عوالم مفقودة

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 05:38 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-13-2013, 11:29 PM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عوالم مفقودة


    كنّا جالسين على شاطئ البحر عندما اندفعت المياه بعنف، كأنها غاضبة تحاول الانتقام من مخلوق ما، ولم يوقفها شيء. فأي شيء,ذلك القادر على مقاومة المدّ الهادر مثل سيف بتار؟
    لم تمر سوى ثوان معدودات, حتى غطي البحر المنطقة المحيطة به على امتداد كيلو متر من كل جهة, أو أكثر بقليل.
    هل عدنا موجودين هنا؟ جزءاً من هذا العالم؟
    ليس بإمكاني أن أتذكر, أو أفهم ما حدث بالضبط !.. فالفوضى التي دمرت المكان, كانت قد حوّلت الكائنات والأشياء إلي مجرد ظلال وذكرى.
    وحدها المياه استمرت جزيئاتها يقاوم بعضها, دون أن تدرك ما الذي حرّكها بهذا العنف الجبار وجعلها تمارس غضباً قاسياً, حوّل العالم إلي أشباح وموجودات على هيئة مخلوقات تائهة, مجهولة الملامح.
    الغضب لم يقتصر على الماء، ففي السماء انطفأ ضوء الشمس فجأة.
    في البداية خلنا أن سحابة كبير جداً غطت ما بين السماء والبحر, لكن لا أثر يدل على هذه السحابة المزعومة!
    من أعلى الماء, امتدت الظلال الكثيفة لتدخل الأرض فيعمّ الليل مع توقف عقارب الساعة عند منتصف النهار بالضبط.
    أكاد أجزم أنني رأيت نجمين, ثلاث, ربما عشرات النجوم. لم يكن بمقدرتي أن أميز الأرقام, لسبب ما، لم أفهمه!
    هل غاب عقلي ؟
    هل أنا أحلم ؟
    أم أنها واقعة حقيقية تحدث أمامي: هذا الارتباك الذي غيّر نواميس الكون في لحظات غائبة عن الزمن الذي تعودناه.
    كم من الوقت مضى ؟.. لا أدري!
    عيناي مفتوحتان, تحلقان في العدم، لا أرض، لا سماء، لا نجوم، لا شمس !!
    أين ذهبت المجرات الجميلة الملتفة كعناقيد عنب؟
    وإلي أي ملجأ هربت الشمس؟
    ومن سرق النجوم؟
    هل أنا حيٌٌ أم ميت؟!
    أسئلة لا عد لها, تداخلت في ذهني, وأنا غير قادر على تحديد موقعي من الكون, موقع الروح في جسدي.. هل كنت محمولاً على جسد, أم معلق في الفراغ؟
    إذا كان هذا الفراغ اللامحدود, المجهول, والمفتوح بلا نهايات, هو سرداب الموت, فحتما أنا ميت الآن.
    لكن هل يفكر الميت؟ يتذكر؟ يقلق كثيراً كما هي كعادته قبل أن يموت؟
    تلفت حوليّ, لا أحد, وصرخت بصوت - أخاله عالياً - كأقصى ما يكون العلو, حيث لا مقاييس ولا أشياء تعترض الصوت فيرتد صدى.
    ظننت أن حيرتي ووحدتي ستطول, في عالم آخر مغطي بالألغاز, يختفي فيه أي أثر للروح والجسد.
    ظني لم يصمد, فقد سمعت صوتاً, يشبه صوتي, غير أنه ليس صوتي.
    جاءني الصوت ممتزجاً بأنغام موسيقى غريبة, غير مألوفة بالنسبة لي, حدثني:
    - لا تخف فأنت في دنياك لم تغادرها بعد.
    وأردت أن أسأله: أين أكو؟
    هل أنا داخل حلم في منام عميق؟
    قبل أن أسأله، كان قد هرب الصوت, لتتجدد حيرتي ووحدتي.
    في هذه المرة انفتحت عيناي ترتجفان. كانت أمامي مجموعة من البشر, لم أهتم بأشكالهم، ألوانهم أو أعدادهم.
