|
|
 قبور طيفور الثلاثة - قصة قصيرة
|
"وقال لي إن استخلفتك شققت لك شقا من الرحمانية، فكنت أرحم بالمرء من نفسه،
وأشهدتك مبلغ كل قائل فسبقته إلى غايته فرآك كل واحد عنده ولم تر أحدا عندك"
(موقف الرحمانية - كتاب المواقف محمد بن عبدالجبار النفّري)
حدثت هذه القصة في زمان سحيق، وكان مسرحها قرية نائية منعزلة وسط الجبال الشاهقة. سكان القرية قبيلة صغيرة العدد، اشتهرت بحبها للاستقلال والابتعاد عن نفوذ القبائل الكبيرة. وحتى اليوم يمكنك أن تستمتع لهذه القصة بكل تفاصيلها من أفواه كبار السن بالقبيلة، إذ صارت جز ء من تراث القوم وتاريخهم الذي يتناقلونه جيلا بعد جيل، رغم تغير الأحوال والظروف والناس.
تقول القصة إنه حين زار الموت طيفورا كما يزور أي مخلوق له روح، كان طيفور قد صار جزءً من القرية والقبيلة رغم أنه قد قدم من منطقة بعيدة بشمال البلاد لا يعرف القوم عنها شيئا سوى نتف قليلة خرجت من فم طيفور نفسه في أوقات متفرقة ومتباعدة. عاش بين أهل القرية زمنا طويلا حتى أن الشباب والصبيان من أهل القرية كانوا يظنون أنه أحد أفراد القبيلة وقد خلقه الله هكذا بلون فاتح قليلا وشعر طويل ناعم قليلا وأنف مستقيم قليلا. لا يدري أحد كيف ولماذا، لكنهم وجدوه يعيش مع رجل القرية المتوحش، بلوك أمين خميس . قبل عودته للقرية، كان خميس يعمل بالجيش حتى وصل إلى رتبة بلوك أمين. وفي الوقت الذي كان يحلم فيه بالترقية بمناسبة نيل البلاد استقلالها واسترجاع سيادتها وكرامة شعبها وخروج الجيوش المحتلة، في ذلك الوقت بالتحديد، في العيد الأول لاستقلال البلاد في أول يوم من عام 1956، أحالوه للتقاعد.
عاد بلوك أمين خميس إلى القرية محطما يشعر أنه فائض عن الحاجة وأنه لم يتبق له في الدنيا ما يستحق أن يعيش من أجله، فهو ليس له ذرية إذ لم يتزوج في حياته. وبدأت حالة بلوك أمين خميس تسوء من يوم إلى يوم وهو يفرط في شرب العرقي نهارا وليلا. أهمل نفسه ونسي أشياء حيوية مثل الاستحمام والسواك وصار
جثة معزولة في كوخ خرب بطرف القرية. كان لا يذهب للمسجد مثل مسلمي القرية، ولا للكنيسة مثل مسحيي القرية، ولا لمقر الكجور مثل أؤلئك الذين فضلوا البقاء على ديانة الأجداد. كان بلوك أمين خميس لا يرى في الإمام والقسيس والكجور سوى عصابة تستبله القرويين السذج وتستغل جهلهم. كان يقول إن هذه العصابة تجعل الناس البسطاء يدفعون أموالهم ومحصولاتهم وحيواناتهم وطيورهم عن طيب خاطر لله في المسجد وللرب في الكنسية ولأروح الأسلاف عند الكجور، بينما المفترض أنه من واجب الله والرب والأسلاف أن يساعدوا هؤلاء المساكين، إن كانوا موجودين حقيقة. ولم يكن أحد من القبيلة الصغيرة يعرف كيف سمح بلوك أمين خميس لشخص غريب أن يقتحم عالمه الكئيب، حتى أن شكوكاً، وإن كانت ضعيفة، قد أثيرت حول أنه ربما أن هذا الشاب طيفور،هو إبن لخميس تزوج أمه أثناء خدمته في الجيش في شمال البلاد. لكن الأمر الذي الذي لا شك فيه وقد رآه القوم رؤية العين، هو أن طيفور قد استطاع في زمن وجيز أن يغير حياة بلوك أمين خميس من النقيض إلى النقيض. فجأة صار بلوك أمين خميس نظيفا يرتدي الملابس النظيفة وصارت رائحة جسمه طبيعية، وقام بإصلاح كوخه المهترئ بمساعدة طيفور، بل صار يجلس مجالس الرجال ويستشار في الأمور الهامة، كما أقلع عن شرب العرقي، وإن ظل رأيه في أمر الدين على حاله لم يتغير. وأغرب ما عرف عن طيفور أنه لا يمارس أي نشاط يعود عليه بفائدة شخصية. كان يعيش مثل الطير أو الحيوانات الأليفة. يساعد كل محتاج في القرية بروح بسيطة وخالية حتى من الشعور بأنه يساعد. أتقن لغة
القوم ودخل كل القلوب.
