا في الرغام، في التراب)!!

    وبما أن الدكتور، قد تصدي لتحليل فكر (طه)، وهي مهمة خطيرة، كان يفترض أن يكون، على الأقل، قد اطلع في كتابات (طه) على ما يدل على هذا (التواضع الفكري)! ولكن يبدو أن الدكتور، كما قلت، مشغول بالبحث عن مواضع بين أقوال الأستاذ لينصب فيها خيام (خلاصاته المسبقة)، من أجل أن يعكسها للقراء الغربيين الذين لا يعرفون العربية، ولا يمتلكون معرفة (مسبقة) بالرجل (طه) وفكره، وحركته!!

    لذلك: أثبت هنا مثالين فقط، من ضمن أمثلة عديدة على (التواضع الفكري) الذي هو (أصل الخلق الرصين الذي يسوق إليه العلم الصحيح)! فالأستاذ محمود لا ينكر الأشياء ولا يحكم بعدم وجودها لمجرد أنه لا يعلمها! ثم إن (تواضعه الفكري) يجعله لا يتحرج من القول أنه (لا يعلم)، عندما لا يملك إجابة حاضرة على مسألة ما! وهذا أبعد شيء عن (الصفوية) التي يحاول الدكتور أن يلصقها بالأستاذ محمود، وبفكره، وبتلاميذه!

    ففي ندوة (لا إله إلا اله )، بمدينة الأبيض، التي ختمتها (ضربة) عنيفة بعصا وجهها أحد المهووسين إلى رأس الأستاذ محمود، (عفا الأستاذ عنه فيما بعد)، سأل أحد الحضور الأستاذ عن السر في تركيب كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) من اثني عشر حرفا، واتفاقها في ذلك مع كثير من الأشياء في الكون المكونة من اثني عشر حرفا، مثل منازل القمر، والشهور، والساعة! فأجاب الأستاذ بما يلي:
    (طبعا مسألة العدد فيها حكمة، زي ما سأل السيد: يقصد أنه مثلا أنها المنازل اتناشر، الحروف اتناشر في لا إله إلا الله، لا بد أنه في حكمة في المسألة دي! ولا بد أنها الحكمة في! لكن أنا ما عارفها)!!

    وفي جلسة داخلية _عام 1968_ (عن الصلاة وهي مسجلة وموضوعة على موقع الفكرة) سأل أحد الجمهوريين (محمد أدروب أوهاج) السؤال التالي: (عندي سؤال في الصلاة، أولا عاوز أسأل من حكمة توقيت الصلوات الخمسة المفروضة، وبعدين عدد الركعات، برضو؟)

    فأجاب الأستاذ بما يلي:
    (مسألة توقيت الصلاة في مواقيتها المشهورة وعدد الركعات فدا ما بيحضرني فيهو شيء! ونتعرض أنا وإياكم للفيوض الإلهية فيه! عندما يجيني فيهو حاجة بقول لكم! لكن ما عندي فيه حاجة في الوقت الحاضر! وما من شك أنه عندو أسراره! دي الحاجة اللي نحن يجب أن نعرفها: هو مؤكد عنده أسراره! ومؤكد نحن مفروض أن نعرف الأسرار دي! الفقهاء بيقولوا دا ما بخصنا! غايتو هي أخذت بالصورة دي ونحن نؤديها.. أخذت كدا، ودا ما بخصنا! لكن: ما من شيء كلمنا الله عنّو، وفرضه علينا، إلا المقصود أن نعرفه! فأنا ما بيحضرني فيها شيء هسع! وانتوا كلكم اتوجهوا بافتقاركم إلى الفيوض الإلهية في نفس الوقت!)!

    جدير بالذكر، في هذا المقام، أن الدكتور، بعد أن قرر أن (طه) فشل في أن يمنح (الحرية الفردية المطلقة) لتلاميذه، أصدر قرارا آخر، في نهاية صفحة (43) و بداية صفحة (44) من كتابه، نزع بموجبه مفهوم (الفردية) نفسه من (طه)! فقال إن (طه) أخذ مفهوم (الفردية) من أفكار المذهب الليبرالي الغربي!!

    و د. محمد محمود، بقراره هذا، أحد رجلين: إما أنه يجهل مفهوم (طه) حول (الفردية)، أو أنه يجهل مفهوم (الفردية) في الفكر الليبرالي الغربي! وبما أن الاحتمال الأول مستبعد، لاعتبار أن محمد محمود يكتب عن معرفة من الداخل بالفكرة الجمهورية (كما أكد الباحث عبدالله)، ولاعتبار تصديه لتحليل فكر (طه) _إذ ليس من الحكمة أن يتصدى المرء لتحليل ما لا يعرفه_ نجد أمامنا الاحتمال الثاني، والذي هو أيضا مستبعد (لاعتبار اللقب العلمي الرفيع الذي يحمله الدكتور)! وعلى هذا، لا يبقى أمامنا، في ظل غياب كلا الاحتمالين، سوى تعمد (التحامل) على (طه)، من جانب الدكتور!

    وقد كانت الأمانة العلمية تستوجب أن يوفر الدكتور للقاريء رأي الأستاذ محمود حول (الفردية)، ويضعه مقابل رأي المذهب الليبرالي، حتى يكون تقرير الدكتور موضوعيا، وعلميا! خصوصا أنه أعلن أن غرض كتابه هو تقديم فكر (طه) وحياته وعوامل تكوينه الفكري الروحي، لقراء لا يملكون معرفة (مسبقة) بها جميعا، حسبما أورد على صفحتي (11) و (12) من كتابه! فهل لم يقرأ الدكتور، مثلا، قول الأستاذ إن (مذاهب الحضارة الغربية بجعلها جهد الإنسان الذهني كله مركز في تحصيل قوته قد مسخت "فرديته" وأثبتت فشلها)؟!؟ ولماذا لم يقدم الدكتور أقوال الأستاذ المفصلة عن (فشل) الحضارة الغربية، و قوله إن الفكرة الجمهورية هي التي سوف تصحح أخطاء الحضارة الغربية، وتحل محلها؟؟ أم أن هذا ليس من ضمن أولويات الدكتور في (تعريف القراء بفكر طه)؟؟

    على كل حال، ينبغي أن نذكّر الدكتور برأي الأستاذ محمود الحاسم في (الفردية) عند الليبراليين الغربيين، إن كان لا يذكره، فربما يكون قد (فات عليه) في زحمة انشغاله بإلصاق نتائجه وخلاصاته (المسبقة) في ذيل مقتطفاته المنتقاة (بعناية)، من أقوال الأستاذ محمود!

    يقول الأستاذ عن مفهوم (الفردية) و (الحرية الفردية) وفق المذهب الليبرالي الغربي، ما يلي:
    (فض الكبت إنما يعني التسامي فوق قوانين الجماعة، بعدم الحاجة للتورط تحت طائلتها، لا برفع القيد عن الممارسة، كما ظن الغربيون، حين يتحدثون عن تحرير الغرائز.. فالتحرير إنما هو تحرير للغريزة من الخوف، ومن الكبت، الذي لواها، وتحرير للبنية من آثار الكبت الذي شوهها، وقبضها، وحجّرها.. فهذا التحرير إنما هو اتجاه في السير الرأسي يبقي على قوانين الجماعة، ويطلق، في ذات الوقت، طاقات العقل، والقلب والجسد، وما هو بالسير الذي يرتد بالحياة إلى حيث فارق الإنسان الحيوان في أول ظهور العقل البشري.. لقد تجسدت في عصرنا الحاضر، الحاجة لفض الكبت بصورة لم يسبق لها مثيل، ولقد أخذت الحياة الإنسانية، على ظهر هذا الكوكب، في الارتداد إلى مستويات خلّفها الإنسان منذ زمن بعيد!! فالثورة الجنسية، وثورة الرفض، إنما تمثلان هذه الردة، حيث بدأ الرافضون يستبيحون فيما بينهم، من العلاقات ما ظلت البشرية حفيظة عليه منذ فجر النشأة، وقد دفعت في الحفاظ عليه الكثير من دمها، ومن عرقها، ومن دموعها.. أكثر من ذلك!! فقد اتجهت بعض البرلمانات الغربية إلى النظر في مشاريع قوانين لإباحة ما اجتمعت البشرية، على اختلاف نحلها، وألوانها، وعقائدها، على تحريمه، فأعلنت بذلك عن إفلاسها وعن أفول شمس حضارتها، بأعلى صوت!! هذا ما فهمته الحضارة الغربية لمعنى فض الكبت، وهو معنى ظاهر الخطل، والبطلان، إذ هو الاسترسال في غير مسئولية أخلاقية!! والممارسة للّذة، بغير مسئولية، ليست حرية وإنما هي فوضى!! وما يكون للفوضى أن تثمر سلاما، فأنت لا تجني من الشوك العنب!)!!

    هذا عن رأي الأستاذ في (الحرية الفردية) بالمفهوم الليبرالي! أما ملخص مفهوم الأستاذ للحرية الفردية فهو أنها تبدأ من (الالتزام الأخلاقي)، للفرد، ولا يكون لها حد، إلا حدا يستلزمه عدم إحسان التصرف فيها! فالأستاذ محمود يقول:
    (بداية الأخلاق ضبط الغرائز، الذي كانت تتطلبه المجموعة الأولى من الفرد، ليكون اجتماعياً!! ونهاية الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة)!!

    فالحرية الفردية، في فكر الأستاذ محمود، لها (ضابط) هو (حسن التصرف فيها)! و (حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة) يعني أن يعيش صاحب الشريعة الفردية فوق شريعة الجماعة، ولا يتورط إطلاقا في خرق قانون الجماعة! أما (نهاية) حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة، فهي أن لا يكون في كل ما يأتيه ويدعه صاحب الحرية الفردية، إلا الخير والبر بالأحياء والأشياء!

    الغريب أن د. محمد محمود، في سياق تحامله على الأستاذ محمود، ولكي ينفي الفضل عن الأستاذ في قوله بمبدأ (الفردية) في الإسلام، يتبنى (حجة الفقهاء)! و (موقف الفقهاء)! من فكر (طه)!!! فالدكتور يحدثنا (صفحة 44 – 45) أن طه يستخدم (آيات متعلقة بالآخرة) و (بأحداث متجاوزة للتاريخ)، ليدلل بها على مفهومه للفردية، في الإسلام!!! لنسمع الدكتور:
    (بالرغم من أن طه يصر على أن ما أتى به من فهم للفردية ناتج عن تلقي كفاحي من القرآن، فإنه بلا شك قد استمده من أفكار المذهبية الليبرالية الغربية، حيث طور هذه الأفكار ليؤكد فكرته هو عن "الفردية". أما فيما يخص استدلال طه بالآيات من قبيل: (لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) والآية (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)، فإنه وبالرغم من أن سياق هذه الآيات يتعلق بالآخرة وبأحداث متجاوزة للتاريخ وليست من عالمنا هذا، أو أنها جزء من حدث خلاص خاص، إلا أن طه يخضع هذه الآيات لمبدأ تأويله التوحيدي، الذي يقول به إن "كل ما كان، وسيكون، هو كائن الآن"! وبالتالي فهو يقرأ هذه الآيات على أنها تقرر مبدأ أساسي في علاقة الإنسان بالله، ليس في الآخرة فحسب، بل في هذه الحياة)!!

    هل هذه حجة؟!؟ إذن: ما رأي الدكتور في الآيات الأخرى (غير المتعلقة حرفيا بالآخرة) ولا (بأحداث متجاوزة للتاريخ) بل متعلقة بمعيشة البشر في هذه الحياة، ودالة على (الفردية) من قبيل الآية: (كل نفس بما كسبت رهينة)، والآية: (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا)! والآية: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم؟؟ قالوا: بلى!! شهدنا!! أنْ تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين!)!! بل الآية: (قل: إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله، مثنى، وفرادى)! وما هو المعنى الذي تبعثه في ذهنه الفاصلة في الآية التي قبلها: (أنْ تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين!)!؟ بل ما رأيه بالأمر في الآية الأخيرة: (إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله، مثنى، وفرادى)! ماذا تعني (مثنى) وماذا تعني (فرادى)!

    أخشى أن يلجأ الدكتور مرة أخرى إلى (جحر) الفقهاء، ليقول إن (مثنى) تعنى (صلاة الجماعة)، و (فرادى) تعني (صلاة كل زول براهو)!

    على كل حال، لا أعتقد أن الدكتور يجهل الآيات، والحجج الكثيرة التي يوردها الأستاذ محمود، للتدليل على مبدأ (الفردية) في الإسلام، ولكن الدكتور، لأمرٍ ما، مشغول (في كتابه) بإصدار (الأحكام القيمية) على شخص الأستاذ محمود، والبحث عن مواضع بين أقوال الأستاذ ليلصق عليها (خلاصاته الجاهزة)، أكثر من انشغاله بفكر الأستاذ محمود، الذي يدعي أن كتابه مخصص (لتحليله)!

    وفي تقديري الخاص أن اتهامات الدكتور (المتناقضة) للأستاذ بمعاداة الفكر، وفشله في إعطاء الحرية الفردية لتلاميذه، وقلة اطلاع الجمهوريين وضآلة معرفتهم بالثقافة العامة، وتبنيهم أسلوبا (دعويا صفويا)، واعتقادهم أنهم يملكون (حقيقة الإسلام)، هذه الاتهامات كلها محاولة للتنفيس عن شعورٍ ما، هو نتاج تجربة شخصية للدكتور، من واقع مناقشاته للأستاذ ربما، أو من واقع مناقشاته لبعض الجمهوريين، خصوصا من ذكرهم في كتابه! فهذا (الانطباع) الذي عبّر عنه الدكتور، ليس جديدا! وهو (انطباع) متوقع الشعور به لدى بعض من يناقشون الجمهوريين! لعدة أسباب، أهمها: السطوة الفكرية، للأستاذ محمود والجمهوريين! وهناك مثال موثق لمثل قول د. محمد محمود هذا، فقد قاله شخص آخر قبله، أيام الحركة الجمهورية!

    ففي محاضرة الشرق الأوسط، بنادي السكة حديد بالأبيض (وهي موضوعة على موقع الفكرة)، كانت حجة الأستاذ قوية، ومستعلية بصورة واضحة أثناء النقاش، فقام أحد الأشخاص (نهاية الجزء الثاني من تسجيل الندوة على الموقع) وعلق قائلا، ما مفاده، إن الأستاذ محمود (متسلط)، ويعتقد أنه يملك (الحقيقة)، ويفرض (وصاية فكرية) على الناس!! فردّ عليه الأستاذ، معرفا "الوصاية"، وذلك كما يلي:
    (أولا أنا طبعا برفض مسألة أني بفرض وصاية! الإنسان المفكر ما بفرض وصاية! لكنْ الفكر قد يفرض وصاية! إذا انت بتفكّر، وفكرك قوي، قد يفرض وصاية، الفكر! ودا ما بْتُعاب عليه إنت! لكن فرض الوصاية هو البجي بالقوة! وأنا بطبيعة الحال بَسْتهجِن القوة، وما بتّجه ليها! وحتى لو ملكْتها ما بستعملها!! لكن كوني بتكلم بفكر، والفكر دا أنا مخلص ليه، ومجوّده، وساعي وراهو طول الوقت، دا الحاجة المطلوبة!! فإذا كان في من الناحية دي حاجة، وشعر بيها الابن، في أنها فرض وصاية، هي فرض وصاية فكر، يرفضُه، أو يسيبه! لكن فرض الوصاية بالقوة ما بتستطيع أن ترفضه، وهي دي "الوصاية"..)!!

    وكما ذكرت أعلاه، فإن الاتهام الذي وجهه د. محمد محمود للأستاذ بأنه (فشل في أن يعطي تلاميذه الحرية الفردية المطلقة)، سبقه بتقديم مطول (الصفحات من 32 إلى 34 من كتابه) عن أن حركة الجمهوريين عبارة عن حركة محيرة! قائلا إنه من الصعب أن يفهم المرء، أو يجد تفسيرا، للتوقف المفاجيء والتام لحركة الجمهوريين فورا إثر (وفاة طه)!

    وهكذا، بدلا من أن يهتم الدكتور ببحث و (تحليل) أسباب هذا (التوقف التام والمفاجيء)، من واقع إيراد أحاديث للأستاذ، أو استطلاع آراء الجمهوريين، اختار الدكتور الطريق الأسهل، وهو: اتهام طه بالفشل في أن يعطي تلاميذه الحرية الفردية المطلقة! وهذا أسهل الطرق، فيما يبدو! فلماذا يتعب (الباحث) نفسه في البحث والتحليل، و الخلاصات (المسبقة) جاهزة لديه، ربما منذ عقود؟؟ خصوصا أن الكتاب تم إعداده أساسا لتقديم (طه) و (فكره) إلى قراء لا يملكون معرفة (مسبقة)، عن (طه) ولا (فكره)!

    على كل حال، أرى أن البحث الجاد الذي يتصدى لتحليل مواقف الأستاذ محمود، ويبحث في أسرار وأسباب وقوف حركة الجمهوريين، على ضوء مبدأ هام كمبدأ (الحرية الفردية المطلقة)، ينبغي عليه من باب أولى أن يعكف، أولا، على دراسة خاصية فريدة، لا تفوت على حصيف، فيما يخص الأستاذ محمود! ألا وهي: صدق أقوال الأستاذ على المستقبل بصورة حرفية! سواء فيما يخص حركته هو، أو فيما يخص الآخرين!

    فالتجربة دلّت أن أقوال الأستاذ، تصريحا أو تلميحا، عن المستقبل تتحقق وتتجسد بصورة حرفية! وهذا أمر جدير بالبحث والتحليل! ولكن، للأسف خلا (تحليل) الدكتور الفاضل من هذا، ربما لانشغال الدكتور بتطبيق أحكامه القيمية (الجاهزة) على الأستاذ محمود! وأذكر هنا، كأمثلة، برأي الأستاذ في مشكلة الشرق الأوسط، وبرأيه في ما آل إليه حال السودان اليوم، ووصفه بأنه يجي يوم (خارطة السودان دي تكون زي الدلقان المهرود)! بل أذكّر بتحذير الأستاذ محمود من الهوس الديني، وهو تحذير نتائجه، وتبعاته، ماثلة الآن! فقد حذر الأستاذ محمود من أن تهاون الناس في مقاومة الهوس الديني، ستكون تبعاته أن يهدد الهوس الديني أمن ووحدة الشعوب، ويدخل كل بيت! وقد كان اليساريون يومئذٍ يسخرون من الجمهوريين على اعتبار أنهم مشغلون بغير الأولى! وأذكر عبارتهم الساخرة: (الناس في شنو والجمهوريين في شنو)!؟ فحينها لم يكن التصور واضحا لمعنى (الهوس الديني يهدد أمن الشعوب) أو معنى (الهوس الديني سيدخل كل بيت)! ولكن الآن أصبح حديث الأستاذ هذا مجسدا، وماثلا، عبر شاشات التلفزيون المنصوبة في (كل بيت)!

    لذلك: كان الأولى بالدكتور، في تقديري، بحكم تخصصه الأكاديمي في فلسفة الدين وعلم اللاهوت، أن يعكف على دراسة مثل هذه الظاهرة (الغريبة)، فيحاول تحليلها، وسبر غورها، بدلا من الانشغال بلصق خلاصاته وأحكامه القيمية (المسبقة)، على أقوال ومواقف الأستاذ، ليضلل القاريء الذي لا يمتلك معرفة (مسبقة) بفكر الأستاذ محمود! ولإعطائه بعض الأشاير، أقول إن حديث الأستاذ محمود عن الحرية الفردية المطلقة ليس مجرد تنظير (كما زعم)، بل هو (حياة) معاشة! فالحرية الفردية المطلقة قاعدتها (الاستقامة)! والاستقامة هي أن لا يتوزع الإنسان بين ماضٍ قد انقضى، ومستقبل آتٍ، بل يعيش منحصرا في لحظته الحاضرة، بتجويد وإتقان! ومن التجويد والإتقان أن لا ينشغل العارف بما هو آتٍ، مما (يعرفه يقينا) عن أحداث في المستقبل! ذلك أن تجويد وإتقان الحضور في اللحظة الحاضرة يقتضي أن يكون نظر العارف (العبد) إلى من بيده الماضي والحاضر والمستقبل!! إلى الله!! ومن هنا، يكون الانشغال بما هو آتٍ، في المستقبل، رغم العلم به، منقصاً لعبودية العارف!!

    على كلٍّ، مساهمةً مني في إجلاء (الحيرة) التي احتوشت الدكتور بخصوص (التوقف التام والمفاجيء لحركة الجمهوريين إثر وفاة طه)، إن كان حريصا على جلائها، أثبتُ هنا، حديث الأستاذ هذا، لتلاميذه، في شأن مستقبل حركة الجمهوريين، ليتأمله، فربما خصه ببعضٍ من (التحليل):
    (أنا أقول لكمْ: الظروف البتلْقوها انتوا، في المشقة، اليوم، ما بتتْلقِي بُكْرة! كلُّ يوم غربتكم تقَل! كلُّ يوم المشقة البتلقوها، تقَل! انتهزوا الفرصة دي! كتير من الناس كانوا يهتمُّوا بأن يؤذوا في سبيل الله! لأنكم: "لن تنالوا البر، حتى تنفقوا مما تحبون"! وأكثر ما نحبُّه نفوسنا! فإذا إنت بذلتَ نفسك لتسمع الكلمة النابية تُقال، والذم، والسخرية، والنظرة المستهزئة، في سبيل الله، ما جزاك إلا الأنوار التي تشرح صدرك، وتضع الوزر عن ظهرك! فسيرُوا على طريقكم، موفّقين! وسيرُوا مسدّدين، ومرعيّين، بالعناية التي لا تنام! والسلامُ عليكم، ورحمة الله!)!

    أواصل، بإذن الله وبعونه، في الحلقة الثالثة..

    إبراهيم عبدالنبي
                  

03-12-2015, 06:28 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48926

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود: بين andquot;إنصافandquot; عبدالله (Re: Yasir Elsharif)


    الأستاذ محمود: بين "إنصاف" عبدالله الفكي و "تحامل" محمد محمود (3)

    إبراهيم عبدالنبي

    أستعرض في هذه الحلقة المزيد من (تقولات) محمد محمود على الأستاذ محمود.. هذه المرة حول "القرآن" و "النبي" عليه السلام! وما فعله الدكتور في هذا الصدد نموذج صارخ لانعدام الأمانة العلمية، ومجافاة المنهج العلمي!

    إلا أن السؤال الذي يتبادر تلقائيا (عندي على الأقل) هو: لماذا!؟ لماذا يعمد محمد محمود (بدعوى التحليل) إلى تشويه (فكر) الأستاذ محمود، بأن ينسب إليه (أشياء) من عنده، يعلم هو، قبل القاريء، عدم صحتها؟! الإجابة على هذا السؤال (مهمة)، نظرا لأن (فكر) الأستاذ محمود، فيما نعلم، هو المخرج (الوحيد) من (نفق) الأزمة الحاضرة التي أدخل المتطرفون العالم فيها! ولا شك أن الدكتور يعلم دوافعه في هذا الخصوص! أما نحن، فليس لدينا إلا الحدس، باعتبار (واقع الحال)! و (واقع الحال)، بحسب ما تعطيه الشواهد المنظورة، أن محمد محمود يرى أن الإسلام (مستوى واحد)، هو الذي يعرضه المتطرفون! ولا أمل يرتجى منه! لذلك الدكتور يناصر الدعوة للنظام العلماني! ومن أجل هذا يتكرر وصفه، في كتابه، لفكر الأستاذ محمود بأنه فكر (ذرائعي)، ويتحدث كثيرا عن أسلوب الأستاذ محمود (الذرائعي)، المعتاد، وحججه (الذرائعية) المعتادة! بل حتى القول بمبدأ (النسخ) يصفه الدكتور بأنه مجرد حجة (ذرائعية) أخرى! دون أن يناقشها! لكنه، للعجب، لا يتورع عن استخدام حجة النسخ (الذرائعية) هذه، ليقشر بها، وينسبها كحل مقدم منه (هو شخصيا) لأزمة المسلمين اليوم! دون أن يشير (مجرد إشارة واحدة) للأستاذ محمود!

    لنا عودة، بإذن الله، لهذا! ولكن، لنواصل، الآن، استعراض مزيد مما يفتريه الدكتور في حق الأستاذ محمود:

    على صفحة (89) من كتابه، اقتبس الدكتور نصا للأستاذ محمود، من (توطئة) كتاب (تطوير شريعة الأحوال الشخصية)، والنص يتحدث عن خلق الإنسان، وتسخير الله الكون جميعا، بما فيه القرآن، للإنسان، من أجل إعانته في طريق رجعاه من البعد، إلى القرب، من الله.. وقبل إيراده النص، قرر الدكتور ما يلي: (طه يخضع كافة عناصر الخيال الديني الإسلامي إلى مشروع يبعد، بموجبه، النبي من أن يكون مركزا لوحي القرآن، حيث يقول...)، ثم أورد النص! ولكنه من أجل أن يجد مكانا لتقريره هذا، في متن النص، عمد إلى بتر النص، وإنهائه حيث لا ينتهي، حيث أنهى النص هكذا:
    (وتسخير الأكوان له إنما معناه إعانته في سيره هذا الطويل من منفاه في البعد إلى مقامه في القرب عند الله.. كل شئ سُخّر لهذه الغاية: إبليس، وذريته، والملائكة الأطهار، والرسل، والكتب، والشرائع، والقرآن بصورة خاصة.. ذلك بأن طريق الرجعى به قد بيّن أحسن تبيين.. وهو بصورته التي بين دفتي المصحف قد نزل مؤخرا على خاتم النبيين، ولكنه، في حقيقته، ما بدأ نزوله، ولا انقطع نزوله، وإنما هو مستمر النزول، ولن ينفك..!!)..

