من مدائح الشيخ حاج الماحى التى وقفتُ عندها كثيراً هى مدحة القُبّه التلُوح أنوارها...
فالأمر لم يقتصر عند فصاحتها وبلاغتها وسِلمِّيتها وكلمات الغزل الرفيع فى حق رسولنا الكريم فحسب... لكن المدحه تعتبر توثيق بليغ لفترة الإستعمار التركى المصرى.
ويختزن الشعب السودانى فى ذاكرته التراكميه ذكريات غير حميده فى حق الفتره المذكوره.
وأهم ما يميز فترة الإستعمار التركى هى إستعلائها على قيم الشعب السودانى...وتعاملها معه بالمفهوم الإستئصالى.
ولم يسلم من بطش السلطه الإستعماريه حتى كبار رجالات الصوفيه...وهم يتَبتلون فى خلواتهم....يجرّون فى سِبَحِهم برفق...ينقرشون على طاراتهم فى تناغم...يمارسون حلاوة التعبد فى الأسحار...
لا نعرف السبب بالتحديد الذى حدا بسلطة الإستعمار التركى (هَبْش) حاج الماحى وإصدار الأوامر بمنعه من المديح....لكن (التآمر) من بنى الجِلده كان واضحاً فى الأمر...
وقد أبان الشيخ حاج الماحى-بوضوح- أن القصه فى أصلها عباره عن (حَرَاشه):
كاسُو وعِدْمو فينا بَصَارَه...وراحُوا يحرِّشوا النُظَّاره
ويبدو أن (المتآمرين) قد وجدوا أذنا صاغيه من الحاكم الغاشم:
أسمعوا شوفوا يا حُضَّاره...وقال لا تمدحوا المُختارَ
وقد دافع الشيخ حاج الماحى عن موقفه الفكرى بعفويه... وبلهجه شايقيه صارمه:
حالِف شِيل يمين تِكرارَ...ما سِمِعْ فى المديح إنكارَ
ولم يقتصر الأمر على الثقه الفكريه فحسب...بل قابل الأمر بروح تحدى واثقه:
حتى إن كان تَفُور بى قِدارا....نَمْدَح فوق رسولنا بَطَارَى
والقِدار هى جمع قِدْره- آنية طبخ الفول (المِصْرى)...!...لكن هل تمكن المستعمر من (شَدْ) قِدْرته فى ديار الشايقيه؟!
الإجابه الواثقه تأتى من حاج الماحى نفسه ...وقد واصل فى تصعيد لهجته المتحديه حتى وصلت الى الأب:
وإن كان أخشى أخلى الطارَه...عُقبال إسم أبوىَ خسَارَه
وتبلغ ثقة حاج الماحى فى نصره المؤزر...درجه عاليه...وها هو ذا يسخر من الذين إستعانوا بالسلطه السياسيه فى الكيد منه:
العادانا فِعْلُو عَرارَه...وباقى لُو المَغَص عُوّارَه
لكن ماهى الأدوات (النضاليه) الفعاله التى إتكأ عليها حاج الماحى فى معركته تلك..وما هو مبعث الثقه المفرطه التى جعلت الرجل على درايه بنصره المبين...حتى وإن كان تفور بِقِداره...؟!
ويبلغ الأمر قمة تعقيده إذا عرفنا أن الصوفيه -بطبيعة حالهم- يبعدون...بل ويترفعون عن الحلول (السياسيه)...وإستخدام الأسلحه المعروفه من سيوف...وسكاكين...
ماذا خبأ الرجل لأعدائه يا ترى؟:
أحمد سيِّد الأبرارَ...وصاحب الحُلَّه والأنوارَ
أدرِك مادحَك الشكّاره...وفى اليأذاهو دُق مُسمارَ
الله...الله...!...يا له من سلاح...ويا لها من ثقه...!
إذاً الأمر من الصوفيه...وللصوفيه...!
ثم يتدرج بإستجارته الى ابى بكر الصدّيق (صديق الغاره)...وعمر بن الخطّاب (الذى جَهَر بالدين)...ولم ينس-بالطبع-حبيبه وحبيب الصوفيه على الكرار...وسيف الله خالد بن الوليد:
وينكُم يا صَدِيق الغاره...ويا عُمر الفَشَى الأسرارَ
ويا عثمان ويا الكرارَ...ويا خالد تجونا بدَارىَ
ثم يواصل حاج الماحى فى (رفع نيران معركته)...فيَصَل-من بعد ذلك- أعمام الرسول الكريم وأهل البقيع والحاره:
يا أعمام النبى الأحرارَ...ويا أهل البقيع والحَارَه
ولم ينس فى خِضم رجاءاته تلك الشيخ أحمد بن إدريس...شيخه وشيخ الطريقه الأحمديه الإدريسيه:
يا إبن إدريس أقيف جُبّاره...وهذى الفِتنه خَمِّدوا نارَها
والتسلسل (الطبقى) عند الصوفيه هو ركيزه أساسيه...فأنظروا الى بدء الإستجاره من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم...ثم الصحابه...ثم أعمام الرسول...ثم بقية أهل البقيع ثم الإنتهاء بالسيد أحمد بن إدريس شيخ طريقته...رضوان الله عليهم أجمعين...
لم يحدثنا حاج الماحى فى قصيدته عن النهايه السعيده...ونصره المؤزر...لكن شواهد التاريخ والمنقولات الشفاهيه تحكى أن الأمر قد إنجلى بسلام...ليواصل حاج الماحى فى نقرشة طاره ...ليتحف المكتبه بالمزيد من المدائح الخالده...
وفى الختام نتمنى أن نجد من يتحفنا بتسجيل كامل للمدحة القبه التلوح انوارها وهى موجوده فى شريط بريدك يا البشير...