- خالتي ميري، الحطب دا ما تقيل عليكي، كدي نزليه نقسمو ونشيلو أنا وإنتي.
- لا يا وليدي بقدر عليه، ما تقيل. الله يبارك في ضراعك.
- خالتي ميري خلي قوة راسك دا. نزلي الحطب.
- عمي تية، إتا القش ما غلبك، الحشايش انتصرت عليك يا شايب.
- لا ما انتصرت، الزرع دا كلو أنا قادر انضفوا، ما تشيل لي هم.
- تنضفوا شنو يا شايب يا تعبان. نص الخريف فات وإتا نص الزرع ما نضفتو. باكر أنا بجيب ليك الجماعة نفير يساعدوك.
يقولون أن طيفورا قد جاء شابا يافعا إلى القرية، لا يدري أحد من أين ولا لماذا، وعاش بين أهلها إلى أن صار رجلا قويا لا يقل جلدا أو شجاعة عن أي فرد من أفراد القبيلة.
- إتا يا وليدي الحمد لله كبرت وبقيت راجل، ما داير تعرس وتجيب ليك وليدات ينفعوك في شيبك؟
- عمي كوكو، أنا عايش معاكم مبسوط. أنا ما بتذكر أمس ولا بفكر في بكّرة. أمس فات ما برجع وبكرة عند الله. كدي أديني الفأس أقطع ليك الشجرة دي، عيدانها سمحات وعديلات.
لكن طيفورا قد فاجأ الناس يوما بأنه سيسافر لقضاء شان خاص ثم يعود. لم يصدق أحد أن طيفورا سيعود أو أن أهله سيتركونه يعود، رغم تأكيده لهم بأنه قد أحب هذه القرية وسكانها ولا يستطيع العيش بعيدا عنهم. وحزنت القرية كثيرا لقرار طيفور وودعه الجميع إلى خارج القرية. بل أن بعض شبان القبيلة قد تطوعوا بأن يرافقوه حتى أقرب مدينة يستطيع منها استقلال القطار وهي على مسيرة خمسة أيام بلياليها على طريق متعرجة وخطرة وسط الجبال.ظنت القرية أنها قد فقدت ابنها طيفور، إلى أن تفاجأ الجميع يوما به وهو يعود، يجر خلفه حمارا كبير الجسم مختلفا عن الحمير التي ألفتها القرية. وكان الحمار محملا بأشياء ينوء جسمه الكبير تحت ثقلها. فرح الناس كلهم كبارا وصغارا، نساء ورجالا بعودة طيفور مثل فرحهم بعودة أي فرد من القبيلة يعود للقرية بعد طول غياب. تعالت الزغاريد وذبحت الذبائح واشتعلت النقارة وهاج القوم وماجوا في رقصات محمومة. نام طيفور ليلته تلك، وفي الصباح طلب طيفور من شيخ القبيلة أن يجمع كل رجال القرية لأمر هام. وحين اجتمع الرجال أفرغ طيفور الحمولة التي جاء بها على ظهر الحمار الكبير، فإذا هي فؤوس ومناجل ومبارد لشحذ الفؤوس والمناجل. أعطى طيفور كل رجل فأسا ومنجلا ومبردا. قال هذه هي هديته لأهله في القرية كانت أدوات نافعة حقا ومختلفة عن الأدوات المصنوعة محليا والتي اعتاد الناس في القرية على استعمالها. شكرالجميع طيفور على بعد نظره وتفكيره في تسهيل حياة الناس بهذه الأدوات. وبالفعل، لم تعد القرية كما كانت قبل أن يجلب طيفور الفؤوس والمناجل والمبارد. صارت المساحات التي تزرع أكبر وصارت الحشائش التي تجز لإطعام الأغنام والحمير أكثر وزادت كميات الألبان وصار أطفال القبيلة أوفر صحة وقلت الأمراض التي تصيبهم.
