د. عبدالله الطيب: والأصل في الكونكان الا تنزلا وجوزوا النزول اذ لا أمل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 04:37 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-20-2013, 06:49 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د. عبدالله الطيب: والأصل في الكونكان الا تنزلا وجوزوا النزول اذ لا أمل

    تمر علينا هذه الأيام الذكرى العاشرة لرحيل العالم العلامة عبدالله الطيب، ويطيب لي، توسلا بمقام هذا الولي الأرفع، أن أنقل بعضا من سيرته وما كتب عنه، تذللا وتحببا وقربا، ولنبدأ بخريدة د. النور محمد حمد:
    عبد الله الطيب: صورة المثقف الأصيل
    د. النور حمد [email protected]

    تغشت قبر البروفسير الراحل عبدالله الطيب، سحائب الرحمة الهتون. ولكل رجل، وكل إمرأة، من آل الشيخ المجذوب، نقول ما قاله الشاعر، وهو يعزي عبد الله بن عباس، في وفاة والده العباس بن عبد المطلب:
    إصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية بعد صـبر الرأس
    خير من العبـاس أجـرك بعده، والله خيـر منك للعبـاس

    لقد مضى البروفيسير عبد الله الطيب للقاء رب رحيم. ويقيننا الذي لا يتطرق إليه الشك، أن الرجل قد ذهب إلى لقاء ربه، بصالح الأعمال. وهو قبل هذا وذاك، ممن أتوا ربهم، بقلب سليم. قال تعالى: ((يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم)). ومثل عبد الله الطيب لا يذرف عليه الدمع. فهو قد عاش حياة خصبة، عريضة، مثمرة، خلاقة. فهو المربي الذي تخرج على آيادية الآلاف من أبناء، وبنات السودانيين، بدءا بمعهد التربية، ببخت الرضا، وانتهاء بجامعة الخرطوم، وغيرها من الجامعات، داخل، وخارج السودان. ثم هو، إلى جانب ذلك، العالم اللغوي الضليع الذي، رفد المكتبة العربية، بروافد ثرة، في ضروب علوم اللغة، وآدابها. وهو إلى جانب كل أولئك، المفسر للقرآن، الذي نزل من أبراج المثقفين العاجية، ليلامس قلوب، وعقول، الأميين من أهل القرى، الذين كانوا يتحلقون بشغف، حول المذياع، ليستمعوا له، وهو يفسر، ما كان يقرأه الشيخ صديق أحمد حمدون، من آيات القرآن الكريم.

    لقد كان عليه الرحمة، عالما جليلا، ذا عقل فسيح، وقلب كبير، وشخصية، فريدة. فشخصيته، كانت كثيرة التنوع، شديدة التميز، قوية الجاذبية. ويقيني الذي لا يتطرق إليه الشك، أن الرجل ولي من أولياء الله، شأنه شأن كل أسلافه الصالحين. بل إن البروفيسر، عبد الله الطيب ليمثل، في نظري، تتويجا لكل تدين أسلافه، وعلومهم، في قمة جديدة، ما سبق أن اتفقت، لتلك السلالة الصالحة.

    أتقن البروفيسر عبد الله الطيب، علوم الدين، واللغة العربية، والتاريخ الإسلامي. وبمثل ذلك القدر، أتقن معرفة الحضارة الغربية، وآدابها. فهو الذي يحدثك عن كيتس، وييتس، وإليوت، بنفس الدفق، والفخامة، التي يحدثك بها عن المعري، وأبي تمام، وأبي الطيب المتنبي، وأبي نواس. وبهذا المعنى، فعبد الله الطيب، ليس أديبا، وحسب، وإنما هو مفكر، عربي، مسلم، من الطراز الأول. لقد عرف الحضارة الغربية، معرفة كبيرة، وقد افاد منها إفادة كبيرة أيضا. غير أن معرفته بالثقافة الغربية، خصبت رويته لتراثه، وعمقت إيمانه، بالجوانب الإيجابية فيه. فهو واحد ممن لم تجرفهم فكرة الحداثة، المتجذرة في الفكرة العلمانية الغربية. وفي نفس الوقت، لم تحبسه معرفته بالتراث، في قماقم التراث، والجمود، والسقف العقلي، المرسوم سلفا. لقد كان وسطيا، وسطية الحبر المدرك، لدقائق الأمور، القادر على تشريح مكامن الإلتباسات. وبهذا فقد برء تمام البرء من وسطية التوفيقيين التعسفيين، الضحلة.

    البروفيسر الراحل، كان من أوائل السودانيين الذين تزوجوا من غربيات. وهو على رأس السودانيين الذين صمدت زيجاتهم، لعوادي الزمن، ولعوائق، تباين النسق العقلي، والإرث الثقافي. وفي هذه وحدها، دلالة كبيرة، على رحابة العقل، وكريم الخلق، وسعة القلب، وسلاسة المسلك، وطيب العشرة. لقد كان البروفيسر الراحل، تجسيدا فريدا، للمزج الواعي، بين قيم التراث، وقيم الحضارة الحديثة. وهو بهذا المعنى واحد من الطلائع الذين ركزوا أقدامهم على أرض ميعاد التواصل الإنساني، الفسيحة الممتدة، وراء تضاريس حواجز اللون، والعرق، والتباين الثقافي.

    وحين نقف في لحظة انتقاله، إنما نقف للعبرة، وللذكرة. فالرجل واحد من سلفنا الصالح. ولقد سمعت الأستاذ محمود محمد طه، يقول ذات مرة، إن معاوية محمد نور، والتجاني يوسف بشير، هم سلفنا الصالح. وقد وجه الأستاذ محمود، وقتها، الجمهوريين، بكتابة كتاب عنهما. وارجو أن يحقق الجمهوريون رغبة الأستاذ محمود، تلك، في يوم قريب. ولا شك عندي أن عبد الله الطيب، قد أصبح بانتقاله، واحدا من هؤلاء السلف الصالح. والذي فهمته، من حديث الأستاذ محمود، أن هؤلاء قد مثلوا أكثر من غيرهم، صورة المثقف الأصيل. وهو المثقف الذي يصبح، قولا، وفعلا، ضميرا لأمته.

    لقد أجمع السودانيون على احترام ثلاثة من مثقفينا، وهم البروفيسر عبد الله الطيب، والدكتور منصور خالد، والروائي الكبير، الطيب صالح. لقد كان كلا من البروفيسر عبد الله الطيب، والدكتور منصور خالد، الأجهر صوتا، في إدانة إغتيال الأستاذ محمود محمد طه. وأنا شخصيا، أميل إلى التعرف على قامة المثقف، بناء على موقفه من تلك الحادثة الظلامية، البشعة. فبمقدار الصدع بالرأي في شأن تلك الحادثة، تعلو عندي، قامة المثقف، وبمقدار استحيائه، وازوراره، تقصر عندي، قامته. لقد كان الدكتور منصور خالد، أول من صدع بالإدانة، عبر صحيفة القبس الكويتية. وليس ذلك بغريب على الدكتور، منصور خالد. ثم تلاه البروفيسر عبد الله الطيب، بقصيدته المعروفة ((قد شجانى مصابه محمود مارق قيل، وهو عندى شـهـيد)). ولقد عبر الروائي، الطيب صالح، فيما بلغنا، عن ندمه على السكوت، عقب إغتيال الأستاذ محمود. وهذا موقف طيب، يدل على يقظة في الضمير الثقافي، لدى صاحبه. الشاهد، أن هؤلاء النفر يعيدون رسم صورة المثقف الأصيل, وهي صورة نحن بحاجة إلى إعادة رسمها كل حين. ولعل إعادة رسم هذه الصورة، بجلاء، تكون أوجب واجبات، وقتنا الراهن. وإنه لمن حسن عناية الله بأمتنا، أن يكون كبار كتابنا، ومفكرينا، أصلاء، يعرفون مسؤولية الثقافة. ويمارسون استقلالا عن مؤسسات تدجين الوعي، والأخلاق، وإخضاعهما لسلطة الراكد، والراهن.