    بشر.. أشعروني بغبطة عجزت عن رؤية انعكاساتها على وجهي, فربما لم يبق لي وجه.
    لكي أتأكد تحسست ذلك الجزء المكور القائم فوق عنقي.
    هاهي أنفي..
    هذا فمي..
    تلك أذناي..
    وصرخت: أين أنا.. ومن أنتم؟
    تردد سؤالي أكثر من مرة, لأجد ذات السؤال يتكرر من كل واحد، من الرجال والنساء الذين كانوا حولي.
    سأل أحدهم :
    - هل انحسر الماء ؟
    وسأل آخر:
    - أين الشمس ؟
    كانت هناك أسئلة كثيرة جداً, بعضها سمعته, وغاب البعض، مع انشغالي بحالي وتفكيري, ما الذي جرى أو ما الذي يجري؟!
    الحقيقة التي اكتشفتها متأخراً, بعد كم من الوقت؟ - (لا أدري) - فالإحساس بالزمن كان منعدماً- أنني كنت عارياً, تماماً كما خرجت من بطن أمي قبل أربعين سنة أو أقل بقليل.
    لماذا أنا عارٍ؟ وأين هي ملابسي؟
    لم يكن لي أن أدرك, أفسر أي شيء.
    نظرت حولي، الجميع عراة, نساء ورجالاً. لكن لا أحد يهتم بأحد, هل ماتت الشهوة فيهم؟
    لماذا هم كالسكارى يصرخون ويكررون: أين أنا؟.. من أنا؟.. ما الذي حدث؟.. ما الذي يحدث في العالم؟
    مرة أخرى، سمعت ذات النغم الموسيقي الذي جاءني من قبل ممتزجاً مع الصوت الذي يشبه صوتي.
    ارتفع النغم شيئاً فشيئاً, تداخل مع أفكاري وكأنه يخرج من داخلي أو لعله كذلك.
    كدتُ أن أعتقد أن النغم ملك لي وحدي, لا أحد غيري يسمعه, قطع اعتقادي أحد العراة, سمعته يسأل:
    - هل تسمعون هذه الموسيقى؟
    تلفتُ لأري من وجّه السؤال، لم أعرف ولم أهتم.
    ازداد ارتفاع الموسيقى, ومع الارتفاع التدريجي, كان الإيقاع الهادي يتحول إلي ضجيج وفوضى من الإيقاعات النشاز الذي تصمّ الأذن.
    أحسست بالتشوش.. وضعت أصابعي على أُذني, حتى أكسر حدة الضجة الموسيقية, لكن المقاومة كانت صعبة, فقد طغت الأصوات العالية وغمرت الوجود.
    الآن.. لا يمكن تفسير المكان الذي أنا في جزء منه, إلا أنه هالة من الموسيقى العالية الضاجة, موسيقى تشبه الفوضى, إذن أنا أقف على أرض من الأنغام, من الإيقاعات, وعليّ أن أقاوم حتى لا أغرق في بحر الموسيقى.
    هل أنا حيٌ..جزء من العالم؟
    كررت السؤال مجدداً, أكثر من مرة, ولم أكن متأكداً من أي إجابة, فلا شيء يحمل دليل الموت, مثلما لا يوجد ما يحمل دليل الحياة.
    أي شيء يفرّق بين الموت والحياة في هذه اللحظات الهاربة من الزمن؟
    إذا قلت أنني حيٌ, فما هي الحياة؟
    ما الذي يجعل الكائن يعرف أنه حيٌ, جزء من العالم, هل هو الألم؟
    جربت, ضغطت بقوة على إصبعي, اندفع الدم غير أني لا أحس, لا أشعر بأي قيمة لما فعلت.
    صرخت, ربما تكلمت: أين أنت أيها الألم؟..أريد أن أحس؟
    كنت محتاجاً لأتألم، حتى أفهم أن الحياة تجري في دماي, تحاصرني، حتى لو كانت حياة قلقة, لا معنى لها, فدائما كنت أعيش متوتراً.