ورغم أن الموت قد زار طيفورا كما يزور أي مخلوق له روح، إلا أن موت طيفور قد شكل حدثا هاما في تاريخ القرية والقبيلة. فقد فجّر موت طيفور خلافا وسط مجتمع القرية ما كان له أن يظهر لولا موت طيفور. نعم، تفجر خلاف كبير بين رجال القرية ولأول مرة طوال التاريخ المحكي للقرية. وسبب الخلاف هو أن بعض أهل القرية قد زعم أن طيفورا كان مسلما لأنه يصلي يوم الجمعة مع المسلمين من أهل القرية، لذا وجب أن يدفن وفقا للطقوس الاسلامية. غير أن بعضا آخر من أهل القرية قد قالوا لا، لقد كان طيفور مسيحيا يحضر الترانيم أيام الآحاد في الكنيسة، ويجب أن يدفن وفقا للطقوس المسيحية. وأنبرى قسم ثالث من رجال القرية وأكدوا أن طيفورا كان يحضر معهم الطقوس الروحية القديمة، فهو لم يكن مسلما ولا مسيحيا، ومن حق كجور القبيلة وحده إجراء طقوس دفنه. هذا الاختلاف الديني لم يكن يظهر في العادة، إلا في يوم الجمعة حين يصلي المسلمون جماعة أو يوم الأحد
حين يترنم المسيحيون زمرة أو المناسبات التي يجتمع لها غير المسلمين وغير المسيحيين حول الزعيم الروحي وهو يؤدى طقوسه المقدسة. ما عدا ذلك، فإن القوم قد ظلوا هم القوم، قبيلة واحدة لا يختلف رجالها ونساؤها عن بعضهم في شيء، ولا يهتمون كثيرا بالخيارات الدينية. ، حتى إنك تجد في الاسرة الواحدة من هو مسلم ومن هو مسيحي ومن هو لا مسلم ولا مسيحي وملتزم بعقيدة الأجداد. غير أن الاحتلاف الديني قد ظهر جليا ومصحوبا بشيء من الحدة، يوم موت طيفور.
أخيرا وبعد أن تداول الكبار العقلاء الأمر، انتهى رأي القوم على أن يستفتي كل فريق السماء بطريقته لتحديد ملة طيفور. فإذا اتفقت السماء مع رأي فريقين انصاع الفريق الثالث لرأي الأغلبية. تفرق القوم ضحى على أن يجتمعوا قبل مغيب الشمس بوقت يكفي لإتمام مراسيم الدفن، أي كانت. لكن بدا أن السماء نفسها ليس لديها رأي قاطع حول ديانة طيفور إذا لم تظهر لأي فريق علامة أو بشارة تشير إلى شيء. هنا قرر القوم أن يعيد القادة من كل ملة، وهم القس وإمام المسجد والزعيم الروحي، أن يعيدوا محاولة استفتاء السماء طوال الليلة التي تلت موت طيفور، لعل السماء تكون أقرب للأرض في الليل. ولا خوف على الجثة من أن تتخثر لأن الفصل كان شتاء.