    الشاهد، أن البروفيسر عبد الله الطيب، لم يجامل محبيه، ومعجبيه الكثيرين، من قبائل السلف، ممن كانوا يظنون فيه رصيدا جاهز لهم. لقد فاجأهم بقصيدته المبينة، فس شأن إغتيال الأستاذ محمود محمد طه. وقد لامه بعض السلفيين على ذلك. دلل البروفيسر عبد الله الطيب، في استنكاره لإعدام الأستاذ محمود محمد طه، عن معدن المثقف الأصيل، الكامن في أعماق ذاته. كما دلل على وضوح رؤيته الدينية، وسعتها، وإنسانيتها، وصفائها. هذا هو شموخ المثقف، وهذه هي أخلاق المثقف الأصيل، التي بها يجتاز امتحانات الإبتزاز، والإرهاب، والتدليس باسم الدين.

    ألا رحم الله البروفيسر عبد الله الطيب، بقدر ما قدم لأمته. فقد كان انسانا فريدا، وراهبا قائما، آناء الليل، وأطراف النهار، في محاريب المعرفة، لم يعرف جسده الكلال، ولم تهمد لذهنه المتوقد جذوة. اللهم انزله منك منازل القرب، وبلغه عالي الدرجات، والمقامات، إنك سميع، قريب، مجيب.


                  

06-20-2013, 07:14 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عبدالله الطيب: والأصل في الكونكان الا تنزلا وجوزوا النزول اذ لا (Re: عبدالله عثمان)

    كتب القاص عبدالغني كرم الله البشير على صفحته في الفيس بوك - بتصرف -
    حين مرض، مرضه الأخير، في عاصمة الضباب، لندن، وأغمى عليه، ثم صحى سارحا في عوالمه، الله أعلم بها، قال الطبيب، بأن حالته، قد تتحسسن خلال أسابيع، أو سنين عدة، بلا حد، وخير له أن يمضي، ويستقر في دار رعاية اجتماعية تهتم به، لأنه مجرد نسيان، وفقدان ذاكرة، وسرحان، قد يطول، وليس به مرض،.. فقالت زوجه المصون، جريزلدا، بأن أكبر دار لرعاية المسنين، والمرضى، هي "الشعب السوداني"، حيث الاهل والجيران والاصحاب، يضعون في عيونهم، أي مريض، فما بالك بالعلامة، من أدخل القران في لجهتنا، وحكى عن النبي، ومرشد العرب في أفهام شعرهم، وقد كان، جاءت به لأكبر دار للمسنين، في العالم، الخرطوم....

                  

06-20-2013, 07:20 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عبدالله الطيب: والأصل في الكونكان الا تنزلا وجوزوا النزول اذ لا (Re: عبدالله عثمان)

    فات علي التنويه لأن العنوان مأخوذ من كتاب العالم العلامة "نافذة القطار" ويعكس وجها من وجوه البروف، اللطيفة المتعددة، وهنا أثبت مقالا لكمال الجزولي يعرض فيه وجوها عدة أخرى، غاية في اللطف، لهذا الولي الأكمل
    وجــــاء يوم شــــكره بقلم كمال الجزولي