    قلت: أنا لا أتألم..إذن أنا ميت.
    لكن لا يوجد دليل على موتي.
    إذن أنا أحلم.
    لكن الذين يحلمون يمكنهم الشعور بالألم.
    أي عالم هذا الذي أنا وهؤلاء الذين من حولي, جزء منه؟
    أي عالم هذا الذي تشكله الموسيقى الضاجة ويتجرد عنه الألم.
    حاولت أن أتذكر, أحفر فيما تبقى لي من ذاكرة.
    لم أتذكر سوى أمواج البحر المندفعة بقوة نحوي, حيث كنّا جالسين, أنا...ومن كان معي؟.. نسيت.. غاب كل شيء تماماً, فأنا لا أتذكر شيئاً, لا أتذكر أي تفاصيل من حياتي.. من أكون؟ وأين كنت أعيش؟ وهل كنت في العالم حقاً أم لا؟!
    لقد انمحت الذاكرة عندما غاب الألم, فليست الذاكرة إلا نوع من الألم.
    إن تذكرنا ليس إلا نوع من الألم الخفي الذي يجعلنا غير قادرين على اختراق الحاضر نحو الغيب, المستقبل.
    الألم هو الذي يمنع الكائن من التحليق حراً كملاك, كإله.
    هو الخاصية التي دفعها الله في مخلوقاته حتى تعجز عن رؤية المستقبل.
    الإنسان عندما يتحرر من الألم, يكون قد وصل درجة السمو التي تجعله يعيش إلي الأبد, في اللازمان واللامكان، هكذا كنت أعتقد.
    الآن أفهم أن اعتقادي صحيح حيث أنا هائم في اللازمان واللامكان.
    لكن هنا يوجد مكان روحه الموسيقى الضاجة التي تؤلمني.
    إذن أنا أتألم.. فهذه الموسيقى تجرحني, تشعرني بالضيق, بالرغبة في مغادرة هذا العالم الجديد, الذي لا أدري من أين جئت إليه وكيف دخلته, وهل سيكون ممكناً الخروج منه أم لا؟!
    كيف تحولت الموسيقى إلي ألم؟ ضجيج قاس موجع للذات؟
    طوال حياتي كنت عازفاً ماهراً على جميع الآلات التي جربتها منذ صغري, ولم أشعر ذات يوم أن الموسيقى توجعني وتقلق وجودي, فلِما هي اليوم ضدي؟ تحاصرني وتشعرني بالتيه, في هذا المكان الذي لا شيء فيه، سواها.
    أي مكان هذا الذي ينسج عوالمه من الموسيقى ويتسبب في كراهيتها ويجعلها غير ذات معنى؟
    لم يكن لي القدرة على الإدراك, الفهم والتفسير.
    مع الألم يعجز الكائن عن الوعي والتمييز.
    غير أنه ألم غريب, لا يشبه ذاك الذي ألفته طوال الحياة, وأنا أبحث عن معنى أن أكون جزءاً من العالم.
    كان إن فشلت حتى أخذني البحر في طوفانه, إلي هذه الدنيا الجديدة, التي أنا تائه فيها مع هؤلاء العراة.
    كنت أود أن أخاطبهم, أتكلم معهم, أسألهم: هل تشعرون مثلي بالألم الذي تسببه الموسيقى بنشازها وضجيجها؟
    هم لا يكترثون، لا يهتمون إلا بأنفسهم.
    هم هائمون في أشيائهم, التي هي غائبة عنّي, وليس بإمكاني أن أحدد ماهيتها!