وضع القوم جثة طيفور داخل كوخ أحكموا إغلاقه في انتظار الصباح وما قد تفتي به السماء. غير أن أهل القرية لم يتفرقوا أو يذهبوا إلى بيوتهم. تجمع الناس تلقائيا، رجالا ونساء، كبارا وصغارا أمام بيت شيخ القرية يعزون بعضهم بعضاً. وبعد أن خف نشيج النساء والبنات وتباعدت تأوهات الرجال، بدأ القوم، وتلقائيا أيضا، يتحدثون عن مآثر المتوفى. هنا تكشفت حكايات غريبة من خلال شهادات معظم الناس لأن كل الناس، كما اتضح في تلك الليلة، من أصدقاء طيفور المقربين. قال كوة ولد كافي أنه كان قد ذهب قبل مغيب الشمس بقليل ليتفقد الشراك التي كان قد نصبها للارانب البرية قرب سفح الجبل. قال أنه واثناء سيره وسط الحشائش القصيرة سمع حفيفا فحيحا، يعرفه الجميع حق المعرفة. إنه فحيح حية الجبل الرقطاء التي لا ينجو من تلدغه. وعندما هم بالجري إذا بالحية تغرز أنيابها في ساقه وتهرب. قال إنه لم يمش سوى خطوات قليلة قبل أن يفقد بصره وتدور به الأرض
ويسقط وهو يفرغ كل ما في جوفه. قال كوة ولد كافي أنه وعندما كان ينزلق في غيبوبة، إذا بوجه طيفور يطل عليه ممسكا بكأس من القرع وهو يضحك.
- قال لي، ما قلنا ليكم تبطلو كسر العسلية بالعرقي. شوف الحالة الانت فيها دي! خد، أشرب. وسقاني شيئا لم أشم أطيب منه رائحة ولم أذق أحلى منه طعما في حياتي. ثم أخذ باقي المشروب وغسل به مكان لدغة الحية، ثم قال، لمن ترتاح قوم امشي بيتك، واختفى كما ظهر. صحوت من غيبوبتي بعد مدة لا أدري طالت أم قصرت، لكني كنت معافى لا أشعر بشيء. وعندما التقيته في اليوم التالي، حاولت شكره على ما فعل معي، لكنه بدا وكأنه لا يعرف شيئا عن الحادثة كلها. قال لي يا زول إتا لسا سكران ولا شنو؟ أنا شفتك وين؟
ثم قام بلوك أمين خميس متحدثا. قال أنه قبل أنيظهر طيفورً، وقبل أن يأتي إلى القرية، قد أتاني في الحلم. وفي الحلم قال لي، إنتا زول كويس، إتا أحسن زول في القرية دي. إتا من القلايل البعرفوا يكتبوا ويقروا. لفيت الدنيا وشفت العالم واكتسبت الخبرات وتعلمت الانضباط في الجيش. قوم، أصحى. ولم يمض أسبوع على ذلك الحلم، حتى رأيته واقفا أمامي بلحمه وشحمه. قال لي أنا غريب وأريد ان أسكن معاك. نبقى أصحاب.
تساعدني وأساعدك ونتعاون في الحياة. بعدها حدث لي كل ذلك التحول الذي لاحظتموه وصرت إنسانا آخر. وحكى بلوك أمين خميس حكاية أخرى أعجب من الأولى. قال أنه في ليلة كانت تنذر بهطول مطر ثقيل، قام طيفور فجأة وخرج ليضع السرج على الحمار. سألته إلى أين أنت ذاهب في هذا الظلام وهذه السحب التي تنذر بانهمار المطر في أي لحظة. قال لي إن زوجة كودي ستلد له بنتا هذه الليلة وهي الآن تعاني آلام
الطلق. وبيت الداية بعيد عن بيت كودي، وهي إمرأة مسنة لا تستطيع المشي كل هذه المسافة في هذا الظلام. سأذهب لاحضرها. وانطلق على حماره الكبير. وبالفعل عرفنا في الصباح أن كودي قد رزق بمولودة.
