لافرق بين نظام الانقاذ مدعى الاسلام والنظام الامريكى الرأسمالى الوحشى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-09-2025, 04:20 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-10-2014, 06:06 AM

wadalzain
<awadalzain
تاريخ التسجيل: 06-16-2002
مجموع المشاركات: 4702

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لافرق بين نظام الانقاذ مدعى الاسلام والنظام الامريكى الرأسمالى الوحشى

    النظام الامريكى الرأسمالى الوحشى يدعى الديمقراطية والمساواة والحدب على حقوق الانسان والنظام السودانى الحالي جاء رافعا شعار " هي لله لا للسلطة ولا للجاه " ورافعا شعار " ربط قيم السماء بالأرض " ولكن هما ( اى النظام الرأسمالى الامريكى والنظام الاخوانى السودانى ) سواء من حيث الجوهر والمخبر ن كل يتغطى بخرق ليوهم الناس .


    Quote: انتقد تقرير لمجلس الشيوخ الأمريكي اليوم الثلاثاء، أساليب الاستخبارات الأمريكية "السي آي إيه" في استجواب المعتقلين. ووصف التقرير هذه الأساليب بـ"الوحشية التي كانت أكثر مما أقرت به" هذه المخابرات. وردا على التقرير، تعهد أوباما بألا تتكرر هذه الأساليب، معتبرا أنها أضرت بالمصالح الأمريكية بالخارج.

    انتقد تقرير لمجلس الشيوخ الأمريكي اليوم الثلاثاء أساليب الاستجواب التي استخدمتها المخابرات المركزية الأمريكية ضد المشتبه بهم في الإرهاب بعد هجمات 2001، ووصفته بأنه أكثر وحشية مما أقرت به الوكالة، وفشل هذه الأساليب بانتزاع معلومات تقود إلى إحباط أي تهديدات.

    وأفاد التقرير أن المخابرات المركزية الأمريكية ضللت الرأي العام وصانعي القرار بشأن البرنامج الذي قام اثنان من المتعاقدين الخارجيين بتطويره وتشغيله وتقييمه.

    وجاء التقرير في أعقاب تحقيق أجرته لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ على مدى خمسة أعوام بشأن هذا البرنامج الذي استهدف انتزاع معلومات من معتقلين تابعين للقاعدة وآخرين محتجزين في سجون في أنحاء العالم.

    وتقول المخابرات المركزية الأمريكية والكثير من كبار أعضاء الإدارة الأمريكية إن البرنامج فعال وأحبط عددا من المخططات الإرهابية.

    أوباما يتعهد بألا تتكرر هذه الأساليب

    وردا على التقرير، تعهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما اليوم الثلاثاء بألا يتكرر استخدام وسائل التحقيق القاسية ما دام موجودا. وقال إن تلك الأساليب أحدثت أضرارا بالغة بالمصالح الأمريكية في الخارج، ولم تخدم الجهود العامة لمحاربة الإرهاب.

    وجاء في بيان للرئيس الأمريكي أنه "بدلا من أن يكون تقرير اليوم سببا آخر في محاربة الأفكار القديمة آمل أن يساعدنا التقرير في ترك الأساليب في مكانها.. في الماضي."

    فرانس 24/ رويترز




    Quote:
    أوردت هيومان رايتس ووتش ان مسؤولين في جهاز الأمن السوداني مارسوا أشكال قاسية من التعذيب البدني والاعتداء الجنسي على أعداد كبيرة من المحتجين السودانيين الشباب عقب احتجاجات يناير وفبراير 2001 الماضيين. ووفقاً للإفادات الشخصية والمعلومات التي حصلت عليها هيومان رايتس ووتش، تعرّض الطلاب والشباب الذين جرى اعتقالهم، وبعضهم لم يتعد سن 18 عاماً، لأشكال قاسية من الضرب والصعق بالكهرباء واعتداءات أخرى تصل لمستوى التعذيب. وتورط مسؤولو أمن في اغتصاب فتاة من الناشطين في فبراير الماضي.

    وقالت هيومان رايتس ووتش إن على السودان إدانة استخدام التعذيب علناً، بما في ذلك العنف الجنسي وأشكال التعذيب الأخرى التي ارتكبها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني عقب الاحتجاجات الأخيرة. ويجب إجراء تحقيق فوري في هذه الجرائم ومحاكم المسؤولين عنها. كما يتعيّن على الحكومة السودانية أيضاً إطلاق سراح من لا يزالون رهن الإعتقال فوراً أو تقديمهم لمحاكمة مع ضمان الاحترام الكامل لحقوقهم كمعتقلين.

    وقال دانيال بيكيل، مدير القسم الأفريقي في هيومان رايتس ووتش، إن "هذه الادعاءات الخطيرة تظهر بوضوح أن جهاز الأمن الوطني لا يزال يستخدم التعذيب والمضايقة لإسكات المعارضة. وأضاف بيكيل قائلاً إن "السلطات السودانية في حاجة لاتخاذ إجراء فوري لوقف التعذيب وسوء المعاملة والمضايقة التي يمارسها جهاز الأمن الوطني".



    Quote:

    من إفادات مركز النديم بالقاهرة لضحايا التعذيب بالسودان

    على مدى عشر سنوات وفد إلى مركز النديم مئات من السودانيين ضحايا التعذيب، هم فقط بعض من أولئك الذين تمكنوا من الفرار من قبضة معذبيهم وسجانيهم، تاركين وراءهم آخرين، لا يعرف أحد عددهم حتى الآن، وربما لن يعرف أحد ذلك العدد أبدا. منهم من استشهد، ومنهم من لم يتمكن من الإفلات، ومنهم من مازال يقاوم. في البداية كانوا يأتون فرادى، ثم أصبحوا يأتون بالعشرات، وأخيرا بالمئات ولا يزالون يأتون. وعلى مدى تلك السنوات تواترت الشهادات والروايات، يحكونها. تتنوع وتختلف أحيانا، وتتكرر وتتطابق أحيانا أخرى، لكنها تتفق جميعها في بشاعتها وقسوتها. وأخذت أشكال التعذيب تتشكل أمامنا بتفاصيلها ودقائقها، ورغم عملنا لسنوات طويلة في هذا المجال، فقد كانت كثيرا ما تصدمنا وحشيتها، وقدرة القائمين على التعذيب على تنفيذها، وتكرار تنفيذها، وأحيانا الابتكار والتفنن في أدائها، وصولا إلى هدف التعذيب النهائي، وهو السحق التام للضحية. وتحقق أمامنا، بشكل مجسد، ما قرأناه في تقارير سابقة متعددة، عن قيام الحكومة السودانية بممارسة أبشع أشكال التعذيب في تاريخ السودان الحديث، وأن ممارسة التعذيب تم تعميمها على نطاق لم يسبق له مثيل، من حيث اتساعه، ومن حيث عشوائيته، وأنه يطال الجميع، سياسيين وغير سياسيين، معارضين وأفراد عاديين، وأنه يمارس ضد الأفراد، وضد جماعات بأكملها. وارتسمت أمامنا أيضا أنماط وأنواع من التعذيب يختص بها النظام السودانى، وجديرة بأن تنسب إليهم، وهى أنماط غير مسبوقة أو منقولة، ونسجل في هذا الكتاب بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر، كما يرويها ضحاياها، أو بالأحرى أبطالها، حيث انهم لم يسحقوا كما أراد لهم الجلاد. شهادات حية ليعرف الجميع ما يجرى من فظائع. ولنسجل أيضا للناجين منها معاناتهم المروعة وجهودهم الجديرة بالإعجاب، للمقاومة والتماسك من جديد، استطاع البعض عبور المحنة ولم شتات النفس والجسد، وتمسك بالحياة التي حاول الجلادون سحقها. استطاعوا الوقوف على أرجلهم ثانية لمتابعة الحياة. وسقط البعض تحت وطأة التجربة التي ليست كأى تجربة. لهؤلاء جميعا كرامة انتهكت، وحياة أهدرت، ومستقبل تحطم. لهؤلاء جميعا نتعهد على أن نعمل من أجل أن ينال الجلادون ما يستحقون، وأن يشهدوا محاسبتهم ومقاضاتهم وعقابهم. ليس تعويضا عما فعلوه بهم ، فهذا أمر لا يمكن تعويضه، وإنما انتصارا لإنسانيتهم ولإنسانية الإنسانية التي سوف تظل مهدرة، ما دام هؤلاء الجلادون أحرارا يعيثون في الأرض تعذيبا وإجراما.
                  

12-10-2014, 06:21 AM

wadalzain
<awadalzain
تاريخ التسجيل: 06-16-2002
مجموع المشاركات: 4702

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لافرق بين نظام الانقاذ مدعى الاسلام والنظام الامريكى الرأسمالى الوحشى (Re: wadalzain)

    في مفهوم " السيطرة " عند نعوم تشومسكى

    ( 1 )

    أعدّ تشومسكي في سياق نقد المفهوم في البداية قائمة صغيرة تتكون من عشرة نقاط تمحورت حول كشف الاستراتيجيات المتبعة من قِبل الأنظمة الرأسمالية الغربية التي تتسم بالحرية والديمقراطية في سبيل إحكام سيطرتها على الشعوب والمواطنين والتحكم في وعيهم، فقد تناقلت بعض المواقع إلى جانب بعض الناشطين حول العالم هذه القائمة فيما بينهم والتي اختزل فيها تشومسكي السياسات المتبعة عبر استخدام وتوظيف وسائل الإعلام لتحقيق تلك الغايات. وبعيداً عن إقحام منهجية استراتيجيات السيطرة تلك في سياق نظرية المؤامرة الرائجة بين العديد من الأوساط الاجتماعية، يستند التحليل الذي وضع بناءً عليه تلك القائمة إلى تفكيك منطق الرأسمالية ذاتها التي طوّرت مختلف الأدوات والوسائل الثقافية والإعلامية بهدف ضمانة وجودها وديمومة بقائها كمنظومة عالمية واحدة تدور جميع دول العالم في فلكها.

    استراتيجيات “السيطرة” ومقارباتها

    جاء في مقدمة هذه الاستراتيجيات المتبعة للسيطرة على الشعوب من قبل الأنظمة الليبرالية استراتيجية الإلهاء، بحيث تعمد هذه الأنظمة إلى تشتيت الوعي عبر بث فيض من الصور والمعلومات المكثفة باستخدام تكنولوجيا الشبكات التفاعلية والفضاءات الالكترونية، صور لا معنى لها ومعلومات لا قيمة فعلية تتضمنها سوى أنها تهدف إلى إلهاء المستخدمين لهذه التقنيات ونقل وعيهم من حيّز إدراك المشاكل وطرح الحلول البديلة إلى حيّز إدراكها والتكيّف معها في أحسن الأحوال، فهي استراتيجية تعمل بشكل رئيس على تفتيت الوعي الجماهيري عبر توجيهه نحو مسارات مختلفة ومتباعدة تضمن إفقاد ذاك الوعي اهتمامه بما يجري حول الجماهير من تقلبات في الظروف السوسيو-اقتصادية والمرتبطة بالقرارات السياسية، وبالتالي تحويل انتباه الرأي العام إلى قضايا فرعية وإشكاليات جزئية ضمن إطار المجتمع عوضاً عن القضية الكبرى والأساسية، وهي المنظومة الاقتصادية العالمية.

    خلق المشكلة ومن ثم تقديم الحلول السحرية لها، هي استراتيجية متبعة في سبيل تمكين السلطة الطبقية الحاكمة من تعميق سيطرتها كذلك، بحيث تعمل الأنظمة على اختلاق مشكلة في مكانٍ ما أو في قطاعٍ ما ومن ثم تسارع بطرح البدائل والحلول الاستثنائية لهذه الإشكالية المفتعلة، ويضطر المجتمع في مرحلة معينة أن يقبل بهذه الحلول درءاً للخطر عنه نفسه، على سبيل المثال، فقد تقوم السلطة بالسماح لانفلات أمني بمستوى محدد ومراقب بأن ينتشر في بقعة معينة لتقوم الأجهزة الأمنية بدورها بتعزيز صلاحياتها ودورها الرقابي في هذا المكان على حساب حرية المواطنين بذريعة حمايتهم وبناءً على طلباتهم المعنية بفرض الاستقرار، لكن الغاية الرئيسية من وراء ذلك تكمن في رغبة النظام بترسيخ وجوده وسطوته الطبقية، وقد تنتقل هذه الرغبة الجامحة إلى خارج نطاق الدولة لتقع تحت مسمّى “الحرب على الإرهاب” أو “الحرب الاستباقية” في حين أنها في الواقع لا تندرج إلا تحت مسمّيات وعناوين واضحة “كالإمبريالية” و”عسكرة الاقتصاد المعولم” و”التوسع في الأسواق” وغيرها. ومن ناحية أخرى قد تعمل السلطات أيضاً على ابتكار أزمة في السوق المالي أو قد تروج لأزمة مالية محتملة بحيث ينعكس الحل المثالي لهذه المشكلة المستعصية في انكماش على مستوى الخدمات العامة والخدمات الاجتماعية المقدمة للمواطنين، أو ربما في تفعيل حزمة من السياسات التقشفية التي تتمثل في زيادة نسبة الضرائب ورفع الدعم الحكومي عن المحروقات أو السلع الارتكازية. وكنموذج لذلك، قد تكون حكومة عبدالله النسور في الأردن أكبر شاهد على تطبيق هذه الاستراتيجية.

    تمتزج الاستراتيجية السابقة أحياناً بسياسة التدرج أو التسلسل في التطبيق، بحيث يتم تلقين المواطنين ما تتخذه النخب الحاكمة، والمتمثلة في التحالف الناشئ بين الطبقة البرجوازية على اختلاف أشكالها ومواقعها في السلطة مع السلطة ذاتها، من قرارات اقتصادية على وجه الخصوص، بشكل تدريجي وبطيء يسمح بأن يتقبل وعي المواطنين هذه القرارات التي تنحسر في خدمة طموحها ومصالحها الطبقية بحيث تعمل ضد مصلحة الفئة الفقيرة من المجتمع المنقسم عمودياً، فهي تعتمد هذه الطريقة بغرض جر المواطنين نحو القبول بالتغييرات الكبيرة نوعياً فيما يتعلق بالمنظومة الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية، والتي قد تؤول إلى اضطرابات اجتماعية يمكن أن تتراكم لتنتقل إلى ثورة أو انتفاضة تهدد استقرار هذه العلاقة الاستغلالية بين “الأغنياء” و”الفقراء” إذا ما تم تطبيقها وفرض التحوّلات وفقاً لها بشكل فوري وسريع. وربما تلجأ الأنظمة في حالات معيّنة إلى تأجيل جملة من القرارات بهدف تأخير الخسارة التي يدفعها المجتمع كنتيجة مباشرة لسياسات السلطة الحاكمة، فلذلك يميل المنطق الشعبي عادةً إلى الإقتناع الأعمى بأن “الغد أفضل” وما لم نبذله اليوم يمكننا تجاوزه غداً، وبالتالي يتم تجميد تناقضات الواقع الآني في عقل المجتمع لحساب زرع فكرة المستقبل الوهمي ونمط الحياة الرغيدة الذي تعمل الرأسمالية على الترويج له.

    وفي ظل الأنظمة الرأسمالية تتعامل السلطة من خلال وسائل الاتصال والإعلام الموجهة إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي مع الجماهير بصورة تبدو وكأنها تخاطب مجموعة من الأطفال من حيث المنطق، فهي تهدف من هذه النبرة الضمنية في الخطاب إلى تجريدهم الحس النقدي ومن ثم تستبق بذلك أي وعي معارض يقع خارج إطار النظام القائم ذاته، أي أنها تسلب الجماهير إرادتها الحرة ودورها الواعي والفاعل في التاريخ البشري تبعاً لذلك. وقد تعمد أحياناً وفي ذات السياق إلى استجداء العواطف كوسيلة للسيطرة بدلاً من استثارة وتفعيل العقل المادي الجدلي لدى الأفراد، والذي لا يقبل بالجمود والتوقف عند نقطة زمنية محددة مسبقاً من قبل الطبقة البرجوازية الحاكمة، حيث تسخّر الرأسمالية في سبيل ذلك وسائل الإعلام لترسيخ مفاهيم مشوهة من خلال تمرير مفردات وتعابير عاطفية الطابع تنطوي بمضمونها السوسيولوجي على اللاعقلانية السلوكية والتي تنعكس في المخاوف، الرغبات، التطلعات، السلوكيات العامة، وحتى في قراءة التاريخ ومجريات الواقع وأحداثه.

    وكاستراتيجة أخرى للسيطرة على الشعوب أيضاً تضمنت القائمة فكرة إغراق المجتمع في مستنقع من الجهل بل وإرغامه على استحسان الهمجية وقبول هذا الوعي بالغ الضحالة عبر تعزيز ثقافة النمط الاستهلاكي وترسيخها بشكل واسع في صفوف المجتمع ككل، في حين أنّ آليات الرأسمالية المتبعة في تجهيل الشعوب (في مراكزها وفي الأطراف على حد سواء) تتجلى عند المستوى الأكاديمي على وجه التحديد، حيث تذهب الأنظمة إلى خلق فجوة معرفية كبيرة من حيث نوعية التعليم، بصرف النظر عن التصدع الاجتماعي الناجم عن خدمات الترف والاستعراض المقدمة للمؤسسات التعليمية الخاصة، ذلك أن نهجها يرتكز بصورة عامة على التمييز بين عناصر عدّة تشكل قاعدة الثقافة المنتجة والوعي العلمي المستقل وتتمظهر في مستوى وأسلوب التعليم الذي تمنحه الجهات الحكومية في الدولة التي يهيمن عليها رأس المال للمناطق الفقيرة والأكثر فقراً، إضافة إلى التفاوت الكمّي والكيفي في المواضيع والمواد العلمية المقدمة بين العواصم والمناطق المركزية من جهة وبين المناطق المهمشة من جانب آخر، بحيث تبقى الطبقات المفقرة من المجتمع المستهدف على إثر هذا التقسيم المعرفي معزولة ثقافياً وعلمياً عن طبقة رجال الأعمال وأصحاب المصانع والشركات والأغنياء من أصحاب الملايين… إلخ.

