|
مَخابئ الذاتيَّة !
|
مَخابئ الذاتيَّة ! شاذلي جعفر شقَّاق (وراءَ كُلِّ نَصٍّ يتخفَّى شيئٌ عميق ، الكاتب وحده يعرف أسراره ومفاتنه ) الكاتب الجزائري : واسيني الأعرج
معلومٌ أنَّ داخل كلِّ نفْسٍ بشريَّةٍ – غضَّ النظر عن كونها كاتبةً أو مُبدعة عموماً – يوجَد صندوقُ أسرارٍ لا يملك شفرة َ قَفْلِه التوافُقيِّ أو كلمة سرِّها إلاَّ الشخصُ عينُه ! ولكنَّ النفْس المُبدعة بما أوتيتْ من شفافيةٍ وملَكَةِ إفصاحٍ وكشْفٍ واكتشافٍ وجِبِلَّةِ جُرأةٍ وتمرُّدٍ أدنى درجاتها أنْ تُفرِّقَ شجاراً أزليَّ الحدوث بين البوْحِ والصمتِ اللعين داخل مضمار الأدب الفسيح ؛ فهي أكثر عُرضة لاندلاع التداعي العارم ونشوب الاندياح الكاسح وحرْب الاستدراج الباردة ! ولكنَّها – أي النفْس المُبدعة – مفطورةٌ أيضاً على حماية ذاتيَّتها ، تشيدُ حوائط الصدِّ والدروع الواقية لمخابئ الصندوق السِرِّي من واقع امتلاكها لخيْط اللُّعبة الفنيَّة ، وسيطرتها على أدوات التعبير وتذويدها بخاصيَّة الإيحاء والترميز والقلْب والإبدال والتمويه وغيرها من مهارات الكتابة وسِحْر اللغة ، وفوق كلِّ ذلك استناد منتوجها – أيَّاً كان جنسه – على أحد ركائز النصِّ الأدبيِّ الرئيسة ،ألا وهو عنصر الخيال ! مِن الكُتَّاب والأدباء مَن خلُد لِسِتْرِهِ اللذيذ في هُزُع عُمرِه حتى الصباح .. ومنهم مَن غلَب طبعُه على تطبُّعِه ، فقُطِع لسانه ..ومنهم مَن حرق خلفه سُفُن نجاتِه وواجه المصيرَ بصدرٍ رحْبٍ ،ومنهم مَن تصالح مع ذاته في ما ورائيَّات العقل فطفق لا يني لسانه يرتِّل نشيد الجنون المجيد .. ومنهم مَن أخرج النقَّاد الأفذاذ أصدافه وقماقمه من قاعِ بحرِه اللُّجّيِّ ! ومنهم مَن بقي مُمْسِكاً بهذا الخيط الرفيع الذي لايمنع المُتذوِّقين والمُتلقّين - كُلٌّ على هواه – مِن ارتياد حوْضِه ، وفي الوقتِ ذاته يحتفظ الكاتب بابتسامة نصرِه ، من فوق الصندوق السِّحْري المعلومةُ شفرتُه له وحده لا سواه ! وهذا المدُّ والجزْر (المُتناقضان) ما بين استحالة الابتعاد عن منطقة السِّر ، و حظْر الاقتراب منها ، أو الاقتراب بحذر ؛ لا يمنعان أن يكمن داخل كُلِّ كاتبٍ هذا الصندوق الأسود ،بحيث لايستطيع إلاَّ أن يلتفَّ حول محتوياته ويُغازل جواهرها وإنْ تكدَّست حولها مُنتجات الأقعال الحياتيَّة الطبيعيَّة وتجاريبها المعهودة ! .. لايستطيع إلاَّ أن يتذوَّد و يعُبَّ منها – بطريقة أو أخرى - بقدْر ما يسمح البوْح السادر في فضاءِه الأدبيِّ من منابع الإلهام الأولى ومُحرِّضات الكتابة البِكْر .. مُستفزَّات القريحة .. نِتَف الذاكرة ..قُصاصات المواقف ..