ندوة فكـرية كبري "الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديدة"

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 09:07 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-09-2013, 02:04 AM

Ahmed Elyas
<aAhmed Elyas
تاريخ التسجيل: 07-13-2008
مجموع المشاركات: 1542

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ندوة فكـرية كبري "الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديدة"

    ندوة فكـرية كبري
    __________________
    "الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديدة"
    يقدمها:الدكتور هشام عمر النور
    المكـان:دار حزب المؤتمر السوداني بالعباسية
    الزمـان:الاحد 16.6.2013 الساعة السابعة مساء
    ______
    حفل تدشين لجنة المؤتمر العام لحزب المؤتمر السوداني
    اعمال المؤتمر العام
                  

06-09-2013, 03:02 AM

احمد محمد الحاج

تاريخ التسجيل: 10-29-2009
مجموع المشاركات: 72

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ندوة فكـرية كبري andquot;الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديدةand (Re: Ahmed Elyas)

    هل هنالك ضرورات نظرية لقيام حركة سياسية جديدة،ضرورات فلسفية [مفهومية ومنطقية وايبستمولوجية]،بالاضافة لمستوي اخر من الضرورات السياسية والاجتماعية والتاريخية والجمالية والاقتصادية الخ.

    هذا السؤال النظري تحديدا هو ماظلت تفكر فيه الحركة المستقلة السودانية علي الدوام في سياق محاولاتها المستمرة لتدشين مشروعات جديد،تقوم عبرها بتمهيد الطريق لحدوث تحول في البراديغمات/والمنظورات التي تحكم الممارسة والخطاب السياسي والفكري في السودان،فما تم تكريسه وتحنيطه واعادة تكراره وانتاجه حتي الان هو ماقاد وسيظل يقود تجربة السودانيين لمستويات ازمة اكثر عمقا.لقد بات العالم اليوم اكثر انخراطـا في المكتسبات والفتوحات التي قدمتها التجربة الانسانية بعامة ونحن مانزال نراوح مكاننا،بل ونعود للوراء اكثر فاكثر،وربما في ظل ذلك نفتقد بطريقة او باخري لمشروعات بديلة ناضجة وكاملة وجديدة
                  

06-09-2013, 03:09 AM

احمد محمد الحاج

تاريخ التسجيل: 10-29-2009
مجموع المشاركات: 72

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ندوة فكـرية كبري andquot;الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديد (Re: احمد محمد الحاج)

    ـ يقود الباشمهندس طارق منصور27 عاما،طاقما شابا ومتمرسا من خريجي مدرسة مؤتمر الطلاب المستقلين،وهو التنظيم الطلابي واسع الانتشار بالجامعات والمعاهد العليا السودانية،يقود طارق ويرأس بعد سنوات من تخرجه من الجامعة "لجنة المؤتمر العام الخامس"لحزب المؤتمر السوداني الذي يرأسه الاستاذ ابراهيم الشيخ 57عاما وخريج ذات التنظيم الطلابي بجامعة الخرطوم،مايعني ان هذه التجربة تجربة شابة ومرنة ومفتوحة بالفعل علي العالم ،بل وتحاول ان تغدو جديدة وعريضة،وماتزال تحاول ان تنتج صيغ تسمح لها بدمج المعارف الجديدة وترجمتها لنوع من الحجج الشائعة والتبشير بها في آن.بل والبناء واعادة البناء المستمرين علي منوالها

    عمل الدكتور هشام عمر النور من مواقع مختلفة علي موضوع "الاستنارة" و وان تباينت زوايا نظره اليه بانتقاله من زاوية نظر الي اخري اكثر اتساعا،وبالطبع فان الدكتور هشام بما لديه من سيرة سياسية وفكرية واكاديمية،يمثل رقما مهما الان،يجب العودة اليه لاسيما والتراجعات الكبيرة التي يقودها مفكرين ومثقفين وزعماء احزاب،وحالة النكوص والانغلاق والتقوقع المرضية التي تسم التجربة بميسمها علي ايامنا هذه في السودان.يجب العودة اليه لما استطـاع ان يقوم به حتي الان من اضاءت متجاوزة للسائد،والنمطي والمالوف.
                  

06-09-2013, 03:58 AM

صلاح عباس فقير
<aصلاح عباس فقير
تاريخ التسجيل: 08-08-2009
مجموع المشاركات: 5482

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ندوة فكـرية كبري andquot;الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديد (Re: احمد محمد الحاج)

    ليس عندي أي خلفيّة عن الأسماء التي رأيتها في هذا البوست،
    ولكني أسمع لغة جديدة!
    مجرد التفكير في قيام حركة سياسية جديدة، هذا يكفي،
    وهو ثمرة موضوعية لنقد الحركة السياسية السودانية منذ الاستقلال!
    ولكن تُرى كيف ستواجه هذه الحركة الوليدة التحديات الراهنة؟
    المواطن السوداني البسيط يتوق لقيام حركة سياسية جديدة تعبر عنه،
    وتستنقذ هويّته من بين فكي خطاب سياسي فاشل تعبر عنه كلّ من الحكومة والمعارضة الرّاهنة!
    لا يحتاج المواطن إلى معرفة الضرورات النظرية لنشأة مثل هذه الحركة!
    لو كان رواد هذه الحركة يعرفون ذلك،
    لكنهم يتوسّلون بالفكر العلمي والنظري لتأسيس وجودهم الواقعي؛
    فمرحباً!
    ودعونا نرى ماذا وراءكم؟
    وكيف ستواجهون هذا الظرف الرّاهن؟
    يا إبراهيم الشيخ، وطارق منصور، وهشام عمر النور، وأحمد إلياس، وأحمد محمد الحاج، و...
    مع تحياتي وثقتي واحترامي!
                  

06-09-2013, 04:42 AM

احمد محمد الحاج

تاريخ التسجيل: 10-29-2009
مجموع المشاركات: 72

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ندوة فكـرية كبري andquot;الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديد (Re: صلاح عباس فقير)

    يقوم الدكتور "هشام عمر النور" بتدريس الفلسفة للطلاب بجامعة النيلين،كما يعد واحدا من اكثر المتحمسين لمساهمات مدرسة فرانكفورت الفكرية"النظرية النقدية" كما انه يحاول بشكل جاد ورصين ان يختط طريقه الفلسفي عبر التفكير والكتابة والتدريس ويرأس حاليا قسم الفلسفة بكلية الاداب جامعة النيلين وهو القسم الذي يكتسب سمعة طيبة يوما تلو الاخر بفضل مجهودات كبيرة تبذل،قدم الدكتور العديد من الاوراق كما كتب العديد من المقالات الفكرية الرصينة،وصدر له في مطلع العام المنصرم كتابه الاول"تجاوز الماركسية الي النظرية النقدية"
    علي الصعيد السياسي كان الدكتور هشام عمر النور يحتل منصب الامين العام لحركة القوي الحديثة "حق"،الي ان استقال منها الي جانب رئيسها الاستاذ الحاج وراق بعد رحيل رفيق دربهم الاستاذ الخاتم عدلان في ابريل 2005
                  

06-10-2013, 02:13 AM

احمد محمد الحاج

تاريخ التسجيل: 10-29-2009
مجموع المشاركات: 72

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ندوة فكـرية كبري andquot;الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديد (Re: احمد محمد الحاج)

    حوار مع الدكتور هشام عمر النور استاذ الفلسفة بجامعة النيلين،اجراه معه مازن مصطفي ونشر بموقع سودان فور اول بتاريخ 9 /اكتوبر / 2008 تحت عنوان: حوار مع الفيلسوف هشام عمر النور..
    _____________________

    الواقع الملوُّث بالبشر.. حوار مع الدكتور هشام عمر النور (1)

    الاستناره التي ندعو لها الان تقوم اسسها النظريه والفلسفيه علي الاختلاف والتعدد،عي حضور غائب لا يوجد الا اجرائيا في حوار ما) .......
    في هذا المناخ يتم حوار لا يمكن وصفه بوصف قبلي، بين إثنين من المشتغلين في حقل الفلسفة، يستنطق فيه الكاتب والروائي مازن مصطفى المتخرج بإمتياز مع مرتبة الشرف من كلية الفلسفة جامعة النيلين، الدكتور هشام عمر النور رئيس قسم الفلسفة بجامعة النيلين والذي تتنوع إهتماماته الفلسفية بين الفلسفة المعاصرة، والنظرية النقدية التي أنجز فيها درجة الدكتوراة، وفلسفة التكنلوجيا وفلسفة القانون وعلم الجمال، وفلسفة العقل والحداثة وما بعدها. يتشعب هذا الحوار في محاور عديدة منها الماركسية فكرتها وعلاقتها بالنظرية النقدية، والضرورة النظرية لتجاوزها (التي قدَّم د. هشام ورقة حولها)، وفلسفة الهوية وقضايا فلسفية أخرى. في هذه الحلقة يتناول الحوار علاقة الماركسية بالنظرية النقدية في حوار لا يخلو من التخصصية والتطرق إلى الممارسات الماركسية والتنظير الماركسي في السودان.