    التمويل الأجنبي .. صيغة جديدة للسيطرة

    لجأت الرأسمالية منذ منتصف القرن العشرين إلى تحديث أدواتها التي تعمل من خلالها على فرض صيغة معينة من الهيمنة على دول العالم وأطرافه، صيغة كانت أكثر شمولاً من قبل بحيث لم يعد الاستعمار العسكري المباشر ناجحاً على نفس المستوى، فقد ذهبت الرأسمالية نحو الدفع بالجانب الثقافي من نمط السيطرة إلى المقدمة لينعكس بشكل رئيس في استراتيجية إخماد التناقضات الاجتماعية بالاستعاضة عن ثقافة الاحتجاج والتمرد وانتفاض الشعوب المقهورة ضدها بثقافة المعارضة الناعمة، وهو ما يتجلى بصورة مباشرة في منظمات المجتمع المدني الممولة أجنبياً وبرامجها المطروحة، حيث تعمل هذه المنظمات غير الحكومية على لعب دور حلقة الوصل بين المجتمع والدولة بأن تحمّل المواطنين مسؤولية تراجع الأوضاع المعيشية ومن ثم تقودهم إلى الإنخراط في عرض مسرحي مموّل من جهات مشبوهة يجمع بين الأفراد وصنّاع القرار ضمن أجواء أقرب إلى أن تكون دراماتيكية الطابع بحيث يصبح المواطن في هذه الحالة مسؤولاً عن نهج الحكومة وقراراتها الخاطئة ويترتب عليه بالتالي أن يطرح خياراته البديلة في حزمة من التوصيات يتم رفعها للمعنيين بذلك، ووفقاً لهذا المنطق في “السيطرة” الذي تنتهجه الدوائر الإمبريالية وتحشو عقول الناس به يومياً، يقوم المواطن بتوجيه أصابع الاتهام إلى ذاته في حال عدم التدخل في سياسات السلطة عبر هذه المنظمات الوسيطة بين (الدولة) التي تخلت عن دورها التاريخي من جهة، وبين (المواطن) الذي تنازل عن جذريته القادرة على التغيير من جهة أخرى مقابل الخوض في عملية من المفاوضات المفرغة موضوعياً من مضمونها الثوري المتمرد، تدور في حلقات مجوفة مع ذاتها، فهي تستعيض بذلك عن ثقافة الاحتجاج بالـ “حواريات” وعن الثورة بالـ “ندوات” التي ترتكز حول مفاهيم الديمقراطية والحرية بنموذجها الأمريكي المعاصر. قد تكون هذه الاستراتيجية أدهى وأخطر الاستراتيجيات من حيث المبدأ، فهي تحشر أفراد المجتمع في زاوية المعارضة من موقع الغرف والقاعات المغلقة وتضعهم في خانة الشعور بالذنب وتحمّل المسؤولية وبالتالي تدفعهم للمشاركة في مشروع الإصلاح والترميم الديمقراطي الذي تدير دفته منظمات غير حكومية تتلقى التمويل من مؤسسات إمبريالية، عوضاً عن التفجّر الاجتماعي الشامل في وجه السلطة الطبقية القائمة بغرض هدمها وإعادة البناء عليها.

    لاعقلانية السيطرة في العقلانية التكنولوجية

    أمّا الاستراتيجية الأخيرة في قائمة تشومسكي فقد جاءت في الغالب كاحتمال افتراضي في توصيفها لمفهوم “السيطرة” أكثر من أن كونها تعريفاً دقيقاً لعملية “السيطرة” على الشعوب وآلياتها، فهي تفترض أن الأنظمة الرأسمالية تفهم طبيعة أفراد المجتمع أكثر مما يفهمون أنفسهم على عدّة أصعدة، سواءً الفسيولوجية أو السيكولوجية، بحكم القفزة التكنولوجية والعلمية الهائلة التي وصل إليها المجتمع البشري من علوم تطبيقية، وذلك ما يخلق هوّة كبيرة بين الوعي العلمي الطليق اجتماعياً في عاميته وبين علوم النخبة المتقدمة حبيسة السلطة الطبقية القائمة والتي توظفها لصالحها، وبذلك يعمل النظام على عقلنة مفهوم “السيطرة” اللاعقلاني أساساً بوضعه في الإطار التقني له.

    ولئن كانت التكنولوجيا (بوصفها وسيلة وليست غاية) تعبيراً عن فهم الانسان للطبيعة وعن قدرته لتوظيفها، فإن منطق السيطرة ضمن نطاق العقلانية التكنولوجية يشكل تعبيراً عن فهم النظام للإنسان نفسه وعن إمكانية توظيفه، بالمعنى الواسع للكلمة، وبالتالي القدرة على ترويض الطبيعة وأفراد المجتمع في حزمة واحدة. أي أن النظام بمنطقه يحصر خيارات المجتمع في ثنائية الإنتاج والعقلانية التكنولوجية التي تندمج بشكل ضمني مع “التدمير” كضريبة للتقدم العلمي المطرد، ويقبع هناك على الجانب الآخر من هذه المعادلة، اللاعقلانية في منطق الرأسمالية والتي تتمثل في انكفاء المجتمع عن تبعيته للعقلانية التكنولوجية وكل ما تنتجه من تدمير لاعقلاني للطبيعة.

    إذن، فكما تمتلك العقلانية التكنولوجية للأنظمة الرأسمالية سلطة على الآلة التي تعكس لاعقلانية الأنظمة في منطق السيطرة على الشعوب باستخدام التكنولوجيا نفسها كوسيلة ناجعة، فهي تملك أيضاً سلطة على الأفراد بحكم معرفتها الوثيقة بهم ربما بصورة أوسع من إدراكهم لذواتهم، فالآلة ليست إلا عبد آخر في هرم العبيد الرأسمالي وظيفتها “كشيء” هي عقلنة عملية صنع العبيد “البشر” من رحمها والإلقاء بهم في دوامة السيطرة التي تحكمها فوضى الأسواق ورأس المال. وربما يتحدث هربارت ماركوزه في هذا السياق على أفضل نحو بتوصيفه لمنطق السيطرة في المجتمعات الصناعية المتقدمة من خلال مؤلفه المهم (الإنسان ذو البُعد الواحد): “إن العقلانية التكنولوجية لا تضع شرعية السيطرة موضع اتهام، وإنما هي تحميها بالأحرى، والأفق الأداتي النزعة للعقل يطل على مجتمع كلي استبدادي موسوم بالسمة العقلانية”.


                  

12-10-2014, 06:28 AM

wadalzain
<awadalzain
تاريخ التسجيل: 06-16-2002
مجموع المشاركات: 4702

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لافرق بين نظام الانقاذ مدعى الاسلام والنظام الامريكى الرأسمالى الوحشى (Re: wadalzain)

    مفهوم " السطرة " عند نعوم تشومسكى

    ( 2 )

    يشكّل الإعلام نقطة إرتكاز رئيسية تستند إليها الأنظمة الحاكمة في سبيل تمكين سيطرتها على الشعوب بصورة متكاملة الأبعاد، بحيث لا ينفصل فيها الجانب الإعلامي عما قمنا بطرحه سابقاً كاستراتيجيات للسيطرة على وعي الشعوب، وفي هذه الحالة يمثل الإعلام، سواءً المرئي، المسموع، أو المقروء منه، المركز العملياتي لهذه “السيطرة” بحيث يُعتبر الإعلام، بمختلف أشكاله، وسيلة لنقل خطاب الطبقة الحاكمة في ممارستها التضليل الآيديولوجي وتغييب الحقائق إلى فئات المجتمع ككل.

    وبسبب من شكل وطبيعة البنية الاجتماعية القائمة، ينطوي الإعلام أيضاً على جانب إقتصادي فيها يرمي إلى تعزيز الثقافات الاستهلاكية وبالتالي تضخيم أرباح الشركات المنتجة، وذلك عن طريق فيض مستمر من الصور والإعلانات، مما يعني توسيع قاعدة المستهلكين وتقليص القيمة الفعلية للسلعة نفسها في سياق خلق نزعات استهلاكية وهمية بالتزامن مع ذلك.

    ولكن تكمن أهمية الإعلام المصطنع – أو بعبارةٍ أخرى “الإعلام بوصفه صناعة” – في الدور الذي يقوم به على صعيد السياسة الخارجية بشكلٍ أكثر تأثيراً مما يقوم به على المستويات الاخرى. ويجدر بالذكر هنا أن الإعلام لا يمكن أن يكون محايداً في صيرورته موضوعاً إخبارياً، فهو ينحاز بالضرورة وبصورةٍ ما إلى أحد الأطراف، أي أن الإعلام لا يمكن أن يوجد وسط معركة ذات بُعد سياسي دون أن يكون منحازاً إلى أحد أطراف هذه المعركة، سواءً بشكل صريح وعلني أو بشكل ضمني، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ذلك ليس شرطاً يفنّد بموجبه موضوعية الإعلام، لكنه ينفي إمكانية وجود إعلام محايد.

    البروباغندا.. غياب موضوعية الإعلام

    “والأهم من ذلك وبخصوص ما يهمّنا هنا، الإعلام عادةً ما يزوّد إسهامه المستقل (لعملية البروباغندا) حتى بدون أن “يُستغلّ”، بالشكل وللأسباب التي ناقشناها. محلل إعلامي آخر، بين باجديكيان (Ben Bagdikian)، لاحظ أن الانحياز المؤسسي عند وسائل الإعلام الخاصة “لا يحمي فقط نظام الشركات. إنه يحْرِم العامّة من الفرصة لفهم العالم الحقيقي.”" – نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان \ صناعة التوافق

    تعمّدت الدول المتنازعة إبان الحرب العالمية الأولى، والثانية كذلك، إلى خلق وسيلة إعلامية تعمل من خلالها على تجريم وشيطنة الطرف الآخر ووضعه في خانة “المذنب”، بحيث ظهر مفهوم البروباغندا في ذلك السياق، أي بثّ الدعاية بصورة آلية موّجهة، لتستخدمه الدول في حربها موّظفةً الإعلام كأداة رئيسية لتلك الغاية، وبدأت بإنتهاء الحرب، حربٌ جديدة تعزز خلالها مصطلح “البروباغندا” وأصبح أكثر شيوعاً. كان الهدف الرئيسي من تلك الحملات التي دارت بين الولايات المتحدة بشكلٍ خاص وبين الجمهوريات السوفييتية المتحدة، هو تقويض الطرف الآخر النقيض في صراع الحرب الباردة بين القوى العظمى المتمثلة بالكتلة الشرقية وبالغرب الرأسمالي، ولكن أخذت تلك العملية بمنطق الأنظمة الرأسمالية أبعادً أخطر وأكثر شمولاً من المنحى السابق بحيث تحوّلت البروباغندا إلى وسيلة ليس فقط لتقويض النظام المناوئ، بل لإسقاط الشيوعية بحد ذاتها ومفهوم الثورة من عقول المواطنين وبالتالي دفن الاشتراكية من وعي الجماهير كضرورة تاريخية لتجاوز أزمات الأسواق وفوضاها.

    يذكر تشومسكي في كتابه أن أول عملية للتضليل الإعلامي والدعاية الحكومية ظهرت في التاريخ الحديث كانت في عهد إدارة الرئيس وودرو ويلسون للولايات المتحدة الأمريكية في العام 1916 وذلك خلال الحرب العالمية الأولى، حيث تشكلت لجنة تم إطلاق اسم “لجنة كريل” عليها تحت بند (لجان الإعلام الأمني)، عملت هذه اللجنة على تعبئة المواطنين الأمريكيين المسالمين وتجييشهم بحيث دفع ذلك إلى إجماعٍ عام للرأي على المشاركة في الحرب والقضاء على “العدو” الألماني لتخليص العالم منه وكل ما له صلة بذلك “العدو” الغاشم، وتمّت تلك العملية عبر إستثارة المشاعر القومية المتطرفة لدى المواطنين من جهة وعبر تزييف العديد من المعارك ونتائجها من جهة أخرى بحيث أثار ذلك مخاوفهم من الألمان وبالتالي قاد المزاج العام للمجتمع مدفوعاً بالخوف والتطرف إلى قبول مشاركة أميركا بالحرب.

    وبعد أن حققت تلك اللجنة غايتها التي كانت بمثابة إنجاز ونجحت في تحويل الشعب الأمريكي إلى مواطنين متعطشين للحرب والتدمير يسكنهم هاجس الذعر من الدُخلاء على المجتمع الأمريكي وتهديدهم للـ “حرية” في صيغتها الليبرالية، إنعكس إنجاز الإدارة الأمريكية هذا على الداخل بحيث تم تضييق الحريات بصورة مباشرة على الحركة النقابية والعمالية والصحافية والسياسية بالمُجمل بذريعة مجابهة “الرعب الشيوعي” كما أطلقوا عليه تلك التسمية. وأدت هذه الدعاية الموّجهة بإشراف الدولة وتأييد رجال الأعمال والمثقفين من طبقة الأغنياء إلى إحكام سيطرة الدولة على وعي المواطنين ومواقفهم السياسية بما يتعلق بالشؤون الخارجية أو المحلية على حد سواء. ولئن كانت البروباغندا تتطلب تشويه الحقائق والتزوير والتلفيق على الصعيد الإعلامي فإن ذلك يعني بالضرورة إنتفاء الموضوعية من المؤسسة الإعلامية، وضمن هذا التحليل تتجسد فكرة ماركوزه في مفهوم السيطرة حول المجتمع أحادي البُعد بمنطق أحادي الجانب تسيّره الطبقة الحاكمة.

    ديمقراطية الإعلام والعلاقات العامة

    يدّعي إدوارد بيرنيز، أحد أعضاء لجنة كريل، بأن الديمقراطية هي “إدارة الإجماع” أي إرغام المواطنين على تقبّل فكرةٍ ما والإقتناع بها عبر الدعاية، وأن من لديه القدرة والموارد لفعل ذلك هو طبقة رجال الأعمال الذين يسيطرون على أجهزة الدولة بما فيها الأجهزة الإعلامية، فالديمقراطية في شكلها الليبرالي هي ديكتاتورية غير مباشرة تصب في صالح الفئة الأقل من المجتمع التي تتركز لديها الثروة بصورة رئيسية، فهي تعتمد الأدوات “الديمقراطية” بتعريفها الطبقي الخاص لتحقيق الأهداف المنشودة، وما هذه الأهداف سوى قمع الطبقة العاملة وتثبيت أقدام الطبقة البرجوازية كسلطة حاكمة في ظل النظام الرأسمالي لتعزيز الاستغلال ومراكمة المزيد من الأرباح والأملاك.

    بالتزامن مع موجة الكساد الكبيرة التي طالت الاقتصاد الرأسمالي، حققت الطبقة العاملة الأمريكية أول نجاح تشريعي لها في العام 1935 بحيث تمخض عنه قانون عرف باسم “قانون واجنر” Wagner وذلك في عهد إدارة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وقد ضمن ذلك القانون حقّ العامل الأمريكي باعتراضه على السياسات التنظيمية للشركة التي يعمل فيها من خلال مندوبين يمثلونه، إلى جانب عدم قدرة أصحاب الشركات على إتخاذ أية عقوبات بحق العمّال المعترضين على لوائح تنظيم العمل والتي تمثل الآلية التشريعية المصغرة داخل الوحدات الإنتاجية، بحيث أثار هذا الإنجاز الكبير للحركة العمالية في أميركا مخاوف رجال الأعمال وأصحاب المصانع من تكرار هذا النجاح بما يهدد مصالحهم الطبقية.

    وحرصت الطبقة البرجوازية التي تسيطر على الدولة منذ ذلك النجاح العمّالي على عدم إعادة إستنساخ مثل هذا القانون الذي يقف في صف الطبقة العاملة، فهو يمثل انحراف ديمقراطي وفقاً لمنطق الرأسمالية، أي أن الديمقراطية الليبرالية لا يمكن توظيفها لهذه الغاية وإلا أصبحت تشكل تهديداً صريحاً على وجود النظام الطبقي القائم ككل، وبحكم أن الطبقة المسيطرة تضع يدها كذلك على المؤسسة الإعلامية كجزء من مؤسسات الدولة، فقد عملت على توظيف الدعاية والتزوير، إعلامياً، بغية تصفية الطبقة العاملة التي بدأت بتنظيم صفوفها منذ ذلك النصر التشريعي لها، بحيث قادت لجان الدعاية الحكومية حملات ضد الإضرابات العمالية تمظهرت على شكل حملات إنتاج للعلاقات العامة في أروقة المؤسسات البرجوازية الرسمية، والتي باتت بمثابة صناعة إنتاجية كبيرة يتم تخصيص ميزانية لها أكبر نسبياً من عدّة خطوط إنتاجية اخرى.