    كانت أسئلتي كثيرة رغم الألم والتيه: هل كنتم تقضون ظهيرة رائعة الطقس- مثلي- إلي جوار البحر؟ وهل حاصركم الموج وجاء بكم إلي هنا؟
    لا تنته الأسئلة، بل تبدأ من جديد مع ارتفاع الإيقاع الضاجّ الذي كلما علا, ارتبكت أكثر وازداد توتري, وكبرت رغبتي في الهروب عن هذا العالم الجديد. لكن إلي أين سأهرب؟. ولو افترضت أن ذلك كان ممكناً, فهل سأصل إلي عالم آخر أفهم فيه ما عجزت عن فهمه في دنياي وفي هذا العالم الموحش بموسيقاه التي لا تستح من العراة؟
    أفكر في الهروب – كعادتي- فقد كانت حياتي سلسلة من الهروب المتواصل, فأنا بطبعي ملول, لا أتحمل شيء لفترة طويلة.
    هل كل ذلك حدث فعلاً؟ أم أنني أتخيل؟
    أتخيل ما عجزت عن تحقيقه من أحلام في ذلك العالم المفقود عنّي في هذه اللحظة, والذي بدلّته أو استبدلني بعالم ضاج, حدوده الموسيقى والألم.
    أتذكر جيداً أنني جربت, لأنني أتألم, ولأنني كما أخبرتكم أفهم التذكر على أنه لا يأتي إلا مع ازدياد حدة الألم. جربت التنوع التنقل والتبدل في كل الوظائف والمدن, فقط كان هناك شيء واحد لم أقطع علاقتي به طوال حياتي, التي لا أعرف انتهت أم لا؟! هذا الشيء الواحد, هو الموسيقى. فمن النادر أن تراني أعيش دونها, عازفاً أو مستمعاً أو مفكراً في لحن جديد يغسل أحزاني التي هي جزء من أحزان العالم الذي انتمي له. ولسنوات طويلة من حياتي كنت أعتقد أن الموسيقى كفيلة بمحو الحزن عن العالم, إذا عرف الإنسان كيف يفهم الموسيقى ويتفاعل مع خواصها السرية أدرك الطريق إلى خلاصه في الوجود, أن يحقق معناه ومبتغاه. فالموسيقى هي ذلك الغز الخفي الذي اندست فيه كينونة العالم وروح الحقائق الغائبة, ورغم أنها ظلت اللغة المشتركة لجميع شعوب الدنيا, إلا أنها ظلت اللغة التي عجز الجميع عن تفكيك رموزها العميقة. هي تشبه الأحلام في أسرارها, وهي لغة منسية كالأحلام, لكن الموسيقى هي أحلامنا في اليقظة, والأحلام هي موسيقى منامنا وموتنا, وإذا كنت أنا الآن ميت, فهل يعني ذلك أن الموسيقى فقدت لدى روحي سحرها القديم, ذلك الذي علمني الانجذاب للتأمل والطيران بحرية دون قيود؟ أم أن حقيقة الموسيقى كانت غائبة عني, وكنت في الواقع مخدوعاً بما ظننته المعنى, وقد جاءت هذه العوالم التي لم أدركها, لتجعلني أدرك عمق الخديعة التي كنت مغلفاً بها, وغارقاً فيها والمتعلقة باحترامي للموسيقى.
    هل كان من الضروري أن يرتفع ماء البحر لاكتشف خديعة الموسيقى؟ وما الذي استفيده من معرفة جاءت متأخرة، بعد أنتهي كل شيء؟
    لكن عليّ أن لا أستعجل في تقرير الأحكام بأن الأشياء قد انتهت, فهناك مكان حاضر, من نوع ما, من أي شيء ما, مجهول وغريب. المهم أن المكان موجود, كذلك أن الألم موجود, والبشر حاضرون, رغم أنهم لا يهتمون كثيراً, ولا قليلاً, رغم أنهم مشغلون بأنفسهم, ولا يفكرون داخل دوائرهم الخاصة.
    هل تشغلهم الموسيقى مثلي؟
    ليس بإمكاني أن أحدد جواباً لما هو خارج عن دائرة سيطرتي, فعندما يتجرد الإنسان عن عوالمه المدركة, يفقد السيطرة على العالم, وقد كنت أعتقد العكس من قبل: أنني لا أسيطر على شيء.