    يقيناً إن مسبحة بأكملها من الدهور سوف تكرُّ قبل أن تتكرَّر ، وقد لا تتكرَّر ، في بلادنا قامة علميَّة وإبداعيَّة سامقة في موسوعيَّة وفرادة عبد الله الطيب الذي روِّعت البلاد بفقده مؤخراً، بعد غربة لم تشأ إرادة الله وحكمته أن تردها طوال الفترة الماضية ، ولا رادَّ لإرادته، ولا معقب على مشيئته، ولا حول ولا قوة إلا به.
    ملأ العزيز الراحل الدنيا وشغل الناس لأكثر من نصف قرن جادت خلاله عبقريته بأسفاره ونتاجاته الأدبية الذائعة في مطاوي ثقافة المستعربين السودانيين: "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" الذي بهر طه حسين فى زمانه فقال فيه قولاً مجيداً، بالإضافة إلى "التماسة عزاء بين الشعراء"، و"شرح بائيَّة علقمة ـ طحا بك قلب" ، و"سقط الزند الجديد"، و"بين النير والنور"، و"من نافذة القطار" ، و"القصيدة المادحة"، و"حقيبة الذكريات"، و"بانات رامة"، و"أصداء النيل"، و" أغاني الأصيل" ، و"زواج السمر"، و"الأحاجي السودانية"، و"ذكرى صديقين" الذي أعتز بنسخة منه أهداها لى عام 1987م ممهورة بتوقيعه المهيب، والكثير، إلى ذلك، من الدراسات والمقالات المنشورة داخل وخارج السودان.
    كذلك عكف، رحمه الله، على تفسير القرآن الكريم إذاعياً، بعاميَّة قومه التي أولاها عنايته وارتقى بشأنها، على ولع مشهود له بالفصحى وعلومها. وانتهج في ذلك نهجاً مُيَسَّراً نأى به عن التنطع والشطط والغلوِّ في التأويل. وأكمل فى عام 1969م هذا العمل الجليل الذي كان قد ابتدأه عام 1960م. ثم طبع ونشر "تفسير جزء عمَّ" عام 1970م ، و"تفسير جزء تبارك" عام 1989م، وما يزال تفسير قد سمع" ينتظر النشر مذ فرغ من إعداده قبل مرضه الأخير. مع ذلك فقد كان الفقيد يرفض بحزم أن يلقب بالشيخ"، ويصرُّ على تأكيد مقاربته لهذا المجال من موقع "الأفندي"، فحسب! ولعل تلك الفرادة غير المسبوقة أو الملحوقة تستحق وحدها تأملاً خاصاً في باب السيرة الملتبسة لانتلجينسيا المستعربين المسلمين في السودان!
    وإلى جانب ذلك كله قدَّم الفقيد آلاف المحاضرات التي تتشابك فيها معارف اللغة، والأدب، والتاريخ، والدين، والأجناس، والفلسفة، والمنطق، والاجتماع وغيرها، ليس فقط لطلابه في الجامعة، بل ولملايين الناس الذين ظل يتوسَّل إليهم حيثما كانوا، داخل وخارج الوطن، بجهازي الراديو والتلفزيون، وظلوا يترقبون مواقيت إطلالاته البهيَّات على أحرِّ من الجمر، فقد حباه الله جاذبية تشدُّ إليه سامعيه وقارئيه، اتفقوا أم اختلفوا معه! وهى ذات الجاذبية التي لطالما جعلت أفئدة من أصدقائه الكثيرين تهوى إليه في مستوى العلاقات الإنسانية العادية. وقد قدر لي أن ألمس شيئاً من ذلك بوجه خاص ، ذات زمان مضى ، من خلال تواصله الإنساني الحميم مع بعض أولئك الأصدقاء ببيت المرحوم عصمت زلفو. ولكم أدهشني ، مرَّة ، أثناء مباراة شطرنج ساخنة بينه وبين الأستاذ محمد إبراهيم خليل ، وسط صمت الجميع وهم يتابعونها باهتمام وشغف ، عندما انطلق ينشد ، فجأة ، بين نقلة وأخرى ، أغنية "يا سمسم القضارف" ، بصوت غاية في العذوبة ، وبكلمات لم أكن قد سمعتها من قبل ، لا عند الفلاتية ولا عند أبو داود! ولمَّا أبديت دهشتي تلك لعلى المك ، أجابني مبتسماً: "أووه .. إن لديه الكثير من هذا"!
    كانت علائق الفقيد "بالمحدثين" من شباب الشعراء والأدباء آية في الإدهاش ، تماماً كعلاقته بقضية الحداثة" ذاتها. فعلى حين كان يرحب ، لسبب ما ، بأن يشاع عنه التزمُّت في استهجان الحداثة الشعرية: "باطل حَنْبَريت" ، فإن الثابت التاريخيَّ ، للغرابة ، ضربه هو نفسه بسهم وافر فى التأسيس لها بقصيدته الباكرة "الكأس التي تحطمت" ، عام 1946م ، والتي سبقت قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة ، و"هل كان حباً" لبدر شاكر السيَّاب ، وكلتاهما كتبتا عام 1947م ، ومع ذلك ما ينفكُّ النقد العربي يؤرخ لبدايات القصيدة الحديثة بهاتين، غير عابئ بتلك، أو، ربما، غير عالم بها ! أما في مستوى علائقه بشعراء الحداثة بمختلف أجيالهم، فإنني أشهد أنهم كانوا يسعون إليه، فيمنحهم من وقته الثمين بسخاء، يوادُّهم، ويُسمِعهم، ويَسمَع منهم. وكان أوَّل عهدي بالتجرؤ على الاقتراب منه حين حملت إليه بمكتبه بالجامعة، متهيِّباً ومتردداً، بعض شعر كنت اصطنعته، وأنا، بعد، متأدب شاب، أواخر ستينات القرن الماضي، فهدَّأ روعي، وأسكن لبالى، وقال لي قولاً حانياً طيباً لا زلت أحفظ منه أن علىَّ ألا أخاف من اللغة، وأن أجعلها تتبعني ولا أتبعها، فذاك، على حدِّ تعبيره، نهج شعراء العربية العظام.
    واستطراداً فقد أسدى لي الفيتوري، بعد عشرين عاماً، ذات النصيحة، وبذات العبارة تقريباً، وزاد بأن ذكرني باستعلاء أبى الطيب على نقاده في بلاط سيف الدولة عندما أنشد: "إن كان بعض الناس سيفاً لدولة / ففي الناس بوقات لها وطبول"، فحاولوا القبض عليه متلبساً بالخطأ المشهود في جمع "بوق" على "بوقات" وليس على "أبواق"، ولكنه أجابهم بصلف: "وإذن فسيروا من يومكم هذا فى الناس وقولوا إنها تجمع على بوقات لأن أبا الطيب جمعها هكذا"! وكنت سمعت عبد الله الطيب يمدح العميد يوسف بدري، يوم الاحتفال بتسعينيته ، قائلاً عنه: "إنه رجل إنسلاطي"، وبحثت عنها فى "لسان العرب" فلم أجدها، وإن كنت فهمتها وأيقنت أنها مما كان يسكه العالم الفقيد أحياناً بلا وجل! بل أدهشني أن وجدت نسباً قوياً يربط بينها وبين كلمة أخرى كنت سمعتها من العميد الراحل يوسف قبل عشر سنوات من ذلك، وهو يحاول أن ينقل لى، أثناء اجتماع لمؤسسي جامعة أم درمان الأهلية فى بيت المرحوم محمد سيد احمد سوار الدهب، اطمئنانه إلى أن المشروع سوف ينجح، وذلك عندما همست له، وكان مجلسى إلى جواره، بانزعاجي من المصاعب الجمَّة التي تحتوش المشروع ، قال: "يا كمال يا ولدى أم درمان دي ربنا سخر ليها ناس مسلطين"، وأومأ برأسه إلى الحضور الكريم. ففهمت أنه إنما كان يستدعى خبرة "المدرسة الأهلية" و"معهد القرش" وغيرهما، استبشاراً بتقاليد العمل الطوعي في المدينة، وبأولئك الذين "جعلوا الخدمة في الحىِّ نخوة وابتدارا"، على قول المجذوب ، وهو ذات المعنى الذي قصد إليه عبد الله الطيب فى الاحتفال بتسعينية يوسف بدري نفسه ، وكانت الجامعة الأهلية قد نهضت ، أوان ذاك ، كما الطود الأشم ، فتأمَّل!
    وقد خلص عبد الله الطيب في "مرشده" إلى أن من وجوه الخطأ الاعتقاد بأن الخليل بن أحمد الفراهيدي قد اخترع علم العروض ليتبعه الشعراء، لأن العكس هو الصحيح، حيث أنه هو الذي تقصَّى ما أنجزه الشعراء فقننه. ولكم أطرب عبد الله الطيب شعرٌ على نسق التفعيلة ووحدة القصيدة، وليس وحدة البيت المقفل في العمود الشعري، ولكم نصح بما يستقيم به وزن هنا أو تشرق به قافية هناك، دون أن يعترض، من حيث المبدأ، على نسق التفعيلة ذاته، برغم تلك الدمغة المرعبة المهيبة: "باطل حنبريت"! وانظر، إن شئت، كيف تلازم عنده، تلازماً مُركباً، هجومه النقدىُّ الشهير على ت. س. إليوت ، وتحذيره المغلظ من مغبة الفتنة به، مع ترحيبه الحار بتنظير هذا الحداثى العتيد لمسئولية الشاعر عن "حراسة لغة القبيلة"! بل لا تمش بعيداً، وانظر أيضاً، إن أردت، كيف كان يبتهج بمغامرات المجذوب الشعرية ـ "شحاذ في الخرطوم"، مثلاً ـ والتي طالت حتى ما صار يعرف الآن بقصيدة النثر، أو تأمَّل فى محبته لصلاح احمد إبراهيم، وهو الذي كسر عمود الشعر "طق" ، على قوله بنفسه!! وأما في مستوى القول الأدبي النثري فأحيلك إلى "التماسة عزاء" و"من نافذة القطار"، مثلاً، لتلمس بنفسك نماذج من الإعلاء الحداثي معنى ومبنى، ثم لك أن تتأمل أيضاً علاقة المودة الإبداعية التي ربطت بينه وبين تلميذه على المك حالة كونه قاصاً مستغرقاً فى تجارب الحداثة، بل وأن تتأمَّل هذه المحبة التي أحاطه بها تلاميذه الكثر، وجُلهم من الحداثيين، إلى حدِّ أن بعضهم هجر مقاعد الدراسة في كليات الطب والعلوم وانتقل إلى كلية الآداب .. كيلا تفوته محاضرات عبد الله الطيب التي كان يضفى عليها من حضوره الآسر طابع الأنس اللطيف، بالغاً ما بلغت موضوعاتها من الوعورة والعمق!
    كثير مثل هذا مما يشى بتركيب في النظر والفكر والتذوُّق أحسب أنه ما يزال بانتظار الباحث الصبور والناقد الصَّيْرَفِى، يسبر غوره ويفض طلسمه، فليس عبد الله الطيب ممن يؤمَن جانبُ التبسيط في مقاربة أبعاده وافرة التعدد والألوان والثراء!! وقد احتفى، عليه رحمة الله، أيَّما احتفاء، باتحاد الكتاب الذي كنا أنشأناه أواسط الثمانينات. ولعل الكثيرين ما زالوا يذكرون، ضمن أجمل ذكرياتهم، تلك السهرة الرمضانية من برنامج "أمسيات الإمتاع والمؤانسة" ، والتي قضوها في حضرته بدار الاتحاد، وقد تربع على عنقريب" في وسط الحديقة يحدثهم، حتى وقت السحور، عن السباحة، والزوارق، والتعليم، ووليم بليك، وأحمد الطيب، وشكسبير، والكلية القديمة، والخرطوم زمان، ومسرح بخت الرضا، وجماليات اللغة القرآنية، وإشراقات السيرة النبوية، والعيد في دامر المجاذيب، وصعلكة الشنفرى وسحيم عبد بنى الحسحاس، مثلما يذكرون، ولا بد، كيف انخرطوا في ضحك مجلجل حين أجاب على مشاغبتى له حول السر وراء معرفته المذهلة بدقائق ألعاب الكوتشينة، مما كشفت عنه صفحات كاملة من "التماسة عزاء" ، قائلاً: "ذاك سفهٌ تعلمناه من أولاد الخرطوم التي جئناها ونحن، بعد، قرويون أقحاح"!!
    من جانبنا اعتبرناه رئيساً شرفياً نضع الزيارة لمنزله على رأس برنامج ضيوفنا من الكتاب الأجانب. وحين زرناه ، ذات مرة، على المك وبشرى الفاضل وشخصي برفقة سيرغى بروزدين، رئيس الهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب السوفيت، وقتها، والذي كان يشاركه الاهتمام بالأحاجي الشعبية ، بالإضافة إلى إيغور يرماكوف مترجم "عرس الزين" إلى الروسيَّة، أثار، على نحو خاص، مسألة حقوق المؤلف، وشكا مُرَّ الشكوى من أنه، لما ذهب للعمل بنيجيريا، فوجئ بطبعات من مؤلفاته تباع هناك، ولما يكن قد أذن بها، أو حتى سمع عنها من قبل. وقد أفضت بنا مشاورات تلك الأمسية إلى خطوط عامة لمشروع حماية مشتركة للحقوق نقوم بتطويره لاحقاً مع عدد من الاتحادات الشقيقة في آسيا وأفريقيا بخاصة. غير أن "المنيَّة" سرعان ما عاجلت الاتحاد ، ثم أخذت بروزدين ، ثم ها هي قد أخذت فقيدنا العزيز، بينما لا تزال مؤلفاته نهباً لقرصنة الورَّاقين في نيجيريا وربما فى غيرها .. الله وحده يعلم!
    اللهم هذا عبد الله جاء إلى رحابك، فارحمه، واغفر له، وأحسن إليه ، بقدر ما أحسن لتديُّن قومه، وللعلم والثقافة والأدب واللغة، وحاشا أن نزكيه عليك، وأجب، يا رب، دعوات الآلاف من بسطاء شعبه وتلاميذه الذين أمطروا جثمانه وقبره بالدمع الهتون لحظة الوداع الأخير، ودعوات الملايين داخل وخارج السودان ممَّن لم يتمكنوا من المشاركة في التشييع، وادخله، اللهم، فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
    20 يونيو 2003
                  