    أرادت السلطة أن تتأكد من أن الإنجاز القانوني للعمّال سيكون الأول والأخير من نوعه في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي كان لا بد لها من إستخدام “إدارة الإجماع” ودفع الرأي العام بالإتجاه الذي يكفل إضعاف الطبقة العاملة وتحركاتها، فقد شنّت الإدارة الأمريكية حملات دعائية واسعة النطاق هاجمت فيها العمّال المتظلّمين ووصفتهم بالمخربين الذين يقفون ضد المصلحة العامة ويهدفون إلى تمزيق نسيج المجتمع الأمريكي، دون اللجوء في تلك العملية إلى القوة والقبضة الأمنية المفرطة، فهي لم تعد وسيلة ناجعة في إخماد هذه الإحتجاجات العمّالية، بل اعتمدت البروباغندا كوسيلة أقل سفكاً للدماء وأكثر دقةً بتأثيرها على وعي المواطنين كبديل استعاضت به عن الهروات. ولئن كانت الطبقة التي تقود مثل هذه الحملات الدعائية بهدف قلب المعادلة ضد القائمين على الإضرابات والمحتجين بإظهارهم مظهر المخربين هي الطبقة البرجوازية، فإن وهم المصلحة العامة الذي يدافع عنه النظام هو بالضرورة مصلحة رجال الأعمال وأصحاب الشركات والمصانع، والحرية التي يتبجح النظام الرأسمالي كذلك في الحفاظ عليها هي حرية الاستثمار والاستغلال، وحرية حركة رؤوس الأموال ليس إلا.

    وبالتالي يصبح الإعلام في سياق البروباغندا أداة اخرى للسيطرة الطبقية في حلقة السيطرة الرأسمالية التي تتجلى بأعلى مستوياتها في طبيعة هيكل الدولة وأجهزتها عموماً، وتنقلب “الديمقراطية” تبعاً لذلك وسيلة لتفتيت المجتمع وتشتيت وعيه وإبقاءه مفككاً وغير منظم بذريعة أن المفاهيم التي على شاكلة “تنظيم سياسي” ، “إضراب” أو “مظاهرة” هي المرادف المباشر لحالة من الإضطرابات الاجتماعية التي تهدد إستقرار وأمن المجتمع، ولذلك أُطلقتْ الحملات الدعائية المزورة والتي ترمي إلى تشويه المطالب الحقيقية، المطالب التي تستند في أساسها النظري إلى إدراك التناقض الرئيسي والشروط المادية لإنتاجه، المطالب الواعية لطبيعة الصراع الطبقي في إطار المجتمع.
                  

12-10-2014, 06:56 AM

wadalzain
<awadalzain
تاريخ التسجيل: 06-16-2002
مجموع المشاركات: 4702

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لافرق بين نظام الانقاذ مدعى الاسلام والنظام الامريكى الرأسمالى الوحشى (Re: wadalzain)

    كتب الدكتور أحمد عثمان عمر الآتى :-


    الإخوان المسلمون والفشل الإستراتيجي!

    لا جدال في أن حركة الإخوان المسلمين في المنطقة العربية قد أصبحت ذات حضور مؤثر في الساحة السياسية، حيث صنفت مؤخراً كإسلام معتدل مرتبط إرتباطاً عضوياً بمحور الإعتدال العربي. وهي كحركة بشكل عام ودون إغفال لخصوصية بعض مكوناتها في بلدان بعينها، إنتهجت نهجاً تصالحياً مع فكرة الدولة المدنية ودولة سيادة حكم القانون، في مقاربة تطمينية للديمقراطيات الغربية والولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد. ولعلنا نصيب في حال إستنتجنا أن هذا الموقف الذي بدا وكأنه وليد الربيع العربي، له تاريخ أبعد من ذلك بكثير والشاهد على ذلك دراسات معهد السلام الأمريكي ومؤسسات البحث الفاعلة في صنع القرار الأمريكي منذ فترة بوش الرئاسية. فالإتجاه العام الذي ساد هو النقد المؤثر للحرب على الإرهاب التي اتخذت من القوة العسكرية وحدها آلية للتصدي للإسلام السياسي المتطرف، والمناداة بفهم أفضل لطبيعة المنطقة والتمييز بين هذا الإسلام والإسلام المعتدل، الذي لديه نفوذ مقدر ووجود إجتماعي مؤثر، يؤهله أن يكون بديلاً للأنظمة الديكتاتورية الفاسدة الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، وحليفاً مقتدراً لمحاربة الإسلام الأصولي المتطرف الجهادي المعادي للولايات المتحدة الأمريكية. هذا الإتجاه لم يغفل امكانية تحول الإسلام المعتدل لإسلام جهادي متطرف آخذاً في إعتباره تجربة أفغانستان، ولكنه غلب القدرة على إحتواء مؤشرات التطرف بالإمكان عبر الضغوط والآليات المتاحة مستشهداً بالتجربة السودانية ومعولاً على ماتم من إتصالات سرية طويلة الأمد مع حركات وثيقة الصلة بحركة الإخوان المسلمين وبرموزها ذوي العلاقة العضوية المؤثرة مع الدول المنخرطة في المشروع الأمريكي بالمنطقة.

    • العامل الإقتصادي كأداة للتحكم:
    بما أن الولايات المتحدة الأمريكية تقيم جميع تحالفاتها أو إن شئنا الدقة تنتقي أدواتها إستناداً لمدى إنخراطها وإبتعادها عن مشروعها بالمنطقة المتمثل في الحفاظ على منابع الطاقة وضمان الأسواق وإلحاق إقتصاديات المنطقة بإقتصادها من مواقع التبعية مع حماية دولتها الوظيفية المسماة إسرائيل بالمنطقة، فإنها لا تمانع في أن تكون أدواتها ذات لبوس علماني عسكري أو ديني أو حتى ماركسي. وهي في سياق حماية مشروعها ذاك، لا تستنكف من دعم حركة الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة بوصفها أكثر قوى الإسلام المعتدل تنظيماً وجماهيريةً وفاعلية، طالما أنها تستطيع لجم الإسلام الجهادي المتطرف الذي يخرج عن دائرة التوظيف من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عرابته وقابلته، مع إلتزامها بتحجيم حالة العداء العامة للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، والتخلي عن شعاراتها فيما يخص الكيان الصهيوني الغاصب، والقبول بدولة مدنية بخلفية دينية لا تدعو لتطبيق فوري وعاجل للشريعة الإسلامية وتنادي بالتدرج في التطبيق. ويبدو أن حركة الأخوان المسلمين قد قبلت الصفقة بدلالة الرضا الأمريكي الواضح عنها وإجتهاد القوى الإقليمية المنخرطة في المشروع الأمريكي في دعمها من أجل قلب الحكومات حتى ولو بالقوة العسكرية المدمرة للبلاد المستهدفة ، ودون الجميع تجارب مصر وتونس وليبيا وسوريا. ولعل الحركة تتوهم أن وصولها للسلطة في مرحلة للتمكين ، سوف يمكنها لاحقاً وبعد ترسيخ أقدامها من فرض برنامجها المضمر على الولايات المتحدة الأمريكية ، والعودة مجدداً للحديث عن تطبيق الشريعة الإسلامية والتخلي عن الدولة المدنية لصالح المشروع الأصلي بما يعيد مصداقيتها إليها، وأن تسفر عن وجه آخر فيما يخص موقفها من الإحتلال الإسرائيلي، وهذا الوهم ربما يصح في جزئه الأول حيث من الممكن أن تساند الولايات المتحدة الأمريكية ديكتاتورية دينية مقدسة بإسم الشريعة الإسلامية، طالما أن مصالحها مؤمنة وطالما التزمت الحركة بعدم معارضة جوهر مشروعها.

    وحتى يكون الأمر واضحاً، لن يكن مسموحاً للحركة بالحديث مجرد الحديث عن إستقلال إقتصادي، ولا وضع برامج للعدالة الإجتماعية هي بالأساس تفتقر إليها، ولا الإعتراض على التدخل الأمريكي السافر في شؤون المنطقة، ولا بناء قوات مسلحة مستقلة عن مركز التحكم الأمريكي، ولا نقد إسرائيل ولو لفظياً ، ولا التحكم في ثروات الأمم التي تحكمها وفصمها من المشروع الأمريكي وإخراجها من دائرة التبعية. فهي شاءت أم أبت ستظل أثيرة شعارات طهرانية بائسة، لن تصمد كثيراً في ظل سلطة مفسدة مربوطة بمركز الإفساد المالي والإقتصاد إقليمياً ودولياً، ولن يسمح لها بأن تحولها من يوتوبيا إلى واقع بأي صورة من الصور. وبما أن برنامج الحركة الإقتصادي من حيث محدداته العامة هو برنامج رأسمالي في جوهره بغطاء إسلامي، يتركز في القطاع المالي بصورة عامة وفي النشاطات الطفيلية لا القطاعات المنتجة، فهو بالحتم وبطبيعته يقود للتبعية للمتروبول المتحكم عالمياً ويصب الفائض الإقتصادي في خزائنه. وبما أن إستلامها للسلطة قد أعقب صعوداً ثورياً في بعض الأماكن كانت هي جزءاً منه منذ البداية أو إلتحقت بركابه وقطفت ثماره، في بلدان تعاني عجزاً إقتصادياً وفساداً مؤسسياً وسوء إدارة، تصبح الأزمة الإقتصادية في تلك البلدان أحد العوامل الرئيسية التي سوف تعطي المتروبول وممثلي مشروعه بالمنطقة القدرة على التحكم في الحركة وسلطتها ومنعها - حتى إن أرادت - من الخروج عن السقوف المحددة لها والتي بلاشك تخدم المشروع الإستعماري بالمنطقة. وسوف يظل العامل الإقتصادي واحتياجات الدولة التي تديرها الحركة ، أمراً حاسماً في توجيه سياساتها ومصر الدكتور محمد مرسي خير مثال.

    • الجيوش تحت السيطرة:
    الأداة الأخرى للتحكم بسلطة الأخوان المسلمين، هي الجيوش والأجهزة الأمنية المرتبطة إرتباطاً عضوياً بالولايات المتحدة الأمريكية، من حيث التسليح والتدريب والدعم والعقيدة العسكرية الممنوع أن تحول ضد المحتل الغاصب للأراضي الفلسطينية المحتلة. هذه الجيوش التي بنتها ديكتاتوريات فاسدة تابعة تبعية مطلقة للولايات المتحدة الأمريكية، لا تساوي شيئاً دون تسليح وتدريب ودعم أمريكي، مع ملاحظة أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بتسليحها أو تدريبها أو تمويلها من أي جهة أخرى. ومثل هذه الجيوش ولاؤها من ناحية عملية هو للمشروع الأمريكي في المنطقة، ولن تستنكف عن القيام بإنقلاب على سلطة الإخوان في حـال تعارضت مصالحها ومشروعها مع مشروع هذه السلطـة في أي لحظـة كانت. ونحن إذ نعمم هذه القراءة، لاننسى أن نؤكد بأن هذا الإتجاه العام، لايمنع وجود وطنيين كثر داخل هذه الجيوش، لا أحد يضمن عدم قيامهم بإنقلاب ذو توجه مضاد لسلطة الحركة والمشروع معاً، وفي كل الأحوال لن يقدم الإنقلاب العسكري حلاً لمشاكل الشعوب بالمنطقة، و سوف يخدم الإستعمار في نهاية المطاف. عموماً المؤسسات العسكرية التي تم أمركتها مبكراً وعملت الولايات المتحدة الأمريكية بجد وسط ضباطها وكادرها كالجيش المصري مثلاً، تمثل مع العامل الإقتصادي ضمانة ثانية لضبط حركة الإخوان المسلمين ومنعها من الخروج عن النص أوالتحول إلى مخرج بدلاً من الإكتفاء بدور الممثل في مسرح العبث الأمريكي. ويلاحظ حيثما كانت الجيوش غير مسيطر عليها أمريكياً يتم التخلص منها. ومثال لذلك حل الجيش العراقي وتسريحه، ضرب كتائب القذافي وتشتيت شملها واستبدالها بمليشيات أصولية تابعة للحركة والدول المنخرطة بالمشروع في المنطقة والمنسقة مع الناتو، وإستنزاف الجيش السوري ومحاولة تقسيمه وتشجيع وحداته على الإنشقاق مع الإستمرار في بناء مليشيات موازية تستميت قوى المشروع الأمريكي في محاولة توحيدها، لتنصيبها لاحقاً جيشاً بديلاً أسمته منذ الآن الجيش الحر في مقابل الجيش الوطني الذي أصبح إسمه كتائب أو قوات الأسد.

    • نفوذ الدول المنخرطة في المشروع الأمريكي:
    الضمانة الثالثة لمنع حركة الإخوان المسلمين من التململ أو الخروج عن قواعد الصفقة التي ارتضتها للوصول إلى السلطة، هي الدول المنخرطة في المشروع الأمريكي والداعمة للحركة مالياً وعسكرياً والمتبنية لمشروع إيصالها للسلطة. هذه الدول تمتلك أدوات متعددة للضغط على الحركة، منها إيقاف الدعم المالي والعسكري، والضغط الإعلامي الهائل والمؤثر عبر الأدوات الإعلامية المملوكة لها، وتوظيف الحركات السلفية التابعة لها والمؤثرة في المشهد السياسي ضد حركة الأخوان المسلمين في حال تمردها، بالإضافة للحصار الدبلوماسي الإقليمي والدولي الذي تستطيع هذه الدول تنفيذه في مواجهة أي بوادر تمرد. الأهم من ذلك هو أن هذه الدول لديها سيطرة مباشرة على المليشيات المنخرطة في عملية إسقاط الأنظمة والتي سوف تشكل بديلاً للجيوش النظامية بالبلدان المستهدفة، مما يعطيها سطوة ونفوذ غير مسبوق في تقرير السياسة الداخلية والخارجية لاحقاً. وتعويل الحركة على إخلاص عضويتها العاملة في هذه المليشيات وولائها للتنظيم في حالة الإختلاف مع الدولة الراعية للمليشيا، لايعدو حالة كونه وهم لا علاقة له بالمجرى العملي والطبيعي للأمور. ولا شك أن الدول المذكورة ليست منظمات خيرية، بل مؤسسات لها مصالح مباشرة وغير مباشرة، لا تتعاطى السياسة بخفة ودون نظر لموقعها في خارطة الصراع العالمي والإقليمي. فهي تعي دورها في سياق الإنخراط الكلي والمندفع في المشروع الأمريكي الذي لاتعتبر نفسها مجرد خادم أمين له، بل شريك أصيل لاوجود له في غياب هذا المشروع. فهي تتعاطى مع المشروع المذكور على أنه مشروعها الذي يكفل لها الإستمرارية والتحكم والإزدهار، ولا تنفق عليه من باب التبعية والغباء السياسي، بل تموله بوعي ومعرفة تامة للأثمان التي سوف تدفعها في حال فشله، مايجعلها تستميت في الدفاع عنه. والناظر لحركة الإخوان المسلمين وإمكانياتها في كل بلد على حدة أو في حال تجمعها كجسم متعد للحدود الإقليمية، يجد أن حاجتها للدول المنخرطة في المشروع الأمريكي لإدارة دول لا حركات سياسية تمارس العمل الخيري لأهداف سياسية ، امراً بادياً للعيان. خصوصاً وانها لا تمتلك إعلاماً مؤثراً كتلك الدول، ولا مركزاً مالياً يسمح لها بالإستقلال، ولا تجربة في السلطة وخبرة تتيح لها مجالاً للمناورة السياسية. فالنماذج التي أمامها لإسلام سياسي سني في السلطة، هي تجربة طالبان الأفغانية والتجربة السودانية وليس فيهما مايعين على إدارة دول في ظل واقع متعدد ومتجدد وشديد التعقيد. فللخروج من نفوذ الدول المنخرطة في المشروع الأمريكي بالمنطقة لابد أولاً من مصالحة شاملة مع شعب كل دولة على حده، وإنجاز تحالف واسع يضم كل القوى الوطنية ليس لأسباب تكتيكية بل إستراتيجية، وإنجاز تحالف إقليمي ودولي مع دول مناوئة للمشروع قادرة على دعم وحماية سلطة الإخوان . وهذا مالا تستطيع الحركة إنجازه لإنعدام الثقة بينها وبين القوى الوطنية أولاً، ولتجارب الدول الممانعة بالمنطقة معها وتعارض مصالح بعض أطرافها بالمنطقة مع مصالح تلك الدول، بعد أن قصرت هذه الأطراف همها الأوحد في الوصول للسلطة بأي ثمن دون النظر للمآلات، متوهمة إن مجرد وصولها للسلطة يتيح لها سيطرة شاملة على المجتمع تمكنها من تنفيذ رؤيتها، إعمالاً للمبدأ الأصولي "إن الله يزع بالسلطان مالايزع بالقرآن". ولسنا في حاجة للقول أن سكرة الفرح التي تنتاب الحركة نتيجة لدعم الدول المؤثرة والنافذة المنخرطة في المشروع، سوف تزول سريعاً عندما تعارك السلطة وتجد ألا مناص أمامها من تنفيذ المشروع شاءت أم أبت.

    وبالطبع ليس أمام الحركة من سبيل للفكاك من هيمنة الدول المنخرطة في المشروع الأمريكي بعد أن تصبح سلطة، إلا في حال ما إذا قررت تلك الدول أن تتحول فجأة إلى منظمات خيرية، أو أن تتخلى بلا مبرر عن المشروع الذي تعتبره أصل وسبب إستمراريتها ومفتاح نجاحها، أو أن تحدث تحولات داخل تلك الدول تسمح لحركة الإخوان المسلمين أو حلفائها بإستلام السلطة في تلك الدول، أو بخروج تلك الدول والإمبريالية الأمريكية من المعادلة السياسية بالمنطقة عبر هزيمة واضحة أمام المعسكر المعادي لها سواء أكان ذلك سلماً أوحرباً. والواضح ان الرهان على أن هذا الأمر حتى في حال حدوثه، يستلزم أن تقبل القوى المنتصرة الحركة كشريك أو على أقل التقدير جهة غير معادية حتى تستطيع الإستمرار في سلطتها ناهيك عن النجاح في إدارة البلدان التي تحكمها بفاعلية تكرس وجود حكم رشيد يؤسس لعدالة إجتماعية مفقودة.