نِثار الأحداث وإنْ بدتْ تافهةً في خِدْرها المكنون ، إلاَّ أنها تشكِّل – في لحظةٍ ما – قاصمةَ ظهْر الحنين وتفجِّر مكنونات ذاته القصيَّة ورجْع صداها إلى مُنحَدرات التجلِّي وسهول الانعتاق إلى حيث منابت الدهشة في منطقة الحظْر المتمترسة خلف لافتة ممنوع الاقتراب والتصوير ! كما لا يستطيع الصندوق السِّرِّي نفسُه إلاَّ أنْ ينضح بمكنونات صدرِه ومواجد روحه ما وجد إلى ذلك سبيلا شاء أم لم يشأ حاله كحال نزار قبَّاني وهو يقول : أنا عنكِ ما أخبرْتُهم لكنَّهم لمحوكِ تغتسلينَ في أحداقي أنا عنكِ ما كلَّمتهم لكنَّهم قرأوكِ في حبري وفي أوراقي للحبِّ رائحةٌ وليس بوُسْعها ألاَّ تفوحَ مزارعُ الدَّرَّاقِ ! هذا ولكُلٍّ نصٍّ أدبيٍّ محرِّضٌ يقدح شرارة التوهُّج الأولى ..وقد يكون هذا المحرِّض أو العنصر الاستفزازي خارج حسابات الإفصاح عنه بالنسبة للكاتب ..ليكُن مخاطباً من وراء حِجاب ..أو مُتنكِّراً في هيئة عابر سبيل ..أو مُتكفِّفاً أو معتوهاً ..أو كومبارْس يظنّ نفسه بطلاً رئيساً .. آخَراً في صومعة (أنا) أو (أنا) في لُبوس (آخر) !.. مفترَق طُرُق هائمة على وجوهها ..غلالة شفق مُتنازَع عليها بين المشرق والمغرب ..أيقونة فرح حُبلى بالدموع ..قفار بؤس تنبجس منها الأغاني والأغاريد ..بُحيرة خطيئة تسبح عليها شقشقات وصفير وخشخشة وبطْبطة ..ارتطام ذيول بالطين وفرقعة التقاء فُكُوك ..تغريبة عشق خرافي تحطُّ على شفة القلم متى ما همَّ بالكتابة ..تغريدة رضا وعرفان تندلق في أحلك الظروف وأعسر الأوقات ..وغيرها .. و غيرها من نقائض الحياة الحافلة بالانتصارات والهزائم والابتسام والدموع ! لا شك أنَّ الكاتب يمنح قرَّاءَه مفاتِحَ النصوص وإلاَّ ما جدوى الكتابة إذا غُلِّقتْ أبوابُها طُرَّاً دون طُرَّاقها ومُريديها ؟ !إذ لا بُدَّ من صُوى تُشير إلى الطريق ، وإشاراتٍ تفسح للانسياب إلى حيث الرسالة الإبداعية أو المغزى الأدبي ..لا بُدَّ من دليلٍ لُغويٍّ سياحيٍّ يعرِّف بالمداخل والمعالم والحدائق والعرائش والسُّقُوف والجُدُر والأرائك ..ولكن حتماً تظلّ هناك حُجرةً في القصيِّ ذات أساطيل حِرْز وبوارج مُناورة يستأثر بها الكاتب لنفسه ويجعلها محميَّةً عن متناوَل الآخرين وإنْ أرسلوا لها في القرى والمدائن حاشرين ! بل ربَّما جعل مروره هو شخصياً بها كعبور المتدرِّب العسكري (المُستجد) بميدان التدريب المتعارف عليه باسم (الأرض الحرام) ُ إذ ليس يُمكن قطعها إلاَّ عَدْواً أو هرْولةً وإنْ بشم من عرَصاتها سريعاً ورشف من منهلها وَجِلاً كشراب القطا !
الأيام- الملف الثقافي –الأحد 16/11/2014م
|
|
|
|
|
|