06-20-2013, 07:24 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عبدالله الطيب: والأصل في الكونكان الا تنزلا وجوزوا النزول اذ لا (Re: عبدالله عثمان)

    سعادة السفير العوض محمد الحسن "قدورة" يعرض لنا وجها آخرا من وجوه، البروف، وهي كثيرة:
    الريد قسم يا عينيا
    عشرة أعوام مرت منذ رحل أستاذي وأستاذ الآلاف من السودانيين البروفسور عبدالله الطيب، رحمه الله، عالم اللغة العربية المتفرد، والمثقف الموسوعي، ومفُسر القرآن الكريم للملايين من بسطاء السودان ومتعلميه. كلما تذكرته، وتلفتُّ حولي أتعجب من الجهل المتفشي في بلاد السودان، تذكرتُ الفكي زين العابدين، شيخ الخلوة (المدرسة القرآنية) في غرب مدينة الأبيض في خمسينيات القرن الماضي، يسوق حيرانه صباح كل يوم جمعة، يطوف بهم أحياء الأبيض، ويقف أمام بيوت بعينها، ويجعلهم يُنشدون :

    العار أن تموت بلادنا جهلا وفيها سادة العلماء!

    رحل عبد الله الطيب، ومن قبله الفكي زين العابدين وغيرهم، وتركونا نغوص كل يوم في رمال الجهل المتحركة التي تبتلع كل شيء جميل ومُتقن وخيّر.

    قبل أن أعرفه، ظننته خير مثال لسكان الأبراج العاجية. يعيش وسط شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، يحفظ أسماءهم العصيّة على الحفظ، وأشعارهم الأكثر استعصاءً على الحفظ والنطق والفهم. يعرف قبائلهم، وبطونهم، وأنسابهم، ومضاربهم، وبيئتهم بتضاريسها وجبالها،وصحاريها،وواحاتها، ويعرف أسماء جمالهم، وخيولهم، وكلابهم، وسيوفهم، ورماحهم؛ ويعرف أسماء أمهاتهم، ومحبوباتهم، وبناتهم، وأبنائهم، وأبناء عمومتهم وخؤولتهم - وجيرانهم. كنت أظنه، من فرط انتمائه ومعرفته لتلك العهود في جزيرة العرب، لا يعيش بيننا، يأكل طعامنا، ويمشي في أسواقنا، ويهتز لما نهتز له، ويطرب لما نطرب له.

    وحين قرأت كتبه (الأحاجي السودانية)، و(من نافذة القطار) و(بين النير والنور) وغيرها، أصابتني الدهشة حين وجدته يعرف "الشيء السوداني" خير معرفة، بتراثه وتاريخه الاجتماعي، ولهجاته، وفنونه، و"جنونه"، وألعابه الشعبية. يعرف الأمثال الشعبية، والقصص الشعبي، والشعر الشعبي، والغناء الحديث والشعبي، وخاصة ما يُسمى بأغاني البنات التي لا يُعرف لها شاعر. يعرف نباتات السودان وحشائشه، وأشجاره، وفواكهه الصحراوية التي تشبه بيئته الجافة، وحيواناته المستأنسة والوحشية. يعرف المهن والحرف والطب الشعبي والوصفات الطبية التقليدية، وأسماء الأمراض المحلية.

    اكتشفت، (في كثير من الدهشة) سودانية عبد الله الطيب حين فاجأني بمعرفته لجانب لم أكن أتصور أنه عليم به. في مقابلة صحفية (لعلها إذاعية)، لم يستطع المذيع في نهاية المقابلة مغالبة فضوله بعد أن تحدث البروفسور مليّا عن الشعر الجاهلي، والأدب العربي، وتجاربه في جامعة الخرطوم وجامعة زاريا النايجيرية، فسأله في خِفّة: لماذا تزوجت أوروبية (خواجية بالسوداني)؟ لم تطرف للبروفسور عين، ولم يتلجْلجْ حين قال عفو الخاطر: "الريد قِسَمْ يا عينيّ!"أي أن الحُب قسمة ونصيب.

    يا ألطاف الله! أيعرف ساكن البرج العاجي، العالم النحرير،استاذ اللغة العربية وآدابها، عضو مجمع اللغة العربية (بل هو المجمع بأكمله)، وحافظ أشعار العرب وآدابهم وتاريخهم، ومُفسر القرآن الكريم، وعالم كتب الفقه والتراث الإسلامي، وضيف الدروس الحسنية الرمضانية الدائم في حياة الملك الحسن وفي عهد ابنه محمد السادس، مثل هذه الأغنية الشعبية، ويستشهد بها؟ أدهشني ايضا حسه الفكاهي المرهف، وإدراكه لطرافة المفارقة بين صورته النمطية وحقيقته السودانية البسيطة. حكى لي أحد الأصدقاء أنه حضر أحد آخر محاضرات عبد الله الطيب في دار اتحاد الكُتّاب السودانيين وكانت عن الشعر الجاهلي. وبعد أن أجاب البروفسور على استفسارات وتعليقات جمهوره المُحب للشعر، قديمه ومُحدثه، ونزل عن المنصة، فاجأه مُشاكس بسؤال مُباغت: "ما رأي البروفسور في مشكلة جنوب السودان؟"

    عاد البروفسور إلى المنصة، وجلس في تؤدة. التمعت عيناه الذكيتان، وابتسم ابتسامته التي تملأ وجهه، والدنيا، وقال ردا على السؤال: "خازوق!"

