حكايات مع حبوبة "آمنة بت حماد": للروائي محمد جمال الدين

نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-28-2024, 03:19 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2014م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-08-2014, 06:14 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حكايات مع حبوبة "آمنة بت حماد": للروائي محمد جمال الدين

    اهل المنبر العام والقراء الكرام

    سلام جاكم

    انقل الى المنبر قصص واقعية كتبها وبواصل في كتابتها الصديق وود اهلي محمد جمال الدين فقط على صفحته بالفيسبوك. نقل هذه الحكايات في مكان واحد جا بإقتراح من الصحفي الكبير بله عمر وعدد من الاصدقاء.

    والحكايات المعنية تدور حول طفولة وصبا الكاتب في قريته بجبل أولياء وجزيرة أم أرضة وبطلة القصص دائمأ جدة الراوي وهي حبوبة الكل الراحلة المقيمة آمنة بت حماد ود مردس ود أبوشكير.

    حتى الآن هناك 12 حلقة. ح أبدأ بالأخيرة وبعد داك بالترتيب. ولو في أي حاجة جديدة في المستقبل ح أنقلها لهنا.

    اتمنى تستمتعو بقراءة مفيدة ومسلية

    الشيخ حسن ابو القاسم أبو جديري

    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-08-2014, 06:32 PM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-08-2014, 08:32 PM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-08-2014, 09:36 PM)

                  

04-08-2014, 06:29 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبة "آمنة بت حماد".. حلقة "12"

    هياكل عظمية بشرية في العراء "هل هناك سر؟"

    هل هناك مجزرة في التاريخ؟. توجد هياكل عظمية بشرية في العراء أمام حلتنا مباشرة في الناحية الشرقية للميدان وفي الزاوية الجنوبية من منزل حسن عباس أبو محمد زين "في الرياض هسا". مشهد تلك الهياكل البشرية أستوقفني عدة مرات في الأيام الباكرة من طفولتي وصباي "سلاسل فقرية وجماجم" متكلسة على سطح الأرض بيضاء ساطع لونها، برزت للسطح بفعل عوامل التعرية البيئية والبشرية. غير أن جل الناس يتعاملون معها دون إكتراث بوصفها معلم من معالم الطبيعة العادية واليومية. لا أحد يعلم على وجه الدقة أصحاب تلك الهياكل التاريخية غير أن هناك عدة نظريات تحاول تفسير الظاهرة من أهمها نظرية حبوبة المتوارثة "نظرية العقرب".. (في المستقبل سأدرس الإنثربولوجي وسأتحدث مع د. على عثمان رئيس قسم الآركيولوجي "الآثار" بجامعة الخرطوم حول القضية فوعدني بزيارة للمنطقة غير أنه أحيل للصالح العام بعدها بعدة أسابيع وذهب إلى القاهرة دون عودة ورحلت أنا بدوري إلى هولندا أيضاً دون عودة حتى الآن).

    عندي تصور خاص أن هذه الهياكل العظمية ربما كانت ضاربة في القدم وهي لسلالة بشرية سكنت المنطقة من قبلنا وأنزوت نهائياً في طيات التاريخ. المقابر حديثها وقديمها معلوم بالضروره في كل أركان بلاد أم أرضة وهي: مقابر البساطاب في ديم جبل أولياء وحوى (بضم الحاء وتشديد الواو) في ود مختار والمشمر في كجبي وهي الأقدم في التاريخ ثم مقابر حديثة نسبياً وهي: الفكي دفع الله في قرية الفكي دفع الله ومقبرة جدي عبد المعطي الفكي فضل الله في اللدية الشيخ حبيب الله ثم أخيراً مقبرة جدي العالم حماد (شقيق حبوبة) شرق قرية مسرة. مقبرة حوى هي الأهم وعلى وجه الإطلاق في ذاكرة حبوبة فكل أهلها الأوائل يقيمون هناك وكثيراً ما تتجاوز حبوبة المقابر الحديثة المجاورة بما فيها مقبرة شقيقها لتقول لمن يغضبها "إن شاء الله يودوك حوى".

    كنا نمر فوق تلك العظام ونحن في طريق المدرسة دون أن نشعر بها أو نعيرها أي إهتمام يذكر وكأنها شظايا لنيازك هبطت من السماء. ليس نحن الأطفال فحسب بل أيضاً كبارنا. كان كأن هناك تواطؤ مدروس ومنظم مع خصلة نسيان تلك الهياكل البشرية الواضحة للعيان والقائمة في العراء. لا شفقة ولا عطف بها. وربما كان هناك بعض العداء لها!. هل هناك سر دسه التاريخ في مغاراته السحيقة، أم ماذا؟!.

    رواية حبوبة أو نظرية العقرب:

    أذكر أنني سألت مرة حبوبة عن قصة تلك الهياكل العظمية فقالت بالحكاية التي سمعتها من جدها مردس نقلاً عن أبيه أبو شكير (الجد الثاني لحبوبة) وهو الرجل الأول الذي سكن المنطقة (ود أبودروس) وتحدرت من نسله قرى قبل جاي ومسرة وأم قراقير وود بلول على وجه التحديد ثم إمتدادات كبيرة في كل قرى أم أرضة من السليكاب وود مختار وحتى العسال وأبعد من ذلك. الحكاية تقول: المنطقة كانت يسكنها قوم إسمهم "العنج" إنقرضوا بفعل العقرب الطيارة التي كانت تسكن أشجار الطندب والعشر والسيال تلك التي كانت تعج بها المنطقة ولم يبقى منهم "العنج" غير تلك العظام التي تشهد على سبقهم في السكنى على تراب بلدتنا والبلدات المجاورة في أزمان غابرة. "قضو جت" قالت حبوبة في ختام الحكاية وهي تخبر حفيدها المشحون بحب الإستطلاع. كانت حبوبة تضرب كفيها ببعضهم البعض عندما كررت " قضوا جت، عدمو طفاي النار". كانت عينا حبوبة لامعتان بالإشراق وهي تخبرني الحكاية في الضد من شعور مفترض بالحزن!.

    العنج عدموا طفاي النار بفعل العقرب بحسب رواية حبوبة الشفاهية المتوارثة. ولكي تكون الرواية أكثر تماسكاً أخبرتني حبوبة المزيد، ذاك أن جدها (ابو شكير) حرق شجر الطندب "حرقو جت وقعد هنا" فلم تعد العقرب الطيارة تهدده أو نسله فكان الإنتصار الذي جعلنا نكون حتى تاريخ اليوم وتكون الأرض كلها لأحفاد الجد الفذ أبو شكير "الضهرة والبحر" بما في ذلك الجزيرتين "أم أرضة ورفيدة" وبالشراكة مع حلفاء آخرين بدورهم أفذاذ هم إحدى بطون المسلمية وبعض عشائر الجموعية. ربما كان جد أبو شكير أو أي من حلفائه أو معاً هم من فعلوا ذلك لكن على كل حال رواية حبوبة تقول "جدها أبو شكير" هو من فعلها "شخصياً".

    ثقوب في نظرية العقرب:
    يبدو أن هناك إستقرار قديم وحضارة للعنج يشهدها الملاحظ في الأواني الفخارية وبقايا الطوب المتكلس في الأرض. أي أن فناء العنج الكلي والمباغت لا يمكن أن تفسره "العقرب الطيارة". كما أنني لاحظت أن الهياكل العظمية في كثير من الحالات غير مدفونة في نسق منظم!. هل هناك شيء ما حدث بفعل فاعل للعنج!. شيء غامض ومسكوت عنه. شيء فظ طواه التاريخ دون أن يشهد عليه أحدا. ربما كانت مجرزة مدبرة نتجت عن معركة حاسمة حول وراثة الأرض أنتهت بتطهير عرقي Genocide
    تام للجماعة الأصيلة.

    من هم العنج؟.
    من قراءاتي الخاصة للتاريخ ومن ملاحظاتي الآنثربولوجية المستندة على عدة مصادر منها هولت وماكمايل وآخرين إضافة إلى الحيثيات التاريخية التي أدت إلى إنهيار الممالك المسيحية في السودان أستطيع أن أرد أصول العنج إلى النوبيين القدامى "الفراعنة السود" وأعتقد أنهم كانوا يدينون بالمسيحية. وفي لحظة التحولات الكبيرة التي أعقبت تشكل الحلف الفونجي/الجعلي وفي لحظات تاريخية مختلفة بعد قيام سلطنة سنار أصبح العنج هدفاً إستراتيجياً لذاك الحلف المنتصر وحق عليهم الفناء كونهم العدو الأول والوحيد للحلف الجديد المنتصر والذي تكون في الأساس من الرعاة "المسلمين أو المنتمين إلى الإسلام والعروبة" في الضد من المزارعين المسيحيين ملوك وسكان سوبا على وجه التحديد. ومن أهم ولايات سوبا ذاك الزمان هي منطقة أم أرضة ومن ضمنها حلتنا "ود أبو دروس" حيث تكون اليوم عظام "العنج" ونكون نحن الأضداد في دورة جديدة للتاريخ.

    ---
    هل هي عظام العنج بالضرورة؟. تلك هي الرواية الرائجة، وتبقى كل الإحتمالات واردة. لكن ما هو مؤكد أن "العظام" ليست عظامنا!.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبة "آمنة بت حماد".

    محمد جمال


    رابط الحلقة 12 من فيسبوك يتضمن تعليقات القراء




    ---
    حاولت تكبير الخط بس ما قدرت!

    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-08-2014, 07:40 PM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-08-2014, 07:47 PM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-09-2014, 01:32 AM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-09-2014, 09:40 AM)

                  

04-08-2014, 07:02 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد (قص إرتجالي ومباشر)... حلقة "1"

    لكل منا ذاكرة مشرقة مع جداته من طرفي أمه وأبيه ما ألفى إحداهن على قيد الحياة، وكأنه من قوانين الحياة. وأنا محظوظاً ألفيت جدتي "حبوبتي" لأمي آمنة حماد مردس على قيد الحياة وعشت معها جل طفولتي وصباي. حبوبتي آمنة "تيبكال" حبوبة سودانية: لطيفة، حنينة وساحرة. ولدت آمنة حماد في نهاية القرن التاسع عشر بداية القرن العشرين ورحلت في العام 1986 في هدوء وسكينة راضية مرضية.

    لدى آمنة حماد شقيقة واحدة "فاطنة" وفاطنة هي حبوبة صديق ود محمد موسى بالرياض وخمسة أشقاء هم: محمد (الجد المباشر لحسبو حماد بالرياض) وأحمد الدود (همباتي شهير وهو جد مي بركات بالطائف) وحامد (ناس قدالة) والهادي (ملياردير) وعبد الرحمن الملقب ببحر العلوم (أستاذ بمعهد أمدرمان العلمي وقد سمى بنته الكبرى على إسم شقيقته "آمنة" الآن بليدز إنجلترا) ..هؤلاء الخمسة رجال مع شقيقتهم الواحدة أنجبوا جيشاً من الناس الهميمين يشكلون الآن نصف سكان بلدتنا "ود أبو دروس" يعيش معظمهم في قسم خاص هو "الحماداب". وحبوبتي آمنة لم تكن أي شيء غير حبوبة حلوة ونبيلة. كانت تقيم كل الوقت في بيتها الخاص بعد وفاة زوجها جدي الطاهر الطريفي مردس (إبن عمها طبعاً) ولأن كل فتاة بأبيها معجبة فقد سمت أمي أول أبنائها على إسم أبيها فكان أستاذ الطاهر جمال الدين ولكنها لم تسمي أياً من بناتها "آمنة" لا أدري لماذا برغم حبها المفرط لوالدتها وعليه أنا شخصياً أول بت تجيني في المستقبل "إن شاء الله" ح أسميها آمنة وأدلعها ب"ميمي".

    -موت علوية بت بدر الدين
    علوية كانت البنت الكبرى لخالي بدر الدين ود مصطفى الزبير ود مردس. كانت جميلة ومدللة . ولدت علوية بمشكلة ما في الدم (أو هو ما سمعته لاحقاً والموت حق"لها الرحمة"). كان موت علوية بدر الدين مفاجأة مرعبة بالنسبة لي ليست لأنها بنت خالي العزيز وشقيقة صديق العمر والطفولة صلاح بدر الدين. لا الأمر أفدح من ذلك. إذ كانت تلك أول مرة أكتشف عندها أن هناك شيء مرعب أسمه "الموت". أول مرة أعي حقيقة الموت وأفهمه لكن دون أن أعرف بعد كيف يحدث هذا الحدث العجيب الخطير الفظ. فسألت حبوبتي عن قصة موت علوية وكنت على يقين أن حبوبتي أفهم زول في العالم وعندها درجة بروفسير في كل ضرب من ضروب الحياة.

    فأجابت حبوبتي: "كتلتها أمها بالجبنة والطحنية" وواصلت شارحة أسباب الجريمة "هردت مصارينها باللغاويس". كانت حبوبتي ضد كل أنواع الطعام الحديثة ولا تؤمن إلا بالكسرة والعصيدة باللبن ومشتقات اللبن الطازج وبس . وكانت تعتبر الجبنة والطحنية والرغيف والفول المصري مؤامرة صهيونية ولا يأكلها إلا الفقراء والأفندية أي الناس الما عندهم سعية. منذ تلك اللحظة التي أخبرتني حبوبتي بالأسباب الخفية لرحيل علوية أضربت لعدة سنوات مقبلة عن "اللغاويس" وألتزمت إلتزامياً صارماً بالروشتة بتاعة حبوبتي حتى كادت تؤدي بي مرة إلى الموت "الموت الواحد الأحمر دا".

    -مهمة سرية جداً أو الموت غرقاً!

    في إحدى المغربيات بينما أنا عائد من (ماتش) مناسبة كروية ساخنة مرمد ومبشتن ونفسي قايم وما أزال أضقل بكورة الشراب في مشهد يحسدني عليه رونالدو إذا بحبوبتي تخبرني بأمر جلل وكارثة محققة "اللبن خلص" يعني مافي شاي مغربية وشاي المغربية أحد أركان الإيمان عند حبوبتي كما أن اللبن والأوكسجين حاجة واحدة عندها.

    أمرتني أن أذهب إلى إبن أخيها "الطيب على حامد مردس" بعد أدتني شكرة كدا من النوع أبو كديس من شاكلة "فارس الحديد إن حمى" فأديت النكس رفعة كدا وفللي على بيت ناس جدي على ود حامد، برضو ما في لبن، لقيت جدي على ود حامد وحده أخبرني "المركب فيها مشكلة والبحر دميرة والطيب ذاتو الليلة نايم كتر في الدومة" الدومة هي المنطقة المقابلة للعسال من جزيرة أم أرضة من خلف البحر.

    ونحن طبعاً بيتنا "أسرتي الصغيرة" تقيم في الناحية المقابلة مباشرة للحلة ود أبو دروس من جزيرة أم أرضة أي في قلب الجزيرة حيث من هناك يأتينا اللبن كالعادة والخضروات واللحمة والجداد و جناه والصمغ والحنبك والنبق والقرض واللالوب وأنا كلما أمشى بيتنا في الجزيرة برجع ومعاي أبو الدنان. أنا قاعد مع حبوبتي عشان المدرسة. لم أرجع إلى حبوبتي بل قررت دون أن أستشير أحداً أن أعوم البحر "تلاتة كيلومتر" وأجيب اللبن لحبوبتي.
    وصلت بيتنا والدنيا شبه مضلمة فصدمت أمي العزيزة ولجمتها الدهشة فصاحت في وجهي "أوعى تكون جيت عايم؟" ولمستني لقتني مبلل فصارت تولول "كر علي" وتلعن حظها المايل دائماً معاي فكوركت فيها مكذباً فكرتها كاذباً عليها بعين قوية "أنا جيت بالمركب" وذكرت لها أسماء وهمية من أصحابي منتظرني في المركب عشان نرجع. كنت بالضبط عشرة سنوات من العمر.

    لم يكن بوسع أمي التحقق من كذبتي في الحال كون الشاطي الشرقي يبعد حوالي كيلومتر من منزلنا في الجزيرة عكس الشاطي الغربي الملاصق. أعطتني أمي باقة من اللبن بعد أن أخبرتها بهدفي ووصتني أن أعمل حسابي من عوارض الطريق (ليس من بين هذه العوارض البشر فالبشر كلهم أهلي من تلك الناحية) وإنما عوارض الطريق هي العقارب والثعابين وأشياء أخرى غير مرئية تجد مكانها في رأس أمي وحده.

    لم تعطيني أمي اللبن وحده (حوالي 4 أرطال) بل أيضاَ حوالي كيلو ونصف شية جاهزة للأولاد المعاي في المركب (حبوبتي ما عندها سنون للشية) حيث قررت أمي أن نقزقز بيها في المركب. فأكلت منها شوية في الطريق ورميت البقية وخضت عباب البحر في ليلة دامسة إلا من سماء مرصعة بالنجوم. ما عندي مشكلة في العوم. أصلاً منذ وصلت سن التاسعة لا أركب المركب "صبينة" إلا نادراً لكن هذه المرة هناك أمران لأول مرة أواجهما وهما: الليل وباقة اللبن. تعلمت نظرياً من عبد الرحمن حماد وهو أحد سباحي البلدة الساحرين المعروفين ويستطيع أن يشيل معه طن فوق ظهره سابحاً كالأسماك. علمني عبد الرحمن بعض الفنيات في حمل الأشياء الثقيلة أثناء السباحة وبحسب الحالة والمادة المحمولة فأما الزول يلز الحاجة قدامو أو يضعها على رأسه أو فوق ظهره.

    وأنا أخترت الخيار الأول بشكل تلقائي "اللز". وكان كل شيء يبدو سلساً في البدء غير أنه قبل الوصول إلى البر بعدة أمتار خارت قواي بشكل مفاجىء وأصبحت لا أرى جيدا. تعبت. لم تعد هناك أي طاقة في جسمي. حاولت جهدي كله لدفع جسدي إلى الأمام. لم يكن بالمستطاع. تركت باقة اللبن نصف الممتلئة تسبح لوحدها من خلفي عدة أمتار وحاولت إنقاذ نفسي. ليس ممكنا. توقفت يداي وقدماي عن الحركة بشكل تلقائي، في الحقيقة لم أعد أشعر بهما. فقط كان رأسي يعمل بشكل جيد إلا من بعض الخدر. أيقنت بشكل لا يقبل الجدل أنني ميت لا محالة.

    إستسلمت للموت. الشيء الوحيد الذي فعلت أن عملت كل جهدي لأحاول النزول إلى تحت عبر قدميي. كنت آمل في شيء ما.. معجزة. لكنني أذكر جيداً أنني كنت أتعجل الموت خوفاً من الموت. وداخل تلك المعمعة وجدت قدميي تصلان إلى الأرض وأنفي في السطح. كان مستوى الماء فوق شفتي وتحت أنفي تماماً. لم أصدق. فرحت، فرحت، فرحت. أنا لن أموت "يا للهول". لا حول ولا قوة إلا بالله. تلك لحظة من لحظات الحظ النادرة في الحياة و "التحولات!". مكثت في ذاك الوضع حوالي دقيقة وزيادة ثم أخذت نفساً عميقاً ورجعت عدة أمتار سباحة إلى الخلف أجذب باقة اللبن وأعود بها إلى البر.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال
                  

04-08-2014, 07:35 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "2"

    مجزرة لعبة الكار

    عرفة الزبير هي بنت خالتي دار السلام. كانت بت حقانية وما بترضى الحقارة. عندما تكون البنت بتلك المواصفات يسمونها زوراً وبهتاناً "شرانية". حلتنا "ود أبو دروس" مقسمة إلى أربعة أقسام أساسية مسمية بأسماء أولاد مردس الجد الكبير وأحد أبناء عمومتهم (خالد) وهي 1- الطريفاب (نسل الطريفي) 2- الحامداب (نسل أحمد وحامد ) 3- الحماداب (نسل حماد) و4- الخالداب (نسل خالد). وبالرغم من أن الطريفي وحامد وحماد وأحمد أشقاء أبناء رجل واحد وهو مردس الجد المباشر لحبوبتي كما خالد إبن عمومتهم إلا أن هناك صفات ومواصفات محددة لكل قسم من أقسام سكان ود أبو دروس الذين يبلغ عددهم أيام طفولتي حوالي 200 نسمة لا أكثر. كلهم أهل، دا متزوج بت عم داك. (ملاحظة: لدى مردس إبنين آخرين هما (عبد الدافع وعثمان) عندهما سياق آخر ).

    تصادف أن أكون أنا من قسم الطريفاب. وهم في قلب الحلة. أهم ما يميز الطريفاب هو "البنات" ما عندنا أولاد أو شوية بطريقة لافتة للنظر. وهو أمر كان مثار قلق دائم لحبوبتي.
    حبوبتي إمرأة مؤمنة على السليقة راضية بالقسمة والقدر لكنها كثيراً ما خرجت عن وقارها المعهود فأسمعها "تنقنق" من الحظ العاثر لأبنائها وبناتها الذين أصطفاهم الله بالبنات دون البنين. بنات جميلات ومهذبات ويسدن عين الشمس. لكن الثقافة السائدة ثقافة ذكورية بحتة تميز الذكور تمييزاً إيجابياً (كدا بس) وتذم الإناث بلا ذنب أرتكبنه بل هن المخلصات العاملات للخير كل الخير لأنفسهن ولأسرهن وللمجتمع قاطبة.

    كانت حبوبتي منسجمة مع الثقافة الذكورية السائدة منتهى الإنسجام. وأنا نشأت كذلك. من الوصايا العشرة التي كثيراً ما توصيني حبوبتي هو الإبتعاد عن البنات وعدم الإختلاط بهن أو اللعب معهن. حرام. وإلا ح يكون الواحد "تالتن في الدلكة مخالطن" وتلك وصمة عار لا تليق بالفرسان من أمثالي وذاك من وجهة نظر حبوبتي والتي بالطبع أصبحت قناعة راسخة عندي.

    بس هناك سؤال قدري صعب الإجابة: طيب، ألعب مع منو مادام اللعب مع البنات ممنوع؟. مافي أولاد!. هناك ثلاثة أولاد فقط في جميع بلاد الطريفاب وأنا لم أكتشف المسافات الأخرى بعد. سيحدث في المستقبل القريب لكن ليس بعد. في كل قسم الطريفاب هناك ثلاثة أولاد فقط في دوري وعمري وهم: صلاح بدر الدين وفتاي الحاج وأخوه الشيخ وهم أولاد بنت خالتي فاطنة بت رية الطريفي وهناك شخص آخر أصغر شوية بس مع الحيرة مرات بلعب معاه وهو "محمود الحبيب ود زينب بت رية". وبس. تاني ما في زول من عمري إما أكبر كتير أو أصغر كتير وهم في كل الأحوال أقلية.

    في إحدى أيام بداية الخريف النضير وكان الجو لطيفاً وهناك رزاز حفيف منعش يكلل الفضاء ويسقط فوق جسمي كأنه السلام والسكينة بينما أنا أخرج كرة الشراب من تحت سرير حبوبتي وأتجه إلى منزل فاطنة بت رية على أمل أن ألعب مع فتاي والشيخ لكنهم كانوا مع أبيهم في الفكي دفع الله هكذا أخبرتني فاطنة . فغشيت محمود الحبيب من باب الحيرة فوجدته عنده حمى "مورود" يقحقح. ألقيت عليه نظرة حانقة بلا عطف و لا شفقة وكأنني أعاتبه على مرضه بينما أنا أحتاج من يلعب معي. كان بجانب محمود قرض وبخرات في صحن صيني ( البخرات من صناعة جده الشيخ إبراهيم) فغفلت أمه اللطيفة الأمينة زينب وقلبت الصحن على الأرض "كدا بس" في عملية عدمية ثم خرجت. (محمود الحبيب سيصبح في الستقبل منسق الدفاع الشعبي بجبل أولياء ومرشح المؤتمر الشعبي في الإنتخابات البرلمانية الماضية وسيكون المزيد .. كما كان خلفي على رئاسة إتحاد طلاب ثانوية جبل أولياء والمزيد).

    آخر خيار تبقي لي كان صلاح بدر الدين. دخلت عبر بيت ناس جدي تاج الدين عبوراً إلى بيت ناس صلاح. وفي اللحظة التي خرجت فيها من الباب الآخر المقابل لبيت ناس صلاح وفي زاوية بيت جدي حسن وجدت حشد من البنات يلعبن "الكار" في إنهماك كبير وغرقانات تماماً في لعبة مثيرة وشهية أذكر منهن: عرفة الزبير وبثينة وحنان تاج الدين وعدد آخر لا أذكره كما كان معهن ثلاثة ضيفات هن بنات أخت شبك السور زوجة جدي تاج الدين وأظنهن بنات الشيخ البشير أبو كساوي.

    لم أعيرهن إهتماماً ولم أسلم عليهن. أصلاً نحن ما بنسلم على بعض لأنو ما في داعي نحن كل يوم في وش بعض المسافات بين البيوت صغيرة وما في أبواب للحيشان.

    أول ما دخلت عند ناس خالي بدر الدين قابلتني أم صلاح "أم كلثوم" كانت تنشر الغسيل على حبل في الحوش "صلاح نايم" أخبرتني ثم أدتني كلام كدا فيما معناه ما تقعد تتنح قدامي كدا "الولد نايم يلى أتخارج". يا للمصيبة!. أعمل شنو؟. أقبل وين؟. أخدت لي دمعة كدا وخرجت في طريقي إلى بيت حبوبتي تكللني الحسرة والخيبة وأشعر بسوء الحظ. كان أمام بيت جدي حسن مباشرة بركة صغيرة من مياه المطر "كانت الدنيا جميلة والمطر بخير" وقفت لوهلة أمام البحيرة أتأمل ظلي في الماء (ظل الولد الوحيد) بينما كان رهط البنات من خلفي. كنا سعيدات يصحن ويضحكن وهن يلعبن الكار. كن في منافسة مثيرة.

    ألتفت إليهن ببعض الحنق أقتربت قليلاً منهن ولو في حذر فأعجبني التكنيك: الواحدة تجدع الحجر كدا لي فوق في السماء وتخرج الكار من الحفرة ثم تعيده إلى الحفرة و تستلم الحجر من جديد قبل أن يسقط على الأرض في رشاقة مدهشة بالنسبة لي.

    لا أحد أعارني إهتماماً لحوالي عشرة دقائق وأنا أقف فوق رأس البنات محطماً إرثاً عظيماً من تاريخ الفصل النوعي والعنصري في حلتنا. الكل غرقان في اللعبة المثيرة "بنوت زي الورد". وفجأة وبدون مقدمات أوقفت عرفة الزبير اللعب لهنيهة صغيرة وألتفتت ناحيتي ببعض الشرانية "بدور شنو؟" ثم واصلت اللعبة.
    كان السؤال منطقياً لكنني أعتبرتها إهانة بالغة لا تغتفر.
    فأقدمت على خطوة غير محسوبة العواقب وكنت أستهين بهن وبمقدراتهن وفي الحقيقة كانت نظرتي لهن لا تخلو من الإحتقار. فأدخلت قدمي اليمني في الحفرة عفصت الكار ومعه يد عرفة. فإذا بعرفة تنهض كالشيطان الرجيم تطوقني من الخلف بقوة وتأمر رفيقاتها بحسم "ألفخنو فوق خشيمو" فلم يلفخنني فوق خشيمي ولكن فعلن ما هو أسوأ بكثير. وجدت عدد من المخالب "الأظافر" السنينة تنغرز كالنشاشيب في كل خلية من خلايا جسدي النحيل ثم أكملتها عرفة بواحدة من النوع أبو كديس على ظهري العاري وكانت عرفة تربي أظافر خاصة لمثل تلك المناسبات الهامة (ما كنت عارف، أنا جاي من الخلاء للتو "الجزيرة" وغير مثقف بخبايا البلد ) فأصبحت أصيح بأعلى صوتي "أصرخ" كواريك شديدة وتدحرجت فسقطت في بركة المياه وكان الماء مالحاً فأزداد ألمي. فهرعت كالممسوس أجرى صارخاً ناحية بيت حبوبتي "حوالي مئة متر" من موقع الجريمة. فإذا بحبوبتي تتخض وتصدم دون أن تعرف السبب وظنت في البداية إنو لدغتني عقرب.

    جنرال أركان حرب مسك النبي :

    عندما تحققت حبوبتي من أسباب الكارثة أصابها غضب لم أر مثله في حياتي "البنات دارين إكتلو ولدي" كانت تلمسني على جبهتي كل دقيقة وتبكي "الجنى جاتو حمى، مورود". فأرسلت عند المغربية رسول إلى بنتها الصعبة الصغرى خالتي "مسك النبي " في اللدية تطلب منها الحضور في الحال. فجاءت مسك النبي ومعها كيس من الحصحاص. عشان تأدب البنات. قرص بالحصحاصة في الورك. فشملت لستة العقاب كل المجرمات وأخريات سيئات الحظ لم يحضرن الحدث من الأساس. كانت مسك النبي لافة في قسم الطريفاب لمدة ساعتين ونصف سمع الناس خلال تلك المدة 15 صرخة وصرخة أخرى على عجل وخجل!. لم يكن بإستطاعة أحد إعتراض مسك النبي وإلا هو نفسه سيدخل في مشكلة.. كانت هي الشر يمشي على قدمين!. جنرال أركان حرب تخصص محارق يهودية وعمليات نازية.

    أدت خالتي مهمتها على الوجه الأكمل ثم عادت إلى بيت حبوبتي تأمرني "أديف على حيلك" يعنى أقيف على حيلك (خالتي لجنى) وواصلت "إدودنك البنات؟" (إدودنك = إدقنك) وطاخ طاااخ أدتني كم كف وقرصة كبيرة على الجضوم وهي ترفعني إلى الأعلى (فصرخت بخجل) قبل أن تتدخل حبوبتي وتقرر "كفاية".

    ودقة تفوت ولا حد يموت. بعد قليل تعرفت على أقسام حلتنا الأخرى وتعلمت أن العالم أكبر مما كنت أظن فلعبت وشبعت لعب مع أولاد أهلي الحامداب والحماداب والخالداب ثم ذهبت أبعد من ذلك بكثير إلى مسرة والعسال واللدية وقبل جاي وود مختار وهلمجرا من الحلال المجاور كما ديم جبل أولياء والحلة الجديدة ثم أخيراً الخرطوم .. وبعد داك عييييك لغاية مرقتها في أمستردام!.

    التحية لبنات أهلي الرائعات بنات يسدن عيش الشمس وإن شاء الله الواحد يلد زيهن. بنات زينة.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال

    ---

    أصل الحكاية والتعليقات


                  

04-08-2014, 07:37 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "3"

    المهدية/التعايشة .. مدخل إلى ذاكرة آمنة حماد السياسية والآيدولوجية

    لآمنة بت حماد ذاكرة من حديد. كانت صافية الذهن، صحيحة الجسد وسمحة وأنيقة. كانت تحدثني عن كل شيء يجوز الخوض فيه. حدثتني مرة عن الموضة والملابس أيام صباها الباكر. في سنة من السنين طلعت موضة "قد الإسكيرت" من على الورك. الإسكيرت "هذه لغتي أنا" هو عبارة عن جبون من جلد البقر المصنع وفي ألوان زاهية ويكون تحت السرة وفوق الركبة "يثقب من أعلى الورك" كموضة. دا كان لبس المناسبات مثل الأعراس. "البلد ما فيها زول شناف" كل الناس لبراليين على السليقة وإشتراكيين بتلقائية.

    وحدثتني عن الطعام "لبن وروب وسمن وويكة وخضرة وتومليتة وويكاب واللحوم بأنواعها وعصيدة" والخضار "عجور وتبش وجرجير " والفواكه "شمام وبطيخ و منقة وموز وقريب فروت وقونقليس ودوم ونبق وحنبك وكضيم". والطب "قرض وعرديب وحجامة وكي بالنار وتعاويذ وبخرات ومحاية". ولحبوبة ذاكرة ثقافية شفاهية تنطوي على قدر وافر من الحكم والقيم والمثل الأدبية والأخلاقية. وكان قدوتها أبائها وأمهاتها وجدودها وجداتها الأوائل. كانت تحفظ أشعار بنونة بت المك نمر عن ظهر قلب وبالذات المرثية الشهيرة : "ماهو الفافنوس ما هو الغليد البوص" .. و "
    ما دايرالك الميته ام رمادا شح
    دايراك يوم لقا بى دميك تتوشح
    الميت مسولب والعجاج يكتح
    أحى على سيفو البسوى التح".

    كما لآمنة بت حماد ذاكرة سياسية وآيدولوجية واضحة العناصر وحادة جداً تشكلت أيام المرحلتين التركية والمهدية. كانت ذاكرة مقاومة شرسة، إذ يبدو جلياً من حكايات حبوبتي أن أهلها كانوا معارضين للأتراك وكانوا أشد معارضة للمهدية ولكنها ذاكرة صامتة بالكامل حيال الغزو الإنجليزي.

