تراجديا الموت والبقاء في أرض النوبة .. عمر فضل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-16-2024, 11:50 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-22-2013, 10:15 PM

azz gafar
<aazz gafar
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 2123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تراجديا الموت والبقاء في أرض النوبة .. عمر فضل

    الصديق/ عمر فضل يكتب .... تراجديا الموت والبقاء في أرض النوبة
    _______________________________________________
    كنت في بشائر شهر أكتوبر من العام المنصرم قد أخترت أن أعمل في الولاية الشمالية في حاضرتها دنقلا ضمن دراسة مسحية شاملة لكل ولايات السودان , وكان في تقديري أن الول اية محدودة علي شريط النيل , و ذلك يساعدني في عملي وكذلك زيارة أهلي في مشكيلا ونوري , كانت طبيعة العمل الميداني الصعبة تتطلب وجودي الدائم علي مدار اليوم للمتابعة والمراقبة والمراجعة . وقبل أن يحين أوان زيارتي للبلد أخبرني أقاربي في دنقلا أن بعض الأهل برفقة والدة الشهيد عبد المعز محمد عبد الرحيم أختنا المرحومة فاطمة عثمان عبد الله بمستشفي دنقلا , فهرعنا إلي المستشفي لزيارتها وأن نسلم علي من نجد من أهلنا, وفي طريقي للمستشفي كانت تتواتر علي مخيلتي صورة الشهيد عبد المعز بكثافة ماستطاعت أي فكرة كانت ولا هموم العمل أن تزيح صورته من مخيلتي , بل أخذت تداخل مع صورة خاله الشهيد شيخ الدين حاج أحمد وما غابت في تلكم اللحظات صورة الفتي اليافع الشهيد محمد فقير محمد دياب والشهيد الصادق سالم. ولكن ربما كثافة اللحظة وأرتباطها بالشهيد عبد المعز وتذكرت وفاة والده حسرة عليه أو ربما لتفاعلات الدم والقربي برغم بعدنا كأسرة وخصوصاً شخصي لدراستي وعملي بعيداً عنهم ربما لم التق بالشهيد عبد المعز في حياتي ولكني تذكرت يوم الاستشهاد عندما نقل إلي الخبر دخلت دون شعور في نوبة بكاء حاد , ما تذكرت أني بكيت منذ زمن بعيد وتجددت نوبة البكاء مرة أخري عندما رأيت فيديو وصور الشهداء وأنا أجلس علي مكتبي ووسط زملائي في العمل وهنا فقط تعاظم عندي صورة مأساة أهلنا في دارفور وفي وجبال النوبة والنيل الأزرق ,يا لماسأتنا فنحن شعب لا نعي إلا بالوخذ الحاد المؤلم وتأتيك المصيبة في نفسك لتشعر بها عند الآخرين ,برغم أني كنت أحسب نفسي متفاعلاً مع كارثة حكم بلادنا ومآسيها وبدأت اسائل نفسي لماذا نحن يضعف تفاعلنا مع كوارث بلادنا الكبيرة مع عظمتها مثل دارفور, لحظي ومربوط بالمدي الزمني للأحداث فهل ذاك لضعف أخلاقي وانساني, أم ذاك لتواتر الكوارث والمصائب حتي تبلد أحساسنا وتضخمت اللا مبالاة فينا , فهل كنا يوماً لحمة واحدة في وطن حقيقي يسعي بزمتنا فيه أدنانا ؟؟ ؟..