    مازن: علاقة النظرية النقدية بالماركسية:

    هشام: هذا سؤال كبير يمكن أن يستغرق الرد عليه كتاباً كاملاً لا جزءاً من مقابلة صحفية. ومع ذلك دعنا نبدأ من حيث بدأت النظرية النقدية كتيار نظري وفكري في عشرينات القرن الماضي مع هوركهايمر وأدورنو ولاحقاً ماركيوز، أكثرهم شهرة ـ وإن كان من وجهة نظري أضعفهم نظراً وفكراً ـ ثم أخيراً هابرماس الذي يمثل الجيل الثاني من النظرية النقدية، وهو لا يزال حياً كآخر الفلاسفة العظام من لدن أرسطو وأفلاطون وفي عصرنا الراهن فوكو ودريدا. ويشكل هؤلاء الأربعة ـ هوركهايمر وأدورنو وماركيوز وهابرماس ـ أهم فلاسفة النظرية النقدية. في الفترة التي تأسست فيها النظرية النقدية، كانت الماركسية ـ كما هو معروف ـ تسيطر على كامل مناخ التحرر الفكري والسياسي والإنساني؛ ومع ذلك فقد بدا واضحاً لهؤلاء الفلاسفة المشاكل التي تعاني منها النظرية الماركسية، وهي مشاكل حاول كل من لوكاتش وغرامشي وسارتر حلها كلٍّ بطريقته وفشلوا بسبب السطوة الآيديولوجية للماركسية التي شكلت نموذجاً معرفياً عبّر عن جماع المعرفة الإنسانية وأشواقها في التحرر في ذلك الوقت؛ ولذلك كانت الماركسية نموذجاً من الصعب التفكير خارجه إن لم يكن مستحيلاً. ومع ذلك فقد اجترحت النظرية النقدية في ذلك الوقت ما اعتبره مأثرة نظرية بإمساكها لأس مشاكل مشروع الحداثة الكلاسيكية الذي بدأ كمشروع للتحرر بالتنوير ثم إذا به وبعد حوالي الثلاثة قرون ينتهي إلى كونه مشروعاً للسيطرة رغم أنف نبل المشروع وغاياته الإنسانية ورغم ادعاءاته، الحصيفة وغير الحصيفة، حول علمية تفكيره ومناهجه وتطابقها مع الحقائق الموضوعية. وكانت الماركسية أرفع وأبلغ تعبير عن هذا المشروع، بما في ذلك تعبيرها عن أزمة تحوله من مشروع للتحرر إلى مشروع للسيطرة.

    * ربما، لكونها كذلك (أرفع وأبلغ تعبير عن مشروع التنوير)، مازالت الماركسية تجد من ينادي بالعودة إليها؟

    - هنا لا بدّ من تسجيل ملاحظة، إن دعوة الذين ينادون بالاستنارة إلى العودة إلى الماركسية ـ كما يفعل مجدي الجزولي ـ على اعتبار أن ما خرجوا له موجوداً بها وبالتالي عليهم أن يلزموا خدمتها، إنما هو وقوع في ذات ما حذّر منه الأستاذ محمد إبراهيم نقد هؤلاء الداعين إلى الاستنارة ألا وهو العودة إلى تنوير القرن الثامن عشر. وهو تحذير أولى به الماركسية من غيرها لأن تنوير القرن الثامن عشر تنوير يقوم على ذات الأسس النظرية والفلسفية التي تقوم عليها الماركسية. فهما معاً يقومان على الهوية والماهية والجوهر وحضورهم الميتافيزيقي، بينما الاستنارة التي ندعو لها الآن تقوم أسسها النظرية والفلسفية على الاختلاف والتعدد، على حضورٍ غائب لا يوجد إلاّ إجرائياً في حوارٍ ما. إن تنوير القرن الواحد وعشرين يتطلب أول ما يتطلب تجاوز الماركسية إلى النظرية النقدية، تجاوز الأحادية إلى التعددية.
                  

06-10-2013, 02:17 AM

احمد محمد الحاج

تاريخ التسجيل: 10-29-2009
مجموع المشاركات: 72

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ندوة فكـرية كبري andquot;الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديد (Re: احمد محمد الحاج)

    * في ورقة (الحداثة ومابعدها)، تحدثت عن الأزمات التي وقع فيها مشروع الحداثة بشكله الكلاسيكي (مستجيباً معك للنظر للحداثة كمشروع لم ينته، وإن كانت هذه النقطة جديرة بالتساؤل لاحقاً) كيف ترى تورط الماركسية في تلك الأزمات، فالبعض ـ مثلاً ـ لايرى أن الماركسية فلسفة تقوم على الهوية؟ وماذا عن النظرية النقدية، هل نجحت في تجاوز نظرة الماركسية والحداثة الكلاسيكية؟

    - نعود إلى أس مشاكل الحداثة الكلاسيكية (بما في ذلك تعبيرها البليغ، الماركسية) وهو ـ كما أمسكت به النظرية النقدية مستعينةً بماكس فيبر ـ العقلانية الأداتية والتي فرضت على المجتمع الصناعي بشقيه، الرأسمالي والاشتراكي، بعداً واحداً أحسن التعبير عنه ماركيوز في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد). وبما أن الماركسية كانت نموذجاً يصعب التفكير خارجه فقد صاغ فلاسفة النظرية النقدية مشروعهم النظري على أساس فتح بُعد الماركسية النظري الواحد على أنظمة متعددة؛ أي فتح المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية بحيث تصبح نظاماً نظرياً متعدد الأنظمة multi-disciplinary system. وهو مشروع لم يستطع هوركهايمر وأدورنو الوفاء به بسبب استغراقهم في نقد العقل الأداتي، أو بسبب عدم قدرتهم تجاوز نموذج الماركسية المعرفي على الرغم من قوة نقدهم له.
    فشلت محاولة أدورنو وهوركهايمر، خاصةً أدورنو الأكثر نفاذاً معرفياً والمعبر الفلسفي عن المشروع في بداياته، الذي لم يستطع، وكذلك هوركهايمر، تجاوز ثنائية الذات والموضوع ولذلك لم يكن له بدٌّ من الاستناد على أولية ميتافيزيقية للموضوع لم تسعفه فيها نفاذ بصيرته ولا ميتانقديته التي سبق بها تيارات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، بل اعتمد فيها على الإدراك الشائع common sense والبداهة؛ ونستطيع أن نقول أن ملكته النقدية قد خذلته فارتطم في آخر حدود تجاوزه للماركسية بسقفها الأخير فقعد في حدودها، فصدق وصف فردريك جيمسون لفكره بأنه ماركسية متأخرة.
    كما فشلت محاولة ماركيوز الذي أدخل مبدأ اللذة والليبيدو الفرويدي على المادية التاريخية سعياً لتحقيق مشروع فتح الماركسية على أبعاد متعددة وتحويلها إلى نظام متعدد الأنظمة. وفشلت المحاولة لأن ماركيوز بقي داخل حدود نظرية المعرفة الماركسية وثنائيتها المعروفة بين الذات والموضوع فانتهت محاولة إدخال بُعد جديد على الماركسية يقاسم بُعد العمل أولويته النظرية إلى أن يزيح مبدأ اللذة مبدأ العمل عن أولويته في النظرية الماركسية ويحتل محله. وسبب ذلك يعود لنظرية المعرفة الماركسية التي لم يستطع ماركيوز تجاوزها فهي لا تسمح بتعدد شروطها الأولية؛ مما يفرض على من يظل بداخلها أن يتبنى بعداً واحداً يؤسس عليه نظريته. وهو ما يدفع الماركسية دائماً على بناء خططها بافتراض وجود تناقض رئيسي واحد في أية ظاهرة؛ فالعلاقة بين الذات والموضوع لا تقبل إلاّ صيغة العلة والمعلول والسبب والنتيجة. وهي صيغة يلزم عنها أن تنتهي إلى علة أولى أو سبب أول.

    * ماذا يعني فشل النظرية النقدية في بداياتها؟

    - فشل النظرية النقدية في تحقيق مشروعها النظري عند بداياتها إنما يعني أن هنالك دائماً مفاهيم معرفية تحد من قدرات الذهن الإنساني مهما عظمت، وتسجنها في تصورات عن العالم تشكل سياقها المعرفي والتاريخي. ورغم أن مشكلات هذه التصورات تكون واضحة منذ البداية إلاّ أن شروط تجاوز أي نظام معرفي تتوفر في توفر مفاهيم معرفية جديدة لا تستند فقط على تراكم خبرات ومعارف جديدة في السياق المعرفي والتاريخي وإنما أيضاً على تراكم الأزمة والمشكلات، وأهم من ذلك تستند على قدرات الذهن الإنساني في النظر من جديد في معارفه وتاريخها خارج سياقها وتصوراتها (وهو أمر جليل وجلل، هو الذي يستحق لفظ “ثورة”، لا العنف والاستيلاء على السلطة بالقوة)؛ فإذا توفرت هذه الشروط توفر إمكان تجاوز النظام المعرفي وإلاّ فشلت المحاولة رغم فصاحة مشكلات النظام السائد وبيان أزمته. ومن الواضح أن شروط تجاوز الماركسية لم تتوفر في بدايات القرن الماضي وأواسطه فالثورة في مجالات العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية لم تقع بعد كما أن الفلسفة لم تكن بعد قد انعطفت انعطافتها اللغوية كما إن الخبرة الإنسانية بمشاريع تحررها لم تكن قد أدركت بعد الأهمية الحاسمة للديمقراطية وضرورة تأسيس التعددية نظرياً وفلسفياً وهو أمر غير ممكن إلاّ بتجاوز دوغمائية نظرية المعرفة الماركسية القائمة في أساسها النظري على تطابق حقائقها مع الواقع. وهو ما توفر بعد ذلك مع هابرماس الذي أنجز مشروع النظرية النقدية في فتح الماركسية على التعدد ولكنه أمر لم يكن ممكناً إلاّ بتجاوز الماركسية نقدياً، أي بنفيها جدلياً، إلى نظام معرفي جديد يتخطى أزمتها ويحفظ منجزاتها.