    الحكاية الوحيدة التي حكتها لي حبوبتي فيما يتعلق بالإنجليز هي إن جدي "الطريفي" غش الخواجة باع ليه أرض في السماء بين التريا وأب ريا "نجوم في السماء" وقبض الثمن.. دون أن يكون هناك صراع دون ذلك.. ويبدو من ناحية آنثروبولوجية من سياق الحكاية أن المخيلة الجماعية "العشائرية" تبيح خداع الآخر وعلى وجه الإطلاق "حتى من ذات الجغرافيا" فما بالك إن كان الآخر هنا نصرانى من أوروبا!.. ذاك ليس من عندي بل أن حبوبتي بعد أن أنتهت من الحكاية أشادت بذكاء "عمها الطريفي" وعلى وجه الإطلاق!.

    جل حكاوي حبوبتي تدين الأتراك وتتحدث عن مساوئهم وشرورهم وتدين بذات القدر التعايشة "المهدية" وتوصمهم بكل قبيح كما تمجد المناضلين والشهداء الذين سقطوا في مواجهة المهدية أو سعوا للإنتقام لضحايا العسف المهدوي ومنهم "مصطفى وسند" أبناء عمومتها (سأتحدث عن مصطفى وسند بالتفصيل في المستقبل). في هذا السياق أخبرتني حبوبتي أن أمها البتول صدرها مشروط من فوق نهدها الأيمن وحتى سرتها بسوط الجهادية التعايشة بعد أن قطعوا أيادي أبوها وأخوانها بالسيف وقالت أن أمها البتول لا تتحدث عن ذكرياتها المريرة أيام الدولة المهدية وإلا خنقتها العبرة وسبقت كلماتها الدموع.

    غير أن آمنة بت حماد لم تكون أي ذاكرة سياسية حديثة. لم تكن تعرف المرحلة الوطنية التي أعقبت خروج الإنجليز من السودان. لا توجد لديها أي حكاية مميزة عن تلك المرحلة. توقفت ذاكرتها عند المهدية، تلك في الحقيقة الذاكرة الجمعية أي مخيلة الناس من جيل حبوبتي نقلاً وإتساقاً مع الأجيال السابقة إذ ان ليس لحبوبة أي موقف مستقل عن موقف الجماعة. ولهذا فوجب أن تؤخذ روايات حبوبتي عن المهدية ببعض الحذر أي لا يجب قبولها على علاتها كما لا يجب رفضها "كدا بس" وفي كل الأحوال وجب النظر إليها في سياقها الزماني والمكاني.

    سآتي بمزيد من التفاصيل عن ذاكرة حبوبتي السياسية والآيدولوجية في وقت آخر كما سأتحدث أكثر عن الحياة الإجتماعية وعن الأعراس والمآتم والأفراح والأتراح كما هي رؤية وذاكرة آمنة بت حماد المباشرة أو نقلاً عن أمها البتول والأخيرة كانت بدورها تنقل عن أمها كما جدتها أي الحكي ربما غطى مسافة 200 سنة إلى الوراء من الذاكرة الشفاهية النضيدة والتي لم توثق من قبل.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال

    ---
    أصل الحكاية والتعليقات من فيسبوك

                  

04-08-2014, 08:05 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "4

    الحكومة

    الحكومة؟. علاقة أهلنا على وجه العموم بالحكومة ضعيفة، شبه منعدمة، أهلي من جميع الأطراف رعاة ومزارعين (على الطريقة التقليدية) من حيث المبدأ مع إستثناءات لا يعتد بها. ما عندنا شغلة بالحكومة ولا الحكومة عندها شغلة معانا فقط تأخذ الضرائب وبلا مقابل يذكر. كانت فكرة حبوبتي عن الحكومة مبسطة إلى درجة مذهلة لكنها تشبه العلاقة الجدلية تلك "نحن والحكومة". كان أهلي في ذاك الزمان أثرياء بما ملكوا من الأراضي الشاسعة والقطعان والسواعد الفتية والقلوب الكبيرة والتضامن فيما بينهم والحظ.

    وكانت حبوبتي في المراحل الأولى من عمري هي أستاذي ومفكري وفيلسوفي الأثير أو في الحقيقة ما عندي خيار آخر. لكن سرعان ما تفتقت أمامي الدورب يسوقني حب إستطلاع عظيم فتعرفت على الحياة والأشياء بمنطق جديد.

    في مرة من المرات بينما أنا ألعب كالعادة مع أقراني من شفع الحلة إذا بنا نفيق فجأة على إطلاق نار عنيف صم آذاننا (فلوجة العراق بس) فتفرقنا نجرى على بيوتنا من شدة الهلع. عندما وصلت البيت أنحشرت بالقرب من حبوبتي أستفسرها عن فحوى الأمر فردت "دي الحكومة".

    كنت أسمع بالحكومة لكن لا أعرف ماهيتها وما هو شكلها بس كنت أتصور أنها إمرأة منكشة بشعة "مجنونة" شايلة في يديها حجارة وسكين تفلق وتفلع الناس في الطرقات .. وكان خالي "المعتصم" زعلان منها فيما يبدو من أحاديثه مع أقرانه.

    عندما أخبرتني حبوبتي إنها "الحكومة" ركبني حب إستطلاع لا يقاوم فطفقت أجري ناحية إطلاق النار خلف البيوت على أمل أن أرى الحكومة بعيوني وكان حبوبتي وخالتي دار السلام جاريين من ورائي بغرض إمساكي خوفاً علي من عيار طائش ولكنهما لم يستطيعا الإمساك بي حتى وقفت أمام الحكومة وجهاً لوجه لأول مرة في حياتي.

    كان منظر الحكومة مهيباً في ناظري "عسكري يركب جمل ويحمل في يده خرطوش معبأ بالذخيرة". هذا العسكري يأتي كمذنب هالي مرة في الدهر بأمر من وزارة الصحة بقتل الكلاب الضالة والتي كانت منطقتنا تعج بها.

    بعد مدة صغيرة من هذا الحدث تعرفت على الرفيق عثمان إبن المؤرخ الشفاهي المعروف في منطقتنا "أحمد عبد اللطيف" وهو بدوره من جناح الطريفاب لكنه يسكن الخالداب القسم الجنوبي من الحلة. لدى عثمان أخوات من أبيه في قرية مسرة حوالي كيلومترين من حلتنا ناحية الجنوب. تسنت لي مناسبة نادرة للخروج لأول مرة إلى قرية أخرى من باب النزهة والسياحة. كانت فكرتي الأولى عن العالم مبسطة بطريقة مخلة. كنت أثناء وجودي بجزيرة أم أرضة أفهم العالم غرب النيل وشرق النيل. شرق النيل هو حلتنا حيث تقيم حبوبتي وغرب النيل هو الغرب المطلق أي غرب هو في غرب النيل بما في ذلك دارفور والجزائر وأوروبا. لكن سرعان ما فهمت أن هناك قرى اخرى من حولنا ونحن لسنا وحدنا.

    وصلنا قرية مسرة وفي مدخل البلدة صادفنا ولد صغير في عمرنا هو "جمال بشير يونس" والذي سيصبح في المستقبل أحد أهم أصدقاء العمر لكن دون أن أعيره إهتماماً ذاك اليوم كنت مستنزفأً بالنظر إلى العالم الجديد غير أن جمال ذكر لعثمان بفخر شديد إنه "ماش بكرة خزان جبل أولياء مع أمه" فشعرت بغيرة شديدة لاحظها عثمان للتو واقترح أن نمشي معاهم الخزان. ففعلنا. كانت رحلة مدهشة. وبعد عبورنا مباشرة لديم البساطاب في طريق الخزان كان هناك غابة كثيفة من شجر العشر تتخللها دروب ضيقة وبينما نحن في خضم الغابة وتحديداً في فسحة صغيرة "سيقام عليها في المستقبل مبنى المدرسة الثانوية الحكومية التي درست بها" فجأة سمعنا الأرض تهتز وهناك صياح رهيب "لولولولو أز أز أز تاو تاو داز" فتوقفنا رهبة وذعراً فخرجت من قلب العشر مظاهرة ضخمة من البشر مصطفون في نظام محكم وهم يصيحون بأعلي أصواتهم يتقدمهم رجل يبدو أنه أكبرهم سناً يأمرهم بالسير والتوقف ويقول لهم "صفا إنتباه" وهم يرفعون أرجلهم ويضروبنها بالأرض حتى تهتز. كان مشهداً رهيباً وكنت أنا ناسياً نفسي في تلك اللحظة مأخوذاً بالكامل دهشة أمام هذا الشيء العجيب الذي أراه لأول مرة في حياتي. فسألت أحد الرفاق عن القصة فأجابني "دا الديش " يعني الجيش ثم أردف " دي الحكومة". كانت تدريبات للعسكر الجدد. حكومة؟. نعم، لا بد أنها الحكومة الحقيقية. هذا الشيء أكبر من حكومة حبوبتي ذات العسكري الواحد فوق الجمل.
    ثم مررنا بمبنى إستراحة خزان جبل أولياء "مبنى أثري جميل" لمسته دهشة (في المستقبل سأتعرف على هشام قاسم "جودة" من الحلة الجديدة في الجبل وسيمنحي ذاك اللقاء العادي فرص عديدة للقاء المبدع الهادي الجبل وناس سوركتي وناس آخرين وسأمتع بجلسات فنية وفكرية باهرة وسيكون في حضن تلك الإستراحة نظرات رومانسية حقيقية وأخرى متوهمة "من وإلى" فاتنات صغيرات فاهمات وقصة حب صغيرة فاشلة ) .

    بعد سنتين فقط من ذاك الحدث .. كنت في الصف الرابع الإبتدائي من مرحلة الأساس. دخلت المدرسة من سنة تالتة نهاية العام لأني دارس في البيت. في إحدى الصباحات البهية ناداني أستاذ النور الصديق يحدثني في أمر جلل ذاك أن مستشار الرئيس والخبير الإقتصادي والوزير الكبير "مامون بحيري" سيزور المنطقة وأن إدارة المدرسة أنتخبتني لألقي كلمة أمام "الوزير" والناس نيابة عن طلاب المدرسة. تم تجهيز الكلمة "أربع صفحات" بمساعدة الطاهر جمال الدين وعبد الله الإمام. الإجتماع سيكون في مدرسة البنات خلف اللدية. مامون بحيري قادم في مهمة مصيرية بالنسبة لسكان المنطقة برمتهم وهي "إحياء مشروع جزيرة أم أرضة الزراعي". أمتلأ حوش مدرسة البنات عن بكرة أبيه بناس البلد من صغيرهم إلى كبيرهم من السليكاب لغاية العسال، المخلصون منهم كما الطامحون والطامعون والمتسلقون وكل من هب ودب . كل قرى الجعليين واللدية والسليمانية وهناك رهط من العسكر والأمن والإذاعة والتلفزيون والميكرفونات معلقة في كل مكان وكان مأمون بحيري هيبة وكان للسلطة معنىً عظيماً ذاك الزمان.


    قبل يوم واحد فعلت أمراً كنت قد خططته في سري. وهو أن أحفظ الكلمة وألقيها من رأسي لا الورق موحياً بأنها إرتجالية وذهبت في رحلة خاصة لهذا الغرض إلى أمي في الجزيرة أتحاوم تحت الشجر وأخوض في البحر وأنا أقرأ الكلمة بصوت جهور مستخدماً كلتا يديي في التعبير عن معاني الكلمة وكأنني في سوق عكاظ. كنت أشعر أن نجاحي في تلك المهمة أمر مهم جداً. وكان شعوري صحيحاً .. ذاك الحدث أعطاني ثقة إضافية في نفسي وربما زيادة!.

    أنجزت المهمة بطريقة باهرة في عيون الناس وجاء مامون بحيري أنزلني من المسرح بنفسه حاملني على كتفه وصفق لي الناس كثيراً كنت أشعر بالزهو والفخر وأهم شيء أنني لم أخذل أستاذ النور الذي رشحني دون الآخرين للمهمة برغم أنها كانت أول تجربة لي وعلى وجه الإطلاق. لكن في الحقيقة كانت التحضيرات ممتازة شارك بها عدد من الناس بما فيهم حبوبتي. في مساء اليوم السابق للمناسبة مسحت حبوبتي وجهي ويديي و قدمي بالزيت المطيب بينما هي تردد "جيد لي ولدي ماش إحدث الحكومة". حكومة؟. تاني حكومة؟. وهو في كم حكومة عند حبوبتي!. رددت ذلك في خاطري دون أن أفصح لحبوبتي أنني عدت أعرف ما هي الحكومة "نظرياً" ولو ليس بالدقة النهائية لكن بالقطع أفضل من حبوبتي أو كان ظني!.

    في زمن لاحق بينما أنا بين زملائي في مدرجات جامعة الخرطوم كان يحاضرنا بروف محمد يوسف المصطفى "وزير العمل لاحقاً" حول مفهوم الحكومة والدولة عند المفكرين الإنجليزيين هوبس وجون لوك. فضحكت بصوت مسموع بلا وعي مني فأمرني بروف محمد يوسف بالوقوف يستفسرني ما هو المضحك في الأمر "؟" فحدثته عن فهم حبوبتي للحكومة فضحك البروف وضحك الجميع ثم قال لي "فهم حبوبتك صحيح كل تلك مظاهر من مظاهر السلطة العملية".

    " يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال

    ---
    الفيسبوك

                  

04-08-2014, 08:08 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "5

    لقاء السحرة

    السحر عندنا في الدارجة السودانية يقابل "العين" وتستخدم الكلمتان بذات المعنى في أحوال كثيرة والزول الفاعل يسمى "السحار" والزول المصاب يسمى "مسحور" مرة ومعيون مرة أخرى. وهناك أغنية شهيرة للفنان خليل إسماعيل عنوانها "بسحروك" (خوفي بس ياسمحه ماتصيبك عيون
    بسحروك يا السمحه لو شافو الخدود
    ولا شافوا الاعين المكحوله سود).

    والتراث السوداني الشفاهي كما المكتوب مشحون بقصص السحر والعين. ليس السودان فحسب بل معظم أركان الكرة الأرضية يشاع بها نوع من الأحاديث والحكايات حول السحر والعين مع اختلافات محددة في المقدار لا النوع. وفي هولندا عندما يبدي أحدهم إعجاباً فائقاً بأمر ما فمن المحتمل أن يدق الشخص المعني بالأمر بأصابعه على أي جسم صلب أمامه ويقولون "دق الخشب" وإلا سيموت بحار "هكذا تقول الإسطورة" في إحدى تجلياتها. ليس بالضرورة كل الناس تؤمن بالسحر فهو أمر من الأساطير.

    عندما تعرفت على أهلي في قرية مسرة وهي بلدة صغيرة ساحرة تقع حوالي كيلومترين جنوب حينا. أعجبت بأهلها الأوفياء جداً واستطعت صناعة صداقات كثيرة في فترة صغيرة وأصبحت في المستقبل عضواً أساسياً "دفاع" في فريق مسرة للناشئين وكنت جل الوقت في بيت خالي أحمد عبد اللطيف التاني "بيت اللقية" وبيت ناس الشافع الهادي وبيت ناس سند برفقة صديق العمر جمال بشير يونس وكل الناس أهلي بلا فرز . لكن " الحلو ما يكملش" كما يقرر لنا المثل المصري الشهير. إذ سرعان ما علمت أن هناك كارثة كبيرة "هاجس" في انتظاري. هناك رجل سحار في البلدة تحاك حول مقدراته في السحر عدد لا حصر له من الحكايات في صورة إشاعات خرافية مذهلة (الزول طاخ يقع يفرر وروحو تنسل، البقرة طق تقع على قرونها، الشجرة تحرق وهلمجرا). لم أره ابداً لكني أسمع عنه وعن ضحاياه بشكل يومي في ذات الوقت لم ألتقي أبداً وحتى تاريخ اليوم بأي آية من آيات معجزاته المروية "زول أو شجرة أو بقرة" لم يحدث. كنت أخالني سأكون أنا معجزته الأولى التي سأراها بعيني. مرعوب. كنت اتصورني ولد لعاب جداً (كان وهم) ولذا إن جاء السحار صدفة إلى ميدان الكرة مرة لا بد أن أنني فاقد إحدى قدميي إن لم يكن "رقبتي" ذاتها.

    السحار؟. لا بد أنه قدم إلى البلد في جنح الظلام من عالم بعيد خلف البحار والهضاب والسهول حيث يعيش السحاحير وحدهم. كنت أسمع أنه رجل أنيق وفكاهي لكن ليس لي صورة محددة له قبل أن أراه مرة وجهاً لوجه مع حبوبتي "آمنة بت حماد" بت البتول بت البشير. البشير؟. البشير هو جد حبوبتي طبعاً وبالنتيجة فهو جدي. ذاك اللقاء سبب لي في البدء صدمة مرعبة. جاء الرجل يبارك لحبوبتي الحج في رفقته كل من "زبيدة أم مالك وطلب" وأسماء أم البتول أم حنظلة والشيبة أبو عيسى وهم أشقاء وبدورهم هم أحفاد البشير الوارد ذكره للتو أعلاه.. كانوا ناس حلوين وطاعمين وكلهم فهم وحنية*.

    أذكر أنني بينما كنت منهمكاً في اللعب في مغربية لطيفة السمت جاءني الرفيق فتاي الحاج يجري وأنفاسه تتقطع يخبرني أمر جلل " السحار في بيتكم، مع حبوبتك" " والله كضاب" " والله العظيم جد، انا شفتو بعيوني". لا حول ولا قوة إلا بالله. كارثة!. كنت بالطبع أحب حبوبة الحلوة حباً عظيماً وأخشى عليها من النسيم فما بالها المسكينة اليوم في قبضة سحار ذي عيون حارقة قاتلة!.
    كان عندي تصور مبسط عن حبوبتي "أنها مسكينة" كما أنني كنت واثقاً ثقة زائفة أن حبوبة لا تعلم أي شيء عن السحار الخطير الذي هجم عليها في تلك اللحظة يريد بها شراً طبعاً!. لكن ماذا أنا فاعل لإنقاذ حبوبة من براثن الوحش؟. ليس بوسعي فعل الكثير. أنا ذاتي ممكن أروح في ستين داهية. لا بد من عملية بطولية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأنا في طريقي ناحية بيتنا حيث حبوبتي في قبضة السحار كنت وكأني ازحف، أمشي ببطيء شديد عكس طبيعتي المعهودة إذ أنني لا أعرف شيء إسمه المشي كنت أجرى فقط ولا يهم إن كان هناك أمر يستدعي العجلة أم لا في كل الأحوال أجرى "لم أكتشف المشي بعد" مجبول على العجلة.

    صممت خطة خاصة لإنقاذ حبوبة وإن فشلت هناك خطة "ب. عملية لا بد أنها بطولية كونها تحتمل الشهادة حرفيا!.

    تلصصت ثم استرقت النظر من على البعد. دهشت بعض الشيء وتملكتني الحيرة إذ كان القوم يتبادلون الأنخاب "الشاي باللبن" في حميمية فائقة ويقهقهون بهجة وحبور وحبوبتي خالفة رجل فوق رجل وهي تروي بفخر شديد بطولاتها بأرض الحرمين الشريفين وصولاتها وجولاتها بين الصفا والمرى.

    وكان السحار كما وصفه لي أقراني من قبل أنيق وفكاهي وكاريزما والمزيد. وكان يجلس على عنقريب وجهاً لوجه قبالة حبوبة في الفضاء أمام بيتنا بينما المرأتان تجلسان على عنقريب حبوبتي ذات اليمين وذات اليسار . كنت متعرق الأطراف وقلبي يعزف نشيد الهلع العظيم بينما أنا أحبو خلف عنقريب السحار وانحشر تحته صامت ومكتوم الإنفاس في عملية حياة أو موت من أجل إنقاذ الجاهلة المسكينة حبوبتي وكان يخالجني الشك بأن مهمتي شبه مستحيلة "نفد القدر" mission: impossible
    توكلت على الواحد القيوم و"كوركت": (حبوبة دا سحار، دا سحااااار). لم تستبن حبوبتي صيحتي وسط قهقهات القوم غير أن السحار نبهها إلا أن هناك عفريت تحت السرير "دا شن نفرو؟" فاجابته "ود بتي القوت" فنظرت حبوبتي تحت السرير وكانت تظنني ألعب كعادتي فنادتني بكل طمأنينة "تعال سلم على جدك". جدي؟. السحار!. لا حول ولا قوة إلا بالله. نعم السحار جدي. السحار بدوره طلع ود البشير. وكلنا أحفاد البشير. والسحر وراثة كما هو معلوم. أنا ذاتي طلعت سحار يا للمصيبة!.

    فما كان مني وإلا أن خرجت من مخبئي وكأنني تعرضت لصعقة كهربائية عالية وتقدمت مبهوتاً ناحية جدي الخرافي فحضنني عليه في حنية فائقة وطبع قبلة جد حنون على خدي الأيسر. ثم أخذت مكاني الطبيعي بجانب السحرة بينما حبوبتي تصب لنا الشاي ونحن نقهقه إحتفاءاً باللحظة . كانت لحظة عظيمة في معية أناس بسيطين طيبين وعظام. كانت لحظة ساحرة. كان السحر يتحاوم حولنا من كل ناحية وصوب. وكان هناك كائنات ملائكية ساحرة تهبط ناحيتنا في هيئة سلاسل من النور الساحر. كله كان سحراً. سحراً خالصاً نقياً. كان القمر كما النجوم السابحة في الفضاء بغير هدى تتداعى نحونا، درر تنقض عهدها مع عقدها.. كانت الأرض الطيبة وكأنها تعلم بالأمر الجلل منذ الأزل ففرشت الدروب الزكية بالرمال وكان صخب الموج من خلف البيوت الرفيقة الهادئة يفضح شبق النيل حين يغازل الشطآن. كانت الأكوان كلها تهيأ نفسها لذاك اللقاء الساحر الفريد، "لقاء السحرة".

    في المستقبل "بعد سنوات عديدة" من تلك اللحظة علمت ما كنت أجهل: ذاك اليوم كان يوم تتويج لولي عهد جديد يجلل العرش .. ساحر صغير سيكون له مستقبل مجيد في عالم السحر والعيون . "وهذا الشبل من ذاك الأسد"!.

    وأصبحت من بعدها كلما اذهب إلى قرية مسرة أول شيء أفعله ازور جدي الساحر "ساحر ملك السحر" يعلمني مما من الله عليه من المعارف والخبرات الحياتية الثرة التي كسبها عبر عمره المديد ويدربني على مهارات السحر العظيم، فورثته وحدي ولم أترك لغيري أثر. وهو طبعاً جدي أحمد الملقب بالطعيمة** "على روحه السلام".

    ------------------------------------

    * حبوبتي زبيدة من قبل جاي (زوجة ود القرشي) ، حبوبتي أسماء من أبو دورس (زوجة عبد الرحمن حماد "العالم") و جدي الشيبة القلع البشير من ود بلول "على أرواحهم الطاهرة السلام".

    ** جدي الطعيمة رجل نير ونبيل وأصيل وشهم وكريم الخصال دارت حوله إشاعات السحر أكثر من غيره في مجتمع تكافلي أصيل وشديد الرباط لكنه خرافي يعشق الخرافة!!. التحية والسلام على روح جدي الطعيمة.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال
                  

04-08-2014, 08:15 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "6"

    مشروع تجاري

    الخرطوم؟. تبعد الخرطوم العاصمة عن بلدتنا حوالي ثلاثين كيلومتراً ناحية الشمال. لم أر الخرطوم بعد. كنت أعرف أن هناك شيء ما عجيب إسمه "الخرطوم" وأسمع حكايات وأخباراً كثيرة عن الأضواء والسيارات المرصوصة والناس أشكال وألوان والعمارات والهلال والمريخ والحلاوات "شكلاتة كتيرة منوعة وملونة" والباسطات و حديقة الحيوانات فيها إسود وأفيال ووحيد القرن ومنتزه المقرن العائلي "ألعاب تطير في الجو". هناك جنة!. لكن لا سبيل لها، ليست بالمستطاع، أنا صغير، لا أستطيع، فقط خيالي كبير. لكن إزاء ذاك السحر الذي لا يقاوم لا بد من صناعة الأعذار. لا بد من طريقة لإقتحام العاصمة بجيش من الخدع الصغيرة والتكتيكات المثيرة.

    عبر المصادفة وحدها ألتقيت أحدهم (يكبرني قليلاً) من قرية السليمانية شرق كان مع والدته في زيارة نادرة إلى قريبهم الشيخ إبراهيم في بلدتنا. حكى ذاك الشاب عن بطولاته في الخرطوم وأكثرها إبهاراً إنه يعمل كبائع ليمون برفقة شقيقه الأكبر في الخرطوم. واااو. كنت أسمعه يحكي وأنا كلي آذان وإنبهار وحسد. حدثنا عن خبراته ومهاراته في بيع الليمون "أكوم ليك كدا الليمون خمسة خمسة وأكورك الكوم بقرشين، قرشين بس، قرشين). كان عملاً بطولياً بالنسبة لي. عمل أكبر من مقدراتي، أو هكذا ظننت لوهلة. غير أنني عندما رجعت للبيت إستفتيت حبوبة بكل براءة في إمكانية "بيع الليمون". لأول مرة أسمع كلمة "سجمي وسجم خشم أمك" من حبوبة. أصيبت حبوبة بالرعب من مجرد الفكرة ليس لأن فقط لا حوجة أن أصبح بائع ليمون لكن لأن شوارع الخرطوم خطرة جداً على طفل في عمري كما دروشتي. القصة من الأساس مرعبة (غريبة وعجيبة) في نظر حبوبة وفق إحساسها الحق!.

    غير أن الفكرة باهرة عندي بطريقة لا تقاوم وكان لا بد من إيجاد وسيلة سرية لتنفيذها. المشروع يحتاج إلى تمويل، تلك كانت القضية. التمويل أمر صعب في ظل تعنت البنك المركزي وهو حبوبتي طبعاً كونها المتصرف الأساسي في الميزانية التي تتلقاها من أبي عبر أمي في سبيل رفاهيتي. كانت حبوبتي تلف القروش في مكان خفي لا يعلمه الجن الأحمر وهو كفنها القابع في الأدراج السفلى من الدولاب. حبوبة مؤمنة صلدة على الفطرة وكانت تجهز كفنها بنفسها قبل موتها بأكثر من عشرين عاماً في تلك الفترة رحل قبلها شقيقها الأخير الهادي حماد كما جدي الطاهر "أبو أخونا وصديقنا محمد أحمد الطاهر مردس" وآخرون ..على أرواحهم السلام.. وكانت حبوبة في كل مرة تهدي كفنها كما ينبغي لمن يتقدم قبلها إلى الأعالي من أهلها ثم تشتري كفناً جديداً وهكذا دواليك حتى تحققت أمنيتها في اللحاق بأهلها الأوائل متكفنة بآخر أكفانها. كنت وحدي أعرف مكان الكفن ومكان القروش. فقمت في ثلاث مرات بأخذ ثلاث جنيهات كاملات في كل مرة وتيممت وجه الخرطوم بعد أن جمعت المعلومات اللازمة حول المسائل الفنية واللوجستية المؤدية إلى ذاك العالم الساحر المدهش.

    ثلاثة أيام وأنا أذهب إلى الخرطوم وحدي وفي سرية تامة أبيع الليمون وفق الفهم الذي حدثني به معلمي الأول "ود السليمانية". كنت أخسر في كل مرة من المرات جميع رأس المال "ثلاث جنيهات" في كل مرة من المرات الثلاثة. السعر ثابت دائماً "قرشين" وفق ما سمعته من المعلم الأول. إذ أنني أشتري الليمون بجنيهين وأبيعه بخمسين قرش وبقية الجنيه كما الخمسين قرش أتمنجه بها منقة وشوكلاتة وباسطة وكنافة ومكسرات (كنت انحشر تحت كراسي البص لان لو في زول من أهلي وكل الناس أهلي كشف وجودي في البص ح ينزلني). في اليوم الرابع جاتني حمى وإسهال بسبب الإسراف الشديد في الحلويات والمنقة.
    غير أن ذاك لم يكن سبباً كافياً لردعي عن مهنتي الجديدة كتاجر ليمون لا يشق له غبار ، بل تم القبض علي متلبساً وأنا أفض القروش من كفن حبوبة، فجاءت وفود تتقاطر وقوات ردع سريع لا حصر لها "أبوي وأمي وأعمامي وأخوالي" يهددون ويتوعدون أن تكرر مني مثل ذاك الأمر الخطير مرة واحدة سيرجعونني إلى "الجزيرة، حيث أكون وحدي وسط الشجر والبحر والطيور" جزاءاً وفاقا. فأرتدعت خوفاً إلى حين من الدهر!.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال

    ---
    الأصل

                  

04-08-2014, 08:18 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "7"

    موقع أثري فريد في جزيرة أم أرضة.. أتمنى أن لا تكون عبثت به الأقدار!

    هناك موقع أثري يستحق الإعتبار في جزيرة أم أرضة هو القرية النموذجية التي بناها حسب الرسول عبد العزيز في ثلاثينات القرن الماضي.

    حسب الرسول عبد العزيز؟. هو ولد العازة بنت الطريفي ولد في حدود العام 1880
    بود أبو دروس (حلتنا) وفي ذات أرضية البيت الذي عاشت به حبوبة، وآخرون جئنا نحن من خلفهم، ورحل في الستينات من القرن الماضي. عاش حسب الرسول جل حياته في أم درمان. كان رجلاً ثرياً وله علاقات واسعة وبالضرورة مع الحكام و الإداريين الإنجليز والرأسمالية الوطنية كما الحكام والناشطين الوطنيين لاحقاً. في حدود العام 1935 بدأ إنشاء مشروع أم أرضة الزراعي (في جزيرة أم أرضة) وأقام قرية صغيرة نموذجية غاية في جمال النسق المعماري من الحجارة والقرميد في الناحية الشمالية من الجزيرة خلف قرية ود مختار مباشرة. ضمت القرية في البدء موظفي وعمال المشروع وعائلاتهم كما بنى له قصراً فسيحاً في مقدمة القرية واستراحة خاصة بضيوفه من صفوة المجتمع وكان من القلائل الأوائل الذين اقتنوا سيارة خاصة في حدود العام 1927 ما تزال تلك السيارة المعنية تقبع أمام القصر الأثري بجزيرة أم أرضة كيلومترين شمال خزان جبل أولياء ناحية الشمال في محاذاة النيل. انتهى المشروع بداية سبعينات القرن الماضي. (هل رأى أو أهتم احدكم بهذا؟. ربما، فقط ربما لا أدري!).

    على كل حال: أطالب الأهل والمهتمين بإعلان قرية حسب الرسول بجزيرة أم أرضة كموقع اثري وتعيين خفير خاص به وحماية الأثار الموجودة بالمكان بما في ذلك السيارة وبقايا القصر وبيوت القرية كما بقايا وابور المشروع. هذا الاثر هو ليس ملك أبناء وبنات المنطقة وحدهم بما ساهم أجدادهم وجداتهم في صنعه بل جميع الناس فالمواد والأدوات الموجودة هناك ذات قيمة آركولوجية وتاريخية وسياحية "كذلك سياسية تاريخية!" ولها خصوصية هامة ربما عنت الأجيال المقبلة بأكثر مما تعنينا الآن "هو حقهم" الذي وجب الحفاظ عليه. ولا يهم إن كان الأثر موجباً أو سالباً في الأنظار الآنية المتباينة تلك أحكام قيمية قابلة للأخذ والرد. فالأثر التاريخي أكبر من الآني. ولو لا حكمة التاريخ لما شهدنا "ابو الهول" يقبع في مكانه حتى اليوم يحدثنا عن لحظات من التاريخ السحيق لا نستطيع لمسها مادياً إلا حين نراه ونلمسه.

    خلاصة: لا أعلن من جانب واحد "قرية جزيرة أم أرضة النموذجية" موقعاً أثرياً يستحق الرعاية بجانب المواقع الأثرية الأخرى بل أستشيركم وأستفتيكم في الامر كما بالطبع أرجو دعمكم وتأييدكم للفكرة التي تعني عندي الكثير. ولأنني أعلم أن ليس كل الناس يعلمون كون الموقع المعني في مكان خفي ومغمور فإني أخاطب أهل المنطقة ومن يعلمون ويهتمون وبالذات من لهم مثلي ذاكرة حية وذاكرة حياة بذاك المكان الأثري البديع. أذكر أنني كنت جل طفولتي الباكرة أنهض في الصباحات الباكرة اركب السيارة الأثرية بينما أنا على ثقة أنها لا بد أن "تدور" تسير. لم أعرف بعد أنها أثرية ولم يكن لدي علم أن السيارات لا تتحرك إلا بالبترول. في الحقيقة لقد سارت السيارة مرات عديدة بوقود خيالي وذهبت بي إلى عوالم بعيدة عديدة ساحرة وانقلبت مرة فجرحت في إحدى أصابع يدى اليمنى، كان خيالاً وحلماً، هو على علاته أجمل ما تخيلت وحلمت كل العمر!.