    فهذا التقرير الذي أطلقه محمد محمود كتمهيد: (طه يخضع كافة عناصر الخيال الديني الإسلامي إلى مشروع يبعد، بموجبه، النبي من أن يكون مركزا لوحي القرآن)، ليس له أي سند في النص الذي أورده، وهو يعلم ذلك! لذلك، عمد إلى بتر النص وإنهائه عند العبارة: (ولكنه، في حقيقته، ما بدأ نزوله، ولا انقطع نزوله، وإنما هو مستمر النزول، ولن ينفك)، لأنه وجد في العبارة كلمة (نزول)، وهي كافية جدا ليسند عليها (تقريره التمهيدي)! فهو معني، في الأساس، بهذه الكلمة من النص كله! ذلك أنه، وبالرغم من أن ذكر (القرآن) ورد عرضا في النص، بوصفه وسيلة، ضمن وسائل أخرى عديدة، مسخّرة لخدمة الإنسان، إلا أن الدكتور اصطاد هذه العبارة تحديدا، وخصوصا كلمة واحدة (نزول) فيها، ليبني عليها خلاصته (الجاهزة) التي مهد لها في (تقريره) المدرج قبل النص! فقد قال مباشرة، بعد أن أنهى النص حيث يريد، ما يلي:
    (بتبنيه لهذا الموقف، من الواضح أن طه مفارق للموقف التقليدي من القرآن، حيث قصارى ما يمكن أن يفعله المؤمنون، في فترة ما بعد البعثة النبوية، إنما هو تفسير النص، مع أمل أن يفتح الله عليهم بإجابات جديدة. ولكن طه، لا يتحدث عن التفسير، بل يتحدث، متعمدا، عن الوحي (النزول). وقوله هذا يجعل القرآن، بالنتيجة، مجرد بيان جزئي للوحي الإلهي. وكلّما تطور المرء من تقليد النبي إلى تحقيق أصالته، يتطور أيضا من مرحلة وحي النبوة (حيث النبي هو وسيط الوحي) إلى مرحلة الوحي الشخصي (حيث العابد هو وسيط الوحي). وبالتالي، فإن مبدأ تجاوز وساطة النبي لا ينطبق فقط على مستوى عبادة الحركات، بل التجاوز يمتد أيضا إلى مستوى الوحي)!

    In maintaining such a position, Taha is evidently at variance with the traditional position in the Quran, according to which the utmost that the believers in a post-prophecy time can do is to interpret the text and hope, with the help of God, to find fresh answers. Taha, however, does not speak about interpretation but rather, pointedly, about revelation (nuzul). This makes the Quran in effect only a partial manifestation of divine revelation. Inasmuch as one progresses from the imitation of the Prophet to the realization of one’s authenticity, one also progresses from a stage of prophetic revelation (where the Prophet is the subject of the revelatory act) to a stage of personal revelation (where the worshipping subject is the subject of the revelatory act). Hence, not only does the act of transcending prophetic mediation apply on the level of ritual worship, but it also extends to the level of revelation.


    وهكذا، يتضح أن غرض الدكتور من كل هذا النص الطويل هو كلمة (النزول) فقط! فهي تفي بالغرض، وتكفي (تماما) ليعلق على النص (خلاصته الجاهزة)، متجاهلا سياق النص، ومعناه، تجاهلا تاما! علما بأن النص، كما أسلفتُ، لا يتحدث عن القرآن، ابتداء، بل يتحدث عن الإنسان، وقد جاء ذكر القرآن فيه، عرضا، بوصفه وسيلة، ضمن وسائل أخرى، سخرها الله لترقية الإنسان وإعانته في طريق رجعاه إليه!

    لكن الواقع أن النص، حتى وهو (مبتور)، كما أراده الدكتور، يقول صراحة، وبصورة مباشرة، إن القرآن (بين دفتي المصحف) تم إنزاله على خاتم النبيين! ولكنه في حقيقته (ما بدأ نزوله، ولا انقطع نزوله، وإنما هو مستمر النزول، ولن ينفك)! فالقرآن بين دفتي المصحف هو كلام الله، بمعنى أنه صورة (لفظية) لإيجاد الله الخلق! و (كلام) الله خلق! وما تنزل القرآن في مواعين اللغة العربية (كما هو بين دفتي المصحف) إلا ليعقل البشر عن الله، ما يكلمهم! أما القرآن (في حقيقته) فهو (الذات الإلهية)! لأن الله لا يتكلم بجارحة، وإنما هو متكلم بذاته! والذات الإلهية في نزول (تنزل) مستمر، عبر تجلياتها المتنوعة، إلى الخلق ليعرفوها! وعلى هذا، نزول (تنزل) الذات _القرآن في حقيقته_ هو نزول (تنزل) سرمدي! وبهذا المعنى يرد فيه القول: (ما بدأ نزوله، ولا انقطع نزوله، وإنما هو مستمر النزول، ولن ينفك)! والنزول (التنزل) هو الفهم المستمر عن الله سبحانه تعالى من القرآن، وبعبارة واحدة (بيان القرآن)، حسبما تعطيه الآية: (ثم إن علينا بيانه)! علما بأن هذا تعبير متواتر وشائع الورود، في كتب ومحاضرات الأستاذ محمود! بل إن محمد محمود نفسه، أورده نصا، في خاتمة كتابه على صفحة (218)، وتولى شرحه، كما سنرى في السطور القادمة!

    أكثر من هذا: القول بأن القرآن في حقيقته، هو ذات الله، موجود ومثبت في (الجملة التي تلي مباشرة) الجملة التي بتر عندها محمد محمود النص، ليتسنى له لصق خلاصته (المغرضة)! فالنص يواصل ليتحدث عن (القرآن في حقيقته) هكذا:
    ("وإنه، في أم الكتاب لدينا، لعلي حكيم".. عبارة "لدينا" تعني عند الذات، حيث لا عند.. وهذه تمثل خط السير في المطلق)!!!

    لذلك، أورد النص هنا مكتملا، ومتصلا، ليستبين سبيل الدكتور في (تحليل) فكر طه:
    (..... والقرآن بصورة خاصة.. ذلك بأن طريق الرجعى به قد بيّن أحسن تبيين.. وهو بصورته التي بين دفتي المصحف قد نزل مؤخرا على خاتم النبيين، ولكنه، في حقيقته، ما بدأ نزوله، ولا انقطع نزوله، وإنما هو مستمر النزول، ولن ينفك.. هو في صورته التي بين دفتي المصحف قد نزل ليوجّه تطور البشرية نحو الإنسانية _ليستخلص الإنسان من البشر.. وليرسم طريق رجعته إلى وطنه الذي قد طال اغترابه عنه.. انظر كيف تحكي هذه الآيات الكريمات بداية هذا الطريق، ونهايته: "حم* والكتاب المبين* إنا جعلناه قرآناً عربياً، لعلكم تعقلون* وإنه، في أم الكتاب لدينا، لعلي حكيم".. عبارة "لدينا" تعني عند الذات، حيث لا عند.. وهذه تمثل خط السير في المطلق.. والآية: "إنا جعلناه قرآناً عربياً، لعلكم تعقلون"، تحكي طرف هذا الطريق الذي لامس أرض الناس، حيث قامت الشريعة لتنظيم حياة الأفراد، من رجال، ونساء، تنظيماً يوفق توفيقاً دقيقا، ومتساوقا بين حاجة الفرد من رجل، وامرأة، إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة..)..!!

    علما بأن محمد محمود، وقد تصدى لتحليل (فكر) طه، لا بد أن يكون على علم بأقوال الأستاذ محمود الكثيرة في هذا الصدد، ومنها هذا القول:
    (على المسلمين أن يفهموا دينهم، وأن يشوفوا المستوى البتحْتاجُو البشرية في الوقت الحاضر، وهو موجود في المصحف، وما بيحتاج إلى نبوة جديدة! ما في وحي جديد! كل ما ربنا أراد أن يوحيه، من لدن آدم وإلى محمد، إلى البشر بواسطة جبريل، استقر في المصحف! ودي الحكمة في أنّو النبوة ختمت، لكن المطلوب الفهم! الناس بتعرضوا ليه بحسن العبادة، في تقليد المعصوم "طريق النبي"..)!!

    من المؤسف أن محمد محمود (يعلم) كل هذه الأقوال! ولكنه، مع ذلك، يبدو مصرا ومصمما، على أن ينسب للأستاذ محمود خلاف ما يعلمه!!

    لذلك، سأثبت هنا كلام الدكتور نفسه، على صفحتي (217 - 218)، من خاتمة كتابه، الذي يؤكد أنه يعلم ما يقصده (طه) بحديثه عن (حقيقة القرآن)! وأنه القرآن في حقيقته: (ما بدأ نزوله) و (لا انقطع نزوله) وإنما هو (مستمر النزول) و (لن ينفك)! وسوف يلاحظ القاريء الكريم أن محمد محمود يشرح، على هاتين الصفحتين، نفس الكلام الذي (عمد إلى "تحريفه" و "تشويهه" و "أساء تخريجه" على صفحة (89)! ولكنه، للأسف، لا يشرح الكلام، إلا بغرض إلصاق (تخريج آخر) أسوأ، وأبشع! فمحمد محمود، بعد أن شرح، يقول للقاريء إن نظرية (طه) حول الصلاة تمثل (التتويج النهائي) و (التعبير التام) عن (تهميشه للنبي)! بل يخبر القاريء إن (طه) يدعو إلى (قرآن شخصي)!

    فلنسمع الدكتور (صاحب المنهج العلمي الصارم):
    (يمكن أن نقول، على كل حال، أننا نجد في نظرية طه عن الصلاة، التتويج النهائي والتعبير التام عن تهميشه للنبي. فهو عندما يصف صلاة المسلم العادي بأنها صلاة "التقليد" أو صلاة "الحركات" أو صلاة "المعراج" فإنه، في الواقع، ينظر إليها بصورة رئيسية على أنها علاقة بين العابد ومحمد. وعلى هذا فإن العابد الذي يؤدي صلاته وفقا لنظرية طه يكون مشبّعا منذ البداية بإحساس تراتبية طقسية-روحية: صلاته العادية تنتمي إلى مستوى أدنى، وراءه وعد بمستوى أعلى (أصيل)، هو علاقة العابد بالله. وهذا يعني أن علاقة العابد بمحمد هي في جوهرها ذات طبيعة مؤقتة. ولتأكيد هذا، فإن طه يستخدم، اتساقا مع تقليد صوفي راسخ، التشبيه المجازي برحلة المعراج، وسدرة المنتهى، ليفترض وجود أهمية مركزية للحاجز الذي يواجهه ليس النبي فقط، بل كل عابد في اللحظة التي تؤرخ مفارقته لتقليد محمد. ومن الطبيعي أن هذا التهميش للنبي، قاد طه إلى أن يتخذ مدخلا مختلفا في تعامله مع القرآن. فهو يقبل العقيدة السلفية أن القرآن هو كلام الله، بالرغم من أنه يعمد إلى إخضاع النص القرآني إلى إعادة التركيب من منطلق صوفي متطرف. وهو يفعل ذلك متبعا استراتيجية مزدوجة: فمن جانب هو يضفي على النص القرآني ما يمكن وصفه بطبيعة متجاوزة للغة عبر ادعائه أن معاني القرآن ليست هي ما يعطيها ظاهر النص فقط، بل هناك معاني كثيرة لا تتناهى للقرآن، تكمن وراء النص. وفي هذا الخصوص فهو يتحدث عن أن الله متكلم بذاته، وأن كلامه لدى التناهي إن هو إلا ذاته. وعلى هذا فإن معاني القرآن (في حقيقته) لا تتناهي لأن السير في مضمار القرآن هو سير سرمدي إلى الله. ومن جانب آخر فإن طه يعيد التأكيد على مفهوم "كلام الله" ليحمّله معاني وراء النص: كلام الله هو مجمل الكون الظاهري. وعلى هذا، يكون اكتشاف المرء للكون وفهمه بمثابة رحلة سرمدية إلى الله. وما يقوله طه عن كلام الله لا ينفصل عن مفهومه هو عن الأصالة، التي ينتج عنها التلقي الكفاحي عن الله. وهذا يعني، أنه بنفس القدر الذي يكون للمرء الذي يحقق أصالته شهادته الفردية الخاصة، وصلاته، وزكاته، وصومه، وحجه، فإنه يكون له أيضا "قرآنه الشخصي". وما "يقوله" طه في هذا الخصوص يؤدي إلى "ديمقراطية" القرآن، حيث كل شخص يتلقى "قرآنه الشخصي" مباشرة من الله، وهذه خاصية كانت مقتصرة ومحصورة على مؤسسة النبوة. والنبوة بالطبع هي اختيار وانتخاب حصري حيث يصطفي الله من يختصهم بإبلاغ مشيئته وغرضه. لذلك فإن ما يحدده طه ويعد به هو إشراك الجميع في الحضرة الإلهية بحيث يكون لكل عابد صوت إلهي "قرآن شخصي" حسبما "يسمعه" شخصيا من الله، نتيجة تلقيه المباشر من الله)!!

    فلنقرأ الدكتور يورد المعنى الحقيقي لعبارة (القرآن في حقيقته)، التي شوهها سابقا، ليخرّج منها ما يريد من (تخريجات):
    (وفي هذا الخصوص فهو (يعني: طه) يتحدث عن أن الله متكلم بذاته، وأن كلامه لدى التناهي إن هو إلا ذاته. وعلى هذا فإن معاني القرآن (في حقيقته) لا تتناهي لأن السير في مضمار القرآن هو سير سرمدي إلى الله)!!

    ما دام أن الدكتور يفهم معنى القول، لدرجة أن يشرحه للآخرين، لماذا خرّجه كل ذلك (التخريج) السيء، على صفحة 89؟؟ ولكن، هل شرح الدكتور حديث طه عن (حقيقة القرآن) بحسن نية، من أجل تفهيم القاريء؟ لا!! بل هو أورد الحديث ليلصق عليه خلاصة أخرى (جاهزة) عنده! ربما إمعانا منه في (التعريف) بفكر طه! حيث قرر، بعد الشرح:
    (ما يقوله طه عن كلام الله لا ينفصل عن مفهومه هو عن الأصالة، التي ينتج عنها التلقي الكفاحي عن الله. وهذا يعني، أنه بنفس القدر الذي يكون للمرء الذي يحقق أصالته شهادته الفردية الخاصة، وصلاته، وزكاته، وصومه، وحجه، فإنه يكون له أيضا "قرآنه الشخصي". وما "يقوله" طه في هذا الخصوص يؤدي إلى "ديمقراطية" القرآن، حيث كل شخص يتلقى قرآنه الشخصي مباشرة من الله)!!

    ولكن: هذه المرة، ولأنه يعلم أن ما قاله هذا (محض افتراء)، لم يلبث أن تراجع عنه مباشرة، برغم أنه نسب ما افتراه إلى الأستاذ حيث قال: (وما يقوله طه عن كلام الله....الخ)، فلنسمع ونتعلم كيف يكون (المنهج العلمي الصارم):
    (جدير بالذكر، على كل حال، أن طه لم يستخدم المصطلح "قرآن شخصي" كما لم يشر إلى قرآن يحل محل القرآن الذي أنزل على محمد. ولكن مفهوم "القرآن الشخصي" موجود ضمنا في ما يكتبه ويمكن استخلاصه من نظريته حول الأصالة، التي يستتبعها قانون خاص أو دين خاص)!!!!

    إذا كان طه (لم يستخدم)، و (لم يشر)! فلماذا إذن (قوّلته) أنت ما لم يقله؟؟ وما معنى قولك إن مفهوم (القرآن الشخصي) موجود (ضمنا) في ما يكتبه (طه)، ويمكن (استخلاصه) من نظريته حول الأصالة التي يستتبعها (قانون خاص) أو (دين خاص)!! أين الدليل؟ الدكتور لم يورد أي دليل! ولماذا يورد؟؟ فهو صاحب (منهج علمي صارم)! وبالطبع، من أصول (المنهج العلمي الصارم) أن يطلق الدكتور التقارير القاطعة، والأحكام القيمية الجاهزة، دون إيراد أي سند لها، ليصدقها القاريء!

    على كل حال، الأستاذ محمود، يقول بلغة واضحة، ومباشرة، خلاف ما ينسبه إليه محمد محمود! ففي رد على سؤال مباشر من أحد حضور إحدى الندوات، للأستاذ محمود، مستفسرا عن ما يعنيه الأستاذ بكلمة (القرآن) عندما يتحدث عن (القرآن)، وهل يعني القرآن (المنزل) على سيدنا محمد، أم قرآن آخر، يقول الأستاذ محمود:
    (سؤال الأخ اللي بِقول أنه: هل بيعني القرآن (النزل) على سيدنا محمد، كما نعرفه نحن؟ في الحقيقة، نعني القرآن "النزل" على سيدنا محمد، و "ما في قرآن غيره"! لكن موش كما تعرفه إنت! والحقيقة المحاولة دي كلها أن تعرض عليك "معنى" لتعرفه جديد! وما تعرفه إنت من القرآن، وما نعرفه نحن، وما يعرفه السلف حتى، من القرآن، ما هو إلا جزء بسيط جدا، وكل ما تعلمنا نحن، بوسائل المعارف المختلفة، وبوسائل التوحيد، نزيد معرفة في الله! وربنا يقول: "واتقوا الله، ويعلمكم الله"! وربنا يقول لنبينا: "لا تحرك به لسانك لتعجل به* إن علينا جمعه وقرآنه* فإذا قرأناه فاتبع قرآنه* ثم إن علينا بيانه*)! وربنا يقول: "ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"! وكل ما نتعرض نحن لرحمة الله بالتوحيد، والسلوك الحسن، و "التقليد الجيد"، والسير في "مراقي التوحيد"، ربنا يعلّمنا، وما يعلّمنا ياهو "لا يخرج عن أسرار القرآن" دي، لأنه "القرآن ذات الله"! فإن قلت: ما تقول في التوراة، والإنجيل، والكتب المنزلة؟! كلها، في الحقيقة، مراحل من القرآن تنزلت إلى الأمم في وقتها الماضي، لغاية ما تأذن الله بمجيء خاتم النبيين، و"ربنا ختم الرسالات كلها، الوحي كله، الكتب كلها، نزلت في المصحف العندنا بين أيدينا في الوقت الحاضر")!!

    أرجو ملاحظة كيف تدحض عبارات الأستاذ محمود هذه عبارات محمد محمود، فيما نسبه للأستاذ، كلمة بكلمة وعبارة بعبارة!

    فإذا كان الدكتور يعلم مثل هذه الأقوال، وأمثالها، عن الأستاذ محمود، ثم نسب إليه ما نسبه، هذه (خيانة لمسئولية العلم والقلم) و (افتراء)، وهي أبعد شيء عن (المنهج العلمي)! وإن كان لا يعلم هذه الأقوال، فلا يحق له أن يتصدى لتحليل (فكر) يجهل أساسياته، على هذا النحو!

    الواقع أني، كلما قرأت مزيدا من (خلاصات) محمد محمود هذه، أزداد يقينا أن عبدالله الفكي لم يكلف نفسه (مشقة) الاطلاع على كتاب محمد محمود، باللغة الإنجليزية، بل اكتفى (باطلاع آخرين) على الكتاب، ورأيهم فيه! وسنرى مثالا ساطعا، على هذا، خصوصا حين نستعرض كلام محمد محمود الذي أورده الفكي (بدون ترجمه) في كتابه الموجه إلى جمهوره من قراء العربية.

    وبمعزل عن القول المباشر أعلاه، فإن محمد محمود لا بد قد اطلع على أقوال (طه) الأخرى المتواترة عن القرآن الذي بين (دفتي المصحف)، من كونه آخر الكتب السماوية المنزلة! وإنه مهيمن على كل الكتب، ليست الكتب السماوية فقط، بل الكتب الأرضية أيضا بما فيها كتاب (راس المال) لكارل ماركس، وهذا قد أوردته في الحلقة الأولى من هذه السلسلة! وسبب ختم الرسالة، عند الأستاذ محمود، هو: (كل ما أرادت السماء أن توحيه إلى الأرض قد استقر بين دفتي المصحف)! وعلى هذا، لم يبق إلا بيان القرآن! وبيان القرآن تكفل به رب العزة، كما وردت الآية أعلاه! وبيان القرآن (سرمدي)، لأن بقاء الله سرمدي! فلماذا (يتقول) محمد محمود بعد كل هذا على الأستاذ محمود إنه يقول يدعو إلى (قرآن شخصي) وبهذا يجعل القرآن (ديمقراطيا)! ما هو الدافع لهذا (التقول)؟؟

    جدير بالذكر أني لاحظت أن أسلوب (بتر النصوص) و (التقول)، بغرض التشويه، أسلوب متكرر في كتاب محمد محمود! وهذا، نفسه، أسلوب معارضي الجمهوريين من غلاة السلفيين، لدرجة أني أحيانا أشك أن محمد محمود ينقل من كتابات معارضي الفكرة الجمهورية، وليس من مصادرها! وإلا، لماذا يرجع محمد محمود، مثلا، نسب الأستاذ محمود إلى الشيخ محمد الهميم، في الخلفية التي قدمها للقاريء، ويخرّج على ذلك (تخريجات)، في حين أن (نسب) الأستاذ متاح على بعد (نقرة زر) منه، على الصفحة الأولى من (موقع الفكرة) الإلكتروني؟؟ أم أن من أسس المنهج العلمي الصارم أن لا يتحقق الدكتور من مسألة يريد أن يبني عليها الكثير الذي بناه؟؟

    بل، لماذا يعمد الدكتور، مثلا، في نهاية الباب الرابع من كتابه، إلى إيراد هذا القول، كخلاصة أنهي بها الباب الرابع:
    (ها هنا، طه يستدعي قمة الصورة الصوفية: الإنسان في حالة سير مستمر ليكون حيا حياة الله، وكاملا كمال الله، وقادرا قدرة الله، ويكون الله.)!!

    فمحمد محمود يبتر النص عند: (ويكون الله.)، واضعا نقطة على السطر، وخاتما (الباب الرابع) من كتابه– (صفحة 131)! علما بأن بتر النص على هذا النحو، هو بالضبط ما فعله حسين محمد زكي أمام محكمة الردة 1968! وقد قال عنه الأستاذ محمود أنه: (ينغمس في مستويات من التشويه، والتضليل، تجلب العار لأقل الرجال احتفالا بأمر الأخلاق)!!

    على كل حال، إن كان محمد محمود قد نقل النص من كتاب (الرسالة الثانية)، فالنص لا ينتهي حيث أنهاه! أما إن كان قد نقل النص من مكان آخر، فكان الأولى أن يضع المرجع الذي نقل منه! فالنص لدى (التحليل) الصحيح، لا يصح إلا بإيراده مكتملا، هكذا:
    (وحين تطلع النفس على سر القدر، وتستيقن أن الله خير محض، تسكن إليه، وترضى به، وتستسلم وتنقاد، فتتحرر عندئذ من الخوف، وتحقق السلام مع نفسها، ومع الأحياء والأشياء، وتنقي خاطرها من الشر، وتعصم لسانها من الهجر، وتقبض يدها عن الفتك، ثم هي لا تلبث أن تحرز وحدة ذاتها، فتصير خيرا محضا، تنشر حلاوة الشمائل في غير تكلف، كما يتضوع الشذا من الزهرة المعطار. ههنا يسجد القلب، وإلى الأبد، بوصيد أول منازل العبودية. فيومئذ لا يكون العبد مسيرا، وإنما هو مخير. ذلك بأن التسيير قد بلغ به منازل التشريف، فأسلمه إلى حرية الاختيار، فهو قد أطاع الله حتى أطاعه الله، معاوضة لفعله.. فيكون حيا حياة الله، وعالما علم الله، ومريدا إرادة الله، وقادرا قدرة الله، ويكون الله.. وليس لله تعالى صورة فيكونها، ولا نهاية فيبلغها، وإنما يصبح حظه من ذلك أن يكون مستمر التكوين، وذلك بتجديد حياة شعوره وحياة فكره، في كل لحظة، تخلقا بقوله تعالى عن نفسه: "كل يوم هو في شأن"، والى ذلك تهدف العبادة)!

    لكن: المؤسف أن تخريجات محمد محمود، لا تقف عند حد! فهو قد قرر، مثلا، في خلاصة أخرى إن (طه) صوفي راديكالي (يطفف من شأن الدين الموروث الذي مركزيته محمد) و (يحول مركزيته إلى تجربته هو الدينية في الوصل مع الله)! هكذا!!

    فلنسمع ما يقوله الدكتور، في سياق حديثه عن أساس (فكر) طه، على صفحة (34) من كتابه:
    (بوصفه مفكرا صوفيا، فإن طه ينتمي إلى المدرسة الصوفية التي يمكن وصفها بأنها "مدرسة راديكالية". والراديكالية هنا يمكن تعريفها في إطار علاقة الصوفي بالدين، فالصوفي الراديكالي يطفف من شأن الدين الموروث (الذي مركزيته محمد)، ويحول مركزيته إلى تجربته هو الدينية الطازجة، والمباشرة، في الاتحاد (الوصل) مع الله)!

    As a mystic and thinker, Taha belonged to the school of Islamic mysticism that may be described as “Radical Sufism”. Radicalism is defined here in terms in the mystic’s relationship to tradition; a radical mystic deemphasizes tradition (at the center of which stands Muhammad) and shifts his emphasis to his own raw and direct experience of having a union (wasl) with the divine.


    إذن، محمد محمود يخبر قراءه _فقط بقصد التعريف بفكر طه طبعا_ أن (طه) يطفف من شأن الدين الموروث الذي مركزيته محمد، ويحول مركزيته إلى تجربته هو الدينية الطازجة والمباشرة في الوصل مع الله!! وللقاريء أن يقارن: هل يجد فيما يقول الدكتور مثيلا فيما يقوله غلاة المعارضين، والمشوهين؟؟ خصوصا أن الدكتور (المحلل) لا يورد أي دليل على ما يقول!!