    ودخلنا مستشفي دنقلا وكعادة أهلي وسمتهم يقابلونك هاشين باشين مرحابين في كل الأحوال والظروف والأحزان والأتراح وبعد واجبات السلام والكفارة والمواساة , قررنا أن نزور المريضة في غرفة الإنعاش حيث كانت غائبة عن الوعي تماماً و برغم المنع بأمر الطبيب لكن كعادتنا كسودانيين لا نستشعر قيمة زيارتنا إلا برؤية المريض, فنتحايل علي ذلك مهما كانت المحاذير نحاول جاهدين أن نر مرضانا, ودخلت وياليتني لم أدخل ,تتشابه لحد كبير حالات الإغماء مع صورة الموت , وقفت لبرهة كم استطالت دقيقة أم دقيقتان أقل أو أكثر لا أعرف علي وجه الدقه ولكن ترائت لي الصورتان صورة المرحومة فاطمة وصورة ولدها الوحيد الشهيد عبد المعز تطابقت الصورة حيناً وتداخلت حينا ً آخر .شعرت في تلك اللحظة كأنما ألقي بي في غياهب جب سحيق ما لها من قرار وجال في خاطري كم من الأفكار والتساؤلات وكأني في حال شهود لا يتطلب الإدراك فيها إلا حال الشهود نفسه . شباب يخرجون من أجل وطنهم الصغير , حيث ولدوا ووجدوا وحيث قبر أجدادهم وأحبابهم لا يعرفون وطناً يشعرهم بالإنتماء والوجود غيره, ثم تغتالهم سلطه تدعي أنها تريد خيرهم بكل بساطة وسهولة , من أجل قيام سدٍ ما حاول أحد أقناعهم بجدواه بل حاولت السلطة فقط تمرير مخططاها الدنيئة بلا علمية تقنع ولا عدل ينصف ولا مسؤولية ترشد ,شاب وحيد أبويه يقتل غيلة وغدراً وتمر السنين فيلحق به والده حسرة عليه وتمر سنين أخري وهاهي أمه تلحق به بالسكته الدماغية والحسرة والألم مافارقها لحظة منذ أن فقدت وحيدها , وكأننا في دولة وادي الصمت والنسيان , دوله تغتال بنيها بدم بارد في كل من دارفور وفي شرق السودان وفي أمري والأعوج وجبال النوبة والنيل الأزرق وفي كجبار , وعلي ذويهم أن يصبروا ويحتسبوا وينسوا حتي تتحقق لهم التنمية والرفاه وتُفْتح عَليهم بركات من السماء والأرض !!!
    كانت حالة فاطمة لا تسمح بنقلها للخرطوم , كما قرر الطبيب , وفي أمسية التاسع من أكتوبر 2012م بعد أن عدت من زيارتها وبعد صلاة العشاء نعي الناعي إلينا الحاجة فاطمة عثمان عبدالله ,ذهبت إلي المستشفي حيث وجدت الأهل قد جهزوا أنفسهم لنقل الجثمان إلي قريتنا . وتحركنا بالجثمان وقطعنا كبري دنقلا تذكرت تلك الأيام التي كنا نحمل فيها هموم بنطون دنقلا ما أن تبارح أمدرمان لتتجه شمالاً. ودخلنا حوض السليم الخصيب حيث قامت علي تخومة أعظم حضارات افريقيا والسودان والنوبة في كرمة , تراءت لي دفوفة كرمة برغم دهمة الليل والعربة تنهب بنا الأرض نهباً , دخلت في حالة ما بين النوم واليقظة , ربما ساعد في ذلك الطريق المعبدة والتي كنا نعاني من وعورتها سابقاً حيث يستغرق الطريق أكثر من أربعة ساعات ,في وعورة يصعب معها أن تغمض عيناك ,إلا بسبب جهد وتعب الطريق نفسه. أراني أسير بين قصور الفراعنة و الكنداكات والمعابد الشاهقة ذات الطوابق المتعددة والبوابات الضخمة يسير الجنود في الطرقات بعضلاتهم المفتولة والوانهم السمراء أو السوداء الداكنة اللامعة وبجانب المعابد والقصورتقف تماثيل الفراعنة ومسلاتهم حيث يكتبون تاريخهم وأمجادهم وفتوحاتهم ,وتمدد الخضرة علي مد البصر ,المدينة يخيم عليها صمت مقدس الكل في عمله, سواقيهم تدور وبعضهم يهب خلف ثيرانه يحرث الأرض ونساء كثر جالسات كما الأزاهر وسط الخضرة ينظفن الزرع أو يرعين بعض الماشية .وبقرب النيل هنالك الفخارين يصنعون الأواني والجرار وبعض النحاتين والنجارين يصنعون التوابيت وبعض التماثيل ,وطقوس جنائزية يقوم بها الرهبان يحنطون جثمان أحد المزارعين بالمال الذي أعده لأسرته لهذه اللحظات. وأسواقهم تضج بحركة واسعه الكل يحمل منتجاته ,أنواع مختلفة من البلح والفاكهه والخضار والفول والعدس والبصل , أكوام من الحنطة والشعير,عدد كبير من الماشية , جرار من النبيذ المعتق والعسل وعلي مرفأ المدينة عدد غير قليل من المراكب النوبية محملة بأنواع مختلفة من البضائع ,وبرغم غربتي عن المدينة وأنا القادم من القرن الواحد والعشرين شعرت بطمأنينة وأمان كبير وسلام نفسي وروحي اتسع له صدري وماشعرت بخوف برغم صرامة وجوه الجنود وجديتها . ما أيقظني من ذلك الحلم إلا محطة قبيل النزول من الطريق المعبد الذي جافي أرضنا وليس فقط الطريق الذي أبتعد بعيداً عنا بأمرهم ,بل أيضاً خط الكهرباء الذي تبع الطريق في رحلته متجهاً شمالاً ودخلنا اتجاه قرية فريق في طريق وعر لا اعلم لماذا تجاهلوه أهو ضمن مخططهم تمهيداً لأغراقنا , أم هو حال كل الحكومات في تجاهل أبسط مقومات الحياة التي أجتهد أهلي في توفيرها قدر طاقتهم ,مراكز صحية ومشاريع زراعية ومولدات الكهرباء ونوادي تعاني الآن بؤس حاضر بلادنا وعذاباتها .
