|
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)
|
حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد (قص إرتجالي ومباشر)... حلقة "1"
لكل منا ذاكرة مشرقة مع جداته من طرفي أمه وأبيه ما ألفى إحداهن على قيد الحياة، وكأنه من قوانين الحياة. وأنا محظوظاً ألفيت جدتي "حبوبتي" لأمي آمنة حماد مردس على قيد الحياة وعشت معها جل طفولتي وصباي. حبوبتي آمنة "تيبكال" حبوبة سودانية: لطيفة، حنينة وساحرة. ولدت آمنة حماد في نهاية القرن التاسع عشر بداية القرن العشرين ورحلت في العام 1986 في هدوء وسكينة راضية مرضية.
لدى آمنة حماد شقيقة واحدة "فاطنة" وفاطنة هي حبوبة صديق ود محمد موسى بالرياض وخمسة أشقاء هم: محمد (الجد المباشر لحسبو حماد بالرياض) وأحمد الدود (همباتي شهير وهو جد مي بركات بالطائف) وحامد (ناس قدالة) والهادي (ملياردير) وعبد الرحمن الملقب ببحر العلوم (أستاذ بمعهد أمدرمان العلمي وقد سمى بنته الكبرى على إسم شقيقته "آمنة" الآن بليدز إنجلترا) ..هؤلاء الخمسة رجال مع شقيقتهم الواحدة أنجبوا جيشاً من الناس الهميمين يشكلون الآن نصف سكان بلدتنا "ود أبو دروس" يعيش معظمهم في قسم خاص هو "الحماداب". وحبوبتي آمنة لم تكن أي شيء غير حبوبة حلوة ونبيلة. كانت تقيم كل الوقت في بيتها الخاص بعد وفاة زوجها جدي الطاهر الطريفي مردس (إبن عمها طبعاً) ولأن كل فتاة بأبيها معجبة فقد سمت أمي أول أبنائها على إسم أبيها فكان أستاذ الطاهر جمال الدين ولكنها لم تسمي أياً من بناتها "آمنة" لا أدري لماذا برغم حبها المفرط لوالدتها وعليه أنا شخصياً أول بت تجيني في المستقبل "إن شاء الله" ح أسميها آمنة وأدلعها ب"ميمي".
-موت علوية بت بدر الدين علوية كانت البنت الكبرى لخالي بدر الدين ود مصطفى الزبير ود مردس. كانت جميلة ومدللة . ولدت علوية بمشكلة ما في الدم (أو هو ما سمعته لاحقاً والموت حق"لها الرحمة"). كان موت علوية بدر الدين مفاجأة مرعبة بالنسبة لي ليست لأنها بنت خالي العزيز وشقيقة صديق العمر والطفولة صلاح بدر الدين. لا الأمر أفدح من ذلك. إذ كانت تلك أول مرة أكتشف عندها أن هناك شيء مرعب أسمه "الموت". أول مرة أعي حقيقة الموت وأفهمه لكن دون أن أعرف بعد كيف يحدث هذا الحدث العجيب الخطير الفظ. فسألت حبوبتي عن قصة موت علوية وكنت على يقين أن حبوبتي أفهم زول في العالم وعندها درجة بروفسير في كل ضرب من ضروب الحياة.
فأجابت حبوبتي: "كتلتها أمها بالجبنة والطحنية" وواصلت شارحة أسباب الجريمة "هردت مصارينها باللغاويس". كانت حبوبتي ضد كل أنواع الطعام الحديثة ولا تؤمن إلا بالكسرة والعصيدة باللبن ومشتقات اللبن الطازج وبس . وكانت تعتبر الجبنة والطحنية والرغيف والفول المصري مؤامرة صهيونية ولا يأكلها إلا الفقراء والأفندية أي الناس الما عندهم سعية. منذ تلك اللحظة التي أخبرتني حبوبتي بالأسباب الخفية لرحيل علوية أضربت لعدة سنوات مقبلة عن "اللغاويس" وألتزمت إلتزامياً صارماً بالروشتة بتاعة حبوبتي حتى كادت تؤدي بي مرة إلى الموت "الموت الواحد الأحمر دا".
-مهمة سرية جداً أو الموت غرقاً!
في إحدى المغربيات بينما أنا عائد من (ماتش) مناسبة كروية ساخنة مرمد ومبشتن ونفسي قايم وما أزال أضقل بكورة الشراب في مشهد يحسدني عليه رونالدو إذا بحبوبتي تخبرني بأمر جلل وكارثة محققة "اللبن خلص" يعني مافي شاي مغربية وشاي المغربية أحد أركان الإيمان عند حبوبتي كما أن اللبن والأوكسجين حاجة واحدة عندها.
أمرتني أن أذهب إلى إبن أخيها "الطيب على حامد مردس" بعد أدتني شكرة كدا من النوع أبو كديس من شاكلة "فارس الحديد إن حمى" فأديت النكس رفعة كدا وفللي على بيت ناس جدي على ود حامد، برضو ما في لبن، لقيت جدي على ود حامد وحده أخبرني "المركب فيها مشكلة والبحر دميرة والطيب ذاتو الليلة نايم كتر في الدومة" الدومة هي المنطقة المقابلة للعسال من جزيرة أم أرضة من خلف البحر.
ونحن طبعاً بيتنا "أسرتي الصغيرة" تقيم في الناحية المقابلة مباشرة للحلة ود أبو دروس من جزيرة أم أرضة أي في قلب الجزيرة حيث من هناك يأتينا اللبن كالعادة والخضروات واللحمة والجداد و جناه والصمغ والحنبك والنبق والقرض واللالوب وأنا كلما أمشى بيتنا في الجزيرة برجع ومعاي أبو الدنان. أنا قاعد مع حبوبتي عشان المدرسة. لم أرجع إلى حبوبتي بل قررت دون أن أستشير أحداً أن أعوم البحر "تلاتة كيلومتر" وأجيب اللبن لحبوبتي. وصلت بيتنا والدنيا شبه مضلمة فصدمت أمي العزيزة ولجمتها الدهشة فصاحت في وجهي "أوعى تكون جيت عايم؟" ولمستني لقتني مبلل فصارت تولول "كر علي" وتلعن حظها المايل دائماً معاي فكوركت فيها مكذباً فكرتها كاذباً عليها بعين قوية "أنا جيت بالمركب" وذكرت لها أسماء وهمية من أصحابي منتظرني في المركب عشان نرجع. كنت بالضبط عشرة سنوات من العمر.
لم يكن بوسع أمي التحقق من كذبتي في الحال كون الشاطي الشرقي يبعد حوالي كيلومتر من منزلنا في الجزيرة عكس الشاطي الغربي الملاصق. أعطتني أمي باقة من اللبن بعد أن أخبرتها بهدفي ووصتني أن أعمل حسابي من عوارض الطريق (ليس من بين هذه العوارض البشر فالبشر كلهم أهلي من تلك الناحية) وإنما عوارض الطريق هي العقارب والثعابين وأشياء أخرى غير مرئية تجد مكانها في رأس أمي وحده.
لم تعطيني أمي اللبن وحده (حوالي 4 أرطال) بل أيضاَ حوالي كيلو ونصف شية جاهزة للأولاد المعاي في المركب (حبوبتي ما عندها سنون للشية) حيث قررت أمي أن نقزقز بيها في المركب. فأكلت منها شوية في الطريق ورميت البقية وخضت عباب البحر في ليلة دامسة إلا من سماء مرصعة بالنجوم. ما عندي مشكلة في العوم. أصلاً منذ وصلت سن التاسعة لا أركب المركب "صبينة" إلا نادراً لكن هذه المرة هناك أمران لأول مرة أواجهما وهما: الليل وباقة اللبن. تعلمت نظرياً من عبد الرحمن حماد وهو أحد سباحي البلدة الساحرين المعروفين ويستطيع أن يشيل معه طن فوق ظهره سابحاً كالأسماك. علمني عبد الرحمن بعض الفنيات في حمل الأشياء الثقيلة أثناء السباحة وبحسب الحالة والمادة المحمولة فأما الزول يلز الحاجة قدامو أو يضعها على رأسه أو فوق ظهره.
وأنا أخترت الخيار الأول بشكل تلقائي "اللز". وكان كل شيء يبدو سلساً في البدء غير أنه قبل الوصول إلى البر بعدة أمتار خارت قواي بشكل مفاجىء وأصبحت لا أرى جيدا. تعبت. لم تعد هناك أي طاقة في جسمي. حاولت جهدي كله لدفع جسدي إلى الأمام. لم يكن بالمستطاع. تركت باقة اللبن نصف الممتلئة تسبح لوحدها من خلفي عدة أمتار وحاولت إنقاذ نفسي. ليس ممكنا. توقفت يداي وقدماي عن الحركة بشكل تلقائي، في الحقيقة لم أعد أشعر بهما. فقط كان رأسي يعمل بشكل جيد إلا من بعض الخدر. أيقنت بشكل لا يقبل الجدل أنني ميت لا محالة.