    والحق يقال، "الخازوق" ما تركنا عليه عبد الله الطيب من جامعات منزوعة الدسم والبركة، وانحطاط للغة العربية في عهد قلب القاف "غ" والذال "ز"، وفي عهد ملأ الفم بالكلام المحفوظ، المكرر،الرنّان الذي يصُكّ آذان السامعين ولا يقول شيئاً.

    رحم الله عبد الله الطيب، وتولّانا في غيابه برحمته.


    http://www.raya.com/home/print/f6451603-4dff-...89-892f-06b799b195a6
                  

06-20-2013, 07:42 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عبدالله الطيب: والأصل في الكونكان الا تنزلا وجوزوا النزول اذ لا (Re: عبدالله عثمان)

    كتب القاص عبدالغني كرم الله البشير:
    (تأمل شخصي، وخاطرة عتاب)

    يالها من حسرةَََ!!
    خسرنا راو عظيم، ولم نكسب شاعراً جاهليا!!
    بروفيسور عبدالله الطيب، نموذجا

    (من حقيبة الذكريات/ من نافدة قطار، كشكول)

    (1-3)

    عتاب محب، ليس إلا!!

    مدخل حب!!..

    لست بناقد، بل محب، قارئ عاشق لعوالم العلامة الكثر، ما أسطره، هنا، بتواضع وخجل، هو عتاب، عتاب من يطلب الكثير، المثير، ووجده قليلا، من قلب كريم، طيب، فليته أسرف في السرد، كما أسرف في الشعر، ليته، فقد كان قلمه بارع الحسن، يرسم خلجات النفس، وخواطر القلب، وهواجس العقل، أجمل ما يكون، وأبسط ما يكون، وتلك هي عبقرية الماء، والعلامة عبدالله الطيب، وحين أقرأ له، أحاول أن أدرسه، كي أتأنى، وتكون قراءتي له أشمل، فأتصنع درس، ودراسة، هي لي في البدء والختام، كي اقطف منه أحلى الثمار، ليس إلا، وما هذه المحاولة، سوى عتاب، فليتك أكثرت من السرد، والحكاية، ليتك أيها الحي المقيم.


    (الفصل الأول)

    ولد وبيده قاموس من فصاحة:

    ما أعظمها من ورثة، موهبة، قدت في جرم صغير أسمر، لماح، طيب، ودود الأسارير، استلته الحياة، طفلا في أواخر رمضان، بركة ويمنا، ليلة قدر سمراء، في لبوس آلام طلق، وأفراح مخاض، بشرت بها السيدة عائشة جلال الدين، من عام 1921م، غرب الدامر، فشقت صرخ الطفل، الأولى، مع طبل الذكر، وطار المدح، صمت قرية طينية زاهدة، تقيم ليلها، وتسعى في الزرع والضرع نهارها، قرية التميراب بين أخوال وأعمام، وأهل، كتب الدهر عليهم، حياة تصوف، بين نور القرآن، ونار القيام والصيام، فطابت سجاياهم، وأحلولوت شمائلهم، زهدا، وصبرا، وتواضع، في تلكم البيئة المباركة، ومع أتراب وقوم، هممهم تأويل آي القرآن وتلاوته، ورؤية النبي، يقظة ومناما، نمت، وشبت، نبتة الطفل عبدالله، "فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع".

    نقش على صفحة قلبه في الصغر، نقش على الحجر، حب آل البيت، والتفاسير، والسيرة النبوية، ومدائح المصطفى، فظلت تلكم الأيام الخوالي، تتضوع في روحه، وحاله، ومقاله، حتى طارت حمامة روحه، للجلال الأسمى، الأبدي، فسكنت شجرة الجمال، مع أهل كرام سبقوه، من رسل وأولياء، وأخيار، فظلال تلكم الشجرة الوارفة، الحنون، يلم شمل ما كان، وما سيكون، وتهمس هل من مزيد، وجديد، لدوحها الطيب، فسنة الموت أختير لها ملاك جميل، وما اسعد وجه الملاك حين يقبض روح رجل طيب، كأبن الطيب، عبدالله، ويحلق بها، وهي تتضوع عطرا، من سماء لأخرى، فطوبى لك هناك، كما خضبت الفؤاد هنا، وسيظل علمك، وكتبك، صدقة جارية كأنهر كرام، تسقي قلوب القراء والعشاق والعباد .

    ولد ذلكم النور الأسمر، من بين أربعة أخوات كرام، وأخ له، قطفته يد المنايا، فرحل مبكرا، غرقا، في أمنا الأولى "المياه"، في جوف ساقية، بين طمي النيل، فصار الطفل عبدالله، وكان عمره حينها، عمره 13 عاما، وحيد أمه، "أخو أخوات"، مسئول ومثابر، تلفه أمه بالعطف، وتخاف عليه العين، ولم تصنع له "قنبور"، مثل صحبه الصغار، وهل سعت به لأبشر وبشرية، في دار فتوار؟ (1) كما كان يصنع بأترابه، خوفا على وحيدها، من كيد الدهر، وعيون الحساد، كي لا يلحق بأخيه حسن، بين ظلمات الأمواج، والدميرة؟..

    ومن عجب لم يتجاوز الفتى العقد الثاني، حتى سطر ملحمة لغوية، وشعرية، وفكرية، بل وسياحة أدبية، سميت مجازا (المرشد في فهم أشعار العرب)، أظهر فيها من البراعة الموروثة، والمكتسبة، التي قدت في جارحتي عقله وقلبه، في فهم اللغة، وأجراسها، وقواعدها، ودورب خلقها، ومآل حالها، ومآلها، ما يحير الألباب، قياسا لصغر سنه، وبفهم وحب وهيام عبقري للمرأة اللعوب "اللغة"، كأنه كان يترصدها، وهو غيب، في أصلاب جدوده العظام، البسطاء، خيار من خيار، من خيار، فأحبها، وأحبته، وأحب ناقتها بعيره، وضميره، وسطرا في سفر الحياة، أعظم حكاية حب، بين ليلى اللغة، وقيس عقله، وقلبه الوثاب، فأبتسمت الحياة، برجل دلق تحت حجرها، كتب نواضر، في أفانين متنوعة من المعرفة الإنسانية، شعر، وحكي وتأليف ودرس، وأحاجي، وذكريات، وترجمة.

