|
|
الإسلاموية .. الدولة والهوية
|
الإسلاموية .. الدولة والهوية
(( ومن آياته خَلْقُ السماوات والأرض واختلافُ ألسنتِكم وألوانِكم إن في ذلك لآياتٍ لَّلْعَالِمِينَ )) ( سورة الروم -الآية(22) )
((أنا الآخر فلا وجود للأنا في انعدام الآخر. بل الأنا هو الآخر في كينونة موصلة متواصلة بما في ذلك من معاني المواصلة والتواصل. فيحق للأنا أن يقول كينونتي في كينونة الآخر. وللأنا أن يقول أيضا : للآخر وجود، إذن أنا موجود : ومعنى ذلك أن لا وجود للأنا إلاّ بوجود الآخر، أيّاً كان ومهما كان وحيث ما كان)). (الشاعر الفرنسي رامبو) في فبراير الماضي أقام المؤتمر الوطني ندوة بقاعة المؤتمرات بعنوان "آليات تعزيز الهوية السودانية" وقد نقلت الصحف على لسان القيادية بالمؤتمر االوطني وأمينة المرأة إنتصار أبوناجمة أن الانقاذ لم تتسبب في تفشي القبلية وأنها جاءت لتعيد دولة الخلافة الاسلامية، واتهمت جهات لم تسمها بالسعي لتفتيت البلاد، وأكدت على أهمية حل مشكلة الهوية باعتبار أنها ستؤدي إلى إنهاء الحرب بالبلاد، ونوَّهت إلى أن استغلال بعض الجهات للمشكلة لتحقيق مصالحها الذاتية سيحول الصراع بين القبائل الشمالية لذلك فإن أية بقعة في السودان قابلة للتفتيت".(انتهى الخبر). لن ندخل في مماحكات عمَّن هو صاحب المصلحة الذاتية في الصراع الدائر، ومن هو المسئول عن تفتيت البلاد فالصورة والواقع أبلغ من أي حديث، ولكن نأخذ حقيقة هامة من حديث السيدة انتصار الأول وهو ما لا خلاف حوله (أهمية حل مشكلة الهوية باعتبار أنها ستؤدي إلى إنهاء الحرب بالبلاد). بالنسبة للقول الذي ورد على لسانها عن تحديد الهدف الذي من أجله جاءت الإنقاذ بأنه "إعادة دولة الخلافة الإسلامية"، منعاً للإطالة سنتناول هذا الأمر في مقالٍ منفصل، حيث نفرد هذا المقال لمناقشة القضية الحيوية والمفصلية اليوم، وهي مشكلة الهوية باعتبار أن حلها سيؤدي إلى إنهاء الحرب المهدد الحقيقي للحاضر والمستقبل السوداني، وهي تعد مربط الفرس في الأزمة السودانية باعتبار أن كل الحروب التي تدور في أصقاع السودان المختلفة والتي بسببها تم تقسيم البلاد هي في مضمونها حرب هوية في المقام الأول. إنَّ الجماعات الإسلامية قدمت رؤيتها التي تقول بأن الحل لمسألة الهوية والوحدة الوطنية هو تعريب وأسلمة السودانيين كافة بالقوة، ووجدت الفرصة لتطبيقها وإنفاذها في أرض الواقع ورغم خطأ الرؤية واتضاح فشلها وخطورتها إلا أنها لازالت مصممة على الاستمرار فيها لأسباب تتعلق بالبديل باعتباره مهدداً لوجودها، فهي وجدت حالها أمام خيارين مستقبل السودان بوحدة تنوع ثقافاته وإثنياته المتعددة، ووحدة أراضيه وسلامة بنيه، أو وجودها واستمرارها في السلطة واختارت السلطة مضحية بالسودان الذي نعرفه ونألفه. تحوي الإسلاموعروبية فكراً إقصائياً متعالياً رافضاً النظر (للآخر) إلا من خلال منظور (الأنا) الضيق، وهنا يكمن مربط الفرس في أزمة الهوية السودانية حيث أفرزت لنا تلك النظرة الاستعلائية واقع المركز (الذات) والهامش الذي هو (الآخر) مما أدى لعدم الاستقرار الذي يعاني منه السودان وخارطة مواطنة