    الآن, فقط, أفهم أن سيطرتي كانت كبيرة جداً, وأن العالم كان قد تطوع وفق ما أريد, لكنها أزمتي كإنسان, لا اكشف المعنى, إلا بعد أن أغادر الموقع الذي كان من المفترض لي أن أفهم المعنى عنده. ومرّد ذلك إلي الألم الذي يشغل الكائن بالماضي, يجعله متمسكاً بالذكريات, بالتحديق بكابوس قديم, بالجرح الذي لا يجعلك تفكر في شيء سواه.
    كنت قد غادرت البحر, لكنني لا أزال عاجزاً عن اكتشاف معنى ما حدث معي, فهل تجردت عن خواصي كإنسان يفهم المعنى متأخراً, أم أن ذلك الموقع الذي سيكون بإمكاني أن أفهم هذه لم يحن موعده بعد؟! قد أبدو وقتي في التفكير الطويل,دون أن أصل لنتيجة محددة,إلا لأنني تحررت من سلطان البحر عليّ,لأدخل في هذه العوالم الغربية التي لم أدخلها من قبل,لأجد روحي صريعة بالألم,تعاني,محاصرة,كأنها لم تخرج من دنيا البحر,الذي يدل في مفهوم "محمد بن سيرين" على الدنيا وأهوالها,"تغر واحداً وتموله تقفز واحداً وتقتله, وتملكه اليوم,وتقتله غداً أو تمهد له اليوم,وتصرعه بعده" وربما "ول البحر على الفتنة الهائجة المضطربة الفائضة" .
    لم أكن أعلم أن ني في عالم يدنو بالأشياء التي تتصورها في اللحظة,ولأنني كنت قد تصورت ابن سيرين وتذكرته,فقد رأيته أمامي واقفاً عارياً مثلي,لكنه لا يهتم بكوني عاريا أو كونه عاري,وعلى عكس هؤلاء العراة الذين حدثتكم عنهم,فقد كان ابن سيرين مشتاقاً للحديث معي بشوقي للحديث معه,وتلك قاعدة أُخرى من قواعد العالم الجديد الذي أصبحت جزاءً منه,وعليّ أن أفهمه تدريجياً,مثلما يفهم الطفل الدنيا ساعة يدخلها شيئاً فشيئاً,إذن أنا أولد في عالم مختلف,مفقود عن حياتنا التي ندركها,ولا أفهم حتى الآن:ما هي طبيعة هذا العالم ولا النواميس التي تحركه,ولماذا هو ضد الإيقاع الروتيني الذي تقوم عليه موسيقانا الدنيوية.
    عندما رأيت ابن سيرين حمدت الله,فالرجل عارف كبير لا شك فيه,ومنذ طفولتي تعلقت بتفسيره للأحلام,وكان والدي يحتفظ بنسخة من الكتاب,يعود إليها كلما رأى حلماً في منامه وكان والدي كثير الأحلام وكثير الحكي عنها,للدرجة التي جعلتني أفكر وأنا طفل :هل يعيش والدي داخل الأحلام في مناماته ويخرج منها في النهار ليعود إلي عالمه الحقيقي في الحلم,أم ماذا؟..فقد سمعته يقول ذات مرة :"الأحلام هي حقيقة الوجود,وهي العالم الذي يعيشه الإنسان واقعياً..أماما يسمونه بالواقع فهو مجرد كابوس لا وجود له".
    رآني ابن سيرين غارقاً في ألمي من الموسيقى,وقرأ ما يدور بخاطري من أفكار وكانت له ملكات أعمق مما تصورت,سلم عليّ بحرارة,وضمني إلي صدره وقال لي:"طالما اشتقت إلي لقائك".ضحكت وسمعني,ولم يحزن.وقلت له:أنت الذي يستحق الشوق سيدي",لكننا في العالم الذي يطرد الأسياد إلي الأبد,هنا الناس سواسية كيوم ولدوا ...إنهم يخرجون إلي هذا العالم لكي يحققوا ما عجزوا عنه في دنياهم,فأي شيء لم تقدر على صنعه؟وأي شيء غابت رؤيته عنك؟.
    "هل تعتقد أننا في الجنة؟"
    "لا..أنت في عالمك الأرضي لم تغادره ..لكن فرق بين الأرض التي كنت تعرفها,والأرض التي عرفتها الآن"
    "لا أفهم سيدي"
    "آلم أخبرك تناديني سيدي"
    "بلي..وأني لاعتذر"
    وأخبرني ابن سيرين بما أدرك عن هذا العالم المفقود,وقال:أعلم أنك خرجت من البحر حرا,تحلق في الفراغ,لا شيء يقبضك فالأحرار لا تصطادهم الأشياء,هم الذين يصطادون كل شيء,لكنهم لا يقيدونه,وهذا هو الفرق بين الحر والعبد.العبد يظن أنه سيمتلك العالم في لحظة ما,غائبة لم تأت بعد,بينما الحر قد أمتلك العالم فعلاً بمعرفته وإدراكه.فقد أرتبك الموسيقى التي ظلت إلي جوارها طوال سنوات عمرك, بالنور والضياء,فالذين يدركون الموسيقى وسحرها يعرفون كيف يقتربون من معنى العالم,هنا يوجد ذلك المعنى الذي كنت تبحث عنه,المغزى الضائع في حياتك الأولى,ما قبل ارتفاع أمواج البحر.
    وستسألني:لماذا تعذبني الموسيقى هنا؟..سأخبرك:إنها لا تؤلمك,بل لأنك لم تتخلص من فكرة الألم التي جئت تحملها معك من ذاك العالم الدني إلي هذه العوالم الجميلة المفقودة,والتي بمجرد أن يدخلها أي كائن,لا يفكر في مغادرتها مرة أُخرى,لأنه يجد هنا ما كان يبحث عنه طوال حياته الماضية.هنا جنة صغيرة تكاد تشبه الجنة التي يرتادها الأخيار بعد موتهم.ستسألني :كيف أفرق بين موتي ودخولي إلي هذا العالم المفقود,سأخبرك :أن الموت شكلٌُ من أشكال نسيان الألم,وأنت لم تنس الألم بعد,لكن حتما ستنساه ذات يوم عندما تعرف أن تكون حراً بكامل معنى الحرية,بإرادتك الخالصة التي هي ملكك أنت وحدك ولا أحد يشاركك فيها.
    نحن في عوالم هي جزء من عالم الحلم الذي يدخله الإنسان,فيحس بصدق حواسه,ويصل إلي مبتغاه,ليعيش كل فعل كما أراد,لا كما تريد الأشياء من حوله.وأنت هنا قد أدركت هذا الأمر,غير أنك لم تجربه بعد,وساعة تبدأ في التجريب,ستقول محدثاً نفسك:بالسعادة بالإشراق..كم يبدو العالم أفضل من التوقعات.وغداً ستعود إلي دنياك مغسول الروح والجسد,طاهراً نقياً,لكن لا تخبر الناس أنك كنت هنا فإن تحدثت بذلك فشلت وكان مصيرك التيه والعبودية إلي الأبد.الذين خرجوا لم يتكلموا,لهذا لا أحد يحس بهم,ولا أحد يدركهم,هم فقط الذين يفهمون جيداً عمق العالم وموسيقاه الغائبة.وصّدق أن سعادتك بعد خروجك لا تدينها سعادة ستقول لي :سعادة الملوك والأُمراء والسلاطين وأصحاب الجاه,فأعلم كل سعادة لم تعبر بهذا المكان وتتدرب فيه,هي سعادة ناقصة.
    لقد أنفق الإنسان قرون طويلة من عمره من أجل أن يحقق معنى السعادة في حياته,لكن السعادة ظلت مثل السراب,كلما دنا منها وكاد أن يقطفها وهي تتدلى من شجرة الأيام,تراجعت عنه إلي الوراء,وهكذا أصبح الإنسان هو يطارد فكرة السعادة,كمن يطارد الوهم,حتى ظن البعض أنه لا سعادة في العالم,وهو ظن خدّاع كذاب,حيث أن السعادة قائمة ومدرك ومعاشة,فقط لمن دخل من هذا الباب اللذيذ.
    أنا "محمد بن سيرين",بخلافك كان تعلقي بالأحلام,فأنت تعلق قلبك بالموسيقى,لكن لا خلاف,طالما أن الإنسان له أمنية يصل من خلالها إلي سعادته الخاصة.غير أني لم أفهم رموز الأحلام وعوالمها إلا بعد أن جربت هذا العالم الغائب,وأنا حاضر فيه بروحي وجسدي المتسنسخين,لا بأصلي وفصلي.وليس هذا بالغريب,فكل يوم تمضيه هنا,سوف تفهم فيه الكثير من حقائق الوجود التي كنت تجهلها.
    يظن الإنسان أنه يمتلك الحقيقة المطلقة ويقبض على مفاتيح الكون,غير أنه مغرور يخادع نفسه,فالذين عرفوا وفهموا لم يتكلموا,والذين تكلموا كانوا في الحقيقة جهلاء ضيعوا سعادتهم الأبدية فانية وجدوها لحين ثم غادروها.فهل تبحث عن الأبدي والخالد,أم تبحث عن الغني والموقت؟.إن روحك حسب زعمي من الأرواح التي لا تستكين ولا تهدأ من أجل معرفة الحقائق,لهذا كنت كثير الترحال,من مدينة إلي مدنية,وكثير الزواج من امرأة إلي أُخرى.وكنت من خلال ترحالك ترغب في أن ترى وتكتشف عالماً آخراً,ما يهمك هو ذلك الآخر بأسراره ومعانيه المدفونة,والتي لا يبصرها ولا يدنو منها إلا العارف الحصيف,فأنت لم تكن مهتماً بشكل المكان بل بجوهره وروحه الغائبة.ولم تكن تتزوج إلا ليقينك بأن وراء كل امرأة جديدة تعاشرها نغمة مفقودة أو إيقاع جاذب لم تكتشفه من قبل.بهذا الشكل من الحياة,كنت تقترب من غلاف الحقيقة,أما الحقيقة في أبسط صورها فقد كانت بعيدة عن منالك ,إلي أن جاءت الساعة التي ارتفعت ماء البحر لتدخل إلي هذا العالم الجديد وتبدأ في الرؤية الجادة لتفهم وتردك من أنت ومن تكون!.
    وأعلم أن لحظة هيجان الموج التي دخلت عبرها إلي باب العالم المفقود,الذي أنت حاضر فيه,هي لحظة لا تتكرر في الدهر,يغيب كل إنسان منها,حاضر .هناك من يتوقعونها ويشتغلون حضورها,فيلجون إلي هنا.وهناك من تعبر بهم مثل نسمة صيف حار أو ما تصورت من الصور,لكنهم يغفلون عنها فنفسهم لم تستعد لهذا المخاض الكبير.وأنت بدخولك كانت نفسك قد صغت وروحك قد خلصت,ونبت جناحك الذي لم تكن تراه,فطرت إلي داخل العالم الثاني,فأنت حاضر معي وإلي جواري تسمعني وأسمعك.هل كنت تتوقع ذات يوم وأنت الذي طالما تعلقت بي,أن تراني؟..أبداً لم يكن ذلك التوقع قائماً,لكن ذلك حدث.ومن الآن عليك أن تتهيأ للتزود والإدراك,حتى إذا ما خرجت كان خروجك سهلاً وهيناً وكنت عارفاً,لتعود وتصبح علماً من أعلام الموسيقى في عصرك يعرفك الجميع شرقاً وغربا وتتناغم الأفلاك مع موسيقاك المبتكرة,حيث أن لحفك سيكون مختلفاً باختلاف روحك,التي ستكتسي جمالاً وطراوة وتخف,ونجفة الروح تأتي الموسيقى بأشكال لم تكن تظن أنها قائمة ولا ممكنة.كل المبدعون خرجوا من هنا,وهنا تدربوا,وجاءوا إلي هنا لأنهم امتلكوا خواص المجيء التي هيئت لهم الحضور.


                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de