    • النفوذ الإمبريالي والعقوبات:
    الضمانة الرابعة لإستيعاب الحركة الكلي في المشروع الأمريكي قدرة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين على الضغط على الدول الضعيفة التي تحكمها الحركة عبر الطرق الدبلوماسية والمنظمات الدولية والإقليمية المنخرطة في مشروعها كالجامعة العربية، مع التلويح بالعقوبات الإقتصادية وربما التدخل العسكري لاحقاً. كذلك توظيف الدولة الوظيفية المسماة إسرائيل والمرشحة لقيادة المنطقة كمصدر للتهديد والوعيد ووضع الدول المستهدفة في محيطها في حال من القلق الدائم من حروب مكلفة ودمار مؤثر. يلاحظ أن الحركة عبر فرعها حماس مدعوة الآن لإنجاز تسـوية تاريخــية مع الكيان الإسرائيلي لتصفـــية القضــــية الفلسطينية عبر إنشاء دويلة مستوعبة إسرائيلياً في القطاع وجزء من الضفة الغربية، وربما يضاف إليها الأردن بالتنسيق مع حركة الإخوان المسلمين هناك، لإنجاز وطن بديل للفلسطينيين الذين يطالبون بحق العودة.

    النفوذ الإمبريالي المؤثر والقادر على عزل الدول إقتصادياً بهدف تركيعها، يبني تكتيكاته وإستراتيجيته على فهم عميق لدور العقوبات الإقتصادية ومدى أهمية جماعيتها. فالذي لاحظ أن العقوبات الإقتصادية المنسوبة لمبادئ ويلسون ذات تأثير مدمر على الشعوب لا الحكومات كان جون فوستر دالاس ورأيه معلوم لكل الإدارات الأمريكية. ولكن هذه الأخيرة تستخدم هذه العقوبات بوعي وتدبر، لإحداث أكبر ضرر ممكن بالشعوب حتى يصبح الضغط على السلطة المستهدفة خارجياً ناشئاً عن العزلة الدبلوماسية والإقتصادية، وداخلياً من تملل الشعوب المتأثرة بالحرب الإقتصادية المسماة عقوبات إقتصادية دولية، غالباً ماتسعى الإمبريالية لإعطائها طابعاً دولياً جماعياً عبر علاقاتها المالية والإقتصادية المتشعبة، وفرض العقوبات على من لا يلتزم بتلك العقوبات ويصر على التعامل مع الدولة المستهدفة . فالمعلوم هو أن جماعية العقوبة في القانون الدولي والتزام المجتمع الدولي بها، يعطيها بعدها القانوني المتنازع فيه عند بعض المنظرين، ويجعلها ذات أثر وفاعلية ويخرجها من دائرة رد الفعل والإنتقام إلى رحاب المشروعية والقبول.

    وفي حال فشل العقوبات الإقتصادية والحصار الإقتصادي المفروض على الدولة المستهدفة، يبقى دائماً خيار الحرب الذي لاتتوانى الإمبريالية في اللجوء إليه حتى ولو بالمخالفة الصريحة لأحكام القانون الدولي وتجربة العراق شاهدة على ذلك. فالحرب التوسعية كالحروب المتنقلة ونشر التوتر، تبقى دائماً خياراً قائماً بالنسبة للإمبريالية. وذلك لأن الإمبريالية تحمل دائماً جوهراً عدوانياً محصلته حروباً توسعية حتى ولو بالوكالة. والناظر لخارطة الشرق الأوسط يرى أنها استخدمت العدوان المباشر والإحتلال بوصفها كدول أو عبر أداتها المتمثلة في حلف شمال الأطلسي العدواني وذلك في العراق وأفغانستان وليبيا، كما أنها تمارس حرباً بالوكالة الآن في سوريا عبر دعم المعارضة المسلحة المسنودة بمرتزقة من كافة دول العالم.

    والمتأمل في طبيعة حركة الإخوان المسلمين بصفة عامة وسماتها المشتركة، لا يجد لديها برنامجياً إقتصادياً معارضاً من حيث الجوهر لبرنامج الإمبريالية الإقتصادي، كما لايجد لديها مقومات ذاتية أو تحالفات إقليمية ودولية، تسمح لها بالصمود في مواجهة هجمة أي عقوبات إقتصادية أو تساعدها في صد أي هجوم عسكري مباشر أو بالوكالة. وهذا بالطبع يجعلها لقمة سائغة للإمبريالية العالمية في جميع الأحوال، ويركنها بين خيارين أحلاهما مر هما: التبعية والإستسلام، أو الإستعداد لمفارقة مقاعد الحكم والتحول لمعارضة هي زاهدة فيها بعد أن أينعت لها السلطة وحان القطاف. فالأمر الذي دفعها للمساومة منذ البداية والقبول بصفقة السلطة مع هدنة طويلة على الأقل، هو رغبتها الجامحة في الوصول للسلطة دون إدراك لتعقيدات ماتتطلبه هذه السلطة وفي غياب تام للتجربة والدراية بشؤون الحكم. وهذا لا يؤهلها لرؤية المخاطر الإستراتيجية على مشروعها إن كانت جادة في دعوتها لإحياء دولة المدينة وإن كان هذا الإحياء ممكناً بالأساس. فقبول الحركة بالصفقة مع الإمبريالية وإن كان تكتيكياً في نظرها، يحتم القول بأن تحويل وهم إحياء دولة المدينة لواقع في ظل التحكم الإمبريالي هو الإستحالة بعينها لا أكثر ولا أقل.

    • نذر الفشل الإستراتيجي:
    الأدوات أو الضمانات الأربع المنوه عنها أعلاه، تعني ببساطة أن صعود حركة الإخوان المسلمين لايعني بأية حال أنها مطلقة اليد في تنفيذ إستراتيجيتها المزعومة الملخصة في شعار "الإسلام هو الحل"، بل هي مقيدة بنمط إسلام معين لا يتجاوز الخطوط الحمراء الموضوعة من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وهذه الخطوط أهمها عدم الإقتراب من التبعية الإقتصادية أو البحث عن إستقلال إقتصادي يعد شرطاً لازماً لتحقيق العدالة الإجتماعية، والمحافظة على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والإنخراط في مشروعها لإستمرار توفير الطاقة الرخيصة والمحافظة على الأسواق بالمنطقة، وتقديم التنازلات المطلوبة في مواجهة الكيان الصهيوني التي تقود لتصفية القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقات لتمكين الكيان من قيادة المنطقة، ومحاربة الإسلام الجهادي المنفلت الخارج من عباءة الجهاد الموظف أمريكياً. والواضح هو أن الحركة ليس أمامها في ظل تعقيدات الحكم وضرورات السلطة في دول العالم الثالث المشدود وثاقها، إلا أن تنخرط في المشروع الأمريكي وفقاً لشروطه، أو أن تستعد لمجابهة هذا المشروع في حال أن لديها إستراتيجية بديلة. فإذا كانت إستراتيجيتها هي الإستراتيجية الغارقة في أحلام البرجوازية الصغيرة الرامية لإعادة بعث دولة المدينة بعدالتها الإجتماعية وإستقلال قرارها السياسي ونزوعها التوسعي عبر الفتوحات ، فإن مصيرها الحتمي هو الفشل أو التفشيل من قبل المشروع الأمريكي، خصوصاً وأن نفوذها الجماهيري قد قيض لها سيطرة ولم يمكنها من الهيمنة الإجتماعية. أما إذا كانت قابلة للمساومة على مبادئها وتصورها المبذول بمحددات عامة منذ زمان طويل، والتخلي عن جوهر دولة المدينة لصالح دولة الإخوان المسلمين، فالولايات المتحدة الأمريكية لن تمانع في تركها تطبق مشروعها لأسلمة القطاع المالي مثلاً بصورة تدريجية، وتطبيق بعض العقوبات الحدية مستقبلاً، أو حتى إقامة دولة دينية متنكرة في زي دولة مدنية مع إقرار شكلي بالتعددية وبقبول الدولة المدنية، يفضحه الحديث عن التطبيق المتدرج للشريعة الإسلامية ورفض العلمانيين والعلمانية في الجلسات المغلقة مثلما فعل المفكر راشد الغنوشي مؤخراً. وسواء أكان الغنوشي يقصد من حديثه مجاراة ممثل السلفيين الذي كان يتحدث إليه ومخاطبته وفقاً لوسعه وماعونه حتى يستقطبه لنظرية التدرج في تطبيق الشلايعة الإسلامية بدلاً من نظرية التطبيق الفوري السلفية تخفيفاً من غلواء الأخيرة ولا منطقيتها، أو أنه كان يعني مايقوله بإعتباره موقفاً إستراتيجياً من القوى العلمانية يعكس إزدواجاً في خطاب حركة النهضة بإعتبارها الأكثر تطوراً من صويحباتها، فإن الضرر الكبير الذي لايمكن تلافيه قد وقع. فهو قد ملك المشككين في مواقف الإسلام السياسي من الدولة المدنية القائمة على المواطنة والتي تسع جميع مواطنيها من مسيسي الإسلام والعلمانيين، سلاحاً مؤثراً لن يزول بالمحاولات التصحيحية. وفي نفس الوقت قرع الأجراس لمن ينظرون للتحالف مع الإسلام السياسي في الغرب الذين لم يستفيقوا حتى اللحظة من صدمة إغتيال السفير الأمريكي في بنغازي حاضرة الثورة المحمولة على أكتاف الأطلسي والمدعومة من الدول المنخرطة في المشروع الأمريكي.


    • إختيار الرضوخ للتحكم:
    في تقديرنا أن حركة الإخوان المسلمين ليست ذاهلة عن المخاطر الإستراتيجية التي تقودها إلى التخلي عن أحلامها أو أوهامها في إستعادة دولة المدينة مستحيلة العودة، ولكنها راغبة في إحداث تحول عميق في فكرها السياسي دون أن تدفع ثمن هذا التحول بإعلان القطيعة مع الماضي. فهي بوعي منها أو إن شئنا الدقة بوعي من قياداتها الفاعلة، إختارت التخلي عن الأوهام والتعامل بواقعية تسمح لها بالوصول للسلطة كهدف مركزي ووحيد، حتى وإن كان هذا الوصول يحتم التخلي عن الرؤية الإستراتيجية لصالح دولة تتعايش مع المشروع الأمريكي وتقدم التنازلات على مستوى برنامجها الإستراتيجي. وربما أن بعض قطاعاتها ترى أن هذه التنازلات مؤقـتة ومحكومة بشـروط هي إلى زوال يوماً ما، وعلـيه من الأفضــل القبول بالشـروط مع الصعود للسلطة والتقدم لموقع الهجوم لحين حدوث تحول يتيح العودة للبرنامج الإستراتيجي . ولكن هذا التصور يتجاوز ما سيخلفه الصعود للسلطة مع الفشل في معالجة مشكلات الجماهير والتخلي عن الوعود والشعارات التي حملت الحركة للسلطة من مشكلات مستعصية على الحل، وفشل حتمي فيما إذا بقيت الحركة وفية للتحول في خطابها وقبولها بالدولة المدنية وصناديق الإقتراع كوسيلة وحيدة للوصول للسلطة.

    وربما لا ترى الحركة أن رضوخها المرحلي سوف يقودها حتماً إلى فشل إستراتيجي، وذلك تعويلاً على مقدرتها في الصعود بنفسها أو عبر قوى متحالفة معها للسلطة في الدول المنخرطة في المشروع، بحيث تصبح قادرة على دعم الحكومات التابعة للحركة التي تحكم بعض البلدان الآن، وتنفك من الضغط الإقليمي ويصبح تأثيرها كبيراً بحيث ترتضي الإمبريالية العالمية بصفقة أكثر فائدة لها تسمح لها بتنزيل تصورها وشعاراتها التاريخية لأرض الواقع. ولكنها تنسى أن الإمبريالية لن تسمح لها بإنجاز مثل هذا التغيير دون التأكد من إنصياعها التام لمشروعها حيث أنها متواجدة عسكرياً في تلك الدول وتستطيع أن تحسم أي محاولة للوصول إلى السلطة من أي جهة لا ترضى عنها. أو ربما تكون الحركة تراهن على إنهيار سريع للدول الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية آخذة في إعتبارها الأزمة الرأسمالية الراهنة والركود غير المسبوق لإقتصاديات المتروبول، وهذا الرهان الذي يتبناه البعض لايأخذ في إعتباره تعقيد العامل الإقتصادي ولا تداخل الإقتصاد العالمي ولا أثر هذا الإنهيار الذي لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها. فالأمر له جدليته الخاصة ولا تكفي نذر أو شواهد دورية في القول بحتمية حدوثه الآن أو في فترة قصيرة المدى. وخلاصة الأمر هي أن الحركة قد إستكانت للرضوخ لنفوذ المشروع الأمريكي والتعايش معه كسلطة مكسورة الجناح في مواجهته، لا مناص من أن تستقوي به في مواجهة شعبها، بل لامناص أمامها من أن تنصاع له إذا أرادت أن تدير بلادها في حدود كفاءة الإدارة الفاسدة التي سبقتها وكنستها الإنتفاضات لا أكثر.


    • المأزق وحتمية الفشل:

    من وجهة نظرنا الحركة في مأزق كبير وفي وضع لاتحسد عليه. فهي حديثة عهد على سلطة سياسية في بلدان بمنطقة مستهدفة من المركز الإمبريالي صاحب المشروع الإستغلالي المدعوم محلياً، مما يجعلها بين مطرقة ذلك المشروع وسندان الحركة الجماهيرية صاحبة الطموح المشروع في التحرر من الإستعمار الحديث وإنجاز عدالة إجتماعية وسياسية تقيض لحياة كريمة لشعوب المنطقة. فهي إستعجلت الوصول للسلطة بأي ثمن حتى وإن كان الوقوع تحت براثن المشروع الأمريكي والتحول لجهة جديدة منخرطة في مشروع لطالما ادعت محاربتها له ووقوفها في وجه توسعه واستبداده، بغض النظر عن صدق هذا العداء من عدمه. والنتيجة التي لامناص منها هي الفشل في تنفيذ أياً من وعودها وشعاراتها التاريخية، مع الفشل في تقديم إجابات على الأسئلة الأساسية التي تهم الجماهير . والنتيجة هي أن الصدام بين الحركة و الحركة الجماهيرية قادم وربما بسرعة لاتتوقعها حركة الإخوان المسلمين. فالدعم الذي تحصل عليه من المشروع الأمريكي وأنصاره هو دعم ذو سقوف وليس مجانياً، يستلزم إنخراطاً تاماً في ذلك المشروع المعادي موضوعياً لمصالح الجماهير، مما يحتم وقوع الصدام.