إستسلمت للموت. الشيء الوحيد الذي فعلت أن عملت كل جهدي لأحاول النزول إلى تحت عبر قدميي. كنت آمل في شيء ما.. معجزة. لكنني أذكر جيداً أنني كنت أتعجل الموت خوفاً من الموت. وداخل تلك المعمعة وجدت قدميي تصلان إلى الأرض وأنفي في السطح. كان مستوى الماء فوق شفتي وتحت أنفي تماماً. لم أصدق. فرحت، فرحت، فرحت. أنا لن أموت "يا للهول". لا حول ولا قوة إلا بالله. تلك لحظة من لحظات الحظ النادرة في الحياة و "التحولات!". مكثت في ذاك الوضع حوالي دقيقة وزيادة ثم أخذت نفساً عميقاً ورجعت عدة أمتار سباحة إلى الخلف أجذب باقة اللبن وأعود بها إلى البر.
يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد. محمد جمال
| |
  
|
|
|
|
|
|
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)
|
حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "5
لقاء السحرة
السحر عندنا في الدارجة السودانية يقابل "العين" وتستخدم الكلمتان بذات المعنى في أحوال كثيرة والزول الفاعل يسمى "السحار" والزول المصاب يسمى "مسحور" مرة ومعيون مرة أخرى. وهناك أغنية شهيرة للفنان خليل إسماعيل عنوانها "بسحروك" (خوفي بس ياسمحه ماتصيبك عيون بسحروك يا السمحه لو شافو الخدود ولا شافوا الاعين المكحوله سود).
والتراث السوداني الشفاهي كما المكتوب مشحون بقصص السحر والعين. ليس السودان فحسب بل معظم أركان الكرة الأرضية يشاع بها نوع من الأحاديث والحكايات حول السحر والعين مع اختلافات محددة في المقدار لا النوع. وفي هولندا عندما يبدي أحدهم إعجاباً فائقاً بأمر ما فمن المحتمل أن يدق الشخص المعني بالأمر بأصابعه على أي جسم صلب أمامه ويقولون "دق الخشب" وإلا سيموت بحار "هكذا تقول الإسطورة" في إحدى تجلياتها. ليس بالضرورة كل الناس تؤمن بالسحر فهو أمر من الأساطير.
عندما تعرفت على أهلي في قرية مسرة وهي بلدة صغيرة ساحرة تقع حوالي كيلومترين جنوب حينا. أعجبت بأهلها الأوفياء جداً واستطعت صناعة صداقات كثيرة في فترة صغيرة وأصبحت في المستقبل عضواً أساسياً "دفاع" في فريق مسرة للناشئين وكنت جل الوقت في بيت خالي أحمد عبد اللطيف التاني "بيت اللقية" وبيت ناس الشافع الهادي وبيت ناس سند برفقة صديق العمر جمال بشير يونس وكل الناس أهلي بلا فرز . لكن " الحلو ما يكملش" كما يقرر لنا المثل المصري الشهير. إذ سرعان ما علمت أن هناك كارثة كبيرة "هاجس" في انتظاري. هناك رجل سحار في البلدة تحاك حول مقدراته في السحر عدد لا حصر له من الحكايات في صورة إشاعات خرافية مذهلة (الزول طاخ يقع يفرر وروحو تنسل، البقرة طق تقع على قرونها، الشجرة تحرق وهلمجرا). لم أره ابداً لكني أسمع عنه وعن ضحاياه بشكل يومي في ذات الوقت لم ألتقي أبداً وحتى تاريخ اليوم بأي آية من آيات معجزاته المروية "زول أو شجرة أو بقرة" لم يحدث. كنت أخالني سأكون أنا معجزته الأولى التي سأراها بعيني. مرعوب. كنت اتصورني ولد لعاب جداً (كان وهم) ولذا إن جاء السحار صدفة إلى ميدان الكرة مرة لا بد أن أنني فاقد إحدى قدميي إن لم يكن "رقبتي" ذاتها.
السحار؟. لا بد أنه قدم إلى البلد في جنح الظلام من عالم بعيد خلف البحار والهضاب والسهول حيث يعيش السحاحير وحدهم. كنت أسمع أنه رجل أنيق وفكاهي لكن ليس لي صورة محددة له قبل أن أراه مرة وجهاً لوجه مع حبوبتي "آمنة بت حماد" بت البتول بت البشير. البشير؟. البشير هو جد حبوبتي طبعاً وبالنتيجة فهو جدي. ذاك اللقاء سبب لي في البدء صدمة مرعبة. جاء الرجل يبارك لحبوبتي الحج في رفقته كل من "زبيدة أم مالك وطلب" وأسماء أم البتول أم حنظلة والشيبة أبو عيسى وهم أشقاء وبدورهم هم أحفاد البشير الوارد ذكره للتو أعلاه.. كانوا ناس حلوين وطاعمين وكلهم فهم وحنية*.
أذكر أنني بينما كنت منهمكاً في اللعب في مغربية لطيفة السمت جاءني الرفيق فتاي الحاج يجري وأنفاسه تتقطع يخبرني أمر جلل " السحار في بيتكم، مع حبوبتك" " والله كضاب" " والله العظيم جد، انا شفتو بعيوني". لا حول ولا قوة إلا بالله. كارثة!. كنت بالطبع أحب حبوبة الحلوة حباً عظيماً وأخشى عليها من النسيم فما بالها المسكينة اليوم في قبضة سحار ذي عيون حارقة قاتلة!. كان عندي تصور مبسط عن حبوبتي "أنها مسكينة" كما أنني كنت واثقاً ثقة زائفة أن حبوبة لا تعلم أي شيء عن السحار الخطير الذي هجم عليها في تلك اللحظة يريد بها شراً طبعاً!. لكن ماذا أنا فاعل لإنقاذ حبوبة من براثن الوحش؟. ليس بوسعي فعل الكثير. أنا ذاتي ممكن أروح في ستين داهية. لا بد من عملية بطولية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأنا في طريقي ناحية بيتنا حيث حبوبتي في قبضة السحار كنت وكأني ازحف، أمشي ببطيء شديد عكس طبيعتي المعهودة إذ أنني لا أعرف شيء إسمه المشي كنت أجرى فقط ولا يهم إن كان هناك أمر يستدعي العجلة أم لا في كل الأحوال أجرى "لم أكتشف المشي بعد" مجبول على العجلة.
صممت خطة خاصة لإنقاذ حبوبة وإن فشلت هناك خطة "ب. عملية لا بد أنها بطولية كونها تحتمل الشهادة حرفيا!.
تلصصت ثم استرقت النظر من على البعد. دهشت بعض الشيء وتملكتني الحيرة إذ كان القوم يتبادلون الأنخاب "الشاي باللبن" في حميمية فائقة ويقهقهون بهجة وحبور وحبوبتي خالفة رجل فوق رجل وهي تروي بفخر شديد بطولاتها بأرض الحرمين الشريفين وصولاتها وجولاتها بين الصفا والمرى.
وكان السحار كما وصفه لي أقراني من قبل أنيق وفكاهي وكاريزما والمزيد. وكان يجلس على عنقريب وجهاً لوجه قبالة حبوبة في الفضاء أمام بيتنا بينما المرأتان تجلسان على عنقريب حبوبتي ذات اليمين وذات اليسار . كنت متعرق الأطراف وقلبي يعزف نشيد الهلع العظيم بينما أنا أحبو خلف عنقريب السحار وانحشر تحته صامت ومكتوم الإنفاس في عملية حياة أو موت من أجل إنقاذ الجاهلة المسكينة حبوبتي وكان يخالجني الشك بأن مهمتي شبه مستحيلة "نفد القدر" mission: impossible توكلت على الواحد القيوم و"كوركت": (حبوبة دا سحار، دا سحااااار). لم تستبن حبوبتي صيحتي وسط قهقهات القوم غير أن السحار نبهها إلا أن هناك عفريت تحت السرير "دا شن نفرو؟" فاجابته "ود بتي القوت" فنظرت حبوبتي تحت السرير وكانت تظنني ألعب كعادتي فنادتني بكل طمأنينة "تعال سلم على جدك". جدي؟. السحار!. لا حول ولا قوة إلا بالله. نعم السحار جدي. السحار بدوره طلع ود البشير. وكلنا أحفاد البشير. والسحر وراثة كما هو معلوم. أنا ذاتي طلعت سحار يا للمصيبة!.