    --
    سأحدثكم لاحقاً "لطفاً" وبالتفصيل عن سكان القرية النموذجية المعنية قبل وبعد نهاية المشروع "انتهى بموت صاحبه" ومن ضمنه موظفي وعمال المشروع ومنهم "سعيد" صاحب الجنينة والد طاهر في ديم البساطاب "أصله من حلفا" وقد كان المهندس الميكانيكي لوابور المشروع و عبد الله مصطفى "المدير الإداري" للمشروع من ود أبو دروس وود اللقا من ود النقيدة وعبد الرحمن من ود مختار "من أكبر المدراء التنفيذين للمشروع (على أرواحهم جميعاً السلام).

    ---
    سآتي المرة القادمة بحقائق ومعلومات أكثر دقة، هذه اللحظة أتحدث فقط من الذاكرة. (الرواية الوحيدة التي استطعت إنجازها حتى الآن صدرت قبل عدة أشهر من دار أوراق في مصر، درات أحداثها في هذا المكان "جزيرة أم أرضة" كما أمستردام وعدة مدن أوروبية أخرى وفق الأقدار التي ساقتني إلى هنا "الغرب").
    --
    نداء أخير: ارسلو أي معلومة خاصة بالأمر في الخاص "هنا في الفيسبوك" .. وفي كل الأحوال مرحباً بكم وبالجميع هنا وفي كل الأمكنة.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال
                  

04-08-2014, 08:20 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.. حلقة "8"

    جزيرة أم أرضة!

    رواية حرب الأنهار أو "أنا و سيلفيا الهولندية"؟. هي عملي الروائي الأول صدر من دار أوراق بالقاهرة ثم نسخة إليكترونية منقحة (طبعة ثانية) توجد على صفحة خاصة بالإنترنت (الرابط نهاية هذا السرد).. هنا المشهد الخامس من العمل "أدناه" (جزيرة أم أرضة) أعيد نشره هنا على أثر سلسلة الحلقات التلقائية والإرتجالية التي أعكف على كتابتها هذه الأيام وأنشرها هنا "فقط" على صفحتي بالفيسبوك حول "ذاكرتي مع حبوبة آمنة حماد". هذه المادة المجتزأة من العمل الروائي ربما ساعدتني في نصب بعض الصور التذكارية على قارعة الخيالات النضيدة.. كون الحلقات المقبلة مع آمنة حماد تجري أحداثها في عين ذاك المكان المبارك!.

    المشهد المعني:

    مشهد ""5"

    أنا وسونيا وعافية ومستر خيرد!

    1-7

    بينما كنت شارد الذهن أحدق ناحية مجرى النهر باغتتني السيدة سونيا!
    سونيا امرأة لطيفة في السبعين من العمر متزوجة من مستر خيرد ريف ويعيشان "أربعين عاما" معا في بيتهما الوادع في مدينة آرنهيم على الضفة الأخرى من نهر الراين تماما في مقابل شقتي وشريكة حياتي سيلفيا، إذ يستطيع الواحد منا أن يرى الآخر من البلكونة وعبر النوافذ، فعرض النهر من تلك الناحية لا يتعدى ثلاثمائة متر فقط. منذ عشر سنوات بقيا (سونيا وخيرد) لوحدهما تماما بعد انفضاض بنتيهما عنهما كما ولدهما الوحيد، فذهب كل واحد منهم في شأنه، ولو أنهم يزورون والديهم في المناسبات المختلفة وكلما سنحت الفرص وهي ضئيلة. وتلك حالة طبيعية في هولندا تمثل دورة من دورات حياة جميع الناس تقريبآ. في مثل تلك الأحوال كثيرا ما يشعر الإنسان بالوحدة والوحشة لكنه غالبا يفعل ما بوسعه في تبرئة مشاعره الإنسانية القلقة من ضمن ذلك محاولة التواصل والتحدث مع الآخرين كلما سنحت الفرص. ذاك بالضبط ما تفعله سونيا أصالة عن نفسها ونيابة عن شريك حياتها الأزلي "مستر خيرد" والذي لم تهبه الطبيعة أي ذكاء اجتماعي يؤهله إلى المبادرة بالتواصل مع البشر الآخرين على النقيض من شريكته "سونيا".

    بعد عودتنا أنا وسيلفيا مباشرة من رحلة عمل في مدينة هانوفر الألمانية كنت لبعض الوقت على غير وفاق مع سلفيا "متشاكلين" فترجلت عند إحدى الأصائل إلى الضفة الأخرى من النهر عبر كوبري نيلسون مانديلا المحاذي لمنزلنا. جلست بتلقائية على أريكة خشبية مقامة على ضفة النهر، وشرعت أتأمل الموج الأزرق الرقيق أحاول استعادة توازني النفسي، بينما أشعر بأن سيلفيا على لطفها ورقتها فهي امرأة شرسة ولا تطاق. وخطر لي للحظة أن تلك الوشائج القوية التي أشعرها تربطني وسلفيا ما هي إلا وهم! وظللت أحادث نفسي متأرجحاً بين التفاؤل والتشاؤم أو بالأحرى كل شيء كان مشوشاً ومرتبكاً في خاطري ولا أستطيع تحديد هوية مشاعري في تلك اللحظة بالدقة التي تمنيتها ولا أعرف ماذا أفعل!
    في ذاك الأثناء انتبهت بغتة على صوت امرأة عجوز لا أعرفها من قبل تقف أمامي تحييني وتعرفني على اسمها وتكرر ذاك عدة مرات حتى استيقظت من نوبة غيابي تلك فرددت التحية بمثلها وقلت باسمي في بعض دهشة معرفا نفسي بضيفي الذي فرض ذاته على خلوتي بلا مقدمات. إنها السيدة "سونيا"!
    أصبت لوهلة بالضجر من إقحام تلك المرأة العجيبة نفسها على خلوتي المتعمدة. لكن سونيا لم تيأس أبدا مني وظلت تتحدث إليّ دون أن تعير تذمري الصامت أي عناية وأنا أعلن لها شرودي متذرعا بتأملي لانسياب النهر من أمامنا.
    لكنني فجأة انتبهت على جملة نوعية من حديث سونيا الكثير الذي لم أسمع منه إلا القليل، حين قالت: "أنا واثقة أنك ستحب آفيا "عافية" وهي ستحبك". ورددت مرتين: "أنا واثقة أنها ستحبك وأنت ستحبها"! وواصلت وأنا كلي انتباه هذه المرة: "إنها لطيفة وجميلة ولونها مثل لونك تماما، بني، نحن كلنا نحبها". وشرحت لي أن "آفيا" كاسم في أصله الهولندي يعني "كائن ساحر خرافي" غير أنني سمعتها "عافية" اسم البنات السوداني الشهير... لم أكن حينها لأهتم أو أفكر كثيرا!

    عندها ضحكت بشهية وأجبت تلك المرأة بالنفي أنني لن أحبها أبدا "عافية" لأنني مرتبط فعندي شريكة حياة اسمها "سيلفيا" وظللت لوهلة أتكلم دون أن أتيح لسونيا أي فرصة للحديث وأشرت بيدي اليمنى إلى جهة بيتنا في الضفة الأخرى من النهر... وآنئذ أصبت بموجة شوق عارمة موصولة برزمة حزن شفيف إلى حيث تكون حبيبتي "سيلفيا"... وشعرت بشيء فظ يكلل دواخلي وكأنه الخيانة لكنه ليس بخيانة وكأنه العار ولكنه ليس بعار!..

    فاستأذنت ضيفتي بشكل مباغت في الرحيل... وعندما هممت بالنهوض فإذ بصوت رجل في لباس النوم المعتاد يلوح لي بيده محيياً وموادداً من أعلى بلكونة تقع من فوقنا مباشرة فقط بعدة أمتار. إنه مستر خيرد شريك سونيا. وعندها شرعت سونيا بتلقائية مدهشة تشرح للسيد أشياءً غريبة عني وكأنها وجدت لقية ثمينة "هاملة" في شكل سمكة صغيرة برونزية اللون داكنة لفظها النهر للتو على شاطئه الرملي على حين غفلة من سرمديته... فأشار السيد بيده في جدية يقول: "لحظة، انتظرني!"... ثم هرع إلى الأرض يحييني مجدداً وبشهية ويرجوني بإلحاح شديد الدخول معهما، إلى بيتهما، وهو ممسكا يدي اليسرى بقوة وكأنني سأهرب منه... ففعلت!

    2-7
    كنت مصاباً بالمصران العصبي لوقت طويل، امتد منذ الطفولة وحتى مراحل متقدمة من حياتي ثم هدأ ولكنه ظل يعاودني من حين إلى آخر، دون أن يتم تشخيصه أو معرفته إلا في زمان متأخر من حياتي.
    ولكن لأمي على الدوام رأيا آخر: كانت تعتبرني مسحورا، مصابا بالعين، وليس المصران العصبي. وكانت كثيرا ما تقول بأناس محددين تتلبسهم التهمة من أهمهم امرأة خالي "المسكينة" التي تسكن بالجوار.

    ثبت أن إحساس أمي لا يخلو من الحكمة! إذ إن هناك أمرا آخر لا يقل تعباً وغموضاً وتعقيداً عن المصران العصبي. تعرفت عليه فقط عندما جئت إلى هولندا موطني الحالي وتحديداً في اللحظة التي التقيت عندها سونيا ومستر خيرد والقطة عافية. عافية أحبتني بشدة بالضبط كما توقعت سونيا وقفزت إلى حجري أول ما دخلت بيت أصدقائي الجدد.
    3-7
    أصبحت أتردد على منزل "سونيا/خيرد" لعدة أسابيع وكنت محل احتفائهم العظيم وجعلوا مني حدثا من أحداث حياتهم اليومية. وأصبحت سيلفيا بدورها صديقة لأسرة سونيا وكنا كثيرا ما نجتمع في الأمسيات حول مائدة الطعام في ود وحميمية. ولاحظت سيلفيا شيئا ما، أسعدها وشجعها أكثر وذاك أن لغتي الهولندية بدأت تتحسن كوني أجدني مضطرا للحديث مع سونيا وخيرد باللغة الهولندية كونهما لا يجيدان التحدث بالإنجليزية بينما أتحدث كل الوقت مع سيلفيا بالإنجليزية والسر في ذاك أنني أعتبر سيلفيا شريكة حياتي لا أستاذتي وعندما أتحدث معها الهولندية نصبح غير متساويين في المقدرة على التعبير عن رؤانا ومشاعرنا فسيلفيا بالضرورة تتفوق عليّ في التعبير عن أشيائها إذا ما بدأنا الحديث بالهولندية كون تلك لغتها الأم بينما أصاب أنا بكثير من العجز وأشعر بالبؤس وحلا لتلك المعضلة فقد قررنا أن تكون لغة التخاطب الرسمية بيننا في بيتنا هي اللغة الإنجليزية أو هو ذاك الشرط الذي فرضته عليّ سيلفيا في الشهور الأولى من عيشنا المشترك فرضخت له. وهو أمر لا يخلو من بعض الواقعية وربما الحكمة.
    !
    كان كل شيء يبدو جميلاً وجميعنا سعداء "أنا وسيلفيا وسونيا وخيرد" وبدأنا نمثل أسرة كبيرة سعيدة، شكلها القدر بلا مقدمات وبلا مقاصد موعية. ولا ننسى أن هناك فردا هاما جداً من أفراد الأسرة هو القطة "عافية" فهي لا تقل أهمية لدى سونيا عن أي واحد منا وتعتبرها مثل بنتها الصغيرة تماما وتكن لها من الحب والعطف والحنان قدراً لا يمكن وصفه. وكانت عافية بدورها سعيدة وأصبحت لصيقة بي كوني أدللها وأحك لها ظهرها وألعب معها كلما سنحت الفرص. كنا سعداء بحق.

    غير أن هناك أمرا بدأ يقلق الجميع وهو "أنا"! أصبحت كلما أدخل منزل سونيا وخيرد أصاب بلوثة غريبة دون أن أتعرف على أسبابها لبعض الوقت. شعرتها منذ الأيام الأولى لكنها بدأت تتطور بشكل أكثر عنفا ووضوحا. أنفي تحتقن وتسيل وعيناي تدمعان وأشعر بحكة فيهما وكل جسمي يتحول إلى أكزيما وشرى. وفي حالات اليأس الكبرى أشعر بأنني أود أن أجرى وأصيح في الشوارع كالمجنون.
    حاولت جهدي في البداية أن ألتزم بأقصى درجات الصبر كما الإتيكيت لكنه مستحيل. الأمر مستحيل. أنا مريض. ذهبنا أنا وسيلفيا إلى الطبيب المنزلي الخاص فشخص الحالة على أنها إنفلونزا. غير أن وصفته العلاجيه لم تجدِ. وفي النهاية توصلت سيلفيا من تلقاء نفسها إلى نتيجة مفادها أنني ربما عندي حساسية من نوع من أنواع الزهور التي يعج بها منزل سونيا وخيرد من واقع تجارب ذاتية سابقة لها إذ كثيراً ما تصاب بحساسية في العيون جراء تعرضها لمواد طبيعية أو صناعية محددة. فقررنا أن نحجب أنفسنا قليلا عن زيارتهم في منزلهم ونرى النتيجة. ففعلنا. ولم أصب بتلك الحالة من جديد! حتى جاء يوم من الأيام فقررا سونيا وخيرد الذهاب في نزهة صيفية لمدة أسبوع إلى منتجع يقع جنوب هولندا فجاءا لنا بعافية صديقتي إلى منزلنا على أمل أن نقوم "أنا وسيلفيا" برعايتها في أيام غيابهما.. ففعلنا.

    في تلك الأثناء عاودني المرض من جديد وبشكل أعنف وأشد ووصل مرحلة تشبه الربو الحاد. عندها تأكد لسيلفيا أن الأمر ليس زهورا ولا إنفلونزا وإنما ربما أنا أعاني من حساسية مفرطة من القطط. وتم لقاء الطبيب الأخصائي فقام بزراعة الدم معمليا وثبت الأمر الذي قالت به سيلفيا أن لدي حساسية نسبتها مائة بالمائة من القطط والكلاب و"أشياء أخرى". وكنت أعاني من مثل تلك المشاكل والأعراض منذ الطفولة كون أسرتي على الدوام تملك عددا من القطط والكلاب وأشياء أخرى، لكن لا أحد استطاع أبدا معرفة الحقيقة قبل أن تفعلا سيلفيا وعافية. وربما كان السبب أن عندنا في أم أرضة المساحات مفتوحة على الفضاء دون كثير جدران والحياة في هولندا معظم الوقت تكون بين جدران مغلقة مما يجعل المواد المثيرة للحساسية أكثر فاعلية.!

    4-7
    جزيرة أم أرضة تقابلها جزيرة أخرى صغيرة موسمية "رفيدة" من ناحية الغرب. مسافة من الفضاء المفتوح على الأفق. مسافة عذراء في خضرتها وهدوئها المهيب. أم أرضة على وجه العموم هي الأرض الواقعة شمال شرق جبل أولياء جنوبي الخرطوم بمحاذاة الضفة الشرقية للنيل. وأخذت الجزيرة اسمها "أم أرضة" رسميا في العهد الإنجليزي بحسب روايات غير مؤكدة..
    رفيدة جزيرة موسمية شبه ميتة منذ زمن طويل، فقط تغطي سطحها الطحالب الخضراء وتستطيع أن تتبين المشهد بمنتهى الوضوح وأنت تقف منتصف خزان جبل أولياء وتنظر ناحية الشمال حوالي ثلاثة كيلومترات وعيناك على مجرى النهر.
    جزيرة "أم أرضة" هي الأكثر أهمية كونها جزيرة دائمة وغنية وتعج بالحياة المائية والبرية ويتم إحياء عدة مشاريع زراعية مروية فوق أرضها من وقت إلى آخر وأول مشروع زراعي كبير حدث كان في أربعينيات القرن الماضي وهو مشروع "حسب الرسول صاحب الوابور" انتهى ذاك المشروع الزراعي الأول من نوعه في أوائل السبعينيات فأصبح أثراً بعد عين وتتالت المحاولات بشكل مستمر، فاشلة/ ناجحة. غير أن هناك أسرة صغيرة ظلت على الدوام وفي كل الأحوال والظروف تقيم على أرض جزيرة أم أرضة كل الوقت وعندها على الدوام زراعتها الخاصة مستقلة بذاتها على مر الزمان هي: "أسرتي الصغيرة".

    في تلك الجزيرة "أم أرضة" قدرت الأقدار وما شاء الله فعل أن أولد وأعيش هناك كل أيام طفولتي معي أمي وأبي وحدنا (أشقائي الكبار بالمدرسة في القرية البعيدة والصغار لم يولدوا بعد) كما عشت هناك كل مراحل صباي وحتى المرحلة الثانوية العليا. لا يوجد كائن غيرنا جل الوقت ولمسافة عدة كيلومترات. لا أحد غيرنا.
    لكن في الحقيقة نحن لسنا وحدنا، هناك أمم من المخلوقات، أمم لا حصر لها من الكائنات الحية، لكن ليس من ضمنهم البشر. أمم من النمل والحشرات الملونة والطيور "الوز، القطا، القمري، البلوم، الزرزور، القدالي، البوم، الرهو، أم قيرادون، السقد، وأبو سعن والأرانب البرية والسناجب والفئران والثعالب والثعابين والعقارب، وأمم أخرى مختلفة لكنها لا تقل صخبا: الأشجار "السنط، الطلح، السيال، الهجليج والحراز".
    وكان بيتنا يقع على مرمى حجر من شاطئ النهر "البحر" الذي بدوره يشتعل بالحياة من أسماك وثعابين مائية وضفادع وتماسيح وطحالب وعشب البحر وشرانق وأنواع عديدة من المحار. وهنال صخب الموج وهزيم الرياح وزلزلة الأرض الخصيبة من تحت أقدامنا.

    وذاك ليس كل شيء، هناك المزيد!: السماء والآفاق المفتوحة على صفاء النجوم الساطعة مرة، وسطوة القمر مرة أخرى حينما تتوارى الشمس الفتية عن الأنظار مخلفة من ورائها عند لحظات وداعها الأخيرة حسرة على الوجود في مشهد قانٍ يكلل السماء من جهة الغرب، كان أبي يسميه "الشفق" ويصلي من بعده صلاة المغرب وينام "ننام جميعنا" ووجوهنا قبالة المجرات التي تكاد تزهق الأبصار.
    ولم أكن أنا أشعر بشيء غير أنني جزء لا يتجزأ من تلك الوقائع اليومية والعادية "الطبيعة " إذ إنني ككل الأطفال في مراحل العمر الأولى لا أفرز ذاتي من المحيط (لا وعي موضوعي) حتى إذا ما جاء وقت وقرصتني "نملة" قرصة مؤلمة على حين غفلة في شفتي السفلى بدأت أتعلم أن كل تلك الأشياء ربما كانت ليست أنا! ثم بعد حين لدغتني عقرب فكانت بالطبع أشد ألما، مع أن عقرب النيل ليست مفرطة السم "ليست قاتلة" لكن بالطبع أصابتني بألم ممض لا أنساه طوال حياتي. وقليلا وتعلمت أنني أنا هو أنا، أنا لست تلك الأشياء من حولي! كان اكتشافا مباغتا وخطرا وممتعا: "أنا"!

    أنا في مواجهة الآخر والطبيعة، فأصبحت عدواً بشعاً وماكراً للحشرات الصغيرة أقتلها كل ما حانت الفرص وللأشجار الصغيرة الغضة أقتلعها من الجذور وأصبحت من الناحية الأخرى ممتلئاً بالخوف والذعر من عدد من الكائنات التي أتصورها مؤذية وقاتلة بما في ذلك كائنات خرافية مثل ود أم بعلو والغول والسحار، كائنات لا قبل لي بها غير أنني ألوذ بأبي وأمي وبعد حين من الدهر تعلمت أن هناك قوة أخرى يستطيع المرء اللجوء إليها عند الخوف والمحنة، هي: "الله".
    كان بيتنا الصغير المفرد يقع بالضبط في قلب كل تلك الفوضى الحقيقية والمتخيلة وبدا كمحمية طبيعية "اصطناعية" لمخلوقات نادرة على شفير الانقراض هي: أنا وأمي وأبي.
    وهناك قبر الرجل الغريب الميت الذي يسكن تحت الأرض عدة أمتار من دارنا وهو بدوره حدث من أحداث طفولتي وصباي وكثيرا ما نظرت له كأحد أفراد الأسرة كونه الكائن الوحيد "البشر" الذي يسكن بالقرب منا رغم موته الذي لم يمنعه من أن يشرب معنا الشاي باللبن! إنه الرجل الغريب الذي جاء بجثته تيار النهر في يوم من الأيام إلى شاطئ دارنا فحمله أبي إلى البيت ففعل به الشعائر المقدسة كلها ودفنه هناك وفق شريعته دون أن يعرف له أحد شريعة "الرجل الغريب الميت".

    تلك المحمية الطبيعية محروسة بعدد من الكلاب الوفية ذات الدربة العالية والقطط الوديعة. مهمة القطط الأساسية هي حماية الدار من الفئران والعقارب والثعابين. وأما الكلاب فليس من مهامها الحتمية حماية البيت من اللصوص، لا، هذا وهم! لا يوجد لصوص. أو بالأحرى لا يوجد لصوص يسرقون منا. كل لصوص المنطقة المجاورة أقربائنا في الدم من الدرجة الأولى. فهم بالطبع لا يسرقون منا. وكثير ما يشربون معنا الشاي باللن عندما تصادف أن مروا بالطريق ويقومون من بعدها إلى أداء أعمالهم في الآفاق البعيدة.

    فمهمة الكلاب هي حماية الحيوانات الأليفة التي تعج بها ساحات دارنا من البعشوم كما أنها تشتغل كإنذار مبكر بالنسبة لأمي عندما يحدث أن يكون في مرة من المرات النادرة هناك ضيف قادم من البعيد فتقوم أمي إلى لبس ثوبها باستعجال، فهي تعرف وتميز صوت الكلاب عند كل مقام بل وتستطيع أن تتعرف على عدد الضيوف القادمين من البعيد قبل أن تنظر إلى الآفاق.
    وعندما يأتي إلى دارنا ضيف ما، يكون حدثا جليلا بالنسبة لي، فغالبا ما يصبح الضيف أحد أهم ألعابي وحتى ينقذ نفسه بالرحيل. وعندما يرحل أرجع من جديد لألعابي التقليدية المبتكرة: أربط "أبو الدنان" في خيط وأدور به في فضاء الدار المفتوحة على الآفاق حتى إذا ما خارت قوته أجلس به على الأرض فأقص جناحيه لأجرب إن كان يستطيع أن يطير بغير جناحين أم لا، فلا يفعل، فأقص رأسه لأجرب إن كان سيموت أم لا، فيموت، وهكذا دواليك.

    وألعب بالتراب والطين. أصنع طائرات وأحلق معها بخيالي في الفضاء متنقلا في خاطري بين بلدان لا أعرف لها أسماءً ولا أشكالا.
    صنعت مرة جيشين عسكريين من الطين ووضعتهما في صفين متقابلين وأدخلتهما في جولة ساخنة من القتال "الحرب" فماتوا جميعا "قتلتهم" فشعرت بزهو غريب وكأنني أحي وأميت! الحرب؟! لا أدري كيف ومن أين جاءتني تلك الفكرة اللعينة!
    يبدو أنني لا بد أن أكون أصيلا ومبتكرا في ألعابي إذ إنني ألعب وحدي لا أحد معي وأصنع ألعابي بنفسي لا أحد يساعدني. غير أن أهم لعبة كنت أفعلها وهي أرخص ألعابي على الإطلاق وأكثرها وفرة، هي اللعب مع "الكلاب والقطط".

    5-7
    منذ السنة الثانية من عمري أصبح عندي فراش نومي الخاص اسمه "الع(.........)يب" تصغير عنقريب صنعه لي أبي بنفسه وكان طوله وعرضه يناسباني تماما. وقيل أنني طالبت بنفسي أن يكون لي فراش نومي المستقل أسوة بأبي. غير أنني عندما بلغت الثالثة من العمر حدث أمر مختلف!
    أصبحت لبعض الوقت لا أستطيع النوم وحدي على فراشي "أخاف" لا بد أن أنام بجانب أبي أو أمي. والسبب أنني سمعت مرة أمي تحكي عن "البعاتي" وروت عن جدتها قصة خرافية. ذاك أن أحد الناس في أزمان غابرة قام من الموت وأصبح يأكل الأطفال الصغار بالمعنى الحرفي للكلمة. ومذ تلك اللحظة بدأ يتهيأ لي أنني رأيت الرجل الغريب الميت يخرج من قبره ويتجه ناحيتي وأقسمت لأبي أنني رأيته عدة مرات وأن أبي ذاته قدم له مرة الشاي باللبن فشرب الرجل كأسه وذهب إلى قبره فنام ولم يأكلني تلك الليلة!.

    وعندما علم أبي أن أمي روت في حضوري تلك القصة المرعبة عن قيامة الموتى في هيئة بعاعيت يأكلون الأطفال الصغار أنّبها بشدة على ما فعلت وأخبرني بالحقيقة التي يؤمن بها أن الموتى لا يقومون من قبورهم أبدا إلا يوم القيامة ووصف لي أمي بالجاهلة والأمية وكررها عدة مرات وشرح لي بدقة كيف أن أمي لا تعلم شيء! فقنعت بالروايتين أن الموتى لا يقومون من نومهم وأن أمي جاهلة ولا تعلم أي شيء. وأن أبي وحده هو الذي يعلم كل شيء وعليّ أن أسمع كلامه هو وحده لا أحد غيره وأخذ معي الأمر كثيرا من الوقت لأعدل عن فهمي ذاك وأصل إلى نتيجة مفادها أن " أمي ليست بالضرورة جاهلة". ومذ قول أبي ذاك بجهل أمي كانت العلاقة على الدوام بيني وبين أمي يشوبها سوء التفاهم وكنت أشك في كل أقوالها وأفعالها ولا أنفذ أوامرها أو طلباتها إلا مكرهاً أو مضطراً وحتى بلغت بعض الرشد فتعلمت معاني للحياة جديدة.
    ولو أنني أظن الآن، أن تلك الحدة التي قابل بها أبي رواية أمي الخرافية يبدو أنها ضرورية في سياقها إذ أتت أكلها في الحال وأصبحت بعد عدة أيام أنام في فراشي لوحدي كالعادة وحتى اليوم دون خشية من البعاتي.

    حاولت أمي الدفاع عن نفسها بأنها ليست السبب بالضرورة في موجة الرعب التي تملكتني تلك الأيام، مذكرة أبي بنوبات غريبة ومفاجئة من الرعب غير المسبب تحدث لي في السابق فأهرع إليها ممسكاً بيديها أرجوها أن تضمني إليها وجسدي كله يرتعد وأنفي تسيل وعيناي تدمعان بينما أحك "أهرش" جسمي كله بكلتا يديّ وذاك يحدث بين الفينة والأخرى وعلى الدوام قبل وبعد قصة البعاتي تلك الشهيرة. وكان تفسير أمي على الدوام أنني معيون "مسحور" وقد صدقت في أن أمري غريب كونها ذهبت بي للطبيب في السابق عدة مرات فوجد أنني صحيح الجسد مائة بالمائة وقد صدق.
    وكان أبي يقرأ على رأسي التعاويذ دون أن يكترث كثيرا بفحوى الأمر وكان إحساسه صادقاً في أن لا شيئاً خطيرا. وتذهب بي أمي إلى الشيوخ فيخبرونها أحيانًاً بأن ابنها غير طبيعي وقد صدقوا! .

    ورغم كل ذاك فقد كانت أمي ذكية ما فيه الكفاية لتكشف بنفسها أنه ربما كان لي مشكلة مع القطط "الكدايس" التي تشاركنا الدار، من جراء حسها السليم، ففسرت الأمر على طريقتها الأسطورية أن ربما كان في القطط شيطان، فقررت في لحظة بعينها الخلاص من جميع القطط بمنزلنا. لكن دون أن تستطيع أن تفهم أنني مصاب بحساسية ضد الحيوانات (فقط الكلاب والقطط لا غيرهما من الحيوانات). ذاك أمر غير مستطاع في أوانه. لا بل الطبيب نفسه لم يستطع تشخيص الحالة بطريقة سليمة ولمدة عشرين عاما تالية حتى تصادف أن جئت إلى هولندا والتقيت سونيا وقطتها عافية. وحتى في تلك الحالة أخذ الأمر بعض الوقت كي ينجلي تماما وأتعرف على أسطورة جديدة من أساطير حياتي الصغيرة .

    6-7
    الرجل الغريب الميت

    وجد أبي مرة جثة رجل غريب طافية على شاطئ النيل قبالة منزلنا من ناحية اليسار. كانت الجثة واهنة ومتحللة وهناك ثقوب في البطن وفي الظهر والأفدح من ذلك أن الأنف والشفتين كانتا مفقودتين كلية بفعل ما يبدو وكأنه اعتداء أسماك أو كائنات نيلية صغيرة على جسد الغريق، مما جعل الناس الذين تدافعوا من القرى المجاورة إلى حيث الجنازة يتفحصون جسد الغريق بأعينهم المذعورة كثيرا خشية أن يكون أحدا منهم أو شخصا ما يعرفونه فلا يستطيعون الوثوق من شيء. تحلق الرجال بجلابيبهم البيضاء حول الجثة من كل ناحية وصوب ومن خلفهم النسوة يبكين الميت في ذعر بين دون أن يتأكدن من هويته وكان الأطفال يتسللون في تلقائية من بين المناكب المتدافعة إلى حيث مكان جثة الرجل الغريب الميت. كان مشهدا مهولا من الفوضى والرعب.

    لقد وصل الخبر في لمح البصر إلى كل مكان في البلدة وإلى البلدات المجاورة وربما أبعد من ذلك بكثير. كان الخبر يزحف ناحية الصعيد "الجنوب"، ناحية تيار الماء الذي جاء بالجثة إلى هنا. إلى حيث منزلنا بجزيرة أم أرضة. ظن كل الناس وجزموا أن الغريق قادم من الصعيد، إنه الاحتمال الذي يشبه وقائع الطبيعة ليس إلا! فليس من المستبعد أن يكون الغريق ذهب إلى الصعيد بمركب شراعية وعاد محمولا على تيار الماء ناحية أهله في السافل "الشمال" بعد أن تسببت كارثة ما في غرقه. ربما انتحر، قتل نفسه عمدا، لا أحد يستطيع أن يجزم بشيء ما أي كان! .

    قفل الناس راجعون من حيث أتوا في سرعة البرق يتفقدون ذويهم ويعلنون خبر الجثة التي جاء بها أبي إلى منزلنا ووضعها على طاولة خشبية كبيرة في صحن الدار بعد أن غطاها بعمامته البيضاء في انتظار ما تسفر عنه الأنباء.
    بعد يوم كامل من البحث في كل أرجاء القرى المجاورة تبين جليا أن الغريق ليس من هنا. ليس من البلدة ولا البلدات المجاورة. إنه رجل غريب. في حوالي الأربعين من عمره. الأمر الوحيد الذي استطاعه أبي هو تقدير عمر الغريق من تمام أسنانه وتناسقها وبياضها. كان من المستحيل تحديد أي هوية محتملة للرجل الغريب الميت. لا أحد يستطيع تخمين قبيلته أو عرقه كون أهم محددات الهوية العرقية مفقودة وهما الأنف والشفتين. كما أن لا أحدا يستطيع أن يتعرف على دين الرجل أو أخلاقه كون ذاك أمرا غير مستطاع.

    والأدهى من ذلك كله قيل أن أحد الرجال الموتورين شك في أن الرجل الميت ربما كان من رهط الأعداء القبليين، فقالها علانية في وقاحة تضاد أي وقار محتمل لمثل تلك اللحظات العصيبة " هذه السحنة من سحنات قاتلي أبناء عمومتنا في الصعيد". فانقسم القوم تجاه شكه يعلنون موافقتهم أو رفضهم بغير كلمات، فقط صدرت همهمات كثيرة متشابكة يصعب تحديد مصدرها أو معناها على وجه الدقة. ليس ذاك فحسب، لقد جالت برؤوس القوم الكثير من الخواطر "ربما كان كافرا أو نصرانياً، هناك شعائر مختلفة تجب في حقه"، "ربما كان مجرماً، لصاً أو قاتلاً محترفا" أو "ربما اتهمنا أهله بقتله وطلبوا الثأر". كانت الظنون والشكوك والهواجس تزحم المكان. ولكن بين الفينة والأخرى تتجلى مسافة زمنية صغيرة شاغرة تشع عندها حالة من الصمت الظاهري في لباس الخشوع، حالة هدوء يكذبها صخب الدواخل ولجاجة الضمائر. إنه هدوء مفروض قسراً بواسطة سلطان الموت الجبار.