    د. أحمد عثمان
    18/10/2012م
                  

12-10-2014, 07:16 AM

wadalzain
<awadalzain
تاريخ التسجيل: 06-16-2002
مجموع المشاركات: 4702

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لافرق بين نظام الانقاذ مدعى الاسلام والنظام الامريكى الرأسمالى الوحشى (Re: wadalzain)

    كتب الدكتور التجانى عبدالقادر ( احد أبناء الحركة الإسلامية في السودان )

    الرأسماليون الإسلاميون: (1-2)
    ماذا يفعلون فى الحركة الإسلامية؟
    د. التجاني عبد القادر mailto:[email protected]@yahoo.com
    (1)
    أشرت فى مقال سابق إلى إرهاصات تحول إستراتيجى وقع فى مسار الحركة الإسلامية، وذكرت أنه صار يتجسد سياسيا فى تحالف ثلاثى بين "القبيلة" و"السوق" والذهنية الأمنية"، ثم تحدثت فى مقالين تاليين عن هذه الذهنيةالتى هيمنت على التنظيم وحولت سائر نشاطه الى ملفات أمنية، وأريد فى هذا المقال أن أتحول الى السوق، لنرى ظاهرة أخرى تتمثل فى "الذهنية" التجارية وفى العناصر الرأسمالية التى صارت هى الأخرى تنشط وتتمدد حتى كادت أن "تبتلع" الجزء المتبقى من تنظيمنا الإسلامى الذى لم ننضم اليه أصلا الا فرارا من الرأسمالية المتوحشة.
    ولما كان الشىء بالشىء يذكر، فقد كتب صديقنا عبد المحمود الكرنكى،الصحفى والملحق الإعلامى السابق بلندن، كتب ذات مرة فى أوائل الثمانينات مقالا لصحيفة الأيام تعرض فيه بالنقد لممارسات بعض "أخواننا" العاملين فى بنك فيصل الإسلامى. كانت رئاسة الصحيفة قد أوكلت آنذاك، ابان ما عرف بالمصالحة الوطنية، الى الأستاذ يسين عمر الإمام. وقبل أن ينشر الموضوع وصل بصورة ما الى الدكتور الترابى، فلم يعجبه وطلب من الكرنكى أن يعرض عن نشره، على أن يبلغ فحواه الى "أخوانه" فى البنك على سبيل النصيحة. قال له الكرنكى: لن أنشر الموضوع احتراما لرأيك، ولكنى لن أتقدم بأية نصيحة لأحد. ولما سأله الترابى عن سبب ذلك، قال له: هب أنى تقدمت اليهم بنصيحة، ثم تقدم اليهم "الأخ" الطيب النص بنصيحة أخرى، فبأى النصيحتين يأخذون؟ وكان الطيب النص آنذاك من التجار/المستثمرين الكبار الذين يحبهم مديرو البنوك، ويطيلون معهم الجلوس، ويولونهم إهتماما لا يولون معشاره لأقوال الصحف والصحفيين، خاصة الفقراء منهم. وقد أحس الكرنكى بذلك وأدرك أولا أن بعض "أخواننا" قد داخلهم "شىء ما" أفقدهم القدرة على تذوق النصيحة "الناعمة" والموعظة الحسنة، كما أدرك ثانيا أن العلاقة بين التنظيم والسوق، والتى يمثل(اكس) "همزة الوصل" فيها، قد بلغت من القوة مبلغا لا تجدى معه المواعظ الأخوية والنقد السرى. والسيد (اكس) ليس هو التاجر المجرد، وانما هو تاجر"إسلامى"، وهو حينما يذهب الى موظفى البنك "الاسلامى"، أو الى العاملين فى مرافق الدولة لا يذهب كما يذهب عامة التجار وانما يذهب ومعه هالة التنظيم، ليتوصل الى مصالحه الخاصة، وهذا هو مربط الفرس وبيت القصيد، أى أن "المصالح الخاصة" التى تتخذ لها غطاء من "التنظيم" هى محل الإشكال وموضع النظر فى هذا المقال.
    والسؤال هنا: كيف بدأت العلاقة بين التنظيم والسوق؟ وفى أى اتجاه تطورت، والى أى شىء يتوقع لها أن تقودنا؟ أظن أن بداية هذه العلاقة تعود الى فكرتين بسيطتين احداهما صحيحة والأخرى خاطئة. أما الفكرة الأولى الصحيحة فهى أن اصلاح المجتمع السودانى أو اعادة بنائه على قواعد الاسلام وهديه(وذلك هو الهدف الأساسى للتنظيم) يستلزم تجديدا فى الفكر الاسلامى ذاته، تتمخض من خلاله رؤية تحريرية-تنموية، يتوسل بها لانتزاع الإنسان السودانى من براثن الجهل والمرض والفاقة، وذلك من خلال بناء نماذج فى التنظيم والقيادة، ونماذج فى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية تكون كل واحدة منها "بؤرة إشعاع" يلتقى فيه الهدى الدينى، والعرف الإجتماعى، والخبرة التقنية،والقيادة الرشيدة. ولكن العمليات البنائية هذه لا تكتمل إلا بتنظيم دقيق ومال وفير، فهما وسيلتان أساسيتان من وسائل التحرر والنهضة الإجتماعية الإسلامية، ولكن لا ينبغى للوسيلة "التنظيم" أن تتحول الى هدف، كما لا ينبغى أن تكون للعاملين على تحقيق هذه الوسائل "أجندة خاصة"، كأن يتحولوا هم الى أغنياء ثم يتركوا التنظيم والمجتمع فى قارعة الطريق.
    أما الفكرة الثانية الخاطئة فهى أن "التنظيم" لا يكون قويا الا اذا صار غنيا، ولن يكون التنظيم غنيا فى ذاته وانما يكون كذلك اذا استطاع أن يأخذ بعض المنتسبين اليه "فيصنع" منهم أغنياء، بأن يضعهم على قمة المؤسسات الإقتصادية:مديرون لبنوك، ورؤساء لمجالس الإدارات والشركات، ومستشارون قانونيون، وفقهاء شرعيون ملحقون بالبنوك، فيصير هؤلاء أغنياء ليس عن طريق الرواتب الكبيرة والمخصصات السخية فحسب وانما عن طريق السلفيات طويلة الأجل، والقروض الميسرة، والمعلومات الكاشفة لأوضاع السوق ولفرص الإستثمار. هذه الرؤية الخاطئة لم أستطع أن أتحقق من مصدرها بعد، ولكنى أذكرها لأنها صارت رؤية سائدة وذات جاذبية كبرى، وكان من نتائجها أن تولد لدينا "مكتب التجار"، ليكون بمثابة الأصابع التنظيمية فى السوق، ثم تحولت "إشتراكاتنا" الصغيرة الى شركات(كيف؟ لا أدرى)، ثم صارت كل شركة صغيرة تكبر حتى تلد شركة أخرى، ولما لوحظ أن عددا كبيرا من العضوية الإسلامية ميسورة الحال يوجد فى السعودية وفى دول الخليج الأخرى، أنشأ "مكتب المغتربين"، ليقوم بجمع الاشتراكات، ثم تحولت وظيفته بصورة متدرجة الى ما يشبه الوساطة التجارية والوكالة والإستثمار. ولما لوحظ تكرر المجاعات والكوارث فى السودان، أنشئت أعداد من المنظمات الخيرية التى تهتم بالعون الإنسانى، ولكنها تركت لأصحاب العقلية الرأسمالية التوسعية، فصار القائمون عليها فى كثير من الأحيان ينحدرون من الشريحة التجارية ذاتها؛ الشريحة التى تتخندق فى البنوك والشركات والمكاتب التجارية.
    ثم جاءت ثورة الإنقاذ، فكانت تلك هى اللحظة التأريخية التى وقع فيها التلاحم الكامل بين الشريحة التجارية المشار اليها، والمؤسسات الإقتصادية فى الدولة، فمن كان مديرا لبنك البركة صار وزيرا للمالية والإقتصاد، ومن كان مديرا لبنك فيصل صار محافظا لبنك السودان المركزى، ومن كان مديرا لشركة التأمين الإسلامى صار وزيرا للطاقة، فاذا لم يصب فيها نجاحا خلفه عليها مدير بنك التضامن أو بنك الشمال الإسلاميين، الى غير ذلك من وزراء الدولة ووكلاء الوزارات. وكل من هؤلاء لم يعرف لأحدهم أسهام أصيل فى الدراسات الإقتصادية، أو رؤية عميقة للتنمية الإسلامية، ولكن كل هؤلاء يعرف بعضهم بعضا معرفة شخصية، وكانت لهم ذكريات مشتركة فى المدارس، أو فى العمل التنظيمى، فصاروا يديرون الإقتصاد السودانى كأنما هو شركاتهم الخاصة، وتحولوا تدريجيا الى نخبة حاكمة مغلقة، فاذا خرج أحدهم من وزارة أعيد الى وزارة أخرى أو أعيد الى "مملكته" السابقة، أو أوجدت له شركة خاصة للاستشارات أو المقاولات أو الإنشاءات، وذلك ريثما يخلو أحد المقاعد الوزارية، فى تطابق تام مع نظرية "تدوير النخبة الحاكمة" التى قال بها عالم الاجتماع الأمريكى رايت ميلز وآخرون. وبهذه الطريقة تم تمرير وتسويق المفاهيم الرأسمالية وتوطينها فى برامج الدولة والتنظيم، وبهذه الطريقة سدت المنافذ لأية محاولة جادة لبلورة مذهب اسلامى أصيل فى التنمية الإقتصادية،وبهذه الطريقة تحول التنظيم الى ما يشبه "حصان طروادة" يشير مظهره الخارجى الى صرامة المجاهدين وتقشف الدعاة، أما من الداخل فقد تحول الى سوق كبير تبرم فيه الصفقات، وتقسم فيه الغنائم، دون ذكر لتجديد الفكر الإسلامى أو لنموذج التنمية الإسلامية الموعودة، وبهذه "الطريقة" صار أفراد هذه الشريحة أغنياء بينما ترك "التنظيم" ليزداد فقرا وتمزقا،بل إن عامة العضوية ظلوا فقراء مثل عامة الشعب برغم الشركات الكثيرة التى تم توزيعها بين المؤتمرين الوطنى والشعبى؛ الشركات التى أسست باسم الإسلام ومن أجل نصرة الفقراء والمستضعفين.
    (2)
    وما الغضاضة فى ذلك، يقولون، ألم يعمل النبى عليه السلام فى التجارة، وكان بعض الكبار من أصحابه تجارا، وأن التجار قد نشروا الإسلام فى بقاع العالم، وبفضل من أموالهم ترسخت دعائم الحضارة الإسلامية قرونا؟ ألم يساهم هؤلاء الرأسماليون الإسلاميون فى انجاح مشروع الانقاذ الوطنى، وفى تثبيت الحكومة فى أيامها الصعبة الأولى حينما قبض الناس أيديهم؟ أليست التجارة هى أحد ركائز التنمية؟ والإجابة على كل هذا: اللهم نعم، ولو شئنا الإستطراد فى اتجاه المبادىء والمثال لقلنا أكثر من هذا، على أن الاعتراض ليس على مبدأ التجارة ولا على صيرورة بعض الناس أغنياء(إذ نعم المال الصالح للعبد الصالح)، ولكن الإعتراض يتركز حول "الكيفية" التى صاروا بها أغنياء، أى ان الاعتراض ليس على "الثروة" فى ذاتها، ولكنه على استغلال "للعلاقات والمعلومات" التنظيمية (رأس المال الإجتماعى)) وتحوير اتجاهها وتسخيرها لتأسيس الشركات الخاصة ولتعظيم أرباحها، ولتأمين الحياة لأبناء النخب الحاكمة، ولأصهارهم وأبناء عمومتهم وأعيان قبائلهم،هذا هو المال غير الصالح الذى يتحكم فيه غير الصالحين، كما يفهم من الحديث النبوى بمفهوم المخالفة.
    الإعتراض إذن ليس على وجود شريحة من الأغنياء فى داخل الحركة الإسلامية، إذ لو تكونت تلك الثروة بطريقة مستقلة عن "التنظيم"(كما هو حال بعض الإسلاميين) لما حق لأحد أن يتساءل، وذلك على مثل ما يحدث فى المجتمعات التى شهدت ظاهرة الإقطاع، حيث لا يوجد معنى للسؤال عن "كيف" صار بعض الناس أغنياء، لأن المجتمع تكون "تأريخيا" من "الفرسان النبلاء" الذين اغتصبوا الأراضى عنوة بحد السيف، وظلوا يتوارثونها جيلا بعد جيل تحت حماية القانون ومباركة العرش، فأكسبتهم تلك الملكية قاعدة اقتصادية راسخة، ووجاهة اجتماعية ونفوذا سياسيا لا يضارعهم فيها أحد. أما فى حالة المجتمع السودانى، وفى حالة الحركة الإسلامية السودانية بصورة خاصة فلم تكن توجد طبقة من النبلاء الأرستقراطيين ملاك الأراضى(أو الباشوات)، اذ أن الغالبية العظمى من الشعب لم تكن تملك شيئا، كما أن الغالبية العظمى من عضوية الحركة الإسلامية جاءت اما من أدنى الطبقة الوسطى، من شريحة الموظفين محدودى الدخل، واما من الشرائح الاجتماعية الفقيرة القادمة من قاع المجتمع ومن هوامشه الاقتصادية. يتذكر كاتب هذا المقال أنه فى أواسط السبعينيات من القرن الماضى كان تنظيمنا يعمل من تحت الأرض، وأردنا أن نجد "أماكن آمنة" فى مدينة الخرطوم نخفى فيها أعضاء اللجنة التنفيذية لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم من أجهزة الأمن التى كانت تطاردهم، فكان عدد الذين يملكون منازلا خاصة بهم (تتسع لاستضافة ثلاثة أشخاص أو أكثر) يعدون على أصابع اليد. وأذكر أن أحد أخواننا الذى امتاز بالسخرية والدعابة كان لا يخفى تذمره من البقاء فى المنزل العائلى المتواضع الذى استضيف فيه، فاذا سألناه قال: كيف أبقى هنا وكلما أردت الحمام هرعت الى الشارع لأبحث عن سيارة للأجرة. أما الآن فقد صار كثير من هؤلاء يمتلكون البنايات الطويلة، التى تقدر أثمانها بما لا نستطيع له عدا، وتدخل منزل أحدهم فترى ما لم تكن تسمع به حتى فى بيوت الباشوات، وتسأل أحدهم من أين لك هذا فيقول من "استثماراتى"، ماطا شفتيه بالثاء، ولا يذكر أنه الى عهد قريب كان يسكن بيتا من الجالوص الأخضر.
    فالسؤال إذن عن "الكيفية" التى تحولت بها هذه "البروليتاريا الإسلامية" إلى ما يشبه حالة البرجوازية سؤال مشروع، اذ أن كثيرا منا لم يأتِ الى الحركة الاسلامية، ويفنى زهرة شبابه فى خدمتها من أجل الحصول على الثروة ولكن من أجل العدل الإجتماعى، اذ أن قضية العدل الاجتماعي هي القضية الأم التي لم ينفصل الإسلاميون عن أحزابهم التقليدية وطرقهم الصوفية، ومجموعاتهم العرقية، الا من أجلها،كما لم يتصلوا بالحركة الإسلامية الا من أجلها.ولكن ما تقدم من سرد يشير الى أن قضية العدل الإجتماعى لم تعد هي القضية الأم في النموذج الراهن، وذلك لأن الفئات الثلاث التى يقوم عليها النموذج: الشريحة الرأسمالية المتحالفة مع القوى الأمنية والبيروقراطية فى داخل الدولة، ومع القوى القبلية فى خارجها، لم يعد لواحدة منها هم والتزام بقضية العدل الاجتماعي، فبيروقراطية الدولة لا يمكن أن تسعى في تحقيق العدل الاجتماعي لأنها لم تنشأ "تأريخيا" من داخل المجتمع، كما أنها لم تستطع فى عهد الإنقاذ أن تتحول الى نخبة "رسالية" مهمومة بقيم الدين، فلا هي إذن تعبر تعبيراً صادقا
    عن رغبات ومصالح "الناس" ، ولا هى تجسد قيم الكتاب، فهي مجروجة لانقطاعها عن الكتاب من جهة، ولابتعادها عن الناس من جهة ثانية، ولانحباسها في مصالحها وامتيازاتها ولانصياعها للشريحة الرأسمالية من ناحية ثالثة.
    وهذا على وجه الدقة هو ما يجعل أجهزة الدولة ومؤسساتها الإقتصادية أدوات طيعة تسخر لتحقيق مصالح المستثمرين والتجار (المحليين والعالميين) دون مراعاة جادة لمصالح الفئات الأخرى في المجتمع. وهو ما يؤكد القول بإن هناك تحالفاً مصلحياً بين بيروقراطية الدولة والشرائح الرأسمالية المتحكمة. وهو ما يوضح بصورة مباشرة لماذا صار بعض الثقات من الإسلاميين يوضعون مواضع الظنون والشبهات حينما يوضعون في المواقع العليا في بيروقراطية الدولة، ليس لأن هذه المواقع مسكونة بالشياطين، ولكن لأنها موصولة بمجموعات قرائبية/قبلية متضامنة، وبشبكات تجارية مترابطة ذات قدرة على الحركة والالتفاف تجعل الموظف أو الوالى أو الوزير يدافع عن سياساتها ومصالحها أكثر من دفاعه عن النموذج الإسلامى وعن المستضعفين من الناس.
    فالحديث إذن عن الشريحة الرأسمالية هذه لا يأتى من قبل الحسد أو الغبن، كما قد يتوهم بعض الناس، وانما يأتى الحديث عنها لأنها صارت تشكل مسار الحركة الإسلامية، وتحدد اختياراتها، واذا لم تتدارك الحركة الاسلامية أمرها بصورة جادة فانها سرعان ما تجد نفسها منقادة بقوى السوق، وسيكون أرقى مكاتبها هو مكتب التجار، وستكون أنشط عناصرها هم المقاولون ورجال و(سيدات) الأعمال، الذين يكون انشغالهم بالأرصدة والصفقات أكثر من انشغالهم بالكتاب وبالناس وبالقسط الاجتماعي، وسيصعب عليهم الاستماع الى النصائح الناعمة من أى أحد حتى ولو قرأ عليهم كل ما كتب فى أبواب الزهد والقناعة. أما القضايا الإستراتيجية الكبرى، مثل قضايا الحرب والسلام، والعلاقات الإقليمية، والسياسيات الخارجية، فستتحول في غيبة الجماعات العلمية القادرة، والمجالس التشريعية الحاذقة إلى ملفات أمنية أو إلى صفقات تجارية، وفي كلتا الحالتين فستتولاها مجموعات "أمسك لي واقطع ليك"، وهى مجموعات "براغماتية" نبتت فى داخل الحركة الاسلامية، يطيل أحدهم اللحية، ويتسربل بالملفحة الفخمة، ثم يخوض فى أسواق السياسة والإقتصاد على غير هدى أو كتاب منير.أما قضايانا الأساسية مثل تجديد الفكر الاسلامى، وبناء المناهج والنماذج، وبلورة الرؤى، وتأهيل الكوادر، ونشر الوعى، واحداث التنمية فستترك لشعراء المدائح النبوية، وللوعاظ المتجولين، ولوزارة الأوقاف والشؤون الدينية إن وجدت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    يقول الغزالى: اعلم أن الله عز وجل اذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فاذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى فى عين أخيه ولا يرى الجذع فى عين نفسه...وكان عمر رضى الله عنه يقول:رحم الله امرءً أهدى إلى عيوبى، وكان داود الطائى قد اعتزل الناس فقيل له:لم لا تخالط الناس؟ فقال: وماذا بأقوام يخفون عنى عيوبى؟ ثم يقول الغزالى: وقد آل الأمر فى أمثالنا الى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرفنا عيوبنا(الإحياء:كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلوب).
    .................
                  

12-10-2014, 07:54 AM

wadalzain
<awadalzain
تاريخ التسجيل: 06-16-2002
مجموع المشاركات: 4702

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لافرق بين نظام الانقاذ مدعى الاسلام والنظام الامريكى الرأسمالى الوحشى (Re: wadalzain)

    يواصل الدكتور التجانى عبدالقادر فيقول


    الرأسماليون الإسلاميون:
    ماذا يفعلون فى الحركة الإسلامية؟(2-2)
    د. التجاني عبد القادر mailto:[email protected]@yahoo.com
    (3)
    كنت أقف ذات مرة أمام شباك الزكاة بإدارة المغتربين بمطار الخرطوم استكمالا لإجراءات تأشيرة الخروج.سألنى الموظف باحترام ظاهر عن مقدار راتبى الشهرى، وقبل أن أنطق بشىء لكزنى الشخص الذى كان يقف خلفى فى الصف لكزة ذات معنى،ولما التفت اليه قال بنبرة حازمة: لا تخبره بكل المرتب، قل له أن مرتبى ألفين أو ثلاثة، أصلو ديل....، ثم قال كلمة جعلت موظف الزكاة يشيح بوجهه.دفعت الزكاة كاملة والرسوم وبعضا من متأخرات الضرائب ثم خرجت وأنا أشعر بغصة فى حلقى. صحيح أننى ذهبت لشباك الزكاة لأنى كنت محتاجا مثل غيرى لتأشيرة للخروج، ولكن الصحيح أيضا أننى كنت على قناعة بوجوب الزكاة باعتبارها عبادة فى ذاتها، وباعتبار أنها قد شرعت من أجل الفقراء والمساكين الذين قد تخرجهم اضطرابات المعاش، أو تشوهات الأسواق، أو طغيان رأس المال، قد تخرجهم من دورة الاقتصاد وتوقعهم فى ذل الحاجة،أو تدفعهم فى طريق الرذيلة أو الجريمة، فيريد صاحب الشرع من خلال نظام الزكاة أن يسد حاجاتهم الأساسية، وأن يحفظ كرامتهم الانسانية، حتى يتمكنوا من الاندراج مرة أخرى فى دورة الاقتصاد.قلت فى نفسى: لماذا غابت هذه "الرؤية" وحلت مكانها "صورة" سلبية عن الزكاة وعن العاملين عليها؟ هل يعود ذلك أيضا الى عدم الشفافية والصدق؟ اذ يرى الناس دقة وانضباطا فى "تحصيل" الزكاة ولكنهم لا يرون مثل تلك الدقة والانضباط فى "توزيعها"، يرى الموظف أن الزكاة تؤخذ منه على "دائرة المليم" ولكنه حينما يذهب الى قريته ويتعلق به الفقراء والمساكين وأولو القربى، فلا يصادف منهم من تلقى شيئا من الزكاة طيلة حياته الدنيا، فيقول فى نفسه: اذا كانت زكاتى لا تكفى فأين زكاة العمارات والمصانع والماكينات والفنادق والشاحنات والطائرات، ثم أين زكاة الذهب والنفط، ألم يقل سبحانه وتعالى(يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما رزقناكم ومما أخرجنا لكم من الأرض)، أليس النفط "ركازا" أخرجه الله من الأرض، أو ليست زكاة الركاز الخمس(20%) كما ورد فى الحديث؟
    على أن الزكاة مهما تنوعت مصادرها وتكاثرت أقدارها ووزعت بالقسط ليست الا جزءا من رؤية اجتماعية-اقتصادية متكاملة؛ رؤية يعلو فيها الإنسان والعمل على المال، ويغلب فيها التضامن والتكافل على المحاصصة والأثرة، رؤية منحازة للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فهل نحن نملك هذه الرؤية؟وهل نحن جادون فى تطبيقها؟ سؤال نوجهه الى أنفسنا فى الحركة الاسلامية، ثم الى "الفريق" من مفكرينا الاقتصاديين وعلمائنا الشرعيين الذين ظلوا على رأس المصارف الإسلامية وديوان الزكاة وهيئة الأوقاف ووزارة المالية والتخطيط الإقتصادى ردحا من الزمن. هل منهم من يملك بالفعل رؤية إسلامية للاقتصاد، أم أن جل ما يعتمدون عليه هو صيغة "المرابحة" التى عثروا عليها جاهزة فى حاشية ابن عابدين فصارت وصفة سحرية تستخدمها البنوك الاسلامية فى تعظيم أرباح عملائها من الرأسماليين، ثم أضافوا اليها فتوى بعض علماء الأزهر بوجوب أخذ الزكاة من الموظفين دون انتظار الحول، ثم أضافوا لهما "روشتة" البنك الدولى برفع الدعم وتحرير الأسعار، أهذا هو الإقتصاد الإسلامى؟
    ان السؤال عن البعد الإسلامى فى السياسات الاقتصادية(ولا أقول البديل الاسلامى)ليس من نوافل القول أو فضول الكلام، وانما هو سؤال يتعلق بعلة وجود الحركة الاسلامية ذاتها كحركة اجتماعية-سياسية تتصدى للاصلاح والنهضة، غير أن الفريق الاقتصادى الحاكم، مثله مثل الفريق الأمنى، لا يهتم كثيرا "بالمرجعية الإسلامية"، ويعتبر ما نقوله ضربا من "الكلام الفارغ"، ولقد هالنى أن اطلعت ذات مرة على مقابلة مع واحد من القيادات الإقتصادية الاسلامية. كانت المقابلة تهدف لقراءة "ذهنية" النخبة الإسلامية المتحكمة فى القطاع الإقتصادى، وذلك أهم عندى من قراءة الأرقام التى يحيلوننا اليها، اذ بدون معرفة "الذهنية" يصعب علينا أن نتعرف على مرامى السياسات والخطط. كان السؤال المحورى فى المقابلة: ما معنى انتهاجكم سياسة اسلامية فى الإقتصاد؟وما هى المقومات الإسلامية فى الإقتصاد السودانى؟ وهو سؤال جيد فى نظرى لأنه يحاول أن يكتشف عما اذا كان الاقتصاديون الإسلاميون يملكون بالفعل رؤية أو "نموذجا"، وعما اذا كان ذلك النموذج المستبطن فى ذهن المخطط يرتكز بصورة واعية او غير واعية على مذهب إسلامى فى الإقتصاد، أم أنهم يسيرون على أهزوجة الشعار التى صاحبتنا طيلة العقود الماضية؟ وجه السؤال بصورة مباشرة لأحد وزراء الدولة آنذاك فى وزارة المالية، وهو رجل يحمل الدكتوراة فى مجال الإقتصاد، وظل لفترة طويلة يشغل مناصبا تنفيذية عليا فى القطاع الاقتصادى باختيار من قيادة الحركة الاسلامية والدولة،فأجاب على السؤال كما يلى: "هذا سؤال كبير يحتاج الى ندوة، ولكن التصور الإسلامى الكامل معروف، والمبادىء الاقتصادية تنطلق من التصور الاسلامى حول حقيقة هذا الكون من ربه والى أين يسير، وينطلق أيضا من المبادىء الأساسية فى القرآن والسنة والمعاملات وفى الاقتصاد..أنتهى"،
    والسؤال لم يكن بالطبع عن التصور الاسلامى العام للكون، أو المبادىء الكلية التى قررت فى القرآن والسنة، وانما كان عن "الطريقة" التى يتم عبرها تجميع وتنظيم تلكم التصورات الاسلامية العامة وتحويلها الى رؤية اسلامية-اقتصادية متماسكة تستوعب خصوصيات المعاش فى المجتمع السودانى بأوضاعه الراهنة،ثم ربطها بالخطط الإقتصادية الجزئية التى يشرف عليها سعادة الوزير، وما اذا كان لمثل هذه العملية نتاج معرفى ملموس يجعل الوزير وحكومته يعلنون على الملأ انهم ينتهجون سياسة اسلامية فى الاقتصاد، ولكن الوزير لم يشأ أن يواجه السؤال، ليس لجهله، وانما لمعرفته التامة بأن النخبة الرأسمالية التى يمثلها، والتى صارت تهيمن على مفاصل الدورة الاقتصادية فى الريف وفى المدن، لا ترى لها مصلحة فى استنباط مذهب اسلامى واضح فى الاقتصاد، لأن المذهب الاسلامى يضع محددات أخلاقية وقانونية على الثروة، كما يضع التزامات اجتماعية عليها، والشريحة الرأسمالية تريد أن يكون السوق "حرا" من هذه المحددات والإلزامات حتى تستطيع أن تعظم أرباحها كيفما تشاء؛ أى أن الشريحة الرأسمالية لا تريد "رؤية" اسلامية متماسكة، وانما تريد "شعارا" فضفاضا( أو قل ماركة تجارية) تحرك به العاطفة الدينية، وتستقطب به رؤوس الأموال.أما السذج من أمثالنا، والذين دخلوا فى الحركة الإسلامية على أمل أن يتمكنوا من بلورة برنامج اسلامى للتنمية الإقتصادية المتوازنة والعدل الإجتماعى، أو على أمل أن يوصلوا أصوات الفقراء المستضعفين الى مسامع السلطة، هؤلاء الساذجين عليهم أن يبحثوا عن طريق آخر، فالرأسمالية المتوحشة قد استولدت لها أنصارا فى صفوفنا الأمامية.
    (4)
    ويبقى السؤال الكبير: لماذا صار الانسان فى السودان على هذه الدرجة من الفقر حتى أنه صار يحتاج الى الصدقة والزكاة؟ ألم يكن القطاع الأكبر من الأسر فى الريف السودانى ينتج موادا غذائية تكفى حاجته المباشرة دون دعم من أحد؟ فكيف تحطمت تلك الوحدات الإنتاجية التى كان يعتمد عليها الوجود المادى للمجتمع، والمتمثلة فى الأسرة ذات المزرعة والمراح في القرية السودانية؟وكيف تبدل نمط الإنتاج التقليدى ومن الذى استفاد من ذلك؟ الأسباب عديدة ومتنوعة ولكن تأتى على رأسها أربعة: أولها الهجمة الهائلة التي قامت بها الأسواق الرأسمالية منذ زمن طويل في اختراق المجتمعات الزراعية والرعوية في الدول النامية وإدراجها في نظمها النقدية والصناعية بحيث صارت المزارع والمراعي في الدول النامية موارداًً رخيصةً لاحتياجات الصناعة الغربية من المواد الخام، دون اعتبارٍ لما يصيب البيئة من تخريب أو لما يصيب العامل من ضرر، فصار المزارعون والرعاة في الدول النامية ينتجون سلعا ً لأسواق عالمية لا قدرة لهم في التحكم فيها، ولا معرفة لهم بما تتعرض له من تقلبات، وما ينشأ فيها من تطورات، ودون أن يكون لهم بديل آخر يلوذون به؛ وثانى الأسباب هو إلحاح الدولة الوطنية، في مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي، في الطلب على السلع الزراعية التي توفر عائدا ً نقديا ً بالعملات الأجنبية، لكي تتمكن من تغطية نفقاتها المتصاعدة، ليس في المجال التنموي ولكن في المجالات العسكرية والأمنية، على أن اعتماد الدولة شبه الكامل على قطاع الزراعة والرعي لم يقابله استثمار من قبلها في مجال البنيات الأساسية أو الأبحاث الزراعية والصناعية أو الحماية البيئية أو الخدمات الاجتماعية التي يحتاجها الريف "المخزن"؛ وثالث تلك الأسباب هو تشريد المزارع التقليدي واخراجه من الأرض، وظهور المزارع "التجاري" والمشاريع الزراعية التجارية، حيث يكون الاعتماد على رأس المال والآلات الحديثة أو العمالة الرخيصة؛ وآخر تلك الأسباب هو ضمور القطاع الصناعي الوطني وعجزه المستمر، إذ لم تستطع الدولة أو الرأسمالية المحلية المرتبطة بها أن توطن أي صناعة من الصناعات الاستراتيجية أو تنفذ خطة مناسبة للنهضة الصناعية. فكان لزاما ً أن يؤدي تدهور القطاع الصناعي وعجزه إلى تدهور أكبر في القطاع الزراعي.
    وكانت النتيجة، كما هو متوقع في مثل هذه الحالة، أن يتم الفصل بين المزارع التقليدى والأرض من جهة، ثم يفصل بينه وبين أدوات الإنتاج ورأس المال من جهة ثانية، فيجبر عدد كبير من المزارعين والرعاة ليصيروا عمالا ً مؤقتين في قطاع صناعي كسيح ليست له قدرة على البقاء فضلا ً عن النمو وامتصاص العمالة الفائضة، أو جنودا فى الجيش والشرطة والسجون، أو "خفراء" فى قطاع المنشئات والمبانى،أو يتركون فى قارعة الطريق، حتى صار من المألوف فى السودان أن ترى الرعاة يتجولون بلا ماشية، وأن ترى المزارعين يتحولون الى باعة فى شوارع العاصمة تطاردهم البلدية، وترى نساءهم يتحولن الى بائعات للشاى والقهوة فى نواصى الطرقات. وكما انقطعت الصلة فى الريف السودانى بين المزارع و الأرض وبين الراعى والماشية، فقد انقطعت الصلة كذلك فى المدينة بين العمل و الأجر، فصارت الوظيفة حقا يطالب به المتخرجون فى المدارس و الجامعات سواء وجدت أعمال يؤدونها فى المقابل أو لم توجد، فاذا نال أحدهم وظيفة وجدها لا تسد رمقا ولا ترضى طموحا، واذا لم يجدها علق آماله بالحصول على عقد للعمل فى دول الجوار الغنية بالنفط، أو وقف أمام السفارات طلبا للهجرة، وصار كل هؤلاء، من وجد ومن لم يجد، ومن تعلم ومن لم يتعلم، يمثلون "فائضا بشريا" دائما، ومليشيات عسكرية جاهزة، تتغذى منها الحركات المتمردة فى شرق البلاد وغربها، وتحولها الى جيوش تقاتل بهم إخوانهم المستضعفين الذين سبقوهم بالإنخراط فى الجيش والشرطة طلبا للمعاش، وهذه بالطبع ظاهرة فريدة فى نوعها، ومؤلمة لمن تأملها، إذ نرى "البروليتاريا المسلمة" تنقسم على نفسها، ويقوم بعضها بضرب رقاب بعض، فى غفلة تامة عن القاعدة الإجتماعية الواحدة التى ينحدرون منها، وفى جهل بطبيعة العدو الإستراتيجى الذى يستهدفون.
    تلك هى اذن عملية الإستنزاف المستمر، والتحطيم البنيوى، والإفقار المتعمد للريف السودانى، وتلك اذن هى ثمارها المرة، والتى ساهمت فى انتاجها الرأسمالية العالمية والشريحة الرأسمالية المحلية(اسلامية وغير اسلامية)، وذلك من خلال هيمنتها على مفاصل الدورة الاقتصادية في الريف وفي المدن وفي الأسواق الإقليمية، ومن خلال ارتباطاتها القوية بالمصارف والشركات ومراكز السلطة السياسية، مانعة بذلك قطاعات واسعة من الجمهور من الانخراط فى دورة الاقتصاد، ودافعة أعدادا مهولة من السودانيين نحو الهجرة الجبرية المتواصلة الى المدن، أو الى المليشيات المتمردة، أو نحو الثورة الإجتماعية الكامنة التى لا يعرف مداها ومآلاتها أحد الا الله.
    إن تفكيك النظام الاجتماعي والاقتصادي في الريف وما صحبه ولحق به من تهجير جماعي مفزع من الريف إلى المدن لم تصحبه كما هو معلوم ثورة صناعية توفر قاعدة جديدة للإنتاج، كما لم تسنده قاعدة تعليمية أو تكنولوجية توفر مهارات ومعارف تفتح منافذ بديلة للمعاش، فشكل ذلك الوضع حالة من الاحتقان النفسي والانفراط الاجتماعي جعلت الجميع يحلمون باسترداد هوية ضائعة وثروة مسلوبة، فلم يجدوا أطرا تستوعب تلك الأشواق سوى المليشيات العرقية المسلحة، أو التنظيمات السياسية المتطرفة؛ اذ أن البحث عن " الهوية الضائعة " وعن" الثروة " المسلوبة يعملان معاً في صناعة ايديولوجيه "المفاصلة"، سواءً كانت مفاصلة دينية أو عرقية، وهي الأيديولوجية التي تسوغ لأصحابها الانقضاض على السلطة، وقد ينجحون في ذلك بالفعل ولكنهم سينتهون،عاجلاً أو آجلاً،إلى النتيجة نفسها التي انتهى إليها الإنقلابيون من قبلهم وهي أن المشكل الاجتماعي-الاقتصادى الراهن لا يمكن أن يحَّل عن طريق البتر العسكري أو الإقصاء العرقى أو الدينى.
    (5)
    على أن المشكلة لا تقف عند هذا الحد،اذ أن القاعدة الإنتاجية التقليدية المشار اليها آنفا، لن تعود الى الريف وتستأنف عمليات الإنتاج لمجرد وجود الطرق والجسور(والتى تجتهد الحكومة فى بنائها)، ولكن وعلى افتراض عودتها وممارستها للانتاج فانها لن تستطيع تحت هيمنة الرأسمالية الشرسة واقتصاد السوق غير المقيد أن تلبى حاجاتها الاقتصادية المباشرة فضلا عن أن تلبى حاجاتنا القومية من السلع الزراعية، وسيترتب على هذا أن توجه جل الموارد القومية المتحصلة من عائد النفط لاستيراد السلع الغذائية والصناعية التي ترد من الأسواق الخارجية، ولإسترضاء المليشيات المسلحة، ودفع استحقاقاتها وتعويضاتها، مما يؤدى لاختلال مستمر فى ميزان المدفوعات، ولنضوب الاعتمادات التي يمكن أن توجه الى قطاعات الإنتاج الزراعي و الصناعي، فتزداد هذه القطاعات تحطما على ما كانت عليه، وسيزداد لدينا عندئذ عدد المزارعين الذين لا زراعة لهم، والعمال الذين ليست لدينا مصانع تستوعبهم، والخريجين الذين ليست لدينا وظائف لهم، وسيشكلون جميعا، وقد انحل ترابطهم الاجتماعي القديم وتناثرت تنظيماتهم التقليدية، حزاما متجددا من الفقر والإحباط يحيط بالعمارات الشاهقة التي يتبارى في تشييدها الأغنياء القدامى والجدد.
    والسؤال هنا:هل يمكن إحداث نوع من التكامل البنيوى بين المزارع التقليدي والأرض البور والنخب الإجتماعية الحديثة ذات الكفاءة المهنية والقدرة الإدارية المتطورة حتى يتم إحياء القاعدة الإنتاجية التي يقوم عليها المجتمع؟ أم أن عائدات النفط وما ينتج عنها من فرص استثمارية ستصب فى جيوب النخبة الرأسمالية ذاتها؛ النخبة التى لا ترغب فى تطوير برنامج تنموى إسلامى، ولا ترغب فى الدخول فى العمليات الإنتاجية الإستراتيجية(زراعة وصناعة) وتفضل الإستثمار المضمون فى قطاع العقارات والخدمات والإستيراد؟ لأنه وما لم يتم إدراج القوى الريفية التقليدية (التى أخرجت من ديارها، وأبطلت طرائق معاشها) في البنية الاقتصادية الحديثة، وما لم تتم إعادة الشرائح الرأسمالية الجديدة الى قطاعات الإنتاج الاستراتيجي، فان الفجوة بين هاتين الفئتين ستتباعد وقد تتحول الى تناقض أساسي بين الدولة والمجتمع قد يتبلور في اتجاه الثورة الاجتماعية الشاملة.
    ولكن ما هو الدور المتبقي للدولة؟ هناك من يقول ان الدولة في العالم الثالث في عهد العولمة الأمريكية الذى نشهده مهددة بالتلاشى والزوال، على أية حال، سواء كانت اسلامية أو لبرالية، اذ من المؤكد أن تجد نفسها دائما غير قادرة على التحكم فى الرأسمالية المحلية أو توجيه مساراتها نحو انتاج السلع الأساسية التى يمكن أن تدفع في اتجاه التنمية القومية؛ وستجد نفسها (ثانيا) غير قادرة على إحداث تنمية اقتصادية عن طريق الصناعة والتقانة بصورة مستقلة؛ وستجد نفسها (ثالثا) غير قادرة(حتى ولو أنتجت سلعا أساسية كالسلع الزراعية) على المنافسة في السواق العالمية، اذ أن فائض الإنتاج الزراعى في الدول الصناعية الكبرى، والذى تقف وراءه بقوة إتحادات المزارعين ووكلائهم في المجالس التشريعية في الديقراطيات الغربية لا يتيح فرصة حقيقية لأى دولة نامية أن تجد سوقا لمنتوجاتها الزراعية، أما اذا كانت تلك الدولة النامية ذات شعار اسلامى كحالتنا هذه فسوف يتعذر عليها أن تجد منفذا للأسواق العالمية ما لم تتخلى عن الحواجز الثقافية و الأخلاقية التي يفرضها مشروعها الإسلامى.
    فهذه كما ترى أمور شديدة التعقيد، لا يحلها خبير اقتصادى واحد، أو فريق من التكنوقراط، أو فقيه تخصص فى باب البيوع، وانما يحتاج الأمر الى قاعدة فكرية وعلمية راسخة يعهد اليها ببناء رؤية متعمقة للتنمية القومية- تصورا فكريا، وتخطيطا استراتيجيا، وإدارة علمية، كما يحتاج الى شريحة إجتماعية رائدة ذات رغبة صادقة فى احتضان عمليات التنمية، توطينا للصناعة والتكنولوجية،وتشجيعا ورعاية للعلماء والمخترعين، ورد اعتبار للزراعة والرعى؛ وتحتاج علاوة على هذا لقيادة سياسية مترفعة عن الولاءات العشائرية الضيقة ومتجردة للمصلحة القومية، فتناط بها عمليات التعبئة الشعبية و التنسيق المؤسسي والتشريعي لإنجاز العملية التنموية على قواعد العدل الاجتماعي.فهل يستطيع الرأسماليون الإسلاميون أن يقوموا بهذه العمليات؟
    ان الإقتصاديين الاسلاميين سيفقدون كل مشروعية للبقاء فى قمة الهرم الاقتصادى أو فى قيادة الحركة الإسلامية ما لم يقوموا بتطوير أطروحة فكرية اسلامية متماسكة يجاب فيها على هذه التساؤلات، وترفع فيها هذه التناقضات، ثم يبلوروا فى ضوء ذلك برنامجا اجتماعيا-اقتصاديا ينحاز بصورة واضحة للطبقات الدنيا فى المجتمع، أما اذا بقوا على حالهم هذه، وتركت سياسات الدولة ومؤسساتها الاقتصادية تحت تصرفهم وتصرف مجموعات المصالح الخاصة المرتبطة بهم فان ذلك سيكون فى تقديرى أمرا شديد الضرر على المستوى التنظيمى الخاص بالحركة الإسلامية وعلى المستوى القومى العام.
    ولكن، وحتى لا تبلغ الأمور نقطة اللاعودة فإن الحكمة والحاجة يقتضيان أن تكف الحركة الإسلامية عن تعلقها بالنخبة الرأسمالية، وأن تعلق أملها بالله وبالناس، وأن تبدأ بصورة جادة فى إعادة النظر فى برنامجها الاجتماعى-الاقتصادى، فالعمل من خلال القضايا الاجتماعية المحورية(الفقر والمرض والعجز والبطالة والجريمة والطفولة والأمومة ونحوها)هو الذى يعمق الوعى بالرؤية الإسلامية،ويرهف الحس الاجتماعى-الانسانى، وينمى الروح، ويقود الى التلاحم بين شرائح المستضعفين، ويرفع التناقضات المتوهمة بينهم، وهو خير من انتظار نهايات للحرب الضروس بين داحس القصر وغبراء المنشية