فما كان مني وإلا أن خرجت من مخبئي وكأنني تعرضت لصعقة كهربائية عالية وتقدمت مبهوتاً ناحية جدي الخرافي فحضنني عليه في حنية فائقة وطبع قبلة جد حنون على خدي الأيسر. ثم أخذت مكاني الطبيعي بجانب السحرة بينما حبوبتي تصب لنا الشاي ونحن نقهقه إحتفاءاً باللحظة . كانت لحظة عظيمة في معية أناس بسيطين طيبين وعظام. كانت لحظة ساحرة. كان السحر يتحاوم حولنا من كل ناحية وصوب. وكان هناك كائنات ملائكية ساحرة تهبط ناحيتنا في هيئة سلاسل من النور الساحر. كله كان سحراً. سحراً خالصاً نقياً. كان القمر كما النجوم السابحة في الفضاء بغير هدى تتداعى نحونا، درر تنقض عهدها مع عقدها.. كانت الأرض الطيبة وكأنها تعلم بالأمر الجلل منذ الأزل ففرشت الدروب الزكية بالرمال وكان صخب الموج من خلف البيوت الرفيقة الهادئة يفضح شبق النيل حين يغازل الشطآن. كانت الأكوان كلها تهيأ نفسها لذاك اللقاء الساحر الفريد، "لقاء السحرة".
في المستقبل "بعد سنوات عديدة" من تلك اللحظة علمت ما كنت أجهل: ذاك اليوم كان يوم تتويج لولي عهد جديد يجلل العرش .. ساحر صغير سيكون له مستقبل مجيد في عالم السحر والعيون . "وهذا الشبل من ذاك الأسد"!.
وأصبحت من بعدها كلما اذهب إلى قرية مسرة أول شيء أفعله ازور جدي الساحر "ساحر ملك السحر" يعلمني مما من الله عليه من المعارف والخبرات الحياتية الثرة التي كسبها عبر عمره المديد ويدربني على مهارات السحر العظيم، فورثته وحدي ولم أترك لغيري أثر. وهو طبعاً جدي أحمد الملقب بالطعيمة** "على روحه السلام".
------------------------------------
* حبوبتي زبيدة من قبل جاي (زوجة ود القرشي) ، حبوبتي أسماء من أبو دورس (زوجة عبد الرحمن حماد "العالم") و جدي الشيبة القلع البشير من ود بلول "على أرواحهم الطاهرة السلام".
** جدي الطعيمة رجل نير ونبيل وأصيل وشهم وكريم الخصال دارت حوله إشاعات السحر أكثر من غيره في مجتمع تكافلي أصيل وشديد الرباط لكنه خرافي يعشق الخرافة!!. التحية والسلام على روح جدي الطعيمة.
يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.
محمد جمال
| |
  
|
|
|
|
|
|
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)
|
حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "7"
موقع أثري فريد في جزيرة أم أرضة.. أتمنى أن لا تكون عبثت به الأقدار!
هناك موقع أثري يستحق الإعتبار في جزيرة أم أرضة هو القرية النموذجية التي بناها حسب الرسول عبد العزيز في ثلاثينات القرن الماضي.
حسب الرسول عبد العزيز؟. هو ولد العازة بنت الطريفي ولد في حدود العام 1880 بود أبو دروس (حلتنا) وفي ذات أرضية البيت الذي عاشت به حبوبة، وآخرون جئنا نحن من خلفهم، ورحل في الستينات من القرن الماضي. عاش حسب الرسول جل حياته في أم درمان. كان رجلاً ثرياً وله علاقات واسعة وبالضرورة مع الحكام و الإداريين الإنجليز والرأسمالية الوطنية كما الحكام والناشطين الوطنيين لاحقاً. في حدود العام 1935 بدأ إنشاء مشروع أم أرضة الزراعي (في جزيرة أم أرضة) وأقام قرية صغيرة نموذجية غاية في جمال النسق المعماري من الحجارة والقرميد في الناحية الشمالية من الجزيرة خلف قرية ود مختار مباشرة. ضمت القرية في البدء موظفي وعمال المشروع وعائلاتهم كما بنى له قصراً فسيحاً في مقدمة القرية واستراحة خاصة بضيوفه من صفوة المجتمع وكان من القلائل الأوائل الذين اقتنوا سيارة خاصة في حدود العام 1927 ما تزال تلك السيارة المعنية تقبع أمام القصر الأثري بجزيرة أم أرضة كيلومترين شمال خزان جبل أولياء ناحية الشمال في محاذاة النيل. انتهى المشروع بداية سبعينات القرن الماضي. (هل رأى أو أهتم احدكم بهذا؟. ربما، فقط ربما لا أدري!).
على كل حال: أطالب الأهل والمهتمين بإعلان قرية حسب الرسول بجزيرة أم أرضة كموقع اثري وتعيين خفير خاص به وحماية الأثار الموجودة بالمكان بما في ذلك السيارة وبقايا القصر وبيوت القرية كما بقايا وابور المشروع. هذا الاثر هو ليس ملك أبناء وبنات المنطقة وحدهم بما ساهم أجدادهم وجداتهم في صنعه بل جميع الناس فالمواد والأدوات الموجودة هناك ذات قيمة آركولوجية وتاريخية وسياحية "كذلك سياسية تاريخية!" ولها خصوصية هامة ربما عنت الأجيال المقبلة بأكثر مما تعنينا الآن "هو حقهم" الذي وجب الحفاظ عليه. ولا يهم إن كان الأثر موجباً أو سالباً في الأنظار الآنية المتباينة تلك أحكام قيمية قابلة للأخذ والرد. فالأثر التاريخي أكبر من الآني. ولو لا حكمة التاريخ لما شهدنا "ابو الهول" يقبع في مكانه حتى اليوم يحدثنا عن لحظات من التاريخ السحيق لا نستطيع لمسها مادياً إلا حين نراه ونلمسه.
خلاصة: لا أعلن من جانب واحد "قرية جزيرة أم أرضة النموذجية" موقعاً أثرياً يستحق الرعاية بجانب المواقع الأثرية الأخرى بل أستشيركم وأستفتيكم في الامر كما بالطبع أرجو دعمكم وتأييدكم للفكرة التي تعني عندي الكثير. ولأنني أعلم أن ليس كل الناس يعلمون كون الموقع المعني في مكان خفي ومغمور فإني أخاطب أهل المنطقة ومن يعلمون ويهتمون وبالذات من لهم مثلي ذاكرة حية وذاكرة حياة بذاك المكان الأثري البديع. أذكر أنني كنت جل طفولتي الباكرة أنهض في الصباحات الباكرة اركب السيارة الأثرية بينما أنا على ثقة أنها لا بد أن "تدور" تسير. لم أعرف بعد أنها أثرية ولم يكن لدي علم أن السيارات لا تتحرك إلا بالبترول. في الحقيقة لقد سارت السيارة مرات عديدة بوقود خيالي وذهبت بي إلى عوالم بعيدة عديدة ساحرة وانقلبت مرة فجرحت في إحدى أصابع يدى اليمنى، كان خيالاً وحلماً، هو على علاته أجمل ما تخيلت وحلمت كل العمر!.
-- سأحدثكم لاحقاً "لطفاً" وبالتفصيل عن سكان القرية النموذجية المعنية قبل وبعد نهاية المشروع "انتهى بموت صاحبه" ومن ضمنه موظفي وعمال المشروع ومنهم "سعيد" صاحب الجنينة والد طاهر في ديم البساطاب "أصله من حلفا" وقد كان المهندس الميكانيكي لوابور المشروع و عبد الله مصطفى "المدير الإداري" للمشروع من ود أبو دروس وود اللقا من ود النقيدة وعبد الرحمن من ود مختار "من أكبر المدراء التنفيذين للمشروع (على أرواحهم جميعاً السلام).
--- سآتي المرة القادمة بحقائق ومعلومات أكثر دقة، هذه اللحظة أتحدث فقط من الذاكرة. (الرواية الوحيدة التي استطعت إنجازها حتى الآن صدرت قبل عدة أشهر من دار أوراق في مصر، درات أحداثها في هذا المكان "جزيرة أم أرضة" كما أمستردام وعدة مدن أوروبية أخرى وفق الأقدار التي ساقتني إلى هنا "الغرب"). -- نداء أخير: ارسلو أي معلومة خاصة بالأمر في الخاص "هنا في الفيسبوك" .. وفي كل الأحوال مرحباً بكم وبالجميع هنا وفي كل الأمكنة.
يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.
محمد جمال
| |
  
|
|
|
|
|
|
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)
|
حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "8"
جزيرة أم أرضة!
رواية حرب الأنهار أو "أنا و سيلفيا الهولندية"؟. هي عملي الروائي الأول صدر من دار أوراق بالقاهرة ثم نسخة إليكترونية منقحة (طبعة ثانية) توجد على صفحة خاصة بالإنترنت (الرابط نهاية هذا السرد).. هنا المشهد الخامس من العمل "أدناه" (جزيرة أم أرضة) أعيد نشره هنا على أثر سلسلة الحلقات التلقائية والإرتجالية التي أعكف على كتابتها هذه الأيام وأنشرها هنا "فقط" على صفحتي بالفيسبوك حول "ذاكرتي مع حبوبة آمنة حماد". هذه المادة المجتزأة من العمل الروائي ربما ساعدتني في نصب بعض الصور التذكارية على قارعة الخيالات النضيدة.. كون الحلقات المقبلة مع آمنة حماد تجري أحداثها في عين ذاك المكان المبارك!.