    على أي حال كل تلك الظنون والتخمينات ليست عبطاً أو بلا معنى! فعلى أساسها سيتحدد عمليا "أين سيقبر الرجل الغريب الميت وكيف ومتى". المقابر مقسمة على أساس قبلي (عرقي) صارم وديني غير قابلين للجدل. لا توجد مقابر خاصة بالأغراب أو البشر الميتين غير محددي الهوية. تلك كانت أول حالة تواجه الناس في البلدة. دار جدال ساخن بين رجال البلد حول سؤال " مكان دفن جثة الرجل الغريب!".. كان جله جدلا عقيما وبلا جدوى:
    "أن يدفن جسد الرجل الغريب الميت مثله وأهل البلد فيغسل ويكفن وفق النظام المتبع في العادة، غير ممكن، أن ترجع الجثة إلى مكانها الذي أتت منه خلسة فيحملها تيار الماء إلى شأنها، غير متفق عليه، أن يتم إبلاغ السلطات الرسمية "الحكومية" ويترك لها حق التصرف في الجثة، غير محتمل، كون الحكومة لا تكترث بالأحياء فما بالك بالموتى".

    لقد عطب خيال القوم!

    أخيرا حسم أبي الأمر. كان رجلا حكيماً ويتمتع بخواص نادرة. أمر الجميع بالذهاب وترك الجثة له وحده "تلك هي لقيتي التي لقيت، أنا أتبنى هذا الرجل الغريب وأعتبره جزءاً لا يتجزأ من أهلي وأسرتي وليس له علاقة بكم ولا بمقابركم". فانفض القوم بعد بعض لأي جديد. وعند منتصف تلك الليلة وعلى ضوء القمر الخافت الحزين كفن أبي الجثة وصلى عليها وحده سراً، فقط كانت هناك امرأة واحدة تبكي بغير دموع ولا صوت تقف بجانبه تعاونه في مهمته الحتمية، تلك المرأة هي أمي، ثم دفن أبي جثة الرجل الغريب في العراء بالقرب من بيتنا حوالي مائتي متر شرقي الدار وصنع فوق القبر كتلة من الجالوص وغرز يمين القبر ويساره عصا صغيرة من أعواد السنط. وظل أبي لسنوات عديدة لاحقة ومن حين إلى آخر يذهب إلى قبر الرجل الغريب الميت يقف أمامه يرفع يديه إلى السماء راجيا له الرحمة ومتمنيا لروحه السلام. كان يفعل ذلك بصورة دؤوبة حتى رحل بدوره إلى العالم الآخر.

    وظللنا أنا وأمي بدورنا نفعل مثله كلما تحين الفرص وربما حتى نرحل مثلما رحلا "الرجل الغريب الميت وأبي". كما شرع كثير من الناس الآخرين يجيئون إلى القبر بغرض التحية على روح الرجل الغريب الميت. يبدو أن الرجل الغريب الميت ظل يفرض نفسه على الواقع كلما مر الوقت. لقد قبله الآن كل الناس الذين رفضوه في البدء كأحدهم، ولو أسكنوه في قبره وحيداً في وحشته الأبدية، وكأنهم الآن يكفرون عن خطيئة ما! ثم رويداً رويداً أصبح "الرجل الغريب الميت" جزء ً لا يتجزأ من وقائع الطبيعة العادية واليومية كما جزءً أصيلاً من ألغازها العديدة.

    7-7
    في الزيارة الثانية إلى هانقلو مسقط رأس سيلفيا رويت أيضاً قصة شاطئ "الكتيب" الواقع نصف كيلومتر من وابور حسب الرسول من جزيرة أم أرضة فأغرمت فلورا الشقيقة الصغرى لسيلفيا أيما غرام بالقصص وكذا فعلت لارا صديقة سيلفيا المقربة.

    http://riverswar.com/

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال
                  

04-08-2014, 08:24 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.. حلقة "9"

    الفتاة ذات الشريط الأحمر .. أو البرجم!

    هل توجد حياة مثالية؟. هل يوجد مجتمع مثالي خال من العيوب والنواقص والمناغص؟. التجربة البشرية العامة تجيب ب:كلا. لا يوجد!. لأن لا أحد علم أو رأى جزيرة أم أرضة ذاك الزمان، كانت قطعة من الخيال صنعت خصيصاً لتحدي الكمال، مسافة ساحرة مختبئة عن الأنظار الشريرة وفق تعويذة السماء. في السنوات الأولى من عهد الطفولة الباكرة رحل عنا إبن العم "الطيب بشير حامد" في حادث حركة أليم مخلفاً من ورائه أربعة "ولدين وبنتين" غاية في البهاء أكبرهم بشير (في ود بلول). فكر أبي في تبني بشير تحديداً غير أن الخطة أعترتها عقبة المدرسة كوننا نسكن في جزيرة بين بحرين معظم الوقت.
    على أي حال كان بشير لمدة عدة سنوات لاحقة وفي جميع الإجازات المدرسية يأتي يقيم معنا في الجزيرة. أنفقنا أجمل لحظات طفولتنا وصبانا معاً في عالم ساحر الجمال هو الجزيرة طبعاً. كان أبي يزرع الأرض كلها من جهاتها الأربعة حول بيتنا، عشرات الهكتارات. يزرع الجروف بالبامية ويزرع "الكرد" باللوبيا ويزرع في مزرعته المروية بالبابور أب سبعين والبرسيم والعجور والبطيخ والمزيد ويزرع جوانب المزرعة بالعدس. كان شجر العدس ينمو أكثر من مترين إلى الأعلى. وكان يشرف بعض المرات على جنينة صديقه سعيد "الحلفاوي" واحة خاصة بالفواكه حوالي كيلومتر ونصف ناحية الجنوب من منزلنا، مئتا متر جنوب بابور حسب الرسول. وكانت الحيوانات الأليفة وغير الأليفة أشكال وفنون.

    كنا أنا وبشير ننتقى ما لذ وطاب من الخضار والفاكهة وبغير حساب: عجور وبطيخ وجوافة ومنقة ودوم وبلح والمزيد وفي نهاية اليوم نصنع بليلة لوبيا أو عدس ثم نعمل بيض بالطوة و نشرب اللبن ونلعب شوية زيادة حتى ينهرنا أبي فننام وهكذا دواليك. ليس ذاك فحسب بل عندما نكون محظوظين نقبض سمكة سمكتين من نوع البلطي أو الدبس أو قمرية قمريتين وربما قدالي أو زارزور وفي المرات النادرة وزة فنشوي اللحم على نار الحطب في المسافة الصغيرة الممتدة بين بيتنا والنهر. في المستقبل سينضم إلينا صديقان آخران هما "جمال بشير يونس في أمريكا الآن وعثمان أحمد عبد اللطيف في البلد هسا" وعندها فقط سنسيطر بالكامل على جزيرة أم أرضة فلا نترك شيئاً إلا وحصدناه حتى الصمغ والقرض واللالوب وكنا نصطاد الأرانب ونقتل العقارب والثعابين. ولا نخشى التماسيح. أمر غريب!. هناك عدة تماسيح بالجزيرة تظهر من حين إلى آخر ثم تختفي. لم يعتدي تمساح ولا مرة واحدة علينا ولا على زول واحد من ناس أم أرضة وجزيرتها لم يغرق ولا مرة واحدة أي زول منا أو من ناس الجزيرة في خلال المائة عام الفائتة.

    كنا في إنسجام مطلق مع البيئة والطبيعة كانت الطبيعة تعزف معنا نشيد السلام والخلود في بهجة وحبور. لا يوجد مرض. أنا برجمت في هولندا "في معسكر اللجو" وكانت كارثة فظة كوني لم أفهم في البدء أنه برجم . كما كنت في حوار رومانسي شديد الحساسية مع الخواجية الصغيرة أليس (كنت في غرفة واحدة مع الرفاق الريح الكاهلي بإنجلترا الآن وناصر يوسف بمدينة نايميخن هسا، وكان يقيم بالجوار الشاب اللماح المشاغب الجيلي أحمد وآخرون كثر تجمعوا في مجرة المنفى جراء الأحلام و القهر والعسف والرصاص.

    كان منظري "زي الزفت" أعطاني الدكتور دواء في شكل طين أبيض فأصبحت كالسوسيو الذي سقط في تخميرة العجين وأليس تقف بالقرب مني تطمئنني وتحدثني أنها برجمت عندما كان عمرها خمس سنوات وأنا أخجل من شكلي ومن حظي وألعن اليوم الذي لماني في البرجم .. (في المستقبل القريب سألتقي بالآنسة سيلفيا وسنعيش معاً ردحأ من الوقت وسأكتب رواية حرب الأنهار، معروضة "الرواية" هذه الأيام بمعرض الرياض الدولي للكتاب بالمملكة العربية السعودية).

    كلو كان من حبوبة كانت خبيرة وOverprotective
    هي نفسها لا تمرض إلا نادراً "بس مرات بتجيها خمة نفس وحراق روح". كانت فكرة حبوبة عن المرض إسطورية وغير موضوعية في معظمها وكانت لا تؤمن بالطب الحديث ولا تتعاطى معه إلا مجبورة. تخبرني "أبوي جاهو حراق بول بعد ما تم المية كب وقع مات عمي جاتو نغزة في صدرو طق وقع مات أمي كرعينها نملو بب ماتت". وكان عندها إعتقاد سيئي جداً عن النقالة والدرب. كانت لطيفة في معظم المرات لكن عندما يصيبها الحنق من أحدهم فمن المحتمل أن تدعيه "إن شاء الله يشيلوك بالنقالة أو يغزو ليك الدرب". كانت تقول "الزول مما يغزو ليه الدرب أنا بقنع منو". غير أنها كانت متعاطفة جداً مع حقن الفايتمين والبنسلين. كانت تقول "أنا الحقنة بعد ما آخدها كان ما شميتة بنخرتي تكون ما حقنة حرة".

    في مرة من المرات النادرة ذهبت مع حبوبة في زيارة نادرة إلى "حلاوة". حلاوة هي إبنة حسب الرسول ود عبد العزيز ود العازة بت الطريفي في أم درمان (انظر حلقة 7). أول ما نزلنا من البص ألتقيت بطفلة بديعة في بيت ناس حلاوة "بنت الجيران" في لباس صاخب الألوان وشريط أحمر يحزم جبهتها الصغيرة ويمر فوق أذنيها ليتدلى خلف رقبتها مختلطاً بشعرها المفرود. كانت جميلة. لم يكن عندي مشاعر للجنس الآخر غير بعض العداء "تلك الغرائز ليس بعد"!.
    جذبتني الطفلة من يدي بصورة مباغتة وذهبت بي إلى الدكان أشترت لها ولي تسالي وفول وحلاوة حربة. وجدت نفسي على حين غفلة في بيت ناس الطفلة بالجوار. أخرجت البنت تحت دهشتي كورة صفراء اللون من تحت إحدى الأسرة "تعال نلعب". دهشت للحظة من سلوكها فالبنات عندي لا يلعبن كرة القدم بل هن لا يلعبن أبداً مع الرجال من أمثالي. لكن مافي طريقة، هناك رشوة!. خشيت أن "تقلع" التسالي والفول مني. لعبنا الكورة. كنت أمسك بطني من الضحك عندما تحرك قدمها تشوت الكورة. أول مرة أرى بنت تلعب كورة (في المستقبل سأدخل الأستاد وأشاهد بصورة حية كأس العالم للنساء بألمانيا وسأذكر تلك الصديقة).

    في ختام "الماتش" الإجباري نادت الأم بنتها كي تساعدها في تجفيف الأواني بعد غسلها. فأعطت البنت فوطة وبشكل تلقائي واحدة لي أنا وأنهمكنا في "تتمير" الأواني (بقيت عامل تتمير لوهلة) مع وعد بثواب مادي ربما أشترينا به أنا وزميلة العمل فول وتسالي زيادة وحلاوات كتيرة. وفجأة وبلا مقدمات تنبلج من باب الحوش حبوبة تزجرني
    وتدخل في "شكلة" مع أم الطفلة مخدمتي "كيف تشغلي ولدي شغل النسوان!" ثم أن حبوبة علمت من حلاوة أن أولاد وبنات الجيران مبرجمين وتلك كانت كارثة محققة أودت بنا إلى الرجوع في الحال إلى الحلة.

    بعد عدة سنوات لاحقة زرنا من جديد "حلاوة حسب الرسول" فألتقيت من جديد بتلك الطفلة التي أصبحت صبية ناهد وصاخبة الجمال. لم نلعب الكرة ولم نقرقش التسالي ولم نتمر الأواني هذه المرة ولكن فقط كنا ننظر إلى بعضنا البعض من على البعد وهناك وجفة وأعصاب "سايحة" ودقات قلب زائدة وخوف!... شيء ما حاسم تغير في طقسنا، نحن لم نعد نحن، هناك شيء خطير تبدل في جسدينا وفي خيالنا!.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال

    ----

    كانت بصحبة صديقتي ذاك اليوم صبية أخرى أصغر منا عمراً وأشد عزماً وفظاظة وإبهاراً، هي حفيدة الرئيس والزعيم الأزهري وهي "عبير عثمان خيري" (في المستقبل سنكون ثلاثتنا زملاء بجامعة الخرطوم). وهي وتلك وأنا سنذكر ذاك اليوم برفقة خليل وكيكي وعبد المنعم مختار وأبو الدردا البشير وعبد الرؤوف عبد الله وعبد الجبار السماني وإبراهيم حسبو ولميس (حفيدة الأزهري الأخرى الإنسانة النبيلة والجميلة) .. كنا نجتمع "قصعة ما" في نواحي الميين روود نبتغي العلم والفهم والمزيد وكنا طيور مهاجرة!.


    ---
    الأصل مع التعليقات في الفيسبوك

                  

04-08-2014, 09:33 PM

محمد على طه الملك
<aمحمد على طه الملك
تاريخ التسجيل: 03-14-2007
مجموع المشاركات: 10624

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    سلامات أبو جديدي ..
    شكرا ياخي على اطلاعنا على هذه الحكاوى ..
    حكاية العظام البشرية المنثورة في الفضاء في الحكاية الأولى ..
    دليل مادي على حروب سوبا التي أشار إليها ..
    وهي تدعم المقولة الشائعة خراب سوبا ..
    ولفظ الخراب في اللسان العامي يشمل معناه الإنسان والأشياء ..
    فنحن نصف الأرملة بأن بيتها اتخرب كناية عن فقد الزوج..
    ولكن الملاحظ من الحكاية لم يكن الخراب مادي وبشري فقط ..
    بل تعداه لغسيل ذهني ونفي مدروس لأي علاقة تربط بين هؤلاء الأحياء وأولئك ..
    هذه الظاهرة ليست محدودة بل عامة ..
    وهي التي فصلت الاجيال اللاحقة عن تاريخها القديم وعلاقتها به ..
    لا أعلم الدافع وراء ذلك غير التظني بأن المنتصر أراد ذلك فقط ليضمن استمرار سلطانه ..
    واضح أن من حاربوا سوبا المسيحية لم يكن دافعهم عقائدي ..
    بدليل أن السلطنة التي نشأت نهضت على سلطة زمنية وليست روحية ..
    وكان جل أتباعها لا زالوا بلا معارف فقيه ..
    إلى الحد الذي كانت فيه المرأة تزوج قبل إكمال عدة طلاقها كما جاء في كتاب الطبقات ..
    مبلغ ظني أن سقوط سوبا كان نتيجة طبيعية بعد نشأة جيل هجين مستعرب أصبحت له الغلبة..
    فٌصل ثقافيا ومن ثم وجدانيا بفعل فاعل عن جذوره على الرغم من الجين البيولوجي الذي لا تخطئه الأعين ..
    مثل هذه الروايات ضرورية لنفحص على ضوئها أحداث تاريخية ..
    وكم هو مؤسف أن تظل البحوث والدراسات الأثرية ضعيفة وعاجزة في البلاد إلى اليوم..
    بل معتمدة على عطاء وجهد الأجانب..
    ترى هل مازلنا تحت حصار التغيب المتعمد؟
    عموما شكرا لمحمد جمال الذي استحلب بأسلوبه الشائق هذه التداعيات ..
    فالعمل الذي لا يعتصر ذهن المتلقي ويستدعي تفاعلاته عمل ميت.
                  

04-09-2014, 09:18 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: محمد على طه الملك)

    هلا بالاستاذ محمد طه الملك

    تحليل موفق. تشكرات يا استاذ
                  

04-09-2014, 01:52 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.. حلقة "11"

    لعبة التيوة


    حبوبة لم تكن تعرف كرة القدم "الكورة"، كانت تسميها التيوة!. لم تنطق كلمة "كورة" ولا مرة واحدة في حياتها، لم تكن جزءً من ذاكرتها. حبوبة كانت تقيم بيننا فيزيائياً لكنها في الحقيقة ليست منا، لا تنتمي إلى إحداثيات زماننا بالكامل. طريقة تفكيرها ورؤيتها للحياة، ثقافتها كما ذوقها الحسي والمعنوي تشكلوا في زمان آخر مختلف جذرياً عن هذا الزمان. في السنوات الأخيرة من عمرها كانت تعاني الوحدة المعنوية والوحشة. لقد رحل كل أهلها الأوائل كما معظم ناس جيلها. الحياة الحقيقية بالنسبة لها تقع في الماضي السحيق.

    أجمل لحظات عمرها كانت مع أناس ما عادوا هنا بل أرواحهم في دنيا أخرى بعيدة، غامضة، خطرة وممتعة وأجسادهم ترقد ليس ببعيد في حوى (مقابر تقع بالقرب من ود مختار) ثم في المكان الحديث نسبياً بنية الشيخ عبد الرحمن حماد العالم "شقيقها" بالقرب من قرية مسرة في محاذاة شارع جبل أولياء الخرطوم. والأمر أبعد من هذا!. كانت الحياة تتآمر من خلف الكواليس في وحشية لا راد لها وتجهز حبوبة في رفق وتودة وتشرع كل يوم جديد في تأهيلها للهجرة والإغتراب في دولة الخلود وهي كانت تحلم بالرحلة في شوق ومتعة، كل أشيائها بدأت رويداً رويداً في العد التنازلي: السمع، البصر، حاسة الشم، شهية الأطعمة وكل شيء كما دقات القلب الحنون.

    غير أن حبوبة لم تصبر حتى تتلاشى كل خواصها وخصائصها كإمرأة لطيفة ونبيلة لم تسرف يوماً في الحياة. فعندما ناداها المنادي إلى الأعالي حدث لها بالضبط ما حدث لكل أشقائها (فشل كلوي) كما حدث من قبل لشقيقتها الوحيدة فاطمة (الجدة المباشرة لفاطمة أم مريم زوجة الأمين الجزولي في الرياض الآن) فرقدت راضية مرضية كما تتمنى بجانب "بنية" شقيقها "العالم" شرقي مسرة.

    التيوة؟.
    هناك لعبات شعبية خاصة بالأولاد وأخرى بالبنات وقليل من هذه الألعاب مختلط. ألعاب البنات لا تقل متعة وتنافسية عن ألعاب الأولاد ولو أنها غالباً مع تمارس في بعض الخصوصية أو في أبواب الحيشان ما وجدت.

    من الألعاب التي كانت تلعبها حبوبة أيام طفولتها: الكار و دسوسية والطوطحانية والعزف على الترمبيط كما البربرة أي لعبة الشيشة لكن بطريقة أكثر تبسيطاً مما تلاه من تطوير للعبة كما حدثتني عن منافسات في تصفيف الشعر والغزل والنسيج وصناعة المناديل وأطباق الزعف.
    وللأولاد في ذاك الزمان (حوالي مائة عام خلت) ألعابهم الكثيرة والمنوعة والتي ظل بعضها يمارس حتى تاريخ اليوم ولو نادراً وفي الأرياف البعيدة. من ضمن هذه الألعاب وأهمها "شليل" و "حرت" وشدت" و"الرمة وحباسها" و "مليص " و لعبتي " السيجة و صفرجت" .

    غير أن أكثر ما أدهشني في المستقبل هو علمي أن حبوبة رأت بعينيها بعض جيل أبائها كما أخوانها وأبناء عمومتها في الصبا الباكر يلعبون "التيوة". وهي نوع من أنواع الكريكت الهندي الشهير
    Cricket
    وهناك كأس عالم في الوقت الراهن للكريكت فازت به دولة أستراليا عدة مرات ومنافسات طاحنة بين الهند والباكستان أي كأس عالم لل"تيوة" كما هي لعبة شعبية لعبها أولاد جيل حبوبة ومن هم قبلهم وقبل أن تخلق كرة القدم بأزمان طويلة.

    التيوة هي أكثر الألعاب الشعبية طراً في الشدة و التعقيد. كرتها تصنع من القماش في الزمان السابق وفي أحيان من البلاستيك واللساتك في وقت لاحق وعودها من السيال أو العشر وربما المزيد من الأنواع وتمارس في الصباحات أو العصريات في المسافات الواسعة أطراف البيوت ويحبذ لعبها في الأجواء المعتدلة أو بعد نزول المطر بعدة ساعات . ولا أدري إن كانت هذه اللعبة أصيلة أما أنها وفدت مع الغزو التركي أم الإنجليزي!.

    عندما مر الزمان وجاءت كرة القدم إلى البلدة وأصبحت اللعبة الأثيرة المفضلة والطاغية فما كان من حبوبة إلا وظلت وعلى الدوام تظنها هي ذاتها التيوة ربما لتشابه الطقس التنافسي بين اللعبتين كما وجود كرة ما في الحالين. ولم تغير فكرتها أبداً حول "تيوية" كرة القدم. وأنا كل يوم ماش التيوة جاي من التيوة مع أنني لم ألعب التيوة الحقيقية إلا عدة مرات في حياتي، إذ بدأت تتلاشى في زماننا وحلت محلها تيوة حبوبة الأكثر سحراً ونظاماً وتنظيماً وهلال/مريخ وجكسا في خط ستة والنقر وبريمة حتى وصلنا إلى زمان ميسي وبرشلونا وميونيخ وعالم من التنافس الودي الجبار أطبق بخيره وشره على كل أركان الكرة الأرضية.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال


                  

04-09-2014, 02:26 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    تحذير مهم جداً عندي .. على أثر حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.. الحلقات التي أكتبها هذه الأيام عن ذكريات الطفولة والصبا الباكر بجزيرة أم أرضة .. كما بحينا "ود أبو دروس، جبل أولياء، جنوب الخرطوم ":

    1- لا فخر بالخلفيات الجهوية (المناطقية) أو الإثنية (العرقية) من باب نحن الأعلى والآخر أدنى.. والعياذ بالحق.. هذا لا يمكن ولا ينبغي!.

    2- ليس "كان أبي أو حبوبتي" فأنا وأهلي وحدنا إذن نكون .. ذاك ليس فهمي.. نحن نكون بالإحترام المطلق للآخر والطبيعة والإنسانية كما بالطبع أنفسنا.

    3- لا فخر بالإثم أو تعالي أياً كان.. فقط هو تداع حر من ذاكرة حرة منتمية إلى ذاتها وإحداثياتها .. تصادف أن تكون ذاكرة مهاجر في منفاه.. كما أن هناك شيئاً مهماً عندي وعملي وهو أن هذا الحكي عنده أهداف أنثروبولوجية مباشرة وأخرى غير مباشرة.. بما هو تسجيل خاص لأحداث ومواقع وشخوص خاصة وذات خصوصية أهملها وسيهملها التاريخ المكتوب.. لو لم نعمل لها حساباً وهي أشياء ذات قيمة إنسانية وتاريخية وسوسيوآنثروبولوجية ثمينة!.

    4- ملاحظة أخيرة هامة : لا تهتمو بالتفخيم اللغوي والبلاغي الذي أفعله بعض المرات فقط الجوهر (تلك مشهيات وتسلية ليس إلا)!.. كما أتمنى أن تنوروني بالأخبار والأفكار وتمدونني بقبس من أرواحكم النيرة عله يهدين إلى رشاد الكتابة الموجبة والممتعة.. والصبر الجميل.. فالكتابة هي أشق عمل في الكون!........ والحق من وراء القصد.

    أقول هذا من باب الإحتراز ليس إلا. وشكراً لوقفتكم الخيرة معي هنا وفي كل الأمكنة.

    مع أسمى معاني الود والإحترام .. والمحبة الأكيدة

    محمد جمال
    ---
    الأصل والتعليقات

                  

04-10-2014, 00:51 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    اتمنى ليكم سياحة ممتعة
                  

04-10-2014, 03:59 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    ستشاهدون بعد شوية صورة حية لمجزرة العنج الوارد ذكرها في الحلقة12
                  

04-12-2014, 05:43 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.. حلقة "`13"

    نار عويش

    نار عويش هو إسم لوري حسن أبو القاسم " أبو الشيخ أبو جديري بالرياض هسا". في الحقيقة كان له شركاء وهم عبد القادر المدني و إبراهيم المدني. وعبد القادر المدني شريك حكم الله بت الغرقة وهو أبو إبراهيم المدني بأديس أبابا كما أبو أبو القاسم وبشير وأسعد وثلة نيرة من الشابات. حبوبة الغرقة هي آمنة بت تير أيوب شريكة حاج إبراهيم. حاج إبراهيم ود عمة حبوبة آمنة بت حماد وأولاده: عبد الله ومحمد أحمد وعمر وعبد المعطي. عبد المعطي كان زميلي بالمدرسة الإبتدائية.
    نار عويش من لوري تحولت إلى بص أزرق في خط جبل أولياء الخرطوم ثم تحورت إلى حديدة محلية بحتة في خدمة ناس البلد بس. العويش هو بقايا العشب المتيبس والقصب سريع الإشتعال بالنار كما سريع الخمود. في زمن شباب "نار عويش" كانت حديدة سنينة جابت الغرب والشرق والجنوب والشمال وأسماها نوبيو الشمال ذاك الإسم "نار عويش" نسبة لسرعتها في الحضور والغياب.

    أعتلى نار عويش الأقرباء والغرباء والأغنياء والفقراء والرجال والنساء والصغار والكبار والفقهاء والسفهاء من كل شاكلة ولون من بورتسودان إلى الجنينة وأبعد: تشاد والكنغو وأفريقيا الوسطى والكاميرون. وعندما أصبحت بلدية خالصة وحرمت دخول الخرطوم اشتغلت في المسافة بين العسال والجبل وبس. عندك قروش ولا ما عندك نار عويش عشانك. ولو عندك مشكلة صاحب نار عويش بديك من عندو. لا تحتاج أن تطلب هو يعلم قبل أن تنطق، لا تحتاج أن تقول معلم الله. حسن أبو القاسم يعرف البلد زول زول ويعرف مقام كل زول ويحترم الصغير قبل الكبير ويحب الفقراء ولا يحمل غلاً ولا حقداً على الأغنياء. رجل أشبه بالملائكة. ومحبوب الكل. كرم وشهامة وأخلاق في قمم الجبال. وإن كنت صاحي يوصلك إلى باب منزلك وانت في بطن نار عويش وإن كنت سكران طينة في ديم البساطاب والدنيا ليل يوصلك لغاية العنقريب. ونار عويش دائماً جاهزة للدرش والدريش.

    في يوم من الأيام وأنا في الصف الرابع الإبتدائي وفي نهاية الإسبوع وبطريقة مباغتة وعفوية وغير مرتبة ذهبت لأول مرة في حياتي في زيارة إلى قرية "قبل جاي" ودون إذن أحد. كانت حركة تمرد موفقة. كان عندي ذاكرة وإنتماء خاص لحبوبة الغرقة كونها كانت تزور حبوبتي بشكل دوري برفقة ولدها الهمام "عبد الله". عبد الله كان عنده زراعة معانا بالوراثة وهو رجل حنين وطيب القلب. أول ما دخلت المدرسة نهاية الصف الثالث مباشرة تعرفت على شخصين مهمين في حياتي ذاك الزمان خارج دائرة أولاد حلتنا وهما "طارق الأمين" من السليمانية شرق رحل غرقاً في خزان جبل ولياء ونحن في الصف الخامس وعبد المعطي ود الغرقة وقد إمتازا الإثنان بروح جميلة وأخلاق رفيعة.

    وصلنا بيت حبوبة الغرقة في عصرية مباركة فأكلنا الكسرة بالرجلة مع صحن السلطة وشربنا الشاي الأحمر ثم في المغربية الشاي باللبن مع اللقيمات. كانت حبوبة الغرقة تحتفي بي وفق طريقتها الخاصة، في نسق كله حب وحنية ودفء عجيب تشعره وكأنه إشراق الروح. وتحلق حولي الناس الكرماء الطيبين يسالمونني: أولادها الكبار والجيران. وذهبت ذاك اليوم مع عبد المعطي لأول مرة إلى خالتي الأخرى زبيدة أم طلب ومالك أولاد القرشي وكنت أعرف طلب ومالك لأنهم أحياناً يأتون إلى الجزيرة فيشربون معنا الشاي باللبن ثم يذهبون إلى المسافات البعيدة يأدون أعمالهم الشتيتة كلما حانت الفرص. ثم أن لي صديق آخر لصيق وشديد البأس هو عبد الرافع القرشي "كنا نتشاكل ونتصالح" وللأمانة أنا وعبد الرافع جمعنا "العنف". .في لحظة من حياتي كنت عنيفاً مع هدوء شبه زائف وكثير الشجار ثم أصبحنا أنا وعبد الرافع يداً واحدة في مواجهة الآخرين بعد إتفاقية صلح غير معلنة.

    في لحظة الوداع تجلى رجل أنيق رقيق العبارة وشديد الفكاهة إسمه "حسن أبو القاسم" فعلمت حبوبة الغرقة إنه ماش العسال مروراً بود أبو دروس "حلتنا" ممتطياً كالعادة نار عويش. وما هي إلا لحظات ووجدت نفسي أجلس معه في المقعد الأمامي متمنياً أن لا تصل نار عويش إلى وجهتنا ونظل نتفسح معاً في نار عويش وإلى الأبد. غير أن نار عويش وصلت إلى هدفها في ود أبو دروس في خلال عدة دقائق وكان الهدف توصيل عدة صفائح "طحنية وجبنة" إلى دكان صالح ود الحسن شريك خالتي آمنة بت علي. تلك نهاية الرحلة، من المفترض أن تكون نهاية الرحلة لكنني لم أنزل. جلست في العربية بلا خطة ولا هدى. فرآني خالي البدوي (أبو الإمام) داخل نار عويش فجاء إلى حسن أبو القاسم وهما أصدقاء من الطراز الفخيم، أمرني "أنزل يا الهدية" فتجاهلته فقال له حسن أبو القاسم خليه أنا ماش العسال وراجع "برجعو تاني معاي، خليه يونسني" فحلف خالي البدوي "علي الطلاق إنزل" وفي اللحظة التي نزلت عندها حلف حسن أبو القاسم "علي الطلاق إركب وعلي الطلاق ما إنزل تاني".

    تلك أول مرة أشوف العسال وكنت أعرف مسبقاً أهلي بالعسال وهم:خالتي الحرم بت مصطفى وأولادها وأحفادها من شريكها عبد الجليل ود محمود كما أعرف جيداً أهلي ناس أبو علامة (شريك خالتي فاطنة) وناس الجزولي ومرة أخبرني أبي أن لنا قريب ينتمي إلى أسرة الفكي فضل الله إسمه "عبد الله ود سليم أبو بدرية زوجة الشاب محمد البشرى، في الرياض هسا". وأذكر أن عبد الله ود سليم في وقت سابق جاء عند أبي آخذاً نصيبه من ورثة "أرض" للفكي فضل الله "600 هكتار" تم بيعها ذاك الزمان كونها غير مستغلة وتقع في الجزيرة "الضهرة" بالقرب من أراك صالح.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال

    ---
    الأصل والتعليقات من الفيسبوك

    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-12-2014, 09:04 PM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-13-2014, 05:52 AM)

                  

04-14-2014, 12:12 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حلقة رقم 10 مفقودة

    حصل هنا خطأ في الترتيب حلقة رقم 10 تأتي لاحقا
                  

04-14-2014, 06:33 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.. حلقة "10"

    مرثية بنونة بت المك نمر

    حبوبة آمنة بت حماد غير قارئة، لم يكن ممكناً في زمانها إذ لم تتأسس بعد أي مدرسة للبنات في أي بقعة من السودان أيام صباها ناهيك عن أن الأمر مستحيل في عرف القبيلة حتى لو كانت هناك مدرسة للبنات أمام باب الدار. حبوبة غير وطنية، لم تكن تعلم أنها سودانية حتى رحلت، كانت تعرف أنها جعلية فحسب، المشاعر الوطنية في زمانها لم تتكون بعد بشكل واضح، كلمة "سوداني" نعت مرفوض عند حبوبة ولا يوصف به إلا زول هامل. فالعالم عندها صف طويل من القبائل أشرفها وعلى وجه الإطلاق هم الجعليين وحلفائهم في اللحظات التاريخية المختلفة وأوضعها هم الأعداء. كما أن العالم مقسم إلى أحرار وآخرين وسود وبيض (بيض يمكن أن تعني زرق أو خضر) ومقسم إلى شرق وغرب ومسلمين ونصارى ونساء ورجال ولكل دوره وقدره في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

    حبوبة لا تعرف المعلقات الجاهلية ولا أشعار المتنبي ولم تسمع أبداً بالإلياذة و لا الأوديسا اليونانية ولا أشعار البطانة ولا أي شيء غير شيء واحد فقط وتحفظه عن ظهر قلب وهو: مرثية بنونة بت المك نمر وتعرف معاني كلماتها جيداً وتعرف أحداث وأماكن و شخوص ملحمة بنونة الناعية لأخيها عمارة ود المك نمر الذي مات موتة طبيعة أصابت بنونة بالغم والإحباط مما جعلها تستـأنف طريقة موته.. فهي "أي بنونة" لا تريد أن ترى أخيها إلا موشحاً بالدم!.