    خطوات على طريق الإصلاح
    د. التيجاني عبد القادر mailto:[email protected]@hotmail.com

    (1) أين نحن الآن؟
    يتساءل رجال الأعمال والإداريون أحيانا: أليست هناك حالات يكون من الأفضل فيها "اغلاق" المصنع المتهالك بدلا من محاولة اصلاحه؟ أليست "البداية الصحيحة" أسهل وأفضل من محاولة اصلاح ما هو قائم على اعوجاج؟ سؤالان يجوزان فى مجال المؤسسات التجارية والصناعية، كما يجوزان فى مجال التنظيمات السياسية والاجتماعية.فالمجموعات السياسية التى "تنشق" من أحزابها التاريخية لتكون لها أحزابا جديدة هى مثال للنفسية الثائرة ذات النزعة الراديكالية التى ترى أن "إغلاق المصنع المتهالك" والبداية من درجة الصفر خير من الترقيع والترميم. وهذا سعى قد ينجح فى بعض الحالات، إلا أننا نشك فى امكانية تكرر نجاحه، كما نشك فى وجود حالة "صفرية" فى الحياة الاجتماعية والسياسية، اذا يتعذر لمن ترعرع فى كنف "المصنع القديم"، وتعود على نظمه، وتشرب ثقافته، أن يخرج منه "سالما" كما تخرج الشعرة من العجين ليؤسس مصنعا جديدا مغايرا. قد يستطيع بالطبع أن يغير اسم المصنع، وأن يطيح ببعض القائمين على ادارة التسويق والمشتريات، وأن يستجلب ادارة جديدة للعلاقات العامة، ولكن "الرؤية" الأساسية لملكية المصنع، وللإدارة ذاتها، وللعاملين والمستهلكين، ستظل كما كانت. مما يعنى أن اشكالات المؤسسات والتنظيمات ليست اشكالات هيكلية خالصة، تنحل لمجرد إسقاط القديم أو الخروج منه وإنشاء شىء جديد بدلا منه، اذ أن "المرض القديم" سينتقل أيضا وسيقود الى النتيجة ذاتها.
    فإنشاء مؤسسات جديدة، أو تنظيمات بديلة لن يكون ذا جدوى ما لم تسبقه عمليات نقدية صادقة للممارسات السابقة، تحدد العوامل "الذاتية" التى تنبثق منها الرؤى، وتتعزز بها أنماط السلوك، كما تحدد العوامل الموضوعية، الداخلية والخارجية، التى أدت و تؤدى الى الإنهيار والفشل. والعملية النقدية، مثلها مثل العمليات الجراحية، قد تكون مؤلمة وباهظة التكلفة لمن يجريها ولمن تجرى عليه، ولكنها قد تبين فى المحصلة النهائية أن المرض/الخلل يمكن استئصاله أو السيطرة عليه، وأن المصنع يستطيع أن يؤدى وظائفه الأساسية بعد إزالة الأورام وإجراء الترميمات اللازمة، أو قد تبين أن المصنع قد فقد بالفعل كل مقومات البقاء والمنافسة، وأن تكلفة المعالجات والتجهيزات والتعويضات تتجاوز تكلفة المصنع الجديد. فى مثل هذه الحالة يكون الخروج واجبا، ليس فقط من هيكل المصنع وفضائه، ولكن من أساليبه ونظمه وثقافته ورؤيته التى قادت الى الخسران المبين. فاذا تغيرت الرؤية، واذا توفرت معها قدرة على التعلم، ورغبة فى تغيير السلوك، فان دورة جديدة من دورات الانتاج والعطاء ستبدأ، سواء تم التحول الى مصنع/منظمة جديدة، أو لم يتم. وهذا قريب مما ما حاولنا أن نقول فى المقالات السابقة؛ حاولنا أن نقول أن المشكلة (بل الأزمة)) التى واجهت الاسلاميين فى السودان لم تبرح مكانها بعد، وأن "المفاصلة" التى وقعت بينهما مفاصلة فى الشكل والاطار وليست فى الرؤى والممارسة؛ اذ أن من خرج خرج وهو يتمسك بماضيه ويدافع عنه، متجنبا نقد نفسه ومعرفة أخطائه، فلم يتعلم شيئا؛أما من بقى فقد طفق يواصل المشوار كأن شيئا لم يكن، يدافع عن "انجازاته"، ويوارى أخطاءه، ويرفض أن يتعلم. ولذلك فقد أطلنا الحديث (فى مقالاتنا السابقة) عن البدايات التاريخية للازمة، وعن بعض التصورات والممارسات الخاطئة فى المجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية، فانتهينا للقول إن هناك حاجة قوية للتغيير، ليس فقط فى الهياكل كما قد فهم البعض ولكن فى الرؤى والسلوك.
    ولكن تغيير الرؤى والسلوك، أو تركيب رؤية جديدة، تتبعه وتثور حوله أسئلة كثيرة مثل: من نحن؟ وأين نحن الآن؟ وما هى صورة المجتمع الذى نريد؟ وكيف نصل الى هناك؟ أما "من نحن" فقد تقدمت باجابة عليه فى مقال سابق نشر فى هذه الصحيفة(17/7/2005)، فلنتحول الى السؤال الثانى: أين نحن الآن؟ وهذا سؤال مهم لأن من لا يعرف أين هو الآن لا يستطيع أن يعرف الى أين يسير.
    (2)
    "أين نحن الآن" ليس سؤال عن المكان فقط، وانما هو سؤال عن المكان والزمان؛ أى ما هي طبيعة المرحلة التاريخية الراهنة، على مستوى مجتمعنا المحلى، وعلى مستوى محيطنا الإفريقي والعربي، وعلى المستوى العالمي ؟
    إن محيطنا الأفريقي العربي كان لعهد قريب هو محيط التحرر من الاستعمار والتحول إلى البناء والتنمية. وكانت مفردات الحرية والوحدة والتنمية هي المفردات المهيمنة في خطابنا السياسي. وكنا في كل قطر نرى المثقفين في حركات التحرر يقودون مشاريع ضخمة للنهضة. ولكن مشاريع النهضة تلك بلغت مداها بعد عقد واحد من استيلاء أولئك القادة على الدولة القطرية، حيث استفرغت كل الطاقات الوطنية في الصراع، ليس الصراع حول البناء والتنمية ولكن الصراع حول (جهاز الدولة) الذي تم الاستيلاء عليه عنوة أو وراثة من قوى الاستعمار الغربي. وما من حركة تحرر أفريقية أو عربية معاصرة، من جزائر بن بيلا وغانا نكروما وكينيا جومو كنياتا إلى مصر عبد الناصر وسوريا الأسد وعراق صدام، إلا انتهت إلى النظام الاوتوقراطي الاقصائي الذي يمهد الطريق إلى الحرب الأهلية أو التخلف الاقتصادي أو إليهما معاً، عائدة بنا إلى التدخل الغربي في صورة من صوره. وقد بلغ الأمر من السوء مبلغاً جعل بعض المتشائمين يدعون صراحة إلى عودة الاستعمار وجعل بعضهم يتمنون عودة النظم الملكية السابقة لعهد الثورات الإفريقية والعربية. فيمكن أن يقال إذن أن أهم ملامح المرحلة التاريخية الراهنة على مستوى محيطنا الإفريقي والعربي:
    1- تفسخ النظم الرسمية على مستوى الدولة والحزب، وعجزها التام عن التعبير عن إرادة الجمهور أو تفجير طاقته، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع بصورة مفزعة.
    2- انهيار مفهوم الأمن العربي المشترك وبروز مفهوم الأمن العالمى(أى الأمريكى) حيث تكون النظم الأمنية العربية ملحقيات تابعة بصورة كبيرة للاجهزة الإستخباراتية الغربية.
    3- انهيار القواعد الإنتاجية في الريف الإفريقي والعربي وتحول المزارعين والرعاة إلى كم بشرى فائض عن حاجة المجتمع، يحيط بالمدن البرجوازية إحاطة السوار بالمعصم، مما ينذر بثورة اجتماعية وشيكة.
    4- بروز تنظيمات ما قبل الحداثة (قبائلَ وعشائرَ) إلى مراكز القيادة في المجتمع، مع ما يحمله ذلك من رؤى عرقية ضيقة تشكل خمائر للحروب الأهلية المدمرة.
    أما على الصعيد الإسلامي فقد كانت الآمال معقودة، بعد خيبة الثوار القوميين واليساريين، على حركة البعث الإسلامي، حيث تتوفر أطر قيادية جديدة منعتقة من العصبيات العرقية والقطرية، تجمع بين الالتزام الديني المستنير والتقنية الغربية الحديثة، وتتعلم من التجارب الفاشلة التي لا تحصى، لتدفع بالمجتمع الإسلامي خطوة في اتجاه النهضة، وتقدم نموذجاً يقتدي به الآخرون. ولكننا بدلاً من ذلك صرنا نرى بعضاً من هذه الحركات الإسلامية قد حوّل جهاده المشروع ضد الظلم والعدوان إلى حروب داخلية يقتل فيها الأخ أخاه، ويدمر فيها كل فريق ما بناه الآخر، في سلسلة من المذابحات البشعة التي لا يقرها شرع ولا عقل(كما نرى فى الحالة الجزائرية والأفغانية والعراقية)، أما بعضها الآخر فقد تورط في لعبة الانقلابات والانقلابات المضادة (كما هو عندنا فى السودان)، وصار الاستيلاء على السلطة هدفاً قائماً بذاته يضحى من أجله بالقيم ويسفك في سبيله الدم. ثم انخرط صنف ثالث من هذه الحركات في مناوشات طائشة ضد القوى الدولية الكبرى، مناوشات لم يحسن فيها تقدير لمصلحة أو تخطيط لمستقبل أو قراءة لأخلاق الإسلام في القتال. فترتب على ذلك أن جرّ المسلمون في كل مكان إلى معارك لا يعرفون غاياتها، واستثيرت ضدهم قوى الاستكبار العالمي في الشرق والغرب معاً وصار الكل، تحت شعار محاربة الإرهاب، يجلب على المسلمين بآلياته ومؤسساته، فضيقت ساحات النشاط الإسلامي السلمي المستنير على ضيقها، وأغلقت منافذ الحوار مع الآخر على وعورتها، وانقطعت سبل الاتصال مع قوى الحرية والسلام المناهضة للإمبريالية والتي كانت تمثل حليفاً قريباً من المسلمين، وجملة القول، فإن هذه الحركات الإسلامية لم تستطع أن تنجز مشروعاً وطنيا جامعا، أو تكمل مشروعاً ثقافيا/فكرياً راشداً، أو تعد الأجيال القادمة إعداداً أخلاقيا وعلميا متيناً، أو تبقي حتى على الحلم الإسلامي نقيا ناصعا. فاذا وصلنا القول الى الأوضاع الراهنة فى الحركة الاسلامية فى السودان فماذا نرى؟
    إن أول ما سنرى هو أن الفصيلين الإسلاميين المتناحرين يسيران فى الإتجاه ذاته، اتجاه التدمير المتبادل، أى سنلاحظ أن العلاقة بينهما قد تحولت من المربع الرابع، حيث كان تناقضهما ثانويا غير عدائي، الى المربع الأول حيث صار تناقضا عدائيا رئيسيا، يسعى فيه كل فصيل الى تصفية الفصيل الآخر، مع تضاؤل مستمر فى امكانية بروز أى صيغة للتراضى. فهل يؤشر هذا الى احتمال أن يتعمق الصراع الراهن ويتفاقم بين الأطراف المتورطة فيه، ثم يظل ينتقل من صعيد الى آخر، حتى يتمكن أحد أطراف النزاع أن يطغى على الآخر، ويقصيه تماما من الساحة السياسية، أم أن من المحتمل أن يفقد كل من الفريقين (أثناء عمليات التدمير المتبادل)) السيطرة على مجريات الأمور السياسية، فى الوقت الذى تتبلور فيه قوى اجتماعية وسياسية جديدة مناهضة للتيار الإسلامى فى مجمله فتحتل مكانه؟
    ثم يبقى سؤال أخير عن طبيعة المرحلة التاريخية الراهنة في مستواها العالمي، وانعكاساتها وتفاعلاتها مع المستويات المشار إليها آنفاً، هل هي مثلاً مرحلة متطورة من مراحل الاختراق الرأسمالي/الإمبريالي، حيث تبلغ ثورة المعلومات والاتصال مداها، وحيث يحقق النظام الرأسمالى/الليبرالي انتصاره النهائي ؟ أم هي مرحلة المزاوجة " والتخليط " بين الليبرالية والاشتراكية ؟ أم هي مرحلة تراجع الآيديولوجيات الكبرى والفلسفات الكلية أياً ما كانت وتقدم العشائر والقبائل وتكوينات ما قبل الحداثة؟
    كيفما تكون الإجابة على هذه الأسئلة، فنحن نشهد من بين أيدينا ومن حولنا تحولات كبيرة، فنرى دولاً تهوي ونرى مجتمعات تمزق وتخلع من جذورها، ونرى أعداء يتحولون إلى أصدقاء، ومعارضين يتحولون إلى حكام، ومنتجين يتحولون الى متسولين. وبديهي أن تفسير مثل هذه التحولات الكبيرة لا يتأتى من خلال البصر وحده، وانما يحتاج المرؤ الى رؤية مكينة نافذة موصولة "بالشجرة المباركة"، وما لم تتوفر لنا تلك الرؤية العميقة فلن نستطيع فى هذا الكم الهائل من الضباب أن نعرف أنفسنا، أو نرى العالم من حولنا، ولن نستطيع أن نحدد "مواقعنا" في خريطته، ولن نستطيع أن نميز في القوى الإجتماعية المتصارعة المتناقضات الأساسية والثانوية، مما يتعذر معه معرفة العدو الاستراتيجى وميادين المعارك معه. أما اذا توفرت لدينا "الرؤية/النموذج" فقد يتيسر لنا أن نصمم خرائط للحركة والدولة، وأن نضع خططا كبرى وصغرى للتنمية، وأن نتعرف على القوى الإجتماعية التى يعبر النموذج عن طموحاتها ومصالحها فنجعلها قاعدة اجتماعية نتناصر معها فى عملية البناء الوطنى. أما القول بإعادة بناء الحركة الإسلامية فى غيبة "الرؤية/النموذج" فسوف لن تتجاوز آثاره استعادة الشركات والسيارات، أو مراجعة قوائم العضوية، وفرز الموالين والخصوم (كما يجرى الآن في عصبية عمياء).