المشهد المعني:
مشهد ""5"
أنا وسونيا وعافية ومستر خيرد!
1-7
بينما كنت شارد الذهن أحدق ناحية مجرى النهر باغتتني السيدة سونيا! سونيا امرأة لطيفة في السبعين من العمر متزوجة من مستر خيرد ريف ويعيشان "أربعين عاما" معا في بيتهما الوادع في مدينة آرنهيم على الضفة الأخرى من نهر الراين تماما في مقابل شقتي وشريكة حياتي سيلفيا، إذ يستطيع الواحد منا أن يرى الآخر من البلكونة وعبر النوافذ، فعرض النهر من تلك الناحية لا يتعدى ثلاثمائة متر فقط. منذ عشر سنوات بقيا (سونيا وخيرد) لوحدهما تماما بعد انفضاض بنتيهما عنهما كما ولدهما الوحيد، فذهب كل واحد منهم في شأنه، ولو أنهم يزورون والديهم في المناسبات المختلفة وكلما سنحت الفرص وهي ضئيلة. وتلك حالة طبيعية في هولندا تمثل دورة من دورات حياة جميع الناس تقريبآ. في مثل تلك الأحوال كثيرا ما يشعر الإنسان بالوحدة والوحشة لكنه غالبا يفعل ما بوسعه في تبرئة مشاعره الإنسانية القلقة من ضمن ذلك محاولة التواصل والتحدث مع الآخرين كلما سنحت الفرص. ذاك بالضبط ما تفعله سونيا أصالة عن نفسها ونيابة عن شريك حياتها الأزلي "مستر خيرد" والذي لم تهبه الطبيعة أي ذكاء اجتماعي يؤهله إلى المبادرة بالتواصل مع البشر الآخرين على النقيض من شريكته "سونيا".
بعد عودتنا أنا وسيلفيا مباشرة من رحلة عمل في مدينة هانوفر الألمانية كنت لبعض الوقت على غير وفاق مع سلفيا "متشاكلين" فترجلت عند إحدى الأصائل إلى الضفة الأخرى من النهر عبر كوبري نيلسون مانديلا المحاذي لمنزلنا. جلست بتلقائية على أريكة خشبية مقامة على ضفة النهر، وشرعت أتأمل الموج الأزرق الرقيق أحاول استعادة توازني النفسي، بينما أشعر بأن سيلفيا على لطفها ورقتها فهي امرأة شرسة ولا تطاق. وخطر لي للحظة أن تلك الوشائج القوية التي أشعرها تربطني وسلفيا ما هي إلا وهم! وظللت أحادث نفسي متأرجحاً بين التفاؤل والتشاؤم أو بالأحرى كل شيء كان مشوشاً ومرتبكاً في خاطري ولا أستطيع تحديد هوية مشاعري في تلك اللحظة بالدقة التي تمنيتها ولا أعرف ماذا أفعل! في ذاك الأثناء انتبهت بغتة على صوت امرأة عجوز لا أعرفها من قبل تقف أمامي تحييني وتعرفني على اسمها وتكرر ذاك عدة مرات حتى استيقظت من نوبة غيابي تلك فرددت التحية بمثلها وقلت باسمي في بعض دهشة معرفا نفسي بضيفي الذي فرض ذاته على خلوتي بلا مقدمات. إنها السيدة "سونيا"! أصبت لوهلة بالضجر من إقحام تلك المرأة العجيبة نفسها على خلوتي المتعمدة. لكن سونيا لم تيأس أبدا مني وظلت تتحدث إليّ دون أن تعير تذمري الصامت أي عناية وأنا أعلن لها شرودي متذرعا بتأملي لانسياب النهر من أمامنا. لكنني فجأة انتبهت على جملة نوعية من حديث سونيا الكثير الذي لم أسمع منه إلا القليل، حين قالت: "أنا واثقة أنك ستحب آفيا "عافية" وهي ستحبك". ورددت مرتين: "أنا واثقة أنها ستحبك وأنت ستحبها"! وواصلت وأنا كلي انتباه هذه المرة: "إنها لطيفة وجميلة ولونها مثل لونك تماما، بني، نحن كلنا نحبها". وشرحت لي أن "آفيا" كاسم في أصله الهولندي يعني "كائن ساحر خرافي" غير أنني سمعتها "عافية" اسم البنات السوداني الشهير... لم أكن حينها لأهتم أو أفكر كثيرا!
عندها ضحكت بشهية وأجبت تلك المرأة بالنفي أنني لن أحبها أبدا "عافية" لأنني مرتبط فعندي شريكة حياة اسمها "سيلفيا" وظللت لوهلة أتكلم دون أن أتيح لسونيا أي فرصة للحديث وأشرت بيدي اليمنى إلى جهة بيتنا في الضفة الأخرى من النهر... وآنئذ أصبت بموجة شوق عارمة موصولة برزمة حزن شفيف إلى حيث تكون حبيبتي "سيلفيا"... وشعرت بشيء فظ يكلل دواخلي وكأنه الخيانة لكنه ليس بخيانة وكأنه العار ولكنه ليس بعار!..
فاستأذنت ضيفتي بشكل مباغت في الرحيل... وعندما هممت بالنهوض فإذ بصوت رجل في لباس النوم المعتاد يلوح لي بيده محيياً وموادداً من أعلى بلكونة تقع من فوقنا مباشرة فقط بعدة أمتار. إنه مستر خيرد شريك سونيا. وعندها شرعت سونيا بتلقائية مدهشة تشرح للسيد أشياءً غريبة عني وكأنها وجدت لقية ثمينة "هاملة" في شكل سمكة صغيرة برونزية اللون داكنة لفظها النهر للتو على شاطئه الرملي على حين غفلة من سرمديته... فأشار السيد بيده في جدية يقول: "لحظة، انتظرني!"... ثم هرع إلى الأرض يحييني مجدداً وبشهية ويرجوني بإلحاح شديد الدخول معهما، إلى بيتهما، وهو ممسكا يدي اليسرى بقوة وكأنني سأهرب منه... ففعلت!
2-7 كنت مصاباً بالمصران العصبي لوقت طويل، امتد منذ الطفولة وحتى مراحل متقدمة من حياتي ثم هدأ ولكنه ظل يعاودني من حين إلى آخر، دون أن يتم تشخيصه أو معرفته إلا في زمان متأخر من حياتي. ولكن لأمي على الدوام رأيا آخر: كانت تعتبرني مسحورا، مصابا بالعين، وليس المصران العصبي. وكانت كثيرا ما تقول بأناس محددين تتلبسهم التهمة من أهمهم امرأة خالي "المسكينة" التي تسكن بالجوار.
ثبت أن إحساس أمي لا يخلو من الحكمة! إذ إن هناك أمرا آخر لا يقل تعباً وغموضاً وتعقيداً عن المصران العصبي. تعرفت عليه فقط عندما جئت إلى هولندا موطني الحالي وتحديداً في اللحظة التي التقيت عندها سونيا ومستر خيرد والقطة عافية. عافية أحبتني بشدة بالضبط كما توقعت سونيا وقفزت إلى حجري أول ما دخلت بيت أصدقائي الجدد. 3-7 أصبحت أتردد على منزل "سونيا/خيرد" لعدة أسابيع وكنت محل احتفائهم العظيم وجعلوا مني حدثا من أحداث حياتهم اليومية. وأصبحت سيلفيا بدورها صديقة لأسرة سونيا وكنا كثيرا ما نجتمع في الأمسيات حول مائدة الطعام في ود وحميمية. ولاحظت سيلفيا شيئا ما، أسعدها وشجعها أكثر وذاك أن لغتي الهولندية بدأت تتحسن كوني أجدني مضطرا للحديث مع سونيا وخيرد باللغة الهولندية كونهما لا يجيدان التحدث بالإنجليزية بينما أتحدث كل الوقت مع سيلفيا بالإنجليزية والسر في ذاك أنني أعتبر سيلفيا شريكة حياتي لا أستاذتي وعندما أتحدث معها الهولندية نصبح غير متساويين في المقدرة على التعبير عن رؤانا ومشاعرنا فسيلفيا بالضرورة تتفوق عليّ في التعبير عن أشيائها إذا ما بدأنا الحديث بالهولندية كون تلك لغتها الأم بينما أصاب أنا بكثير من العجز وأشعر بالبؤس وحلا لتلك المعضلة فقد قررنا أن تكون لغة التخاطب الرسمية بيننا في بيتنا هي اللغة الإنجليزية أو هو ذاك الشرط الذي فرضته عليّ سيلفيا في الشهور الأولى من عيشنا المشترك فرضخت له. وهو أمر لا يخلو من بعض الواقعية وربما الحكمة. ! كان كل شيء يبدو جميلاً وجميعنا سعداء "أنا وسيلفيا وسونيا وخيرد" وبدأنا نمثل أسرة كبيرة سعيدة، شكلها القدر بلا مقدمات وبلا مقاصد موعية. ولا ننسى أن هناك فردا هاما جداً من أفراد الأسرة هو القطة "عافية" فهي لا تقل أهمية لدى سونيا عن أي واحد منا وتعتبرها مثل بنتها الصغيرة تماما وتكن لها من الحب والعطف والحنان قدراً لا يمكن وصفه. وكانت عافية بدورها سعيدة وأصبحت لصيقة بي كوني أدللها وأحك لها ظهرها وألعب معها كلما سنحت الفرص. كنا سعداء بحق.