هنا وقف كودي وقال للقوم. أقول لكم، والله شاهد على ما أقول، أنا حتى هذه اللحظة لم أعرف كيف جاءت الداية في اللحظة المناسبة تماما. كانت ليلة شديدة الظلام تنذر بأمطار غزيرة. وفجأة بدأت زوجتي تتألم من الطلق. أسرعت لإحضار الداية وأنا أشك في أنها تستطيع ان تقطع المسافة من بيتها إلى بيتي حيث تسكن كما تعرفون في طرف القرية الجنوبي وبيتي في طرفها الشمالي. وعندما فتحت باب بيتي لأخرج، إذا بالداية عند الباب تهم بطرقه. رحبت بها ثم سألتها كيف علمت بحاجتنا إليها وكيف أتت في هذا الظلام؟ قالت لي، الله يبارك في الشاب الذي أرسلتموه لي. أركبني على حماره ومشى أمامي حتى أوصلني إلى بيتكم. قلت لها من هو هذا الشاب. قالت أنها لم تتعرف عليه وكان الظلام حالكا وهو لم يتحدث كثيراً. فقط قال لي أسرعي، زوجة كودي على وشك الوضوع. والآن فقط، ومن حديث بلوك أمين خميس، عرفت أن ذلك الشاب هو المرحوم طيفور. وتوالت الحكايات حتى طلع الصباح وكل القرية جلوس أمام بيت الشيخ.
في الصباح اجتمع القادة الدينيون الثلاثة ليحكي كل منهم ما ظهر له من علامة أو بشارة في تلك الليلة. عندها اكتشف الرجال الأتقياء الثلاثة أمرا عجيبا ومحيراً. في الواقع، فقد اكتشفوا معجزة. والمعجزة كانت أنهم، ثلاثتهم، قد رأوا نفس الحلم أثناء نوبة نومتهم القصيرة قبيل فجر تلك الليلة، إذ قضى ثلاثتهم جل الليل في الصلاة والدعاء والتبتل. رأى كل واحد منهم في الحلم أنهم حين فتحوا الكوخ الذي به جثة طيفور، لم يجدوا جثة واحدة بل ثلاث جثث وكلها لطيفور. عندها لم يطق الرجال الثلاثة مرور ثانية واحدة واندفعوا ثلاثتهم ليفتحوا باب الكوخ حيث أودعوا جثة
طيفور بالأمس. غير أن أمرا أغرب من حلمهم كان بانتظارهم. فقد كان الكوخ خاليا وليس به أي أثر لجثة. كان الباب محكم الإغلاق وليس بالكوخ فتحة أخرى غير الباب، ومع ذلك فقد اختفت جثة طيفور.
تداول الرجال الأتقياء الثلاثة الأمر فيما بينهم وهم داخل الكوخ حتى يخرجوا على قومهم برأي مواحد. فقد احسوا أن بوادر الانقسام المؤدي للتهلكة قد بدأت تدب وسط مجتمع القرية الصغيرة. بعد تفكير عميق وأخذ ورد بين الرجال الأتقياء الثلاثة، اتفقوا على أن ما شهدوه هو من المعجزات، وأن طيفور يريد أن يوصل للقرية رسالة ما. وهداهم تفكيرهم أن الرسالة التي يريد طيفور أن تصل إلى أهل لقرية هي احد أمرين. فهو إما أنه يريد القول ألا ضرورة لأن تقام له طقوس دفن من أي نوع، وهذه دلالة إختفاء الجثة. وإما أنه يريد القول بأن تقام له ثلاث جنائز حسب الديانات الثلاث السائدة في القرية، وهذه دلالة حلم الرجال الأتقياء الثلاثة برؤية ثلاث جثث لطيفور. وبعد أخذ ورد اتفق الرجال الاتقياء الثلاثة على أن تقام لطيفور ثلاثة جنازات اتقاء لغضب الملل الدينية الثلاث. أما كيف يتم هذا الأمر، فقد رأوا أن تقيم كل ملة قبرا لطيفور، تدفن داخله شيئا من متعلقاته الشخصية بسبب معجزة اختفاء الجثة.