    حقا، إن المرء ليصيبه الرهق والضجر، جراء متابعة تشويهات وتخريجات الدكتور! فهو، لا يورد قولا للأستاذ في كتابه، أو يعرض جانبا من فكره، أو مواقفه، إلا كانت له خلاصة (ذم) جاهزة، يريد أن يلصقها، دون أي دليل، أو (تحليل)، خلافا لما يعطي (عنوان كتابه)! فهو، مثلا، ينقل على صفحة (69) من كتابه، للقاريء، صورة مغلوطة تماما، عن التقليد والأصالة، مع العديد من التخريجات التي ينسبها إلى (طه)، حيث يقول الدكتور ما يلي:
    (في هذا المستوى من الحرية المطلقة فإن تقليد محمد، وهو بشر، يفسح الطريق إلى تقليد الله، "المطلق". وفي هذا المستوى لا يكون المسلم خاضعا للنظم والقوانين، ولا لطقوس العبادة التي تنص عليها المؤسسة الدينية، ولكنه يكون في حالة تسليم وجودي لله، حيث يغمر الله كل وجوده، ويشع الله من كل فكرة وتصرف للشخص. وكما لم يكن لجبريل مكان في "حضرة محمد العليا" مع الله، لا يكون لمحمد مكان في حضرة السالك العليا مع الله. فهذه حضرة وحدة حيث يلقى السالك الله _ وهي حالة عبر عنها الحلاج شعرا كما يلي:
    أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
    نحن روحان حللنا بدنا،
    فإذا أبصرتني أبصرته،
    وإذا أبصرته أبصرتنا!
    وعلى هذا، فإن نظرية طه عن الصلاة، تقدم حلا متطرفا للمشكلة الصوفية المتعلقة بوساطة النبي. وبالرغم من أن الصوفيين لا يشيرون أبدا إلى محمد على اعتباره "مشكلة" إلا أنه من المؤكد أن واقع أن محمد هو "الواسطة" بين البشر والله يمثل مشكلة كبرى تتحدى المنطق الداخلي للتجربة الصوفية. ذلك أن المنطق الداخلي لهذه التجربة يفترض مسبقا إمكانية، بل ضرورة، لقاء الله مباشرة، وبالتالي لا يكون في نهاية المطاف أي مكان لأي واسطة بشرية. والنقطة الفاصلة عند طه تتمثل في ادعائه أن هذه اللحظة من الوحدة الغيبية تمثل أيضا نهاية مرحلة المحدودية لدى السالك. ذلك أن السالك عبر "لقائه" الله يكون قد ارتقى إلى النضج الروحي الذي يحرره من قالب تقليد النموذج النبوي. وينتج عن عروجه إلى ربه أن يكون في حالة صلة مباشرة ومستديمة مع الله).

    It is on this level of absolute freedom that the imitation of Muhammad, a human being, gives way to the imitation of God, the absolute. It is on this level that one is Muslim not in the sense of a “submission” to a body of laws, and rituals dictated by an organized religion but in the deeper sense of an existential submission to God where He permeates one’s existence and radiates from one’s every thought and act. Just as Gabriel had no place in Muhammad’s “higher presence” with God, Muhammad has no place in the seeker’s higher presence with God. This is a presence of unity where the seeker identifies himself with God – a state that has been articulated by al-Hallaj lines,
    I have become the One I love, and the one I love
    Has become me!
    We are two spirits infused in a (single) body.
    And to see me is to see Him,
    And to see Him is to see us.
    Taha’s theory of prayer thus offers a radical solution to the mystic’s problem as regards prophetic mediation. Although Sufis never refer to Muhammad as a “problem”, surely that fact that Muhammad acts as a mediator between humans and God constitutes a major problem as far as the inner logic of Sufi experience is concerned. Since this inner logic presupposes the possibility and indeed the necessity of experiencing God directly, then ultimately there is no place for the mediation of any human agency. Taha’s crucial break lies in his claim that this moment of mystical union also marks the final of the seeker’s state of limitation. Having “met” God, the seeker has realized an elevated degree of spiritual maturity that frees him from the imitative mould of prophetic mediation. His ascension to God results in a state of a state of direct and constant communion with Him.


    المؤسف أن تقولات محمد محمود تبدو مستفزة، ومتعمدة، بشكل سافر، للتنفير عن (طه)، و (فكره)! وهو يعمد إلى إسقاط (رؤاه) و (مشكلاته) الخاصة على (طه)! مثلا، في النص أعلاه، يلبس الأستاذ لبوس الحلاج، متجاهلا تماما كلام الأستاذ عن أن الحلاج (فاني) أي: (مجذوب)، يُسلّم له بحاله، ولا يؤخذ عنه! كما أن الدكتور يسقط أيضا تفريق الأستاذ بين طبيعة تخلف جبريل عن النبي عند سدرة المنتهى، وتخلف النبي عن السالك، عندها! فالأستاذ يقول إن جبريل تخلف لنقص استعداده، حيث لا طاقة له بأنوار الذات، والنبي يتخلف لكمال علمه، وتمام تبليغه! ولكن كل هذا الكلام لا يجدي مع الدكتور، فهو يعلمه، و (فايت قعر أضانو) كما يقولوا، ولكنه، لغرض ما، يريد أن يلصق خلاصاته (الجاهزة) ويسقط (رؤاه) الخاصة على (طه) و (فكره)، وكفى! ومن ضمن (رؤاه) الخاصة التي أسقطها على (طه)، في (نصه) أعلاه، رأيه هو الشخصي في النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، حيث يقول:
    (وعلى هذا، فإن نظرية طه عن الصلاة، تقدم حلا متطرفا للمشكلة الصوفية المتعلقة بوساطة النبي. وبالرغم من أن الصوفيين لا يشيرون أبدا إلى محمد على اعتباره "مشكلة"، إلا أنه من المؤكد أن واقع أن محمد هو "الواسطة" بين البشر والله يمثل "مشكلة كبرى" تتحدى المنطق الداخلي للتجربة الصوفية)!!

    واضحٌ أن النبي، عليه السلام، يمثل (مشكلة) بالنسبة للدكتور!! وهذا أمر معروف، ومفهوم، خصوصا لمن يعرف طبائع النفوس، وجبلاّتها! فبعض النفوس تنظر لنفسها على أساس أنها (الكل في الكل)، ولذلك: لا تستسيغ ولا تطيق إدراك حقيقة أن هناك من هو (خير منها)! ومن ثمّ، تلجأ، إلى بخس الآخرين أشياءهم، والانتقاص من قدرهم، تحت مختلف المبررات، على قاعدة: أرأيتَك هذا الذي كرّمتَ عليّ؟!

    ولكن: يقينا، أن الدكتور لو أنفق بقية عمره ينقّب في كتابات (طه)، فلن يجد فيها غير التقديس والتوقير للنبي الكريم، وللقرآن!! فالأستاذ محمود يقول تحديدا إننا نبدأ من حيث انتهى سلفنا: من (توقير) و (تقديس) و (احترام) للنبي الكريم، عليه السلام! ومن (تقديس) و (توقير) للقرآن العظيم! بل الأستاذ محمود يقول: (إن من لا يفهم القرآن، ولا يجد في نفسه تقديسه إلى أعلى درجات التقديس، إنما هو محروم، ومطرود من الحضرة الإلهية)!

    وعن النبي الكريم، يقول الأستاذ محمود إنه هو (القدوة الحسنة)، في (التقليد)، وفي (الأصالة)، غير أنه ليس في الأصالة تقليد، بل (تأسٍّ)! فلنسمع عن النبي الكريم، عن الأستاذ محمود مباشرة، دون وسطاء أو محلّلين (مغرضين):
    (إن المعصوم، حين قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، كأنما قال بلسان العبارة: "قلدوني في صلاتي بإتقان، وبتجويد، حتى يفضي بكم تقليدي إلى أن تكونوا أصلاء مثلي"، أو كأنه قال: "قلدوني بإتقان، وبتجويد وبوعي تام، حتى تبلغوا أن تقلدوني في أصالتي"! غير أنه ليس في الأصالة تقليد.. ولكن فيها تأسٍّ: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"! "أسوة" قدوة في كمال حاله)!!

    ولهذا، الأستاذ محمود يرفع النبي، عليه السلام، نموذجا للعالم أجمع، حيث يقول عنه:
    (ولقد جسد الرسول القرآن فعاشه في جميع حركاته، وسكناته‏.‏‏. فتحرر من المخاوف التي يسوقها عقل المعاش، فكان لا يخاف الرزق، من أين يجيء، وكان ينفق ما يزيد عن حاجته الحاضرة، وكان يأخذ من الدنيا زاد الراكب، وزهد في كل شيء عدا الله، فتحرر من حب الادّخار، وحب السلطة، وحب التعالي على الناس، ومن استرقاق العناصر إياه، فأخلص عبوديته لله: "قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، لله رب العالمين* لا شريك له‏.‏‏. وبذلك أمرتُ، وأنا أولُ المسلمين".. هكذا كان.. ونحن نرفع نموذجه للناس ليهذبوا عقول معاشهم، ويفضوا إلى عقول معادهم على نحوٍ مما فعل)!!

    إن محمد محمود لا شك يعلم قول الأستاذ محمود المثبت أعلاه، وكثير غيره، لكنه يسعى (عن غرض)لإلصاق خلاصاته وإسقاطاته "الجاهزة"، على أقوال الأستاذ، أو بدعوى تلخيصها، بدعوى تقديم (فكر طه) لمن لا يملكون معرفة (مسبقة) به! خصوصا أن الدكتور يخاطب قراء لا يعرفون العربية، وهناك عشم كبير أن يصدقوا من يحدثهم بإنجليزية (رصينة)، وبنبرة العالم الخبير، عن (فكر طه)، معددا المراجع بعد كل مقتطف في (منهج علمي صارم)! ثم إن معظم هؤلاء القراء قد لا يشكون أن هناك شخص يحمل لقبا علميا رفيعا، ويتبوأ منصبا أكاديميا مرموقا في شعبة (الدين المقارن) بجامعة عالمية مشهورة_ يمكن أن يتجشم عناء تأليف كتاب من أكثر من 400 صفحة، لمجرد أن ينسب إلى شخص آخر غير ما يقول!

    أعتقد أنه قد بات واضحا الآن أن محمد محمود يتعمد تشويه أحاديث وأقوال الأستاذ محمود، لغرض ما! فهو يقول، كما ورد أعلاه، إن (طه) يقول إن السالك، عندما يحقق أصالته يكون في مستوى واحد مع النبي، من الله!! ولم يورد أي نص على هذا! ثم إن تقوله هذا لا يسنده المنطق (السليم) حتى!! فبأي منطق يكون شخص يحقق أصالته الآن في مستوى واحد مع من حقق أصالته قبل أكثر من 1400 عام؟؟

    على كل حال، ولقطع حبل (التقولات)، الأستاذ محمود يقول إن (النبي، عليه السلام، هو راس سهم تطور البشرية جميعا في ترقيها نحو الله)! ويقول إنه (إذا تصورنا الوجود كله كسهم دال على الله، فإن راس هذا السهم هذا هو النبي الكريم، عليه السلام)! ويقول أيضا إن الوجود كله منظوم في شكل هرمي (وليس في مستوى واحد) قمته الذات المحمدية، على قاعدة (وفوق كل ذي علم عليم)! كل هذا متوفر (خطا وسمعا) في (فكر طه) الذي يدعي محمد محمود أن كتابه (تحليل) له!!

    أنا هنا، واحتراما لعقل القاريء، لا أجد، مقابل (تقولات) محمد محمود هذه عن الأستاذ محمود فيما يخص (القرآن) و (النبي الكريم)، خيارا أفضل، من إثبات بعض أقوال الأستاذ محمود هنا، عن النبي الكريم، عليه السلام، وعن القرآن، وعن طبيعة الفكرة الجمهورية (باعتبارها دعوة لإحياء "السنة النبوية" التي هي "السنة الإلهية")، من أجل أن يحكم القاريء لنفسه، بنفسه، على كتاب محمد محمود! فإلى الأقوال:
    1- (أمران مقترنان، ليس وراءهما مبتغى لمبتغٍ، وليس دونهما بلاغ لطالب: القرآن، وحياة محمد.. أما القرآن فهو مفتاح الخلود.. وأما حياة محمد فهي مفتاح القرآن.. فمن قلد محمداً، تقليداً واعياً، فهم مغاليق القرآن.. ومن فهم مغاليق القرآن حرر عقله، وقلبه، من أسر الأوهام.. ومن كان حر العقل، والقلب، دخل الخلود من أبوابه السبعة)!

    2- (النبي هو الوسيلة الوحيدة الما في غيرها وسيلة.. لا قبلها ولا بعدها.. هو وحده المرشّح في لا إله إلا الله محمد رسول الله.. ما رُشِّح قبْلُه.. ولا يُرشّح بعدُه مخلُوق، لمقام الوسيلة الموسّلة، والمنقرن بالشهادة الجايي بيها الدخول في الملة).

    3- (النبي وسيلةُ خيرَ الدُّنْيا، والآخرة.. ما في خير دخل، أو يدخل الوجود، منذُ بدء الخليقة، إلا ومحمّد وسيلته)!!

    4- (يؤخذ من دقائق حقائق الدين أن نبينا رسول الأمتين: الأمة المؤمنة _الأصحاب.. والأمة المسلمة _الأخوان.. وأنه بذلك صاحب رسالتين: الرسالة الأولى محمدية، والرسالة الثانية أحمدية.. أو قل الرسالة الأولى الشريعة التي فصلها للأمة، والرسالة الثانية السنة التي أجملها، ولم يفصلها إلا في معنى ما مارسها، وعاشها دما ولحما)..

    5- (الإنسان الكامل يوجد في الروح.. وهو سيدنا محمد.. بعدين لمن نزل في الجسد هو آدم.. أول تنزل ليهو في الجسد، الكمال، في آدم.. والكمال الحقيقي ليهو في الروح هو سيدنا محمد.. الإنسان الكامل تنزل عن الله.. وهو أول قابل لتجليات الذات الإلهية.. ولذلك هو مظهرها الأعظم)!

    6- (نبينا كان يعيش الديمقراطية في قمتها، أعلى من قمة ما يُعرف عن قمة الديمقراطية.. لأنه تربيته هو في العبادة ليكون عبد تخليهو لا يستعلي علي الناس، ولا يستطيل، ولا يزهو بالسلطان.. حتى هو كان يقول: إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد.. ويقولوا أنه كان يجلس حيث ينتهي بيهو المجلس.. يعني لو جاء هسّع لمجلسنا دا، ما بيجي للصدارة هنا.. بيجلس حيث ينتهي بيهو المجلس.. ويقولوا مثلا، في سفرة معيّنة، ذبحوا شاة.. فالأصحاب قسموا الأمر بيناتن: واحد قال أنا أذبح، والتاني قال أنا بسلخ، والتاني قال بكسر اللحم، والتالت قال بطبخ، والرابع قال بجيب الموية، والخامس قال بجيب الحطب.. هو قال ليهن: أنا أجيب الحطب، معاهو.. قالوا ليهو: إنا نكفيكه يا رسول الله!! قال: علمت أنكم تكفونيه، ولكني كرهتُ أن أتميز عليكم.. ويقال أنه جاهو مرة رجل في مجلسه، بعدين أخدته الهيبة!! لجْلج، ما قدر يبيّن، خاف!! قال ليه: هون عليك!! فإني لست ملكا! وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد!! أنا أمي كانت بتأكل ملاح الشرموط، إنت خايف ليه؟؟ ما أفتكر في واحد بالصورة دي، يمكن أن لا يؤتمن على حريات الآخرين، في مستوى الوصاية القبيل!! قمة كبيرة جدا!! في عبادته: الديمقراطية أصلها في العبادة! إنت عايز تكون عبد، ما يكون ليك على خلق الله سلطان!! كأنه كدا الاتجاه! ومن هنا تجي الحاجة المأثورة عنه: إنه ما سئل شيء قط، قال: لا، لا!! يُسأل ثوبه، ينزعُه!! لأنه كأنما بيرى أنه: هل هو بملك عين الثوب، ولاّ بملك الارتفاق بالتوب!! إذا كان بملك الارتفاق بالثوب، كأنما الأرسل ليهو دا، عايز يمتحنه!! قد يكون هو محتاج ليرتفق بالتوب دا أكتر منه!! فكان لا يُسأل شيء، يقول لا!! دا من التربية في العبودية!! لئلا يكون ليك ملكية على عين الأشياء!! لأنه عين الأشياء مملوكة لي الله!! فإن إنت نازعته فيها الملكية نقصت العبودية!! التربية دي تسوق إلى قمة في الديمقراطية، لا تكاد يتصورها الإنسان بي خياله!!.. وحياة نبينا زي ما كانت نموذج في الديمقراطية لا يرى، يغيب عن الخيال، كذلك في الاشتراكية، نموذج يغيب عن الخيال)!!

    7- (الفكرة الجمهورية هي منهاج السنة النبوية.. وحديثنا كله عن إبراز السنة النبوية في العادات والعبادات والمعاملات! ومما قيل في السنة، أنها هي (سنة الله).. السنة النبوية هي سنة الله!! السنة النبوية هي سنة الله!! ودا بالضبط المعنى اللي يقول فيهو النبي: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)! يعني (طبعني على صفاته)! دا معنى (أدبني)! (أدبني) يعني هذبني، وعلمني، ورقاني! (أدبني ربي فأحسن تأديبي)! ودا المعنى اللي قالته السيدة عائشة أنه (كانت أخلاقه القرآن)! والقرآن هو أخلاق الله! ثم هو المعنى اللي يقول عنه: (وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى)! فأصبحت القولة بأنه السنة هي سنة الله، دا الكلام الجيد جدا! ثم تمثلت في الدم واللحم، في منهاج سير النبي للمقام المحمود، أو مقام الوسيلة، اللي كان فيهو في مضمار الروح عندما كانت الحقيقة المحمدية أول قابل لتجليات الذات الإلهية عليها! محمد في مكة ساير بمنهاج الصعود إلى مقامه في الوسيلة اللي هي أول قابل لتجليات الذات. أها، دي السنة الإلهية! ترجمها النبي في معيشة: في عبادته، وفي عادته، وفي معاملته للآخرين! الفكرة الجمهورية هي دي!)!!

    المدهش أن تقولات محمد محمود، في سبيل تحليل (اقرأ: "تشويه") فكر طه، لا تقف عند حد محاولة إلباس (طه) لبوس الحلاج، بل هو يذهب أبعد من هذا، ليتقول على السيدة العارفة رابعة العدوية، ليضمها (كسلف) لطه! ولمَ لا يفعل؟ فهو لا بدّ أن يجد سوابق عند الصوفية لما أسماه مذهب (طه) في (تهميش النبي) و (إبعاده عن مركزية الدين)!! فعلى صفحة (35) من كتابه (وفي سياق حديثه عن مذهب طه في (تهميش النبي)، يقول محمد محمود عن السيدة رابعة العدوية ما يلي:
    (رابعة تمثل أذكى تعبير عن المذهب الصوفي في "المحبة الإلهية الصرفة" (علم المحبة)، ومما ينقل عن رابعة قولها أنها لا تعبد الله خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، ولكن لجمال وجهه الكريم. علما بأن موقف رابعة من النبي يلخصه قولها الذي تقول فيه إنها مستغرقة في محبة الله على نحو لا يجعل لديها مكانا لحب أي أحد غيره)!

    Rabi’a provided the sharpest expression of the mystical doctrine of “pure divine love” “ilm al mahabba” Rabia reportedly said that she did not worship God from fear of hell or in hope of paradise but only for His own sake and for His eternal beauty. Her attitude toward the Prophet was summed up in a statement according to which she said that she was so possessed with the love of God that she had no room for loving Except Him.


    ولكن: هل للسيدة رابعة موقف كهذا من النبي الكريم عليه السلام، وهل حقا قالت إنها مستغرقة في حب الله، لدرجة إنه لا يوجد مكان في قلبها لحب النبي!؟ قطعا، لا!! هي لم تقل ذلك!! ولكن: لا يهم، عند الدكتور، أن تكون رابعة قد قالت ذلك، أم لم تقله!! بل الأهم، عنده، هو الإساءة إلى (طه)، وما رابعة، إلا مجرد وسيلة عنده، لهذه الإساءة!! لذلك: بعد أن قضى الدكتور غرضه، لجأ مباشرة إلى (تكذيب نفسه)، وتحديد (المهم) و (الأهم) عنده، حيث قال:
    (وليس مهما أن تكون هذه الأقوال صدرت فعلا عن رابعة، أم لا. بل الأهم هو أن هذه الأقوال تعبر عن منظور صوفي، لا بد أن يكون موقفه من النبي، قد وجد صدى وهوى لدى بعض المسلمين في مجتمع القرن الثاني الهجري وما بعده)!

    Whether such statements were actually made by her is not important; what is significant is that they expressed a mystical perspective whose attitudes must have struck a responsive chord among some Muslims of the Second Muslim century and afterward.

    بأي منطق يعطي محمد محمود لنفسه الحق في أن ينسب لرابعة العدوية أقوالا لم تقلها، ويبني عليها حكما جائرا كهذا؟؟ ثم بعد أن يفعل ذلك، يقول: (ليس مهمّا أن تكون هذه الأقوال صدرت فعلا عن رابعة، أم لا)؟؟ وبأي معيار (بحثي) حكم عبدالله الفكي أن محمد محمود التزم (منهجا علميا صارما)، في إعداد كتابه؟؟

    ختاما: لا يسعني إلا أن أقول إنني أجد فيما يقوم به د. محمد محمود مصداقا لقول الأستاذ محمود: (الأعلام والأقلام، الآن، عند غير أهلها)!

    أواصل في الحلقة القادمة، بعون الله..

    إبراهيم عبدالنبي


                  

03-13-2015, 09:43 PM

النذير حجازي
<aالنذير حجازي
تاريخ التسجيل: 05-10-2006
مجموع المشاركات: 7161

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود: بين andquot;إنصافandquot; عبدالله (Re: Yasir Elsharif)

    شكراً يا ياسر
                  

03-27-2015, 08:33 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48926

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود: بين andquot;إنصافandquot; عبدالله (Re: النذير حجازي)

    تسلم يا عزيزي النذير
    ـــــــــــــ
    الأستاذ محمود: بين "إنصاف" عبدالله الفكي و "تحامل" محمد محمود (4)

    تساءلتُ في الحلقة السابقة: لماذا يتعمد محمد محمود تشويه فكر الأستاذ محمود؟ وأدليتُ بطرف من الإجابة، حيث قلتُ إن الدكتور لا يتوقع خيراً يأتي من جهة الإسلام! فالإسلام، عنده، بمستوى واحد هو الذي ينادي به المتطرفون! ولهذا، لا يطيق أن يسمع أو يقرأ عن وجود مستوى ثانٍ في الإسلام، أرقى، وأكمل، وأقدر على حل مشكلة المسلمين، ومشكلة غيرهم، اليوم! ومن أجل ذلك، يعكف الدكتور، عن علم وقصد، على تشويه فكر (طه)، وتقديم صورة مناقضة عن (طه)، ومواقفه، ومواقف حركته، متخذا من (النقد) و (التحليل) ستارا! علما بأن الدكتور غيّر مجال تخصصه، من أستاذ (أدب إنجليزي) إلى أستاذ (دراسات إسلامية) في شعبة (الدين المقارن)، بجامعة (تافتس)، في الولايات المتحدة الأمريكية! ولا عجب!! فقد سبقه آخرون، في تغيير تخصصاتهم ليصبحوا مدرسي (دراسات إسلامية)، خدمة لذات الغرض، وهو: (تعريف الأمريكان بفكر طه)!! اقرأ: (تشويه فكر طه)!!

    أواصل، فيما يلي، استعراض ملامح أخرى، أشد قتامة، لتحامل محمد محمود على الأستاذ محمود! فالدكتور، يسعى، عمليا، لتجريد (طه) من كل شيء: حتى من مزية أنه (مفكر)! بل لتجريده حتى من مجرد أن يكون (واسع القراءة والاطلاع على أفكار الآخرين)! وهي (التهمة) التي كالها له، في غمرة انفعاله، في (نوبة) أخرى من (نوبات) تحامله! فقد قرأنا، في الحلقة (2)، محمد محمود يقول إن (طه)، بعكس ما يدعي، ذو اطلاع واسع على الفكر الليبرالي الغربي! بل (استلف) من المذهب الليبرالي مفهوم (الفردية)، وطوره، لينسبه إلى نفسه!

    ففي النص التالي، من كتابه، (بدءا من صفحة 37)، يخبر الدكتور قراءه أن (طه) متأثر بابن عربي، ومنجذب إلى فكره! ولكن الدكتور، لا يعلم على وجه التحديد متى بدأ هذا (التأثر) و (الانجذاب)! وكالعادة يطلق محمد محمود (خلاصات جاهزة)، دون أن يسمّي المراجع التي اعتمد عليها! فلنسمع الدكتور (الناقد):
    (من بين الصوفيين "الراديكاليين" فإن ابن عربي هو الأكثر نفوذا وتأثيرا، ومن ثم، فهو الأكثر تعرضا للهجمات القاسية من دعاة (السلفية)، قدماء، ومحدثين! وليس واضحا في أي مرحلة من مراحل تطوره الفكري انجذب طه إلى فكر ابن عربي، خصوصا إلى نظرية (وحدة الوجود) عند ابن عربي، التي أصبحت حجر الزاوية لفكر طه الديني. وباعتبار ما يقوله طه عن استقلالية فكره، وإحساسه بأنه يحتل مكانة روحية رفيعة، ليس مفاجئا أن يعلن أخيرا أنه شخصيا حقق مرحلة الشهود الذاتي لله. وبالرغم من أن طه "لم ينكر" تأثره بابن عربي، إلا أنه كان يحب أن يؤكد إن تجربته الروحية فريدة لم يتأثر فيها بأحد. وقد أكد أن مشروعه الخاص فريد وجديد، ومتفوق على كل المشاريع السابقة بما فيها مشروع ابن عربي. وقد "أنكر" طه أن يكون قد تتلمذ فكريا على أي مفكر أو عالم صوفي قبله، حيث اعترف بأنه طبق المنهاج النبوي فقط، وأقر بالفضل في هذا للنبي وللغزالي)!

    لاحظوا التناقض في سياق سطرين فقط بين (طه لم ينكر) و (أنكر طه) حيث يقول: (بالرغم من أن طه "لم ينكر" تأثره بابن عربي) ويقول: (وقد "أنكر" طه أن يكون قد تتلمذ فكريا على أي مفكر أو عالم صوفي قبله)!!