    ترتل حبوبة المرثية الأثيرة كلما حانت المناسبة وبلا مناسبة : (الخيل عركسن ماقال عدادن كم.. فرتاك حافلن ملاي سروجن دم ).

    روت لي حبوبة عدة مرات وفي مناسبات مختلفة وبفخر شديد، أحداث زفافها وعرسها على إبن عمها "الطاهر الطريفي" في حدود العام 1919 : (ها جنى ها اسكت ساي، اربعين يوم الجنيات إنقزو واتباطنو وإمصعو متل الجمال الهايجة، والخدم ادقن في الدلوكة الليل كلو لاعند الفجرية، الضبائح كل يوم تورين وخروفين، حتى الحدي شبعان، والمريسة والعرقي بالبراميل قدام الحلة للغاشي والماشي، البلد كلها بتشرب، الما بشرب مو راجل، والما بنضرب بالسوط إلا يهج من البلد تكنو والمرا واحد، ود عمي "أومحمد ود الطريفي" بعد البطان بقلع سكينو من ضراعو واشرط يدو يرش البنوت بالدم وهن يشيلن ويزغرتن وإرقصن برقابن السمحات وإدنو الشبال، عاد البنوت مو بنوت نصاح).

    تلك المشاهد الإجتماعية التاريخية تقابلها قيم صاخبة هي قيم الفروسية "الشجاعة والشرف والشهامة والمروءة والعزة والكرم والضكرنة". وهي قيم القبيلة، قيم الجسدانية قيم وشائج الدم (لاحظ مشهد الدم في رواية حبوبة أعلاه) . تلك العادات كما المفاهيم التي تقف من ورائها إنهار معظمها أمام الزحف المدني والوعي الأكاديمي الجديد الذي سطع رويداً رويداً بعد الغزو الإنجليزي فتأسست في العام 1945 مدرسة أم أرضة الأولية التي بادر بتأسيسها حسب الرسول ود دار السلام بت الطريفي ووفق السلم التعليمي الإنجليزي السائد في ذاك الزمان. ولكن ما زالت أطياف شفيفة وأخرى غليظة من تلك النزعات و المشاعر العشائرية والقبلية تتلبس الإنسان منسلة من لا وعيه في مناسبات مختلفة. وربما أحتاج الأمر عدة عقود مقبلة كي ينقشع الشعور القبلي بالكامل كما تعلمنا التجارب ومنها تجربة الأمدرمانيين الأصيلين الذين مازالوا يعانون وحتى تاريخ اليوم من تلك المشاعر التاريخية "المتوشحة بالدم ولو معنوياً هذه المرة في جل الحالات" وبعد أكثر من مئة عام من التمدن المفترض، يجد هذا الإفتراض تجليه في "الفخر الأمدرماني" Omdurman`s Pride Syndrome (*التسمية مختلقة).

    قيم الفروسية (الجسدانية، الدم) على ما بها من جمال تقف في الضد من قيمة " الإنسانية" بالمعنى المطلق للكلمة كما أنها قيم ذكورية بحتة.

    القيمة "إنسانية" قيمة مطلقة المفعول. فالرجل أو المرأة الإنسان بالإحالة إلى القيمة إنسانية يفعل وينفعل في المبدأ مع الجميع ولمصلحة الجميع غير أن الفارس في المبدأ يفعل وينفعل مع جماعته فقط ولمصلحة جماعته فقط "العشيرة" مثالآ. ولهذا فإن القيمة "إنسانية" ليست من قيم القبيلة (لا تكون جزءآ من حزمة قيم الفروسية). لأن ببساطة القبيلة تتمايز عن القبائل الأخرى بسماتها المتفردة وتتعرف في مواجهة الآخرين بما تحوزه من شرف وعز وجاه. ذلك الشرف "المقام الرفيع" يتأتى عبر إلتصاق أعضاء العشيرة أو القبيلة المحددة بقيم الفروسية في مواجهة الآخر وعلى وجه الإطلاق. عندما نقول على سبيل المثال فلان "جعلي" فسرعان ما تخطر على بالنا صفات ومواصفات محددة مخزونة سلفآ في العقل الجمعي "إنه فارس" وهو يتعرف بكرمه وشهامته وشجاعته في مواجهة الآخر "الشايقي مثلآ" ذلك ال######## الشرف كونه بخيل "فسل" و########... وتلك صفات تقف في الضد من قيم الفروسية. وهذا طبعآ إنبناءآ على المحمول الجمعي المحدد للجماعة المحددة وهم الجعليون هذه المرة. فمن مقام جماعة "الشايقية" يكون المنظور بالطبع آخر، فما الجعلي سوى زول أحمق متهور وعوير. (وذاك مجرد مثال توضيحي). لا توجد إنسانية عند الفروسية. هي في الأساس قيم الجسد "الجسدانية" وما ينطوى عليه الأمر من نقاء "الدم" في مواجهة الدماء الأخرى الأقل شرفآ ونقاءآ حتى لو كان ذاك الآخر ينحدر من ذات العرق الحقيقي أو المتوهم.

    إن أعظم مثال يجسد قيم الفروسية يكون في أبيات الشعر الشعبي واسعة الإنتشار ، القائلة:

    (1- نحن اولاد بلد نقعد نقوم علي كيفنا 2- في لقا في عدم دايمآ مخدر صيفنا 3- نحن أب خرز بنملاهو و بنكرم ضيفنا. 4- و نحن الفوق رقاب الناس مجرب سيفنا).

    لاحظ معي كيف تترجم قيم "الفروسية" الى افعال بتتبع مبسط لأبيات الشعر " الشعبي" تلك مع مراعاة الترقيم الذي وضعته من عندي:
    بقليل من اعمال التفكير سنجد ان القيم السامية الدافعة لتلك الافعال كانت كالتالي:
    1- العزة
    2- المروءة
    3- الكرم، و
    4- الشجاعة

    تلك القيم "الفروسية" تقوم في الأساس وتفعل فعلها في مواجهة الآخر.. ذلك الآخر قد يكون في لحظة من اللحظات مكانآ للتجربة. تجربة السيف على رقبته والخلاصة إثبات جبنه وخنوعه وذلته في مواجهة
    جماعة من الفرسان لا قبل له بها.

    وفي كل الاحوال فان كل تلك القيم تصنعها الجماعة وفق عملية تاريخية طويلة ومعقدة تتمدد عبر اجيال بهدف تحقيق مصلحة الجماعة المحددة وضمان معاشها وبقائها وأمنها ورفاهيتها في مواجهة الطبيعة والآخر.

    وكم هو واضح عندي أن "القيمة الإجتماعية" لا تشتغل إلا في سياقها المكاني والزماني (في إطار مجتمعها المدني المحدد، العشيرة مثالا). وأي خلع لها من سياقها المكاني والزماني سيحولها الى مسخ، أي سيلحقها تشويه وتزييف يتجسدان إما في سوء فهما أو سوء ممارستها. وفي أفضل الظروف يتم الحكم عليها من منطلق انساني كلي (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثالآ). وعندها تكون لا شيء سوى فكرة مجردة. فلقيم لا تقوم في الفضاء الحر بلا هدف أو أطر أو مبررات بل عندها على الدوام هدفها وأطرها ومبرراتها في حيز زمانها ومكانها. فالكرم على سبيل المثال كقيمة يختلف في طبيعة وطريقة ممارسته من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان ... غير أن ممارسة الكرم كقيمة إجتماعية في إطلاقها تقوم في مقابل هدف واحد محدد على الدوام.

    فللقيم الإجتماعية أطرها المحددة "تمظهرات إجتماعية محددة"، لا يمكن أن تستقيم بالكامل خارجها. فمثلآ لا أظن أن الكثير من الناس لا في السودان ولا بقية أرجاء الدنيا يتفقون مع "بنونة" بت المك نمر في رؤيتها "الجعلية" لماهية أفضل طريقة للموت. فبنونة ترى أجمل الموت هوالموصوف ب( دايراك يوم لقا بى دميك تتوشح ... الميت مسولب والعجاج يكتح). والرجل الذي تحب بنونة "أي فارس أحلامها" غالبآ ما يكون هو الموصوف ب: (الخيل عركسن ماقال عدادن كم... فرتاك حافلن ملاي سروجن دم). ومثل ذلك الرجل بالطبع لا يكون إلا جعليآ لدى بنونة. ولو أنني لا أستبعد تمامآ أن نعثر في الوقت الراهن على عدة نساء في سودان اليوم يمتلكن بجدارة ذائقة بنونة النفسية والجمالية.

    "مرثية بنونة.. ماهو الفافنوس ماهو الغليد البوص":

    إن ادَّاك وكَتَّر ما بيقول اديت
    أب درق الموشح كلو بالسوميت
    أب رسوة البكر حجَّر شراب سيتيت
    كاتال في الخلا وعُقُبن كريم في البيت
    ***
    ماهو الفافنوس ماهو الغليد البوص
    ود المك عريس خيلا بيجن عركوس
    احى على سيفوا البحد الروس
    ***
    ما دايرا لك الميتة ام رمادا شح
    دايراك يوم لقى بدماك تتوشح
    الميت مسلوب والعجاج يكتح
    احى على سيفوا البسوى التح
    ***
    إن وردن بجيك في أول الوردات
    مرنن مو نشيط إن قبلن شاردات
    أسد بيشة المكربت قمزاتو مطبقات
    وبرضع في ضرايع العُنَّز الفاردات

    ***
    كوفيتك الخودة ام عصا بولاد
    درعك في ام لهيب زي الشمس وقاد
    سيفك من سقايتو استعجب الحداد
    قارحك غير شكال ما بيقربو الشداد
    يا بُقَّة عقود السم
    يا مقنع بنات جعل العزاز منجم
    ***
    الخيل عركسن ماقال عدادن كم
    فرتاك حافلن ملاي سروجن دم
    وماهو الفافنوس ماهو الغليد القوص
    ود المك عريس خيلا بجن عركوس
    احي على سيفوا البحد الروس
    *******************

    مرة أخيرة فإن قيمة " الإنسانية" تقوم في صدام وتضاد مع قيم الفروسية. كونها قيمة "الفردانية" .. فالإنسانية قيمة لا تورث ولا تتأتى كمعطى جاهز. كما أن الإنسان "الإنساني" لا يضيف بالضرورة إلى جعبة الجماعة سهمآ بممارسته الفردية لقيمة الإنسانية. عكس ما يحدث لدي ممارسي قيمة من قيم الفروسية. أنظر من جديد أحد المقاطع المتعلقة من قراءتي لمرثية بنونة بت المك:

    (وضعت بنونة مرثيتها باللغة العربية. لغة الدين الإسلامي. في تاريخ ليس ببعيد هو بداية القرن التاسع عشر. منذ قرنين سابقين على القرن التاسع عشر أو يزيد كثيرآ ما درس بعض السودانيين التوحيد وعلوم الدين الإسلامي في الأزهر بمصر (رواق السنارية مثالآ). كما حفلت الساحة قبل قرون عديدة خلت بأعداد لا حصر لها من المتصوفة القادمين من بلدان أخرى. كان الدين حاضرآ في حياة الناس. كما أن بنونة نفسها من قبيلة الجعليين المتصور انها متحدرة من العباس عم النبي محمد.

    بل بنونة من قمة أسر النبلاء في القبيلة، أسرة الملك نمر، هي بنت المك نمر، زعيم القبيلة أي فارسها الأول بلا منازع، وقبل ذلك حفيد "العباس". برغم كل هذا. لا توجد أي إشارة في مرثية بنونة تؤمن بالقدر أو ترجو في "آخرة" كما لا يوجد تهليل أو تكبير أو جهاد بالمعنى الديني للكلمة. ففي مرثية بنونة هناك فروسية لا غير. خلاصة قيم دنيوية سامية.

    فبنونة ترى الحياة في الفروسية، الحياة التى لا موت فيها. لهذا عندما مات أخوها موتآ طبيعيآ بفعل المرض لا السيف، رأته يموت. وما كانت ترجو له الموت!. كانت توده حيآ في قيمة الفروسية. فالفرسان الميتون في ميدان القتال لا يحسبون موتى. انهم أحياء يرزقون لكن ليس بالمعنى الديني بل بالدنيوي. انهم يعشون في قيمة الفروسية. كيف؟.

    القيمة تورث للإبن أو الأخ وهكذا. وهو نفسه السر في تحدر بنونة من أسرة نبيلة، من أسرة فارس بن فارس أبآ عن جد. بنونة بنت المك نمر إبن الفرسان "وارثين الشطارة". إن مرثية بنونة ليست مجرد حزن على عزيز، بل أكثر من ذلك. وليست مجرد فخر بفروسية أخيها الراحل بل أكبر من ذلك. فعندى أن مرثية بنونة تعادل "الإستئناف" في لغة اليوم أى مراجعة الحكم الصادر من محكمة .

    أرادت بنونة بكل بساطة أن تقول: نعم لقد مات أخي "عمارة" الفارس خارج ميدان القتال، ولكن نسبة لتميزه وتفرده في القتال في حياته السابقة من قبيل (الخيل عركسن ماقال عدادن كم.. فرتاك حافلن ملاي سروجن دم) و (إن وردن بجيك في أول الوردات.. مرنآ مو نشيط إن قبلن شاردات ).

    بالتالي ترجو من الناس "القضاة" إعتباره حيآ أي ضمه الى قائمة الأحياء في قيمة "الفروسية". وعندها فقط يستطيع أخوها "عمارة" أن يضيف سهمه في مسيرة نبل الأسرة كما بالتالى "العشيرة". ولقد فعلتها بنونة. معظمنا يعرف الآن أنه كان هناك فارسآ مغوارآ إسمه عمارة وهو ود المك نمر وأخو بنونة وأنه جعلي "حر").

    يتواصل.. حكايات مع حبوبتي آمنة بت حماد.

    محمد جمال

    ---
    الأصل والتعليقات

    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-14-2014, 07:18 PM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-14-2014, 09:42 PM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-15-2014, 04:19 AM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-15-2014, 10:50 AM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-18-2014, 07:42 PM)

                  

04-14-2014, 06:44 PM

باسط المكي
<aباسط المكي
تاريخ التسجيل: 01-14-2009
مجموع المشاركات: 5473

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    بوست في قمة الروعة والوصف الادبي الدقيق
    وسرد جميل لاحداث يجهلها الجميع عن العنج
    وقبايل عاشت في بلدنا وحكاوينا حبلي بالكتير
    دمت اخي وواصل
                  

04-15-2014, 10:56 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: باسط المكي)

    هلا بيك باسط المكي

    كل جديد سانقله الى هنا

    تحية للكل
                  

04-16-2014, 05:00 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    Breaking news مادة وثائقية هامة عندي وربما للبعض منكم (تسجيل صوتي مع حبوبة آمنة بت حماد).. حصلت اليوم عبر أستاذ الطاهر جمال الدين على عدة كاسيتات بها تسجيل حدث في منتصف السبعينات لحبوبة آمنة بت حماد تروي من خلاله ذكريات طفولتها وصباها واحداث كثيرة مرت بها البلد ذاك الزمان وبطريقة عفوية وسلسة وبلغة واضحة.. كما أن في ذات التسجيلات كلام لخالي المعتصم الطاهر الطريفي وأشعار ودوبيت لمحمد أحمد ود حامد "أبو الزبير" زوج بت خالتي آمنة بت دار السلام "على أرواحهم جميعاً السلام".
    يغطي التسجيل بالتقريب الفترة من 1870 إلى 1950 وفق ذاكرة حبوبة طبعاً والتي تنقل أيضاً ذكريات أمها البتول وجدتها على وجه التحديد. وقام بالتسجيل الطاهر جمال الدين بين العامين 1977 و1978. وقد سبق ان سمعت هذه التسجيلات في العام 1993 عدة مرات.

    كما هناك تسجيل صوتي للوالد جمال الدين (1891-1991) جار البحث عنه فإن وجد سيكون إضافة جديدة قيمة جداً. وقد سمعت هذا التسجيل بدوره عدة مرات في العام 1993.


    الأصل:

                  

04-18-2014, 00:42 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    تعليق على خلفية "مجزرة العنج ومرثية بنونة بت المك نمر"

    التاريخ للحقيقة والمصالحة!.

    ما تزال بعض المقالات التي كتبتها في الآونة الآخيرة مستنداً على ذاكرة جدتي "آمنة بت حماد" تلهمني الكثير المثير من الرؤى المتلبسة ردود أفعال شديدة القيمة وثمينة المحتوى من أصدقاء ومعارف ومهتمين وأصحاب وجعة وآخرين مغرضين (وهل هناك كتابة بلا غرض؟!).
    كل كتابة عندها غرضها وأنا ذاتي عندي غرض أو قل هدف أرجوه وهو: محاولة إعادة قراءة التاريخ من الناحيتين الاًنثروبولوجية (الثقافية) كما الآركيولوجية. مع تنبيه ضروري هو أنني عندما عزمت فتوكلت بكتابة تلك المذكرات لم يكن هدفي التوثيق التاريخي البحت (ذاك شأن آخر) بل كما ذكرت للتو "آنثروبولوجي" غير أن البعض سار بالتوثيق التاريخي أظنه إضطراراً بجانب الهدف المعلن للمذكرات المعنية.

    وتأصيلاً لهدفي في خواطر البعض منكم فإنني أفكر الآن في تحويل هذه المذكرات في نهاية المطاف إلى رواية أحلم بها أن تكون مثل رواية إيزابيلا الليندي المساة "باولا" وهو إسم إبنتها التي توفيت بالبورفيريا 1993 وهي عبارة عن أوراق خاصة كتبتها المؤلفة الكبيرة في البدء خصيصاً لإبنتها وهي على فراش المرض. غير أن تلك المذكرات توسعت لاحقاً لتروي السمت الآنثربولوجي والحضاري والسياسي الدموي ببلادها "تشيلي" في كتاب أصبح من مآثر البشرية جمعا من حيث القيمة الأدبية. ونحن نملك المادة الخام ولن يعوقنا شيء غير قلة الحيلة إن لم نهزمها!. وإني كأحدكم يا صحابي لعازم على الأمر الجلل.

    مرثية بنونة:

    أعترف أنني تهاونت وتعاملت مع النسخة التاريخية للمرثية الصاخبة بمنتهى الكسل وأعتمدت على نسخة واحدة من صناعة الفنان الكبير الكابلي وآخرين بدورهم لم يأتوا بمصادر حاسمة. وأذكر أن حبوبة كانت تبدأ إنشادها للمرثية ب " ماهو الفافنوس ماهو الغليد البوص" بما يتفق مع الرأي الغالب وليس "دا إن أداك وكتر ما بقول أديت".
    وعلى كل حال البحث جار بواسطة الأستاذ الطاهر جمال الدين (أستاذ نحو وبلاغة) لتسجيل صوتي فعله هو مع جدتنا في حدود العام 1977 وقد حصلنا بالفعل على حوارات خاصة سجلها معها الأستاذ الطاهر في ذاك الزمان وأستمعنا إليها عدة مرات في أزمان لاحقة لكن ليس من ضمنها القصيدة. أتمنى أن يعثر الطاهر على التسجيل. هذا التسجيل أهميته تتأتى من أن جدتي غير قارئة وقد تلقت النسخة التي تحفظها عن ظهر قلب عن أمها التي نقلتها بدورها عن أمها والتي نقلتها من جدتها بنونة بشكل حرفي ومباشر أو كما قالت "حبوبة".

    ووجب هنا التنبيه أن جل المصادر الكتابية على قلتها فيما يتعلق بهذا الضرب من التراث مسجلة من مصادر شفاهية بالضبط مثل حال جدتي. بعد كل هذا لا أستطيع الآن إلا أن أتخلى عن زعمي بأن صدر المرثية بنسختها الواردة في مقالي "حلقة رقم 10" من أصل القصيدة وأنصاع كما يجب للرأي الغالب الذي يرد الأبيات لشاعر البطانة الفذ "الحردلو" وإلى حين إشعار آخر. وشاكراً كل الصحاب والمهتمين الذين تبرعوا بتصحيحي على صفحتي بالفيسبوك وفي موقع الراكوبة الموقر. ومثل هذا الفضل في الحقيقة هو هدفي المعلن من النشر على أكبر نطاق ممكن إذ أنني عكفت أكتب في السابق كل الحلقات المعنية فقط على صفحتي بالفيسبوك ولمدة عدة شهور.

    فكفكة شفرات التراث الشعبي والفلكلوري:

    مرثية بنونة كما أبيات الحردلو وما يشابهها تنطوي على قيم محددة ذكرناها من قبل من أهمها "الشجاعة والكرم". وقد قلنا أن تلك القيم التاريخية تقف في تضاد مع قيمة "الإنسانية" وهي قيم العشيرة والقبيلة وعلى وجه الإطلاق قيم وشائج الدم وتقف في الضد من حقوق المرأة بالمعنى العالمي لحقوق الإنسان.. راجع لطفاً المقال المعني "حلقة 10".

    التعرف على الشفرات التراثية عبر فكفكتها وفرز سبكها سيؤدي بنا إلى شيئين مهمين: التعرف على الخلفية النفسية لذواتنا بخيرها وشرها كما تشخيص الحالة المرضية الجمعية التي تتلبس مخيلة معظمنا وتسقط بالتالي في أفعالنا بصور عديدة في الإجتماعي والسياسي واليومي. من ضمن عناصر هذا التراث الشعبي التي يجب أن تبقى مستهدفة بالبحث هو "التاريخ" التاريخ الفاعل الذي يشكل وعينا وهو ما دعاني إلى نبش موضوع مجزرة العنج المفترضة في منطقة أم أرضة. أي أزعم أنني لا آخذ التراث الشعبي "بنونة مثالاً" للفخر والحماس الآني الزائف وكأنها حفلة ظار أو إستخدام التراث في التعبئة السياسبة أو التهرب من المحاسبة والمسئولية العامة كما يحدث من الكثيرين. الهدف هو الوعي بالذات والآخر:
    التاريخ للحقيقة والمصالحة!.

    في ختام هذه العجالة أجدد شكري وفائض إمتناني لجميع من شاركني الرأي وفق وسائله ووفق وعيه وفهمه ولغته الخاصة وقد وصلتني عدة رسائل مجتهدة عبر البريد الإكتروني منها رسالة هامة لشاب يسمى شعبان محمد شعبان من أبناء قرية القراصة بالنيل الأبيض يؤكد عبرها حكايات تاريخية تقول بآثار مرئية للعيان يرجع أصلها للعنج منها جرار مليئة بالذهب مدفونة تحت الأرض في مواقع مختلفة وهذا الأمر تحدثت عنه جدتي بصورة مكثفة وطوال حياتها وهي ذاتها قالت أنها في صباها الباكر وجدت برمة صغيرة مليئة بالذهب أيام طفولتها!. سأقوم بنشر رسالة شعبان في سانحة أخرى.

    ملاحظة:أدناه مقالة لي كتبتها عام 2009 كبداية لتفكري الخاص في إمكانية سبر غور التراث الشعبي بطريقة غير هيابة من أجل معرفة ذواتنا وغسل ما بها من غبار التاريخ السحيق من أجل مستقبل أكثير أمناً وسلاماً وتصالحاً مع الذات والآخر. وفي وقت لاحق حاولت القيام بدراسة (عملت عليها لمدة خمس سنوات) أسميتها "سايكلوجية الزول السوداني" منشورة بمنبر سودانفوروول إضافة إلى أخرى تحت عنوان: "الإنسان والمجتمع والدولة في السودان نحو أفق جديد". أرفق المقالة المعنية "أدناه" لظن مني أن بها ما يتعلق بشأننا هنا.

    تحياتي

    محمد جمال

    حلقة (1) الانسان و المجتمع المدني في السودان

    اكاد اجزم ان لا احدا يتسطيع ان يكتب عن المجتمع المدني في اي مكان على وجه الارض دون ان يبدأ بتعريف القارئ المفترض عن ماذا يعني "هو" بعبارة " المجتمع المدني"!.
    والسبب بسيط، لا يوجد تعريف مانع جامع للمجتمع المدني. وانا لن اكون هنا الا احدهم، ما دمت ساكتب شيئا ما عن المجتمع المدني. اعني انني ساحاول تعريف المجتمع المدني. بل اكثر من ذلك ان محاولتي هذه قائمة على اساسين الاول هو تعريف المجتمع المدني في السودان والثاني هو التعرف عليه عمليا عبر تجلياته (تمظهراته) المختلفة ومكانة الفرد من هذه التمظهرات، وفق افتراضاتي الذاتية التالية:

    كلمة "مدني" مقابلة لكلمة "رسمي". المدني هو كل ما دون الدولة، والرسمي هو كل ما دون المدني. فالمجتمع مدني في مقابل الدولة ( المجتمع الرسمي). وعليه فان كلمة مدني في عبارة "المجتمع المدني" لا تكون مرجعيتها في كلمة "مدينة" كما هو شائع وانما تكون بمعنى "أهلي أو شعبى". وعلى هذا النحو يكون المجتمع مدني في الريف وفي المدينة على حد سواء. ويسمى المجتمع المدني في المدينة: "المجتمع المدني المديني". ويسمى المجتمع المدني في الريف: "المجتمع المدني القروي أو الريفي". و يتمظهر المجتمع المدني عمليا بشكل هيكلي (منظمات) مرة وبشكل لا هيكلي مرة أخرى (أحداث متكررة) في مقابل الدولة المتمظهرة على وجه العموم في خمس اشكال رئيسية هي الجهاز التنفيذي (الحكومة)، الجهاز التشريعي، الجهاز القضائي، المؤسسة العسكرية (الجيش والبوليس والامن)، والخدمية المدنية. وتستطيع الدولة بدورها ان تتمظهر بشكل غير هيكلي لكن ليس بنفس قدرة المجتمع المدني. كما انه لا يوجد شكل واحد وثابت للمجتمع المدني (لا في الريف ولا في المدينة) بنفس القدر الذي لا يوجد فيه شكل واحد وثابت من أشكال الدولة. وفرضيتي الاخيرة هي ان السمة الغالبة للمجتمع المدني هي التضحية بجهد الجماعة لمصلحة الفرد ("كشف المأتم" مثالا) و السمة الغالبة للدولة هي التضحية بجهد الفرد لمصلحة الجماعة (الضرائب مثالا).

    نظرة في المصطلح:

    لماذا لا يوجد تعريف متفق عليه للمجتمع المدني، ليس في هذا الزمان فحسب بل في كل الازمنه وليس في السودان فحسب بل في كل الامكنة. الجواب عندي لانه لا يوجد مجتمع مدني واحد يحمل نفس الصفات والمواصفات ويتمظهر بنفس النسق والمنوال، ثم ان المصطلح "في سياقه الاكاديمي" حديث نسبيا" ظهر اول ما ظهر عقب نشوء الدولة الوطنية في أوروبا الغربية وهي الشكل الحديث للدولة (الوحدة الجغرافية/السياسية/الاقتصادية المحددة والمعترف بها) والتي من المفترض ان قاطنيها الاصليين امتلكوا حق البقاء بها على اساس واحد هو المواطنة لا غير. وعلى اساس ذاك المبدأ الراسخ، يتمتعون بحقوقهم ويؤدون واجباتهم. الدولة الوطنية لم تكن معروفة في التاريخ وبالتالي ما كان ممكنا الحديث عن المجتمع المدني قبل ذلك، على الاقل بالوضوح الذي نفعله في زماننا هذا.

    قولي بانه لا يوجد مجتمع مدني واحد، افتراض يؤيده الواقع. كيف؟.

    لا سبيل الى معرفة تلك الحقيقة الا بملاحظة تجليات "تمظهرات" المجتمع المدني "المفترض" في دول مختلفة وامكنة مختلفة وفي الريف والمدينة داخل الدولة الواحدة ومقارنة تلك التمظهرات ببعضها البعض. عندها سنجد ان المجتمع المدني مثل بصمات الاصابع لا يتكرر مرتين ولا يتطابق ابدا في اللحظة التاريخية المحددة. وبهكذا زعم سأنأ بنفسي قدر الامكان عن الاستعانة بالتعريفات المعلبة والجاهزة. ولهذا وضعت (اعلاه) محددات او خطوط عريضة مسبقا لمحاولتي التعرف على المجتمع المدني (المجتمعات المدنية في السودان) في مقابل الدولة. استطيع ان أقول بشكل مبدئي، ان المجتمع المدني في السودان ينقسم في كتلتين تتوازيان مرة وتتقاطعان في بعض المرات، تختصمان في لحظة ما وتتصالاحان في لحظة اخري، في نفس الوقت الذي يعتمل في داخل كل منهما مجموعة من التناقضات الذاتية بفعل اختلاف اواختلال منظومة القيم الواقفة وراء تمظهرهما( أي ان كل كتلة في ذاتها تتراكب من جزيئات تتشابه حينآ و تتمايز تراكيبها بعضا عن بعض أحيانآ آخرى). هذان المجتمعان يتمثلان بشكل مجمل في المجتمع المدني "المديني" والمجتمع المدني " القروي" او الريفي. ولكل منهما تمظهراته المختلفة عن الاخر، ومنظمومة قيمه الخاصة. سأحاول في هذه العجالة ان اعطي مساحة خاصة نهاية هذا المقال لشرح ما اقصده بمنظومة القيم هذه.

    التعرف عمليا على المجتمع المدني:
    كيف يتمظهر المجتمع المدني ويتمايز في الريف وفي المدينة؟.

    أي كيف نستطيع ان نمسك به، نراه بأعيننا ونلمسه بأيدينا في بلد مثل السودان. ثم نقول بعد ذلك هذا هو مجتمنا المدني السوداني المشابه او المتمايز والمختلف عن بعضه البعض وعن المجتمعات المدنية الاخرى في الدول الاخرى (مثلا انغولا، الفلبين، الهند، البرازيل، البرتغال والمانيا).
    من المفترض ان السودان دولة حديثة "دولة مواطنة" يقطنها حوالي اربعين مليون نسمة يتوزعون في المناطق الجغرافية والمناخية المختلفة بحسب تقسيم اداري محدد من صنيعة الدولة (ولايات) ويسكن الناس كما في كل ارجاء العالم في قرى (الريف) ومدن (الحضر) ويقومون بانشطة اقتصادية واجتماعية محددة تختلف قليلا او كثيرا من قرية الى قرية ومن مدينة الى مدينة، غير ان الطابع الاساسي لانشطة القرية الاقتصادية في السودان عادة لا يخرج عن ثلاث احتمالات (احدهما اوجميعهما في ان واحد): الزراعة، الرعي والصيد. وانشطة المدينة الاقتصادية غالبا ما لا تخرج عن ثلاث احتمالات: التجارة والصناعة والخدمات.
    تلك صورة مختزلة وعريضة جدا، لا تفيد كثيرا في الاجابة على السؤال الذي حددناه اعلاه: كيف يتمظهر المجتمع المدني ويتمايز في الريف وفي المدينة. لكننا بالطبع نستطيع ان نأخد عينات للفحص المخبري!.
    سأختار ابتداءا بطريقة عشوائية قرية محددة وحي محدد في مدينة محددة ثم نتصور لحظة زمنية محددة لنرى كيف تنتظم الحياة تلكم القرية وذاك الحي المديني. (اود ان انبه من جديد بان المجتمع المدني يتمظهر هيكليا من ناحية في شكل منظمات (نقابات، اتحادات، اندية، عشائر، طوائف الخ) عندها نظم وقيم ولوائح ويتمظهر لا هيكليا في شكل احداث من وراءها اعراف وقيم وسوابق مثلا في الاعراس والمآتم والنفير. لننظر في المثال الاول التالي.
    شبشة الشيخ برير (قرية سودانية تقع على الضفة الغربية للنيل الابيض بالقرب من مدينة الدويم)
    كيف تكون الحياة هناك؟. قد يكون لاحدكم فكرة احسن مني، وبالطبع لاهل شبشة الشيخ برير فكرة عن حياتهم احسن منا جميعا. لكنني أستطيع ان اتصور بالاحالة الى الصورة النمطية للقرية السودانية في الوسط النيلي كيف تكون الخطوط العامة لحياة الناس اليومية. وفي نهاية المطاف سأحاول عقد مقارنة بين شبشة الشيخ برير وحي العمارات المعروف في العاصمة الخرطوم. كيف يتمظهر المجتمع المدني هيكليا ولا هيكليا في شبشبة الشيخ برير؟.