    * الإهتمام بسد ثغرات الماركسية، وتجاوزها، من قبل النظرية النقدية خلق خلطاً بينهما؛ إذ يرى الكثيرون أن النظرية النقدية ماهي إلا إمتداد للماركسية. أتذكر في حوار شفاهي مع أحد الشيوعيين أشار لدريدا بإعتباره صاحب “أطياف ماركس” لا أكثر (أو أشباح ماركس، إذ لم يعني جهلي بالفرنسية على تفضيل ترجمة ما)، وأشار لفلاسفة فرانكفورت بإعتبارهم نيوماركسيسميين. هذا المثال درجة مشتطة بالطبع من المقاربة، لكن أشباهه كثر؟

    - إجابتي على السؤال قبل السابق تؤكد على أن محاولة وصف النظرية النقدية بأنها ماركسية جديدة أو أنها لا تشكل خروجاً على النظام الماركسي محاولة بائسة ويائسة قد تصدق علي النظرية النقدية في بداياتها أما على هابرماس فهو أمر فيه قدر كبير من الابتسار وعدم الإلمام بمشروع هابرماس. وحصر خلاف هابرماس مع الماركسية فقط في التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية ـ كما يحاول أن يفعل السر بابو ـ أمر فيه تجني على هابرماس وعدم معرفة بائنة بمشروعه. مشكلة هابرماس الرئيسة مع الماركسية هي نظرية معرفتها. والطريقة التي عالج بها هابرماس هذه المشكلة لا تبقيه أبداً في حدود النظرية الماركسية. يمكننا أن نقول عن النظرية النقدية كما كانت مع هوركهايمر وأدورنو وماركيوز أنها ماركسية جديدة أو ماركسية متأخرة أما هابرماس فلا أظن؛ وهو ظن أقرب إلى الجزم لولا حذر الإطلاق والدوغمائية. ولذلك فإن السذاجة التي وصف بها السر بابو من يرى في انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي سبباً لتجاوز الماركسية تكاد ترتد إليه من فرط بساطة هذه العبارة ودغمائيتها وإطلاقيتها؛ فماذا كان ينتظر السر بابو أن يحدث لنرى فيه سبباً لتجاوز الماركسية، القيامة مثلاً، ألا يكفي انهيار النظام في أكثر من ثلث العالم لكي يكون سبباً في تجاوز الماركسية. لا أظن أن من يطلق هذه العبارة سيكون لديه في يوم من الأيام سبباً لتجاوز الماركسية حتى لو قامت القيامة. إنه إيمان دوغمائي بالماركسية. ألا يشير انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي إلى خللٍ ما في النظرية؛ خاصةً أنه في النظرية الماركسية لا يمكن الفصل بين النظرية والتطبيق لأن الماركسية تدعي أن نظرية معرفتها أساسها التطبيق وهو أيضاً معيار صحتها، أي أنها تبدأ من الواقع وتنتهي إليه؛ ولذلك لا يمكن أن تنتهي الماركسية إلى القول بأن فشل تجربتها إنما هو فشل في التطبيق لا فشل في النظرية.
    أما محاولة تفسير إخفاق الماركسية بـ”الجمود” فهي محاولة بائسة أيضاً، فمفهوم “الجمود” كأداة نظرية نقدية ليس مفهوماً نقدياً ماركسياً مستحدثاً يعالج أزمة مستحدثة فيها وإنما هو مفهوم نقدي له تاريخ في الماركسية وتم تقعيده نظرياً داخلها في نقد التجربة الستالينية؛ فما الذي يسمح بتكرار هذه الظاهرة في الماركسية إن لم يكن خللاً في النظرية نفسها يجعلها هي نفسها تتصف بالجمود وتكرره. إن “الجمود” ليس أحوال تعتري الماركسية في ظروف بعينها، إنما هو جزء من بناءها النظري ليس فقط كأداة نظرية نقدية وإنما أيضاً كحال ووقائع تقعدها عن الانفتاح والتجدّد ولا توفر لها مخرجاً غير تجاوزها.

    * في ظن ـ أقرب إلى الجزم أيضاً ـ أرى أن الإرتباط بالمشروع السياسي للماركسية، الحزب الشيوعي مثلاً، كثيراً ما يشكل دافعاً لمثل هذه الحجج الساذجة؟

    - "جمود" الماركسية لا يمكن تفسيره إلاّ بآحادية نظرية معرفتها وادعاءاتها العلموية بالتطابق مع الواقع. وهو ما يجمعها ـ ويا لدهشة الماركسيين ـ مع غريمتها الوضعية المنطقية فتتنازعان العلموية وتبوءان معاً بالدوغمائية. “جمود” الماركسية في علمويتها الدوغمائية؛ ولن تفلت منه مهما استعنا ـ كما فعل الأستاذ محمد إبراهيم نقد ـ بنصوص ماركس وإنجلز التي تلعن هذا الجمود وتجعل من الانفتاح والتجدد طابعاً لعلمية الماركسية، بحيث تصبح الماركسية شأنها شأن أية نظرية علمية يصححها الواقع وتجاربه باستمرار. وما دروا أن هذه النصوص نفسها أقوى دليل على دوغمائية الماركسية وعلمويتها إذ أنها تقدم تصور للنظريات العلمية تجاوزه فلاسفة العلم منذ توماس كوهن وفيرابند ولاكاتوش، فلم تعد الحقائق العلمية وقائع تنتظر الاكتشاف وإنما وقائع يبنيها العلماء بناءً يتدخل فيه سياقهم التاريخي بكل ما فيه من خبرات وتجارب ومعارف؛ وإن كان يزعم لنفسه تطابقاً مع الواقع فإن أدلة هذا التطابق وبراهينه وحججه إنما يقدمها هؤلاء العلماء أنفسهم وفقاً لأطرهم النظرية السائدة ولا يقدمها الواقع الخالص، الواقع غير الملوث بالبشر إذ لا وجود لهذا الواقع إلاّ في الميتافيزيقيا.
    إن اكتشاف نظرية علمية جديدة لا يعني اكتشاف وقائع جديدة فوقائع الكون موجودة هناك منذ الأزل ولكن ما يتغير هو مرجعيتنا النظرية ومفاهيمها والإجراءات التي تترتب عليهما. إن الذي يتغير هو العالم كما هو ملتبس وملوث بنا أو إن ما يتغير هو نحن الملتبسين بالعالم وملوثين به. ولذلك لم يعد العالم مجرد حقل تجارب علمية تخضع للتحليل وإنما أيضاً نصوص تخضع للتأويل والشرح والتفسير. وبذلك صار العلم، الذي ارتجى فيه التنوير أن يكون كل المعرفة الإنسانية وحلاً لجميع مشكلاتها، أي العلموية، إلى حتفه؛ وبقي العلم كأحد مجالات المعرفة الإنسانية وليس قولها الفصل. وإذا كان الماركسيون السودانيون يريدون أن يستندوا إلى ما يسمونه التفكير العلمي والعلم في تجاوز ما طرأ على الماركسية من جمود وإخفاق، فإن فهمنا للعلم قد تغير ولذلك نحتاج لتبيان ما يقصدونه بلفظ “العلم” أو “العلمية”، أما إذا استمروا في استخدام الكلمة كما تم التعارف عليها ابتداءً من مشروع التنوير إلى منتصف القرن الماضي فإن هذا هو عينه “الجمود”.

    * ولكن، ألا تستطيع الماركسية تجديد نفسها بتجديدها لمفهومها للعلم؟

    - مأزق الماركسيين السودانيين هو أن تبني أي مفهوم جديد للعلم لا يعني سوى تخطي نظرية المعرفة الماركسية وبالتالي تخطي النظرية الماركسية نفسها. إن تخطي الماركسية ضرورة نظرية من أية جهة أتيتها، سواء من جهة مشروعها الإنساني أو مشروعها السياسي أو مشروعها الاجتماعي الاقتصادي أو مشروعها الفلسفي والنظري أو مشروعها كعلم. وإذا كان لا بدّ مما ليس منه بد، فإن مآل الماركسية المنطقي هو النظرية النقدية. لأن تخطي أحادية الماركسية إلى أبعاد النظرية النقدية المتعددة يعني أن تصير الماركسية بُعداً من أبعاد النظرية النقدية. ومن هذه الزاوية فإن الماركسية نظرية نقدية تم تجاوزها وليست النظرية النقدية حصراً، شأنها في ذلك شأن النظرية النقدية عند هوركهايمر وأدورنو وماركيوز، بينما لا يمكن وصف النظرية النقدية بأنها ماركسية. وهذا أفضل تلخيص للخطوط العامة للعلاقة بينهما. وفي حدود هذه الخطوط العريضة للعلاقة بين النظرية النقدية والماركسية فإن ما يبقى من الماركسية في النظرية النقدية في نسختها الأخيرة عند هابرماس هو جانبها النقدي أو ما يعرف بنقد الآيدولوجيا.

    * هل من تبيان أكثر لهذا الأمر؟

    - لتوضيح هذا الأمر عند هابرماس لا بد من تبيان، غاية في العمومية، لنظرية التحرر عنده. مشروع التحرر عند هابرماس ذو شقين: يتكون أحدهما في العلاقة بالطبيعة وثانيهما في العلاقة بين البشر والشقين لن يتحقق فيهما التحرر إلاّ بالتفكير النقدي. هذا الإطار العام هو ما يقوم عليه كتاب “المعرفة والمصالح الإنسانية” أحد أهم كتب هابرماس الذي تقوم فيه المعرفة على صنفين من الأفعال: الفعل الأداتي الذي يقوم في العلاقة بالطبيعة والفعل التواصلي الذي يقوم في العلاقة بين البشر، أي الفعل والتفاعل، إلاّ أن هذه المعرفة تحتاج إلى نوع ثالث من المعارف لكي تؤدي غرضها في التحرر ألا وهي التفكير النقدي. هذه المعارف الثلاثة يمكن إجمال عقلانياتها في: العقلانية الأداتية والعقلانية التواصلية والعقلانية النقدية.
    وإذا كان هدف العقلانية الأداتية في العلاقة مع الطبيعة هو الوصول إلى الأتمتة الكاملة بحيث يتحرر الإنسان بالكامل من الطبيعة فإن هدف العقلانية التواصلية في العلاقة بين البشر هو الوصول إلى تفاعل يقوم على الفهم والتفاهم الكامل والشفافية التامة بحيث تتحقق العدالة والمساواة والحرية بما يشبه مستوى الأتمتة التامة في الطبيعة (وهذا فقط لتقريب الصورة وليس لأن العلوم الطبيعية نموذج لما يجب أن يكون عليه الحال بالنسبة للعلاقة بين البشر). هذا التحرر تعيقه عوائق ابستمولوجية بالنسبة للعلاقة مع الطبيعة ولذلك فهو في حاجة باستمرار إلى التفكير النقدي.
    أما في مجال العلاقة بين البشر فإن ما يعيق التحرر هو مصالح لا تنتسب إلى النوع الإنساني ككل وإنما إلى مجموعة منه، إلى طبقة اجتماعية أو قوى اجتماعية بعينها، وهي عوائق تسد الفراغات والفجوات ـ على حد تعبير هابرماس ـ التي توجد في الفعل التواصلي؛ أي أن الخلل في الفعل التواصلي تتولد عنه فجوات تسدها قوى اجتماعية بعينها بما يخدم مصالحها لا مصالح النوع الإنساني، ولأن هذه الفجوات جزء من الفعل التواصلي فإن ما يسدها يجب أن يتمثل ما يقوم به الفعل التواصلي فيدعي العدالة والمساواة والحرية والشفافية رغم أنه نقيض شروط التواصل هذه لأنه يخدم قوى اجتماعية بعينها. وهذا يعني أن ما يسد هذه الفجوات هو الايدولوجيا عينها كما عرفتها الماركسية؛ وهذا يعني أن إزالة العقبات الأيديولوجية لكي يتم التواصل ضرورة تستدعي الحاجة إلى التفكير النقدي، أو ما يمكن تسميته بنقد الآيدولوجيا.
    وهذا هو ما بقي من الماركسية في النظرية النقدية كما انتهت عند هابرماس. ولمن ينظر في الأمور على نحوها الدقيق والعميق فإن هذا القدر من الماركسية الموجود في النظرية النقدية قدر كبير ولا يستهان به ولكنه أيضاً قدر لا يسمح بالقول بأن النظرية النقدية مجرد ماركسية جديدة. إنه تخطي جدلي للماركسية ـ كما قلنا من قبل ـ يحفظها بتجاوزها أو هو نفي النفي كما نعرفه في الجدل الهيجلي أو الماركسي. والدليل الحيوي على صحة هذا الاستنتاج هو أن الماركسية كانت قد أعلنت موت الفلسفة واعتبرته عائقاً ايدولوجياً في سبيل التحرر تستخدمه البرجوازية باقتدار (وهي أحد الاتهامات التي طالت هابرماس في الستينات باعتبار أنه ما يزال يمارس صراعاً فلسفياً بدلاً من أن يمارسه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً). وهي قراءة خاطئة تماماً لمقولة ماركس في كون الفلاسفة اعتادوا تفسير العالم وأنه قد حان أوان تغييره. المهم أنه بينما أعلنت الماركسية موت الفلسفة (حتى وإن تعددت نسخ هذا الموت أو فهمه) فإن النظرية النقدية عند هابرماس تعتبر الفلسفة هي علم التفكير النقدي وبذلك ترد لها اعتبارها لا كأحد العلوم وإنما كأهمها. فهي أحد ثلاثة معارف إنسانية؛ فبينما كل العلوم تنقسم بين العلوم ذات الصلة بالطبيعة والعلوم ذات الصلة بالإنسان وتفاعلاته فإن الفلسفة تقوم على رأس العلوم النقدية. وهو من أهم الانتقادات التي وجهها هابرماس إلى ماركس باعتبار أن الأخير قد خلط بين العلوم النقدية والعلوم الطبيعية. هكذا تصبح مهمة الفلسفة “تحرير وعي ذاتي للنوع يرتفع إلى مستوى النقد من العماء الأيدولجي” (وفق ما أستحضر من لغة هابرماس) ولذلك دعني أقول لمن يعيشون في أحلام موت الفلسفة: “لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل فلسفة تموت فلسفة جديدة”. وأنا أعني بدقة عدم الحلم بعالم سعيد؛ فالعبارة ليست مجرد مجاراة لشعر أمل دنقل وإنما هي عبارة أقصدها تماماً، لأن الفلسفة وعي شقي ـ على حد تعبير هيجل ـ ولكنه ضروري لمشروع التحرر الإنساني.
                  

06-10-2013, 02:19 AM

احمد محمد الحاج

تاريخ التسجيل: 10-29-2009
مجموع المشاركات: 72

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ندوة فكـرية كبري andquot;الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديد (Re: احمد محمد الحاج)

    • نلاحظ اتفاق دائم مع هابرماس، دون أن تصدر عنك في أعمالك أي تحفظات نقدية، أتجد الأمر مطمئناً؟

    هذا سؤال هام جداً لم يطرحه عليّ أحد من قبل وظللت أتوقعه لأن ما يصدر عني لا ينسجم مع فكرة أن أكون متطابقاً تطابقاً تاماً مع أحد، حتى ولو كان هابرماس. ولذلك فإن هذا السؤال يمنحني فرصة مناسبة وجيدة ومواتية لتوضيح بعض القضايا والتي ما كان من الممكن توضيحها، إذ يتطلب ذلك القيام بأمور لا نحبذ القيام بها عادةً إذا لم يُطلب منا ذلك. فلا أحد يتحدث عن الكيفية التي يفكر بها ومنطقها ومشاريعه النظرية دون أن يطلب منه أحدٌ ما ذلك ـ أو على الأقل هكذا الأمر بالنسبة لي؛ فذلك قد يثير شبهات كثيرة ـ فيما أعتقد ـ حول مقدار الأهمية الأكثر من اللازم التي تنسبها لنفسك؛ وإن كنت أشعر باستمرار بأهمية أن أوضح لأصدقائي ولزملائي ولقرائي ولخصومي ـ على وجه الخصوص ـ إن ما أقوم به لا يكرر ولا يجتر هابرماس. فلا أحد يستطيع أن يكون نسخة من شخص آخر حتى لو أراد.
    وما أقوم به هو أنني أعمل وأشتغل على هابرماس كما أشتغل على القضايا التي أخوض فيها. وهابرماس الموجود فيما أقوم به هو هابرماس مختلف عن أي هابرماس آخر، بما في ذلك هابرماس كما يرى نفسه أو هو بالذات مختلف عن الأخير. وأعتقد أن لي كامل الحق في استدعاء هابرماس بالطريقة التي أريد وكيفما أشاء، فقط بدون كسر رقبته؛ أي بدون أن أقوّله ما لم يقل، وبدون أن أنسب لمشروعه ما لا ينتمي له أو ما هو نقيضه تماماً؛ مع الاحتفاظ بحقي كاملاً، أيضاً، في نقده وتجاوزه واستنتاج قضايا نظرية من عمله يمكن أن لا تنسجم مع ما أراده أو خطط له؛ إن من حقي أن أقرأ هابرماس قراءتي الخاصة فقط دون افتئات، ودون تجني. وهذا هو ما يعلمنا له هابرماس نفسه، فهو يقوم بقراءات دقيقة وحصيفة ومدهشة لفرط ذكائها لأعمال الآخرين؛ وأعماله النظرية تقوم في جلها على هذا الجهد. وقد اشتكى هابرماس مرة من كونه في قراءته لماكس فيبر في كتابه "نظرية الفعل التواصلي" لم يميز بشكل واضح بين هذه القراءة وبين ما يقوله ماكس فيبر فعلاً؛ مما يجعل القارئ يخلط بين ما هو قول فيبر وما هو استنتاجات هابرماس.
    هذا كلام عام أحتاج إلى توضيحه وتفصيله حتى لا يظل كلاماً عاماً يمكن أن يقوله أي شخص دون أن يعني شيئاً في حقيقة الأمر، أي كلاماً ساكتاً تبقى معه الأمور كما هي. فيبقى ما أقوم به هو مجرد اجترار لهابرماس عند الآخرين، وفي حالة صدق ذلك فسيكون اجتراراً مشوهاً وعملاً نظرياً قبيحاً وتقليداً أعمى لا ينفع وإنما يضر، ولا يستحق أن يكون إلاّ في أسفل سافلين. ولذلك دعني أقوم بوصف هابرماسي الخاص، وهو ابتداءً مختلف عن هابرماس كما يرى نفسه. فهابرماس قال عن نفسه حين زار مصر ـ والعهدة على المفكر حسن حنفي الذي ذكر ذلك في إحدى مؤتمرات الجمعية الفلسفية المصرية ـ أنه لم يعد جزءاً من مدرسة فرانكفورت؛ وهو قول أجد نفسي مختلفاً معه تمام الاختلاف.
    صحيح أن مدرسة فرانكفورت لم تعد على ما هي عليه مع هابرماس واختلفت اختلافاً كبيراً وجذرياً عما كانت عليه من قبل؛ بل يمكن الذهاب إلى القول بأن مدرسة فرانكفورت قد تخطت في انعطافتها اللغوية مع هابرماس أسسها الابستمولوجية (المعرفية)، ومع ذلك تظل النظرية النقدية عند هابرماس باقية ضمن الإطار العام لمدرسة فرانكفورت. وأية مدرسة تستحق أسمها من إطارها العام والإجرائي لا من تفاصيل مواقف فلاسفتها النظرية. وضمن ذلك، فإن النظرية النقدية عند هابرماس هي إكمال المشروع النظري لمدرسة فرانكفورت. فرواد مدرسة فرانكفورت قد فشلوا ـ كما رأينا ـ في إنجاز مشروعهم النظري القائم على فتح الماركسية على أبعاد متعددة بينما حققه هابرماس. صحيح، أن تحقيق هذا المشروع النظري قد أحدث تحولاً جذرياً في النظرية النقدية وتجاوزاً نظرياً للماركسية ولكنه مع ذلك يظل مشروعاً لمدرسة فرانكفورت ويتوفر لها كامل الحقوق في ملكيته؛ فهي التي اقترحته وبدأت تنفيذه إلاّ أنها انصرفت عنه لتنشغل بمهمة نقد العقل الأداتي، وهي مهمة ضرورية جداً لعمل هابرماس النظري بل يمكن اعتبارها مقدمة ضرورية لازمة لهذا العمل بحيث يصعب تصوره بدونها.
    كما أن عمل هابرماس النظري يتبنى تقاليد مدرسة فرانكفورت في، مثلاً، نقد الوضعية، كما فعل تماماً هوركهايمر وأدورنو وماركيوز. صحيح أن نقد هابرماس كان على أسس معرفية جديدة ولكنه على أي حال استمرار لهذا التقليد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تأثير كانط ولوكاتش وفرويد على مدرسة فرانكفورت فهو ذات التأثير على هابرماس وإن اختلفت جوانب التأثير. وكذا الأمر مع وجهة النظر التي ترى أن لكلٍّ من العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية منهج قائم بذاته وعقلانية مميزة؛ وهو ما دافع عنه هابرماس وأستاذه أدورنو في مناظرتهما الشهيرة مع كارل بوبر في بداية الستينات من القرن الماضي. هذه القضايا تكاد تمثل القضايا النظرية الأساسية في مدرسة فرانكفورت ولذلك نستطيع باطمئنان أن نقول إن هابرماس جزءاً من مدرسة فرانكفورت وتقاليدها دون التقليل من الاختلاف الكبير بينهما.
    إلى الآن والأمر لا يمثل اختلافاً كبيراً مع هابرماس ولا يعدو أن يكون مجرد تقديرات مختلفة لذات الأمور. ولذلك دعنا الآن نبدأ في الإشارة إلى الأمور المهمة والقضايا التي أعتبر أنني أمارس فيها اختلافاً حقيقياً مع هابرماس، وأزعم لنفسي تجاوزاً نقدياً له في بعضها. يمكنني أن ألخص بشكل عام رؤيتي للنظرية النقدية في محاولتي دمج أدورنو وهابرماس؛ أي تركيبهما فلسفياً معاً. بمعنى أن هذا الدمج ليس عملية تلفيق عناصر من هنا وهناك وإنما تركيب رؤية فلسفية ومنهج من كليهما؛ وهو أمر قامت به كل رؤية فلسفية ومنهج لعبت دوراً هاماً في التاريخ الإنساني. وهو ما يجعلني أميز بين التلفيق والتركيب. التلفيق تنتج عنه التناقضات، بينما التركيب تنتج عنه رؤية فلسفية متماسكة ومنهجاً متسقاً يشكل أداة نظرية قادرة على إنتاج المعرفة بعالمنا وفهمه ووضع أسس وإجراءات تغييره. هذا التركيب له نتائج نظرية على كليهما. أهمها أنه يتجاوزهما نقدياً الاثنين معاً.
    ويمثل أدورنو التفكير السلبي في هذا التركيب، تفكير اللاهوية non-identity thinking وهو التفكير النقدي المحايث لموضوعه والذي يفككه بحيث يصبح مخالفاً ما كان عليه فيدرك تناقضاته ومن ثم يتعرف على بدائله الممكنة، ولكن وما أن تستقر هذه البدائل على هوية ما ممكنة في تفكير الهوية identity thinking إلاّ وعاد التفكير السلبي مجدداً لتفكيكها لتعود الكرّة من جديد، وهكذا دواليك. هذا التفكير هو ما يعرّفه أدورنو باعتباره الميتانقد ####critique ويختصره في عبارة "لاهوية الهوية واللاهوية" والتي تعبّر بدقة عن مسار هذا التفكير كما رأيناه قبل قليل. هذا التفكير هو الذي يجعل التغيير ممكناً، فهو تفكيك مستمر لمحاولات البناء المستمرة. ولكنه لا يمكن أن يستقر على مشروع ما فهو تفكيك مستمر يستحيل أن يقوم معه بناء؛ وهو هدم دائم لا حضور فيه، إنه الديالكتيك السلبي.
    وهذا ما جعل المشتغلين بالفلسفة يدركون في وقت متأخر (في تسعينات القرن الماضي) صلة أدورنو القوية بجاك دريدا وبالتالي بتيارات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، وهو أمر يستدعي أن نعيد كتابة هذه التيارات وتاريخها ويفتحها أيضاً على إمكانات جديدة؛ إذ أن أدورنو يسبقها بزمن ليس بالهين، وهو يصل لنتائج شبيهة بنتائجها ولكن في مجرى معرفي مختلف. وهو ما يجعلني استخدم أدورنو لدمج هذه التيارات في النظرية النقدية. فهي مع أدورنو تشكل بالنسبة لي الجانب النقدي الذي يجعل مشروع التحرر الإنساني ممكناً. أما هابرماس فيمثل، في تركيبه مع أدورنو، التفكير الإيجابي، تفكير الهوية. إنه البناء المستمر في مقابل الهدم المستمر عند أدورنو. وهما عمليتان كما هو واضح تحتاجان بعضهما، بل هما شرطان لبعضهما البعض، بحيث لا يستقيم أمر إحداهما بدون الأخرى.
    وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة ذات صلة بما نناقشه قبل مواصلة الحديث وهي: إن هنالك اتفاقاً على تعريف مشروع الحداثة بأنه مشروع نقدي باعتبار أن النقد هو الخاصية الأساسية لهذا المشروع وهي الخاصية الوحيدة التي لم ينته بها الأمر إلى نقيض ما تزعم؛ بل ظلت تمارس فعاليتها دائماً هنا وهناك في أناس لا يسلمون مطلقاً بما هو قائم، فلاسفة ومفكرون وسياسيون وفنانون وعلماء، وتشكل الأساس الذي تقوم عليه محاولات إعادة بناء مشروع الحداثة أو حتى محاولات تجاوزه. وهذا يعني أن السمة الأساسية لمشروع الحداثة هي الهدم وليس البناء، بل إن البناء ظل دائماً يعاني من مشكلات ضخمة تتطلب أحياناً هدمه وإعادة هدمه.
    ولعل ذلك يفسر لنا لماذا كان مشروع أدورنو كله مشروع هدم؛ إذ أن التنوير الذي باشره أدورنو كان نقداً للنقد لم ينته إلى ما هو متوقع منه وهو أن يتجسد نفي النقد في بناءٍ ما. بسبب أن الديالكتيك السلبي لم يكن إلاّ الوجه الآخر من الديالكتيك المادي ولذلك انتهى أيضاً إلى أن يكون الوجه الآخر من الانغلاق المطلق، أي الانفتاح المطلق. والنقائض المطلقة تنتهي إلى أن تكون هي نفس الشيء، إذ ينتهي نقد النقد عند أدورنو إلى نقد مطلق، أي هدم مطلق هو الوجه الآخر للبناء المطلق، فماذا يمكن أن يهدم الهدم المطلق؟ لا شيء. ولذلك هو بناء مطلق.
    وهذا يقترح أيضاً الكيفية التي يمكن أن تتركب بها النظرية النقدية من أدورنو وهابرماس معاً. إن تفكير الهوية عند هابرماس ليس تفكيراً مطلقاً؛ فالهوية عنده ليست هوية جوهرية ثابتة، ليست جوهراً ميتافيزيقياً، بل هي ـ إن أردنا الدقة ـ لا تعكس أي مضمون سواء كان ثابتاً أو متغيراً، فهي مجرد إجراءات نتخذها بشأن الخطاب فتعمل على استقراره والوصول إلى إجماع بشأنه. ولأنه كذلك فإن تفكير الهوية عند هابرماس يصدق عليه تعريف أدورنو بأنه "هوية الهوية واللاهوية". بتركيب أدورنو وهابرماس معاً يحقق كل منهما مشروعه الفلسفي في الآخر، وبدون وجود أحدهما في الآخر فإن مشروع كلٍّ منهما الفلسفي سيمضي إلى ما لا يريد، إلى المطلق، فيغيب المشروعان فيما قاما، أصلاً، لنقده وتجاوزه. بدون هابرماس يمضي أدورنو بعيداً في اللاهوية بحيث لا نراه؛ وبدون أدورنو يعود هابرماس قريباً في الهوية بحيث لا نرى غيره. بدون هابرماس لا نمسك مع أدورنو شيئاً وبدون أدورنو نمسك مع هابرماس شيئاً لا نستطيع أن نمسك بغيره. وبهما معاً نحقق مشروعنا الدائم في التغيير، ثورتنا المستمرة ونمضي في مشروع تحررنا الإنساني. هما ضروريان معاً للهدم والبناء ثم للعودة مجدداً، وهكذا يمضي التحرر الإنساني في حركة تجاوز؛ لا في حركة تكرار.
    هابرماس حدّد منهجاً التفكير النقدي في التأمل الذاتي self-reflection كما وضع أسسه فرويد، وأصبح التحليل النفسي نموذجاً للعلوم النقدية؛ وبالتالي صارت طرق التحليل النفسي في الكشف عن تناقضات التاريخ الشخصي ومن ثم إكمال هذا التاريخ بسد فجواته نموذجاً لما يجب أن يكون عليه نقد الايدولوجيا، ونموذجاً لما يعنيه هذا النقد بالضبط. وكما هو واضح فإن هذا النموذج يطرح مساراً واحداً للتاريخ تكتمل فيه صيرورة التحرر بسد فجواته. ويتم ذلك بأن نكشف التاريخ بحيث يصبح شفافاً لتنفضح تشوهاته وعلله والوعي الزائف الذي كان يغطيها.
    وإذا استبدلنا التاريخ الشخصي بتاريخ النوع الإنساني فإننا نحصل على نظرية التحرر عند هابرماس. إن توفير التحليل النفسي كنموذج للتفكير النقدي حال دون الذهاب إلى تقعيده نظرياً، أي دون أن نفكر فلسفياً في التفكير النقدي. وهو ما ساق هابرماس إلى مفارقة طرائق تفكيره الفلسفية ومناهجها فأعطى التفكير النقدي مضموناً بدلاً من أن يكون مجرد إجراءات. وأصبحت نظرية التحرر عند هابرماس تعتمد مبدأ نظرياً مؤداه أن للتاريخ مساراً واحداً لا يمكن أن نعيد بناءه وإنما علينا فقط أن نسد فجواته بالكشف عن علله وفضحها؛ أو هي على نحو دقيق إعادة بناء جزئية لهذا التاريخ، مما يؤدي إلى افتراض هوية ميتافيزيقية لهذا التاريخ، ثابتة، لا تتغير، مما يجعل الفرار من كونها حكاية كبرى أمراً مستحيلاً. بينما لو ذهب هابرماس إلى محاولة تقعيد التفكير النقدي فلسفياً لما وجد غير أدورنو تقعيداً فلسفياً لهذا التفكير، لا يؤدي به إلى أن ينتهي إلى ما ليس هو؛ بمعنى أن يصير تفكيراً إقرارياً، وهو ما تنتهي إليه أية محاولة تعريف.
    الميتانقد عند أدورنو لا يتورط في أية محاولة لإعطاء التفكير النقدي مضموناً ما يؤدي إلى تناقضه مع كونه تفكيراً نقدياً ويحوله إلى تفكير وصفي يقرّ بما هو قائم بدلاً من أن يكون تفكيراً بديلاً. الميتانقد في تحديده للتفكير النقدي لا يخرج من كونه تحديداً لإجراءات هذا التفكير، أي لمنهجه، دون الارتباط بموضوعٍ ما. بينما نموذج هابرماس للتفكير النقدي مرتبط بموضوع محدد. ولأنه نموذج فهذا يعني أن هنالك اختلافاً بينه وبين ما هو نموذج له؛ وهو اختلاف لا يمكن الكشف عنه إلاّ بالتفكير فلسفياً في التفكير النقدي. فالتفكير الفلسفي أعلى تجريد ولذلك فهو يسمح بممارسة التفكير بدون الارتباط بموضوعات بعينها، إذا طُلب منه ذلك.
    إن عدم ذهاب هابرماس إلى التفكير الفلسفي في النقد جعله يفارق انجازه الأساسي في القدرة على الانفتاح على التعدد، وهي القدرة التي تقوم عند هابرماس في النظر إلى إجراءات الخطاب لا محتوياته، بحيث يمكن أن تتعدد الأخيرة. إن ما يوفره أدورنو لهابرماس هو الميتانقد كمنهج في التفكير النقدي يمكن أن نجد نموذجاً له في التحليل النفسي عند فرويد. إن تحديد هابرماس للنقد باعتباره مهمة الفلسفة الأساسية ودورها الرئيس لا يجد استجابته في فلسفة هابرماس وإنما يجدها في ميتانقد أدورنو وديالكتيكه السلبي. ولذلك يمكن أن ألخص استنتاجي، والذي اعتبره تحفظاً نقدياً هاماً على هابرماس، في كون أن الميتانقد هو المنهج النقدي للنظرية النقدية وليس التأمل الذاتي.
    أما تأثير تركيب أدورنو وهابرماس معاً على أدورنو فنستطيع أن نقول أنه يُخرج أدورنو من نظرية المعرفة الماركسية التي فشل أدورنو في الخروج منها بسبب تسليمه ببداهة أولوية الموضوع، أي ببداهة المادية. وهو تسليم أخرج أدورنو من ديالكتيكه السلبي وحبسه في المغلقات النهائية للديالكتيك المادي والتي صادرت سابقاً من الديالكتيك الماركسي جدله فلم يعد ديالكتيكاً. لقد علّق أدورنو ميتانقده حين سلّم ببداهة أولوية الموضوع وحرم مشروعه من أهم لحظاته الفلسفية، لحظة خروجه النهائي على الماركسية وجني ثمار ديالكتيكه السلبي في التعدد والانفتاح؛ وهو أمر كان ممكناً لو أعمل أدورنو ميتانقده في بداهة أولوية الموضوع إذ كان سينفتح الطريق لإمكان التفكير في أن بداهة أولوية الموضوع ليست سوى زعم يتواجد في التذات، أي في خطاب قائم بين الذوات ويستند على حججه؛ ولكنه آثر الانحباس في مفاهيم نظرية المعرفة الماركسية فقعد في آخر حدودها دون أن يتجاوزها، صائراً ماركسية متأخرة. وتركيب أدورنو وهابرماس معاً جعل أيضاً مشروع أدورنو مشروعاً للتحرر لا بالمعنى الفلسفي كانفكاك من كل قيود تفكير الهوية وسيطرته وإنما أيضاً كتحرر له معنى اجتماعي وسياسي بسبب تأسيسه على الخطاب وفلسفة التواصل.
    وأحد أهم استنتاجاتي التي تشكل تحفظاً نقدياً، أيضاً، على هابرماس هو أن نقد فلسفة الذات عند هابرماس يتطابق مع نقد فلسفة الهوية عند أدورنو. وإذا تمعنت في أسسهما النظرية والفلسفية فستجد أننا يمكن أن نستخدم أياً منهما بديلاً للآخر دون أن يخل ذلك بالمعنى سوى أن كل واحد منهما معني بمستوى مختلف من التحليل. نقد فلسفة الذات عند هابرماس هو نقد للفلسفة فيما قبل المنعطف اللغوي، أي قبل تحولها للعلاقة ما بين الذوات intersubjectivity . وهو نقد لهذه الفلسفة يقوم على اعتبار أنها تتأسس على نموذج علاقة الذات الديكارتية بالموضوع، وهي ذات عارفة وتفعل غائياً بهذه المعرفة في الموضوعات؛ أي تسيطر عليها. ولذلك فإن العلاقة التي يطرحها نموذج علاقة الذات بالموضوع هي علاقة السيطرة. وهو ما يضع الأساس الفلسفي والنظري لتفسير كل الكوارث والنكبات التي لحقت بالإنسانية في القرن العشرين بعد ما أملت في التطور العلمي كحل نهائي لكل مشكلاتها وسبيل وحيد لتحررها، وبدلاً عن ذلك عانت من الاستعمار والامبريالية وخاضت حربين عالميتين وانتهت إلى كارثة استخدام القنابل الذرية وتحول مشاريع تحررها إلى مشاريع للسيطرة، كما قلنا من قبل.
    أما نقد فلسفة الهوية عند أدورنو فهو يجري في مستوى فلسفي أعمق. فالهوية شرط لازم وضروري لقيام نموذج علاقة الذات بالموضوع. إذ لا يمكن أن تنشأ هذه العلاقة إلاّ إذا كانت الذات والموضوع تعبر كل منهما عن هوية قائمة بذاتها، عن ماهية أو جوهر ميتافيزيقي ثابت لا يعتريه التغيير ولا التحول، بحيث لا يشكل الآخر جزءاً من هذه الهوية، فتبقى الحدود بينهما محددة ومتعينة وواضحة؛ فيسهل على الذات اعتبار كل ما عداها موضوعاً يخضع لمعرفتها وسيطرتها بما في ذلك الإنسان الآخر. ولذلك طبعت السيطرة بطابعها علاقة الإنسان بالإنسان وكذلك علاقته بالطبيعة.
    إن نقد فلسفة الهوية هو نقد لهذا الحضور الميتافيزيقي وتجاوز له بحيث تصبح الهوية ملتحقة بآخرها وآخر آخرها... وهكذا، فتكون دائماً مفتوحة ومزاحة ومؤجلة. وتصير الهوية هي الاختلاف. إن كلا النقدين، نقد فلسفة الذات ونقد فلسفة الهوية، ينزعان إلى هدم أسس السيطرة الفلسفية ولكنهما يقومان بذلك في مستويين مختلفين. في مستوى قريب من عالم الحياة كما يفعل هابرماس، وفي مستوى تجريدي عالٍ كما يفعل أدورنو. وكلاهما يحتاج إلى الآخر، تماماً كما في العلاقة السابقة، نقد فلسفة الذات يحتاج إلى نقد فلسفة الهوية لكي ينفك من الارتباط بموضوع محدد وبالتالي ينفك من الأحادية إلى التعددية. بينما نقد الهوية يحتاج إلى نقد الذات لينفك من اللانهائية فيتعين وبالتالي ينفك أيضاً من الأحادية إلى التعددية.
                  

06-10-2013, 02:27 AM

احمد محمد الحاج

تاريخ التسجيل: 10-29-2009
مجموع المشاركات: 72

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ندوة فكـرية كبري andquot;الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديد (Re: احمد محمد الحاج)

    إن أدورنو رغم كونه مفكراً مادياً إلاّ أنه يتعامل بطريقة مختلفة مع موضوعية العمل الفني. فرغم أن الإدعاء بأن للعمل الفني ماهية مستقلة عن العناصر التجريبية المكونة له إدعاء وهمي ـ وفقاً للفكر المادي ـ فإن أدورنو يرى أنه ليس وهماً محضاً، لأنه ينتج من حقيقة أن هذه العناصر التجريبية إنما تُصب في شكل ذي معنى. هذا الشكل لا يمكن رده إلى ذاتٍ ما، ومع ذلك فإن موضوعيته تختلف عن تلك الموضوعية التي للأشياء إنها تشبه موضوعية المعنى اللغوي، وتكون له خصائصه: المعنى الفائض عن نوايا الذات والاعتماد على الشكل. وهو ما يسميه أدورنو بخاصية اللغة أو خاصية العمل الفني كنص. إن ما يجعل الأعمال الفنية أكثر من مجرد وجود هو بدوره ليس شيئاً موجوداً إنما هو لغتها. إن أدورنو يتخذ من اللغة نموذجاً لامكانية قيام علاقة غير قسرية بين المفهوم والموضوع. ومع هذا فإن هذا الامكان هو أيضاً وهم، ففي عالم منظم قسرياً يكون الحديث عن مجال للغة كلياً غير قسري وهماً خطيراً يعمل فقط على إخفاء القسر الحقيقي. هذا التحرر الوهمي من السيطرة في الفن لا يحاول أدورنو تفكيكيه وإنما، على العكس، يحاول إنقاذه، فمثلاً الشعر الحقيقي يكون سيطرة للغة في خدمة التحرر، وليس منطقة للحرية المتحققة فعلاً من هذه السيطرة. بل نستطيع القول أن المجال الرئيسي الذي استطاع فيه أدورنو تحقيق الديالكتيك السلبي ونقد تفكير الهوية هو مجال الفنون. ولذلك تكتسب نظريته الاستاطيقية أهمية بالغة بالنسبة للديالكتيك السلبي، ويصير لها مضموناً معرفياً يميزها عن غيرها.
    هذا العنصر التلقائي الحر، الذي تعبّر عنه الفنون على هذا النحو، ليس هو الحرية وقد تحققت في العمل الفني، لأن الفنون شأنها شأن أي نشاط إنساني آخر ما زالت ترزح تحت لعنة مبدأ حفظ الذات؛ وإنما هو تعبير عن اقتراب الفنون الحميم من الحرية الممكنة في المستقبل. وهذا يعني أن محاكاة الفنون إنما تكون لطبيعة لم توجد بعد. أي أن الفن الأصيل محاكاة ليوتوبيا، ولكنها محاكاة لا يمكن انجازها إلاّ سلبياً. فالطبيعة التي لا توجد لا يمكن محاكاتها إلاّ بنفي محدد للثقافة التي تم تطبيعها على نحو زائف يفصل بينها والطبيعة، وهي الثقافة السائدة في المجتمعات الحديثة. إن الكشف عن الجمال لا يتم إلاّ بتصالح الثقافة والطبيعة، فمحاكاة اليوتوبيا لا تتم إلاّ في الثقافة وإن كانت محاكاة للطبيعة. لقد استسلم عنصر المحاكاة تماماً للفنون، والتي اعتبرها فكر الهوية لا عقلانية وتفتقد تماماً لأي محتوى معرفي؛ بينما الفكر السلبي عند أدورنو يعتبر الفنون نوع من العقلانية، ولكنها عقلانية تنتقد العقلانية دون أن تنسحب منها. وكما أن التفكير الحقيقي ـ عند أدورنو ـ يُبقي عنصر المحاكاة المقموع حياً في المعرفة، كذلك يُبقي الفن الحقيقي عنصر المعرفة المقموع حياً في المحاكاة.
    إن التجربة الجمالية ـ لدى أدورنو ـ تعبّر عن الديالكتيك السلبي، بل هي التجربة الأكثر جوهرية في التعبير عن هذا الديالكتيك. ومن هنا تكتسب قيمتها المعرفية، فهي التجربة الجوهرية لنقد تفكير الهوية identity thinking أو بالأحرى هي تجربة اللاهوية الأصيلة. هنالك، بالطبع، شكل من أشكال الهوية يعمل في التجربة الجمالية، كما هو الحال في أية تجربة، فكل عمل فني يسعى تلقائياً للتطابق مع ذاته. ولكن هذه الهوية الجمالية تختلف عن هوية التفكير المفاهيمي، فهي لا يتم استخلاصها من الذات وإنما من العمل الفني نفسه كواقعة مكتفية بذاتها. ولذلك فهي ليست محكومة بمنطق تماثل الهوية وإنما بمنطق المحاكاة. ومن خلال المحاكاة تصبح الأعمال الفنية موضعاً ممكناً لتجربة اللاهوية. ويعرّف أدورنو المحاكاة كترابط غير مفاهيمي بين الإبداع الذاتي والآخر الموضوعي. هذه الخاصية غير المفاهيمية هي الحاسمة في دور الفنون كمتحدث عن الطبيعة المقموعة (اللاهوية). وهي تلعب هذا الدور بالتعبير عن تلك الوحدة المادية بين الذاتية والطبيعة (الموضوعية) التي ينكرها التعارض الصلد بين الذات والموضوع في التفكير المفاهيمي. والفنون، بهذا المعنى، هي ممارسة ما بعد الصورة. ولأنها كذلك، فهي تنقل الحقيقة التي تطمح إليها الفلسفة ولا تستطيع الوصول إليها مطلقاً، فهي وحدها القادرة على قولها بدون أن تقولها. وهذا يعني أن العمل الفني نتاج لفرض الشكل، الذي يمثل الهوية والعقلانية والبناء، كما هو نتاج للمحاكاة، التي تمثل اللاهوية والموضوعية. إن مضمون حقيقة العمل الفني تعبّر عنه الطريقة المحددة التي يندمج بها ديالكتيكياً المحاكاة والعقلانية، التقليد والبناء. إن العمل الفني يسعى لاستعادة الجنة المفقودة، لتوحيد الذات والموضوع. ويفشل هذا السعي لأن لحظتي العمل الفني: المحاكاة والعقلانية هما لحظتان غير متصالحتين، ورغم ذلك فهما مرتبطتان ديالكتيكياً ببعضهما البعض، بمعنى أن كل واحدة منهما تتحقق عبر الأخرى. ففي العمل الفني، تخترق لحظة المحاكاة ديالكتيكياً اللحظة العقلانية (بدون أن تتصالح معها) بحيث يتم التعبير عنها من خلالها، بينما، ومن خلال إختلافها عنها، تعمل كنقدٍ لها. وينتج عن ذلك عدم التصالح النهائي الذي هو لحظة أساسية في العمل الفني. وكل الأعمال الفنية العظيمة لا تنجح نجاحاً كاملاً، إنها تفشل بمعنى ما. إن الفنون لا تعيش وفقاً لمفاهيمها، وبسبب ذلك فإنها أرفع تعبير عن الديالكتيك السلبي، عن تفكير اللاهوية. إنها تجربة معرفية عميقة، ومع ذلك فهي غير قابلة للشرح والتوضيح.
    وإذا كانت بنية العقل الأداتي الأساسية هي التسلط فإن العمل الفني هو الوحيد الذي لا يخضع لهذه الهيمنة، وإذا كانت المعرفة قد اتجهت إلى السيطرة ونفي التفرد فإن العمل الفني هو الوحيد القادر على إنقاذ التفرد. إن الأستاطيقا ـ عند أدورنو ـ هي الجانب الثقافي الوحيد الذي يحرر الإنسان، لأنها تترك للأشياء وجوهها الفريدة، وهي تضع مسافة بيننا وبين الأشياء والمشاهد والكلمات، وهي تكشف عن حضور كيفي للأشياء، ولذلك فهي تأكيد لكل ما هو نوعي في مقابل النزعة الكلية التي تهيمن وتتسلط.
    إن الأعمال الفنية لا تجعلنا على يقين من أي شئ بما في ذلك اليوتوبيا ولكنها تفتح الإمكان لتجربة جديدة لا يقبلها تفكير الهوية. هذه الأعمال تمارس نقدها بطريقة تمكّنها من تشكيل مواد لها تاريخها المترسب. في هذه الأعمال الجديدة تمارس الفنون "حكماً بغير حكم" على الماضي. هذا الجهد يتفق مع ذلك النوع من الإدراك الذي نجده في التجربة الإستاطيقية لاستقبال الفنون. ومن ثم فإن انجذاب أدورنو إلى المحاكاة الإستاطيقية هو إنجذاب لشكل من الحكم يستطيع أن يعرف بدون مفاهيم قاصداً ما تود المفاهيم أن تقوم به. الفن يبحث عن معرفة حقيقية ولكنها محاكاة، محاكاة تحاكي التغلب على تمايز العقل إلى مجالات منعزلة من الحقيقة والصواب المعياري والجمال. إن الممارسة الفنية نموذج لشكل بديل من الممارسة. والإنجذاب إلى المحاكاة الإستاطيقية إنجذاب إلى عقل تنويري. وهذا يعني أن أدورنو ما زال ملتزماً بالتحرر كغاية للتنوير. وهذا ما يجعله متمايزاً من فلاسفة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، ويحفظه داخل تيار النظرية النقدية.
    الفنون لا تمثل نشاطاً انسانياً متحرراً من السيطرة، الموجودة بطريقة خفية في العقلانية الحديثة. فهي تصارع من أجل سيطرة متقدمة على مادتها، تماماً مثل العقلانية العلمية. ولكن وفي نفس الوقت السيطرة في الفنون ليست ببساطة نسخاً وتكراراً للسيطرة بشكل عام وإنما نقد لها أيضاً. فهي سيطرة على مادتها المتحققة تاريخياً، ولكنها سيطرة، بابتعادها عن العالم التجريبي، تحقق نقداً للسيطرة الحقيقية على الطبيعة التي تحكم ذلك العالم. ومن الواضح أن السيطرة في الفنون يحققها الأسلوب فهو الذي يقوم بصياغة البنية الفنية. والأسلوب لا يعبّر عن حرفية مهنية خالصة وإنما يعبّر أولاً عما هو معرفي ونقدي فهو يتضمن فهماً تاريخياً لمادته أكثر من كونه فهماً طبيعياً خالصاً لها.
    الإسلوب يمثل وعداً في أي عمل فني. فما يتم التعبير عنه في العمل الفني يخضع للأشكال السائدة من التعميم، للغة الموسيقى أو للرسم أو للكلمات، على أمل أن تتم مصالحته مع فكرة التعميم الحقيقي. هذا الوعد، الذي يحمله العمل الفني بخلق الحقيقة عبر إعطاء شكل جديد للأشكال الاجتماعية المألوفة، بقدر ما هو جوهري بقدر ما هو زائف. فهو يضع بطريقة غير مشروطة الأشكال الحقيقية للحياة كما هي، مقترحاً أن تحققها يكمن في مشتقاتها الجمالية. وإلى هذا الحد فإن إدعاء الفن يصبح دائماً إدعاءً أيديولوجياً أيضاً. وعلى أية حال، ففي هذه المواجهة فقط مع التقاليد، والتي يسجلها الأسلوب، يستطيع الفن التعبير عن المعاناة. إن العامل الذي يمكّن العمل الفني من تجاوز الواقع لا نستطيع فصله بالتأكيد من الأسلوب؛ ولكنه لا يتكون من الانسجام المتحقق فعلاً، ولا من أية وحدة مشكوك فيها بين الشكل والمحتوى، الداخل والخارج، الفرد والمجتمع؛ وإنما يوجد في تلك السمات التي يظهر فيها الإختلاف: في الفشل الضروري للصراع المشبوب من أجل الهوية. والأعمال الفنية العظيمة دائماً تعرّض نفسها لهذا الفشل بحيث ينجز أسلوبها دائماً نفياً ذاتياً، بينما الأعمال ال########ة دائماً ما تعتمد على التشبه بالأعمال الأخرى ـ في هوية بديلة. وأخيراً أصبح هذا التشبه مطلقاً في صناعة الثقافة. وتوقفها عن أن تكون أي شئ إلاّ الأسلوب، يكشف عن سر هذا الأسلوب: طاعة التراتب الاجتماعي. الحديث عن الثقافة يكون دائماً نقيضاً للثقافة. فالثقافة كقاسم مشترك تحتوي جنينياً على تخطيط وعملية تصنيف تجعل الثقافة ضمن مجال الإدارة. والتصنيف المتسق منطقياً والمصنّع يتطابق كلياً مع هذه الفكرة عن الثقافة. وبإخضاع كل مجالات الإبداع الثقافي لنفس الغاية وبنفس الطريقة واحتلال كل حواس الإنسان منذ وقت خروجه من العمل وحتى عودته في صباح اليوم التالي بمادة تحمل طابع العمل الذي يقوم به طوال اليوم، فإن هذا التصنيف يشبع بطريقة خادعة مفهوم الثقافة.
    إن مفهوم الأسلوب في صناعة الثقافة يتطابق من ناحية الأسم فقط مع مفهوم الأسلوب في الأعمال الفنية. في الأخيرة، يهتم الأسلوب بالتنظيم الداخلي للموضوع نفسه، أي بمنطقه الداخلي. بينما الأسلوب في صناعة الثقافة، منذ البداية يرتبط بالتوزيع وإعادة الانتاج الميكانيكية، ومن ثم فهو يظل خارجياً بالنسبة لموضوعه. وهذا يعني أنه يحمي نفسه من إمكانات الأسلوب التي تتضمنها منتجاته بالارتباط بالأيديولوجيا. إن العمل في صناعة الثقافة يعيش متطفلاً على أساليب غير فنية، هي أساليب الانتاج المادي للبضائع، وبدون اعتبار لقوانين الشكل التي يتطلبها استقلال الاستاطيقا. ولذلك فإن صناعة الثقافة تعوق تطور الأفراد المستقلين المتحررين الذين يستطيعون أن يختاروا وأن يحكموا لأنفسهم عن وعي. ولكن على أية حال فإن هذا يكوّن شرطاً قبلياً للمجتمع الديمقراطي الذي يحتاج إلى أفراد راشدين يستطيعون أن يدعموا أنفسهم وقادرين على التطور. المستهلك ليس ملكاً كما تحاول أن توهمنا صناعة الثقافة، إنه ليس ذاتاً لهذه الصناعة، بل موضوعاً. إن صناعة الثقافة تنقل العقل الأداتي، عقل السيطرة إلى مجال الفنون فهي تقوم على ظاهرة "التنميط" أو التوحيد القياسي standardization وهي عملية تفرض بها احتكارات صناعة الثقافة الأعمال الناجحة والأنماط والأمزجة على المادة التي ينبغي تشجيعها. أي أن أساليب الفنون تتحول جزء من العقل الأداتي، العقل القائم على الحساب والسيطرة على موضوعه.
    لقد اكتشف إتجاهٌ رئيسيٌ في الفلسفة، مع ليبنتز وهيجل، ادعاءً بالحقيقة في الأعمال الفنية ومؤسساتها وعواطفها، ولكن اللاعقلانية فصلت العاطفة والدين والفنون من أي شئ يستحق اسم المعرفة. وهي تقترب في ذلك كما في جوانب أخرى من الوضعية الحديثة، الأثر الأخير الباقي من التنوير، التي حددت عقلاً بارداً من أجل الحياة المباشرة، ومع ذلك فلم تجعله إلاّ مبدأً معادياً للفكر. وتحت غطاء هذا العداء تم سحب العاطفة، وأخيراً كل التعبير الإنساني، حتى الثقافة ككل، من الفكر؛ ومن ثم تحولت إلى عنصر محايد في العقل الشامل للنظام الإقتصادي، الذي هو نفسه تحول إلى اللاعقلانية منذ زمن بعيد.
    إن أدورنو يقدم عدد من الصياغات المتناقضة في محاولاته لتحديد الفنون والأعمال الفنية، فهو يقول أن ما يجعل العمل الفني يزيد عن العالم التجريبي ويتمايز عنه هو شئ غير موجود. ولذلك فإن وجود الأعمال الفنية بالنسبة إليه يشير إلى الاحتمالات التي يمكن أن يوجد فيها اللا موجود. والفن ـ عند أدورنو أيضاً ـ هو وهم التحرر من الوهم. فالعمل الفني يدعي أنه ليس مجرد شئ وإنما شيئ في ذاته، أي جوهر. هذا الإدعاء وهم لأن الجوهر يجب أن يظهر. وبدلاً من أن يفكك أدورنو مقولة الجوهر على هذا الأساس، كما فككها من قبله نيتشه والوضعيون، نجده يتمسك بأن التفكير المادي مستحيل بدون مقولة الجوهر. وهذا ما يعنيه أدورنو من قوله أن الفن هو وهم التحرر من الوهم. العمل الفني هو وهم الشئ في ذاته، وهو وهم لا يكون للوعي فقط. وهو أيضاً وهم ما بعد الذات، الوهم الذي يسميه أدورنو أيضاً بغير المتماثل. إن هذه الخاصية الوهمية للعمل الفني، والتي يسميها أدورنو أيضاً بالخاصية الصنمية fetish-character، ليست محض وهم يحتاج للتبديد، والنظر إليها على هذا النحو يحقق العملية التي يتحول بها التنوير على الضد من مقاصده إلى ميثولوجيا. ولذلك فإن أدورنو يؤكد على التمييز بين الخاصية الفنية للعمل الفني وصنمية الموضوع المعبود بالمعنى الحرفي، فبينما يمتاز الأخير بالاعتماد على السياق الاسطوري أو السحري فإن العمل الفني يمتاز بالاستقلال. فإن الكلام عن سحر الفن يتجاهل هذا الفرق الهام، وبدلاً عنه يرى أدورنو أن سحر العمل الفني هو إزالة السحر. إن الأعمال الفنية أصبحت ممكنة بفضل ديالكتيك التنوير، فهي الملجأ العقلاني للمحاكاة في عالم يقمع فيه تفكير التصنيف أي محفز للمحاكاة.
    وهذا هو السياق الذي وصف فيه أدورنو العمل الفني بأنه صنم ضد صنمية البضاعة. فالفنون، بإدعائها كرامة لا تقبل التبادل والتكافؤ، إنما تقاوم الفكرة الأساسية التي تقوم عليها البضاعة، فكرة أن عدم التكافؤ النوعي يمكن أن يصبح تكافؤاً كمياً. والفن لا ينتقد صنمية البضاعة بأن يصبح أقل منها صنمية أو أقل منها وهماً، بل على العكس بأن يصبح أكثر منها صنمية. فالفنون، بتوصيلها لما لايمكن توصيله، تعمل على تحطيم الوعي المشيّأ، أي أنها مضادة للبضاعة. ولكنها، وفي نفس الوقت، تعكس الطابع الصنمي للبضاعة فهي تبجيل لما سبق وأن انتجه الإنسان، فشهرة عمل فني ما أو نجم ما يصنعه الجمهور ويدفع ثمنه من ماله، ومن ثم يعبده ويبجله. وعلى هذا الأساس يتحدث أدورنو عن العمل الفني كبضاعة مطلقة، بضاعة البضاعة. ولذلك أيضاً لا نصل لمحتوى العمل الفني من الحقيقة بإلغاء خاصيته الوهمية وإنما بفهمها. هذه الصياغات المتناقضة تشير إلى الموقع المركزي الذي تحتله النظرية الاستاطيقية في مادية أدورنو ذات الطابع الخاص. وهي أفضل تعبير عن الديالكتيك السلبي وقدرته على تكوين معارف بالنفي.
    إن الأعمال الفنية ـ في النظرية الاستاطيقية عند أدورنو ـ توفر نقداً للعقلانية الأداتية والفعل الأداتي. وهي بهذا تلتقي مع النظرية النقدية، التي هدفها هو أن تنهي أولوية العقل الأداتي ـ العقل المستخدم كأداة دون اعتبار للسمات الخاصة للموضوع. ولكن وبما أن الفنون مستقلة فإنها لا توفر هذا النقد لنوع معين من الفعل وإنما توفره للإطار الذي تتم فيه الممارسة كلها. وطبقاً لذلك فإن الأعمال الفنية لا يمكن اختصارها في خدمة الممارسة لأن ما تنتقده هو نقض ممارسة الممارسة ذاتها. إن أدورنو يفهم الفن باعتباره الموضوعة الاجتماعية النقيضة للمجتمع.
    إن فكرة أدورنو عن المحتوى المعرفي للفنون ـ أي محتواها من الحقيقة ـ يمكن فهمها بفهم الفنون كشكل من أشكال الفعل التواصلي، كما فعل هابرماس؛ وبذلك تكون الاستاطيقا الحديثة ذات أهمية أولية فهي تمنحنا إمكاناً لشكل من أشكال الفعل التواصلي له القدرة على جمع المادة المقصاة والمنفية والمشتتة وغير المتكاملة وغير ذات المعنى في فضاء من التواصل المتحرر من السيطرة. هذا الفهم اللغوي التداولي للحقيقة الاستاطيقية يبعدها عن التطابق مع فكرة التصالح بين الطبيعة والثقافة، التي يشتغل عليها أدورنو، فلا تصبح حقيقة بالمعنى الحرفي للكلمة وإنما إمكان للحقيقة؛ خلاصة لقدرة الأعمال الفنية على الكشف عن الحقيقة. كما يمكن تطوير العلاقة بين مقولات أدورنو عن الحقيقة والمظهر والتصالح إلى مركب من مجموعة constellation مقولات يحفظ الغاية النقدية لاستاطيقا أدورنو وممكناتها الفلسفية. وإذا أضفنا إلى كل ذلك العقلانية التواصلية فإن الذوات الفاعلة والمتواصلة والمتلقية ستدخل في العلاقة بين الفن والواقع واليوتوبيا مما سينتج تأثيراً متعدد الأبعاد في مقابل بناءات أدورنو الديالكتيكية أحادية البعد. هذا الفهم هو ما فشل فيه أدورنو لأنه لم يستطع أن يصل إلى أي شكل من أشكال العقلانية الأخرى غير العقلانية الأداتية، فظل أسيراً لها وبالتالي أسيراً لنموذج الحقيقة الذي تطرحه فلسفة الوعي، أي الحقيقة كتطابق بين المعرفة والواقع. مما يجعل أدورنو يعيد إنتاج شروط السيطرة بدلاً من التحرر منها.
                  

06-10-2013, 10:49 AM

سيف اليزل سعد عمر
<aسيف اليزل سعد عمر
تاريخ التسجيل: 01-11-2013
مجموع المشاركات: 9476

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ندوة فكـرية كبري andquot;الضرورات النظرية لقيام حركـة سياسية جديد (Re: احمد محمد الحاج)

    لقد فشلت القوالب القديمة فى التعامل مع السودان

    والنتيجة: حرب، انفصال، عنصرية، فساد، تحلل، تدمار، خراب، نزوح، موت، ترحيل، عطش، جوع، الخ


    الشعب السودانى قادر على تقديم بديل جديد

    الفكر والنقاش واحدة من الوسائل للخروج من هذه الحفرة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de