    ومواصلا، في ذات السياق (على صفحة 38)، يتطرق الدكتور إلى إجابة الأستاذ محمود على سؤال السيدة هود جكنز، عن (قراءاته)، حيث أجابها أنه (قرأ شذرات من هنا وهناك)! ولكن، محمد محمود ينصح قراءه أن (لا يحملوا قول "طه" هذا على محمل الجد)!! فلنسمع الدكتور (الناقد):
    (وعلى ضوء موقفه هذا من "إنكار" أن يكون قد تأثر فكريا بأحد معين، فإن طه عندما سئل عن "قراءاته" الفكرية أكد قائلا: "لقد طبقتُ المنهاج وقرأتُ قليلا – شذرات من هنا وهناك". علما بأن هذه "الشذرات من هنا وهناك" لا تتضمن كتابات المفكرين المسلمين المعاصرين، ولكنها تضمنت كتابات "ماركس، ليني، "برتراند" راسل، "جورج برنارد" شو واتش جي ويلز". إن إجابة طه أنه لم يقرأ للمفكرين المسلمين المعاصرين يجب أن تؤخذ على أنها تأكيد، من جهة، على أنه ليس قارئا منهجيا، ومن جهة أخرى، على أنها تعكس أسلوبه "المتّبع" في تأكيد "أصالته" و"سلطته" الفكرية فيما أتى به! إلا أننا يجب أن لا نحمل قول طه هذا على محمل الجد، فهو قد كان على وعي ومعرفة بالاتجاهات الفكرية الرئيسية والحوارات الخاصة بالفكر الإسلامي المعاصر! فقد كان الفكر الإسلامي لطبقته من "الأفندية" متأثرا جدا بمحمد عبده ومذهبه الفكري. وكان لمحمد عبده أثر بارز في السودان بسبب هيمنة الاحتلال المصري من جهة، وبسبب استعداد ورغبة المتعلمين السودانيين للرضوخ للأثر الفكري للمصريين الساعين لفرض هيمنتهم الفكرية على الآخرين، من جهة أخرى! إن طه مدين، بالتأكيد، في "خطابه الحداثي" و "نهجه الإصلاحي" لمشروع محمد عبده، بالرغم من نزعة طه للتركيز على أوجه القصور في مشروع محمد عبده)!

    الواضح أن الدكتور (ممتعض) جدا من (إصرار) طه (الدائم) على القول بأنه (أصيل) في فكره، وإنه تلقاه (كفاحا)! كما أنه (مستاء) أيضا من (إصرار) طه (الدائم) على إسناد أفكاره من القرآن! ولذلك نراه محتفيا، غاية الاحتفاء، بنقد محمد محمد علي للأستاذ محمود! خصوصا نقد محمد محمد علي لتعريف الأستاذ للمعرفة على أنها (التذكر)! حيث قال محمد محمد علي إنه يرى فيها (أفلاطون) ماثلا! فالدكتور _في ملحوظته رقم (33) على صفحة 252، يحدث قراءه بما يلي:
    (محمد محمد علي، ربما كان أول شخص يشير إلى الأصل "الأفلاطوني" لحجة طه أن المعرفة عبارة عن "تذكّر". ولكن طه نفى ما قاله محمد محمد علي، وأصر على أن علمه مستمد من القرآن.. "المرجع: رسائل ومقالات، الكتاب الثاني، صفحة 7 – 8".. وهذا الادعاء بأنه استقى معرفته من القرآن، ادعاء يصبغ أسلوب طه في كافة أعماله، حيث يصر دائما على أن جميع أفكاره مستندة إلى القرآن)!

    إذن (ادعاء) طه بأنه استقى معرفته من القرآن، و (إصرار) طه (الدائم) على أن جميع أفكاره مستندة إلى القرآن هو مصدر إزعاج للدكتور! ولذلك، هو يخبر قراءه، دون أي دليل، أن طه أخذ أفكاره من ابن عربي، والجنيد، والبسطامي، والحلاج، وغيرهم من الصوفية! بل حتى فكرة (التجديد الإسلامي) أخذها طه من محمد عبده!! كما يقرر الدكتور أن طه، بعكس تصريحه للسيدة جكنز، (مطّلع) على الفكر الغربي أيضا، وقد استلف منه (فكرته التأسيسية) عن (الفردية)، كما استعرضتُ قوله في حلقة سابقة! وأعيده هنا:
    (الفكرة التأسيسية لطه بخصوص موضوع "الفردية" التي تحققها الصلاة، وبالرغم من أن طه يصر على أن ما أتى به ناتج عن تلقي كفاحي من القرآن، فإنه بلا شك قد استمدها من أفكار المذهبية الليبرالية الغربية، حيث طور هذه الأفكار ليؤكد فكرته هو عن "الفردية")!

    عليه: إذا (حملنا) كلام محمد محمود هذا على (محمل الجد)، فإننا يجب أن نصدق أن طه اطلع على أفكار هؤلاء جميعا (مفكرين مسلمين "قدامى ومحدثين"، ومفكرين غربيين) واستوعبها، ثم اختلسها، ونسبها إلى نفسه! ولهذا يجب أن لا نحمل على محمل الجد قول (طه) إنه قرأ فقط (شذرات من هنا وهناك)!

    والوضع كهذا، فإني، ولغرض إقامة الحجة على الدكتور، وإثبات تحامله، سأذهب معه إلى نهاية الشوط: دعونا نسلّم للدكتور أن (طه) اطلع على كل هذه الأفكار (إسلامية وغربية)، ووعاها، ثم أخذها، ونسبها إلى نفسه! فهل يُرضي هذا الدكتور ويشفي (غليله)؟؟ لا!! فالدكتور، للأسف، لن يهدأ له بال حتى يجرد (طه) من كل شيء! حتى نيشان (القراءة) و (الاطلاع) و (اختلاس) أفكار الغير، الذي منحه له في سياق (تحاملي)، سابق، يعمد إلى سحبه منه، في سياق (تحاملي)، لاحق!

    الدليل؟!؟ لنسمع الدكتور، فيما يلي، يشكك في (تقرير) المؤرخ محجوب عمر باشري الوارد في كتابه (رواد الفكر السوداني)، في سياق محايد، عن (طه)، وقراءاته الواسعة، واطلاعه على الفكر الغربي! حيث كتب باشري، في كتابه المذكور، عن محمود محمد طه، ما يلي:
    (كان قارئا نهما في اللغتين العربية والإنجليزية، ودرس مذاهب الفلسفة وكل أنواع المنطق، حتى المنطق الوصفي والمنطق الجدلي وله دراسات عن مدرسة الجدليين منذ الفيلسوف الألماني هيجل حتى ما كتبه ماركس وتفرع منه، ما كتبه منظرو الماركسية، وله دراسات عن المنطق الرياضي واعتراضات على وايتهيد وراسل كما له اعتراضات على مدرسة هيجل)!

    هذا ما كتبه باشري! وهو يتفق مع ما قاله محمد محمود، الذي أوصى قراءه أن (لا يحملوا على محمل الجد) كلام طه عن أنه قرأ قليلا: (شذرات فقط من هنا وهناك)! والغريب أن من ذكرهم باشري، هم أنفسهم من ذكرهم محمد محمود! ولكن محمد محمود، للعجب، لا يوافق باشري! إذ يبدو أنه (لا يستسيغ) أن يقول أحد عن طه أنه (واسع الاطلاع) أو (له دراسات في مجالات الفكر الغربي)، حتى في سياق (محايد)، كسياق المؤرخ (باشري)!

    لذلك: يعلق الدكتور على كلام (باشري) هذا، في إيضاحه رقم 90، على نهاية صفحة 238، وبداية صفحة 239، بما يلي:
    (المصدر الذي استقى منه باشري هذه المعلومات المفصلة حول قراءات طه المبكرة، ودراساته "المفترضة"، غير واضح. ومن الجائز أن يكون باشري "مدفوعا" بتقديره واحترامه العظيم لطه، وإعجابه هو الخاص بالفكر الغربي، لدرجة أن جعل من طه مفكرا ذا قراءات واسعة ومنهجية في الفكر الغربي الحديث)!

    تُرى: ماذا يفعل (طه)، ليرضى عنه الدكتور (الناقد)؟! إن قال طه بنفسه إنه ما تأثر بأحد، وما قرأ كثيرا، يقول لنا الدكتور: لا تصدقوه! بل هو قرأ، واطلع، وتأثر، وأخذ، ونسب إلى نفسه! وإن كتب مؤرخٌ محايد، إن (طه) قاريء (نهم) و (واسع الاطلاع)، يقول لنا الدكتور أيضا: لا تصدقوا (الزول) دا! فهو يكتب (مدفوعا) بتقديره واحترامه (العظيم) لطه!

    لا أدري لماذا يراودني إحساس أن الدكتور ربما انطبع في ذهنه أن (النَقْد) يعني (النَقِد)، بكسر القاف، خصوصا أنه (حديث عهد) في هذا المجال، و (متقحّم) له! فأنت لا تجد، في كتابه، (فكرة) أو (موقفا) للأستاذ محمود، إلا ألصق عليه (خلاصة سلبية) جاهزة، ليشوهه بها!

    وفي هذا، الدكتور لا يتورع عن شيء! فقد تطاول، لينال بالتشويه والانتقاص حتى ذلك الموقف المشهود على المقصلة! حيث اعتبر (إعدام) طه (تشكيكا) في (صحة) و (توازن) موقفه! ورأى في (مصيره النهائي) الذي لاقاه (عنصرا من عناصر العقوبة الإلهية) و (الطرد)!! هكذا!! ثم ذهب ليؤكد إن هذه (الدلالات السلبية) لم تكن خافية على (حس الجمهوريين الصوفي)! ولذلك عمدوا إلى (التبرير) عبر التأكيد إن (موت طه كان في الواقع عملا تم باختياره هو)! (صفحة 33 – 34)!

    فهل يمكن أن يكون هناك (تحامل) و (كراهية) أكثر من هذا!

    ولكن: برغم كل هذا _بل ربما بسبب هذا_ يخبرنا عبدالله الفكي (الباحث) أن محمد محمود قد التزم منهجا علميا صارما في كتابه! ويعلن بروفيسور عصام البوشي _ كاتب مقدمة كتاب الفكي _ في ندوة عامة، أن كتاب محمد محمود (من أفضل ما كتب عن محمود محمد طه)، معلقا على نقد د. القراي، في ذات الندوة، للكتاب! ولا أخفي أنني بتُّ أخشى أن يكون (إمعان الدكتور في التشويه) هو (المعيار) الذي تم على أساسه (تثمين) كتاب الدكتور! فنحن نعيش في زمانٍ طُفّفت فيه (المعايير) وطاشت (السنج)!

    ولعله، من قبيل إضفاء المزيد من (البهارات)، لتسويغ (تعريف) قراء (الإنجليزية) بفكر (طه)، قرر الدكتور أن يدمج (طه) و (فكره) و (حركته)، في (باقة) واحدة، مع فكر (سيد قطب)، وحركة (الإخوان المسلمين)! هكذا! ولتشرب (الأفضلية) من البحر! وليخلد (المنهج العلمي الصارم) في الجحيم!

    فلنقرأ (فخامة) الدكتور الناقد، على صفحة 38 و 39 من كتابه _ظانا أن قد خلا له الجوُّ_ يعرّف قراءه، بالإنجليزية، (أكثر فأكثر) بالرجل (طه) وفكره وحركته، حيث يحدثهم، بإنجليزية رصينة، حديث العارف، الخبير، بما يلي:
    (بالرغم من أن طه كان معارضا فكريا وسياسيا للإخوان المسلمين، خصوصا النسخة السودانية للإخوان المسلمين،93، إلا أن الحركة التي أنشأها تتشارك في خصائص أساسية مع مفهوم سيد قطب لنموذج حركة التجديد. ففي فكر سيد قطب حركة التجديد يجب أن تكون "انعزالية"، حيث يجب أن "تقاطع المجتمع" و "تعزل نفسها" عنه، لأن المجتمع يعيش في حالة جاهلية، لا تختلف عن جاهلية المجتمع المكي عندما بدأت بعثة محمد. وقد تم استخدام مفهوم "جاهلية القرن العشرين" كحكم إقصائي شامل وكاسح، يشمل، ليس مجتمعات غير المسلمين فحسب، بل المجتمعات الإسلامية أيضا. وعلى هذا، فقد كانت حركة الجمهوريين "حركة انعزالية"، ولديهم "إحساس عالي جدا بالتميز الشخصي". ومثله مثل مفكري الإخوان المسلمين استخدم طه أيضا مصطلح "الجاهلية" في الإشارة إلى الوضع الراهن، بالرغم من أنه استخدمه بافتراض إيجابي هام، هو أن جاهلية العصر الحاضر أرقى من الجاهلية التي كان عليها الناس في العهد النبوي الأول. كما أنه طه، وفي تقييمه لمساهمات محمد عبده وحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، امتدح الوعي السياسي ونزعة الإصلاح، عند البنّا. ولكنه استخدم نفس التصنيف ليدين جماعة أنصار السنة السودانية، المنبثقة عن الحركة الوهابية، حيث لم يكن راضيا عن مهادنتهم للاستعمار. والأهم من ذلك، أنه لم يكن معجبا بآرائهم الإصلاحية، حيث ذكر إنه "لا يمكن أن يأتي منهم خير" – المرجع: أسئلة وأجوبة – صفحة 76)!

    هنا لا أحتاج أن أدافع عن (الأستاذ محمود)، في وجه (تحامل) محمد محمود هذا! ويكفي أن ألفت نظر القاريء إلى أن فكرة (سيد قطب) القائلة بضرورة (انعزالية) حركة التجديد، و (مقاطعتها المجتمع)، الخ، تجد سندها في صلب دعوته إلى (استعلاء الإيمان)! و (استعلاء الإيمان) مبدأ معروف في حركة الإخوان المسلمين، وهو مستمد من توجيهات مؤسس الحركة (الإمام حسن البنا)، إلى الإخوان المسلمين! فالإمام حسن البنا خاطب الإخوان المسلمين بما يلي:
    (نحن أيها الناس، ولا فخر، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشّرون بدعوته كما بشّروا، ورحمة الله للعالمين.. "ولتعلمّن نبأه بعد حين".. أيها الأخوان المسلمون: هذه منزلتكم، فلا تصغّروا من أنفسكم، فتقيسوا أنفسكم بغيركم)!!

    اقرءوا التوجيه أعلاه، وقارنوا!! أين هذا مما تعرفونه عن الأستاذ محمود، وتلاميذه! أعتقد أن محمد محمود بإصداره هذا التقرير المجحف، في حق الأستاذ محمود، غير جدير بأن يحدّث الناس، في أي مستوى، عن الأستاذ محمود! ناهيك أن يتصدى لتحليل فكره! ولكن، العزاء أن باطل محمد محمود هذا لا يجوز إلا على مغرض، ولا يضر به إلا نفسه! فالأستاذ محمود قد شهد له، ولتلاميذه، العديدُ من الناس، حتى من الإخوان المسلمين أنفسهم، بالتواضع الفكري والسلوكي، واستقامة الخلق، ولين الجانب، ومحبة الناس، والسعي في خير الناس (مؤيدين ومعارضين)، سواء بسواء! والفضلُ ما شهدت به الأعداء!

    على أنّي أقدم، هنا، كمثال في دحض تخرصات محمد محمود، توجيها واضحا ومحددا، من ضمن توجيهات كثيرة مماثلة من الأستاذ محمود لتلاميذه! حيث يوجّه الأستاذ محمود، تلاميذه، بما يلي:
    (يجبْ أن تكونُوا واسعي الأفق، واسعي الصّدر، في مواجهة المعارضين! همْ أعوانكُم! نحن، وهم، ماشين في طريق واحد! نحن بنشوفهم! هم ما بشوفونا! يُعذَروا على ذلك! فكونُوا رفيقين بيهُم! وكونُوا محبّين ليهُم! وإنْ كرهتمْ أخطاءهم، وسلوكهم! لكنْ يجبْ أن تكون في السعة البي تخلّينا نكون محبّين، لنوصّل ليهمْ الخير! والخير لمّن ينزل من نفوس محِبّة، يجدْ الاستجابة.)!

    شتّان بين (ما يريده محمد محمود) وبين (واقع الحال)! (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم)!!

    على كلّ حال، كتابات الأستاذ محمود، وأحاديثه، عن الإخوان المسلمين، مبذولة لمن يرغب على موقع الفكرة الجمهورية (http://www.alfikra.org)،http://www.alfikra.org)، خصوصا سلسلة الكتب المعنونة: (هؤلاء هم الإخوان المسلمون)! فليطالعها من يشاء! بدلا من الأخذ عن (المغرضين) و (الموتورين) وأصحاب الأجندة الخاصة، مدفوعة الثمن!

    وبما أني، هنا، معنيٌّ بكشف وإثبات تحامل الدكتور، سأعمد إلى مواجهته بأقواله هو نفسه (المبثوثة) في صفحات كتابه، عن (طه) و (فكره) و (حركته)! وهي أقوال تخالف تقريره أعلاه، بصورة قاطعة، وحاسمة! حيث يبدو أن الدكتور لا يلقي بالا لضرورة أن يكون (ذَكُورا)، في غمرة (انفعاله) و (انشغاله) بلصق (خلاصاته) الجاهزة على (طه) و (فكره) و (حركته)!

    يقول الدكتور، مثلا، على صفحة 233 من كتابه، في الملحوظة رقم: 35، ضمن ملحوظاته على الصفحات 23 – 24، عن (فكر وحركة طه) ما يلي:
    (بالرغم من أن الأصل الاجتماعي لغالبية الجمهوريين يضعهم فوق خط الفقر، إلا أن مذهبهم الفكري الاشتراكي جعلهم يعيشون معيشة الفقراء، حسبما لاحظ دوران "عن حق". المرجع: خالد دوران "الإخوان الجمهوريون في السودان: حركة إصلاح إسلامي". وفي هذا الإطار، يقف الجمهوريون في "تناقض واضح" مع "حركة الإخوان المسلمين السودانية" التي يتجه مذهبها الفكري إلى الدفاع عن الرأسمالية، و "أعضاؤها يجدون راحة روحية في الاحتفاء بتكديس وجمع الأموال").

    هذا اعتراف واضح من الدكتور!! يمثل نقضا مبينا لخلاصته المقتطفة أعلاه من صفحة 38 - 39 (من كتابه)! وإلا: فكيف يعتزل المجتمع، ويقاطع أفراده، و (يستعلي) عليهم، من (يتواضع) ليعيش عيشة الفقراء منهم، برغم وضعه الاجتماعي الذي يسمح له بالمعيشة فوق خط الفقر؟ وكيف يتساوى (الزاهد) مع (من يجد راحة روحية في تكديس وجمع الأموال)؟ اللهم، إلا أن يكون الدكتور يفهم (الاعتزال) و (الاستعلاء) و (المقاطعة)، بمعنى: (أن "يتواضع" المرء و "يعيش" عيشة الفقراء، بالرغم من مستواه الاجتماعي الذي يسمح له بالعيش فوق مستوى الفقر)، و (أن يجوب الشوارع راجلا، يناقش المارة رجالا ونساء في شئون الفكر والسياسة والاجتماع)، و (أن يتجافى عن الاحتفاء بجمع المال وتكديسه)، الخ..

    وهنا، تقرير ثانٍ صادر عن الدكتور، على صفحة 32 من كتابه، ينقض أيضا ما افتراه، في حق الأستاذ محمود، حيث يقرر بنفسه ما يلي:
    (طه رجل ينضح بالجاذبية، واللطف، والحيوية. وقد عاش حياة تتسق مع نموذجه الصوفي في الزهد. فقد عاش في بيت بسيط من الطين، وكان يلبس ثيابا بسيطة، ويحرص على أن لا يحمل، أبدا، في جيوبه نقودا، وكان لا يأكل اللحم)!

    ثم، هذا تقرير ثالث للدكتور، عن (فكر) طه، حيث يحدثنا الدكتور (في "إيضاح رقم 93"، صفحة 239 من كتابه) حديثا ينقض (خلاصته) على صفحة (38)! فهو على صفحة 239 يتحدث عن وضوح (الاختلاف الايديولوجي) بين (فكر طه) و (فكر الإخوان المسلمين) منذ (مرحلة مبكرة)! أليس هذا عجبا؟ فلنسمع الدكتور:
    ملحوظة 93: (الاختلاف الأيديولوجي بين فهم طه للإسلام وفهم مدرسة الإخوان المسلمين كان واضحا منذ مرحلة مبكرة. ففي مراحل نشوئها الأولى، تعرضت حركة الإخوان المسلمين السودانيين لتشظيات عديدة، وفي محاولة لحل أزمة الحركة، سافر محمد يوسف، أحد قادة حركة الإخوان المسلمين في أوساط الطلبة، عام 1951، إلى رفاعة، ليلتقي طه، بغرض استكشاف ما إذا كان بإمكان طه قيادة حركتهم. ولكن "بعد نقاش طويل" قرر "يوسف" أن أفكار طه "أكثر انفتاحا وتحررا" من أن يتولى قيادة حركة، كحركة الإخوان المسلمين" – المرجع: كتاب عبدالوهاب الأفندي: ثورة الترابي "لندن – جراي سيل، 1991"، 65..)!!

    على كلّ حال: كلما أتمعن أسلوب محمد محمود، وأطالع أوصافه المتكررة التي يطلقها على الأستاذ محمود وعلى الجمهوريين _دون دليل_ من قبيل: (أسلوب طه الذرائعي المعتاد)، (الجمهوريون لديهم إحساس عالي جدا بالتميز الشخصي)، (الجمهوريون يشعرون أنهم متميزون فكريا)، (الجمهوريون يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة)، (الجمهوريون حركة صفوية) الخ، أشعر أن محمد محمود ينطلق من إحساس معين (بالدونية) تجاه الأستاذ محمود والجمهوريين! وما هذه (الأوصاف) التي يطلقها إلا (إسقاط تعويضي)! فهو متنازع، ويعيش تناقضا حادا، بين ما يعرفه حقيقة عن (طه) وفكره، وتلاميذه، وحركته! وبين غيرته الشخصية منهم، وشعوره بالدونية تجاههم! ومن ثم حاجته الداخلية لطمر وكبت هذا الشعور بالغيرة، والدونية، محفوزا بآلية (الدفاع الذاتي التلقائي)!

    فمحمد محمود، أقر بنفسه في كتابه، أن له نقاشات كثيرة، امتدت عبر فترة طويلة، مع الجمهوريين! وبالطبع لا بد أن تكون مرارات معينة قد ترسبت نتيجة هذه النقاشات! ولهذا نجد الدكتور دائم التكرار، بلا مبرر، لهذه الأوصاف، دون إيراد دليل من أقوال الجمهوريين أو كتاباتهم أو مواقفهم، عليها، أو القول إنها (انطباع شخصي) ناتج عن تجارب شخصية، مع نفرٍ معدودين من الجمهوريين! بل هو يطلق الأوصاف بصورة معممة على جميع الجمهوريين! والدكتور، قطعا، لم يناقش جميع الجمهوريين، ولا يعرفهم جميعا، ليطلق عليهم أحكام معممة، بهذا الشكل!

    غالب حدسي، أن ما يزعج الدكتور، ويثير غيرته أكثر، أن الجمهوريين (بالرغم من تفوقهم العقلي) يعرفون للعقل مكانته، ولا يوافقون على (إعلاء شأن العقل) بحيث يجعلونه حكما على الأشياء: (ينفي) و (يجحد) و (ينكر) كل ما لا يعقله! ولربما حجّه بعضهم في هذا الخصوص، وسفّه من اعتقاده غير المنطقي، في العقل! فالعقل، عند الأستاذ محمود والجمهوريين، عرضة لآفات كثيرة: المعنوي، منها، والمادي! وعلى راس الآفات المعنوية الهوى: هوى النفس! وعلى راس الآفات المادية: المرض!

    فنوبة (ملاريا)، تطير في الرأس، مثلا، كما يقول (طه)، قد (تلخبط) كيان العقل، و (تزلزل) شأنه! فلا يقدر على تمييز الحلو من المر، ولا الطيب من الخبيث! هذا، بغرض التذكير، لمن أراد أن يذكّر! ولذلك: الأستاذ محمود يقول إن من أكبر دلائل الجهل، أن يجحد الإنسان وجود ما لا يعلم، لمجرد أن (عقله قد عجز عن إدراكه)! ويجدر أن أذكر في هذا السياق أن الدكتور أسس موقعا (لتجاوز الأديان)، معلنا إن الهدف منه هو: (الإعلاء من شأن العقل) و (تجاوز الدين) مرة واحدة، وإلى الأبد!

    علما بأن الدكتور، حتى في دعوته هذه المعلنة إلى (تجاوز الأديان)، لا يتحلى بصدق الدعاة، ولا بأمانة الأكاديميين! فهو، عمليا، لا يعيش دعوته هذه! حيث يتبنى، على المستوى العملي، الدعوة إلى (العلمانية)! والعلمانية (دين)! كما أنه، على المستوى الأكاديمي، لا يدرّس طلابه (تجاوز الأديان)، ولا يدرسهم جميع الأديان حتى! بل يعد لهم، ويدرّسهم، مقررات حول (الإسلام والحداثة) و (مدخل إلى القانون الإسلامي "الشريعة") الخ! ويحدث محاوره عن انبهاره هو شخصيا وانشغاله باستكشاف وفهم (أثر العقائد الدينية "العميق" في تشكيل وتكييف وعي الناس ونظم القيم في كافة المجتمعات عبر التاريخ الإنساني)!!

    فلنسمع الدكتور يجيب على أسئلة صحيفة "جامعة تافتس"، حيث يدرّس:
    (سؤال: ماذا سوف تدرس السميستر القادم؟
    إجابة: السميستر القادم سوف أدرّس كورسا حول (الإسلام والحداثة) وكورسا عنوانه (مدخل إلى القانون الإسلامي "الشريعة")!

    (سؤال: ما هو أكثر ما يمتعك في التدريس في مجال الدين؟
    إجابة: لقد ظللت دائما مبهورا بظاهرة الدين (في جميع تجلياتها). لقد ظللت دائما مشغولا باستكشاف وفهم وتحليل العقائد الدينية، الظاهرة والباطنة والمفترضة، وأثرها العميق في تشكيل وتكييف وعي الناس ونظم القيم في كافة المجتمعات عبر التاريخ الإنساني. وما يجذبني ويروقني بالتحديد في تدريس الأديان هو أن التدريس نفسه يصبح عملية تعلم مستمرة حيث يجد المرء نفسه في عملية تفاعل مستمر مع أفضل العقول في هذا المجال (عبر القراءات التي أحيلها على طلابي) وسماع آراء الطلاب ووجهات نظرهم. إنها عملية تفاعل مستمر، وتوسيع لآفاق المرء المعرفية، وهذه من أكثر الجوانب إمتاعا فيما أقوم به)!!!

    أواصل في الحلقة القادمة، بإذن الله، وبعونه..