    بركات الفراغ له، ولأمثاله:
    لو كانت بلادنا تعرف أقدار الرجال، ولا أظن من تبوأ السلطان، بعيد الاستقلال على المستوى الجمعي، أو الفردي بلغ شأوا في دلك، ولو قليلا، (لا يعرف الفضل لأهل الفضل، إلا ذا فضل) لفرغته تماما، للدرس والتحصيل، كثروة وطنية سمراء، بدل أن يدرس، هنا، وهناك، وراء الحدود، في نجيريا والمغرب، أو يدير جامعة، ويفنى جزء من دهب وقته، في هموم ومشاكل إدارية، أولى بها عقل آخر، جبل عليها، ولا ينفع الموهوب شيئا مثل الفراغ، قالها نبي الحكمة (نعمتانِ مغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصِّحَّة والفراغ)، وفي ظني لا نعمة مثلهما، أبدا، والفراغ يحث النفس على تفجير مخزونها اللانهائي البديع، حسا، ومعنى، وللحق أزمة الحياة المعاصرة، هي غيابهما، معا، (صحة وفراغ، وكل منهما تؤثر في الأخرى، فغياب الفراغ مرض للجسم، بل هو أعظم مرض، حسي، حين تنشغل الحياة عن رسالتها الجوهرية، تفجير مكنون النفس، الروح المنفوخة بين إيهابنا) فغرقت الحياة في زحم شغل، ومكر إستهلاك أرتد بالبشرية لنمط حياة النمل والنحل، تلكم الحيوات البدائية، ولكنا شغلنا فراغه الميمون بإدارة جامعة الخرطوم، هو في غنى عنها، وشغل هو نفسه بتنظيم شعر، كان أجدى به وهب عظيم، آخر، غير الشعر، قد فيه، ومثله كتاب عظام، بددوا طاقاتهم، في سبيل كسب العيش، وحياة الكفاف، في بلد يجني سماسرة السوق، وباعة الدولار، ورجالات الدين، ثروة، في لمح البصر، لم يحلم بها قارون، باستغلال النفوذ والسلطان، والمكر، وصاروا، وهم سراق الشعب، أبناء بررة في البلاد، تكرمهم الدولة، ومؤسساتها، كل أسبوع، وقد جنوا مالهم، من وسائل كسب طفيلية، لا علاقة لها بالصناعة والزراعة، سبل أنانية، نفعية، ضارة بالحياة، وسعت فتوق المجتمع الأسمر الطيب، المتآخي عبر قرون طوال، إلى طبقات في الثرى، وأخرى في الثريا، تنعم بحياة وصلف، وكبريا، كأنها مخلوقة مسكا، (وقدر إنشاء الورى طينا) تركت الريف، وأمصاره، صحراء جرداء، تنعق فيها البوم، وتصفر الرياح، ورحل أهلها، حفا ومشاة، لهامش المدن، وتركوا خلفهم، بأسى عظيم، ذكرياتهم وقبورهم، ولو لا أن قبورهم رياض جنة، (أولئك الفقراء العظام)، لنهض أهلها، وساروا خلف احفادهم، وابنائهم، نحو المدن الظالمة، من وحشة قبورهم، فلا أبن زائر، أو حفيد يدعو لهم، فالمقابر قرية حية، حقيقة، لا مجاز، تحت الأرض كالبدور، فلم نترك ماضينا العريق، الحي تحت الأرض ونمضي بلا حب سري للأصالة، وحلم للمعاصرة؟ إلى مناطق بكر من الإرث المدفون فيها، (حياتي خيرا لكم، ومماتي خيرا لكم)، في تلك النسغ السري، لشجرة الحياة، بين الموتى والأحياء، في حوار خفي، ومحب خلاقة، يعرفها الشعر، والشعراء، وما أكثر القرى، والريف، التي تركت جذورها الحية، وحجت لأفاق، بلا مدد ونسغ طالع من تلكم القبور، والذكريات، والتراب." فعاشت مسكينة، كئيبة، بلا حوار خلاق مع الماضي، والموتى، والاحفاد في الأرحام، في عبقرية الحياة ولغاتها الكثر، وأسرارها البديعة، وتلكم السمفونية المعزوفة، بين الكمياء، والفيزياء، والمشاعر، والماضي والآت، في غرة الحياة الماثلة الآن، والتي هي أمشاج ألف جنين وجنين، حسي ومعنوي، يكون غريزة الحياة، وفطرتها، فأي خلل فيها، يعقد النفوس، ويطرد الفرح الكامن، ويذل الحياة، ويخونها، في عقر دراها.

    تقسو بلادنا (والتي لم تتشكل بعد، كدولة أو كيان، أو هوية، أو حلم وطموح)، على أي عبقري يمر بترابها، يموت ألف مرة في اليوم، كلهم أعدمتهم بالإهمال، أو بسيف هوس، أو النسيان، أو المحاكمات (التجاني، جماع، معاوية، نجيلة، محمود، عبدالخالق)، وغيرهم من شموش كانت ستنير للأمة دربها نحو الحرية والعلم والحب، ولكن طباع الاستبداد، بكل شكوله، الظاهر والمستتر، أقست تلكم المواهب، فالعداء الفطري، بين الظلمة والنور، لا يجتمعان أبدا في أرض واحدة، ، فشمعة صغيرة، تولى فلول الظلام منه دبرها، ويترصدها الظلام، كي يعود ويملأ الأرض دمسا، وجهلا، واستغلالا، كعادته البيغضة، فاللص المختلس، يخفي ملامحه في جوف الليل، ويعشق الظلماء، ويرتعب من أي لهب، ولو عود ثقاب منير، كي لا يرى قبحه، وحقيقته، في حرب الخير والشر الأزلية، فيحب الظلام، ويطفئ أي قنديل يهدده..

    وجدته متلبسا بحالة سرد عظيم:

    تلك مقولة، قالتها عبلة الرويني، حين وجدت أمل دنقل يقرأ القرآن، في فراش مرض السرطان بتأني وخشوع، فسطرت "وجدته متلبسا بالإيمان، وهكذا حالي، حين قرأت بمرح وفرح، "من حقيبة الدكريات، ومن نافدة قطار"، وجدته متلبسا بحالة سرد عظيم:

    ***

    مناط تساؤلي، هل شكر البروفيسور عبدالله الطيب ربه؟، هذا الرجل البسيط، العظيم، فهو لاشك قد تذوق آي القرآن، وولد وجرمه مضئ بإرث المجاديب، ولكن ما أعنيه من شكر هو شكر نعمة "الحكي"، التي قدت في فؤاده كغريزة أصيله، وباهرة، ولكن هل شكرها، فقد عُرف الشكر لدى السالكين (استعمال النعمة فما خلقت لها)، فهل استعمل هذه النعمة، والتي كانت عنده هينة، بسيطة، وعميقة في ذات الوقت، لا تكلفة مشقة، كما شاقه تدوين شعر "جاهلي" صحراوي، في مقرن النيلين، منتصف القرن الفائت، أم شغلته مواهب أخرى، أقل منها، بل هناك مواهب مصطنعة، جرها إليه أدب الوقت، وهو عشق الشعر عند أهل بلادي..

    لاشك مر الرجل المخضرم بمخاض عسير، فتعدد مواهبه، جعلته اسيرا لها، بين عالم لغة، ومفسر قرآن، وشاعر "جاهلي"، وسارد عظيم لأدب الرحلات، ومؤلف عظيم في أدب اللغة، قوس قزح من المواهب، جعلته ضالا، محتارا، في إيها طريق يسلك، أو جبل يصعد، أو وادي ينزلق، وما أصعب الاختيار، حين يتشابه عليك البقر، بقر مواهبك الكثر، (رقّ الزجاج وراقت مثلها الخمر ، فتشابها وتشاكل الامر فكانما خمر ولا قدح ، وكأنما قدح ولا خمر)، أحسبه توقف عند مفترق الطرق، وتمهل كثيرا، واستخار، إيهما يسلك، هدا؟ أم داك؟ وما أصعب الاختيار لرجل قدت فيه ألف موهبة، وموهبة، ما أصعب الاختيار وأتعبه.

    أصغي إليه، وهو يحكي عن البارودي، وأتعجب، أسمعه مادا قال (والحق إنه جاء بنهج أصيل، لأنه وجد لغة جامدة، تنوء بأوزار الركاكة والصناعة، والتصنع، فسما بها إلى نفس حار، حر، ينطق عن قلب كبير، قلق)(1)، بلى قال عنه، وجافاه حين سطور أغلب قصائده، بل مدح العباسي، وهو مجدد صنديد، وعرف العقاد، الممتعض (من تقليد الأمس، وصرخت مدرسة الديوان، صرخة مدوية)، من أن لنا وقتنا، ونبرتنا، ونبضنا المختلف)، وفي لبنان جرت مدرسة "القلم"، بما جرى، من ثورة على اللغة، والوصف، وعروض الشعر القديمة، لم تنكرها، ولكنها احتفت بها كماض عظيم، له دينه، ولهم دينهم الأدبي، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولكن لم أفنى الشيخ الطيب، وقت ثمين في تقليد العروض القديمة، ومشها خلفها، أو حتى امامها، حافر بحافر؟.