    في احد ايام الاسبوع جرت في شبشبة الشيخ برير الاحداث التالية:

    رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى القرية ثم اجتمع بعضهم في دار احد شيوخ القرية فتحدثوا عن زرعهم ورعيهم وصيدهم، سقط جدار احد بيوت سكان القرية بفعل السيول والفيضانات فقرر بعض فتيان وفتيات القرية بناءه تطوعا، شب حريق كبير في مدرسة القرية الابتدائية فهرع جمع من الناس لإطفاءه تطوعا، لعب فتيان القرية كرة القدم، ، اجتمع رجال عشيرة بني دويح في دار شيخهم للتفاكر حول نزاع نشب على قطعة ارض بين اثنين من رجال العشيرة ، نظمت نساء القرية "ختة" (ادخار لبعض المال)، ذهب البعض للصلاة في المسجد، وحلقة مديح نبوي في "المسيد" ، لعب بعض الشبان الورق " كتشينة"، بعض الفتيات عملن على تدريب احد العروسات على الرقص "رقصة العروس"، اقام بعض الشبان حفلة "حنة" لاحد فتيان القرية، كانت هناك مناسبة زواج، لعب الاطفال شليل، وكان هناك مجموعة من الشبان يتعاطون الخمر (قعدة) ، تعقب بعض الشبان سارق فاوسعوه طربا حتى الموت تطوعا، داهم احدهم مرض عضال فسارع بعض الناس الى حمله الى المستشفي التخصصي في اقرب المدن (تطوعا) لكنه مات فتجمع كثير من الناس لدفن الجنازة (تطوعا) واقاموا له مأتما للعزاء (تطوعا).

    هل تجري نفس الاحداث بذات النسق والمنوال في حي العمارات في مدينة الخرطوم (العاصمة)، فنقول كما قلنا اعلاه: في احد ايام الاسبوع جرت في حي العمارات الاحداث التالية:
    رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى حي العمارات ثم اجتمع بعضهم في دار احد شيوخ الحي فتحدثوا عن زرعهم ورعيهم وصيدهم، سقط جدار احد بيوت سكان حي العمارات بفعل السيول والفيضانات فقرر بعض فتيان وفتيات الحي بناءه تطوعا، شب حريق... الى آخر الاحداث المتصورة (اعلاه) والتي جرت في شبشة الشيخ برير. هل نتصور انها جرت بالكامل في يوم من الايام في حي العمارات؟.

    تلك احداث طبيعية في قرية ما (مثل شبشة الشيخ برير وغيرها من القرى النائية البعيدة). لكن ربما شعر المرء ان الوقائع المتصورة اعلاه لا يمكن ان تجري جميعها في شبشة الشيخ برير وحي العمارات بنفس النسق والمنوال. كونها جرت جميعا في شبشة الشيخ برير قد يبدو منطقيا، لكن بعضها لا يمكن ان يحدث في حي العمارات، بمعنى ان حدوثها جميعا في حي العمارات ليس منطقيا. شي طبيعي جدا ان يقول قائل رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى القرية ثم اجتمعوا في دار احد شيوخ القرية فتحدثوا عن زرعهم ورعيهم وصيدهم، لكن ليس من المتوقع ان يقول رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى حي العمارات في قلب العاصمة السودانية الخرطوم. الاكثر منطقية هو ان يقول القائل رجع التجار والصناع والافندية الي منازلهم في حي العمارات نهاية اليوم ثم ذهب بعضهم الى نواديهم (دورهم) المتخصصة فتحدثوا عن تجارتهم وصناعتهم وخدماتهم ويكون الانتماء الى احد هذه الدور قرارا فرديا وطوعيا. كما انه اذا سرق السارق في حي العمارات ففي الغالب الاعم ان صاحب الشي المسروق وحده يتصل ببوليس النجدة وليس من المحتمل في الاحوال العادية ان يجد من يطارد له السارق ويقتله، والمريض يتصل هو او اهله بعربة الاسعاف واذا شب حريق يتم استدعاء المطافيء. واذا سقط جدار بيت باي طريقة فان صاحبه وحده هو الذي يعيد بناءه او شركة التأمين ففي عداد المستحيل ان يتجمع شبان الحي لمساعدته تطوعا، نساء الحي مثل رجاله يدخرن (او يستثمرن) ما فاض من اموالهمن في البنوك، وغالبا ما يلعب الشبان الورق في النادي الرياضي الثقافي وهو من المتوقع ان يكون نفس النادي الذي ينظم تمارين كرة القدم في الحي ويكون الانتماء الى هذا النادي قرارا فرديا وطوعيا، كما انه من في حساب المستحيل ان يجتمع رجال عشيرة بني دويح او جعل في دار شيخهم في حي العمارات اذ ان سكان العمارات لا يتقسمون في شكل كتل عشائرية واضحة كما هو حادث في شبشة الشيخ برير واذا حدث نزاع ما بين شخصين حول قطعة ارض فالغالب ان تكون تلك مهمة المساح الشرعي ثم القضاء (البوليس و المحكمة)، وليس من المتوقع ان يلعب اطفال حي العمارات لعبة شليل التي تحتاج الى ضوء القمر (لا لمبات النيون) بالاضافة الى فسحة مكانية بواصفات محددة قد لا تتيحها طبيعة حي العمارات مسفلت الطرقات كما ان لاطفال حي العمارات العاب اخرى تعودوا عليها.

    قد تكون هناك احداث تجري بنفس النسق والمنوال، لكنها قليلة، وهناك احداث تجري بذات النسق لكن ليس بذات المنوال والعكس صحيح. لماذا؟. سنجاوب على هذا السؤال لاحقا. لا اود ان ادخل في مقارنات الان. لنؤجل هذا السؤال برغم الحاحه مؤقتا، فالنغيب حي العمارات كلية من ذاكرتنا الان، ونركز اولا في شبشة الشيخ برير ثم نرجع الى حي العمارات لاحقا. كيف تنتظم هذه الاحداث القرية "هنا المثال قرية شبشة الشيخ برير". ما هي القوة الدافعة والاسباب. لنأخد سبع امثلة بشكل انتقائي، او قل لنعمل التفكير والخيال في سبعة احداث، جرت على الوجه التالي: بناء الجدار طوعا، اجتماع عشيرة بني دويح، كرة القدم، "الختة"، الحنة، شليل ومراسم الجنازة. ولنأخذ من هذه الامثلة حدث واحد لتحليله ما امكن، وليكن في هذه العجالة " مراسم الجنازة". عندما تحدث وفاة احد البالغين في شبشة الشيخ برير، صغيرا كان او كبيرا، وبغض النظر عن موقعه الاجتماعي ونشاطه الاقتصادي، تحدث نفس الاشياء على الدوام. يجتمع الرجال حول الجثة يمارسون الشعائر المجمع عليها و يغسلون الميت ويكفنونه وفق الاعتقاد المسلم به، وبالجانب الاخر يبكين النسوة بحرقة على اثر الوداع. ثم يحمل الرجال الجسد على سرير من اربع ارجل وعلى كل رجل من ارجل السرير رجل من الرجال يتبادل مع الاخرين المهمة في طريقهم الى المقبرة فيحفرون حفرة عميقة تسمى القبر يوضع فيها الجسد ثم يدفن، ثم يرجع الناس الى بيت المتوفي فيضربون خيمة للعزاء "صيوان" لمدة ثلاث ايام او يزيد، يمارسون الشعائر المتعارف عليها ويواسون افراد اسرة المتوفي، ومن اهم الاشياء يتبرعون بالاموال حسب الاستطاعة. وذلك مجرد حدث واحد من كل تلك الوقائع العديدة والمتكررة بنفس النسق والمنوال. ففي رقصة العروس مثلا لا بد ان تكون هناك آلة موسيقية "غالبا دلوكة"، الدلوكة مفترض ان تكون محفوظة في مكان محدد، مسئولية بنت او امراة محددة (طوعا) تخرجها فقط عن اللزوم والحوجة، تأتي المبادرة من احداهن والعمل جماعي (والمقصود هو العروس) التضامن مع العروس من اجل تدريبها على فعل محبذ عند الجماعة (رقصة العروس) ثم سعادتها واشاعة البهجة والفرحة في نفسها. نفس الشي مع اختلاف طفيف في الشكل الخارجي يحدث في حالة الجنازة. أدوات الحفر غالبا ما تكون مسئولية شخص محدد (طوعا) والكفن وغسل الميت (مبادرات فردية) لكن في النهاية العملية كلها تتم بشكل جماعي (حيث يتوافد الناس من كل الفجاج بشكل يبدو تلقائيا جدا) يفعلون كل تلك الاشياء بانسجام تام ويدفعون مساهمات مادية " كشف الفراش". والمقصود هم ابن المتوفى او بنته (على سبيل المثال) والحي ابقى من الميت في المثل الشائع. وكذا واقعة الحنة تختتم بمساهمات مادية والمقصود هو العريس المرتقب (امنه وسعادته ورفاهيته). و في كل الاحوال هناك شكل تنظيمي ما (سلس ومحكم)، كما ان هناك قواعد جماعية متفق عليها (مسلمات غير قابلة للنقاش) نجدها عند النظر (الملاحظة) بتمعن في جميع الاحداث والوقائع التي حدثت وتحدث وستحدث في شبشة الشيخ برير.

    الملاحظة الاولى ان كل هذه الاحداث من وراءها جماعة لا فرد. قد يكون من خلفها مبادرات فردية لكن كل هذه الاحداث صغيرها وكبيرها تقيمها في نهاية المطاف جماعة من الناس كما هو واضح وفق نسق محدد.

    الملاحظة الثانية ان كل هذه الافعال الجماعية الهدف الاساس (الغاية) منها هو الفرد المفرد (عيشه، امنه ورفاهيته) عبر وسيلة محددة هي التضامن (توحيد الجهود).

    الملاحظة الثالثة ان كل او معظم هذه الاحداث تجرى بشكل تلقائي وفق قواعد مسلم بها في معظم الاحوال.

    الملاحظة الرابعة ان كل هذه الاحداث تجري في فضاء طوعي، غير الزامي (بلا سلطة مادية ملزمة تستطيع ان توقع العقاب " العذاب" بادوات مادية أو تجزل الثواب) ولو ان هناك منظمومة قيم ومعتقدات ومسلمات تدفع الفرد دفعا الى الفعل (طوعا) في اطار نسق محدد مرسوم سلفا في المخيلة الجمعية.

    والملاحظة الخامسة والاخيرة ان هذه الاحداث تحدث في حل عن الدولة. كما نلاحظ بوضوح غياب كلي او جزئي لعربة النجدة، عربة الاسعاف، عربة المطافيء، البنك، شركة التأمين، القضاء، والبوليس. فالجماعة تقوم بكل الواجبات.

    في حي العمارات الصورة مختلفه جدا. اول ملاحظة تظهر بحدة تتمثل في أن الفرد (الانسان الواحد) هو الذي يطغى على المشهد. الفعل الجماعي (بصورته الشبشية) شبه غائب. دور الجماعة وواجبها تم استبداله بدور عربة النجدة، عربة الاسعاف ، عربة المطافيء، البنك، شركة التأمين، القضاء، والبوليس، نادي الفتنس، نادي المهندس، نادي الكذا ودار الكذا. لا حوجة لدور الجماعة، لا توجد ثقافة الجماعة. الفرد لا يغضب من الجماعة، لا يرجو شيئا من الجماعة كما انه لا يفخر ابدا بالجماعة اذ ان الجماعة غائبة من ذاكرته كليا. انه هو لا غيره، هو هو وهو كل شيء، انه الفرد الصمد. وبالتالى عندما يتحدث ذلك الانسان "الانا" لا يبدأ حديثه الا ب "أنا".

    في شبشة الشيخ برير، عندما يتحدث احدهم عن نفسه ففي الغالب لا يتحدث عن نفسه مستخدما الكلمة "أنا"، بل يقول نحن (نحنا او احنا)!. نحن اولاد رجال، اولاد قبائل، اولاد بلد، اولاد عز، انا ود ناس فلان (مش ود فلان). وعندما ينشد الواحد منهم الاشعار ربما انشد: ( نحن اولاد بلد نقعد نقوم علي كيفنا في لقا في عدم دايمآ مخدر صيفنا نحن أب خرز بنملاهو و بنكرم ضيفنا. و نحن الفوق رقاب الناس مجرب سيفنا). وهذا شي منطقي. اذ ان الجماعة في شبشة الشيخ برير في خدمة الفرد (منذ لحظه ميلاده، طفولته، صباه، شبابه، كهولته، الى لحظة مماته)، بالمقابل فان الفرد يقدس الجماعة وهو بدوره يستطيع التضحية من اجلها ما دعت الضرورة كأن يذبح الرجل بنته العزيزة بالسكين جراء خطأ أقترفته سهوآ غسلا للعار الذي قد يلحق بالجماعة. في شبشة الشيخ برير "الانا" تأخذ عظمتها من عظمة الجماعة، فهي "أنا" ضخمة ضخامة الجماعة لكنها غائبة في رمزيتها، غائبة في ال "نحن".

    في شبشة الشيخ برير احساس الفرد بالفرد الاخر عالي جدا، فعلى سبيل المثال فان الناس يتبادلون التحيايا بحرارة وصدق فائق، ويبكون بحرقة عندما يسافر احدهم بعيدا ويبكون من جديد فرحا بعوده. فالفرد عنصرا مقدسا لا لذاته بل لكونه ينتمي الى الجماعة المقدسة، هو جزءا لا يتجزء من الجماعة، تلك الجماعة النازعة في كل لحظة للتضحية من اجل الفرد. وفي حي العمارات لا أحد يحي الاخر في الشوارع الا لماما وحسب مقتضيات الضرورة فيقول له ما يشبه "هالو" الانجليزية وهو ماض في حال سبيله. فالاخر في العمارات شي قائم بذاته ولذاته. فالفرد كائن متحرر كلية عن قبضة الجماعة. فان فعل فعلا مع الجماعة يفعله طوعا وبوعي موضوعي ومن اجل هدف واضح وآني. كأن ينضم مثلا الى عضوية نادي المهندس او اتحاد التنس، يتصرف وفق لوائح مكتوبة، يدفع اشتراك شهري او سنوي او لا يدفع حسب النظم واللوائح ويستطيع في اي لحظة ان يوقف عضويته والعكس صحيح فالنادي او الاتحاد المحدد يستطيع حسب النظم واللوائح ان يلغي عضوية الفرد من سجله في اي لحظة. لكن ليس من المنظور ان يحدث نفس الشي بالنسبة لعشيرة بني دويح في شبشة الشيخ برير. اذ ان العضوية بالميلاد والدم، قدرية لا فكاك منها الا بالدم. وكذا اشكال التنظيم (الاخرى) الطبيعية (كالقبيلة) والتقليدية (كالطائفة الدينية) مع اختلافات طفيفة في حدة المواجهة مع الجماعة في حالة نشوذ الفرد. ف "الأنا" في شبشة الشيخ برير "أنا" سالبة، وخاضعة ل "نحن" و "الأنا" في حي العمارات "أنا" موجبة وفاعلة لا تكترث بال "نحن".

    تلك الاحداث التي جرت وتجري في شبشة الشيخ برير تحدث بنفس النسق والمنوال في جميع القرى الاخرى المشابهة في الارياف القريبة والبعيدة. وما ننقله من صورة هنا ما هو الا محاولة تقريبية للصورة النمطية للقرية او توقعنا لها. مع علمنا التام ان التفاصيل قد تختلف بشكل او اخر من قرية الى قرية في ارياف السودان النيلي، ناهيك اذا ما ذهبنا بخواطرنا ابعد من ذلك وتحدثنا عن الريف في جنوب السودان وفي شرقه وفي غربه البعيد، في تلك اللحظه ربما نواجه باقدار واحداث اخرى مختلفة جدا. بمعنى ان المجتمع المدني في تلك الارجاء يتمظهر هيكليا ولا هيكليا بطرق قد تكون مختلفة جدا عن تمظهره في شبشبة الشيخ برير. كما ان المجتمع المدني قد يتمظهر بطريقة مختلفة من مدينة الى مدينة (مثلا الخرطوم، امدرمان، كوستي، مدني، الابيض، جوبا، ونيالا)، بل فان المجتمع المدني قد يتمظهر هيكليا ولا هيكليا بطرق مختلفة من حي الى حي في المدينة الواحدة. وربما اسعى الى شحذ خواطركم في هذه اللحظة لتتمعنو معي في امكانية تمظهر المجتمع المدني في حي الديوم الواقع على مرمى حجر من حي العمارات الذي تحدثنا عنه هنا، لاجل عقد مقارنه عاجلة بين المجتمع المدني في الديوم والعمارات كحيين متجاورين في نفس المدينة. فالاحتمال وارد ان نجد اختلاف بائن في شكل تمظهر المجتمع المدني في الحيين. ناهيك عن تمظهرات المجتمع المدني في افاق اخرى بعيدة مثل انغولا، الفلبين، الهند، البرازيل، البرتغال والمانيا.
    كما حاولت ان اشرح في اللحظات الفائتة كيف ولماذا تكون "الأنا = الفردانية" أعلى من ال "نحن = الجماعة" في العمارات والعكس صحيح بالنسبة لشبشة الشيخ برير نسبة للعوامل المحددة التي حاولت استبيانها في سياق المقارنة سالفة الذكر وسأقوم بالقاء مزيد من الضوء عليها في ختام هذا المقال. ساقوم هنا ايضا بذكر "قفشة" منتشرة على نطاق واسع. تقول القفشة "الشعبية": ان اولاد حي العمارات عندما يحدث وان يزورا حي الديوم وبعد انتهاء زيارتهم تقوم بنات الديوم بمهمة وداعهم (تقديمهم) اي الذهاب معهم في طريق عودتهم الى منازلهم بحي العمارات خوفا عليهم من عارض الطريق ولطفا بهم. انتهت المقولة. هذه المقولة التي انتجها عقل "ديامي بحت" وجدت صدى واسع واصبح يرددها كثير من الناس من باب التندر والخ. اذا نظرت الى فحوى هذه المقولة ستجد انها تنطوي على عدة مفاجئات واسرار ولا تخلوا من المآزق.

    وهذا نفسه السر من وراء انتشارها برغم ما يبدو عليها من بساطة وتبسيط. للوهلة الاولى تتبدأ هذه المقولة بشكل زائف كمظهر من مظاهر الصراع الطبقي في عرف الماركسيين، خصوصا انها صادرة من اضابير الديوم وما اشتهروا به من مؤازرة الحزب الشيوعي السوداني. غير ان الامر عندي ليس كذلك. خصوصا اذا اتفق حدسي وكان الهدف من وراء المقولة الطعن في رجولة اولاد حي العمارات كونهم منعمين (نعومة ودعة) من قبل سهولة العيش في مقابل رجولة اولاد الديوم من قبل شظف العيش الذي يقتضي بالضروري "الخشونة" بحسب المضمر من المقولة. ولو ان حتى هذه اللحظة هناك شبهة صراع طبقي، غير انه بقليل من الخطوات للامام ستنبهم حقيقة الصراع الطبقي وتتعرى حقيقة جديدة تكمن في ثقافة القرية ونستطيع ان نقول القبيلة. ولا يمكن للمرء ان يتصور بسهولة ان في الادب الماركسي مجالا لوصف البرجوازي بالنعومة فهو في كل الاحوال مصور كوحش في الروح وفي الجسد.
    اول الملاحظات في اتجاه هذه المقولة هي غياب "الانا" فيها مع حضور طاغي لل "نحن". نحن اولاد الديوم، نحن بنات الديوم. تلك ال "نحن" من صناعة شبشة الشيخ برير. فالديوم بحسب المقولة كتلة صماء غير قابلة للتقسيم (جماعة ذات قيم وعزة وكرامة وكمان ماركسية) لدرجة ان اولادها يستقبلون اولاد العمارات لكنهم يتأففون من وداعهم لعلة فيهم هي النعومة بحسب المقولة، مما يخرجهم من مصاف الرجال كاملي الرجولة وفق الفهم الديامي للرجولة، فمن صفات الرجال "الخشونة" كما تفترض الاسطورة الريفية "الضكرنة"، ولهذا السبب فان بنات الديوم يقمن بالمهة نيابة عن رجال الديوم باعتبار ان رجال العمارات لا فرق بينهم والنساء، فاولاد الديوم على سبيل المثال يستقبلون ويودعون في نفس الوقت اولاد حي الامتداد، لكن اولا العمارات "لا. هناك وخز ما!.

    وبالطبع ليس المقصود المعنى الحرفي للعبارة بان اولا العمارات غير اسوياء ولكن المقصود هو الحرب النفسية من ناحية ومحاولة تعلية قيمة الذات من ناحية أخرى باضافة وزن قيمي جديد متخيل للجماعة (من قبيل اولادنا رجال يأكلوا النار بمعنى انهم "ضكور"). هذه الثقافة لا تقوم بدون سند محدد، هذا السند هو الجماعة ( الاحساس العالى بروح الجامعة ال "نحن")، منظمومة قيم قديمة شديدة الرسوخ جيء بها من القرية فعاشت في ضمير الجماعة كل الوقت وظلت تتحكم في سلوك الفرد المفترض فيه المدينية كونه ولد ويعيش في المدينة. فبالاحالة الى الاحداث التي جرت في شبشة الشيخ برير نجد ان كثير من تلك الاحداث تستطيع ان تجد مكانها بسلاسة في الديوم، ولن يصيب الكثيرون الاستغراب اذا ما قال احدهم: رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى حي الديوم ثم اجتمع بعضهم في دار احد شيوخ الحي فتحدثوا عن زرعهم ورعيهم وصيدهم، سقط جدار احد بيوت سكان الديوم بفعل السيول والفيضانات فقرر بعض فتيان وفتيات الحي بناءه تطوعا، شب حريق... الى آخر الاحداث المتصورة (اعلاه) والتي جرت في شبشة الشيخ برير. فالنتصور انها جرت بالكامل في يوم من الايام في الديوم.

    قد تكون هناك اشياء قليلة لا تبدو ممكنة او منطقية، لكن معظم تلك الاحداث تحدث في الديوم بشكل يومي. وبأي حال من الاحوال لن تكون دهشة المرء كبيرة بذاك القدر الذي يحدث عند عقد المقارنة بين شبشة الشيخ برير وحي العمارات. كل ما اود ان اقوله ان الديوم ترقد في الخرطوم وقلبها في شبشة. اذ ان تمظهرات المجتمع المدني في حي الديوم الذي يبعد بضع امتار عن حي العمارات مختلفة جذريا عن الاخير. كما بالطبع فان تمظهرات المجتمع المدني في حي الديوم ليس بالضرورة مشابهة تماما لتلك التي لشبشة الشيخ برير. وهذا هو سر المفارقة بين العمارات والديوم لا الصراع الطبقي (او قل لا الفوارق الطبقية وحدها). هذه المقارنة ايضا صالحة لاحياء كثيرة في امدرمان ولهذا السبب تجد كثير من الامدرمانيين يحيلون ذواتهم الى مدينتهم، ويجدون فخرا وعزا وكرامة في انتماءهم الى امدرمان (احساس عالى بالجماعة) و"نحن" تطغى على "الأنا".

    تمظهرات المجتمع المدني الهيكلية وغير الهيكلية و ماهية القيم الدافعة والجاذبة من من وراءها وكيف تتشكل القيم الاجتماعية ثم تعمل عملها؟.

    تمظهر هيكلي:

    كما اسلفت الذكر فان المجتمع المدني يتمظهر هيكليا في شكل منظمات عندها اعضاء مسجلون على الورق بغرض انجاز اهداف محدده وفق نظم وقيم ولوائح محددة غالبا ما تكون مكتوبة ومثال هذا التمظهر الهيكلي نجده في شكل منظمات "حديثة هشة، لكنها صاعدة" مثل منظمات حقوق الانسان، الاتحادات، الاندية الرياضية والثقافية و النقابات و يتمظهر المجتمع المدني هيكليا في شكل منظمات "طبيعية راسخة" مثل القبائل والعشائر وعندها نظم وقيم ولوائح غير مكتوبة مثال قبيلة الشلك في جنوب السودان والعشائر المختلفة والاسر الممتدة في المدن والارياف المختلفة. كما يتمظهر المجتمع المدني هيكليا في شكل منظمات "تقليدية سائدة" مثل الطوائف الدينية ( السجادة العركية مثالا) عندها نظم وقيم ولوائح مكتوبة مرة وغير مكتوبة في بعض الحالات.

    تمظهر لا هيكلي:

    يتمظهر المجتمع المدني لا هيكليا في شكل احداث متكررة من وراءها اعراف وقيم وسوابق راسخة في الخاطر الجمعي. وأمثلة تمظهر المجتمع لا هيكليا كثيرة بحيث لا يمكن حصرها ويمكن الرجوع من جديد الى الاحداث التصورية التي جرت في شبشة الشيخ برير (اعلاه) على كل حال فان ابرز هذه التمظهرات غير الهيكلية تتضح في مراسم الزواج وشعائر الجنازة، والحنة والختة والنفير والفزعة بأشكالها المختلفة.

    التمظهرات الهيكلية اكثر وضوحا في المدينة ومثالها النادي، بينما التمظهرات اللا هيكلية اكثر وضوحا في الريف ومثالها النفير والفزعة. ولو ان في كل من الفضائين يتمظهر المجتمع المدني هيكليا ولا هيكليا بنفس القدر ولكن باشكال ولاسباب ودوافع مختلفة.
    قلنا وكررنا ان للتمظهرات الهيكلية نظم وقيم ولوائح وللتمظهرات اللا هيكلية اعراف وقيم وسوابق. انه الحس التنظيمي والقوة الدافعة وراء نشوء وتخلق وبروز هذه التمظهرات الاجتماعية الى السطح الخارجي، فنراها ياعيننا مؤسسات واحداث متكررة في شكل جماعات او تجمعات عندها هدف محدد وتبقى على الدوام او تنزوى ثم تعود الى البروز من جديد في وقت وافق جديدين، مثلها ومثل كثير من الظواهر الطبيعية.

    التمظهرات الهيكلية تبرز وفق نظم (مثل الدساتير) وقيم (اهداف نبيلة او تضامن من اجل مصلحة مؤكدة ومشتركة) ولوائح (مثل تحديد المسائل الفنية) والتمظهرات اللا هيكلية تبرز وفق اعراف (مثل التضامن) وقيم سامية (مثل المروءة والشجاعة والكرم والرجولة) وسوابق (وسائل مجربة وناجعة لانجاز المنفعة الجماعية).

    وفي جميع الاحوال وفي كل الاوقات فان الفعل في سياق المجتمع المدني هيكليا او لا هيكليا يقود الى منفعة محددة تجد تعبيرها في مساهمة مادية نقدية او عينية او بذل الجهد المجاني بهدف جلب الخير او درء الاذى، في فضاء خارج الدولة.

    نظرة سريعة في منظومة القيم:

    من الملاحظ ان في كل من شكلي التمظهر الهيكلي واللا هيكلي لا بد من وجود قيمة اجتماعية او منظومة قيم.

    من اين تأتي هذه القيم؟. وهل تكون لذات المغزى وبنفس القدر في الريف والمدينة؟. وبين الريف والريف الآخر والمدينة والمدينة الأخرى ؟. وكيف تعمل هذه القيم على دفع الظاهرة الاجتماعية المحددة الى العيان؟.

    سابدأ هنا بضرب مثل متخيل. لك ان تتصور معى ان رجلين تبرعا لمعسكر للنازحين بخروفين كل على حدا. احد هذين الرجلين مهندس معماري من حي الصافية بالخرطوم بحري، والآخر راعي اغنام "بطحاني" من منطقة الشوك في شرق السودان. رجع الرجلين الى دارهما في الصافية وفي الشوك بعد أداء هذا العمل النبيل. ماذا سيقول الناس في حي الصافية اذا علموا بالامر؟. الاحتمال الاكبر انهم سيقولون انه رجل "انساني" او "انسان نبيل". بينما اتوقع ان يقول الناس في الشوك عن الرجل الاخر انه رجل كريم. وبنفس القدر فانه اذا حدث وان تبرع ذات الرجلين بمبلغ من المال لمصلحة اطفال المايقوما فان الرجل من الصافية سيبقى انساني، بينما الاحتمال الاكبر ان يوصف الرجل الاخر (في داره بالشوك) بانه رجل شهم وكريم.

    الرجل الذي ساهم في بناء الجدار الذي اسقطته السيول والفيضانات بشبشة الشيخ برير هو رجل شهم وصاحب مروءة. والآخر الذي شارك في اطفاء الحريق فهو رجل "ضكران" و شجاع لكونه واجه الخطر، وذاك الذي دفع مبلغا من المال ل "كشف الفراش" فهو "زول واجب" بمعنى انه صاحب مروءة. وهكذا دواليك فان كل الافعال الجماعية في شبشة الشيخ برير تجعل الفرد موصوفا بواحد او اكثر من القيم الدافعة التالية: الرجولة، الشهامة، الكرامة، الشرف ، الشجاعة، الكرم، المروءة و العزة. كما ان العكس صحيح فقد يوصف الاخر المتقاعس بصفات سالبة ومناقضة من قبيل خائب و########. بينما الرجل من حي العمارات او حي الصافية اذا ساهم في اي عمل جماعي (نقابة المهندسين مثلا) فليس من المتوقع ان تسبغ عليه تلك الصفات بنفس القدر الذي يحدث لذاك الذي في شبشبة الشيخ برير، وغالبا ما يوصف بانه رجل انساني وملتزم ومتحضر، ومن المستبعد جدا ان تصفه احد الفتيات من حي الصافية بانه "ضكران" بمعنى انه رجل ولا كل الرجال!. وذا جلس بعيدا من الجماعة لا يفعل شي فانه لا يوصف بانه رجل خائب او ######## ولكنه ربما يوصف بانه انسان سلبي، لا غير.

    كيف تشتغل منظومة القيم:

    انظر معي في ثلاث امثلة من الواقع. المثال الاول من مدينة هيا في شرق السودان. قيل ان رجلا يقطن قرية حول مدينة هيا في شرق السودان، اثناء ما كان مسترخيا يشرب القهوة في حضور آخرين حدثت فجأة مشادة كلامية صغيرة بينه وآخر من الجماعة، فسبه الاخير قائلا يا إبن القحبة ( قالها باللغة الدارجة!) فما كان من الاول الا ان استل خنجره وغرزه في صدر الثاني فقتله ثائرا لكرامته وكرامة امه. وحكم عليه بالسجن 25 عاما، لكنه طوال هذه المدة لم يندم ولا لحظة، كما ان كثيرا من الناس حوله نظرو ا اليه كبطل. بالنسبة له هو فقد أدى عملا مقدسا، والا ستكون مكانته في الحضيض امام أقرانه ووسط عشيرته كونه سكت على تلويث شرفه!. المثل الثاني شائع جدا وهو غسل العار. حدث ان رجلا من احد القرى حول المتمة و ان حملت بنته الصغيرة سفاحا، فما كان منه غير ان ذبحها بالسكين غسلا للعار، وخرج صائحا وسكينه تقطر دما: "هو نحنا عندنا شنو غير سمعتنا" ويعني شرفنا وكرامتنا. المثل الثالث، يقال ان في احد القرى النائية الواقعة على مقربة من مدينة الدمازين، كان هناك رجل فقير في مقتبل العمر له ابن واحد عمره خمس سنوات، عمل في ليلة دامسة على تخليص فتاة من فم تمساح ذهب بها الى عرض النهر، فاستطاع تخليصها بعد عراك دامي مع الوحش النهري المخيف ودفعها الى البر بحيث رجعت سالمة الى اهلها، الا ان الرجل لاسباب غير معروفة على وجه الدقة ضاع في النهر وحمل تيار الماء جثته بعيدا الى جهة غير معلومة. فاسبغ عليه الناس في غيابه الابدى كل الصفات الحميدة واسمو ابنه ود "الكلس" اسم يدل على منتهى الرجولة و الشجاعة والمروءة والشهامة. وجاء احفاده فكانو "اولاد الكلس" واحفاد احفاده "اولاد الكلس". هذه القصة حكاها احد احفاده وهو شيخ القرية في الوقت الراهن وقال انها حدثت قبل مائة وخمسون عاما خلت.

    في المثالين الاولين نلاحظ ان الفرد ضحى تضحية جسيمة خوفا على تضعضع مكانته وسط الجماعة بفعل الخوف الرهيب من إلتصاق صفة سالبة به "عار" قد يطول نسله وافراد عشيرته ويقلل من فرصه وفرصهم في الحياة وسط الجماعة. وفي المثال الثالث فان الجماعة تكافيء الفرد ذا الولاء الطوعي المطلق للقيم السامية بالاحتفاء به عبر السنين غائبا كجسد وحاضرا في "احفاده" لدرجة انهم اصبحوا زعماء القرية او القبيلة فيما بعد.