مختلة وغير متوازنة في الحقوق والواجبات حيث لا يمكن مساواة السيد (الذات) والعبد (الآخر) مهما خلصت النوايا ومهما كانت ضرورة وجود أحدهم في إثبات وجود الآخر. في كيفية التعامل مع التعددية الإثنية ومعالجة الهوية السودانية يقول الدكتور حسن الترابي، المنظر الأول للجماعة الإسلامية في مؤلفه "الإيمان وأثره في حياة الإنسان" ص 219 منشورات العصر الحديث ما يلي: (لا تنشأ حياة سياسية إلا بقيام جماعة توحدها أواصر الموالاة ويعينها من دون الناس بذاتية مستقلة ثم تقوم عليها سلطة مركزية ترعى شئونها وترتب علاقاتها العامة بمقتضى نظام جامع. ولكن نماء العاطفة الموحدة واستتباب النظام الحاكم تطور عسير يكلف كثيراً من الرهق والاضطراب في مرحلة بناء الأمة، إذ تكون الوحدات الاجتماعية الأولية التي تأتلف في تكوين الأمة لا تزال مشربة بروح العصبية الاعتزالية ومقيمة على حال الحرية الساذجة التي تستعصي على الانضباط. ثم أن الأمة قد يعترها الهرم بعد تمام التكوين فتطرأ في وسطها نزعات التجزئة التي تهدد سلطانها الواحد. ولا ينفك التاريخ يشهد دورات نشوء الأمم وانحلالها وتوارثها لولاء الناس وأقاليم الأرض. إلا الإيمان فإنه يبني الأمة بأيسر وأسرع وأثبت ما يكون لأن الإيمان مفعول اختيار حر. فأيمّا طائفة من الناس اختارت الإيمان أصبحوا لفورهم أمة واحدة تظلهم جامعة الدين، ثم تقوى جامعتهم من بعد بفعل عوامل التوحيد التي تنشأ على التراخي في تطور الأمم الأخرى كانتشار اللغة الواحدة واختلاط الدم ونشوء المصلحة الواحدة والتاريخ المشترك). لقد أوردت هذا المقطع بأكمله من فكر د. الترابي حيث تتضح النظرية الإسلاموية في تكوين هوية الأمة، وهي تتلخص في نقطتين أساسيتين الأولى تتركز في الدين (المعني هنا الإسلام) (المقدس) والإيمان بهذا الدين كمصدر أساسي للحكم والثانية انتشار اللغة الواحدة (المعنية هنا اللغة العربية). ثم يأتي أخيراً عاملا اختلاط الدم وتوحد المصالح. من موقع السودان الجغرافي ومن خلال تتبع التطور العقائدي والثقافي في السودان من المنظور التاريخي نجد أن ميكانيزيمية التعريب والأسلمة لشماله قد انطلقت قبل مئات السنين بعكس تلك النظرية تماما فلقد كانت البداية الهجرات العربية قبل اتفاقية (البقط) وبعدها وكانت الأولوية تأمين المصالح التجارية ( أي المصلحة المشتركة) ثم تلاها بعد استقرار أولئك المهاجرين المصاهرة مع السكان الأصليين (عامل اختلاط الدم) وبعد وقت كاف عمت اللغة الوافدة "اللغة العربية"، ثم انتشر الدين الجديد "الإسلام" وامتزج بالثقافات والأعراف النوبية والبيجاوية وكان الناتج إنسان سنار المسلم المستعرب. وقد لخص الدكتور أبكر آدم إسماعيل في مقال يرد فيه على مقالة للدكتور غازي صلاح الدين عن "حق الأغبياء في التفكير" منتقداً النظرية الإسلاموية في سعيها استنساخ الماضي (أن المشروع "يقصد المشروع الإسلاموي" يمر عبر فاعلين أساسيين، المقدس، أي الجانب الديني بدءا من اللاهوت إلى التفسير، ثم التطبيق، والدم، وتعيد إنتاج نفسها ـ رأسيا بمرجعية المقدس، وتابعه؛ اللغة والتفاسير، فيما يخص الفاعل