    إبراهيم عبدالنبي
                  

04-11-2015, 03:03 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48926

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود: بين andquot;إنصافandquot; عبدالله (Re: Yasir Elsharif)

    الأستاذ محمود: بين "إنصاف" عبدالله الفكي و "تحامل" محمد محمود (5)

    في الحلقة الرابعة استعرضتُ مزيدا من أوجه (التجاذب) لدى محمد محمود في تعامله مع (طه) ومع (فكر طه)، كما أبرزتُ في نهاية الحلقة، جانبا من سمة (التناقض) في (تفكير) محمد محمود نفسه: فهو من جهة يدعو إلى تجاوز الدين، مرة واحدة، وإلى الأبد، بل يدّعي أن (النبوة) من (صنع الأنبياء)! ويتبنى هذا الموقف تحديدا عندما يتحدث في سياق (الإسلام)، مرتديا بزّة (العقلاني) و (العلماني)، ليظهر في المجتمعات المسلمة، بمظهر المثقف المستنير (الثائر)، و (داعية التحرر) من وهم (الخرافة)، و (عقابيل الدين)!

    أما في مواجهة جمهوره في الغرب، حيث يعمل، فالدكتور، عندما يتحدث عن (الدين)، يحب أن يعزف نغمة التيار (السطحي) السائد، حيث يكون حريصا على أن يعكس (انبهاره الدائم باستكشاف وفهم وتحليل العقائد الدينية، الظاهرة والباطنة والمفترضة) و (شغله الدائم بأثر الدين "العميق" في تشكيل وتكييف وعي الناس ونظم القيم في كافة المجتمعات عبر التاريخ الإنساني)! ولا ينسى أن يحدثهم عن أن (ما يجذبه ويروقه "بالتحديد" في تدريس الأديان هو أن التدريس نفسه يصبح عملية تعلم مستمرة حيث يجد المرء نفسه في عملية تفاعل مستمر مع أفضل العقول في هذا المجال)!! وعلى هذا، فإن المرء ليحار: هل دافع هذه الأحاديث هو مجرد (الاندغام) و (الانسجام) مع (سبل) العيش، والتوظيف، في الغرب، أم أنها أصيلة، ونابعة عن (حس) صادق؟! وإلا، فأيهما الأصل: أحاديث الدكتور الموجهة للمسلمين عن (الحاجة الملحة لتجاوز الدين) و (التأكيد على نفي أي دور له في المجالات "السياسية" و "الاقتصادية" و "الاجتماعية")؟ أم أحاديثه الموجهة للغربيين عن (أثر الدين العميق وبقائه واستمراره، كمكون حيوي، ودوره الفعال في كافة المجالات "السياسية" و "الاقتصادية" و "الاجتماعية" الخ)؟؟

    عليه، وفي ظل هذا التناقض، لا بد أن يثور سؤال منطقي، وهو: هل يكون (الدين) الذي يتحدث عنه محمد محمود بهذا الإعجاب، والانبهار، والانجذاب، هو نفسه (الدين) الذي يدعو الدكتور المسلمين، والسودانيين على وجه التحديد، إلى تجاوزه؟ أم أن (التجاوز)، عند الدكتور، مقصود به دين (الإسلام) حصرا!؟

    والإجابة يمكن أن نستشفها من قول محمد محمود هذا، الوارد في مقال له (نشر حديثا) في الأسافير، بعنوان (نحو مدارس علمانية) حيث يقول:
    (إذا نظرنا لليهودية والمسيحية والإسلام فإننا نجد فرقا واضحا ومثيرا للقلق. فبينما قبلت المسيحية – واليهودية في ركابها – بواقع التعدد الديني ومبدأ الحرية الدينية نجد أن الإسلام في تجلياته الناشطة لا يزال يقاوم ذلك. وهذه المقاومة لحق حرية الفكر والضمير والتعبير تجسّدها في السودان المادة 126 في القانون الجنائي التي تنصّ على ”قتل المرتد“ ومواد الردة الشبيهة بهذه المادة في عدد من البلاد الإسلامية. هذا الرفض للحرية الدينية وحرية الفكر الذي يصل حد التجريم والإعدام لا نجده في عالم اليوم إلا في الإسلام. فاليهودية والمسيحية على تجريمهما وقتلهما للمرتد في الماضي قد تجاوزتا هذا الموقف وقبلتا مبدأ الانسجام مع قيم حقوق الإنسان التي تسود عالمنا اليوم. وما يفسّر هذا الاختلاف بين هذه الأديان – رغم أرضيتها التوحيدية المشتركة – هو أن المسيحية واليهودية قد دخلتا في ”مصالحة تاريخية“ مع العلمانية وقبلتا بمبدأ فصل الدين عن الدولة، بينما أن الإسلام بشكل عام ما زال يقاوم ذلك، بل ونجح في إقامة أنظمة حاكمة تستمد شرعيتها من إقامة الشريعة وبنيات سياسية مؤثرة وعابرة للقارات تنشط في معارضة العلمانية والدعوة ”للحكم بما أنزل الله.)!!

    كلام الدكتور هذا، يؤكد أن الدكتور يحب، لأمر ما، أن يعكس (الإسلام) على أنه فقط (الممارسات الحالية) للمتطرفين، ومغيّبي الوعي، من المسلمين! ولا شك أننا إذا عايرنا (الدين)، بمعيار الدكتور هذا، فإن هناك من (متطرفي اليهود والمسيحيين) من يدعو إلى، ويرتكب، أفعالا مماثلة لما يدعو إليه، ويرتكبه، متطرفو المسلمين! فهناك متطرفون يهود ومسيحيون يهاجمون عيادات تحديد النسل، مثلا، ويقتلون الأطباء! وهم يفعلون ذلك من (منطلق ديني)، مستندين إلى نصوص دينية، عندهم! وللمزيد يمكن الاطلاع على كتاب: (العلمانية على محك الأصوليات) لكارولين فوريست، وفياميتا فينر، ترجمة غازي أبو عقل، وهو من إصدارات رابطة العقلانيين العرب! والناشر: دار بترا للنشر والتوزيع، سوريا - 2006! جدير بالذكر أن الكاتبتين تطلقان على مثل كلام محمد محمود أعلاه، عن اليهودية والمسيحية، ودخولهما في مصالحة (تاريخية) مع (العلمانية)، وقبولهما للتعددية الخ، وصف (العلمانية الرخوة)!

    لهذا، نظل نقول، ونؤكد:
    لا حل إلا في المستوى العلمي من الدين، الذي يمثله الإسلام، والذي تلتقي عنده كافة الأديان، حيث تنتهي العقيدة ويبدأ العلم، كما يبشر به (فكر) الأستاذ محمود محمد طه!

    ولكن، للأسف، الدكتور له (عداء مقيم) مع (فكر طه)! وهو دائم الوصف له بأنه (فكر ذرائعي)! ليس هذا فحسب، بل إنه يعمد إلى تشويه (فكر طه)، دون وجه حق، كما نرى!

    ولمزيد من التدليل، على قصور حجة الدكتور، حتى عن معرفة العلمانيين الحقيقيين، أفترض أن الدكتور، لا بد مطلع، بحكم تخصصه، على جانب من أسباب تقاعس ولاة الأمر في الدول الغربية الكبرى، مثلا، عن حسم الأمر في سوريا، برغم المعاناة الماثلة للعيان، وبرغم مناداة المستنيرين من المثقفين والبرلمانيين لهم! فهذا التقاعس، كما قد يعلم أصحاب التخصص، له (منطلقات دينية) محضة، في الأساس، تتعلق بنبوءات ظهور المسيح! أم لعل الدكتور، بما أنه حديث عهد بنقد (الدين المقارن)، لا يعرف ذلك؟؟ على كل حال، الأمر ليس سرا، ويمكن لأي أحد من الناس أن يطلع على الروابط التالية:

    1- صحيفة (التايم)، على الرابط التالي:
    http://swampland.time.com/2013/08/29/some-evangelicals-see-biblical-prophecy-in-syrian-crises/http://swampland.time.com/2013/08/29/some-evangelicals-see-biblical-prophecy-in-syrian-crises/


    2- صحيفة (يو اس توداي) على الرابط التالي:
    http://www.usatoday.com/story/news/nation/2013/09/08/some-see-biblical-visions-of-doom-in-syria-trouble/2780827/http://www.usatoday.com/story/news/nation/2013/09/08/some-see-biblical-visions-of-doom-in-syria-trouble/2780827/


    3- الموقع التبشيري (رابشر ريدي) على الرابط التالي:
    http://www.raptureready.com/featured/gillette/Isaiah_17.htmlhttp://www.raptureready.com/featured/gillette/Isaiah_17.html


    الشاهد، مما يطالعنا من كتابات الدكتور، أنه يتحدث بلسانين: فرؤيته (للدين) التي يبديها، في المجتمعات الإسلامية، خصوصا السودانيين، فيما يخص الإسلام، تتناقض تناقضا تاما مع رؤيته (للدين) التي يعكسها، للدوائر الغربية! فرؤيته (للدين) التي يعكسها للدوائر الغربية (متسقة) مع النظرة (الظاهرية) السائدة في المجتمعات الغربية، لدين (اليهودية) ودين (المسيحية)، كما أنها (متسقة)، من باب أولى، مع (رؤية) شعبة دراسات الدين المقارن بجامعة تافتس الأمريكية، التي يرأسها، ويدرّس فيها!

    فللدكتور، من على منصة (موقع التجاوز)، خطاب موجه للمسلمين، يقرر فيه أن تجاوز الدين (اقرأ: الإسلام) أصبح أمرا (ملحا)، لا بد منه! حيث يقرر:
    (إننا عندما نتحدث عن "التجاوز" فإن حديثنا لا يقتصر على هذا المعني ”الداخلي"، )لو شئنا) للتجاوز، وإنما يمتد لمعني آخر هو في واقع الأمر المعني الذى نريد، أي التجاوز بمعناه ”الخارجي“ (لو شئنا)، ونعني به تجاوز الدين، أى دين، لأن هذا التجاوز، في تقديرنا، شرط لازم من شروط تحقيق حريتنا على كل مستوياتها )سواء كانت حرية فكرية، وهي الحرية الأم، أو حرية أخلاقية أو حرية اجتماعية أو حرية سياسية). وهذا التجاوز للدين والانعتاق منه لم يكن أمرا ملحا كإلحاحه في عالمنا اليوم، إذ أنه عالم بدأت كل الحدود والفواصل فيه بالتهاوي والانهيار والذوبان وأصبحت فيه مصائر كل البشر متداخلة ومتشابكة وأصبح فيه مصير الكوكب الأرضي نفسه معلقا بأفعال البشر. وبذا فإن عالمنا اليوم يواجهنا بتحد كبير وعاجل لا نستطيع منه مهربا وهو تحدى المواطنة العالمية التي تتطلب الخروج من ذاكرة الماضي ومحدوديته وتحيزه والمشاركة الفاعلة في خلق وعي جديد وذاكرة جديدة وعالم جديد. هذه المشاركة الفاعلة تتطلب في تقديرنا ضمن ما تتطلب تجاوز الدين).

    ومن على منصة دورية (سودان نيوز اند فيوز)، العدد 20، يوليو 1996، يبدو الدكتور أكثر تحديدا، حيث يوصي العلمانيين في المجتمعات الإسلامية _خاصة_ بما يلي:
    (العلمانيون في المجتمعات الإسلامية عليهم أن يقنعوا الناس أن الدين لا يقدم أي حلول سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو قانونية لمجتمعات عصرنا الحاضر المعقدة، التي تطمح إلى أن تكون مجتمعات حداثية معاصرة تندغم في "القرية العالمية". إن الحل لمشاكلنا ينشأ من التعامل العقلاني الفعال مع هذه المشاكل. المشاكل لا يمكن أن تعالج بالرجوع إلى عقائد موروثة من الماضي)!

    Secularists in Muslim societies have to convince people that religion does not offer political or economic or social or legal solutions in our present-day complex societies that aspire to be modern societies integrated into a "global village". Solutions to our problems arise out of an active rational grappling with these problems. Problems cannot be addressed by appealing to traditions inherited from the past.


    ولا يخفى أن (الدين) المقصود هنا، هو دين (الإسلام)، تحديدا!

    أما عندما يعتلي الدكتور (المسرح)، أمام جمهوره من الغربيين، فللدكتور نغمةٌ أخرى، يعزفها! حيث يفضّل اللحن الذي يرى أنه يناسب المقام، ويعكس (انبهاره وانشغاله الدائم بظاهرة الدين وأثره العميق في تشكيل قيم الناس وتكييف وعيهم الخ..)! بل إنه، وبصفته رئيسا لشعبة (الدين المقارن) في جامعة تافتس، لا ينسى أن يؤكد أهمية الدين (سواء كان "عقيدة" أو "مؤسسة تنظيم اجتماعي")، حيث يقول الدكتور ما يلي:
    (دراسةُ الدين مكوّنٌ حيوي في مناهج الآداب والعلوم الحديثة. فالدين، سواء كنظام عقيدي أو مؤسسة تنظيم اجتماعي، قد ظل موجودا لآلاف السنين، وهو يمس ويؤثر في حياة أغلبية الناس في عالمنا الحاضر – حتى الناس غير المتدينين).
    المرجع: نشرة صحفية لشعبة الدين المقارن منشورة على موقع الجامعة (عدد يناير 1999)!

    هنا نسمع الدكتور، من على منصة (جامعة تافتس)، يتحدث عن الدين كمؤسسة (تنظيم اجتماعي) تؤثر في حياة أغلبية الناس (ومن ضمنها حياتهم الاجتماعية)، في عالمنا الحاضر، بمن فيهم (غير المتدينين)! ولكن من على منصة (المجتمعات الإسلامية)، نسمعه يدعو (علمانيي هذه المجتمعات) إلى إقناع مجتمعاتهم بأن الدين _(الإسلام طبعا!)_ لا يمكن أن يقدم أي حلول، على المستوى (الاجتماعي)!! الواضح أن الدكتور يطبّق (نسخته) الخاصة من مبدأ: (لكلّ مقامٍ مقال)! ولكل مقال (مقابل)، بالطبع! خصوصا أن جامعة تافتس لها رسالة محددة، منذ أن تأسست، في أربعينات القرن التاسع عشر، كجامعة (كنسية) تابعة للكنيسة العالمية (يونيفيرساليست شيرش)!

    ولهذا، ليس مستغربا أن تتسق (رؤية) الدكتور (الإيجابية) للدين، مع الرؤية (الإيجابية) لشعبة دراسات الدين المقارن التي يرأسها، في هذه الجامعة! وإن يكنْ هذا (الاتساق) من منطلقات (الواجب الوظيفي)، البحتة! فشعبة مقارنة الدين، (تثبت) على موقعها الإلكتروني الرؤية (الإيجابية) التالية، للدين:
    (لماذا ندرس الدين؟
    لقد ظل الدين ملازما لنا على الدوام. فعبر التاريخ ظل الدين مجيبا عن أعمق الأسئلة التي تثور في أذهان البشر، واحتل موقعا مركزيا في حياة كافة الحضارات والثقافات. وعندما نعود بفكرنا إلى فجر الوعي البشري نجد الدين حاضرا في كل ناحية، أينما ولّينا وجوهنا.
    هذا الكلام قد يصدق في حق الماضي، ولكن ماذا عن الحاضر، وماذا عن المستقبل؟ في الآونة الأخيرة برز من بين النقاد من يقول إن الدين في طريقه إلى الزوال. فالتكنولوجيا والعلم قد غيرا وجهة نظرنا إلى العالم بصورة كبيرة وبارزة، مما دفع البعض إلى القول إننا دخلنا مرحلة جديدة من الوجود البشري، لا يسعنا فيها الدين. ويقولون إن الدين سيصبح حقا، وعما قريب، أثرا من الماضي.
    إن هذه الإشاعات حول زوال الدين في عصرنا الحاضر، تبدو تبسيطية، وغير ناضجة – وربما لا تكون فيها جميعا أي ذرة من الصحة على الإطلاق. الدين باق ومستمر، وهو في توسع غالب الأمر، حتى مع بروز وتنامي الاتجاهات العلمية وغير الدينية. إننا لا نزال نجد الدين في كل مكان، في التلفزيون، في السينما، وفي أغنياتنا المحبّبة، وفي مدننا، وأحيائنا. إننا نجد الدين يحتل موقعا مركزيا في المشاكل العالمية والنزاعات الثقافية. إننا نرى الدين مؤثرا وفاعلا في حياة الأشخاص الذين نعرفهم ونحبهم، وفي أنفسنا، في متقلب حياتنا، وفي سياق معاناتنا لالتزام عقائدنا الدينية.
    فلماذا يظل تيار الدين حيا ونابضا؟ هناك أسباب عدة لذلك، ولكن السبب الوحيد الأكيد هو: أن العقائد الدينية قادرة على التكيف والتواؤم بطرق هامة ومؤثرة. وبالنسبة للعديدين، فإن الدين المعاصر يمكن أن يستوعب الشكوكية، والعلوم، والعلمانية، مما يجعله محافظا على قوة دفعة وفتوته في عالمنا المعاصر بتغيراته المتسارعة.
    على العموم، الدين قوي وفعال وباقٍ، ولا دليل على أنه إلى زوال. إن الدين مصدر التزام صادق، وتعبير بليغ، وفعل مباشر، وحوار مكثف. وبالنسبة للمتدينين وللمراقبين _بل بالنسبة لكل من يرغب في أن يعرف بيئته والعالم من حوله – فإن الدين ظاهرة جديرة بالاهتمام والاستكشاف، وتحتاج إلى مزيد من الفهم، والاستيعاب)!

    (Why Study Religion?
    Religion has always been with us. Throughout history, it has expressed the deepest questions human beings can ask, and it has taken a central place in the lives of virtually all civilizations and cultures. As we think all the way back to the dawn of human consciousness, we find religion everywhere we turn.
    This may be true of the past, but what about the present—and the future? In recent times, critics have suggested that religion is on the way out. Technology and science have changed our view of the world radically, leading some to say that we've entered a new stage of human existence, without religion. Soon, they argue, it will truly be a thing of the past.
    In our day and age, rumors of religion's demise seem very premature—and perhaps there's no grain of truth in them at all. Religion persists and is often on the rise, even as scientific and non-religious perspectives have become prominent. We still find religion everywhere, on television, in film, in popular music, in our towns and neighborhoods. We discover religion at the center of global issues and cultural conflict. We see religion in the lives of the people we know and love, and in ourselves, as we live out and wrestle with our own religious faith.
    Why does religion continue to thrive? There are many reasons, but one thing is certain: religious traditions are adaptable in important ways. For many, contemporary religion even has room for skepticism, science, and the secular, which allows it to keep going strong in our rapidly changing world.
    Overall, religion is powerful and persistent, and it shows no signs of disappearing. It provokes heartfelt commitment, eloquent expression, forthright action, and intense debate. For both practitioners and observers—for everyone who wants to be informed about the world around them—religion is an intensely curious phenomenon that calls out for better understanding.)


    دعونا نعدْ قراءة الفقرة التالية، من رد (شعبة الدين المقارن)، على من يقولون بتجاوز الدين، وكأنها تقول (لرئيس الشعبة): (إيّاك أعني)، حيث يرد:
    (في الآونة الأخيرة برز من بين النقاد من يقول إن الدين في طريقه إلى الزوال. فالتكنولوجيا والعلم قد غيرا وجهة نظرنا إلى العالم بصورة كبيرة وبارزة، مما دفع البعض إلى القول إننا دخلنا مرحلة جديدة من الوجود البشري، لا يسعنا فيها الدين. ويقولون إن الدين سيصبح حقا، وعمّا قريب، أثرا من الماضي. إن هذه الإشاعات حول زوال الدين في عصرنا الحاضر، تبدو تبسيطية، وغير ناضجة – وربما لا تكون فيها جميعا أي ذرة من الصحة على الإطلاق. الدين باقٍ ومستمر، وهو في توسع غالب الأمر، حتى مع بروز وتنامي الاتجاهات العلمية وغير الدينية)!!

    ثم، لنقرأ، على ضوء رؤية شعبة الدين المقارن (الإيجابية) أعلاه، رؤية (رئيسها) الدكتور (السلبية)، هذه المرة، للدين _اقرأ: الإسلام_ التي يبديها للمسلمين، حيث يدعو إلى (تجاوزه)، ويبشر (بزواله):
    1- (إننا عندما نتحدث عن التجاوز فإن حديثنا لا يقتصر على هذا المعني ”الداخلي"، (لو شئنا) للتجاوز، وإنما يمتد لمعني آخر هو في واقع الأمر المعني الذى نريد، أي التجاوز بمعناه ”الخارجي“ (لو شئنا)، ونعني به تجاوز الدين، أى دين، لأن هذا التجاوز، في تقديرنا، شرط لازم من شروط تحقيق حريتنا على كل مستوياتها )سواء كانت حرية فكرية، وهي الحرية الأم، أو حرية أخلاقية أو حرية اجتماعية أو حرية سياسية). وهذا التجاوز للدين والانعتاق منه لم يكن أمرا ملحا كإلحاحه في عالمنا اليوم، إذ أنه عالم بدأت كل الحدود والفواصل فيه بالتهاوي والانهيار والذوبان وأصبحت فيه مصائر كل البشر متداخلة ومتشابكة وأصبح فيه مصير الكوكب الأرضي نفسه معلقا بأفعال البشر. وبذا فإن عالمنا اليوم يواجهنا بتحد كبير وعاجل لا نستطيع منه مهربا وهو تحدى المواطنة العالمية التي تتطلب الخروج من ذاكرة الماضي ومحدوديته وتحيزه والمشاركة الفاعلة في خلق وعي جديد وذاكرة جديدة وعالم جديد. هذه المشاركة الفاعلة تتطلب في تقديرنا ضمن ما تتطلب تجاوز الدين).

    2- (العلمانيون في المجتمعات الإسلامية عليهم أن يقنعوا الناس أن الدين لا يقدم أي حلول سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو قانونية لمجتمعات عصرنا الحاضر المعقدة، التي تطمح إلى أن تكون مجتمعات حداثية معاصرة تندغم في "القرية العالمية". إن الحل لمشاكلنا ينشأ من التعامل العقلاني الفعال مع هذه المشاكل. المشاكل لا يمكن أن تعالج بالرجوع إلى عقائد موروثة من الماضي)!

    ألا يصح القول إن (الدكتور) قادر على أن يعيش (التناقض)، في أقصى تجلياته؟! فالدكتور، عندما يخاطب المسلمين، بصفته (علماني وملحد)، يقول لهم إن تجاوز الدين _اقرأ الإسلام_ إنما هو: (شرط لازم من شروط تحقيق حريتنا على كل مستوياتها "سواء كانت حرية فكرية، وهي الحرية الأم، أو حرية أخلاقية أو حرية اجتماعية أو حرية سياسية". وهذا التجاوز للدين والانعتاق منه لم يكن أمرا ملحا كإلحاحه في عالمنا اليوم)! وأن على العلمانيين في المجتمعات الإسلامية أن يقنعوا الناس أن الدين لا يقدم أي حلول سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو قانونية لمجتمعات عصرنا الحاضر المعقدة!!

    ولكنه، عندما يخاطب الغربيين، بصفته رئيس شعبة الدين المقارن في جامعة تافتس الأمريكية، يقول لهم:
    1- (لقد ظللت دائما مبهورا بظاهرة الدين (في جميع تجلياتها). لقد ظللت دائما مشغولا باستكشاف وفهم وتحليل العقائد الدينية، الظاهرة والباطنة والمفترضة، وأثرها العميق في تشكيل وتكييف وعي الناس ونظم القيم في كافة المجتمعات عبر التاريخ الإنساني. وما يجذبني ويروقني بالتحديد في تدريس الأديان هو أن التدريس نفسه يصبح عملية تعلم مستمرة حيث يجد المرء نفسه في عملية تفاعل مستمر مع أفضل العقول في هذا المجال (عبر القراءات التي أحيلها على طلابي) وسماع آراء الطلاب ووجهات نظرهم. إنها عملية تفاعل مستمر، وتوسيع لآفاق المرء المعرفية، وهذه من أكثر الجوانب إمتاعا فيما أقوم به)!!

    2- (دراسةُ الدين مكوّنٌ حيوي في مناهج الآداب والعلوم الحديثة. فالدين، سواء كنظام عقيدي أو مؤسسة تنظيم اجتماعي، قد ظل موجودا لآلاف السنين، وهو يمس ويؤثر في حياة أغلبية الناس في عالمنا الحاضر – حتى الناس غير المتدينين)!!

    لعله، قد اتضح الآن أن الدين الذي يدعو الدكتور لتجاوزه هو دين (الإسلام) حصرا؟ خصوصا في ظل قوله الذي أوردته آنفا عن (اليهودية) و (المسيحية)، في بداية الحلقة! إذ لا يستقيم، عقلا ولا منطقا، أن يدعو المرء إلى تجاوز (دين) ظل مصدرا للأثر (العميق في تشكيل وتكييف وعي الناس ونظم القيم في كافة المجتمعات عبر التاريخ الإنساني)! وهو (باقٍ ومستمر، وهو في توسع غالب الأمر، حتى مع بروز وتنامي الاتجاهات العلمية وغير الدينية) وسيظل (قادرا على استيعاب حتى "العلم" و "الشكوكية" و "العلمانية")! حسب (رؤية) شعبة الدكتور هذه:
    (الدين المعاصر يمكن أن يستوعب الشكوكية، والعلم، والعلمانية، مما يجعله محافظا على قوة دفعة وفتوته في عالمنا المعاصر بتغيراته المتسارعة)!

    لقد استرسلتُ في إيراد المقتطفات أعلاه، للدكتور، لأعكس (التناقض والاضطراب) الذي يكتنف كل (تفكير) الدكتور تقريبا، وينعكس، أكثر ما ينعكس، في كتاباته! فالدكتور يدعو إلى (تجاوز الدين) مرة واحدة، وإلى الأبد! هذا ما يقوله للمسلمين! ولكنه هو في ذات الوقت يؤكد للغربيين إن (الدين مكون حيوي)، وإنه ذو (أثر عميق في أخلاق الناس وفي تشكيل قيمهم ووعيهم)! ثم إنه يرأس شعبة الدين المقارن في جامعة تافتس، ورؤيتها تقول إن الدين باق ومستمر، وأن القول بتجاوزه، أو زواله، قول (ضحل) و (تبسيطي)!