    ذاك بالضبط ما يحدث في شبشة الشيخ برير، هناك منظومة قيم دافعة متمثلة في الرجولة، الشهامة، الكرامة، الشرف، الشجاعة، الكرم، المروءة و العزة. هذه المنظومة القيمية تقف خلف تمظهر المجتمع المدني وتبقى مسئولة على الدوام على استمرارية وديمومة تلك التمظهرات سواءا كانت هيكلية او لا هيكلية وهي قيم ال "نحن". بينما في حي العمارات او حي الصافية هناك منظمومة قيم جاذبة نجدها في الايمان بالهدف النبيل والتضامن من اجل تحقيق مصلحة مستركة، وهي قيم "الأنا".
    لاحظ مرة اخيرة كيف تترجم قيم ال "نحن" الى افعال بتتبع مبسط لابيات الشعر " الشعبي" التي ضربنا بها المثل في مكان آخر (اعلاه). هذه هي الابيات والترقيم من عندي : (1- نحن اولاد بلد نقعد نقوم علي كيفنا 2- في لقا في عدم دايمآ مخدر صيفنا 3- نحن أب خرز بنملاهو و بنكرم ضيفنا. 4- و نحن الفوق رقاب الناس مجرب سيفنا)... بقليل من اعمال التفكير سنجد ان القيم السامية الدافعة لتلك الافعال كالتالي:
    1- العزة
    2- المروءة
    3- الكرم، و
    4- الشجاعة .

    وفي كل الاحوال فان كل تلك القيم تصنعها الجماعة وفق عملية تاريخية طويلة ومعقدة تتمدد عبر اجيال بهدف تحقيق مصلحة الجماعة المحددة وضمان معاشها وبقاءها وامنها ورفاهيتها. وتخضع هذه القيم للتبديل والتعديل والتحوير على الدوام بما ينسجم والتغييرات التي تطرى على وسائل تحقيق الهدف بين زمان وآخر ومكان وآخر. لدرجة ان منظومة القيم التي تبدو صارمة ومبدئية ودونها المهج في مكان محدد ولحظة تاريخية محددة (الكرم مثلا) قد تنهار كلية وتختفي بشكل شبه كامل في العمارات والصافية بالخرطوم العاصمة وتحل محلها قيم جديدة اكثر انسجاما مع اجندة الهدف في ثوبه الجديد، فتصبح على سبيل المثال خصلة ذميمة مثل البخل (سالب الكرم) محمدة فيكون ذلك الانسان البخيل في عرف القرية "اقتصادي" في فهم المدينة. كما قد يحدث تحوير للقيمة فيصبح الكرم ذاته (التبرع للنازحين او اطفال المايقوما بالاموال) يسمى انسانية ولا احد يسميه كرما او شهامة في حي الصافية او العمارات بينما في منطقة الشوك هذه الكلمة: ال "انسانية"، قد تبدو غريبة على السامع.

    ويتواصل...

    بقلم: محمد جمال الدين حامد لاهاي/هولندا


                  

04-19-2014, 10:05 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    تعليق "2" جديد حول " مجزرة العنج ومرثية بنونة بت المك نمر".. توصيف وتعريف: الآنثروبولوجي والآركيولوجي والتاريخ، والهوية والآيديولوجيا "؟!".

    محمد جمال الدين [email protected]

    مرة جديدة وربما تكون الأخيرة ننشغل عندها بالتعليق على ردود الأفعال الحميدة قبل أن نبدأ من جديد مواصلة حكايات الجدة "آمنة بت حماد" وهذا "التعليق" يجيء كما السابق (تعريف وتوصيف) من وحي الضرورة التي أرتأيتها في إلحاح بعض الأصدقاء والمهتمين والمتحابين والمتخاصمين والمتحاربين بالحق والباطل من رفاق السكنى فوق رمال الجغرافيا المتحركة التي إسمها "السودان".. (إشارة إلى المقالات السابقة وردود الأفعال حول ما عنون ب"مجزرة العنج ومرثية بنونة بت المك نمر").

    تعريف وتوصيف:
    الآنثروبولوجي إصطلاحاً هو علم الإنسان (دراسة أعمال ونشاطات وسلوكيات الكائن الإجتماعي الراهن ومقارنة المشترك والمتشابه والمختلف من أعماله ونشاطاته وسلوكياته وتفاعلاته مع المجموعات البشرية الأخرى) والآركيولوجي هو علم الآثار (دراسة المخلفات المادية للحضارات الإنسانية الماضية مثل المباني والأدوات والعظام) وعلم التاريخ من المفترض فيه أن يكون "سجل محايد لجملة الأحوال والأحداث التي مرت بها الأحياء والأشياء في الماضي البعيد أو/و القريب".

    خطوة إلى الأمام:
    بهذا أتمنى أن يكون مفهوماً قولي في سياقه أنني تناولت كما سأفعل حكايات جدتي من ناحية آنثربولوجية ليست تحقيق أو سجل تاريخي ودعوت أهل التاريخ ما وجدوا للقيام بواجبهم ما أرتأوا كما الآركيولوجيين حينما جئت بذكر مجزرة مفترضة "في ظني وحدي" للعنج بمنطقة أم أرضة (راجع لطفاً المقالات المعنية التي نشرت بالراكوبة وعلى صفحتي بالفيسبوك في بحر الثلاثة أيام الماضية).

    الهوية:
    من نحن؟. هذا السؤال غير مهم، عندي!. نحن من المفترض بشر وبس نقيم إلى أجل مسمى فوق هذا الكوكب المسمى "الكورة الأرضية) وأي زول حر يكون ما شاء أو يسعى لأن يكون ما شاء!. عايز يكون جده ملك الملوك فهو له، عايز يكون من خلفية أشراف من بيوت الأنبياء فليكن، عايز يكون أفريقي بحت، عربي صرف، فرعوني، هندي، أي حاجة، أي زول حر. الهوية خيار ذاتي محض وحق، وكل له واجبات كما له حقوق في حيز جماعته العرقية أو/و الطائفية أو/و نقابته العمالية كما في إطار الرقعة الجغرافية الكلية أو كما هو مفترض، في زول ما عايز الرقعة الجغرافية الكلية فله حق تقرير المصير "المصير لنا ولسوانا" وهو حق من حقوق الإنسان. وذاك هو فهمي للهوية.

    فهمي للهوية (أختم به هذه العجالة):

    كتبت قبل عدة سنوات خلت أربع مقالات قلت فيها بفهمي الخاص لماهية "الهوية" آذنوا لي لطفاً بالمجئ بها إلى هنا كخاتمة لهذا السرد العاجل ونواصل في المستقبل وشكراً مقدماً لصبركم، مع أسمى معاني الإحترام.

    المقالات المعنية حول "الهوية" لدى الرابط التالي:
    http://splashurl.com/l2pgekw

    محمد جمال الدين
                  

04-19-2014, 10:18 PM

مني عمسيب
<aمني عمسيب
تاريخ التسجيل: 08-22-2012
مجموع المشاركات: 15691

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    سلام يغشاك ود ابو جديري خوي ... وسلام تااااااام للصديق الصدوق ود جمال الدين .

    وتسلم حبوبة آمنة في الدارين ... وسلمت يداك صديقي صاحب القلم الانيق محمد .

    Quote: كوفيتك الخودة ام عصا بولاد
    درعك في ام لهيب زي الشمس وقاد
    سيفك من سقايتو استعجب الحداد
    قارحك غير شكال ما بيقربو الشداد
    يا بُقَّة عقود السم
    يا مقنع بنات جعل العزاز منجم
    ***
    الخيل عركسن ماقال عدادن كم
    فرتاك حافلن ملاي سروجن دم
    وماهو الفافنوس ماهو الغليد القوص
    ود المك عريس خيلا بجن عركوس
    احي على سيفوا البحد الروس
                  

04-20-2014, 09:43 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: مني عمسيب)

    هلا بي بت عمسيب الاصيلة
                  

04-20-2014, 08:27 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    سيرة "العنج" من جديد.. ماذا حدث في التاريخ؟!.

    اليوم صادفت عبر البحث في الإنترنت مقولة شيقة للبروف الراحل عبد الله الطيب (يقولون: العنج البيض الذين سلط الله عليهم دبيبة العنج فاكلتهم في السودان، ولعل العنج لم يكونوا الا سود) البروفيسور عبد الله الطيب..مؤتمر الإستراتيجية القومية الشاملة
    الإثنين 12 ـ 01 ـ 1991م. (http://splashurl.com/omswbxd)

    وتقول جدتي آمنة بت حماد في تسجيل صوتي سابق على كلام البروف بحوالي 15 عام أن العنج أكلتهم العقرب الطيارة بمنطقة أم أرضة شمال جبل أولياء.. تسجيل الطاهر جمال الدين 1977.. انظر الرابط "أدناه" حكايات مع حبوبة "آمنة بت حماد".. حلقة "12"
    هياكل عظمية بشرية في العراء "هل هناك سر"؟!.
    http://splashurl.com/o8woojv

    كما انظر أيضاً: تعليق على خلفية "مجزرة العنج ومرثية بنونة بت المك نمر"
    http://www.sudaneseonline.com/articles-action-show-id-48401.htm

    حكاية عجيبة.. هؤلاء العنج وفق الإسطورة إما أكلتهم العقرب أو الدبيبة!.. إنه لأمر يستحق
    التأمل "!؟".

    لحظة تأمل: أتصور أن رمزية العقرب والدبيبة في الميثولوجيا العنجية هي سر الإخفاء "الماسك" الذي يختبي حوله العنج وفق مبدأ تقية هو الأول من نوعه في التاريخ.. وأن العنج هم هناك هذا اليوم وهم كلنا في لباس جديد أقتضته الضرورات بعد الفوضى الأولية لإنهيار علوة "سوبا".. نحن هم "العنج" مع بعض التحويرات بفعل الهجرات والعوامل البيئية والطبيعية والبشرية "الداخلية والأقليمية والعالمية"!. .. لا بد أن يكون لهؤلئك القوم أسراراً أمتلكوها عبر القرون وقوة روحية خفية من واقع حكمهم وملكهم وحياتهم وخبراتهم ولا بد أنهم أذكياء جداً استطاعوا الإلتفاف على التاريخ فصنعوه من جديد.. ربما، ولما لا!.

    إنهم نحن: العنج: نحن: نحن والمقابر والعقرب والدبيبة والحاضر والمستقبل والإسطورة!.
    وذاك طبعاً مجرد تصور خاص بي.. فالإحتمالات كلها واردة.

    إذن كيف لنا أن نتحقق من الأمر؟. هل هناك من طريقة؟. نعم، بكل تأكيد، هناك عدة وسائل متاحة.. هناك طرق علمية عديدة للتحقق من مثل هذه الظواهر وهي فحص العظام "دي إن إيه" كما التحقق من تاريخ الهياكل عبر وسائل الآركيولوجي كما تحديد حالتها من حيث الأحداث التي أدت للوفاة إضافة إلى تحديد طريقة الدفن والتعرف على الشعائر الدينية التي ربما اتبعت في دفنها والخلفيات العرقية التي تنتمي لها الهياكل في الماضي والحاضر وما إلى ذلك.. كل ذاك ربما قادنا إلى التعرف أكثر فأكثر على تاريخ المنطقة وبل قدر من تاريخ البلاد قاطبة .

    على أمل أن نخرج بالإسطورة إلى رحاب العلم.

    محمد جمال


    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-20-2014, 11:53 PM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-21-2014, 00:27 AM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-21-2014, 00:33 AM)
    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-21-2014, 12:53 PM)

                  

04-21-2014, 01:23 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    تابعو لو امكن النقاشات ذات الشأن في الفيسبوك
                  

04-21-2014, 12:57 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    افكر في نقل الحوارات المفيدة إلى هنا عشان تعم الفايدة وبالذات المتعلقة بالاحداث التاريخية زي مجزرة أو انقراض العنج!
                  

04-23-2014, 11:38 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    ذاكرتي وذكرياتي بجامعة الخرطوم .. إغتيالات وإعتقالات وصيحات معلقة في السماء.. "حلقة 1"

    مجلة الجامعة

    كانت جامعة الخرطوم في لحظات تاريخية مختلفة حلبة لمعارك سياسية ساخنة كثيراً ما وصل بعضها إلى أقسى وأقصى حدود العنف "التصفيات الجسدية". وأكثر صنوف العنف الذي مر به طلاب وأساتذة الجامعة حدث في هذا العهد "عهد الإنقاذ/ عهد الإخوان المسلمين". فعلى سبيل المثال في الفترة من ديسمبر 1989 وديسمبر 1991 تم إغتيال أربع طلاب وهم: بشير الطيب وأبو بكر سليم وطارق إبراهيم والتاية أبو عاقلة بواسطة أجهزة أمن السلطة الحاكمة وبترت ساقا طالبين هما صابر وصلاح وتعرض المئات للاعتقال والتعذيب الجسدي والنفسي وفصل ما يقارب ستمائة طالباً وطالبة وستون بالمئة من أساتذة الجامعة. هذا العنف الذي ووجه به طلاب وأساتذة الجامعة (في مدة سنتين من بداية عهد الإنقاذ) يساوي جميع حصيلة أحداث العنف التي مرت بها جامعة الخرطوم منذ إنشائها في العام 1902 وإلى 1991 حوالي عشرة مرات وفق تقديراتي الذاتية المعتمدة على الحقائق التي بصدد وضعها أمامكم في هذه السلسلة.

    اليوم قررت من تلقاء نفسي أن أفتح هذه الفايل الدامي من جديد وسبق أن رويت الأحداث الممكنة من قبل وقلت بشهادتي في مناسبات مختلفة بالصحافة الورقية والمنابر الإسفيرية لكن ليس في تفاصيل كافية. الآن سأفعل جهدي من جديد معتمداً في الأساس على ذاكرتي وبعض الوثائق التي ما تزال بحوزتي. كما أنني أطلب لطفاً من كل الممكن من زملائي وزميلاتي عوني في هذا السرد الذي ليس من أهدافه الأساسية التوثيق التاريخي وإنما محاولة وضع الحقائق من جديد أمام أعين شهود العصر.

    وسأبدأ بنفسي كوني أتحدث كشاهد وكجزء من الأحداث التي جرت في الفترة المحددة. ثم أواصل لاحقاً في التفاصيل بشكل أكثر دقة و حياداً. كما لا يجب أن ينسى زملائي نزعتي الروائية والتي تسوقني على الدوام بإستخدام ضمير الراوي "أنا" كونه الأكثر فاعلية ومباشرية في مثل هذه المناسبات وهذا لن يعقيني من الحياد العلمي في سرد الأحداث كون هناك آلاف الشهود أصحاب الذاكرة النضيدة ومعظمهم كما كانوا، ما زالوا أصحاب هم وطني يمارسون السياسة المنظمة وغير المنظمة من مواقع مختلفة بهدف المصلحة الوطنية العامة كما يؤدون واجباتهم المهنية داخل وخارج البلاد.


    مجلة الجامعة:

    مجلة الجامعة، العدد الأول أبريل 1991، يصدرها إتحاد طلاب جامعة الخرطوم.
    - التسامح السوداني الحضاري "كلمة الإفتتاح" بقلم محمد جمال الدين
    - دار فور ثورة وليست نهب مسلح "المقال الأساس" والمانشيت الرئيسي للعدد الأول لمجلة الجامعة المصادرة بواسطة جهاز الأمن والمعدة للصدور في أبريل 1991 بقلم زميلنا "مانديلا" والذي أستشهد في دارفور في بداية إشتعال الحرب هناك.

    - وحوى العدد لقاء صحافي مع السفير الكويتي عبد الله السريع... وكان أن ألتقينا السفير أنا وحاتم الفاضل وميادة حسيب في مكتبه بالخرطوم إبان الإجتياح العراقي للكويت في وقت كنا نساند فيه الشعب الكويتي في موقف مناهض للتيار الرسمي المؤيد لصدام حسين (كانت محاولة جريئة جدآ في حينها).
    الكلام دا كلو من الذاكرة فأنا لا أملك الآن نسخة من العدد المشار إليه، لكني أستطيع أن أدعي أنني أتذكر الأشياء بشكل جيد كوني كنت المسئول الأول من المجلة وتحريرها "مكلف بواسطة الإتحاد".
    وبعد مصادرة النسخة المعدة للطباعة "كانت في ألواح من الألمونيوم" قمنا بتصوير النسخة الورقية ثلاثمائة مرة ووزعناها على الطلاب والأساتذة.
    رويت مرة بشكل مقتضب قصة مصادرة المجلة في أبريل من العام 1991 بطريقة فظة، وهي مثلت عندي أول تجربة مباشرة في حياتي أستطعم عندها مرارة مصادرة حق الرأي وإنتهاك الحريات العامة.
    ذكرت لمامآ في بوست الهندسة والمعمار لزميلنا الحيوي خليل في عام 2006 بسودانيزأونلاين، قلت: (بتذكر مرة غاروا علينا ناس جهاز الأمن في السجانة وحصلت مطاردة زي البشوفوها الناس في أفلام جيمس بوند. كنا أنا وهشام شايلين مجلة الجامعة في حافلة (أظنها عربية هشام نفسه
    في النهاية قبضونا وصادروا المجلة ، ,اخدوني انا معاهم في الضيافة كم يوم كدا (ولا أذكر الآن ماذا حدث لهشام بالضبط لكنه بالطبع لا أظنه خيرا).
    وكنت لمدة الثلاثة شهور التالية أتمم كل يوم في الجهاز الواقع خلف القيادة العامة من الساعة التاسعة صباحآ وحتى التاسعة مساءآ ودون أن يسألوني أو يتحروا معي عن أي شيء بخلاف اليومين الأولين إذ تعرضت لتحقيق مكثف وضربوني عدة مرات براحة الكف على وجهي "ثلاث مرات" لا أكثر.
    وكان يقود التحقيق معي رئيس شعبة الطلاب في جهاز الأمن وهو "عبد الغفار الضو".

    في المرة الثانية "بعد عدة أشهر وبعد إغتيال طارق إبراهيم في يوليو 1991 وأحداث العنف التي حدثت في الجامعة في سبتمبر عام 1991 كان الأمر أشد قسوة. إذ تصادف أن كان معي في نفس الوقت د. زهير بابكر وهو الشي الذي تنبأت به في الخطاب المرسل لهشام (كان كعادته أنيقآ وكانوا رحيمين به فيما رأيت) لكنهم في المقابل ضربونا ضربآ مبرحآ أنا وعبد المنعم مختار "البرلوم الذي سيصبح في المستقبل دكتوراً مرموقاً في الطب القائم على البرهان بجامعة بريمين الألمانية" وعامر بشارة (إبن الجمهوري الشهير بشارة وإبن عم عبد المنعم، كان طالباً بمدرسة المقرن الثانوية آنها) وأحدهم يسمى إسماعيل الوسيلة فيما أعتقد من الأهلية وشخص آخر تعاملو معه بعنف لا يوصف "شيوعي يعمل سابقآ في وزارة الثقافة والإعلام" وقالوا لنا بعد أن ضربوه أمامنا سنعدمه ونعدمكم جميعآ. وكان منعم مختار قد سقط من التعب ورقد في غرفة الإنعاش بمستشفى الخرطوم لحوالي إسبوعين. ثم إنضم إلينا لاحقآ فايز عقارب من البيطرة ورأيت في لحظة ما إبراهيم باخت ومعه محمد محمد خير "لا أعرف محمد محمد خير آنها بصفة شخصية" لكن أخبرني أبراهيم باخت في وقت لاحق و كان حظ باخت فيما يبدو أسوأ من البعض منا إذ كان ينام معهم لفترة من الزمن بينما "أنا على الأقل" كنت في العادة ما أتمم يوميآ ولمدة عدة شهور تتضمنها "بريكات" في بعض المرات. وعلى ما أذكر أن أول عملية إعتقال وأعتداء فظ في فترتنا حدثت لهاشم "مدير المجلس الأربعيني" وحاتم الفاضل "السكرتير الإعلامي ثم الثقافي" في مارس من عام 1991 على ما أذكر .

    في يوم الثلاثاء 14 مايو من عام 1991 سلمت البرلوم "حينها" والرجل الفذ والدكتور لاحقآ عبد المنعم مختار "إعدادي علوم" رسالة من صفحة واحدة منشورة أعلاه على ورق من كراسة أهدتنيها في وقت سابق الشابة الجميلة الذكية جيهان "آداب" وكان على عبد المنعم أن يسلم الرسالة إلى نوار عبد العظيم الحسن "آداب" ونوار بدورها تسلمها إلى هشام حسن وفق خطة محددة شرحتها لمنعم حينها غير أن منعم كبرلوم لم يستطع التعرف على نوار ورجع بالرسالة إلى منزلهم ذاك اليوم ووعدني بأن يفعل غدآ أو حينما تتاح الفرصة وكنت حينها كثيرآ ما أتردد على منزل أسرة منعم الرائعة "أسرتي" بالإضافة إلى إقامتي من حين إلى حين في الداخلية البركس وطبعآ مرات عديدة في الإسبوع في بيت أسرتي الأم حينما يكون الوضع طبيعيآ. ولم أسأل عبد المنعم بعدها وتصورت أن كل شيء على ما يرام!. (((لاحقآ سأشرح كيف عثرت من جديد على الرسالة المدهشة!))).

    لكن بعد فترة وجيزة حدثت مفاجآت عديدة (مقتل الطالب طارق والعنف الطلابي المؤسف والشهير بدقة الكيزان) فأنتقلت أنا وعبد المنعم لنختبي ونعمل سرآ من منزل بروف عبد المنعم عطية في الأملاك دون أن نخبره بما نفعل إذ كان يستضيفنا كونه الخال المباشر لعبد المنعم مختار ليس إلا... وكان رجلآ عظيمآ وشرسآ في المباديء. ولم يتهيأ لنا المقام هناك كثيرآ لأسباب مختلفة جدآ فحولنا مكان إقامتنا إلى منزل الزميل والصديق المناضل الجسور عبد الرحمن الغالي الجعلي والذي سيصبح لاحقآ زوجآ للجسورة رباح الصادق المهدي وكنا سعداء بحوارات أخيه العظيم الذي إالتقيناه لأول مرة مرتضى الغالي الصحفي الشهير. وكانوا قومآ كما شاء لهم الله أوليء عزم شديد وشجاعة عظيمة لم يتهيبوا أبدآ عندما أخبرناهم أننا مطاردون بواسطة أجهزة الأمن وجعلونا في بيتهم العامر 15 يومآ. حتى إذا ما أنتقلنا إلى المقرن بإستراحة بنك الخرطوم التي أصبحت للتو منزلآ للأستاذ بشارة مختار عم عبد المنعم تم توقيفنا بطريقة تحوى قدرآ كبيرآ من القسوة والا إنسانية وعلمنا بعد فترة أن أحدهم "كوز" يدعى موسى هو من رآنا وأبلغ عنا وخصيصآ أن الأستراحة المعنية كانت تبعد عدة أمتار من دار ما يسمى بالإتحاد العام للطلاب السودانيين بالمقرن (إتحاد الحكومة).

    ليس من أغراضي هنا التوثيق لما حدث بالجامعة في فترتنا ولكني أذكر هذه الأحداث على أثر الرسالة الطريفة وما بها من معلومات مهمة في وقتها "منشورة أعلاه/أدناه" والتي عملت على أرسالها لهشام حسن ولم تصله وهذا ما أنا بصدده.. إذ أنني سأروى بالتفصيل خلفيات الحيثيات الواردة في الرسالة المعنية "مرفقة"!...

    يتواصل.. ذاكرتي وذكرياتي بجامعة الخرطوم .. إغتيالات وإعتقالات وصيحات معلقة في السماء..

    محمد جمال الدين.. عضو المجلس "الاستشاري" الأعلى لحركة الطلاب المحايدين ورئيس تحرير مجلة الجامعة


    ----الأصل والتعليقات

                  

04-25-2014, 02:13 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    الإرسال الأخير فوق العادة.. نحو إتساق الذاكرة!
                  

04-28-2014, 02:55 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.. حلقة "14"

    مأساة أسرة من الكبابيش

    في بداية الثمانينات من القرن الماضي غزت رمال الصحراء أرض الكبابيش في شمال كردفان في عملية مفاجئة متزامنة مع موجة جفاف فظة، إستمرت الحالة لعدة سنوات متتالية فغرقت خيام الكبابش في الرمال، ماتت كل الكائنات الحية، هلك ضرع الكبابيش، فتحولوا إلى حين من الدهر من عز إلى ذل. هرب الكثير من الكبابيش أمام ضربات الطبيعة الموجعة إلى أطراف العاصمة الخرطوم فصنعوا لهم معسكراً خاصاً إسمه المويلح غرب أم درمان، وبعض الأسر جاءت إلى جبل أولياء. كانت هناك ثلاث خيام من الخيش تقوم بشكل عشوائي فوق قوز الرمل الكبير الواقع بين ود مختار وديم البساطاب في جبل أولياء. إحدى هذه الأسر النازحة هي أسرة شاب كباشي إسمه "بلل". الأسرة الصغيرة تتكون من زوجة رحيمة صابرة وولدين أصغرهما "البلة" وبنت واحدة "بلالة". كان بلل يمتهن حفر الآبار و"التوليتات" وصيانتها. وكان ولده الأكبر "15" سنة يعمل معنا بالمزرعة في جزيرة أم أرضة. كل نهاية شهر يأتي بلل إلى بيتنا فيأخذ مبلغاً صغيراً من المال هو أجر إبنه.

    البلة وبلالة:
    كنت كالعادة أيام المرحلة الإبتدائية أقيم مع جدتي آمنة بت حماد في الحلة وآتي في نهاية الإسبوع والإجازات إلى بيتنا الواقع قلب جزيرة أم أرضة. في إحدى الخميسات وعند الغروب جاء الرجل الكباشي في زيارة غير عادية برفقة إبنه الأصغر البلة "7 سنوات" وبنته بلالة "11 سنة".

    وبينما كان أبي في تحية الرجل كنت أنا أقف أمام البلة وبلالة أرحب بهما بطريقتي الخاصة دون أن أعي بحقيقة الفاجعة.

    كان البلة حليق الشعر ما عدا ضفيرة صغيرة تقوم أعلى رأسه وشبه عار ما خلا قطعة قماش من على صلبه مثقوبة الأطراف. وكانت بلالة تلبس "جونيلا" قصيرة مهترئة، تقف من خلف أبيها أمام السيالة الواقعة في الناحية الغربية من منزلنا و تحمل حقيبة صغيرة حديدية بها كورية من الألمونيوم وثلاثة برطمانيات زجاجية وقطعتين من القماش لا يمكن التعرف على لونهما ولا شكلهما. ذاك كلما ورثته من أمها. وما هي إلا لحظات وأختفى الرجل وكأنه شبح من الأشباح الشفيفة تاركاً البلة وبلالة في منزلنا. "أمهم ماتت" هكذا أخبر أبي أمي. بينما أنا في تلك الأثناء لا أهتم مشغول بموهبة البلة "أنا بعرف أدوبي" قال لي البلة وطفق ينشد في لغة صحراوية غارقة في التاريخ السحيق تتحدث عن قبيلة كان لها أمجاد أثيلة. الفتاة رمت حقيبتها حيث أشارت لها أمي ثم شرعت تتأمل المسافات البعيدة مثبتة ناظريها على الدرب الذي سلكه أبوها حين تركها هنا وغادر.

    كانت عينا الفتاة واسعتان ولامعتان بالإشراق في الضد من وقائع اللحظة المحزنة. كانت في ذهول. الذهول هو الذي سكن الفتاة دون إذنها فأقلمت ذاتها عليه. بلالة جميلة الوجه في عين البالغين، في غاية الجمال، بشرة بيضاء الأصل أصفرت بفعل السموم، فارعة القوام، منسقة الجسد، شهية الشفاه، صدرها ينوء بالكارثة، وشعرها الأصفر تتقصف أطرافه ناحية منتصف ظهرها وتفوح منه رائحة نحاسية منفرة. وأنا لا أهتم، لم يكن لدي أي مشاعر تعاطف معها، لا شيء، وهي بدورها لم تهتم بي. كانت شاردة الذهن. وكان البلة "يدوبي". البلة صديقي، أصبح صديقي منذ أول لحظة، وأسميته الرادي "الراديو" كونه لا يتوقف من الكلام وإنشاد الأشعار التي حفظها من أهله في الصحراء البعيدة. ولد صغير شديد الذكاء الفطري وسريع البديهة. أعجبني جداً، بل آسرني.

    عندما هممت بمغادرة المنزل في المساء من يوم الجمعة "ممكن أسوق البلة معاي المدرسة" هكذا أستفتيت أبي، لم أشاء أن أتركه "الرادي" من خلفي. لم يكن عندي خطة واضحة لمدرسة البلة فقط كنت أبحث عن عذر مقبول لأخذ البلة في صحبتي. وافق أبي وأعترضت أمي ففزنا أنا وأبي. أخذت حبوبة نصف الليلة في غسل جسد البلة بالماء وصابون الفنيك وأزالت "الكشكة" من قدميه وساعديه ومسحت جسمه بالزيت وعند الصباح الباكر ألبسته واحدة من ألبستي القديمة وطفقنا في طريق المدرسة. كنت أنا في الصف الخامس. كانت علاقتي متميزة مع عدد من الأساتذة وجلهم أقربائي في الدم (أستاذ النور الصديق وأستاذ الماحي الإمام وأستاذ عبد القادر الإمام من ود بلول) وأستاذ بشارة من اللدية وأستاذ حامد الطاهر من ديم البساطات.

    ذهبت بالرادي "بتاعي" أولاً إلى أستاذ النور الصديق، تشاور النور مع الآخرين، كان العام الدراسي على مشارف نهايته، فأجمع الأساتذة الكرام على قبول "البلة" في مدرسة أم أرضة الإبتدائية لكن في العام الجديد وليس في ذات اللحظة. رجعت نهاية اليوم بالبلة وأنا أشعر بالحزن. كنت أوده أن يكون بالمدرسة في الحال. لكن عملياً ليس ممكناً. أقام البلة معي وحبوبة في البيت لمدة شهر ثم أرجعته كما هو طبيعي إلى أهلي بالجزيرة في يوم من الأيام، كان البلة ممتعاً كعادته فأحبه كل الناس وحفوه بالعناية. عندما رجعنا أنا والبلة لم نجد الفتاة بلالة بالبيت "ساقها أبوها" أخبرني أبي "لقى ليها شغل، خدامة في البيوت" قالت أمي مستنكرة لكن مع قبول ضمني بالقدر. بعد شهرين من تاريخ إختفاء بلالة أختفى البلة بدوره "لقى ليه أبوه شغل في قرية الشيخ البشير، غرب الجبل، راعي أغنام" أخبرتني أمي.

    بكيت الليل كله وأنا أذكر البلة "الرادي" وأشعاره الرنانة التي لا أفهمها، بكيت البلة وأنا لا أفهم كيف تركوه يرحل بكل تلك السهولة، بكيت البلة وأنا لا أفهم لماذا غدرت به الصحراء، لماذا تخلى عنه كل الناس وتركوه للعدم، لماذا تركه الله!، أنا لا أفهم!.

    يتواصل.. حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.

    محمد جمال
    ---

    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 04-28-2014, 04:30 PM)

                  

05-05-2014, 04:40 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    تحيات للضيوف الكرام وللعابرين الأعزاء السلام
                  

05-05-2014, 07:46 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.. حلقة "15".. قصة الولد الغريب جون..

    جون!

    الحرب؟. لعينة. حرب الجنوب. حرب الشمال والجنوب. أطول وأقسى حرب في القارة الأفريقية. يا للفضيحة!. فانتهى كل ذاك الموت الزؤام بفضيحة أخرى هي إنفصال البلاد إلى شطرين متناحرين ليبدأ مسلسل موت آخر وبوادر موت جديدة في الآفاق، سلسلة غير منتهية من الفضائح. عندما عاد الشعراني ود محمد موسى "عسكري في سلاح المدرعات" كثيراً ما نسأله ونحن صغار "كتلت كم زول؟" فيجيب ببعض الحيرة "كتلنا وكتلو مننا". عاد الشعراني بعد أن أدى واجبه العسكري على الوجه الأكمل، عاد الشعراني إلى البلد، لكن ليس وحده معه "جون" طفل جنوبي صغير ، هذا الطفل سيصبح شيخ البلد في المستقبل!.

    في إحدى العصريات وأنا عائد من المدرسة " خالك محمد ود موسى جا هنا قبيل قال عايزك" أخبرتني حبوبة ثم أردفت " ضابح ليكم خروف، عازم جنيات البلد جت، بدوركم تشوفو ولدو الجديد". لم أكن أعرف القصة، وحبوبة لا تملك أي معلومة حول الأمر غير الكلام الذي قاله ود موسى "عنده ولد جديد". محمد ود موسى هو أبو العسكرى العائد من الحرب والمتقاعد إختيارياً "الشعراني". ود موسى فارس إبن فارس متزوج مهدية البشير، حبوبة لا تذكر إسمها وإلا تسبقه بكلمة "السمحة" مهدية السمحة "خلقة وأخلاق" وهي إبنة شقيقتها فاطنة حماد، كانت مهدية في يوم من الأيام أجمل بنات البلد ولو كانت هناك مسابقات لجمال عالمية متاحة لفازت على دستة من نساء في بهاء الممثلة الأمريكية مارلين مونرو. فأحبها إبن عمها "محمد ود موسى" فأنجبا جيشاً من الكائنات الرائعة فرسان وفارسات بنين وبنات وأحفاداً، منهم مريم أبو علامة شريكة الأمين الجزولي في الرياض. رحل ود موسى قبل عدة سنوات خلت بعد حياة طويلة هادئة وهانئة وهو لم يفارق مهدية السمحة ولا ساعة واحدة (رفض الزواج عليها وقد واتته عشرات الفرص، كانا مخلصين لبعضهما البعض حتى الرمق الأخير).