    يسرح طرفي، في مشقة، وعنت، كي ألم بروح الفتى، حينها، والخيال جديب، في تصور ماجرى للنفس، ناهيك عن آخر، هل هي فتوة شاب، بجيد اللغة كأهلها، في مضارب بن سعد، وصحراء المعرة، وخيام لبيد، ويحب أن يرى الناس عضلاته اللغوية، القوية "المفتلة"؟ ومشروعه لم يبلغ الفطام، ولكن تخر له الجبابرة ساجدينا!!.

    أم شاب طغى به طموحه، أن يعلم، حتى من به صمم، أنه حافظ، وعارف لكل كلمة فصحى، ومشتقة، ومقتبسة، ومحورة؟!!

    كم أرهقتك عبقريتك أيها الفتى البسيط، الحالم، المحب، كم وكم، وها أنت تنام في ضريح قبرك ملء جفونك، ويسهر الخلق "جراك"، ويختصموا، مثل صديقك الآن المتنبي، هل زارك في قبرك؟ أم طال ليله، ويطوووووول؟، أحسبه جنة، أن يلتقي الأحبة، فما أسعد رياض قبوركم وأنت تسمعه، يقرأ لك قصائده الطوال (والكلام سمح في خشيم سيدو) فأقرئه السلام، هو الآخر، والمحبة!!

    ما قلته، وسأقوله، عتاب في لبوس محبة، ومحبة في ثياب عتاب، عن العلامة العظيم، عبدالله الطيب، عتاب حب، لموهبة كان لها أن تصاقب ملكاته الطيبة، وتسايرها، ولكنه ضن بها، ضن الشحيح، وهو الكريم، ليته كتب وكتب، وسطر وسطر، عن تلكم الأيام، لكان سفره مرجع للكبير والصغير، ولكن بارك الله فيما اعطى، فهو كثير..

    هوامش:
    (1) من نافدة القطار، "حكى عن أطفال الدامر، وزيانتهم، تبركا في ابشرا، في قرية فتوار"
    (2) الحماسة الصغرى، الطبعة الثانية، بيروت، ص 233

                  

06-20-2013, 10:17 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عبدالله الطيب: والأصل في الكونكان الا تنزلا وجوزوا النزول اذ لا (Re: عبدالله عثمان)

    يواصل القاص عبدالغني كرم الله البشير حكيه عن البروف
    من أدب الوقت، أن تشغله بما هو جوهري، أن توقره بما هو، أجدر به، فما أكثر زحم الخواطر في العقل، والهواجس في القلب، التي تريد أن تفصح عن نفسها، في آن، غير مبالية بغيرها، كعادة غريزة الأنا، وتشغل وقت غيرها، وإن كانت أولى منها، وأفصح، وأجدى، وتلكم هي حروب الحكمة في النفس، الحروب الأعمق في أغوارنا، والتي يروح ضحيتها ألاف من الأفكار الرائعة، الرصينة، بسببب أفكار أقل، وأثبط، وتدور رحى هده الحرب، في قلب كل مبدع، وعقل كل مفكر، ما هو الأولى، والاجدى، بملئه الآن، وأقدم من هده الغلطة، حين تتفرس النفس مواهبها، وتعرف من الأصيل فيها، من البضاعة المزجاة، ومن أسف، كثير من أنوار نفوسنا، غير قادرة، حتى على كشف جوهر ما جبلنا عليه، من مواهب وقدرات، كي نفجرها، أظنه خطأ قديم، يعود لغبار التربية الأولى، وصدأ قيم تعلي شأن فن، عن فن، كما جرى لبلادي، في عشق الشعر، والشعراء، فجعل كل فنان، يحرص على كتابته، لسهولة الأمر، والنشر، ومدح المجتمع الفطري للشعر، وأوزانه، وأهله، مما أوقع فحول الكتاب في بئر الشعر، ولم يجدوا سيارة، تستل يوسف الإبداع، منه، لدورب أخرى في التعبير، لا تقل روعة، وجمالا عن الشعر، وهدا، ما جرى للعلامة العظيم عبدالله الطيب، ولكن بخسارة أقل، إن لم ينحاز للشعر كلية، ولكنه أفنى وقتا عزيزا، في صنعه، كان أولى به، فن أخر، كالسرد، والحكاية، التي برع فيها، براعة القمر في الليل، وكم تحسرت، وأن أطلع على (من نافدة قطار)، و"من حقيبة الذكريات"، على خسارة رواي عظيم، ولم نكسب شاعري جاهلي، أسمر، في حمى الدامر، والخرطوم، منتصف القرن الفائت!!

    أن لا يشغلك شأن، عن شأن أهم منه، وأولى، أما أن كنت مثل أولياء طبقات ود ضيف الله، (لا يشغلك شأن عن شأن)، وتنجز مهامك في ألف صعيد، في آن، فلك ما تريد، ولكن لو قدر لك، أن يشغلك الشأن عن آخر، فكن كلفا بما هو أولى، وأقرب وأفصح عنك، ولكن كم أهدر المثقف السوداني من طاقات، في شئون لا تخصه، أو قل لم تقد فيه، ولم يرثها كموهبة، بل ظل كلف بها، لسلطان المجمتع، وكلفه بها، فلله در مواهب، جبلت في يراع العلامة الفذ عبدالله الطيب، لو أولى لها من الوقت، والرغبة والحرص، لجنينا زرع أخضر، مكتبة عظيمة في الحكي، والقص، والرواية، ولكنه أفنى زهر من وقته، في صنع شعر، ونحت قصائد بأزميل الإصرار والعناد، وهو لم يكن أهل له، بل صانع، وترك شعرا غزيرا، كثيرا، غير مؤثر في النفوس، أللهم إلا كما يؤثر قاموس المحيط في النفس، مع بعض قصائد، حلوة طيبة، كتبها بنفس الفنان فيه، وليس العالم الضليع في اللغة، فكانت حيوية، ومعاصرة، وحميمية، يتقطر منها نفسه، وخفة دمه، ووضوح رؤيته، وشفافيه قلبه....



    هل شكر البروفيسور عبدالله الطيب ربه؟، هذا الرجل البسيط، العظيم، فهو لاشك قد تذوق آي القرآن، وولد وجرمه مضئ بإرث المجاديب، ولكن ما أعنيه من شكر هو شكر نعمة "الحكي"، التي قدت في فؤاده كغريزة أصيله، وباهرة، ولكن هل شكرها، فقد عُرف الشكر لدى السالكين (استعمال النعمة فما خلقت لها)، فهل استعمل هذه النعمة، والتي كانت عنده هينة، بسيطة، وعميقة في ذات الوقت، لا تكلفة مشقة، كما شاقه تدوين شعر "جاهلي" صحراوي، في مقرن النيلين، منتصف القرن الفائت، أم شغلته مواهب أخرى، أقل منها، بل هناك مواهب مصطنعة، جرها إليه أدب الوقت، وهو عشق الشعر عند أهل بلادي..

    لاشك مر الرجل المخضرم بمخاض عسير، فتعدد مواهبه، جعلته اسيرا لها، بين عالم لغة، ومفسر قرآن، وشاعر "جاهلي"، وسارد عظيم لأدب الرحلات، ومؤلف عظيم في أدب اللغة، قوس قزح من المواهب، جعلته ضالا، محتارا، في إيهما طريق يسلك، أو جبل يصعد، أو وادي ينزلق..