    وساربنا موكب الجثمان تجاه قريتنا مشاكيلا بالطريق الزراعي و أول مافتقدته رائحة البرسيم والنخيل والمزارع النيلية التي كانت تملأ خياشيمك وصدرك تشعرك بالعافية وترد إليك روحك , ولاحت لي غابات النخيل الممتد علي طول الشريط النيلي ,لكنها ليست كعادتها, كانت ساكنة لا أعرف إن كانت حزينة حزن أهلها في هذه اللحظات أم تعاني آلام الجدب أو النيران التي سلطت عليها في الآونة الآخيرة فقتلت من أخواتها وفسيلاتها الكثير أو ربما لا زال الحزن يعتصرها لقتل أبنائها أمامها في تخوم كدنتكار برصاص العسكر .
    بدأت أستعيد مشاهد قرية أمي وعندما مررنا بجامع القرية حيث يقع في مدي ساقية جدي نصر سعيد تذكرتهم جميعاً جدي قيلي وجدي نجم الدين و وخالي محمد وحبوباتي مريم وعزيزة وخالتي فاطمة وأبنائها عرفة ومحمد عبدالفتاح ا ثم مررنا بحينا فركي هذا الوادي الذي يقع بين مشاكيلا ونوري حيث كان منزلنا ومنزل عمي الطاهر ومنزل عمي محمد نور وابناء عمي عبد الودود عليهم جميعاً الرحمة وبعض أعمامنا وعماتنا وحيث ساقية وأرض جدي عبدالودود وفرت الدموع من عيني ماستطعت لها حبسا .
    كانت إضاءات البطاريات والمساريج تملأ الطرقات من كل حدب وصوب خشية هوام الأرض التي تنتشر بكثافة في منطقتنا تتجه إلي قريتنا نوري حيث تتم مراسم الدفن . وبرغم الظلمة لاح لنا جبلي نوري الشهيرين يعانقان نجوم سماء في عزة وشموخ وهذه القري التي ذكرت متلاحمة ومتلاصقة لا يفصل بينها فاصل يذكر وفيها من صلات الدم والقربي ما يجعلها لحمة واحدة ,دعوني سادتي أحدثكم عن نوري وما أدراك ما نوري وتدعي نوري جبل عيسي وهو جدي السادس وفوق الجبل الجنوبي قصره أو قلعته , حيث ولد فيه أجدادي وآخرهم والدي في بدايات القرن العشرين, ويقال أن عمر هذا القصر يمدد لأكثر من إلفي عام . نوري هي بعض أريج وعبق كرمة القديمة أقدم البلدات في الضفة الشرقية قاطبة , وهي عبارة عن متحف مفتوح بآثارها ومبانيها وطبيعتها وموقعها ,فيها من الأسرار والخبايا ما جعلها مزار السواح والأجانب منذ أمد بعيد ,حكي لي والدي أن الخواجات كان لايمضي أسبوع إلا وتجد عدد منهم في موقع ما من نوري كعادتهم يبحثون بعيداُ عن أعين السكان بالضرورة أنهم أخذوا ما أخذوا ولكن عزائنا أنهم يعرفون قيمة هذه الحضارة وعظمتها , لا مثل أولئك الذين يريدون أن يغرقوها دون أن يرمش لهم جفن .
    لا أدري إن كان أهلنا نزحوا عن طريق الشريط النيلي إلي مناطق مختلفة أم ملكاً ممتداً حيث يوجد ميراث أهلي في مناطق سيسة و فرجة وسدلة وغيرها , ومن الميراث ماهو جزر كاملة مثل جزيرة أوير قرب فرجة وتعني جناح الطائر بالنوبية وأهل نوري يكادوا يكونوا أسرة واحدة لما يربط بينهم من صلات الدم والقربي . من هذه القرية نزح عدد غير قليل إلي مختلف بقاع السودان حيث وجدت بعضهم في أمدرمان (المورده وأبروف ) والكاملين وذلك لزمن يصل خمسمائة عام , وما يجدر الإشارة إلية لغير النوبيين نوري التي أعني هي ليست نوري التي في مناطق الشايقية ولا أعرف إن كان هنالك أوجه تشابه وصلات تصلح للدراسة والمقارنة .
    دلف موكب الجثمان إلي قريتنا نوري وهو يسير في طريق متعرج يربو وينخفض ورويداً أصبح صوت الإنين المكتوم يشق سكون الليل فأهلي النوبيين ليسو أهل عويل وصراخ , فصبرهم أميز شيمهم فقد استمدوه من نخيلهم وجبالهم وطول فراق الإحباء بفعل الهجرة المشؤوم يبكون موتاهم بهذا الإنين المشوب بصوت الساقية وحنينها وأزيزالنورج وهسيسه وحفيف النخيل وصوت الريح في برد أمشير البارد.
    يقع المنزل الذي وصلنا لتجهيز الجثمان فيه في الجانب الجنوبي الغربي من مقابرنوري القديمة قدم التاريخ حيث المدافن النوبية القديمة ومومياتها والمدافن المسيحية ومدافن المسلمين وهذا ليس للإعلان لمدافن متميزة سادتي بل هوتاريخ قريتي.
    كان كل الأهل حضور لا يتغيب في هذه اللحظات أحد إلا لعزر من كبر أو مرض وبعض أهل المناطق القريبة الممشي ومن سمع منهم بخبر الوفاة وكانت له دابة تساعده في الوصول. وبعد إدخال الجثمان عزينا الموجودين وراحمناهم ولكني كنت أتلفت لرجل هام لأعزيه لأنه له معنا حكاية وهو العم حاج أحمد لا شك تعرفونة هو والد الشهيد شيخ الدين أحد شهداء كدنتكار وعم المرحومة فاطمة عثمان هذا الرجل الأصم ,جبل من الصبر والثبات لابد أن التاريخ يوما سيذكر أن هذا الرجل الممتلئ عزة وكرامة من تحت أقدامة إلي عنان السماء رفض كل مساومات السلطة والعسكر من قبول أي تعويض مادي يجبر كسره كما عرضوه عليه وهو يرفض فقط لأن العم حاج أحمد يعلم من أجل ماذا ضحي أبنائه بفهم عميق عمق معرفته بالأرض والزراعة والنخيل وماذا تعني نوري عبق التاريخ, والله لو أنه طلب مثل جبلي نوري ذهبا لأعطوه , رجل متشرب بقيم العدل والإنصاف والمروءة والشجاعة , كل ما يريده أن يكفوا أيديهم عن أرض أجداده وآباءه منذ أن خلق الله الخليقة ما أتاها نازحا ولا عابر طريق , وأن يقدموا الجناة لمحكمة عادلة ليس فقط الذين أطلقوا النار بل أيضاً الذين أتوا بهم وأمروهم بقتل أبنائه , فسيادة القانون عنده قيمة عظيمة عليا , ما درس عمي حاج أحمد القانون في جامعة غردون أو السربون ,إنها قيم النوبة وتاريخ عظيم من الدولة والنظام أحالوها قيماً وسلوكا .

    وبدأت اتلفت أبحث عنه بين الحضور ذكروا أنه قادم من المسجد والساعة تشير إلي منتصف الليل يبدوا أنه في معتكف في المسجد , تالياً قائماً يصلي متصبراً متجلداً كعادته , وذهبت إلي الجانب الشمالي الشرقي من المقبرة , حيث يجهز الشباب القبر وهؤلاء كأنهم متعهدون دائمون لحفر القبور ,ما أن يسمعوا بخبر الوفاة حتي يحملوا محافرهم ومغاريفهم وواسوقهم وبهمتهم التي لا تفتر يجهزون القبور فإن كان ثمة جودة لحفر القبور لنالوا شارة جودة حفر القبور العالمية فهم يجيدون أي فعل له علاقة بالأرض. ونادي المنادي لصلاة الجنازة , وبعدها ارتفع صوت الأنين والبكاء عرفت أن الجثمان تحرك تجاه المقبرة , دقائق معدودة ويصل الجثمان ,خيم صمت ثقيل علي المكان , ,شق العتمة كتلة بيضاء تحمل الجثمان ,ما من صوت سوي حركة أرجلهم مع الأرض وبعض الهمهمات بالدعاء والرحمة , واقترب جثمان فاطمة من مسكنة الآخير , وضعوها علي قبرها , بعض الأصوات تنادي أميلوها إلي الجانب الغربي ,ضعوا وسادة من الطين تحت رئسها, أين الحجارة والطين , أهالوا عليها التراب الكل يشارك ولو بحفنة بقبضة يده من تراب , المغاريف ترمي بالتراب , الواسوق في غير مهامه الرسمية يجرف التراب جرفاً , يتبادلون العمل في صمت ,نادي المنادي أدعوا لها واقرؤوا علي روحها الاخلاص أحد عشرة مرة إيذاناً بانتهاء مراسم الدفن , ونظرت حولي لم أر أحداً كانوا كلهم جلوس علي الإرض حول القبر وبدي القبر كاملاً جلست معهم علي الأرض , لحظات من القداسة والديانة وكأني في حضرة كهنة آمون أو في قداس في أحد كنائسنا القديمة أو خرج أجدادنا مشايخ نوري من قبابهم يودعون أحدي بناتهم إلي مثواها الاخير. فما أن وقفنا فإذا بالرجل الوقور أمامي , عميق النظرة واثق الخطي وضئ المحيا ثابت الجنان , عزيته وحياني بإبتسامة دلالة الرضا بقضاء الله وقدره .
    أخذت أدير نظري بحثاً عن أبناء عمتي ريا , كان لزاماً أن أذهب معهم في ليلتي تلك , فالزيارة كانت بغته وعملي في دنقلا ينتظر , فمن أحق منها بالمبيت والسلام والزيارة فاستأذنت من من قدمت معهم , وغفلنا عائدين إلي قريتنا قندلكي وهم أهل أمي لأبي حيث ينتشرون في منقطقة شرقفاد . تبعد قندلكي حوالي عشرون دقيقة من نوري سيراً علي الأقدام وكنت برفقة أبناء عمتي شيخ الدين وأبنه سمير حيث قدم من الخرطوم في ذات يوم الوفاة لزيارة المرحومة فاطمة وشمس الدين هو مساعد طبي يعمل لعقود في خدمة المنطقة بتفاني كبير وكذلك بعض أقاربنا من القرية .
    تجاوزت الساعة منتصف الليل لما يقرب من ساعتين وبلغ التعب مني مبلغا كبيراً وصلت إلي بيت ابن عمتي شمس الدين حيث تقيم عمتي ,دخلنا داره ووجدتها مضاءة بخلايا الطاقة الشمسية ,فكنت احمل هم شحن هاتفي فهو مكتبي عبره أدير عملي , فمن فوري وضعته في شاحن الكهرباء وأكدت علي أبن عمتي أنني لا أريد سوي الماء فالفجر قريب واستسلمت للفراش .
    وبرغم الجهد والتعب صحوت باكراً , أعرف أن عمتي كعادتها تصحو من آذان الفجر الأول إن لم يكن قبله وظننت أن سنينها التسعينية قد فعلت بها الأفاعيل , أعزائي فمن لم يرَ كنداكة في حياته فلينظر لعمتي ريا فبرغم عاديات الزمان فمازال بقايا جمالها وتقاطيع وجهها الحادة والجادة بائنة و عليها من الوقار والعزة والشموخ ماتراه مجسماً ,فاقتربت منها ونادياتها عمه وامسكت بيدها وقبلتها علي رأسها ملأت الدموع عينيها وقالت : ويا توت أني , عمتي سادتي لا تعرف من اللغة العربية إلا القرآن الذي يقيم صلاتها هي أمرأة ذاكرة مصلية تقيم صلواتها بدقة متناهية مع كل نوافل صلاة اليوم كاملة , ملأت الدموع عيني عمتي وسألتني أين أبوك هل قدم معك ؟ قلتم أنه سيأتي لأراه فإن لم تأتوا به ذهبت أنا إليه قلت : لها عمتي أنهم يعدون العدة لزيارتك قريبأ .
    عندما كانت عمتي بصحتها كانت تخرج باكراً لتنظر من في المسيد , أن هل من ضيف؟ وكذلك لتسقي شجيراتها وتملأ سبيلها علي الطريق كصدقة جارية لروح حبوبتي حبصة سليمان أو صاحبة البهو التي سكنت ذلك القصر الشامخ في الجبل الجنوبي لنوري حيث ولد أعمامي وعماتي الأشقاء وغير الأشقاء فقد تزوج جدي عدد غير قليل من النساء ماجمع بين أثنين منهما ماتت من ماتت وطلق من طلق . دخلت حبوبتي حبصة قصرها مانتهكت شرعية أخري ولادخلت علي رؤوس الدبابات وفوهات البنادق وما أخذت ماليس بحقها ولم تسرق مالاً, فعندما مات جدي كان والدي عمره عامان فكانت أمرأة قوية تحرث وتزرع وتسقي الأرض لتطعم وتربي صغارها .
    قدم بعض الناس من منطقة لنا فيها ميراث كبير اختلفوا حوله , لعمتي ريا خبروها بذلك وطلبوا منها المجئ لحسم هذا الأمر ,ردت عمتي عفو خاطرها ما تلفتت يميناً أوشمالاً وما استشارت أحد أبنائها أو أن ترسل لاستشارة من هم بعيدين ومرتبطين بالأمر و كلمة عمتي سيف علي رقاب الجميع فردت قائلة : أناس لم نبحث عنهم أحياء ,لن نبحث عن ممتلكاتهم بعد ما توفوا أذهبوا وافعلوا ماتريدون , لله درك عمه هو حق شرعي لك ,تأباه قيمك وأخلاقك , نحن عمتي في زمان سرق حكامنا فيه ماضينا وحاضرنا ومستقبل أجيالنا ويريدون إغراق أرض جدودنا وميراث أرض السودان , ثم لله درك عمتي تأبي عزة نفسك وأخلاقك أن تحمل نفسك وزر أخلاق فعل شرعي تأبي عليك لأنك لم تستحقيه بأخلاق, نحن عمتي يتسنمنا الآن قوم لم يرتجف لهم جفن ويقتلون أبنائك في كدنتكار وأبنائك في جبال النوبة وأبنائك في دارفور وأبنائك في النيل الأزرق وفي شرق السودان وفي وسطة , يسرقون جهاراً نهاراً , لا يخجلون , ضعفوا ديناً وأخلاقاً , فهل هؤلاء منا أهل السودان عمتي ؟؟؟
    كان لزاماً أن نمر علي كل بيوت القرية وهي قرية صغيرة لتحيتهم وتقديم واجب العزاء فيمن لم نحضرهم , فما زالت منازلهم كما وصفها وليم آدمز في كتابه النوبة رواق إفريقيا نظيفة وأنيقة بألوانها ورسوماتها الزاهيه منذ ىلاف السنين , حفاوتهم واستقبالهم ينسيك كل مشقة الطريق والسفر بل تنسيك هموم الدنيا كلها .
    وودعت عمتي , كان لابد أن أعود إلي دنقلا في ذات اليوم وقررنا الذهاب إلي بيت العزاء الذي نقل إلي جزيرة كورته حيث منزل المرحومة فاطمة وتقع جزيرة كورتة في منعرج نيلي يقترب من الجانب الشمالي الغربي من نوري والجانب الشمالي لقندلك ويتسورها نهر موسمي يمتلأ في أوقات الدميرة ,كما يوجد قبالتها سد لحبس المياه من أجل الزراعة , تشمرنا و خضنا متبقي من مياه الدميرة , وقبل أن وصولنا المسيد الجنوبي الشرق لكورته مررنا علي البيوت لواجب السلام كانت معظم البيوت خالية فالجميع في بيت العزاء . ووصلنا المسيد المطل علي جبلي نوري حيث تبدوا الآثار عليها واضحة , كان معظم الأهل حضور جلوس علي الأرض فهم دائماً قريبون منها , وجلست أتأمل عظمة التاريخ وأدركت حينها لماذا يستسهل مثل هؤلاء الشباب دمائهم رخيصه من أجل أرضهم وبلادهم , وتناولنا وجبة الإفطار , وقطعنا النهر بالمركب التي يوصلها حبل ممتد بين الضفتين ,كان لابد من زيارة لبعض الأهل في مشكيلا , وغفلت راجعاً إلي حاضرة الولاية أرض الملوك دنقلا.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de