    قبل أن أصل إلى مكان المناسبة "ديوان محمد ود موسى" قابلت ود خالتي "حسبو حماد" في الطريق وكان عنده بعض العلم فأخبرني بالحكاية "جا ولد غريب مع الشعراني إسمه جون".
    تحلقنا في عدد كبير "كمية من الشفع" في الفسحة الواقعة أمام الديوان الكبير، أكلنا الرز مع اللحمة وشربنا الكركدي المثلج. وفي اللحظة المناسبة نادى محمد ود موسى حفيدته الصغيرة البتول يأمرها بنداء الولد الجديد الغريب "جون". جاء جون فأمرنا ود موسى بالوقوف في صف والسلام على القادم الجديد وتعريف أنفسنا به. ففعلنا. ثم جلسنا، فخطب فينا ود موسى بينما كان يحمل بيمناه سوط عنج مبتدراً كلامه بسؤال "بتعرفو دا منو؟" وهو يشير بيده إلى جون الواقف بجانبه، فصمتنا، لم نقل شيئاً، كنا لا نعرفه، لكننا خفنا أن نقول أي شيء كون هناك سوط عنج، الصمت هو قانون السلامة في مثل تلك اللحظات العصيبة. فأجاب بنفسه "دا ولدي جون" وواصل "ولدي لكن عنده أمه وعنده أبوه المحترمين" وسأل من جديد "انتو عارفين أنا جبتكم هنا الليلة لشنو؟".
    فلزمنا قانون الصمت من جديد "عشان تعرفوه، وتسووه أخوكم، أخوكم أبى من أبى ورضي من رضي، إسمه جون، مافي زول يناديه بغير إسمه، ولو عنده دين أو فهم مختلف منكم تحترموه" وسأل جون "انت آجنا دينك شنو؟" فأجاب جون "المسيحية" فواصل ود موسى "دينو دينو نحترمه كلنا، مافي زول يطالبو بدين آخر، ولا فهم تاني، تقبلوه زي ما هو، هو حر". كنا نصغي في صمت مهيب: "وعلى بالطلاق اي واحد فيكم إسمعو كلام غلط أو يغلط عليه بأي طريقة لو دخل في بطن أمو ما أسيبه، ثم رفع سوط العنج إلى الأعلى وأبرز حدة وشراسة منقطعتي النظير". وبعد حين هدأت أنفاس ود موسى "أنا عارفكم فالحين، بس الكلام دا أي واحد فيكم يختو حلقة في أضانو". وكلمته الأخيرة كانت موجهة لحفيدته البتول يأمرها "امشي جيبي موية لجون"، كانت هناك رمزية واضحة في ذاك الأمر للحفيدة وعيناها كلنا بعقلنا الباطن.
    ومن بعدها سمح لنا بالمغادرة فودعنا أخونا الجديد "جون" في سلام ومحبة رضينا أم أبينا!. غير أن الأحداث اللاحقة كان بها عدد من المعجزات!. لم تمضي سوى خمس سنوات فقط وأظهر جون مقدرات مدهشة ومواهب دفينة تفجرت بغتة. كنا كل مرة نسمع إنجازاً صغيراً أو كبيرا.
    ولد ذكي، أنيق ودبلوماسي بالسليقة، يعرف كيف يتحدث وكيف يمشي وكيف يلبس بناطلين الجينز والقماش. ومقدرات في البيزنس وإبتكارات لا حد ولا عد لها. عمل ديسكو في ديم البساطاب من جبل أولياء أيام الديمقراطية، ثم فتح محل لتصليح الدراجات الهوائية "العجلات" في الركن الجنوبي من سوق جبل أولياء، ثم فتح محليين للأدوات الكهربائية وكله بجهده الذاتي دون عون أحد وفعل المزيد.

    رجل شديد البأس و العزيمة يحطم العقبات من أمامه وكأنها قطع من البسكويت. لم تكن إنجازات جون مادية فحسب بل أصبح أمير البلد وصاحب الكلمة النافذة وحلال الشبك وعن جدارة فائقة وخلق قويم، كان وما زال.

    وعندما أشتد عوده رجع للحظة إلى الجنوب بحث عن والدته العزيزة فوجدها بخير، أبرها وثبط حزنها وعاد بها إلى الخرطوم. وأعتنق في لحظة محددة الإسلام متسقاً مع الوقائع الإجتماعية وفي سمت أصيل وهدوء وسكينة وقناعة مع الإحتفاظ بإرثه القديم "الخير" الذي حباه به يسوع المسيح والغابات الإستوائية ومدينة جوبا وأجداده وجداته العظام مضيفاً كل ذلك إلى كنانة الوعي الجديد والحب الجديد والحياة الجديدة.

    وجون زول "حلو" ورجل شهم وكريم، جاء مرة إلى وداعي في مطار الخرطوم وكنت ضمن بعثة تبادل طلابي ثقافي وأكاديمي بين جامعتي الخرطوم ودمشق السورية فوضع جون في جيبي بيده اليمنى دون أن تعلم اليسرى مبلغاً من المال يعادل ألف دولار كهدية للهدية "الهدية إسمي عنده وعند كل ناس البلد" فقلت له بالحقيقة "لا أحتاج المبلغ كون إتحادا طلاب الجامعتين متكفلان مادياً بالرحلة" وكان برفقتي الأصدقاء والزملاء: عبد الرؤوف عبد الله وعبد الجبار السماني وأماني حسن والشابة أماني فقيري وآخرين . فرد جون ممازحاً "انت هسا طالب مفلس لما تشتغل رجعها لي" وبالطبع لم أرجع له شيئاً حتى هذه اللحظة ولكن جئت له من الرحلة بشبط جلدي أصيل فشكرني واظهر لي سعادة فائقة بالهدية الرمزية الصغيرة.

    وقبل عدة سنوات خلت رحل عنا الخال الفارس الجميل ود موسى فهاتفني جون من المقابر وأنا في منفاي الهولندي العجيب وهو يبكي "أبوي مات" فبكيت معه دمعاً سخياً. جون الشهم أخوي وصديقي وحبيبي وإلى الأبد.. له المجد.


    يتواصل.. حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.

    محمد جمال.. لاهاي/هولندا

    [email protected]

    الأصل والتعليقات من الفيسبوك:

                  

05-07-2014, 07:51 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    لوثة صغيرة في قناة فوربوروخ المائية بلاهاي!

    كانت الشمس دافئة عصر أمس، ساطعة، درجة الحرارة مناسبة للخروج إلى الشارع بلا جاكيت. كنت في الطريق "راجلاً" بين محطة القطارات الرئيسية بلاهاي وحي رايسفاياك حيث يقيم أحد الأصدقاء من أهل البلاد.

    كل شيء كان على ما يرام، كنت غارقاً في ذاكرة تفاصيل الحياة اليومية والعادية، حتى إذا ما هممت بعبور قناة فوربوروخ المائية حدثت لي بغتة لوثة غريبة و"جوطة" في سيستيم الذاكرة، شعرت بأن هناك موجات مغناطيسية محببة تغزو خاطري يقطعها ويبعثرها من حين إلى آخر صوت أجراس وهمية تأتي من البعيد في سمت خفيض. فغيرت مساري بصورة لا إرادية وعرجت على الشاطي الشرقي من القناة المائية الكبيرة "الكنال" وقفت لوهلة على الحافة أتأمل ظلي يلاعبه الموج الرقيق الصافي والشمس من خلفي تزداد القاً ودفئاً، هذا المشهد مندس في ذاكرتي منذ أزمان سحيقة "الطفولة والصبا" من جزيرة أم أرضة "النيل" ورائحة الماء والطين وصوت العصافير ودفء الشمس والأمان. هل كنت أعيش تلك اللحظة ذاكرة الطفولة المحببة؟. لا!.

    تكشف لي فجأة أمر آخر، عندي ذاكرة في هذا المكان عمرها 17 عاماً، يا للهول!. الحقيقة أنني أقمت "سكنت" في ذاك المكان حي "فوربوروخ في لاهاي" في فبراير من العام 1996 ثم غادرته إلى مدن هولندية أخرى شتيتة وكنت كثيراً ما أقف في ذاك الزمان في ذات المكان أتأمل الموج الرقيق الصافي أذكر النيل وأحزن وأبكي وأفرح وأكتب القصص القصيرة على كراسة هولندية صغيرة رميت بها في يوم من الأيام في ذات الكنال كعربون صداقة بيني وبينه. لدي ذاكرة جديدة، ذاكرة مركبة تخون بعضها البعض، ذاكرة غير منسجمة مع ذاتها!.

    تكونت لي ذاكرة جديدة "ذاكرة كنال فوربوروخ". شعرت لوهلة بسمت حميم وأنا أقف على حافة كنال فوربوروخ (هنا عشت حياة كاملة) هنا أنفقت قسطاً من عمري. وفي اللحظة التي تحتم علي مغادرة كنال فوربوروخ فجأة تعالت أصوات الأجراس، أصوات صاخبة تشق عنان السماء، صم هزيم الأجراس أذنيي، وفي ذات الوقت أصبح وقع الموجات المغنطيسية أكثر حدة من ذي قبل، أجراس صاخبة تأتي من الماضي البعيد "جزيرة أم أرضة" وموجات مغنطيسية من الماضي الهولندي القريب. شعرت وكأنني في غرفة إنعاش أفيق للتو من تخدير شديد المفعول وشعرت بشيء ما: كأنه الخيانة وما هو بالخيانة!.

    محمد جمال
                  

05-07-2014, 09:29 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    بليلة ماريتا الهولندية

    ماريتا شابة هولندية مثقفة وشهمة وذكية وكريمة كمان!. ألتقيت بها في يوم ما صدفة في محفل من محافل الحياة فشاءت الأقدار أن نكون أصدقاء لكن ليس طويلاً ثلاثة أشهر فقط وجرت سفننا فرادى بما لا تشتهي الأماني. حدث ذاك في المرحلة الأولى من ضرب الخيام على منفى الأراضي المنخفضة (هكذا يسمي الهولنديون بلادهم). في مثل تلك المرحلة يكون الحراك والترحال وعدم الإستقرار المادي والمعنوي هو سمة الزول من امثالنا في خضم ثقافة جديدة شديدة الغرابة والغربة والغربية. كانت ماريتا فتاة جادة جداً ومثقفة جداً تعمل للتو في الجهاز الإداري لإحدى المشافي الكبيرة بمدينة أوتريخت وسط هولندا. ثلاثة أشهر فقط لكنها كانت مكثفة ومترعة بالأماني، ثلاثة فقط ولم ألتقي بعدها أبداً ماريتا. في المسافة بين الأشهر الثلاثة وتاريخ اليوم مرت تحت الجسر وفوق سماء الجسر أمطار وعواصف لا حد ولا حصر لها وبرق ورعد ونار، وأناخ الزمان فوق رمال الذاكرة بألف قافلة وقافلة.

    عصر هذا اليوم قبل ساعتين ونصف فقط من هذه اللحظة حدث ما لم يكن في الحسبان ولم يخطر على بالي!. بينما أنا في مشوار روتيني بالقطار عائداً إلى داري الصغيرة في حي فريداروست بلاهاي كانت تجلس من أمامي في مسافة عدة مقاعد شاغرة شابة هولندية شقراء ذات سمت هولندي عادي. جاء لدى خاطري لوهلة شعور بأنني ألتقيتها من قبل.لكن لا أذكر متى و أين!.
    حاولت شحذ ذاكرتي ونضضتها بنظرة في المسافات البعيدة عبر نافذة القطار ثم عاودت الكرة أتحقق من تلك الفكرة الصغيرة المغلغلة "الوجه الذي أعرف" ولا أعرف!. لم أستطع التذكر. كل تلك العملية أخذت حوالي دقيقة ونصف فعلت خلالها المستحيل كي أتحرى وأستقصى من ذاك الوجه الحميم الذي بدا مألوفاً لعقلي الباطن لكن ذاكرتي القريبة مشوشة.
    أشتغلت على الملامح الفيزيائية عبر خاصية الخيال، ألبستها فستاناً جديداً يناسب مزاجي، أوقفتها جعلتها تمشي ثم أجلستها من جديد . أزحت بعض النمش من على وجهها وصنعت على شفتيها أحمر شفاه باللون الذي أحب وأشتغلت على شعرها المفرود، سرحته بعدة أشكال منها "ضنب حصان" خلتها تهزه، ثم مشطته على الطريقة السودانية، علي أتذكر، لكن ليس بعد! .

    وعلى ذكر المشاط أذكر أن أول لحظة ألتقيت عندها ماريتا في ذاك المحفل الأول عند ضفاف محطة قطارات أوتريخت كانت بصحبة صديقتها "ننضا" فبادرت ننضا بسؤالي إن كنت أعرف أحداً يساعدها في أن تعمل شعرها راستا أو نوع ما من المشاط فدللت ننضا على شخص أعلم أن يعلم فجاءت ماريتا منسلة من خلف ننضا وكانت أصلاً عا########ي من على البعد مبدية رغبتها في نفس الشي "مشاط" فقلت لها أنا ذاتي بعرف "بمشطك أنا دا وأدخن برنجي كمان" مع أنني قبل ثانية واحدة أعطيت ننضا تلفون شخص آخر. فضحكت ماريتا بشهية كاشفة عن كشفها لحالي. فاعترفت لها في الحال بالحقيقة البائنة أنني لا أعرف الراستا ولا المشاط: (لكن عشانك يا ماريتا ح أعمل كورس خاص في الراستا والمشاط في جامايكا وكورسات في الطبيخ والنظافة والنظام، بس انت صلي على النبي وقولي خير). وعندما قالت خير وأصبحنا رفاق لا نفترق نسيت هي المشاط ونسيت أنا الكورسات الموعودة كلها وأصبحنا "في رقبتنا دي" من قصة لقصة ومن قومة لقعدة وهي تطبخ وتكنس وتعمل وتمشط شعرها لوحدها بس أنا مرات بغسل العدة وبعمل الشاي وبحييها كل صباح على الطريقة اليابانية.

    فعلت بوجه الفتاة كل الحيل الممكنة لكنني لم أستطع تذكر شيء حتى نهضت ومشت ناحية باب الخروج في محطة "خودا" ونزلت من القطار. وبالضبط في اللحظة التي همت بعبور النافذة التي أجلس قبالتها تذكرت كل شيء وأخذت أصيح وأضرب الزجاج "ماريتا، ماريتا، ماريتا" فنظرت ناحيتي دهشة ثم رفعت يدها اليمنى ملوحة بالسلام وبعض الحنين غير أن القطار لم يمهلنا غير بضع ثوان قبل أن يصفر ويذهب إلى الأمام في طريقه المرسوم لا يعبأ بالحدث الجميل. وبرضو شكراً للقطار الفيه مر حبيبي الزمان.

    بعد أن غابت ماريتا أخذت أضحك وحدي كالمجنون إذ تذكرت أول مرة زارني فيها أصدقاء أعزاء في بيت ماريتا وهم إبن خالتي أم سلمة (حسبو حماد) وصديق العمر (عبد الرحيم حلاج) والشاب الصغير (محمد الخاتم) الأخ الأصغر للصديق الأزلي (أبوذر عمر النور). قبل أن يصل المعازيم بعدة ساعات شاورتني ماريتا في "ماذا نصنع من غداء" لضيوفنا؟. ولأنني لا أودها أن تكشف المزيد من أميتي في مجال صناعة "العضة" فتركت الأمر لها معلناً عن ثقة زائفة في ذوقها في الطعام!. وعندما حضر القوم وجاء وقت الغداء وتحلقنا حول المائدة وضعت ماريتا قدراً فخيم الشكل في منتصف المائدة وهي ترحب بالضيوف في لطف وسمت حميم ووزعت الصحون والأدوات الحتمية بينما أنا "غرقان" ألوك الذكريات مع أهلي وأصدقائي وأفخر بماريتا.
    فإذا بالغداء يكون "بليلة" فدهشت أنا ودهش القوم أجمعون.. فنقنق محمد الخاتم "كان أصغرنا 15 سنة فقط" فردعه الحلاج. وحاول حسبو حماد تخفيف حدة الفاجعة بسخريته المعهودة: "يا جماعة دي المرارة الهولندية الغداء بجي بعد شوية". وكنت أنا في تلك اللحظة أحاول إنقاذ ما يمكن أنقاذه فطلبت بيدزا دليفري بشكل عاجل غير أن الحلاج وفق حكمة ما، ردعني وأوقف العملية وأمرنا بالبليلة وحتى آخر حبة كي لا نتسبب في إحراج لماريتا ففعلنا وكانت تحت دهشتنا بليلة لذيذة بطريقة مدهشة!

    بعد عدة أيام أكتشفت أن الشيء الذي ظنناه بليلة هو أكلة خاصة باهظة الثمن لا يقوى على شرائها إلا الملوك والأمراء إذ أن تلك البليلة مكونة من عدة حبات من النشويات والبغوليات من كل أركان الدنيا وأن الكيس الواحد منها يكلف أكثر من ثلاثمائة يورو ويمكن شراء كيس هذه الحبوب من محل واحد فقط في هولندا إسمه "تاونان". فيا لجهلنا ببليلة ماريتا!.

    التحية للأصدقاء حسبو ( الرياض الآن) وحلاج (لاهاي الآن) ومحمد الخاتم (الخرطوم الآن) و
    التحية لطيف ماريتا (لا أعرف أين هي الآن لكنها كانت تبدو بخير وجميلة) وشكراً لماريتا على البليلة التي لم نفهمها في أوانها لكننا لم ولن ننساك يا ماريتا على البليلة الجميلة وعلى كل شيء جميل ونحن يا ماريتا من شعب عظيم يقدر الناس الطيبين حق قدرهم ويقول "بليلة مباشر ولا ضبيحة مكاشر".

    محمد جمال

    ---
    الاصل من الفيسبوك والتعليلقات

                  

05-09-2014, 07:52 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    ح اقل لهنا كل المواد المتعلقة
                  

05-17-2014, 03:08 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    أعني : سأنقل (إشارة إلى ما ورد أعلاه) هناك المزيد (الكثير) من القصص
                  

05-21-2014, 01:19 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    القص فعل موازي للحياة!
                  

05-23-2014, 09:21 PM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    ربما يكون العكس:

    الحياة فعل مواز للقص.. كن فيكون!
                  

05-25-2014, 03:44 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    حلقة "1"

    الخواجة "بارد" بمعنى هادئ وقليل الإنفعال، كثيراً ما نسمع هذا القول!. ذاك ربما كان صحيحاً لكنه ربما لا ينطبق على الإنجليز فهم إستثناء!. الإنجليزي ربما كان شديد الحساسية والإستجابة للمؤثرات الخارجية. الخواجات من غير الإنجليز يشربون الخمر في الغالب بقدر محدد ولا يسرفون برغم أن الخمر حلال في قانونهم وشرعهم، لكن الإنجليز يشربون على الطريقة السودانية التقليدية، يسرفون أحياناً، وعندما ينفد كلما لديهم من كؤوس يسعون في طلب المزيد، بالضبط مثل السودانيين التقليديين مع إتساق في الإنفة، الحماس، الدفء، العنفوان، الكرم الفياض والتهور أحياناً، مع إختلافات مقدارية وطقسية.

    في إحدى المرات تمت دعوتي للمشاركة في مؤتمر (متعلق بالتنمية الدولية) بجامعة ليدز الإنجليزية. أخذت الطائرة من مطار أمستردام إلى مانشيستر القريبة من ليدز حسب ظروف الطيران في تلك اللحظة. وصلت مانشيستر عند الساعة السادسة مساءاً فتم إعتقالي بعد تفتيش حقيبتي الوحيدة. أخبروني أن بها مخدرات، ثم ذهبوا بها إلى غرفة الخبراء!. "ليس لي" صحت بأعلى صوتي وأقسمت بكل الآلهة أن لا علم لي بتلك المخدرات، لا بد أن أحدهم وضعها سهواً أو عمداً بحقيبتي، "كلهم يقولون ذلك عندما يتم القبض عليهم" رد الضابط المناوب بكل حزم على صيحتي المذعورة. ثم ذهبوا بي إلى غرفة خاصة بمثل تلك الحالات خلعوا ملابسي فتشوها وفتشوا جسدي كله بالأجهزة الخاصة والكلاب البوليسية. لم يجدوا همو ولا الكلاب شيئاً إضافيا .

    إستغرقت العملية خمس ساعات حتى تبين الأمر!. ليس بحقيبتي الكثير فالمؤتمر مدته يومين فقط حيث سأقيم في فندق "إيتاب" حسب الترتيبات الرسمية المسبقة. كان آخر قطار في الجدول في طريق ليدز الساعة الحادية عشر ليلاً. كان بالحقيبة عدة ألبسة وهدية صغيرة لخالتي سارة النور التي تقيم بالمدينة والتي سألتقيها حتماً بعد نهاية المؤتمر. الهدية صومالية الأصل.

    عندما هممت بالرحيل إستشرت جارتي (إمرأة طاعنة في السن) صومالية من أصول يمنية في هدية لإمراة في مواصفات خالتي سارة النور، فإذا بالصومالية تأتيني ببخور وعطر "خمرة" وعدد سبعة كرات صغيرة من الدلكة الصومالية العطرة. تلك الدلكة هي سبب الشبهة. إذ ظنوها نوع من أنواع الحشيش المصنع. أعتذروا لي في نهاية المطاف وأخذوني إلى القطار غير أنهم فضلوا أن تكون الدلكة معهم لمزيد من الأبحاث. سيرسلونها لاحقاً عبر البريد إلى عنوان خالتي سارة النور في ليدز.

    تصادف أن يكون في مساء ذاك اليوم ماتش كروي ساخن بين مانشيستر يونايتد وليدز هزمت فيه ليدز أشر هزيمة في تاريخها، لم أكن أعلم.

    كان القطار الأخير. كانت الثانية الأخيرة عندما وضعت قدمي اليمنى داخل القطار. القطار أغلق أبوابه وتحرك في إتجاه ليدز. هذه الرحلة ستكون الأسوأ في تاريخ حياتي وعلى وجه الإطلاق لكن كان هناك مخاض آخر في رحم الغيب هو "فانيسا" تلك الفتاة المشحونة بالوعي الإنساني العظيم في الضد من مظهرها!. فانيسا العظيمة.

    أول ما دخلت القطار المزدحم بعدد لا حد ولا حصر له من المراهقين والمارهقات صاحت إحداهن "لقد رأيت هذا الشخص مع الوحش الجامايكي المدعو آلفين"، كانت تعنيني!. آلفين كان شاباً جامايكاً ثائراً وشرساً وكثير العراك مع المراهقين الإنجليز في مدينة ليدز يحمل مسدسه في جيبه ويرقص على أنغام الهيب هوب في الشوارع ويصوره أقرانه الجامايكيون وكأنه زورو أو شيء في صورة ود ضحوية السوداني.

    الجامايكيون، جاء الإنجليز في يوم من الأيام بأسلافهم إلى تلك الجزيرة كعبيد للخدمة في مزارع قصب السكر ورفاهية الرجل الأبيض، كان ذاك فيما يبدو هو وعي آلفين ومصدر غضبه الدائم. إستطاع آلفين إستعداء كل مراهقي المدينة ضده. الفتاة قالت أنها رأتني مع آلفين. إنه صيد ثمين اليوم. الفتاة بالكاد تفتح عينيها من وقع الواين الأحمر "النبيذ" وهي تحاول التحديق ناحيتي وتقسم أنها رأتني مرة مع آلفين. ألتف حولي عدد كبير من الأولاد بهم ثلاثة يلونون شعرهم باللونين الأحمر والأزرق. وكان أكثرهم يحمل زجاجة واين في يده يشرب مباشرة من الزجاجة ويعطي زميله. الكل في سكر شديد ورفيق آلفين يستند على الجدار لوحده يغشاه الهم ويفكر كيف ينقذ نفسه من المصير الذي ربما وصل إلى القتل. كان الموت أقرب إلي رفيق آلفين من حبل الوريد. كان الموت عدة ثواني مني.

    وفي اللحظة التي كسر أحدهم زجاجة على حافة القطار يريد أن يحشرها في صدري أدخلت يدي في جيبي إذ تذكرت أنني أملك ضفارة "قلامة أظافر" بها جزء صغير يشبه المطوة. فتحت الضفارة داخل جيبي وأنتظرت. قررت أن لا أموت دون مقاومة. تلك كانت خطة موفقة بمحض الصدفة. إذ ظنوا أنني أملك سلاح "مسدس". إنه رفيق آلفين. تشاوروا فيما بينهم كيف سيغدرون بي مع شبهة المسدس. رفيق آلفين لا بد أنه أخذ كل الإحتياطات قبل أن يرتكب مثل تلك الحماقة ويصعد في مثل ذاك القطار الصاخب.

    كررت "أنا لست رفيق آلفين ولا أعرفه ولا أعرف أياً منكم، أنا لست من هنا، أنا من هولندا" ورويت بإقتضاب، لماذا أنا قادم إلى ليدز. فأخذوا يتهكمون "لا بد أن معك ويت أي مارقوانا، بنقو". تقدم مني أحدهم قليلاً وبحذر ويبدو أنه الأكثر تعقلاً وقال لي : أثبت لي ذلك
    Prove it?
    "لم أقل غير الحق"
    قال آخر من خلفه دعه يرينا بطاقته الشخصية "انت ليس بوليس، لن أريك شيئاً".. "انت رفيق آلفين" وأخذو يشتمونني بجميع الألفاظ الفظة وتوعدونني بأنها ستكون ليلتي الآخيرة مهما تسلحت بالأسلحة.

    فكرت في أن أدعهم يرون تذكرة السفر لكن إن أخرجت يدي من جيبي لأبحث في حقيبتي سيكشفون أنني لا أملك سلاح وربما غدرو بي قبل أن أريهم أي شيء فهم على يقين أنني رفيق آلفين. كانوا يحتاجون عدة ثواني فقط للقضاء على الوحش المقيم في مخيلتهم . كانوا يتنادون إلى ساحة الوغى في مواجهة الوحش المرعب رفيق آلفين. كانت عدة ساعات من الأرق والقلق والمأساة. وفي لحظة محددة مسكوا أذرع بعضهم البعض وأنحنوا يتشاورون في خطة ما جديدة، فأقتنصت الفرصة ومررت إلى عربة أخرى وأنا أنظر خلفي عند كل خطوة أخطوها. وكنت أيضاً في حوجة للتوليت.

    وصلت التوليت في مكانه المعتاد في القطارات. وجدت ثلاثة بنات يجلسن على ثلاثة كراسي قائمة لوحدها في المساحة القائمة أمام التوليت، وفي اللحظة التي هممت بفتح باب التوليت إستأذنني أحدهم برفق (ليس من تلك الشلة) في أن يدخل أمامي كونه "مزنوق". فأذنت له، لكنه طلب مني أن أمسك له زجاجة الواين الأحمر خاصته حتى يخرج، ففعلت. وقفت واحدة من الفتيات الثلاثة بغتة وجاءت ناحيتي وجميعهن ثملات. كان في أنفها أربعة زمامات وعلى جيدها كتلة من الحديد الفضي والزمرد وهناك أوراق فضية تتدلي من تحت سرتها وقشة ذهبية تنغرز في حاجبها الأيسر وأخرى في شفتها السفلى وحبة فضية تبرز من لسانها. وكانت جميلة الوجه، بسيطة الهندام، لطيفة العبارة متغنجة بغير تكلف. طلبت مني أن تقرأ محتويات زجاجة الواين، أعطيتها الزجاجة، ألتفتت إلى صاحبتيها "هذا أجمل واين أحمر في الدنيا"
    Mouton-Rothschild
    ثم رفعت رأسها مع الزجاجة وبدأت بشكل تلقائي تتذوق الواين الذي أعجبها، في تلك الأثناء خرج الرجل من التوليت، حملق ناحيتي "انت تكرم عشيقتك بزجاجتي" هممت بالرد عليه "ليست عشيقتي ولا أعرفها" لكن قبل أن أنطق بالكلمة أخذت الفتاة تهنأه على ذوقه الرفيع وتحييه بشدة بينما هي تقبض بيده فأنفرجت أساريره وهو يشرح لها كيف حباه الله بتلك الخصيصة " تعلمته من جدي". وبينما نحن منهمكون معاً في تهنئة الرجل كان هناك أمر جلل يحدث قبالتي بعدة أمتار إذ تجمهر الأعداء من أمامنا يقصدون شراً برفيق آلفين المتخيل. فكرت وقدرت ثم أخذت أذن الفتاة وشرحت لها مصابي الجلل في لغة واضحة بينما كان صاحب زجاجة الواين ما زال يقف بجانبنا ينتظر إكمال إجراءات تهنئته بالذوق الوايني الرفيع. الفتاة كانت ذكية و لطيفة وشجاعة وشهمة بطريقة أقرب إلى الخيال. فجأة صاحت أوووه حبيبي وقبلتني عدة مرات أمام الناس وأعلنت للجموع الهائجة
    This is my boyfriend coming from Holland
    إنه صديقي قادم من هولندا للتو. وعندها سألني صاحب الزجاجة برفق "هل معك مارجوانا" لم أشا أن أقول "لا" إذ لا أحد يصدق أن رجل قادم من هولندا ولا يتعاطى المارجوانا "الحشيش". فقلت له "سنتفاهم عندما نصل إلى محطتنا الأخيرة". تشتت الجموع المعادية بعد هذه الوقائع لكن ببعض التلكؤ والتململ ومازال البعض لا يصدق "لا بد أنه آلفين جديد" قال واحد منهم وهو ما يزال يحملق ناحيتي بمنتهى الشرانية وهو يترنح. كانت حبيبتي المزورة كل تلك اللحظات العصيبة تضمني إليها بشدة وتسألني وفمها في أذني "إسمك منو؟" أخبرتها وسألتها بدوري بذات الطريقة ، فقالت بإسمها :"فانيسا".

    وبعد أن أنقشع القدر الأكبر من الجماهير المعادية لألفين عرفتني برفيقتيها "ليليان وأليكسا". صديقتي فانيسا ورفيقتيها من قرية سيلبي الواقعة في المسافة بين هيل وليدز. فكت فانيسا وثاقي ومشت داخل القطار للتحقق من مدى الخطر المحتمل بينما القطار بدأ يقترب من محطته الأخيرة "ليدز". كان أمامنا محطة واحدة ونصل إلى ليدز. رأيت من على البعد فانيسا تشتبك مع أحدهم وعادت غاضبة وهي ترتعد: "قالوا ربما يقتلونك وأنا أيضاً".
    وعندما بدأ القطار على مشارف التوقف في تلك المحطة قبل الأخيرة، أمرتني فانيسا بالنزول من القطار فأجبتها بلا "لن أفعل" "هناك مشكلة" فمازحتها "أريد أن أموت بجانبك".. ثم أصبحت أكثر جدية: " لن أتركك وحدك، أنا وضعتك في الخطر وعلي أن أراك في سلام حتى تصلي إلى محطتك الأخيرة" ، ضحكت ثم صمتت: "انت عنيد". وعندما توقف القطار في المحطة السابقة لليدز أمسكتني فانيسا من يدي وقفزت بي من القطار يتبعنها رفيقاتها بنات سيلبي. كانت الساعة الثانية والنصف صباحاً عندما ركبنا التاكسي في رحلة جديدة إلى ليدز، رحلة مسالمة وجميلة هذه المرة، كان الفتيات الثلاثة يغنين في التاكسي أغاني من التاريخ السحيق بلغة غارقة في الأعجمية، بينما نحن في طريقنا إلى ليدز "فندق إيتاب" حيث أجمعنا على أن ننام جميعنا في غرفة واحدة هي غرفتي المحجوزة سلفاً. غير أن المفاجآت لم تنتهي هنا!.



    Post by Mohamed Gamaleldin.

    (عدل بواسطة الشيخ أبوجديري on 07-11-2014, 04:53 PM)

                  

05-31-2014, 03:34 AM

الشيخ أبوجديري
<aالشيخ أبوجديري
تاريخ التسجيل: 08-21-2012
مجموع المشاركات: 525

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حكايات مع حبوبة andquot;آمنة بت حمادandquot;: للروائي محمد جمال الدين (Re: الشيخ أبوجديري)

    هناك بوست جديد صاخب، يختص بقصة خاصة لا علاقة لها حتمية بهذه الأحداث... إنها قصة عجيبة
    (قصة الشابة الإنجليزية فانيسا مع حفيد آمنة بت حماد) هنا:
    http://www.sudaneseonline.com/board/470/msg/1401403879.html
    -----
    قلنا نخصص مساحات خاصة للقص......... هذا البوست من هنا ورايح فقط للجدة (آمنة بت حماد) وحدها وبس.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de