    ثم تلكم الحلاوة، والألق التي تبدو جلية، وهو ينطق اللغة الأم، لغة القرآن، وتشعر بتدوقه العظيم لحرفها، وجرسها، وقواعدها، وسحرها وعبقريتها، حين يطل من شاشة التلفاز، أو تصغي من جهاز المذياع..

    ولكن سؤالنا، مادا كسبنا من هتماماته هذه (وأخص الشعر الجاهلي)، الدي سطره، كأنه في بادية المعرة، أو راع في ادي دي سلم، ومادا خسرنا لإهماله أدب الرحلات، وهو من أساطينها بما يملكه من قوة ملاحظة، ومقارنة، وتهكم، وحكنة، وسلاسة لغة، وعشق للحياة بكل صورها، وبساطة تحليل فطري، يمس جوهر المتلقي والقارئ، ويفتح شهيته لرؤية دار الافرنج، أو شمال بلادي، أو سفينة هولندية في الأربعينات، كما سطر في ادب رحلاته الفريد، ولكن ندامه الكسعي، تعترينا، فقد عض إبهام موهوب في أدب الرحلات، حتى بتره، كان سيكون له أثر فريد في إثراء هدا النوع العتيق من الأدب، ويظهر دلك جليا في كتابيه (من نافدة قطار)، و(من حقيبة الدكريات)، وهي تؤرخ فترة هامة من تاريخ السودان، وانجلترا، واحداث العالم ابان الاستعمار، في الأربعينات، والخمسينات، مما يدخله كمؤرخ أدبي، واجتماعي للحياة السودانية، وحياة الانجليز وقتها، وأرضها التي لا تعرف الغروب، أو حتى الشروق، (لم اختارو الشروق، فالليل دوما يغطي جزء منها، كما الشروق)، وما أروع الليل، ولكنها لغة الاستعمار، فالليل شاعر، والنهار تاجر..

    كانت كتابة الشعر في بلادي فرض عين، وقد يكون فطرة بشرية، بل غريزة كالشهيق ، والزفير، فما من فرد وإلا سطره، ودونه، وطرب لمحاولاته الساذجة تلك، كأنه رسول (أي الشعر)، للقلب والوجداني لمطلق بشر، ولكن في بلادي، كان الشعر ديوانها، متأثرة بالعرب، وغيرهم من الشعوب، كما ان عشق الناس له، وسهوله حفظه، جعلته سيد الموقف، وكان من العسير الخروج من القطيع، فرادة أسلوب آخر، كالمسرح، والحكاية، وغيرها من ضروب الإبداع..

    ففي كتيبه الرشيق العبارة، الودود الإشارة (من حقيبة الدكريات)، وعنوانه يشئ ببخله، وشح كاتبه في طرح ذكريات كلها بل جزء "منها"، وليته اسماها (حقيبة الذكريات)، وحذف "من" الإقتار هذه، فقد استعمل "من" هده، كأنه يريد الجزء، من تلك الحقيبة، ليته تركها (حقيبة ذكريات)، وملأ الصفحات بمداد قلمه الأسمر، الذكي، الفكه، الموهوب، كي نسوح معه في تلك الفترة الهامة من تاريخنا، وتاريخ بلادنا، وأهله، ومثقفيه، فقط سطر وببارعة بسيطة، بلا تكلف، وبعين سودانية تستكشف الخصم في عقر داره، طرائق تفكيره، معيشته، حياته، نحن في نظرهم، وهم في نظرنا، وللحق كتبها بروح معتدة بداتها، رغم سخريته من ابناء جلدته، كما يتراءى، وكأنه يحس بعبقريته، وأصله، وفصله، يبدو وراء السطور اعتداد جلي، رغم مكر السخرية، منهم، ومنا، في تلك الحيوات ما قبيل الاستقلال (وهل استقلينا)، وينبري التهكم، حين تحاول صرامة الانجليز، وتقاليدهم، في ترويض بدواة محببة، ومتوثبة بألف حكمة مغروزة في شباب سوداني، جاء من بداية المجذوب، إلى لندن التقاليد، من (نقعد نقوم على كيفنا)، إلى تقاليد المرعية بحسبان في البسمة، والضحكة، والجلوس، والأكل، بل لكل طقس من هذه الطقوس من الأحكام ما يجعله مارش عسكري، فإين هذا من روح الشاب الحرة، الذكية، والمعتدة بحريتها الفطرية هذه، والتي تضحك بفطرتها، وتطلق العنان لخيالها، أيدي سبأ.

    تظهر في هده "الحقيبة"، بساطة الحكي، مع اقحام شعر شعبي، وجاهلي، وعباسي، وفيها ولع بالتفاصيل، ومقارنة الحياة السودانية الفطرية والحياة الانجليزية المعاصرة والمعقدة، (حكاية دفع سعر الشاي، والتي استمرت خمس دقائق، بين شابين، دوي مروة،وحلف وأقسم بالله ادفع انا)، وبائعة الشاي تمتعض من ضياع خمس دقائق، بتمامها، وكمالها، كما فيها وصف لعبيد (كنا نظنهم كما قال)، ووجدنا انفسنا عبيدا مثلهم، أمام بياض وثقافة الانجليز، كلنا في الغرب (عبيد)..
                  

06-20-2013, 10:32 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عبدالله الطيب: والأصل في الكونكان الا تنزلا وجوزوا النزول اذ لا (Re: عبدالله عثمان)

    و يواصل عبدالغني كرم الله البشير
    من حقيبة الذكريات
    دكتور عبدالله الطيب..
    جريدة الرأي العام 1954م

    (... وفي غرب لندن، تلقى حانة الجامكيين، ومرقص "مكة"، وهما من أحقر وأقدر ما تقع عليه العين، ولابد لمن يزور لندن من رؤيتهما، ولو مرة واحدة، ولا أنصح بزيارة المرقص لأكثر من خمس دقائق، في عمر الإنسان بجميمعه، وكان قد وأوصد قبل سفري من لندن بشهور، أوصده البوليس بحجه أنه مكان خارج على الأخلاق، وكتبت جريدة "الابزيرفور"، وهي من الجرائد المحترمة جدا، تحتج على إيصاده بحجه أنه "شبه متحف يرى الزائر له أنواعا غريبة من رقص الغابات الاستوائية..)..
    عام 1945م...
    ===
    لاختلاط،
    والسفور...

    كان أغرب ما رايناه في بريطانيا وأفعله في نفوسنا وأقواه وقعا عليها، وأعمقه أثرا فيها، سفور النساء..
    .....
    ولم يكن هؤلاء الفتيان والفتيات، بليدي العواطف، باردي الأهواء، كلا، كانت عواطفهم أعمق، وأعرض، وشعورهم أدق، وأحساسهم أرق، لسلامة التربية، التي نشأوا في ظلها، وخلوها من العقد، وعناصر الكبت، الكثيرة التي مرت بنا، نحن ابناء المدارس السودانية، الدين نبتوا في منابت البيئات الدينية المتمسكة بالقيم القديمة، الموغلة في القدم، كان الفتيان الفتيات من الانجليز يتقبلون الاختلاط كشي طبيعي، كما يتقبل أطفالنا من بنات وولدان هدا الاختلاط، وكيف لا يتقبلونه كشئ طبيعي وهم لم يعرفوا غيره، ..

    من حقيبة الذكريات
    الدكتور عبدالله الطيب
    الرأي العام27 مايو 1954م

    أظن، استاد النور، لو أعاد، مهاربه، أن يسطر سطورا، عن مهرب الدكتور، الممتعض من عادتنا، أيضا... وكما حكى النور، عن مهربه في زواج أجنبية، أظنه بحث في تخوم الدامر، ولم يجد صنوه، تشبه حرية انطلاقته، وبراح تفكيره..
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de