غير أن هناك أمرا بدأ يقلق الجميع وهو "أنا"! أصبحت كلما أدخل منزل سونيا وخيرد أصاب بلوثة غريبة دون أن أتعرف على أسبابها لبعض الوقت. شعرتها منذ الأيام الأولى لكنها بدأت تتطور بشكل أكثر عنفا ووضوحا. أنفي تحتقن وتسيل وعيناي تدمعان وأشعر بحكة فيهما وكل جسمي يتحول إلى أكزيما وشرى. وفي حالات اليأس الكبرى أشعر بأنني أود أن أجرى وأصيح في الشوارع كالمجنون. حاولت جهدي في البداية أن ألتزم بأقصى درجات الصبر كما الإتيكيت لكنه مستحيل. الأمر مستحيل. أنا مريض. ذهبنا أنا وسيلفيا إلى الطبيب المنزلي الخاص فشخص الحالة على أنها إنفلونزا. غير أن وصفته العلاجيه لم تجدِ. وفي النهاية توصلت سيلفيا من تلقاء نفسها إلى نتيجة مفادها أنني ربما عندي حساسية من نوع من أنواع الزهور التي يعج بها منزل سونيا وخيرد من واقع تجارب ذاتية سابقة لها إذ كثيراً ما تصاب بحساسية في العيون جراء تعرضها لمواد طبيعية أو صناعية محددة. فقررنا أن نحجب أنفسنا قليلا عن زيارتهم في منزلهم ونرى النتيجة. ففعلنا. ولم أصب بتلك الحالة من جديد! حتى جاء يوم من الأيام فقررا سونيا وخيرد الذهاب في نزهة صيفية لمدة أسبوع إلى منتجع يقع جنوب هولندا فجاءا لنا بعافية صديقتي إلى منزلنا على أمل أن نقوم "أنا وسيلفيا" برعايتها في أيام غيابهما.. ففعلنا.
في تلك الأثناء عاودني المرض من جديد وبشكل أعنف وأشد ووصل مرحلة تشبه الربو الحاد. عندها تأكد لسيلفيا أن الأمر ليس زهورا ولا إنفلونزا وإنما ربما أنا أعاني من حساسية مفرطة من القطط. وتم لقاء الطبيب الأخصائي فقام بزراعة الدم معمليا وثبت الأمر الذي قالت به سيلفيا أن لدي حساسية نسبتها مائة بالمائة من القطط والكلاب و"أشياء أخرى". وكنت أعاني من مثل تلك المشاكل والأعراض منذ الطفولة كون أسرتي على الدوام تملك عددا من القطط والكلاب وأشياء أخرى، لكن لا أحد استطاع أبدا معرفة الحقيقة قبل أن تفعلا سيلفيا وعافية. وربما كان السبب أن عندنا في أم أرضة المساحات مفتوحة على الفضاء دون كثير جدران والحياة في هولندا معظم الوقت تكون بين جدران مغلقة مما يجعل المواد المثيرة للحساسية أكثر فاعلية.!
4-7 جزيرة أم أرضة تقابلها جزيرة أخرى صغيرة موسمية "رفيدة" من ناحية الغرب. مسافة من الفضاء المفتوح على الأفق. مسافة عذراء في خضرتها وهدوئها المهيب. أم أرضة على وجه العموم هي الأرض الواقعة شمال شرق جبل أولياء جنوبي الخرطوم بمحاذاة الضفة الشرقية للنيل. وأخذت الجزيرة اسمها "أم أرضة" رسميا في العهد الإنجليزي بحسب روايات غير مؤكدة.. رفيدة جزيرة موسمية شبه ميتة منذ زمن طويل، فقط تغطي سطحها الطحالب الخضراء وتستطيع أن تتبين المشهد بمنتهى الوضوح وأنت تقف منتصف خزان جبل أولياء وتنظر ناحية الشمال حوالي ثلاثة كيلومترات وعيناك على مجرى النهر. جزيرة "أم أرضة" هي الأكثر أهمية كونها جزيرة دائمة وغنية وتعج بالحياة المائية والبرية ويتم إحياء عدة مشاريع زراعية مروية فوق أرضها من وقت إلى آخر وأول مشروع زراعي كبير حدث كان في أربعينيات القرن الماضي وهو مشروع "حسب الرسول صاحب الوابور" انتهى ذاك المشروع الزراعي الأول من نوعه في أوائل السبعينيات فأصبح أثراً بعد عين وتتالت المحاولات بشكل مستمر، فاشلة/ ناجحة. غير أن هناك أسرة صغيرة ظلت على الدوام وفي كل الأحوال والظروف تقيم على أرض جزيرة أم أرضة كل الوقت وعندها على الدوام زراعتها الخاصة مستقلة بذاتها على مر الزمان هي: "أسرتي الصغيرة".
في تلك الجزيرة "أم أرضة" قدرت الأقدار وما شاء الله فعل أن أولد وأعيش هناك كل أيام طفولتي معي أمي وأبي وحدنا (أشقائي الكبار بالمدرسة في القرية البعيدة والصغار لم يولدوا بعد) كما عشت هناك كل مراحل صباي وحتى المرحلة الثانوية العليا. لا يوجد كائن غيرنا جل الوقت ولمسافة عدة كيلومترات. لا أحد غيرنا. لكن في الحقيقة نحن لسنا وحدنا، هناك أمم من المخلوقات، أمم لا حصر لها من الكائنات الحية، لكن ليس من ضمنهم البشر. أمم من النمل والحشرات الملونة والطيور "الوز، القطا، القمري، البلوم، الزرزور، القدالي، البوم، الرهو، أم قيرادون، السقد، وأبو سعن والأرانب البرية والسناجب والفئران والثعالب والثعابين والعقارب، وأمم أخرى مختلفة لكنها لا تقل صخبا: الأشجار "السنط، الطلح، السيال، الهجليج والحراز". وكان بيتنا يقع على مرمى حجر من شاطئ النهر "البحر" الذي بدوره يشتعل بالحياة من أسماك وثعابين مائية وضفادع وتماسيح وطحالب وعشب البحر وشرانق وأنواع عديدة من المحار. وهنال صخب الموج وهزيم الرياح وزلزلة الأرض الخصيبة من تحت أقدامنا.
وذاك ليس كل شيء، هناك المزيد!: السماء والآفاق المفتوحة على صفاء النجوم الساطعة مرة، وسطوة القمر مرة أخرى حينما تتوارى الشمس الفتية عن الأنظار مخلفة من ورائها عند لحظات وداعها الأخيرة حسرة على الوجود في مشهد قانٍ يكلل السماء من جهة الغرب، كان أبي يسميه "الشفق" ويصلي من بعده صلاة المغرب وينام "ننام جميعنا" ووجوهنا قبالة المجرات التي تكاد تزهق الأبصار. ولم أكن أنا أشعر بشيء غير أنني جزء لا يتجزأ من تلك الوقائع اليومية والعادية "الطبيعة " إذ إنني ككل الأطفال في مراحل العمر الأولى لا أفرز ذاتي من المحيط (لا وعي موضوعي) حتى إذا ما جاء وقت وقرصتني "نملة" قرصة مؤلمة على حين غفلة في شفتي السفلى بدأت أتعلم أن كل تلك الأشياء ربما كانت ليست أنا! ثم بعد حين لدغتني عقرب فكانت بالطبع أشد ألما، مع أن عقرب النيل ليست مفرطة السم "ليست قاتلة" لكن بالطبع أصابتني بألم ممض لا أنساه طوال حياتي. وقليلا وتعلمت أنني أنا هو أنا، أنا لست تلك الأشياء من حولي! كان اكتشافا مباغتا وخطرا وممتعا: "أنا"!
أنا في مواجهة الآخر والطبيعة، فأصبحت عدواً بشعاً وماكراً للحشرات الصغيرة أقتلها كل ما حانت الفرص وللأشجار الصغيرة الغضة أقتلعها من الجذور وأصبحت من الناحية الأخرى ممتلئاً بالخوف والذعر من عدد من الكائنات التي أتصورها مؤذية وقاتلة بما في ذلك كائنات خرافية مثل ود أم بعلو والغول والسحار، كائنات لا قبل لي بها غير أنني ألوذ بأبي وأمي وبعد حين من الدهر تعلمت أن هناك قوة أخرى يستطيع المرء اللجوء إليها عند الخوف والمحنة، هي: "الله". كان بيتنا الصغير المفرد يقع بالضبط في قلب كل تلك الفوضى الحقيقية والمتخيلة وبدا كمحمية طبيعية "اصطناعية" لمخلوقات نادرة على شفير الانقراض هي: أنا وأمي وأبي. وهناك قبر الرجل الغريب الميت الذي يسكن تحت الأرض عدة أمتار من دارنا وهو بدوره حدث من أحداث طفولتي وصباي وكثيرا ما نظرت له كأحد أفراد الأسرة كونه الكائن الوحيد "البشر" الذي يسكن بالقرب منا رغم موته الذي لم يمنعه من أن يشرب معنا الشاي باللبن! إنه الرجل الغريب الذي جاء بجثته تيار النهر في يوم من الأيام إلى شاطئ دارنا فحمله أبي إلى البيت ففعل به الشعائر المقدسة كلها ودفنه هناك وفق شريعته دون أن يعرف له أحد شريعة "الرجل الغريب الميت".