    وبالطبع فقد يرى البعض في قولنا هذا شطحاً نظرياً بعيداً، وسيضعه فى خانة "الكلام النظري الفارغ"، وهى شنشنة قديمة، تتزعمها وتروج لها مجموعات أشرنا لها سابقا بعبارة "أمسك لي وأقطع ليك"، وهي من ذوات النزعة الفورية التي لا ترى من الأشياء إلا ظواهرها، ولا تهتم من الأمور إلا بأعجلها، وهي بالطبع تجسيد لذهنية العوام التي تهيمن على حياتنا الاجتماعية والسياسية في السودان وفي غيره من البلدان الإسلامية والإفريقية. وما يقلق أنه قد صار لهذه المجموعات وجود قيادي متقدم في داخل الحركة الإسلامية، فهى التي دعمت من قبل نموذج "المشيخة" ورسخته، لأنها بطبيعة الحال لا تستطيع لوحدها أن تكون مذهباً في الرأي، أو رؤية للحركة أو الدولة أو المجتمع. فإذا كان هناك أمل في الإصلاح فأول خطواته تكون بمواجهة مثل هذه الذهنية، حتى ينفتح مجال لتقبل الأفكار التى تسير فى اتجاه إعادة بناء رؤية إسلامية إصلاحية، وفى جذب ولم القوى الإسلامية المتناثرة واعادة تفعيلها، فاذا وقع ذلك فستكون الأزمة قد نجحت من حيث لم يحتسب أحد فى فرز نوعية جديدة من المثقفين المصلحين، اذ أن الأزمات على مسار التأريخ تفرز مثقفيها، منذ سقراط الى الغزالى وابن خلدون ومحمد أحمد المهدى وغرامشى وسيد قطب ومالكوم أكس. فإذا برز مثقفون جدد من الاسلاميين ذوو الأهلية الفكرية والأخلاقية، وممن استطاعوا أن يتحرروا من التبعية الفكرية والعصبية التنظيمية، ممن لم يتوغلوا فى النزاع الرهن، و تمكنوا من صياغة رؤية اصلاحية جديدة فذلك يعني (ضمن أمور أخرى) أن تيارا اسلاميا ثالثا سيولد، وستتولد فيه قيادات، وتتكتل حوله قوى اجتماعية جديدة، لتبدأ دورة جديدة من دورات العمل الاسلامى الرشيد.إن هذا أفضل بكثير من أن ننتظر نهاية الحرب الباردة بين الفصيلين المتناحرين، أو أن نترك المشاكل لحالها، اذ لو كانت المشاكل تبقى فى مكانها كما يبقى الحصى والرمل، لما كتبنا عنها سطرا، ولكن المشاكل حينما تترك لحالها فانها ستتحول الى "مخاطر"، وتحول معها الرمال الساكنة إلى عواصف عاتية تقتلع الجذور، ولا غالب إلا الله.
    (2) من نحن؟
    يسألني كثيرممن يلقاني من اخواني واصدقائي القدامى - الذين تفرقت بهم سبل السياسة - وأين أنت؟ يقصدون بذلك أين موقفي من الصراع الذي نشب وتطاول بين الإسلاميين في السودان. فكنت اجيب احيانا واسكت عن الاجابة في اكثر الاحيان، ليس تخوفا من فوات حظ او تطلعا لاقتناص فرصة (مع ان النفس الانسانية لا تنفك عن حظوظها الخاصة - كما يقول الامام الغزالي) ولكن لاني كنت ولم ازل ابحث عن ارض صلبة اقف عليها، وعن حجة بينة القى الله بها، اذ لا يمكن من بعد العواصف المزلزلة ان يكتفي الانسان بالبحث فقط عن (خيامه) القديمة، ولكن ينبغي قبل ذلك ان يفحص (الاوتاد) التي كانت تشدها الى التربة، فلربما اصابها عطب، او لربما يتوجب عليه ان يفحص (التربة) نفسها، فقد تكون هي التي تصدعت ومهدت الطريق الى العاصفة. على انه وقبل فحص الخيام والأوتاد والتربة يحتاج المرء أن ينظر في نفسه، فقد يكون هو مصدر العطب والخراب، وما العواصف السياسية والخلافات التنظيمية الا مظاهر سطحية لداء دفين في نفوس الافراد.
    فالسؤال اذن لاينبغي ان يقف عند (اين انا) وماهو ما سأجيب عليه لاحقا ولكن ينبغي ان يتجاوز ذلك الى (من أنا) وهذا ما لا تحسن الاجابة عليه دون رجوع الى شئ من التاريخ الاجتماعي، فهناك توجد الخلية الاولى التي نشأت فيها واعطتني اسما وشكلا ولغة ودينا؛ وهي المعطيات التي صارت عناصر أساسية من بين العناصر المكونه لهويتي. فانا من حيث الشكل واللون سوداني - أفريقي، ومن حيث اللغة عربي، ومن حيث العقيدة مسلم، وتشدني الأسرة من حيث الانتماء الصوفي الى الطريقة التيجانية، وتصلني السياسة بالحركة الاسلامية، وتصلني المهنة بالفلسفة والفكر السياسي وهلمجرا.
    ولكن هذه العناصر فوق انها ليست متساوية القيم والأهمية فهي ايضا لا تمثل كل العناصر المكونة لهويتي، اذ كنت كلما بلغت مقاما من مقامات الرشد احذف واضيف، واخفض واعلي بعضا من هذه العناصر، فكم من إنسان غير اعتقاده وبدل اسمه واعرض عن عرقه وطريقته، مما يؤكد ان الانسان لايصير انسانا بالموروثات الاجتماعية وحدها، ولكنه يصير انسانا عن طريق الوعي والارادة، فالانسان هو من يستطيع ان يميز العناصر "القلب" المكونة لجوهره، فيرفعها الى قمة هرمه التقديري، ويدرك العناصر الاخرى الثانوية فيضعها في منازلها، وانه وبمثل هذا الوعي بالذات وبقيمتها وبمكانها بالنسبة للآخرين يصير الانسان قادرا على فحص الذات ونقدها، وقادرا على فحص انتماءاته الموروثه، وقادرا وهذا هو الأهم على خرق التصورات النمطية عن الآخرين (Stereotypes) وتجاوزها عبر حوار يساعد على إنشاء انتماءات جديدة من خلال الصورة التي يرسمها لنفسه والصور التي يرسمها للآخرين من حوله. فمثل هذه الانتماءات الجديدة - التي تتجاوز المكان الجغرافي والنسب العرقي هي التي تفتح افقا ارحب للتطور الاجتماعي السلمي وتلك هي صناعة النفر من الناس الذين يقال عنهم "مثقفون"، واذا سئلت من انا فسأقول انني انتمي الى هذا الصنف من الناس الذين لا يقطع احدهم انتماءاته الموروثه ولكنه مع ذلك يحتفظ ببعد نقدي يمكنه من مراجعتها ونقدها، وبشجاعة تمكنه من النظر في موروثات الآخرين والتحرك في الفضاء الانساني بقلب مفتوح يبحث عن الخير المشترك بين الناس والحق الموزع على المصادر. ولكن من من الناس يسعى لاعادة تحديد هويته ورسم صورته، ورفض الصور الجاهزة التي يصنعها له المجتمع، والأدوار المعدة التي يحشره فيها السياسيون اوتطوقه بها الوظيفة؟
    إني لأظن ان الفشل الذي اصاب التنظيمات السياسية في بلادنا (ومن بينها التنظيمات الاسلامية) يرجع الى عجزنا نحن المثقفين في هذه الناحية، ولا يوجد من يماري الآن ان اوضح ماكشفته الازمة الاخيرة التي شهدتها الحركة الاسلامية السودانية هي عجز مثقفيها على قلتهم عن تحديد هوياتهم وقبولهم بالادوار الجاهزة التي يرسمها لهم السياسيون والتجار ورجال الامن. قد يرجع ذلك لاسباب تتعلق بالنشأة والتنشئة السودانية القروية الكافة عن السمعه والاعلان، فلا يستطيع احد تأدب في تلك البيئة ان يدخل في عمليات التسويق والترويج التي تتطلبها الحياة المدنية المعاصره، او قد يرجع للطرد المركزي الذي تحدثه بؤر السياسة والاقتصاد. وكيفما كان الامر فقد اختفى المثقف الاسلامي خلف الوظيفة او خلف التنظيم فانقطع عن الناس فصاروا لا يرونه الا من خلال الصورة التي صنعها له التنظيم وألبسه لها السياسيون. ولما لم يقم المثقفون الاسلاميون بتعريف انفسهم، ولم يرسموا صورهم ويثبتونها على جدران العمل الاسلامي الوطني، فقد صاروا غير موجودين في بيروقراطية التنظيم، وغير موجودين في بيروقراطية الدولة الا كما يوجد مترجم الملك يستدعي للخدمة في حضرة الاجانب ويستغنى عنه بانتهاء مراسيم الزيارة.
    فبيروقراطية الحزب وتجاره سواء في ذلك الاسلاميون وغيرهم - لا يريدون المثقفين الا أدوات فنية تستخدم في تحقيق مشاريع لم يشاركوا في صناعتها ولا يعرفون غاياتها، اما اذا استعصى احدهم اواستعصم فسيكون مصيره التغييب، كأن يغيب عن الحزب وعن الدولة او عن الوطن ذاته، فلا يسمع له صوت ولا ترى له صورة.
    ولعلك تدرك من هو المستفيد من تغييب (أوإفقارأو تهجير) هؤلاء، فغيابهم يجعل التنظيم/الحزب في حالة من غياب الذاكرة، وهي الحالة المثلى التي يستطيع فيها السياسي المحترف، والكادر الأمني، والبيروقراطي الفارغ، والتاجر الكذوب أن يتقلبوا بين الافكار والمواقف دون مواربة او حرج، في انتهازية لا يحدها حد، لان الجماعة السياسية التي يغيب مفكروها و مثقفوها، ستغيب عنها الذاكرة وتكون كمن ولدت البارحة، لا تثبت اقدامها الا اذا اتكأت على أب - شيخ.
    ان بداية الاصلاح تكون بالخروج على هذا المألوف، وبظهور صريح للمثقفين المصلحين على ساحات العمل الوطني الاسلامي حتى يتمكنوا من اعادة تعريف انفسهم بانفسهم وازاحة الصور القديمة عنهم، اذ انه بدون تعريف للذات لن يكون هناك شعور بها، والشعور بالذات هو بداية للوعي المفضي للحركة، كما انه من حق المثقف ان يكون حرا في رسم صورته وفي رسم صورة المجتمع الذي يريد، اما اذا حرم من ذلك الحق، او ا ختار ان يدخل في صورة رسمها له الآخرون فقد فقد حقه في الحياة.
    فمن هم المثقفون؟ وماهي الصورة التي يودون ان يعرفوا من خلالها؟ وما هي صورة المجتمع الذي يريدون؟
    نقصد بالمثقفين/ المفكرين اولئك الذين يهتمون اهتماما خاصا بتحصيل المعرفة وانتاجها والتعبيرعنها، ويجتهدون في سبيل ذلك للاتصال بمصادر تتجاوز تجاربهم الشخصية المباشرة، وذلك بقطع النظر عن المهن التي يشغلونها. فاذا صار احدهم موظفا في مكتب او مهندسا في مصنع فذلك لا يعني انه لم يعد مثقفا مفكرا اصيلا، فالمثقف يعرف بالدور المعرفي الاجتماعي الذي يضطلع به وليس بالمهنة او النشاط المحدود الذي يتحصل عن طريقه على معاشه.
                  

12-13-2014, 11:08 AM

عوض سيد أحمد
<aعوض سيد أحمد
تاريخ التسجيل: 11-28-2014
مجموع المشاركات: 252

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لافرق بين نظام الانقاذ مدعى الاسلام والنظام الامريكى الرأسمالى الوحشى (Re: wadalzain)

    ( النظام الامريكى الرأسمالى الوحشى يدعى الديمقراطية والمساواة والحدب على حقوق الانسان والنظام السودانى الحالي جاء رافعا شعار " هي لله لا للسلطة ولا للجاه " ورافعا شعار " ربط قيم السماء بالأرض " ولكن هما ( اى النظام الرأسمالى الامريكى والنظام الاخوانى السودانى ) سواء من حيث الجوهر والمخبر ن كل يتغطى بخرق ليوهم الناس ) .


    نعم يا أخى ود الزين , لا فرق بين السلطتين لو نظرنا اليهما من هذا الجانب الذى أشرت اليه , ومع ذلك ربما نجد المواطن هناك , يتمتع بحقوقه كاملة , ويعيش فى داخل بلده وخارجها معززا , مكرما , بخلاف ماهو عندنا هنا , فالمواطن خارج قبيلة (السلطة ) هنا , انتزع منه كل شىء , لا حقوق له , ولا كرامة, ولونظرنا للجانب الذى توصلت اليه الدول الغربية (اوروبا وأمريكا ) فيما يتصل بحقوق المواطن , هذه الميزة التى توصلوا اليها , بعد قرون من المعاناة , والحروب الطاحنة , والصراعات المميتة , هذه الميزات هى التى جاءت من أجلها الرسالة الخاتمة , وتعد على رأس مبشراتها , لأن الاسلام جاء أصلا لاسعاد البشرية جمعاء , ليعيش الناس كل الناس فى ظله فى حالة سلام , ووئام , وعزة , وكرامة , وهذا ما دفع الامام ابن تيمية للقول : " يحكم المسلمين (كافر ) ويعدل , خير لهم من أن يحكمهم ( مسلم ) جائر , فهذا الذى يجرى فى بلدنا الحبيب , ويراه الناس كل الناس على ظهر هذه البسيطة , من ظلم , وجور , وقهر , وتعدى على حرية , وكرامة الرعية , لا يمت اطلاقا بأى صورة من الصور لتعاليم , وموجهات ديننا الحنيف , بل انها تقدم أكبر , وأعظم هدية , لأعدائه المتربصين باعتبار أن هذا الذى يجرى يتم وينفذ عن طريق دولة ترفع رأيته , نعم , يا اخوانى , هذه الراية التى جاءت أصلا لاسعاد البشرية جمعاء , حولها هولاء الى وسيلة لخراب ودمار البلاد والعباد , فهل هناك على وجه الأرض فتنة , وبلية , أكثر قسوة , وبشاعة من هذا الذى نحن فيه .
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de