|
كوارث السودان ( ربّ ضارّة نافعة )
|
ليس من المستغرب إلمام الكوارث والمحن بأي شعب من الشعوب ، غير أن الطريقة التي يتعامل بها كل شعب مع هذه الكوارث ومسبباتها وأسبابها إضافة للدروس الممكن استخلاصها منها ومدى الاستفادة من العمل بها في المستقبل هو الأساس السليم الذي ينبغي أن يحوّل الكارثة لإرادة تتحدى لتغيّر وتصنع الأفضل دائما وأبدا . لن نكون مخطئين عندما نوجه أصابع اللوم والانتقاد إلى الحكومة ، فهناك إرصاد جوي يدرس ويحذر باكرا ، وهناك تخطيط مسبق يرتبط بالتخطيط العمراني ، وهناك أيضا موجبات البنية التحتية السليمة ، كلها مسائل لايمكن إعفاء الحكومة متضامنة عن مسؤولياتها ، وبالتأكيد قد لاتتمكن الحكومة من درء السيول ، ولكنها على الأقل كانت ستحدّ كثيرا من آثارها ، ويجب أن لايمر هذا الأمر مرور الكرام وأن تتم محاسبة كل من تسبب في هذا القصور لأن تسببه في القصور جاء ثمنه الآن أرواح وممتلكات وجرحى ومشردين وضحايا ، وأيضا جاءت شاغلا للبلاد ومعيقا لحياتها اليومية ، وأيضا أضرّ باستراتيجية الدولة وجعلها تتسول العون والمساعدة . من جانب آخر ، ولو حاولنا النظر بالعين الأخرى المرتبطة بالنصف المملوء من الكوب نجد أن هذه الكارثة أزالت الصدأ الذي علق بمفاهيم التكافل الاجتماعي كقيمة مجتمعية أصيلة لازالت تخوض صراع البقاء أمام عسر الحياة الاقتصادية والمعيشية ، وطغيان العالم التقني ، وهي قيمة يجب أن نحتفل باستعادتنا لها ، فمعظم ملامح سحنتنا السودانية قد رحلت خلال العقود الأخيرة ، وأصبح البحث عنها ضرورة ملحة لعودة العافية لمجتمعنا وبلادنا . ورغم اختلافنا في العديد من الأمور مع الطريقة التي تتم بها إدارة البلاد إلا أننا لانستطيع الاغفال عن نسبة الحرية المتاحة ، والتي ربما تكون حرية تنفيسية تمّ رصدها بمقدار ، غير أن إعلامنا الوطني لابد له من الاستفادة من هذه الجرعة ، والحفاظ عليها ومحاولة زيادة رقعتها ولو تدريجيا ، فالاعلام السوداني وفق هذه الجرعة وقف على زاويتين ، أحدهما الاعلام الموالي الذي يحاول تبرأة السلطة وإيجاد الأعذار لها على هذا الدمار الذي يحسه الأهالي ويكتوون بنيرانه الحارقة ، وإعلام وطني منه المستقل الذي ينظر الى الكارثة بزاوية إخبارية توثيقية بحتة ، وآخر يستغل إخفاقات الحكومة في الكارثة ليجعل منها هدفا سهلا يسجله في مرماها ، وبين هذا وذاك برز الاعلام الذاتي الذي يقوده عدد كبير من الشباب عبر بعض وسائل الاعلام ، وأيضا عند مواقع التواصل الاجتماعي بالأنترنت ، وهو إعلام يؤسس لاعلام وطني حقيقي يحمل الملامح السودانية البحتة في تكوينته ، غير أن هذا النوع من الاعلام ، رغم ضخامة عدد المشتغلين به ، يبقى تأثيره أضعف بكثير مما يجب ، بسبب أنه إعلام عفوي لم تتم قولبته في إطار واحد مما جعل الجهود تتشتت كسهام طائشة . العبرة الثالثة التي يجب أن نستفيدها من هذه الكارثة هو ضرورة إيجاد صيغة لحوار وطني جاد لايفرض فيه طرف هيمنته على آخر ، ولايتم فيه إقصاء طرف من الأطراف ، ولاتوضع له أجندة قبلية مسبقة ، ولكن ليخرج بما يفيد البلاد ، وأن يكون الحوار للوطن ، لأن المرحلة القادمة هي مرحلة بناء لا مرحلة حرب ، فما لم تدمره الحرب دمرته الكوارث ، ماذا يريد المتحاربون إذا ؟؟؟ الانطلاقة يجب أن تبدأ مما التقت فيه كل الأطراف فالكل يحب السودان ، والكل يريد أن يراه في مقدمة الأوطان ، والكل يهمه الشعب ، والكل يريد رخاءا عمرانيا واقتصاديا ، وما إلى ذلك من أمور مشتركة يصعب حصرها لكثرة عددها فلماذا لايبدأ الجميع من هنا ؟؟؟ لماذا لايتوقف صوت الرصاص ويتوقف معه صوت الحاجة وأصوات الغبن وقدما المهجر وما إلى ذلك من أمور ، فصوت البندقية هو العائق الحقيقي لانطلاقة كل سباق للاذدهار ، وهو ليس لوم لجهة ، ولكنها إدانة لكل أطراف الحرب حكومة كانت أو معارضة ، وليس هناك منطقا أومبررا لقتل إنسان من أجل رسم حياة أفضل للآخرين ، فالنفس حرّم الله قتلها إلا بالحق ، وفي الحق العقائدي قول وقول ، أمام كل مايدور بالبلاد من حروب ، لأن الدين المعتدل الذي نفهمه يقول أن التقاء مسلمين بالسيف يعني حرمانهما من الجنة ، فكم من مصاحف في صدور تم قتلها أو إحراقها من جانب هذا الطرف أوذاك ، والكل يقيم عرس الشهيد ، لست مؤهلا للتحدث باسم الدين ، ولكنني باسم العقل هذه هي رؤيتي وقناعاتي ، وبالتأكيد يبقى الدين هو مسيّر العقل في خاتمة المطاف ، ولكنه دين أبي وجدي ، ودين كل سوداني معتدل لاينتمي لهذا الفصيل أو ذاك ، ولايميل سوى لما تمليه عليه أمانة المهنة والقلم ، ، ورؤيتي الاعلامية لتلك الاقتتالات أنها عديمة المعنى ، وهي في معظمها تنطلق من أسباب شخصية ضيقة لاتحمل أفقا غير الدعم والأضواء ، رغم فداحة الثمن ، فالعداوات المتبادلة بين الأطراف السودانية ليست عصيّة الاستذابة لو أرادت أطرافها ذلك ، فليس هناك خلاف مذهبي سني شيعي مثلا ، وليس هناك خلاف على دولة سودانية تحكم بالقيم الدينية العادية للشعب السودان لا القيم الدينية المتشددة التي تشوّه الدين بدلا عن أن تجذب له ، فالدين لو تدين كل فرد فينا لأصبح المجتمع متدينا ، لأن الفارق بين جماعات الاسلام السياسي وبقية المسلمين أن جماعات الاسلام السياسي تسعى لتأسيس الدولة الدينية ، بينما جماعات الاسلام العادي المعتدل تسعى لتأسيس مجتمع متدين لامجتمع ديني ، والفرق كبير جدا في المحتوى والمفاهيم ، لأن الدولة الدينية تعني الاختلاف والخلاف والحدود والترهيب ، بينما المجتمع المتدين يعني الحرية والترغيب فالدولة الدينية يكون الانتماء لها بالتخويف بينما المجتمع المتدين يتم الانتماء له بالرغبة والايمان . وبعيدا عن التحليلات التعريفية فإن التفكير في إعادة تشكيل وبناء المناطق المدمرة يجب أن يتم بطرق علمية مدروسة تستفيد من أخطاء الماضي ، وعلى الحكومة أن تنظر في إعادة تقسيم المناطق المدمرة بوضع رأسي لا أفقي هذه المرة ، حتى لو تأخّر التنفيذ ، فأن يتأخّر التنفيذ قليلا خيرا من أن يتم التنفيذ على عجل ونقع في ذات الأخطاء ونعود بعد عام أو أعوام لذات المربع ، فالبناء الرأسي يوفّر الكثير من الوقت والجهد والمال ، ويضمن بقدر أكبر توفير خدمات مستقرة وآمنة ، حتى لو تم البناء في شكل أسهم استثمارية خاصة بالسودانيين في داخل وخارج الدولة . ونواصل ...
|
|
|
|
|
|