تلك المحمية الطبيعية محروسة بعدد من الكلاب الوفية ذات الدربة العالية والقطط الوديعة. مهمة القطط الأساسية هي حماية الدار من الفئران والعقارب والثعابين. وأما الكلاب فليس من مهامها الحتمية حماية البيت من اللصوص، لا، هذا وهم! لا يوجد لصوص. أو بالأحرى لا يوجد لصوص يسرقون منا. كل لصوص المنطقة المجاورة أقربائنا في الدم من الدرجة الأولى. فهم بالطبع لا يسرقون منا. وكثير ما يشربون معنا الشاي باللن عندما تصادف أن مروا بالطريق ويقومون من بعدها إلى أداء أعمالهم في الآفاق البعيدة.
فمهمة الكلاب هي حماية الحيوانات الأليفة التي تعج بها ساحات دارنا من البعشوم كما أنها تشتغل كإنذار مبكر بالنسبة لأمي عندما يحدث أن يكون في مرة من المرات النادرة هناك ضيف قادم من البعيد فتقوم أمي إلى لبس ثوبها باستعجال، فهي تعرف وتميز صوت الكلاب عند كل مقام بل وتستطيع أن تتعرف على عدد الضيوف القادمين من البعيد قبل أن تنظر إلى الآفاق. وعندما يأتي إلى دارنا ضيف ما، يكون حدثا جليلا بالنسبة لي، فغالبا ما يصبح الضيف أحد أهم ألعابي وحتى ينقذ نفسه بالرحيل. وعندما يرحل أرجع من جديد لألعابي التقليدية المبتكرة: أربط "أبو الدنان" في خيط وأدور به في فضاء الدار المفتوحة على الآفاق حتى إذا ما خارت قوته أجلس به على الأرض فأقص جناحيه لأجرب إن كان يستطيع أن يطير بغير جناحين أم لا، فلا يفعل، فأقص رأسه لأجرب إن كان سيموت أم لا، فيموت، وهكذا دواليك.
وألعب بالتراب والطين. أصنع طائرات وأحلق معها بخيالي في الفضاء متنقلا في خاطري بين بلدان لا أعرف لها أسماءً ولا أشكالا. صنعت مرة جيشين عسكريين من الطين ووضعتهما في صفين متقابلين وأدخلتهما في جولة ساخنة من القتال "الحرب" فماتوا جميعا "قتلتهم" فشعرت بزهو غريب وكأنني أحي وأميت! الحرب؟! لا أدري كيف ومن أين جاءتني تلك الفكرة اللعينة! يبدو أنني لا بد أن أكون أصيلا ومبتكرا في ألعابي إذ إنني ألعب وحدي لا أحد معي وأصنع ألعابي بنفسي لا أحد يساعدني. غير أن أهم لعبة كنت أفعلها وهي أرخص ألعابي على الإطلاق وأكثرها وفرة، هي اللعب مع "الكلاب والقطط".
5-7 منذ السنة الثانية من عمري أصبح عندي فراش نومي الخاص اسمه "الع(.........)يب" تصغير عنقريب صنعه لي أبي بنفسه وكان طوله وعرضه يناسباني تماما. وقيل أنني طالبت بنفسي أن يكون لي فراش نومي المستقل أسوة بأبي. غير أنني عندما بلغت الثالثة من العمر حدث أمر مختلف! أصبحت لبعض الوقت لا أستطيع النوم وحدي على فراشي "أخاف" لا بد أن أنام بجانب أبي أو أمي. والسبب أنني سمعت مرة أمي تحكي عن "البعاتي" وروت عن جدتها قصة خرافية. ذاك أن أحد الناس في أزمان غابرة قام من الموت وأصبح يأكل الأطفال الصغار بالمعنى الحرفي للكلمة. ومذ تلك اللحظة بدأ يتهيأ لي أنني رأيت الرجل الغريب الميت يخرج من قبره ويتجه ناحيتي وأقسمت لأبي أنني رأيته عدة مرات وأن أبي ذاته قدم له مرة الشاي باللبن فشرب الرجل كأسه وذهب إلى قبره فنام ولم يأكلني تلك الليلة!.
وعندما علم أبي أن أمي روت في حضوري تلك القصة المرعبة عن قيامة الموتى في هيئة بعاعيت يأكلون الأطفال الصغار أنّبها بشدة على ما فعلت وأخبرني بالحقيقة التي يؤمن بها أن الموتى لا يقومون من قبورهم أبدا إلا يوم القيامة ووصف لي أمي بالجاهلة والأمية وكررها عدة مرات وشرح لي بدقة كيف أن أمي لا تعلم شيء! فقنعت بالروايتين أن الموتى لا يقومون من نومهم وأن أمي جاهلة ولا تعلم أي شيء. وأن أبي وحده هو الذي يعلم كل شيء وعليّ أن أسمع كلامه هو وحده لا أحد غيره وأخذ معي الأمر كثيرا من الوقت لأعدل عن فهمي ذاك وأصل إلى نتيجة مفادها أن " أمي ليست بالضرورة جاهلة". ومذ قول أبي ذاك بجهل أمي كانت العلاقة على الدوام بيني وبين أمي يشوبها سوء التفاهم وكنت أشك في كل أقوالها وأفعالها ولا أنفذ أوامرها أو طلباتها إلا مكرهاً أو مضطراً وحتى بلغت بعض الرشد فتعلمت معاني للحياة جديدة. ولو أنني أظن الآن، أن تلك الحدة التي قابل بها أبي رواية أمي الخرافية يبدو أنها ضرورية في سياقها إذ أتت أكلها في الحال وأصبحت بعد عدة أيام أنام في فراشي لوحدي كالعادة وحتى اليوم دون خشية من البعاتي.
حاولت أمي الدفاع عن نفسها بأنها ليست السبب بالضرورة في موجة الرعب التي تملكتني تلك الأيام، مذكرة أبي بنوبات غريبة ومفاجئة من الرعب غير المسبب تحدث لي في السابق فأهرع إليها ممسكاً بيديها أرجوها أن تضمني إليها وجسدي كله يرتعد وأنفي تسيل وعيناي تدمعان بينما أحك "أهرش" جسمي كله بكلتا يديّ وذاك يحدث بين الفينة والأخرى وعلى الدوام قبل وبعد قصة البعاتي تلك الشهيرة. وكان تفسير أمي على الدوام أنني معيون "مسحور" وقد صدقت في أن أمري غريب كونها ذهبت بي للطبيب في السابق عدة مرات فوجد أنني صحيح الجسد مائة بالمائة وقد صدق. وكان أبي يقرأ على رأسي التعاويذ دون أن يكترث كثيرا بفحوى الأمر وكان إحساسه صادقاً في أن لا شيئاً خطيرا. وتذهب بي أمي إلى الشيوخ فيخبرونها أحيانًاً بأن ابنها غير طبيعي وقد صدقوا! .
ورغم كل ذاك فقد كانت أمي ذكية ما فيه الكفاية لتكشف بنفسها أنه ربما كان لي مشكلة مع القطط "الكدايس" التي تشاركنا الدار، من جراء حسها السليم، ففسرت الأمر على طريقتها الأسطورية أن ربما كان في القطط شيطان، فقررت في لحظة بعينها الخلاص من جميع القطط بمنزلنا. لكن دون أن تستطيع أن تفهم أنني مصاب بحساسية ضد الحيوانات (فقط الكلاب والقطط لا غيرهما من الحيوانات). ذاك أمر غير مستطاع في أوانه. لا بل الطبيب نفسه لم يستطع تشخيص الحالة بطريقة سليمة ولمدة عشرين عاما تالية حتى تصادف أن جئت إلى هولندا والتقيت سونيا وقطتها عافية. وحتى في تلك الحالة أخذ الأمر بعض الوقت كي ينجلي تماما وأتعرف على أسطورة جديدة من أساطير حياتي الصغيرة .
6-7 الرجل الغريب الميت
وجد أبي مرة جثة رجل غريب طافية على شاطئ النيل قبالة منزلنا من ناحية اليسار. كانت الجثة واهنة ومتحللة وهناك ثقوب في البطن وفي الظهر والأفدح من ذلك أن الأنف والشفتين كانتا مفقودتين كلية بفعل ما يبدو وكأنه اعتداء أسماك أو كائنات نيلية صغيرة على جسد الغريق، مما جعل الناس الذين تدافعوا من القرى المجاورة إلى حيث الجنازة يتفحصون جسد الغريق بأعينهم المذعورة كثيرا خشية أن يكون أحدا منهم أو شخصا ما يعرفونه فلا يستطيعون الوثوق من شيء. تحلق الرجال بجلابيبهم البيضاء حول الجثة من كل ناحية وصوب ومن خلفهم النسوة يبكين الميت في ذعر بين دون أن يتأكدن من هويته وكان الأطفال يتسللون في تلقائية من بين المناكب المتدافعة إلى حيث مكان جثة الرجل الغريب الميت. كان مشهدا مهولا من الفوضى والرعب.
لقد وصل الخبر في لمح البصر إلى كل مكان في البلدة وإلى البلدات المجاورة وربما أبعد من ذلك بكثير. كان الخبر يزحف ناحية الصعيد "الجنوب"، ناحية تيار الماء الذي جاء بالجثة إلى هنا. إلى حيث منزلنا بجزيرة أم أرضة. ظن كل الناس وجزموا أن الغريق قادم من الصعيد، إنه الاحتمال الذي يشبه وقائع الطبيعة ليس إلا! فليس من المستبعد أن يكون الغريق ذهب إلى الصعيد بمركب شراعية وعاد محمولا على تيار الماء ناحية أهله في السافل "الشمال" بعد أن تسببت كارثة ما في غرقه. ربما انتحر، قتل نفسه عمدا، لا أحد يستطيع أن يجزم بشيء ما أي كان! .
قفل الناس راجعون من حيث أتوا في سرعة البرق يتفقدون ذويهم ويعلنون خبر الجثة التي جاء بها أبي إلى منزلنا ووضعها على طاولة خشبية كبيرة في صحن الدار بعد أن غطاها بعمامته البيضاء في انتظار ما تسفر عنه الأنباء. بعد يوم كامل من البحث في كل أرجاء القرى المجاورة تبين جليا أن الغريق ليس من هنا. ليس من البلدة ولا البلدات المجاورة. إنه رجل غريب. في حوالي الأربعين من عمره. الأمر الوحيد الذي استطاعه أبي هو تقدير عمر الغريق من تمام أسنانه وتناسقها وبياضها. كان من المستحيل تحديد أي هوية محتملة للرجل الغريب الميت. لا أحد يستطيع تخمين قبيلته أو عرقه كون أهم محددات الهوية العرقية مفقودة وهما الأنف والشفتين. كما أن لا أحدا يستطيع أن يتعرف على دين الرجل أو أخلاقه كون ذاك أمرا غير مستطاع.
والأدهى من ذلك كله قيل أن أحد الرجال الموتورين شك في أن الرجل الميت ربما كان من رهط الأعداء القبليين، فقالها علانية في وقاحة تضاد أي وقار محتمل لمثل تلك اللحظات العصيبة " هذه السحنة من سحنات قاتلي أبناء عمومتنا في الصعيد". فانقسم القوم تجاه شكه يعلنون موافقتهم أو رفضهم بغير كلمات، فقط صدرت همهمات كثيرة متشابكة يصعب تحديد مصدرها أو معناها على وجه الدقة. ليس ذاك فحسب، لقد جالت برؤوس القوم الكثير من الخواطر "ربما كان كافرا أو نصرانياً، هناك شعائر مختلفة تجب في حقه"، "ربما كان مجرماً، لصاً أو قاتلاً محترفا" أو "ربما اتهمنا أهله بقتله وطلبوا الثأر". كانت الظنون والشكوك والهواجس تزحم المكان. ولكن بين الفينة والأخرى تتجلى مسافة زمنية صغيرة شاغرة تشع عندها حالة من الصمت الظاهري في لباس الخشوع، حالة هدوء يكذبها صخب الدواخل ولجاجة الضمائر. إنه هدوء مفروض قسراً بواسطة سلطان الموت الجبار.
على أي حال كل تلك الظنون والتخمينات ليست عبطاً أو بلا معنى! فعلى أساسها سيتحدد عمليا "أين سيقبر الرجل الغريب الميت وكيف ومتى". المقابر مقسمة على أساس قبلي (عرقي) صارم وديني غير قابلين للجدل. لا توجد مقابر خاصة بالأغراب أو البشر الميتين غير محددي الهوية. تلك كانت أول حالة تواجه الناس في البلدة. دار جدال ساخن بين رجال البلد حول سؤال " مكان دفن جثة الرجل الغريب!".. كان جله جدلا عقيما وبلا جدوى: "أن يدفن جسد الرجل الغريب الميت مثله وأهل البلد فيغسل ويكفن وفق النظام المتبع في العادة، غير ممكن، أن ترجع الجثة إلى مكانها الذي أتت منه خلسة فيحملها تيار الماء إلى شأنها، غير متفق عليه، أن يتم إبلاغ السلطات الرسمية "الحكومية" ويترك لها حق التصرف في الجثة، غير محتمل، كون الحكومة لا تكترث بالأحياء فما بالك بالموتى".
لقد عطب خيال القوم!
أخيرا حسم أبي الأمر. كان رجلا حكيماً ويتمتع بخواص نادرة. أمر الجميع بالذهاب وترك الجثة له وحده "تلك هي لقيتي التي لقيت، أنا أتبنى هذا الرجل الغريب وأعتبره جزءاً لا يتجزأ من أهلي وأسرتي وليس له علاقة بكم ولا بمقابركم". فانفض القوم بعد بعض لأي جديد. وعند منتصف تلك الليلة وعلى ضوء القمر الخافت الحزين كفن أبي الجثة وصلى عليها وحده سراً، فقط كانت هناك امرأة واحدة تبكي بغير دموع ولا صوت تقف بجانبه تعاونه في مهمته الحتمية، تلك المرأة هي أمي، ثم دفن أبي جثة الرجل الغريب في العراء بالقرب من بيتنا حوالي مائتي متر شرقي الدار وصنع فوق القبر كتلة من الجالوص وغرز يمين القبر ويساره عصا صغيرة من أعواد السنط. وظل أبي لسنوات عديدة لاحقة ومن حين إلى آخر يذهب إلى قبر الرجل الغريب الميت يقف أمامه يرفع يديه إلى السماء راجيا له الرحمة ومتمنيا لروحه السلام. كان يفعل ذلك بصورة دؤوبة حتى رحل بدوره إلى العالم الآخر.
وظللنا أنا وأمي بدورنا نفعل مثله كلما تحين الفرص وربما حتى نرحل مثلما رحلا "الرجل الغريب الميت وأبي". كما شرع كثير من الناس الآخرين يجيئون إلى القبر بغرض التحية على روح الرجل الغريب الميت. يبدو أن الرجل الغريب الميت ظل يفرض نفسه على الواقع كلما مر الوقت. لقد قبله الآن كل الناس الذين رفضوه في البدء كأحدهم، ولو أسكنوه في قبره وحيداً في وحشته الأبدية، وكأنهم الآن يكفرون عن خطيئة ما! ثم رويداً رويداً أصبح "الرجل الغريب الميت" جزء ً لا يتجزأ من وقائع الطبيعة العادية واليومية كما جزءً أصيلاً من ألغازها العديدة.
7-7 في الزيارة الثانية إلى هانقلو مسقط رأس سيلفيا رويت أيضاً قصة شاطئ "الكتيب" الواقع نصف كيلومتر من وابور حسب الرسول من جزيرة أم أرضة فأغرمت فلورا الشقيقة الصغرى لسيلفيا أيما غرام بالقصص وكذا فعلت لارا صديقة سيلفيا المقربة.
http://riverswar.com/
يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.
محمد جمال
| |
  
|
|
|
|
|
|
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)
|
سلامات أبو جديدي .. شكرا ياخي على اطلاعنا على هذه الحكاوى .. حكاية العظام البشرية المنثورة في الفضاء في الحكاية الأولى .. دليل مادي على حروب سوبا التي أشار إليها .. وهي تدعم المقولة الشائعة خراب سوبا .. ولفظ الخراب في اللسان العامي يشمل معناه الإنسان والأشياء .. فنحن نصف الأرملة بأن بيتها اتخرب كناية عن فقد الزوج.. ولكن الملاحظ من الحكاية لم يكن الخراب مادي وبشري فقط .. بل تعداه لغسيل ذهني ونفي مدروس لأي علاقة تربط بين هؤلاء الأحياء وأولئك .. هذه الظاهرة ليست محدودة بل عامة .. وهي التي فصلت الاجيال اللاحقة عن تاريخها القديم وعلاقتها به .. لا أعلم الدافع وراء ذلك غير التظني بأن المنتصر أراد ذلك فقط ليضمن استمرار سلطانه .. واضح أن من حاربوا سوبا المسيحية لم يكن دافعهم عقائدي .. بدليل أن السلطنة التي نشأت نهضت على سلطة زمنية وليست روحية .. وكان جل أتباعها لا زالوا بلا معارف فقيه .. إلى الحد الذي كانت فيه المرأة تزوج قبل إكمال عدة طلاقها كما جاء في كتاب الطبقات .. مبلغ ظني أن سقوط سوبا كان نتيجة طبيعية بعد نشأة جيل هجين مستعرب أصبحت له الغلبة.. فٌصل ثقافيا ومن ثم وجدانيا بفعل فاعل عن جذوره على الرغم من الجين البيولوجي الذي لا تخطئه الأعين .. مثل هذه الروايات ضرورية لنفحص على ضوئها أحداث تاريخية .. وكم هو مؤسف أن تظل البحوث والدراسات الأثرية ضعيفة وعاجزة في البلاد إلى اليوم.. بل معتمدة على عطاء وجهد الأجانب.. ترى هل مازلنا تحت حصار التغيب المتعمد؟ عموما شكرا لمحمد جمال الذي استحلب بأسلوبه الشائق هذه التداعيات .. فالعمل الذي لا يعتصر ذهن المتلقي ويستدعي تفاعلاته عمل ميت.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)
|
تعليق "2" جديد حول " مجزرة العنج ومرثية بنونة بت المك نمر".. توصيف وتعريف: الآنثروبولوجي والآركيولوجي والتاريخ، والهوية والآيديولوجيا "؟!".
محمد جمال الدين [email protected]
مرة جديدة وربما تكون الأخيرة ننشغل عندها بالتعليق على ردود الأفعال الحميدة قبل أن نبدأ من جديد مواصلة حكايات الجدة "آمنة بت حماد" وهذا "التعليق" يجيء كما السابق (تعريف وتوصيف) من وحي الضرورة التي أرتأيتها في إلحاح بعض الأصدقاء والمهتمين والمتحابين والمتخاصمين والمتحاربين بالحق والباطل من رفاق السكنى فوق رمال الجغرافيا المتحركة التي إسمها "السودان".. (إشارة إلى المقالات السابقة وردود الأفعال حول ما عنون ب"مجزرة العنج ومرثية بنونة بت المك نمر").
تعريف وتوصيف: الآنثروبولوجي إصطلاحاً هو علم الإنسان (دراسة أعمال ونشاطات وسلوكيات الكائن الإجتماعي الراهن ومقارنة المشترك والمتشابه والمختلف من أعماله ونشاطاته وسلوكياته وتفاعلاته مع المجموعات البشرية الأخرى) والآركيولوجي هو علم الآثار (دراسة المخلفات المادية للحضارات الإنسانية الماضية مثل المباني والأدوات والعظام) وعلم التاريخ من المفترض فيه أن يكون "سجل محايد لجملة الأحوال والأحداث التي مرت بها الأحياء والأشياء في الماضي البعيد أو/و القريب".
خطوة إلى الأمام: بهذا أتمنى أن يكون مفهوماً قولي في سياقه أنني تناولت كما سأفعل حكايات جدتي من ناحية آنثربولوجية ليست تحقيق أو سجل تاريخي ودعوت أهل التاريخ ما وجدوا للقيام بواجبهم ما أرتأوا كما الآركيولوجيين حينما جئت بذكر مجزرة مفترضة "في ظني وحدي" للعنج بمنطقة أم أرضة (راجع لطفاً المقالات المعنية التي نشرت بالراكوبة وعلى صفحتي بالفيسبوك في بحر الثلاثة أيام الماضية).
الهوية: من نحن؟. هذا السؤال غير مهم، عندي!. نحن من المفترض بشر وبس نقيم إلى أجل مسمى فوق هذا الكوكب المسمى "الكورة الأرضية) وأي زول حر يكون ما شاء أو يسعى لأن يكون ما شاء!. عايز يكون جده ملك الملوك فهو له، عايز يكون من خلفية أشراف من بيوت الأنبياء فليكن، عايز يكون أفريقي بحت، عربي صرف، فرعوني، هندي، أي حاجة، أي زول حر. الهوية خيار ذاتي محض وحق، وكل له واجبات كما له حقوق في حيز جماعته العرقية أو/و الطائفية أو/و نقابته العمالية كما في إطار الرقعة الجغرافية الكلية أو كما هو مفترض، في زول ما عايز الرقعة الجغرافية الكلية فله حق تقرير المصير "المصير لنا ولسوانا" وهو حق من حقوق الإنسان. وذاك هو فهمي للهوية.
فهمي للهوية (أختم به هذه العجالة):
كتبت قبل عدة سنوات خلت أربع مقالات قلت فيها بفهمي الخاص لماهية "الهوية" آذنوا لي لطفاً بالمجئ بها إلى هنا كخاتمة لهذا السرد العاجل ونواصل في المستقبل وشكراً مقدماً لصبركم، مع أسمى معاني الإحترام.
المقالات المعنية حول "الهوية" لدى الرابط التالي: http://splashurl.com/l2pgekw
محمد جمال الدين
| |
  
|
|
|
|
|
|
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)
|
سلام يغشاك ود ابو جديري خوي ... وسلام تااااااام للصديق الصدوق ود جمال الدين .
وتسلم حبوبة آمنة في الدارين ... وسلمت يداك صديقي صاحب القلم الانيق محمد .
Quote: كوفيتك الخودة ام عصا بولاد درعك في ام لهيب زي الشمس وقاد سيفك من سقايتو استعجب الحداد قارحك غير شكال ما بيقربو الشداد يا بُقَّة عقود السم يا مقنع بنات جعل العزاز منجم *** الخيل عركسن ماقال عدادن كم فرتاك حافلن ملاي سروجن دم وماهو الفافنوس ماهو الغليد القوص ود المك عريس خيلا بجن عركوس احي على سيفوا البحد الروس |
| |

|
|
|
|
|
|
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)
|
لوثة صغيرة في قناة فوربوروخ المائية بلاهاي!
كانت الشمس دافئة عصر أمس، ساطعة، درجة الحرارة مناسبة للخروج إلى الشارع بلا جاكيت. كنت في الطريق "راجلاً" بين محطة القطارات الرئيسية بلاهاي وحي رايسفاياك حيث يقيم أحد الأصدقاء من أهل البلاد.
كل شيء كان على ما يرام، كنت غارقاً في ذاكرة تفاصيل الحياة اليومية والعادية، حتى إذا ما هممت بعبور قناة فوربوروخ المائية حدثت لي بغتة لوثة غريبة و"جوطة" في سيستيم الذاكرة، شعرت بأن هناك موجات مغناطيسية محببة تغزو خاطري يقطعها ويبعثرها من حين إلى آخر صوت أجراس وهمية تأتي من البعيد في سمت خفيض. فغيرت مساري بصورة لا إرادية وعرجت على الشاطي الشرقي من القناة المائية الكبيرة "الكنال" وقفت لوهلة على الحافة أتأمل ظلي يلاعبه الموج الرقيق الصافي والشمس من خلفي تزداد القاً ودفئاً، هذا المشهد مندس في ذاكرتي منذ أزمان سحيقة "الطفولة والصبا" من جزيرة أم أرضة "النيل" ورائحة الماء والطين وصوت العصافير ودفء الشمس والأمان. هل كنت أعيش تلك اللحظة ذاكرة الطفولة المحببة؟. لا!.
تكشف لي فجأة أمر آخر، عندي ذاكرة في هذا المكان عمرها 17 عاماً، يا للهول!. الحقيقة أنني أقمت "سكنت" في ذاك المكان حي "فوربوروخ في لاهاي" في فبراير من العام 1996 ثم غادرته إلى مدن هولندية أخرى شتيتة وكنت كثيراً ما أقف في ذاك الزمان في ذات المكان أتأمل الموج الرقيق الصافي أذكر النيل وأحزن وأبكي وأفرح وأكتب القصص القصيرة على كراسة هولندية صغيرة رميت بها في يوم من الأيام في ذات الكنال كعربون صداقة بيني وبينه. لدي ذاكرة جديدة، ذاكرة مركبة تخون بعضها البعض، ذاكرة غير منسجمة مع ذاتها!.
تكونت لي ذاكرة جديدة "ذاكرة كنال فوربوروخ". شعرت لوهلة بسمت حميم وأنا أقف على حافة كنال فوربوروخ (هنا عشت حياة كاملة) هنا أنفقت قسطاً من عمري. وفي اللحظة التي تحتم علي مغادرة كنال فوربوروخ فجأة تعالت أصوات الأجراس، أصوات صاخبة تشق عنان السماء، صم هزيم الأجراس أذنيي، وفي ذات الوقت أصبح وقع الموجات المغنطيسية أكثر حدة من ذي قبل، أجراس صاخبة تأتي من الماضي البعيد "جزيرة أم أرضة" وموجات مغنطيسية من الماضي الهولندي القريب. شعرت وكأنني في غرفة إنعاش أفيق للتو من تخدير شديد المفعول وشعرت بشيء ما: كأنه الخيانة وما هو بالخيانة!.
محمد جمال
| |
  
|
|
|
|
|
|
|