عندها خرج الرجال الأتقياء الثلاثة على القوم وتحدث الاب القسيس نيابة عن رفيقيه وبدأ حديثه بالقول، هللويا. ومضى قائلا، اليوم شهدنا، ثلاثتنا معجزتين من معجزات الرب. ثم قص على القوم حكاية معجزة الحلم وحكاية معجزة اختفاء جثمان طيفور. وقال، أنه من المعجزة الإلاهية المتمثلة في أننا الثلاثة قد حلمنا نفس الحلم في ليلة استفتاء السماء حول ملة طيفور، ومن المعجزة الربانية الثانية المتمثلة في اختفاء جثة طيفور رغم أننا قد وجدنا باب الكوخ محكم الإغلاق كما تركناه في الليلة الفائته، فقد قررنا ثلاثتنا، أن ما شهدناه هو رسالة من طيفور. رسالة تقول لنا ألا نتنازعوا حول طقوس دفني. رسالة تقول أن من حق كل ملة أن تقيم قبرا لي وفقا لطقوسها الدينية. وقد اتفقنا ثلاثتنا على أن تأخذ كل طائفة شيئا من المتعلقات الشخصية لطيفورثم تقيم عليها طقوسها وتدفنها في قبر بمعرفتها. كما اتفقنا على أن يأخذ المسلمون جلباب طيفور ويصلوا عليه صلاة الغائب ثم يقيموا قبرا أولا لطيفور. وأن يأخذ المسيحيون عمامة طيفور ويضعونها في التابوت مكان الجثقة ويصلوا من أجل طيفور ثم يوارون التابوت الثرى ويقيموا قبرا ثانيا لطيفور. وأن يأخذ أتباع الزعيم الروحي المبجل، كجور القبيلة، عصا طيفور ويقيموا لها طقوسهم ثم يدفنونها بمعرفتهم في قبر ثالث لطيفور.
أخذت نساء المسلمين جلباب طيفور، غسلنه بالصابون وعطرنه بأعز ما عندهن من العطرو والبخور، ثم سلمنه لإمام المسجد وسط تهليل وتكبير الرجال الذين قاموا بوضعه في عنقريب وذهبوا به إلى باحة المسجد لأداء صلاة الجنازة.
واخذت نساء المسيحيين عمامة طيفور، غسلنها بالصابون وعطرنها بأعز ما عندهن من العطرو والبخور، ثم سلمنها للأب القسيس وسط ترانيم المؤمنين والمؤمنات في باحة الكنسية حيث وضعت العمامة داخل تابوت وتليت عليها الصلوات.
واخذت نساء أتباع ديانة الأجداد عصا طيفور، غسلنها بالصابون وعطرنها بأعز ما عندهن من العطرو والبخور، ثم سلمنها للكجور وسط الرقصات المحمومة والغناء الروحي، حيث لفت بجلد النمر مع بعض أوراق الاشجار النادرة وبعض جذور النباتات ذات القوة الروحية.
وهكذا حصل طيفور على ثلاثة قبور. وهكذا بقيت قبور طيفور الثلاثة مزرا لأتباع الديانة المحلية التقليدية ومزارا لأتباع المسيحية ومزارا لاتباع الاسلام إلى يومنا هذا. وبقيت قصة طيفور تراثا تتناقله الأجيال في القرية النائية وسط الجبال والقبيلة الصغيرة المحبة للاستقلال، جيلا بعد جيل.
[center]====== انتهت ======[/center]
(عدل بواسطة حامد بدوي بشير on 07-03-2013, 10:42 AM)
(عدل بواسطة حامد بدوي بشير on 07-04-2013, 05:02 AM)
|
|
 
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: قبور طيفور الثلاثة - قصة قصيرة (Re: Kabar)
|
Quote: كتابة جميلة و حكاية ملهمة
شكرا
يا حام |
الصديق الذي نفتقده كثيرا، طه جعفر،
شكرا على التعليق، وهذا بعض مما عندكم يا كاتب يا كبير.
تحياتي لأم حعفر بت عبدالخالق ولصديقي جعفر.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: قبور طيفور الثلاثة - قصة قصيرة (Re: newbie)
|
Quote: ياسلام
روعة والله تسوقك سواقة وانت مندهش بجزالة الوصف وحلاوة العبارات
وجمال الفكرة |
الأستاذ ناصر حسين محمد،
شكرا على هذا الإطراء الجميل،
إنشا الله تكون القصة بتستحقو.