    أكثر من هذا: فإن الدكتور، الذي يدعو البشر _اقرأ: المسلمين_ إلى تجاوز الدين، والخروج من أسره ووصايته _أي (إخراجهم من ملكوت الله)_ ويطعن في صحة النبوة، ظل يشارك، منذ عام 2006، في (اللجنة الاستشارية) لمركز أكسفورد لعلم أخلاق الحيوان! ورعاة هذا المركز يتبنون ما يسمونه (لاهوت الحيوان)، ويعتبرونه ثورة على (لاهوت التحرير)! حيث يدعون إلى (إدخال الحيوانات في ملكوت الله)! ويذكّرون الناس بميثاق (نوح)! إذن: الدكتور، كما نرى، وعلى شدة جهده في إخراج (البشر) من ملكوت الله، عبر دعوته لهم إلى تجاوز الدين، وطعنه في مبدأ (النبوة)، حريصٌ جدا على مساندة مشروع (إدخال الحيوانات) في (ملكوت الله)، عبر (العودة) إلى (ميثاق نوح)! وللمفارقة، الدكتور عضو في اللجنة الاستشارية لهذا المركز بصفته (مفكر إسلامي)! فهو أحد مفكرين إسلاميين (اثنين) في اللجنة الاستشارية!

    ولا ينسى الدكتور أن يحدثنا في كراسة التجاوز عن (لاهوت الحيوان) هذا، مقتطفا من كتاب اللاهوتي المعاصر أندرو لنزي (Animal Theology)! وجدير بالذكر أن اللاهوتي المعاصر (أندرو لنزي)، هذا، هو (رئيس) مركز أكسفورد لعلم أخلاق الحيوان، الذي قلنا إن محمد محمود يعمل عضوا في لجنته الاستشارية! فلنسمع الدكتور يحدثنا عن (لاهوت الحيوان):
    (مفهوم”العهد الجديد“ هذا هو عودة على مستوى معين لفكرة ميثاق نوح. ونقول ”على مستوى معين“ لأن ميثاق نوح يشمل البشر والحيوانات، بينما أن الفكرة المسيحية فكرة ذات ”مركزية بشرية“. فرغم أن المسيحية تطرح عبر عيسى ميثاقا جديدا إلا أنه ميثاق يقتصر على البشر فقط. هذا الطرح السائد لميثاق ”العهد الجديد“ ثار عليه مؤخرا لاهوتيو ما يعرف الآن بـ ” لاهوت الحيوان“ (animal theology) وهو لاهوت يوسّع دائرة لاهوت التحرير ( liberation theology) ليشمل الحيوانات والبيئة الطبيعية. يقول اللاهوتي المعاصر لنزى (Linzey)، أحد أبرز ممثلي هذا التيار:
    "كثيرا ما يُغْفِلُ اللاهوتيون اغفالا عمليا ... أن ميثاق نوح يشمل كل المخلوقات الحية. فالله لا "يصطفي" البشر فقط بل سائر المخلوقات الحية، بل والأرض نفسها. والسؤال الذى يجب أن نطرحه إذن هو: ما الذى يتوجّب علينا في علاقتنا الإنسانية بالمخلوقات الأخرى إن كان الله الخالق قد شاء أن يحبهم ويحقّقهم ويثبّتهم في ميثاق مع نفسه أو مع نفسها من غير أن ينفصل هذا الميثاق عن الميثاق مع البشرية نفسها الذى أقامه الله عبر عيسى المسيح؟ إن لاهوت القرون الوسطى... قد أنكر أية مسئوليات أخلاقية للبشر تجاه الحيوانات... وبذا أخرجهم من دائرة الرابطة البشرية... وفي معارضة هذا فإننا نحتاج للتأكيد على الطبيعة الملائمة وذات المغزى الروحي لميثاق الله الذى يشمل الكل).Animal Theology, p. 69 - 70."

    هذا جانب من تناقضات (تفكير) الدكتور فيما يخص القضايا العامة! ولذلك، ليس بدعا أن تكون كتابات الدكتور، فيما يخص (طه) وفكره بسبيل من هذا التناقض! بل ربما هي (سبب) له! فالتجربة علمتنا أن من يتهم الأستاذ محمود بشيء، لا بد واجد صدى (الاتهام) في نفسه! وهذا ما يسمى في الدين بقانون المعاوضة! كما تدين، تدان! وعلى هذا، نجد الدكتور يقرر خلاصة سلبية محددة، في حق طه، على صفحة من صفحات كتابه، ثم يعود ليقرر نقيضها في صفحة أخرى! وقد أوردت أمثلة عديدة على هذا، وأضيف إليها هنا، نقض الدكتور لتأكيده على صفحة 38 من كتابه، عن أن طه، في مشروعه الإصلاحي والتجديدي، مدين لمحمد عبده، ومتأثر به! وقد أوردت هذا التقرير سابقا، وأعيده هنا:
    (إن طه مدين، بالتأكيد، في "خطابه الحداثي" و "نهجه الإصلاحي" لمشروع محمد عبده، بالرغم من نزعة طه للتركيز على أوجه القصور في مشروع محمد عبده)!

    هذا قول الدكتور، على صفحة (38)، ويفترض من واقع ما تسر من معرفة بأسلوب الدكتور، حتى الآن، أن لا يفاجأ القاريء بوجود تأكيد آخر، على صفحة (143) من نفس الكتاب، ينقض به الدكتور تأكيده أعلاه! وهذا ما حدث فعلا! فالدكتور يؤكد على صفحة (143) إن مشروع طه الإصلاحي والتجديدي (مختلف جدا) عن مشاريع كافة الإصلاحيين والمجددين الإسلاميين، بمن فيهم (محمد عبده) نفسه! فبعد أن حكى محمد محمود أن النموذج الذي ظل يداعب خيال المجددين والحركات الإسلامية، ويأسر ألبابهم، ماضيا وحاضرا، هو نموذج (دولة المدينة)، ولذلك، فهم، جميعا، يتبنون الدعوة إلى العودة إليه، وإحيائه! ذهب ليقرر عن (طه)، ومشروعه التجديدي، ما يلي:
    (طه، على النقيض منهم، يتبنى حركة تجديدية ذات طابع (مختلف جدا). فهو لا يريد العودة لإحياء نموذج دولة المدينة. بل هو يدعو للعودة إلى مرحلة الدعوة المكية. والحجة الراديكالية التي يقدمها طه في هذا الخصوص هي أن الهجرة مثلت خطا فاصلا بين رسالتين للإسلام: رسالة مكة، ورسالة المدينة)14.

    هكذا: على صفحة (38)، حرر الدكتور (صك ديْن)، على طه، لصالح محمد عبده ومشروعه! وعلى صفحة (143)، (أبطل) ذلك (الصك)، وألغى أثره!

    وعلى إثر هذا، يظل السؤال قائما: ما هو دافع محمد محمود لنقد وتحليل فكر (طه) من أجل تعريف الأمريكان به، كما يزعم؟ خصوصا أنه يدعو إلى (تجاوز الدين)، وله رأي ثابت أن فكر طه (فكر ذرائعي)! وهو يعلم أن (طه) يطرح فكره كمخرج (وحيد) و (لازم) من (أزمة) العصر الراهن! علما بأن (الفكر الذرائعي)، كما هو معلوم، هو الفكر الذي يعمد إلى التبرير وإيجاد الأعذار للتخارج من (الأزمة)، حيث لا يمكن التبرير، ولا تجدي الأعذار! وهذا ما قاله محمد محمود فعلا، فيما يخص فكر (طه)! فلنسمعه، على صفحة (266) من كتابه، يحدثنا عن (أزمة الإسلام) والتكتيك الذي اتبعه (طه) لإنقاذ الإسلام من أزمته:
    (أدرك طه جيدا أن الإسلام عالق وسط "أزمة"، وفي محاولته لاستنقاذه عبر تزيينه بقيم عصره، فإن طه مستعد لأن يفصل ويعزل كافة آيات الوحي التي أنزلت بعد الفترة المكية، وما تبعها من تاريخ، من رسالة الإسلام الأساسية للبشرية. ومن أجل أن يتسنى له ذلك، اضطر طه لقبول نظرية النسخ التي تلغي العموميات، بدل الخصوصيات – وهو ادعاء لا يمكن أن يجيزه الشاطبي)!

    (Taha can readily see that Islam is in the midst of a crisis, and in his bid to invest it with the values of his age, he is willing to disconnect all post-Meccan revelations and history from the real message that Islam intended for humankind. To do this Taha had to accept a theory of abrogation that supersedes the universals rather than the particulars – an assumption that al-Shatibi cannot entertain).


    جدير بالذكر أن قول الدكتور إن طه اضطر إلى قبول (نظرية النسخ) التي تلغي (العموميات) بدل (الخصوصيات)، إنما هو قول من (نسج خيال) الدكتور، لا وجود له في أحاديث ولا كتابات طه!! فطه يستدل على وجود إمكانية النسخ المعاكس من القرآن، في الآية: (ما ننسخ من آية، أو ننسئها، نأت بخير منها أو مثلها)! ويقول إن معنى هذا: ما ننسخ من حكم آية أو نرجيء تطبيقها، لعدم مناسبتها لحاجة العصر السابع، نأت بخير منها: "أي أكثر مناسبة لحكم الوقت في القرن السابع"، أو مثلها: "أي نعيدها هي نفسها، للتطبيق، حين يحين وقتها، ويتأذن تطبيقها"!

    ولعل القاريء لن يفاجأ، الآن، إن علم أن (محمد محمود) _نفسه_ على علم برأي (طه) هذا! فلنستمع له، يناقض نفسه بنفسه، حين يقرر على صفحة (218) من كتابه إن طه هو (الوحيد) الذي قال بعكس مبدأ النسخ (نسخ المحكم، وإحكام المنسوخ)، حيث المنسوخ هو الحكم الأعلى، والناسخ كان الحكم المتنزل للأمة في القرن السابع! وقد وصف الدكتور قول (طه) هذا بأنه (رأي جريء)! فلنسمع الدكتور:
    (بالرغم من أن طه لم يخض في التفاصيل الخاصة بأحكام النسخ كما فعل بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين، إلا أنه "يعارض" الرأي العام الذي يقول إن النسخ نهائي، وأحادي الاتجاه. وبالتالي، فهو (ينقض) الإجماع التاريخي الذي يقول إن الآيات المدنية نسخت وإلى الأبد الآيات المكية. بل هو يؤكد الإمكانية، بل في الواقع، الضرورة المطلقة التي تستوجب وتحتم إعادة إعمال عملية النسخ، بحيث ننسخ الآيات المدنية، الآن، ونحكم الآيات المكية. وقد استند طه في هذا إلى "رأيه الجريء" القائل بأن الرسالة الأساسية للإسلام، هي الرسالة التي نزل بها القرآن المكي أولا، وليست ما نزل لاحقا في مرحلة دولة المدينة)!

    على أن أبلغ شيء، عندي، في التدليل على (تحامل) الدكتور، أن الدكتور لا يرضى أن يُتهم، بما اتهم هو به (طه)! فقد غضب الدكتور غضبة (مضرية)، حين ألمح أحد نقاد كتابه (صناعة النبوة) إلى أنه اختلس أقوال آخرين! فهاجم من اتهمه، وذهب مذاهب شتى ليؤكد (أصالته) فيما كتب، وفي منهجه (النقدي) المتفرد في مجال نقد النبوة! فالدكتور انفعل جدا، عندما ألمح السيد/ خالد موسى _الذي تصدى لنقد كتابه حول (صناعة النبوة)_ إلى أنه تأثر بالمستشرقين، و (اختلس) أفكارهم! فذهب الدكتور ليؤكد إنه (أصيل) فيما قال، و (لم يتأثر بأحد)! وقال إنه استند إلى المصادر الأساسية القديمة ومنها (القرآن)! لنسمع:
    (من الضروري أن أعيد تأكيد ما تبرزه خطتي المنهجية في كتابي عن نبوة محمد: إن كتابي "لم يعتمد البتة" على أي قراءة حديثة للسيرة كمصدر، وإنما اعتمد في مصادره اعتمادا كاملا على أعلى المصادر التراثية وأقدمها. ولقد وضّحت منهجي هذا في المقدمة عندما قلت: "وفي الرجوع للمادة الإسلامية، وهي مادة تتميّز بضخامتها وسعتها وتكرارها، قررنا أن ننهج نهج تركيز وانحصار بالاعتماد على مرجعين أوليين هما "القرآن" وصحيح البخاري "الذي يعتبر أصحّ كتاب بعد القرآن" بالإضافة لمراجع أساسية أخرى)!!

    فلماذا يكون (حلالا) للدكتور أن يدعي أن (القرآن) هو المصدر الرئيسي الذي استقى منه، في حين (يحرّم) ذلك على (طه)؟ فقد قال عن طه: (وهذا الادعاء بأنه استقى معرفته من القرآن، ادعاء يصبغ أسلوب طه في كافة أعماله، حيث يصر دائما على أن جميع أفكاره مستندة إلى القرآن)!

    على كل حال: بالرغم من تقريع الدكتور، للناقد خالد موسى، وإعلانه أنه (أصيل) في كتاباته، ومنهجه، ولم يتأثر بأحد، إلا أنه لم ينس أن يشير إلى (احتمال) وجود بعض (التقاطعات) فيما كتب مع كتابات مفكرين آخرين، معلنا أن هذا (أمر طبيعي) في (جسم العمل الأكاديمي)! فلنسمع الدكتور:
    (ورغم أنني أنتمي لما يمكن أن يوصف بالمدرسة النقدية للنبوة "وهي مدرسة ينتمي لها الكثيرون وإن كنت لا أعد وات من بينهم إذ أنه ينطلق من موقع الدفاع عن النبوة بتجليها اليهودي والمسيحي"، إلا أن كتابي لا يمكن أن ينسب لاجتهادات وات أو غيره. "من الطبيعي" أن تكون هناك "تقاطعات هنا وهناك" (وهو أمر طبيعي في جسم العمل الأكاديمي) إلا أن ما أقدمه يعكس "قراءتي" للسيرة اعتمادا على "المنهج الذي اتّبعتُه" والأدوات التحليلية التي استخدمتها و"موقفي الفلسفي" من النبوة والدين الذي يشكّل الإطار العام لموقفي النقدي، ومناقشة كتابي ومحاكمته يجب أن تتم على أساسِ هذه العناصر)!!

    الدكتور قال: (كتابي لا يمكن أن ينسب لاجتهادات وات أو "غيره") ولكنه، مع ذلك، قال: (من الطبيعي أن تكون هناك تقاطعات هنا وهناك)!! وأنا لا أنكر على الدكتور أن يكون قد مرّ، في (طريق نقد النبوة)، ببعض (التقاطعات) هنا، وهناك، كما يقول! ولكن، أرى أنه من (غير الطبيعي)، بلا شك، أن تكون هذه التقاطعات متشابهة، لحد تطابق العبارة أحيانا، ثم لا يذكرها! فمن مطالعتي للفصل الأول، من كتاب الدكتور، لاحظت أن هناك تقاطعات في هذا الفصل، متماثلة تماثلا شديدا، مع كتابات مفكرين غربيين آخرين، ولكن الدكتور لم يشر إليهم، ولم يذكرهم، ضمن قائمة مراجعه! وأخص بالذكر هنا، ما يلي:

    1- المرجع الأول:
    1- Constructs of Prophecy in the Former and Later Prophets and Other Texts
    Edited by: Lester L. Grabbe and Martti Nissinen
    Published: 2011, by the Society of Biblical Literature – Atlanta


    وهو يحتوي على مجموعة بحوث في نقد الدين لعدد من المفكرين..

    2- المرجع الثاني:
    2- God: A Biography, Jack Miles – 1995

    وهذا الكتاب صدرت ترجمة بالعربية بعنوان: (سيرة الله – جاك مايلز – ترجمة: ثائر ديب - الطبعة الأولى 1998 – الناشر: دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، اللاذقية)

    3- المرجع الثالث:
    كتابات المفكر ألان واتس (1915 – 1973)، وهو بالطبع غير (وات مونتغمري) الذي ذكره السيد/ خالد موسى.. وأخص بالذكر ثلاثة كتب له، هي:

    1- Beyond Theology, the Art of Godmanship – Meridian Books, The World Publishing Company, 1968.
    2- The Book on the Taboo Against Knowing Who You Are, First Edition, 1969, Jonathan Cape Ltd.
    3- The Wisdom of Insecurity: A message of an Age of Anxiety – 1951.


    أواصل في الحلقة القادمة، بإذن الله، وبعونه..

    إبراهيم عبدالنبي
                  

04-26-2015, 01:06 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48926

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود: بين andquot;إنصافandquot; عبدالله (Re: Yasir Elsharif)

    الأستاذ محمود: بين "إنصاف" عبدالله الفكي و "تحامل" محمد محمود (6)


    إبراهيم عبدالنبي


    أخصص هذه الحلقة لاستعراض نماذج من منهج (المحاباة البحثية) الذي نهجه الباحث عبدالله الفكي، في كتابه، حيث أظهر تحيزا واضحا إلى جانب محمد محمود، وبعض (أهل الخصوص)، مقابل هجومه الحاد على آخرين، بالرغم من تساوي محمد محمود (كنموذج) مع هؤلاء (الآخرين) في الإساءة إلى الأستاذ محمود، وفكره، ومواقفه. وأعلنُ، هنا، عن اعتقادي أن تشويه محمد محمود يزيد سوءا عن تشويه الآخرين، أولا: لأنه تشويه مغلف بغلاف (الدراسة التحليلية) ويحمل ديباجة (التعريف بطه وفكره)! وثانيا: لأنه تشويه قد ألبِس (لبوس الحق) بإعلان عبدالله الفكي أن محمد محمود (على معرفة من الداخل بالفكرة الجمهورية وبالمجتمع الجمهوري)! وثالثا: لأنه تشويه وجد الإشادة، دون حق، من عبدالله الفكي، ومن كاتب مقدمة كتاب الفكي، بروفيسور عصام البوشي، في أكثر من محفل ومنتدى!

    ولقد استعرضتُ حتى الآن نماذجَ كافية، فيما أعتقد، من كتاب محمد محمود لإثبات (تحامله)، وبقي أن أستعرضَ جانبا من (إنصاف) عبدالله الفكي! ولذلك، أفردتُ هذه الحلقة لإثبات (محاباة) الباحث الفكي، وكاتب مقدمة كتابه، بروفيسور البوشي، للدكتور محمد محمود! وسوف أستعرض جانبين وعدت باستعراضهما في الحلقة الأولى، هما: إساءة محمد محمود للأستاذ محمود عبر ربط نسبه بالشيخ الهميم، وإساءته لموقف الأستاذ محمود المناهض لقانون الخفاض الفرعوني عام 1946.

    ولكي أثبتُ المحاباة عبر المقارنة، أبدأ باستعراض نقد الفكي، في كتابه، لمحمد وقيع الله، كمثال! فقد تعرض الباحث الفكي على صفحة (905) لما كتبه د. محمد وقيع الله، حول نسب الأستاذ محمود، فقال:
    (أسقط البعض سيرة الشيخ الهميم على الأستاذ محمود على أساس أنه الحفيد، وكان دافعهم تأكيد زعمهم الباطل المغرض بشأن الأستاذ محمود، ومن أجل الانتصار في مواقفهم العدائية فاقدة الورع العلمي والشروط الأكاديمية. فخلصوا إلى نتائج بكماء وخلاصات عرجاء لا تمت للعلم أو الأخلاق بصلة، لا شك أن مثل هؤلاء يهبطون بمستوى السجال ويغيبون العفة في دوائر العلم والتنوير ومن ثم يعطلون تطور الفكر ويجمدون حركة التغيير.
    كتب محمد وقيع الله، في دراسة بعنوان: "دراسة عن فكر محمود محمد طه: مستقبل دعوى الرسالة الثانية من الإسلام"، قائلاً:
    "وأما الأستاذ محمود محمد طه فهو سليل أسرة متصوفة موغلة في التصوف، وجده الأعلى هو الشيخ الهميم المعروف في تاريخ التصوف في السودان. يحدثنا عنه مؤرخ الحركة الصوفية السودانية "ود ضيف الله" في كتاب "الطبقات" فيقول إنه ادعى الوصول، وسقوط التكاليف عنه، ويحكى عنه أنه تزوج في وقت واحد بسبع نساء، كان من ضمنهم شقيقتان هما ابنتا شيخ صوفي آخر يدعى بان النقا الضرير"، وقد أنكر عليه قاضي الشريعة الشيخ دشين ذلك، وأعلن فسخ هذه النكاحات، فرد عليه الشيخ الهميم داعياً: الله يفسخ جلدك. والغريب أن الشيخ "ود ضيف الله" يحدثنا أن جلد القاضي الشيخ دشين قد انفسخ فعلاً كما ينفسخ جلد "الدبيب"، أي الثعبان"!
    وبعد أن أكد محمد وقيع الله أن الشيخ الهميم جد الأستاذ محمود، وهذا غير صحيح البتة، استدعى سيرة الشيخ الهميم على النحو الذي أورده أعلاه، ثم وصف الأستاذ محمود بالحفيد فكتب قائلاً:
    "واصل الحفيد محمود إطلاعه العلمي بعد تخرجه سنة 1941م، وعمل بالهندسة في رئاسة السكة الحديد في مدينة عطبرة بشمال السودان، واغترف كثيراً من فلاسفة الغرب وعلماء التراث الإسلامي، ورجال التصوف الإشراقي".
    في مثل هذه الدراسات لا نتوقع معالجات علمية جيدة فالدراسة تنطوي على أخطاء تاريخية فادحة)!!

    هذا ما كتبه الباحث عبدالله الفكي عن محمد وقيع الله، ودراسته! وألفت النظر إلى (الأوصاف) التي أطلقها عبدالله الفكي في حق وقيع الله ودراسته من قبيل: (فقدان الورع العلمي) و (الهبوط بمستوى السجال) و (تغييب العفة في دوائر العلم والتنوير) و (الوصول إلى نتائج بكماء وخلاصات عرجاء) الخ.. وأرجو أن نصطحب هذه الأوصاف معنا، لنطبقها على محمد محمود، ونرى (فرق الخطاب) عند عبدالله الفكي، في تدليل عملي لانطباق القول: (عين الرضا عن كل عيب كليلة، وعين السخط تبدي المعايبا)! خصوصا أن نتائج، وخلاصات، وإساءات، محمد محمود، في هذا الخصوص، تطابق، بل تجاوز إساءات ونتائج وخلاصات وقيع الله، من حيث التجنّي، وعدم الموضوعية! أكثر من هذا، فإن محمد محمود أعلن، صراحةً، ضمن شرحه لخطة كتابه، في التمهيد، غرضه من وصل نسب الأستاذ محمود بالهميم، كما يلي:
    (الباب الأول من الكتاب يقدم تعريفا بطه عالمه. وقد تم التركيز على المؤثرات الرئيسية التي شكلت تجربته الروحية والفكرية: التأثير الأولي، والمبكر، لأسرته الصوفية ومزاجها، الخ...)!

    وذهب محمود، على صفحتي (xi و xii) من (تمهيد) الكتاب، ليحدد الغرض الأساسي من إيراده هذه (المؤثرات الأولية والرئيسية المبكرة)، حيث قال:
    (المدخل المنهجي لهذه الدراسة مؤسّسٌ على فرضية أن المفكّر هو نتاجٌ للتفاعل النشط بين الموروث الفكري الموضوعي، التراكمي والجماعي، في بيئته عبر "عدة قرون" (أو ما قد يسمى "التراث")، وبين التحصيل الفكري الشخصي المتجذر في التجربة الشخصية للمفكر. إن "الأفق المعرفي" للمفكر يتم تعريفه على أنه يجمع بين هذين البعدين التفاعليين، من التلاقح والاندماج بين الموضوعي والذاتي. وعلى هذا، فإن تحليلي لطه يتم من هذين البعدين: البيئة التاريخية التي شكلت شخصيته، وتجربته الشخصية).

    وفي سرده للمؤثرات البيئية الرئيسية والأولية، وأثر الأسرة الصوفية، ركز محمد محمود، في الفصل تحت عنوان (خلفية – بدايات الإسلام السوداني)، بدءا من صفحة 2، على سيرة الشيخ (الهميم)، حيث قال:
    (بجانب التنافس الداخلي بين الطرق الصوفية نفسها، كان هناك الصراع التقليدي بين شيوخ الصوفية والعلماء "الفقهاء". ولعل أوضح الصور الدراماتيكية لهذا الصراع في مرحلة عصر الفونج، كانت المواجهة التي حدثت بين محمد الهميم، وهو شيخ صوفي مبجل، ومن أوائل من سلكوا الطريق القادري، وينتسب إلى قبيلة الركابية، وبين القاضي دشين، الشافعي "قاضي العدالة". ويخبرنا صاحب كتاب الطبقات، مصدرنا الرئيسي عن الحياة الدينية خلال هذه الفترة، أن الشيخ، وهو في حالة "جذب إلهي" لم يلتزم بأحكام الشريعة وتزوج من النساء أكثر من العدد المسموح به، بل زاد على ذلك بأن جمع في الزواج بين أختين، في وقت واحد)..

    وقد أورد محمد محمود الحكاية من كتاب الطبقات، كما أوردها وقيع الله، ولكنه زاد عليها، من عنده، بأن أكد (تأصّل) حالة (الجذب) و (العداء الشديد للفقهاء) في أسرة الشيخ محمد الهميم (التي نسب طه إليها زورا وبهتانا)! حيث قال محمد محمود:
    (وفي سرده لهذه الحكاية فإن راوية السيرة يظهر تعاطفا واضحا مع الشيخ، والذي يتم تبرير ما فعله عن طريقين: فالشيخ إدريس ود الأرباب لم ينكر ما فعله الهميم، كما أن القاضي الذي أساء الأدب مع الشيخ قد عوقب بأن انفسخ جلده، لاحقا. وقد أظهر أبوالقاسم الجنيد، حفيد الهميم وخليفته على السجادة القادرية، "عداءا عميقا" للعلماء، حيث أعلن: "قلوب الفقهاء محجوبة عن الله"..)!

    ولكن محمد محمود يستدرك، في الجملة التالية مباشرة، ليخبر قراءه أن (الجذب) و (العداء العميق للفقهاء)، ليس شيمة (عموم) الصوفية في السودان، في إشارة إلى أنها سمات قاصرة على أسرة الهميم (المنسوب إليها طه زورا)، وملازمة لهم، من بين كافة جموع صوفية السودان، بدءا من جدهم الأكبر "الهميم"! فلنسمع محمد محمود:
    (على أن هذه الحالة من حدة الخصومة والعداء الشديد والكراهية للفقهاء، لم تكن هي العرف السائد.. ذلك أنه، وبالرغم من أن التراث الصوفي السوداني يسمح بمساحة "للجذب"، إلا أن صوفية السودان اتجهوا في عمومهم إلى تأكيد النموذج المثالي "للاستقامة" و"التوازن بين الباطن والظاهر". فالمؤسسة التعليمية (الخلوة) التي يديرها الشيخ الصوفي، من مقرراتها "دراسات القرآن"، و"الأحاديث النبوية"، و"الفقه"..)!