الأول. وإعادة إنتاج الدم عبر الأنساب، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الأنساب تقوم رمزياً مقام الدم، فالدم في الثقافة العربية يمكن اكتسابه عبر تلفيق الأنساب، ولكن بشروط طبعاً، مثلما تثبت رؤية هلال رمضان بالشهادة حتى ولو أكد علماء الفلك ألَّا هلال) إن هذا الابتذال للسيرورة التاريخية التي على أساسها يتم تبادل المراحل التاريخية المختلفة وفقاً لقوانين الجبر الديالكتيكي لا يمكن إنجازه في الإطار الإسلاموي الذي يسعى لاستباق الزمن بسياسة حرق المراحل. وذلك بحثاً عن انتصار آني للخيار الحضاري تجنباً للإنتحار السياسي الذي أمسى الخيار المصيري. من خلال التمادي في سياسة فرض الرؤى الثقافية والعقائدية باستخدام القوة والترويع والإبادة الجماعية التي تنتهجها السلطة تم قتل وتشريد الملايين مما أدى لتفكك وتمزق نسيج الوحدة الوطنية والاجتماعية القائم، وعمَّق من المشكلة وساهم في عزل السلطة محلياً وإقليمياً ودولياً مما جعل الوطن والمواطن في آخر سلم أولوياتها. وقد غاب عن القائمين عليها أن طمث تاريخ أية مجموعة إثنية أو محو أية ثقافة محلية، مهما صغر حجمها، يعد جريمة لا تغتفر في حق الإنسانية جمعاء. ما تبقى من وطن، أو هذا الواقع السوداني المتنوع ثقافياً المتعدد عرقياً ودينياً وألسناً وأعرافا ومجاورة يتطلب جهد مؤسسي فعال من قبل جميع مؤسسات المجتمع، الأهلية والمدنية والحكومية، رسمياً وشعبياً .. وهي مسئولية تاريخية ونحن نمر بهذا المنعطف الخطير في أن نكون أو لا نكون. حماية ورعاية ثقافات الاقليات الضعيفة وإبرازها ونشرها وتوثيقها واجب في أيدينا اليوم وأيدي غيرنا غدا ، وأن أي استعلاء من أية مجموعة عرقية أو ثقافية، مهما بلغ شأنها أو أي محاولة لقمع وحجب ثقافة الآخر، يكون مكمن ضعف قاتل للهوية السودانية كلها .. ديمقراطية الثقافة هي جوهر ديمومتها وتطورها وانطلاقها نحو العالم، وهي السبيل الوحيد لأن نوجد لنا يوما ما ثقافة سودانية تحتوي كل سمات هذا المجتمع المتعدد وتعبر عن همومه ووعيه وتكون رافد إيجابي في الثقافة الإنسانية ، ثقافة ذات ملامح محددة وخاصة، وهي حتماً حين تأتي لن تكون عربية نجدية ولا أفريقية نقية التزنج بل ستكون سودانية، قد لا نعيش حتى نراها ولكن من أجل أطفالنا القادمين فلنمهد لها الطريق بالإيمان بالتعددية و بنبذ الاستعلاء العرقي والإقرار بالتنوع الثقافي وبديمقراطية الصراع الفكري وتطوره الطبيعي، ومعافاته من اللعب الخشن وغير القانوني فكما يقول شاعرنا المرحوم محمد الحسن سالم حميد. بى كم قتيل تقدر تدوم عمراً طويل في السلطنة بسم الله .. ولا الشيطنة وارد حراق نص البلد في جنح ليل بى فدّ قتيل بس مستحيل التجبر الأبنوس غصب يصبح نخيل والعكس لا تتعب تجر خيط الفجر تالا الأصيل خلى الوطن ياخد براحو كما الخميل من كل لون تابع جميل
عاطف عبدالله [email protected]
الميدان 17/06/2014 ملحوظة : الخاتمة سبق لي نشرها في دراسة أخرى نشرت بعدة صحف منها الاتحاد الإماراتية ومجلة أركماني وصحيفة السوداني وكررتها هنا لتثبيت الفكرة لا لإفلاس فكري
|
|
 
|
|
|
|