لك تحياتي.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: قبور طيفور الثلاثة - قصة قصيرة (Re: حامد بدوي بشير)
|
Quote: اول ما يلفت الإنتباه ، أن القصة هي ضرب من الواقعية السحرية ، حيث ينطلق الحكي تلقائيا ثم تعترضه الوقائع الغرائبية التي تشبه الحلم ، و لكنها تستمر لتكون جزء من عماد الحكي يصعب تجاهله..بدات القصة بحيلة ذكية ، اعتمدها الكاتب ، و ذلك بالإشارة الى ان هذا الحكي هو موروث شفاهي في القرية التي هي مسرح احداث القصة ، و الذكاء في هذه التقنية ينطوي على تجاوز اسئلة النقد حينما تكتشف ان هناك بعض الفراغات في سياق الحكي ، و بالتالي يصعب مساءلة الكاتب عنها ، لأنها حكوة مروية..و هي منهل لكل من يرغب في اعادة صياغتها ، بالإضافة أو بالحذف..نفس التقنية اتبعها الكاتب ابراهيم اسحق في اخبار البنت مياكايا.. حيث القصة سمعها الراوي في موقف اللواري ناحية ود عشانة..هذه التقنية ليست غريبة على تجربة حامد بدوي بشير ، فهو مثلا في (مشروع ابراهيم الأسمر الروائي) يتبني نفس النهج..حيث الحكي المتدفق كموروث تاريخي شفاهي ، ثم بناء العالم الروائي على اساس هذا الحكي المنساب..!
لحظة الإبهار التي تناولتها (قبور طيفور الثلاثة) هي لحظة التسامح السودانية النادرة ، و نقول بندرتها ، لأن القصة عند البعض قد تكون ترديد لوقائع قابلتهم في حياتهم اليومية ، و عند البعض الأخر مجرد عجائب لا تحدث الإ في الخيال ، و هنا يكمن نجاح حامد بدوي بشير في مقاربة هذه اللحظة و اعادتها للمشهد السوداني العادي لتكون جزء منه بالتامل و المساءلة حتى..!!
بيد ان المفارقة في الغريب الصالح (و النموذج تعرض له الطيب صالح في فكرة الشيخ الحنين في رواية عرس الزين) ، ان فكرة الغريب الصالح دوما هي فكرة دينية و ذات صلة بالمثيولوجية الدينية ، لأن كثير من الثقافات تربط مثل هذا الصلاح النادر بالمعتقدات الدينية ، و لكن (قبور طيفور) اتخذت منحى مغاير.. حيث زعمت أن الغريب الصالح ليس بالضرورة ان يكون مرتبطا بمعتقد دينيا ، فطيفور مثلا احتارت القرية وفقا لمعطياتها العقائدية المتاحة أن تصنفه ضمن احداها ، فظل مستقلا عن المؤسسية بطريقته الخاصة.. و الأطرف انه ظل ملك للقرية كلها في مماته مثلما في حياته ..!!
من اللحظات الإنسانية الجانبية التي تعرضت لها قصة (قبور طيفور الثلاثة) تجربة التقاعد في الحياة السودانية ، فكثير من افراد القوات النظامية يمرون بنفس الحال التي مر بها بلوك امين خميس (و هي رتبة رقيب اول تقريبا في تصنيفات اليوم) ، و لكن ليست هناك برامج اجتماعية تحتوي مثل هؤلاء النفر..فيواجهون مصير الوحدة بصمت قاتل..!
كبر |
أولا انا سعيد جدا بأننا قد اكتشفنا بين ظهرانينا، وجود ناقد، في بلد النقاد فيها أندر من الخل الوفي.
ثانيا، اشكرك ايها الناقد كبر على ما تفضلت به من تعليق مكتنز بمعرفة الخفايا الإجرائية لعملية قراءة النص وإضاءته نقديا.
وأعترف بأن بعض ما جاء في تعليقك قد أضاء لي مناطق في هذا النص كنت أراها للمرة الأولى.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: قبور طيفور الثلاثة - قصة قصيرة (Re: حمد إبراهيم محمد)
|
الأستاذ حمد إبراهيم محمد،
تحياتي الحارة.
نعم، حامد بدوي بشير هو هو حامد بدوي الكاتب بالملحق الثقافي في صحيفة عكاظ السعودية (1984 - 1994).
لقد عدت بي يا صديق عشرين عاما عبر الزمن الماضي.
نعم كان لي عمود راتب بعنوان "ذاكرة اليدين" والملكية الفكرية لهذا العنوان تعود للصديق الناقد والمترجم السعودي فاير أبا، فهو الذي نحت هذا الاسم ليكون عنوانا لعمودي..