    وبعد أن وضع الأساس التاريخي للمؤثرات البيئية والتراثية، كما يحب، وأعطى قراءه (خلفية) عن (الهميم) _الجد الأكبر المزعوم لطه_، ذهب محمد محمود ليحدث قراءه على صفحة 12 و 13 من الباب الأول في الكتاب تحت عنوان (البيئة والرجل والحركة)، عن (طه) و (شخصيته) و (فكره)، و (أثر) جده الأكبر (الهميم!) عليه، حيث يقول ما يلي:
    (ولد محمود محمد طه بين حوالي عام 1909 و 1911 في مدينة رفاعة بإقليم الجزيرة الأوسط. وقد فقد كلا والديه عندما كان طفلا. وتنتمي أسرته إلى قبيلة الركابية، و"محمد الهميم كان جده الأكبر". ونظرا لأن العرف الاجتماعي والتربية المنزلية للأطفال في السودان تستدعي جعلهم على وعى ومعرفة، منذ عمر مبكر، بأصلهم القبلي، وتراث القبيلة، فمن المرجح أن تكون ذكرياتٌ بعينها قد لعبت دورا بارزا في تشكيل طفولة طه.. ومن المعقول أن نفترض أن طه كان قد تم إبلاغه وإخباره بالأصل الشريفي النبيل المزعوم لقبيلة الركابيين، الذين يدعون الانتساب إلى النبي، حيث يرجعون بنسبهم إلى الحسين بن علي، حفيد النبي محمد. كما من المرجح أيضا أن طه قد سمع العديد من القصص عن جده الأكبر الهميم. ومن المرجح كذلك أنه سمع حكاية الكيفية التي اكتسب بها هذا الرجل المقدس لقبه "الهميم" هذا. وكيف أن زوجة شيخه قد طلبت "دوكة"، وكيف أن الهميم اشترى الدوكة، وحملها على رأسه، قاطعا مسافة طويلة مشيا على الأقدام، ليلحق بشيخه. كما من المرجح كذلك أن يكون طه قد سمع حول الأسلوب الدراماتيكي الذي تم به تعميد الهميم في الطريق القادري، عندما تطوع باذلا نفسه ليأخذ الطريق، عن طريق "الذبح". وكذلك من المرجح أن طه قد سمع عن مواجهة الهميم المشهورة مع القاضي دشين. ولا بد أنه سمع أيضا كيف أن الهميم رأى ليلة القدر في رفاعة وقد صعق من رؤيتها، وكانت النتيجة أن الهميم فقد، ليس وعيه فحسب، بل فقد بركاتها أيضا، حيث تحولت البركات إلى شيخ آخر. كذلك من المحتمل أن يكون طه قد سمع بكرامة علي النيّل، ابن الهميم وخليفته، الذي كان مجرد ذكر اسمه يجعل الأفيال تطيع البشر. كما لا بد أنه سمع بأبي القاسم الجنيد الذي قفز فجأة من راعي بقر إلى سجادة الخلافة، ولا بد أنه سمع كذلك عن مقدرته المذهلة على قراءة أفكار الناس. كذلك من المحتمل أن طه قد سمع بالشيخ أبودليق الذي عين ابنته عائشة خليفة له على سجادة الشيخ الهميم القادرية)!

    أرجو أن نلاحظ إصرار محمد محمود على تأسيس نسب الأستاذ محمود إلى الهميم، مع كل الافتراضات التي حشدها أعلاه، مقرونة بعبارات (من المرجح أنه تم إبلاغه، ولا بد أنه سمع، الخ) وكلها افتراضات مبنية على (أساس غير صحيح)! علما بأني، في هذا المقام، لا يهمني هذا التأسيس، ولا هذه الافتراضات، إلا بالقدر الذي أثبت به تحيز الباحث عبدالله الفكي، ومحاباته لمحمد محمود، على حساب الأمانة العلمية، والبحث العلمي المحايد!

    فقد تحدث عبدالله الفكي عن الأخطاء التي انطوت عليها الكتب والمصادر التي جاءت فيها ترجمة نسب الأستاذ محمود!! وقد وصف القول بنسب الأستاذ إلى الهميم على أنه من نسج (الأساطير والأوهام)! وضرب الباحث عبدالله أمثلة عديدة لذلك، عند مختلف المؤرخين والباحثين! ثم خلص إلى ما يلي على صفحة 902 من كتابه (محمود محمد طه والمثقفون):
    (الشاهد أننا في حاجة ماسة لتحرير نسب الأستاذ محمود، حتى ننتقل للاستنتاجات العلمية، ونسهم في ترفيع مستوى السجال إلى مراقي الأسس العلمية بعيدا عن الأساطير والأوهام التي تسعد البعض بلا معرفة أو علم أو أخلاق. لا أعني في هذا أولئك الذين يخطئون وإنما أقصد الذين يستنتجون ويبنون على نتائجهم البكماء الخلاصات الخرصاء)..

    ولقد قرأنا، أعلاه، كيف وصف عبدالله الفكي دراسة وقيع الله بأنها (لا تمت للعلم أو الأخلاق بصلة)، وأنها خلصت إلى (نتائج بكماء وخلاصات عرجاء)! وقال إن من يصدرون مثل هذه الدراسات (يهبطون بمستوى السجال ويغيبون العفة في دوائر العلم والتنوير) و (يعطلون تطور الفكر ويجمدون حركة التغيير).. الخ!! ولكن عندما تعلق الأمر بمحمد محمود، اختلفت لغة الفكي!! وفي ظل ما قد رأينا، حتى الآن، من تحامل محمد محمود، وتعمده تشويه فكر الأستاذ محمود، وشخصه، فإنه من غير المفهوم _عندي على الأقل_ السبب الذي على أساسه أخرجه الباحث عبدالله الفكي من زمرة أصحاب (النتائج البكماء والخلاصات العرجاء)، ومن معية الذين (يهبطون بمستوى السجال ويغيبون العفة في دوائر العلم والتنوير)، و (يعطلون تطور الفكر ويجمدون حركة التغيير)!

    فالباحث عبدالله الفكي يقول عن محمد محمود، على صفحة (903) من كتابه، ما يلي:
    (لقد أرجع محمد أحمد محمود في كتابه الموسوم بـ: Quest for Divinity: A Critical Examination of the Thought of Mahmud Mohammad Taha، الأستاذ محمود في نسبه إلى الشيخ محمد الهميم، كتب محمد أحمد محمود عن نسب الأستاذ محمود قائلا:
    “His family belonged to the Rikabiyyun clan, and Muhammad al-Hamim was his great-grandfather).
    يمكنني ترجمة هذه الجملة إلى اللغة العربية بتصرف ولغرض هذه الدراسة: "تنتمي أسرته _أي الأستاذ محمود_ إلى قبيلة الركابية ومحمد الهميم هو جده". من المهم الإشارة إلى أن محمد أحمد محمود، التزم منهجا علميا صارما في دراسته عن الأستاذ محمود، وهو بعيد كل البعد عن أولئك الذين وسمتهم بالمستنتجين للنتائج البكماء والخلاصات العرجاء في مسألة صلة الأستاذ محمود بالشيخ الهميم، كما هو الحال لدى محمد وقيع الله")!

    سؤال: ما الذي يجعل منهج محمد محمود (علميا صارما) و (بعيدا كل البعد عن النتائج البكماء والخلاصات العرجاء في مسألة صلة الأستاذ محمود بالشيخ الهميم، كما هو الحال لدى محمد وقيع الله)؟ خصوصا أن الباحث الفكي قرر، في كتابه، أن محمد محمود كان (تلميذا) للأستاذ محمود، ومن ثم فهو على (معرفة من الداخل بالأستاذ محمود وبفكره وبالمجتمع الجمهوري)، ولذلك، لا يُتوقع، بداهة، أن يخطيء في نسب (معلمه) الأستاذ محمود! ومحمد وقيع الله لم يكنْ تلميذا للأستاذ محمود، وقد نقل من آخرين! علما بأن كليهما حمّل (نسب الأستاذ محمود المزعوم للهميم) ما حمّل من مكنونات وخبايا نفسه، تجاه الأستاذ محمود! وقد قرأنا ما كتب وقيع الله، وسنقرأ هنا، ما كتب محمد محمود، لنرى أنه يعادل، على الأقل، ما كتبه وقيع الله، من حيث السوء والتجني، إن لم يجاوزه!

    ولكن: لنفترض، لهنيهة، في أنفسنا، حسن النية لدرجة السذاجة، ولنضرب صفحا عن حملة التشويه المغرضة التي استعرضناها من كتاب محمد محمود في الحلقات السابقة، ولنفترض أن محمد محمود لم يلاحظ معلومة نسب الأستاذ محمود المدرجة ضمن أول ثلاثة أسطر من سيرة الأستاذ محمود المطولة على الصفحة الأولى من موقع الفكرة الجمهورية، بالرغم من إيراد محمد محمود حوالي سبع مقتطفات، في كتابه، من هذا الموقع، فيما أحصيته له حتى الآن! ولننسَ قول الفكي إن محمد محمود كان تلميذا للأستاذ محمود! بل، فلنصدّق كلام الفكي أن محمد محمود أخطأ فقط، بحسن نية، ولم يتعمد أن ينسب الأستاذ محمود للهميم، عن غرض! ولنقلْ، إن خطأه قد جاء في إطار احتفائه بطه، وتقديمه لقراء الإنجليزية! فهل يتجاوز عبدالله الفكي عن (الخطأ) في نسب الأستاذ محمود، إن جاء الخطأ "في إطار الاحتفاء بالأستاذ محمود"؟

    الإجابة: لا!! عبدالله الفكي لا يتجاوز عن الخطأ في نسب الأستاذ محمود، حتى إنْ جاء في إطار الاحتفاء به! لماذا؟؟ لأن عبدالله الفكي يرى أن الأمر (يعود لحقائق التاريخ) ولذلك (لا بد من تحرير نسب الأستاذ محمود من الأوهام والأساطير) حتى (لا يقفز البعض ويبني على نتائج عرجاء)! الدليل؟ حسنا.. تطرق عبدالله الفكي على صفحة (902) من كتابه، إلى مقال ورد في مجلة (الأزمنة العربية)، عدد (يناير 1987)، وقد جاء المقال (في إطار الاحتفاء بالأستاذ محمود والتعظيم من شأن مواقفه، والمناصرة له في حقوقه) حسبما أعلن الفكي، نفسه، حيث يحدثنا الفكي عن المقال بما يلي:
    (كذلك جاء في مجلة "الأزمنة العربية"، عدد يناير 1987 في الحديث عن ميلاد ونشأة الأستاذ محمود: ""نشأ الأستاذ محمود في أسرة دينية، يرجع البعض نسبها إلى الشيخ محمد الهميم أحد كبار رجال الصوفية في تاريخ السودان وقد اعتبر من طائفة الملامتية والتي تعرضت لكثير من النقد والإدانة لأنها تستوجب على أفرادها إظهار أنفسهم وكأنهم يرتكبون المعاصي لكي لا يعرف الناس حقيقة أمرهم لذلك يلومونهم على أساس مفارقتهم للدين _هذا ما يبدو للعيان_ هذا وقد تميزت أسرته بإنجاب عدد من المتصوفة من بينهم الأخ الأكبر للأستاذ محمود وهو مختار محمد طه والذي يقال إنه لم يلامس النقود بيده بعد أن أدرك وقرر عدم التمسك بالدنيا والماديات. المهم أن الجو العام لنشأته الأولى كان دينيا وصوفيا وكان لذلك تأثيره الواضح على الأستاذ محمود فيما بعد).

    ثم يعلق الباحث الفكي على قول (الأزمنة العربية هذا)، بما يلي:
    (القول أعلاه، على الرغم من أنه جاء في إطار الاحتفاء بالأستاذ محمود والتعظيم من شأن مواقفه، والمناصرة له في حقوقه، إلا أنه ينطوي على الكثير من الهنات التي تعود إلى المصادر التي أخذ عنها كاتب المقال (لم يكُ واضحا اسم كاتب المقال في نسخة المجلة التي بحوزتي) هنا لا بد من الإشارة إلى أن الأمر عندي لا يعود إلى رأي أو موقف من الشيخ محمد الهميم، وإنما يعود الأمر لحقائق التاريخ، أن الأستاذ محمود لا تتصل شجرة نسبه بالشيخ محمد الهميم، وهذا حتى لا يقفز البعض ويبني على نتائج عرجاء كما رأينا آنفا وسنرى لاحقا)!!

    إذن الأمر فيما يتعلق بنسب الأستاذ أمر (أساسي) و (لا يعود إلى رأي أو موقف من الشيخ الهميم) وإنما (يعود الأمر لحقائق التاريخ)، ولذلك لا بد من (التحقق منه) و (التثبت فيه) من أجل (تحرير نسب الأستاذ محمود) وحتى (لا يقفز البعض ويبني على نتائج عرجاء)!! ولذلك لا يمكن التسامح مع "خطأ فادح" كهذا! علما بأنه في عام 1987 لم يكن موقع الفكرة الجمهورية قد تأسس بعد، حسب علمي، ولا تزال المعلومة السائدة هي المعلومة الواردة في كتاب باشري، ومصادر أخرى! بعكس الحال لدى محمد محمود (التلميذ المزعوم)!

    ولكن عبدالله الفكي، لأمر ما، أو ربما لمؤثّرٍ ما، لم يطبق معياره هذا، الذي وضعه بنفسه، على محمد محمود؟! بالرغم من أن محمد محمود اقتطف حوالي سبع مرات من موقع الفكرة الجمهورية، الذي يثبت على صفحته الأولى نسب الأستاذ محمود (الصحيح)! فعلى أي أساس، إذن، غض عبدالله الطرف عن محمد محمود واستثناه، حين نسب الأستاذ محمود إلى الهميم، لا في إطار الاحتفاء، بل بغرض استخلاص نتائج وخلاصات شائهة؟ حيث أعلن محمد محمود، ابتداء، غرضه من سرد المؤثرات البيئية الأولية والرئيسية وأثرها في تشكيل شخصية ووعي وفكر (طه)، ومن ضمن هذه المؤثرات نسب طه (المزعوم) إلى الهميم، وسماعه وتأثره بالحكاوى الكثيرة عنه! وعلى هذا فإني أستغرب كيف يكون محمد محمود (بعيدا كل البعد عن أصحاب النتائج البكماء والخلاصات العرجاء في مسألة صلة الأستاذ محمود بالشيخ الهميم، كما هو الحال لدى محمد وقيع الله)؟ ولماذا يدين الفكي محمد وقيع الله، ويدين مجلة الأزمنة العربية، على الرغم من حسن نيتها، واحتفائها بالأستاذ محمود، ومناصرتها له في حقوقه، بينما يُعظّم من شأن محمد محمود، ويشيد بدراسته؟

    وهذه الأسئلة، تزداد إلحاحا، بصورة محددة، أن علمنا أن نتائج وخلاصات محمد محمود التي بناها على نسب الأستاذ محمود إلى الهميم، أسوأ بكثير من خلاصات الآخرين، بل وتستحق، أكثر من غيرها، أن توصف بأنها (نتائج بكماء) و (خلاصات عرجاء)!

    فقد أشار محمد محمود، مثلا، إلى أن الهميم كان (فانيا) في حالة (جذب إلهي)، ولذلك خالف الشريعة، وتزوج بأكثر من أربعة وجمع بين الأختين.. الخ! ولكنه لم ينس، في سياق ذلك، أن يخبر قراءه أن صوفية السودان ملتزمون، في عمومهم، بمبدأ (الاستقامة) و (التوازن بين الظاهر والباطن)! طبعا، باستثناء أسرة (الهميم) الذي نسب طه زورا، إليه! وكذلك حرص محمد محمود على أن يخبر القاريء أن الهميم كان ينطوي على عداء (عميق) للفقهاء، بدليل مواجهته للقاضي دشين وفسخ جلده! وأن هذا العداء العميق للفقهاء مستحكم، ويجري في جينات الأسرة، وقد أورثه الهميم لحفيده وخليفته على السجادة القادرية، الشيخ أبوالقاسم الجنيد، حيث يخبرنا محمد محمود عن هذا الحفيد، ما يلي:
    (وقد أظهر أبوالقاسم الجنيد، وهو حفيد الهميم، عداءا شديدا للعلماء، حيث أعلن: "قلوب الفقهاء محجوبة عن الله". على أن هذه الحالة من التنافر والعداء الشديد والكراهية للفقهاء، لم تكن هي العرف السائد. فبالرغم من أن التراث الصوفي السوداني يسمح بمساحة "للجذب"، إلا أن الصوفية اتجهوا في عمومهم إلى تأكيد النموذج المثالي "للاستقامة" و"التوازن بين الباطن والظاهر").

    ولعل القاريء، وقد وصلنا إلى هذه المرحلة المتقدمة من المعرفة بطريقة تفكير محمد محمود وأجندته، لا يفوت عليه الغرض الذي يرمي إليه محمد محمود من الحديث المطول عن الشيخ الهميم، وتأثر الأستاذ محمود به وبما سمعه عنه، بما في ذلك الحديث عن (الانجذاب الإلهي) للهميم، وعدم تفريقه بين الحقيقة والشريعة، وخروجه عن الشريعة، وعدم التزامه (الاستقامة) و (التوازن بين الظاهر والباطن)، وعدائه الشديد للفقهاء، وتوريثه هذا العداء لأحفاده، ومنهم حفيده الجنيد، الخ! فهذا التأسيس الغرض الأساسي منه هو النيل من الأستاذ محمود، والإساءة إليه! خصوصا أن محمد محمود أشار في ثنايا كتابه إلى عداء (طه) المستحكم مع مؤسسة (الفقهاء وعلماء الدين)!

    وإلا: لو كان محمد محمود موضوعيا فعلا، وذا منهج علمي صارم، لما اكتفى بالجوانب التي ظنها (قدحا) في سيرة الهميم، خصوصا أنه قال إنه اعتمد كتاب (الطبقات) كمصدر رئيسي له! فهناك جوانب أخرى من سيرة الهميم في كتاب الطبقات، كانت متاحة أمامه، وكان عليه، كباحث محايد و (غير مغرض) أن يوردها أيضا ليعكس جميع المؤثرات، مثل قول الشيخ تاج الدين البهاري عن الهميم: (أنا جئت من بغداد لأجل هذا الولد)! وقوله للهميم، عندما لحقه مشيا لمسافة طويلة، والدوكة على رأسه: (يا ولدي هذه همة تصلح بها لإقامة دين الله في الأرض)! وقول الشيخ دفع الله العركي: (ناس ود عبدالصادق وقعت لهم دعوة مستجابة ملكوا بها الدنيا)! وقول الشيخ إدريس ود الأرباب عن محمد الهميم: (محمد عريس الحور العين)! ولو أن محمد محمود كان موضوعيا فعلا وذا منهج علمي صارم، لنقل عن صاحب الطبقات، دعوة الهميم لسليمان الطوالي (الزغرات) الذي كان (بابكولا) يجلب الماء (بالقرب)، لصنع (المريسة) بالإنداية، حيث قابله الهميم وبان النقا، وهم (عطاشى) في طريقهم للمندرة _(سمعت الأستاذ محمود ينطقها "المنضرة")_، وطلبا أن يسقيهما ماء، فتكى القربة وسقاهما! فقال له الشيخ محمد (الهميم): (الله يملاك دين)! فكانت تلك آخر مرة يحمل فيها (سليمان الطوالي) الماء للإنداية، حيث أوصل الماء، ولحق بالهميم في (المندرة)، ليسلك عليه، ويصبح وليا نافذا، من دعوة (واحدة) للهميم! أحيا الله قلوبنا وعقولنا، بذكر الهميم، هنا، ونفعنا _أخرى ودنيا_ به، وبصلاحه!

    العجيب أن محمد محمود، ولأنه يقرأ بغرض الإدانة، سُلِب عنه الفهم، فأخطأ في قراءة فقرة معينة في الطبقات، من سيرة الهميم، حيث قال في سياق افتراضاته الكثيرة عن (الحكاوى المرجح أن "طه" سمعها حول الهميم)، ما يلي:
    (ولا بد أنه سمع أيضا كيف أن الهميم رأى ليلة القدر في رفاعة وقد صُعِق من رؤيتها، وكانت النتيجة أن فقد، ليس وعيه فحسب، بل فقد بركاتها أيضا، حيث تحولت البركات إلى "شيخ آخر")!!

    وهذه (الجلْطة) أعتقد أنها نتيجة (غارة وسلب مباشر) من الهميم، أعزّنا الله بذكره! ذلك أن محمد محمود، يشير بقوله هذا، إلى هذه الفقرة من كتاب (الطبقات)، في سيرة الهميم، حيث يقول ود ضيف الله:
    (ويُحكى أنه في رفاعة رأى ليلة القدر، فصُعِق منها صعقة شديدة، فسمعتها أمه في أربجي، فقالت فاز بها أعرج ابن أعرج، تعني الشيخ عبدالصادق)!

    فهنا، محمد محمود، ولجهله بالتراث الديني الصوفي في السودان، وبأنساب الصوفية، وأسمائهم، ظنّ أن (عبدالصادق) شيخ آخر (ذهبت إليه ليلة القدر إثر صعقة الهميم)! وهذا، لعمري، ليس جهلا بالتراث الصوفي فحسب، بل هو جهل حتى بأبجديات الخطاب الشعبي، وثقافة التراث المجتمعي، واصطلاحات اللغة العامية، في السودان!

    فصاحب الطبقات، ذكر أن والدة الهميم عندما سمعت (وهي في أربجي) صعقة ولدها من ليلة القدر في رفاعة (وهذه كرامة لها لا ريب)، أعلنت: (فاز بها أعرج ابن أعرج)! وقد شرح صاحب الطبقات كلمة أعرج الثانية بقوله: (تعني الشيخ عبدالصادق)! أي أن والدة الهميم تعني بأعرج الأولى ابنها (محمد)، وبأعرج الثانية تعني والده (الشيخ عبدالصادق)! وعلى هذا، عبارة والدة الهميم تعني، بكل بساطة: (فاز بها ولدي)! وقد لقبته: أعرج (محمد) ابن أعرج (عبدالصادق)! فالشيخ الهميم اسمه: محمد (الهميم) ود (عبدالصادق)! ولكن محمد محمود، ولأنه يقرأ بغرض الإساءة، فقد عمي عن المعنى المقصود من العبارة، وظن أن (عبدالصادق) هو شيخ آخر مقصود بالعبارة كلها (أعرج ابن أعرج)! وعندي، أن الأمر لا يخلو من غارة، وسلب، كما أسلفتُ! برغم أن الدكتور زي (زول) الشيخ يوسف!

    ولكن: برغم كل هذا الجهل بالتراث الصوفي والديني في السودان، وبالفكرة الجمهورية، وبأقدار الرجال، يتصدى محمد محمود، للنقد والتحليل بقصد تفهيم (الآخرين)، وبالإنجليزية كمان!

    والأسوأ في كل هذا، هو أن محمد محمود استخدم تأسيسه الخاطيء والمغرض في ربط نسب الأستاذ بالهميم، وإشاراته إلى تأصل حالة (الفناء والجذب) و (عدم الاستقامة الصوفية) و (عدم التوازن بين الظاهر والباطن) في أسرة الهميم (الذي نسب طه إليه، توهما)، ليصل إلى (النتيجة) و (الخلاصة) التي يريدها، في الأساس، وهي التشكيك في (استقامة) و (صحة) و (توازن) الموقف المشهود للأستاذ محمود صبيحة يوم 18 يناير 1985، على المقصلة! فقد كتب محمد محمود، على صفحة 33 – 34 في كتابه، عن موقف الأستاذ محمود المشهود على المقصلة، ما يلي:
    (طه يعتبر نفسه صوفي "باقي"، له تجربته في الطريق النبوي، ويتبع نهج الصوفية الباقين "غير الفانين". علما بأن الصوفية الباقين مثل أبوالقاسم الجنيد (توفي عام 289/910م) والذي يقتطف طه أحيانا من كلامه، أوصى بضرورة التزام "الاستقامة" و "التوازن"، وعدم البوح بالأسرار والمعارف الإلهية العامة. وبرغم الصداقة الحميمة بين الجنيد والحلاج، الذي أعدم بسبب شطحاته الصوفية، فإن الجنيد انتقد موقف الحلاج لأن الجنيد لم يكن يقبل أن يبوح الصوفي بتجربته ومعرفته الصوفية للعامة. ووجهة النظر "الصوفية" الناقدة هذه تشكك في "استقامة" و "توازن" و "صحة" موقف الصوفي الشهيد، وترى في "مصيره النهائي" الذي لاقاه عنصرا من عناصر "العقوبة الإلهية" و"الطرد". علما بأن الدلالات السلبية التي تعكسها وجهة النظر الصوفية هذه حول "إعدام" طه لم تكن خافية على حس الجمهوريين الصوفي. ولذلك فإن أحد الطرق الفعالة التي حاولوا عبرها تبرير الموقف، كانت التأكيد على أن موت طه، في الواقع، كان عملا أراده هو بنفسه، وقد اختار تقديم أكبر تضحية بأن بذل نفسه لفداء الأمة وإنقاذها من كارثة قوانين الشريعة الإسلامية التي فرضها النظام)!

    ومع كل ما فعله محمد محمود هذا، وبالرغم من إساءاته الممنهجة _بل ربما بسببها_ يحدث الباحث عبدالله الفكي الناس أن (محمد محمود التزم منهجا علميا صارما في دراسته عن الأستاذ محمود)! ويقرر كاتب مقدمة كتاب الفكي، البروفيسور عصام البوشي (صديق العمر لمحمد محمود)، على رؤوس الأشهاد، أن كتاب محمود محمود (من أفضل ما كتب عن محمود محمد طه)! حيث قال البوشي، في محاضرة عامة أقيمت بمركز الخاتم عدلان عن كتاب محمد محمود، ما يلي:
    (د. محمد محمود أهداني كتابه، واطلعتُ عليه! وأقول: إنه من أفضل ما كُتب عن محمود محمد طه! وتناول كل القضايا!)!!

    علما بأنه في ندوة عامة حول كتاب الفكي انعقدت في بريطانيا بتاريخ 26/4/2014 تحت رعاية منتدى (أجندة مفتوحة)، وإشراف محمد محمود وآخرين، أخبر البوشي الحضور بما يلي، عن الأستاذ محمود:
    1- (الأستاذ محمود من البشر الذي كانوا يتميزون بعدم التناقض! كان شخصية غير متناقضة! وكان شخصية يحاول أن يعيش ما يقوله! وكان شخصية كان ظاهره زي باطنه!)

    2- (الأستاذ محمود كان حذرا في كلامه! عندما يتحدث كان يدرس القضية، ويصل فيها إلى نتيجة، ثم يعلنها! ولذلك إن قل خطؤه، فإنما يقل من هذا الاتجاه: اتجاه التأمل! ما كان مندفعا في مسائله!)!

    3- (الإسلام البقدموا "الأستاذ محمود" ليس إسلام تعصبي! دي نقطة زي ما بيقول تلتقي فيها الأديان كلها، الأديان كلها بتدعو لقيم، تدعو لسلوكيات متفق عليها. بعض الزعم بتاع محمود محمد طه أنه الإسلام بمشي خطوة لا قدام، بيتبنى الحاجات دي كلها، يضمها، ليمشي بيها لا قدام)!

    4- (المنابر الحرة الدعا ليها الأستاذ محمود، المنابر دي هي شنو؟ هي الجوامع، تحرر، الكنائس، تحرر، الإذاعة تحرر، التلفاز، والصحف، والمنابر، ودور الأحزاب، وا، وا، وا... فدي كلها مسائل مهمة! ولذلك الأستاذ تحدث عن مسألة الثورة الثقافية، وتحدث فيها حديث واضح عن مسائل كثيرة)!

    هذا كلام البوشي!

    وأنا، هنا فيما يلي، أهدي البوشي بعض ما قاله محمد محمود عن الأستاذ محمود، في الكتاب الذي قال البوشي إن محمد محمود أهداه له، وقد اطلع عليه، ومن واقع اطلاعه هذا، قطع بأنه (من أفضل ما كتب عن محمود محمود طه)! حيث يقرر محمد محمود عن الأستاذ محمود، في هذا الكتاب، ما يصادم مباشرة، تقريرات البوشي أعلاه! وقد اخترت للبوشي أربع نقاط، من كتاب محمد محمود، لتقابل نقاط البوشي الأربعة أعلاه! فلنسمع محمد محمود، يحدث قراءه عن (طه):
    1- (إن "تناقض" طه و"عدم تماسك فكره"، حيث يعد لكل مناسبة خطابها، يلحق به أبلغ الضرر)!! صفحة (137)..

    2- (طه يلصق بالآيات معاني ومقاصد "تناقض" بصورة واضحة المعاني والمقاصد الظاهرة لهذه الآيات)! صفحة (210).

    3- (فكر طه، فكر "إقصائي"! فهو يؤكد أن نموذج محمد وتقليده هو السبيل الوحيد إلى حضرة القدس، وليصل الفرد إلى أصالته أو خلاصه النهائي. وعلى هذا فإن الحل "الوحيد" الذي يقدمه طه لأصحاب الديانات الأخرى أو لمن يعارضون المذهب الصوفي أو الملحدين، هو الحل الذي يقدمه كل "إقصائي"، وهو: "يجب أن تتبعوني وتؤمنوا بي"! ومن بين كل هؤلاء الفرقاء، يرى طه أن "الملحدين" تحديدا هم "الأكثر جهلا"! بل هو في الواقع يذهب، في إحدى النقاط، إلى حد التعبير عن أنه يجب أن لا يسمح للملحدين بالتعبير عن آرائهم في المنابر العامة)! نهاية صفحة (123) وبداية صفحة (124).

    4- (طه يمارس أحيانا "وصاية فكرية" على "عامة المسلمين" الذين يرى أنهم "يجب أن لا يُعرّضوا إلى الكثير من المعرفة"، أو "لآراء الملحدين"، التي قد تربكهم (أسئلة وأجوبة الأول ص 30!). وعندما نرى ما قاله في حق جارودي يصبح عندنا دليل واضح أن "وصاية طه الفكرية تمتد، وراء عامة المسلمين السذج، لتشمل أيضا المفكرين". وهذا رأي لا يتفق مع نزعة طه للحرية، و"قد تراجع عنه لاحقا"! ففي مقابلة مع مجلة الوادي عام 1983 قال إن من حق الناس أن يعتقوا أية أفكار (بما في ذلك الإلحاد)، ولهم الحق أن يدعو إلى أفكارهم هذه، في جو ديمقراطي). صفحة (262).

    لذلك: لا أزال أرى _من واقع حسن الظن حتى الآن_ أن عبدالله الفكي لم يقرأ كتاب محمد محمود، بل اعتمد على رأي آخرين _ومنهم البوشي_ عن الكاتب، والكتاب، معاً! كما أرى أيضا أن إعجاب البوشي إنما هو إعجاب بشخص الكاتب (محمد محمود)، في الأساس! وهذا الإعجاب لا يخفيه البوشي، فقد مدح بروفيسور البوشي "صديق عمره" محمد محمود، في ندوة "أجندة مفتوحة"، وبحضوره، قائلا:
    (الأخ محمد أحمد محمود علاقتي به علاقة قديمة جدا، ودايما كان مهموم بالمسائل الفكرية، فالمسألة ما غريبة عليه يعني! ومنذ أن كان طالبا في الجامعة، يتحدث عنها)!!

    وعلى هذا، يكون البوشي قد قدّم (الرغبة) على (الوثيقة)، بمعيار الفكي! وقد تبعه الفكي في ذلك، بالمخالفة (لمنهجه)! ففي ندوة عامة انعقدت بالخرطوم بتاريخ 18/7/2012، بخصوص كتابه، وكان مقدم الندوة د. النور محمد حمد، أعلن الفكي، بحماس ولغة قاطعة، عن نفسه، وعن كتابه، ومنهجه، ما يلي:
    (معظم الدراسات السودانية، في نقدنا لمصادر الدراسات السودانية، في معظمها، وحتى الدارسين، دوما بيقدّموا الرغبة على الوثيقة! "أنا في الكتاب دا قدّمت الوثيقة على الرغبة"! و"الوثيقة سعيت لاستنطاقها"، موش بأني أقول محمد محمد خير البدوي آخذ كلامه بحذر.. أي كلام قريتو أخذته بحذر شديد.. "وما بسْتند إلا على حاجة شفتها وقريتها"! وحتى لما أقراها بسْتند عليها بحذر شديد! الحذر بيأتي من وين؟ بيأتي من المنتهج الأنا منتهجو! وهو مقارنة القرائن! إنت ما بتقدر تقول الشخص صادق أو كذاب أو كذا أو كذا! قد يكون فهم الموضوع خطأ، هو كتبها، قد، قد، قد، وما إلى ذلك)!

    لنسمع مرة أخرى: 1- (أنا في الكتاب دا قدمت الوثيقة على الرغبة)! و: 2- (الوثيقة سعيت لاستنطاقها) و 3- (ما بستند إلا على حاجة شفتها وقريتها)! و: 4- (حتى لما أقراها بستند عليها بحذر شديد)!

    فإذا كان الأمر كذلك، يحق لأي قاريء أن يسأل الفكي: هل طبقت معيار (تقديم الوثيقة على الرغبة) هذا، على محمد محمود، وكتابه، عندما قلت:
    1- (من المهم الإشارة إلى أن محمد أحمد محمود، التزم منهجا علميا صارما في دراسته عن الأستاذ محمود)!

    2- (ففوق المنهج العلمي الصارم الذي التزمه محمد أحمد محمود، فإن أهمية دراسته تأتي أيضا من كونه "كان على معرفة بالفكرة وبالمجتمع الجمهوري من الداخل"، إذ التقى الأستاذ محمود وقضى بعض الوقت في معيته، و "كان لفترة وجيزة من بين تلاميذ الأستاذ محمود")!

    على كل حال، أكرر القول: إن كان عبدالله الفكي قد قرأ كتاب محمد محمود، بما فيه ملحوظة محمد محمود حول طبيعة علاقته بالأستاذ محمود، ثم خلص إلى ما خلص إليه، فهذه مصيبة! وإن لم يكن قد قرأه بل اعتمد على رأي أشخاص آخرين، ومنهم البوشي كاتب مقدمة كتابه، فالمصيبة أكبر!

    لذلك: أنا هنا سأحج عبدالله الفكي بالوثيقة، حسب معياره، وهي (كتاب محمد محمود)! ذلك أن محمد محمود لم يقل في كتابه إنه (قضى بعض الوقت في معية الأستاذ محمود) ولم يقل إنه (كان لفترة وجيزة من بين تلاميذ الأستاذ محمود)! بل قال تحديدا إنه كان على (معرفة شخصية) بطه خلال عامي 1972 – 1973! ومعلوم أن كثير من المثقفين، والمهتمين بالفكر، كانوا على (معرفة شخصية) بالأستاذ محمود، خصوصا خلال فترة السبعينات، وما قبلها وبعدها، ومن هؤلاء: منصور خالد، ومحمد محمد علي، وعبدالله بولا، بل وزميل محمد محمود في شعبة اللغة الإنجليزية بجامعة الخرطوم، دكتور أحمد نميري، وهذا الأخير له مناقشات وأسئلة مسجلة في أشرطة جلسات الجمهوريين! ولم نسمع أن أيا من هؤلاء قد قال عن نفسه، أو قال عنه أحد من الجمهوريين، أنه كان تلميذا، لفترة وجيزة أو غير وجيزة، للأستاذ محمود!

    فلماذا أهمل الباحث الفكي (الوثيقة) وهي كتاب محمد محمود نفسه، الذي صرح فيه بطبيعة علاقته مع طه، وفضّل عليها (الرغبة)؟ وهي للعجب، ليست (رغبته) هو، بل رغبة شخصين آخرين هما: (برفيسور البوشي) و (د. النور حمد)؟؟

    فمحمد محمود يحدثنا في (الوثيقة) _الكتاب_، عن طبيعة علاقته بالأستاذ محمود، بما يخالف (رغبة) البوشي والنور حمد! ففي ملحوظته رقم 67، على صفحة 236 من كتابه، شارحا قوله (على صفحة 32) أن (طه لا يأكل اللحم ولا يحمل نقودا في جيبه)، ذكر محمد محمود ما يلي:

    (ملحوظة 67: هذه الملاحظات مستندة إلى معرفة المؤلف الشخصية بطه في عامي 1972 – 1973)!

    (Note 67: These observations are based on the author’s personal acquaintance with Taha in 1972 – 73.).

    فلو كانت هناك (تلمذة) فإن أولى الناس بذكرها، هو (التلميذ) المزعوم نفسه، خصوصا أن المقام هو مقام إعداد كتاب عن (المعلم) المفترض، كما قلتُ في الحلقة الأولى! ولكن التلميذ (المزعوم) لم يفعل! ومع هذا، اطّرح الفكي _الباحث المستقل_ ما ورد في (الوثيقة) من (صاحب الوثيقة) نفسه، ليعتمد (رغبة) الآخرين! وبنفس القدر فإن عبدالله الفكي هنا، وخلاف منهجه المعلن أيضا، قد اعتمد (المصادر الثانوية)، بل السماعية منها، في ظل وجود (المصدر الرئيسي) على مستويين: مستوى (الوثيقة) وهي (كتاب محمد محمود)، ومستوى (اللحم والدم)، وهو (صاحب الوثيقة)، نفسه؟ ولا بد أن نتذكر، هنا، الحرص المبالغ الذي أبداه عبدالله الفكي، حين انتقد الطلبة، ومشرفتهم أيضا، لاعتمادهم (مصادر ثانوية) في ظل توفر (المصادر الرئيسية)، وكتب في ذلك أربعة حلقات مطولة، بالرغم من أن المعلومات التي نقلها الطلاب عن تلك المصادر الثانوية كانت صحيحة، ولم يبنوا عليها أي إساءات أو تشويه، كما فعل محمد محمود بمعلومات المصادر الرئيسية، التي استند عليها!!

    عليه، يبدو لي أن عبدالله الفكي يتبع منهجا انتقائيا في تطبيق معاييره عن (ضرورة تحرير نسب الأستاذ محمود)، و (تقديم الوثيقة على الرغبة)، و (ضرورة الأخذ عن المصادر الرئيسة)، حيث يطبقها على البعض دون البعض الآخر! حيث يستثني (أصحاب الحظوة) و (أهل الخصوص)، ويحابيهم! فالباحث الفكي، قام على صفحة (901)، مثلا، بمدح د. حيدر إبراهيم علي (احترازه) في إرجاع نسب الأستاذ محمود للهميم، لمجرد استخدام حيدر لكلمة (البعض) في نصه، في حين أنه (أدان) مجلة الأزمنة العربية، بعد أربعة أسطر فقط، على ذات (الاحتراز) الذي (مدح) عليه د. حيدر! وهذا، في حد ذاته أمر عجيب، نظرا لأن عبارة مجلة الأزمنة العربية تطابق عبارة حيدر، حرفيا! وقد استخدمت المجلة كلمة (البعض) أيضا!

    فلنسمع أولا، ما قاله الباحث الفكي عن حيدر إبراهيم:
    ("احترز" حيدر إبراهيم علي، في إرجاع نسب الأستاذ محمود إلى الشيخ الهميم، إذ كتب حيدر في ورقته الموسومة بـ "الأستاذ محمود محمد طه: الإنسان والمواقف والأفكار"، وهو يتحدث عن نسب أسرة الأستاذ محمود كتب قائلا:
    (ونشأ في أسرة دينية يرجع "البعض" نسبها إلى الشيخ محمد الهميم أحد كبار رجال الصوفية في تاريخ السودان")..

    ولنسمع، مرة أخرى، عبارة مجلة الأزمنة العربية، التي تحتوي على نفس (الاحتراز) بكلمة (البعض)، لنقارن كيف تتطابق عبارة (الأزمنة العربية) مع عبارة (حيدر):
    (نشأ الأستاذ محمود في أسرة دينية، يرجع "البعض" نسبها إلى الشيخ محمد الهميم أحد كبار رجال الصوفية في تاريخ السودان)!

    المفارقة أن محمد محمود (صاحب المنهج العلمي الصارم) لم (يحترز) حتى باستخدام كلمة (البعض) التي مدح الفكي، حيدر إبراهيم، عليها! فمحمد محمود، كما ترجم عنه الباحث الفكي، قال بصورة تقريرية مباشرة ما يلي: (تنتمي أسرته _أي الأستاذ محمود_ إلى قبيلة الركابية، ومحمد الهميم هو جده)! هكذا! ومع ذلك، قرر الفكي عن محمد محمود ما يلي: (من المهم الإشارة إلى أن محمد أحمد محمود، التزم منهجا علميا صارما في دراسته عن الأستاذ محمود) الخ!! يبدو أن من يعش رجبا، يرى عجبا في فضاء (النقد المحايد)، و (التحليل العلمي)، و (الإنصاف)!!

    هذا فيما يخص نسب الأستاذ محمود! وندلف بعده للتشويه الآخر فيما يخص موقف الأستاذ محمود في مناهضة قانون الخفاض الفرعوني! وسندهش هنا أن نعلم أن عبدالله الفكي صنف دراسة محمد محمود على أنها (علمية)، واخترع تبريرا لتحامل محمد محمود، هو: (محمد محمود طبق "منهج الحداثة" النقدي ولذلك لم يفهم موقف الأستاذ محمود)!! علما بأن الفكي أورد قول محمد محمود بالإنجليزية بدون ترجمة في كتاب موجه للقراء العرب! بل حتى العبارات التي ترجمها من قوله، حرص على أن يلبسها ثوبا إيجابيا!

    لذلك: أورد، هنا فيما يلي، ترجمة كاملة بالعربية لقول محمد محمود، وتحته أصل القول باللغة الإنجليزية، من أجل أن يستبين القراء عنصر (التحامل) فيه، ويقيسوا عليه مدى (إنصاف) الفكي للأستاذ محمود! يقول محمد محمود:
    (وفي سبيل كسبه لهذه المعركة باسم "شرف" النساء السودانيات، أوقع طه، عن غفلة، الضرر الأكبر الذي ألحقه شخص واحد منفردا، برفاهية النساء السودانيات، وحريتهن. إن الخفاض لم يكن أبدا عادة "سودانية"، بمعنى أنه لم يكن كل السودانيين يمارسونه. ومن هنا، فإن معارضة طه لقانون الخفاض الفرعوني خدمت مصالح قطاعات السكان التي كانت متشبثة بتعنت بهذه الممارسة، وترفض أن ترى مبلغ الأذى والقسوة والهمجية التي تمثلها هذه العادة)2!!

    أدناه أصل قول محمد محمود حسبما أورده الفكي في كتابه (الموجه لقراء العربية):

    (In winning this battle in the name of the “honor” of Sudanese women, Taha had inadvertently contributed the single greatest damage to the welfare of the Sudanese women. Circumcision had never been a “Sudanese” tradition in the sense that all Sudanese practice it, Taha’s opposition served the interests of those sections of the population who adamantly clung to the practice, refusing to see its harms and brutality).2


    جدير بالذكر أن محاباة الفكي، واطراحه (الوثيقة) لصالح (الرغبة)، لا تقتصر على محمد محمود، فحسب، بل تشمل آخرين، منهم على سبيل المثال، الأستاذ بدرالدين السيمت، كنموذج! فقد ذكر الباحث الفكي ما يلي عن السيمت:
    (وضح بدرالدين فترة "مرافقته" للأستاذ محمود، وبين أسباب "مفارقته" في مقدمة كتابه تحت عنوان فرعي وسمه بـ "كاتب هذا السفر ليس من الجمهوريين"، كتب بدرالدين قائلا: "باديء ذي بدء أحب أن ألفت نظر القراء الكرام، إلى أن كاتب هذا السفر ليس من الإخوان الجمهوريين، فهو قد فارق الفكرة الجمهورية منذ عام 1982، ولم يعد عضوا مع الإخوان الجمهوريين، في أثناء حياة الأستاذ الجليل، ووجوده وجودا حسيا. وقد تم الخروج بعد حوار لطيف مع الأستاذ الجليل، والإخوة الجمهوريين الأجلاء، في مسائل عرفانية، تتعلق بالأصالة والفردية، يجدها القراء مبسوطة في موضعها من هذا السفر. ومهما يكن من أمر، فإننا كنا وما زلنا، ولن ننفك نحفظ للأستاذ الجليل قدره الأسنى، ونعرف له فضله الأسمى، ومقامه الباذخ الشامخ، كما أننا لا نزال نحفظ الود القديم لكل الأخوات والإخوان الذين ينسبون أنفسهم للفكرة الجمهورية. ومن ما لا شك فيه، أن الخلاف في مثل هذه الدقائق العرفانية، أمر محمود ومطلوب، وهو دليل بذرة الفردية، فقد علم كل أناس مشربهم، وما يعقلها إلا العالمون. أكثر من ذلك، فإنه إذا لم يقيض الله ذلك الخلاف، ويستعملنا فيه استعمالا حسنا، فإن الفكرة الجمهورية، ستذهب في التاريخ _شأنها شأن بقية الحركات الدينية_ كحركة تقليدية، يقودها أصيل واحد، ويتبعه مقلدون كثيرون، وعن ذلك تعالت الفكرة الجمهورية علوا كبيرا"..)!!

    يلاحظ أن بدرالدين قد أعلن عن نفسه بوضوح! محدّدا أنه (لم يعد عضوا مع الإخوان الجمهوريين)، وأنه (فارق الفكرة الجمهورية منذ عام 1982) إثر خلاف مع الأستاذ محمود، في مسألة الأصيل الواحد، وهو خلاف، كما يعلم الكثيرون، لا مجال إلا أن يكون واحدا منهما، فقط، (صادقا) بشأنه! وألفت النظر هنا إلى تناقض خاتمة كلام بدرالدين، أعلاه، مع مقدمة كلامه: فخاتمة كلامه تدل على أنه يرى أحقيته بقيادة (الفكرة الجمهورية)، برغم ادعائه (في مقدمة كلامه) أنه غادر الفكرة الجمهورية، ولم يعد عضوا مع الإخوان الجمهوريين! فقد قال في خاتمة كلامه أعلاه: (أكثر من ذلك، فإنه إذا لم يقيض الله ذلك الخلاف، ويستعملنا فيه استعمالا حسنا، فإن الفكرة الجمهورية، ستذهب في التاريخ _شأنها شأن بقية الحركات الدينية_ كحركة تقليدية، يقودها أصيل واحد، ويتبعه مقلدون كثيرون، وعن ذلك تعالت الفكرة الجمهورية علوا كبيرا)!! فهذا النص يوضح أن بدرالدين يعتبر نفسه (الأصيل الآخر) الذي استعمله الله استعمالا حسنا، ليتولى قيادة الفكرة الجمهورية، إثر (موت) طه! وهذه هي (الحكمة) من ذلك الخلاف الذي قيضه الله!! ولعله من أجل هذا نرى بدرالدين، يعمل بشتى الوسائل، على استمالة بعض الجمهوريين لآرائه، ويمنح من اتبعه صكوك (الأصالة) و (ترك التقليد) من لحظة انضمامهم إليه!

    وبرغم هذا _بل ربما بسبب هذا، من يدري_ يقول الفكي عن بدرالدين، ومشروعه:
    (الشاهد أن كتابات بدرالدين السيمت قد نحت منحى مختلفا عن كتابات تلاميذ الأستاذ محمود الآخرين ممن وردت الإشارة إليهم، وممن سترد الإشارة إليهم لاحقا. فقد نحا بدرالدين في كتاباته منحى روحيا، وهو عنده يمثل اتجاها مختلفا لفهم الأستاذ محمود، وهو فهم، كما يرى بدرالدين، يتحقق من خلال المعرفة الروحية الخاصة التي يدعو لها بدرالدين. إن كتابات بدرالدين تعبر عن طرح مشروع خاص، إذ تبدى لي من خلال قراءتي الأولية لكتابات بدرالدين أنه يقدم نفسه كصاحب مشروع، يقوم مشروعه على معرفة روحية خاصة، وقد ترسم بدرالدين طريقه ووضع مرتكزاته التي تنطلق من إرث البشرية في البعد الروحي والنقطة الأسمى في النسب، نسب الروح وعرقها. تمثل هذه المعرفة الروحية الخاصة ببدرالدين المدخل السليم لفهم الأستاذ محمود وفهم أنفسنا وفهم الكون والديانات...الخ، بيد أني أعتقد، اعتقادا خاصا ويقوم على قراءة أولية لكتابات بدرالدين، أن مشروع بدرالدين مهما كانت ملامحه ومآلاته ووجهته وغاياته ومهما تجلى نفاذ بصيرته وسمات أصالته فهو مشروع ينتهي عرقه الفكري ونسبه الروحي عند الأستاذ محمود محمد طه.)..

    وعلى ذكر (النسب الروحي) هذا، كنتُ قد سألت الفكي سؤالا لم يجبْني عليه، وهو:
    (حيث أن نسب الروح واحد، فيما يخص المعرفة الدينية الحق، فإنه من هنا يتفرع عن هذا أيضا، سؤال جانبي: هل نسب مشروع بدرالدين الروحي هذا، هو من نفس قبيل نسبك الروحي الذي ينتهي أيضا عند الأستاذ محمود، حسبما اكتشفته عبر مشروع كتابك هذا، أم أنه يختلف عنه؟؟)!!

    ثم، إني أوجه أسئلة أخرى الآن إلى عبدالله الفكي، بوصفه باحثا مستقلا (يقدم الوثيقة على الرغبة)، هي:
    (كيف يكون لمشروع السيمت الخاص (مهما كانت ملامحه ومآلاته ووجهته وغاياته ومهما تجلى نفاذ بصيرته وسمات أصالته) عرق فكري ونسب روحي بمشروع الأستاذ محمود، وهو يختلف معه اختلافا أساسيا وجذريا، بالمستوى الذي ذكره السيمت في كلامه أعلاه؟ وما هو دليلك من كتابات السيمت، أو من كتابات الأستاذ محمود، على وجود هذا (العرق الفكري) و (النسب الروحي)، خصوصا أن مشروع السيمت، مثلا، يبدأ من (نقطة تجاوز الأديان)، بما فيها الإسلام، ويقول إن شهادة (لا إله إلا الله) هي (شهادة زور) في حين يبدأ مشروع الأستاذ محمود من (نقطة التقاء الأديان) ويقول إن شهادة (لا إله إلا الله) هي (المحور الذي يدور عليه كل الدين)؟

    بل: كيف يمكن للفكي، الذي يزعم أنه (يقدم الوثيقة على الرغبة)، أن يصل من مجرد (القراءة الأولية) لكتابات بدرالدين، إلى يقين (قاطع) بوجود عرق فكري ونسب روحي، لمشروع بدرالدين (مهما كانت ملامحه! ومآلاته! ووجهته! وغاياته!) و (مهما تجلى نفاذ بصيرته! وسمات أصالته!)، بمشروع الأستاذ محمود؟ خصوصا أن بدرالدين أعلن بوضوح (اختلافه) كشخص، مع الأستاذ محمود، و(اختلاف) مشروعه أيضا مع مشروع الأستاذ محمود؟ علما بأن الفكي لم يقدم دليلا نصيا للقاريء يبرر (يقينه) هذا! أم لعله مكتوبٌ في أسس البحث (المستقل) أن يُلزم القاريء بما يعلنه الباحث من (يقين) و (جزم)، حتى وإن كان مستمدا من قراءة الباحث (الأولية)، دون أي دليل أو سند؟

    إن أخشى ما أخشاه هو أن تكون (قراءة الفكي الأولية لكتابات بدرالدين)، هي من قبيل (قراءة الفكي لكتاب محمد محمود)، على النحو الذي رأينا!

    وبعدُ: أعتبر هذه الحلقة نهاية مناقشتي لكتابات محمد محمود، و (تحامله)، في ظل إشادة عبدالله الفكي وتمجيده لكتابات محمد محمود ومنهجه، بسبيل من (إنصاف!) الأستاذ محمود! وسأواصل، بعون الله، لأختم بالنور، في الحلقتين السابعة والثامنة، حيث أورد مقتطفات من كلام الأستاذ محمود، بما يدمغ بصورة حاسمة، مزاعم محمد محمود، وتقوّلاته.

    إبراهيم عبدالنبي
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de