كانت أيام جميلة "الثمانينات" حيث شهدت الحركة الثقافية السعودية نهضة ملموسة وظهرت الكتابات الحداثية ونشأت بالتالي معركة ذات غبار بين الحرس القديم من عبدة التقليدية وبين الشباب المستنير أو من سميو "بالحداثيون" حينها.
وبجانب معركة الحداثة - التقليد، كان ثمة حوار ثر بين النقد البنويوي والألسني الذي كان يمثله كل من الدكتور عبدالله الغذامي والأستاذ سعيد السريحي من جهة وبين النقد السيسيولوجي الذي كنت أكتب تحت رايته، من الجهة الأخرى، وكنا معا بنيويين وسيسيولوجيين في خندق واحد ضد التقليديين الذين كانوا يتمتروس في صحيفة الندوة، ولحد ما صحيفة المدينة، بينما احتل الحداثيون الملاحق الثقافية في صحف الرياض وعكاظ والبلاد واليوم.
كانت أياما رائعة حقا.
شكرا لك على هذه المداخلة.
وأرجو أن نتواصل على بريدي الإليكتروني: [email protected]
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: قبور طيفور الثلاثة - قصة قصيرة (Re: بله محمد الفاضل)
|
الأخ الأديب حامد بدوي بشير
شكراً أن أمتعتنا بهذه القصة الجميلة
وشكراً لأخينا كبر الذي أمتعنا بفقرات رائعة من النقد الأدبي الراقي
هذه هي البوستات التي تشدني إليها وتجذبني الى قراءتها بالكامل
متعكما- ومن مرّ على البوست ومن علق فيه- الله بالصحة والعافية
اخوكم
عمر حسن غلام الله
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: قبور طيفور الثلاثة - قصة قصيرة (Re: Mandingoo)
|
Quote: جميل جداً ما قرأت
جميل بحق
كلما قلت أنه سيحدث كذا
خذلني السرد
شكراً لك
شكرا... |
الأستاذ بلة محمد الفاضل،
الشكر لك أنت إذ تعطينا أملا ووقودا لمولصلة الكتابة الإبداعية.
القارئ الجيد هو شرط وجود الإبداع.
شكرا لك مرة أخرى
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: قبور طيفور الثلاثة - قصة قصيرة (Re: حامد بدوي بشير)
|
Quote: الأخ الأديب حامد بدوي بشير
شكراً أن أمتعتنا بهذه القصة الجميلة
وشكراً لأخينا كبر الذي أمتعنا بفقرات رائعة من النقد الأدبي الراقي
هذه هي البوستات التي تشدني إليها وتجذبني الى قراءتها بالكامل
متعكما- ومن مرّ على البوست ومن علق فيه- الله بالصحة والعافية
اخوكم
عمر حسن غلام الله |
الأخ عمر حسن غلام المشهور ب Mandingo
شكرا على المرور وعلى التعليق المكتنز.
وبما إنك من الذين تشدهم بوستات الأدب،
فأنت بالدارجي: زولنا.
مرحبا بك.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: قبور طيفور الثلاثة - قصة قصيرة (Re: waleed nayel)
|
Quote: استاذنا حامد ......لك كل التحايا
وشكرا علي هذا السرد الجميل لقد امتعتني تلك القصه ايما امتاع
ولكم اشتهيت هذا التنوع السوداني الفريد ان يلقي بظلاله علي مجتمعنا
السوداني .......كلنا واحد في سودان واحد |
الأستاذ وليد نايل،
أنا سعيد إذ أمتعتك القصة،
أما هذا التنوع السوداني الفريد الذي تشتهيه، فهو وقود الكتابة وكل ضروب الإبداع إلى يوم الدين، إذا لم. ...... .
الشكر لك على التعليق الجميل.
| |
|
|
|
|
|
|
| |
حامد بدوي بشير
Emad Eldeen Ali
AMNA MUKHTAR
طه جعفر
ناصر حسين محمد
Kabar
بله محمد الفاضل
Mandingoo
waleed nayel
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست