كوّه يوسـف كـوّه الشبل! بقلم. أدوارد لينو أبيى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 06:13 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-03-2013, 05:39 PM

Deng
<aDeng
تاريخ التسجيل: 11-28-2002
مجموع المشاركات: 52561

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كوّه يوسـف كـوّه الشبل! بقلم. أدوارد لينو أبيى


    كوّه يوسـف كـوّه الشبل!



    أدوارد لينو وور أبيى

    ترجمة : د/ أرثر غابريال ياك

    كـوه يوسف كوه، الشبل! هـذا الطفل المفعم بالنشاط والحيوية، البالغ من العمرثلاث سنوات آنـذاك، كان من أحب الأبناء إلـى قلب الرفيق يوسف كوه مـكي، ذاك القـائد الكاريزماتي العظيم للحركـة الشعبية والجيش الشعبي لتحـرير السودان الـذي كان متمركزاً، بثبات، في الأراضي المحررة بجبال النـوبة، في قلب دولـة السـودان. بعـد صـراعٍ شرسٍ مع مرض سـرطان البروستـاتا الخبيـث، إنتقـل قـائدنا العظيـم، يوسـف كـوّه مـكي، إلـى الأمجـاد السمـاوية في عيـادة لنـدنية بتـاريخ 31 مـارس 2003. أتمنـى، الآن، أن يـكون صديقـي كـوّه قد أصبح رجـلاً وفـياً و نشيـطاً، ذكـياً و شجـاعاً، ومـدافعاً عن حقـوقه. عشـمي في أن يـكون هكـذا صـارت تلك الشُجيـرة وقـد نمت وإخضـرت، وأصبحت تغطـي وتنشر بظـلالها الـوارفة والملطـفة، المجتمـع بأسـره.

    عنـدما زرت جبـال النـوبة للمرة الثـانية، كـثائر، من خلـف مُـدنٍ موبـوءةٍ ب “المجـاهـدين”، في الفترة من ديسمبر إلـى ينـاير 1997-1998، أمـرني القـائد يوسـف كـوّه مـكي، بالـبقاء لأنـوب عنـه كحـاكـم، وقيـادة قـواتنا هنـاك. لا بـد أنـه إتخـذ تلـك الخطـوة، بثقـةٍ، وبتنسيـقٍ مـع الـدكتـور جـون قـرنق دي مبيـور، القـائد العـام ورئيـس الحـركة الشعبية والجيش والشعبي لتحـرير السـودان. لـقد كلـفني بـذلك، لأنـه كـان مقـرراً لـه زيـارة العـاصمة الكينيـة نيـروبي، لحضـور بزوغ أول فرقـةٍ ثقافيـةٍ نـوبيةٍ في أراضـي جبـال النـوبة المُحـررة. لقـد كـان الرفيـق، يوسـف كـوهّ، شـاعرُ مُرهـفُ، وجُنـدي مـلتزم، وقـائدُ جسـور، ومقـاتل شجاع. لـقد كـانت هـذه الخـصال، متـوازنة في داخـل رجُـلٍ له القـدرة في أن يشملـها جميعـاً، بطريـقةٍ تجعلـه يتحمـل كل معضـلات وآلام جبـال النـوبة، ببسـاطةٍ وإخـلاصٍ شـديدين.

    لقـد أحب، الرفيق يـوسف كـوّه، شعبه، حبـاً جمـاً؛ حب يصعب إتصافـه بالكلمـات! أحـب الأرض والجـداول والشُجيرات والغابـات، خـاصةً الجبال بكُتلها المُعيقة للمجاري، وآفاقهـا اللانهـائية. كـان ذلك، هو السـر الكبير الكـامن وراء مثابرته، و مقـاومته في قـلب السـودان. يـا لـذاك التحدي الـذي لا يذوي! كـان ليوسف أصـدقاء عظام؛ آشـلي، واجنـر، مـاديسـون، بابا بـي، جـون فرانس وآخـرون كثيرون. لـقد سـاعدوه كثيـراً في تـجهيز الفرقة الـتي سـافرت إلـى نيروبي ليشـاهدها الناس ويعلمـوا، بـأن هـذا الشعب الـذي يقـدم ثقافته الآن، تتم إبـادته بسب نفس تلك الثقافـة. لقـد رأى، الرفيـق يوسـف، أن شعب عظيـم كهـذا، ذو تاريخ نيـلي غني، يعود إلـى عصورٍ قـديمةٍ، إن مثـل هـذا الشعب، يجب أن لا ينسى للحظةٍ واحـدةٍ، في أن ينمي عاداته وثقافـاته. وهـذا لإمـرئٍ، كـان سبباً كافيـاً لشعب في أن يحـرر نفسه. فعنـده، كـانت ثقـافة النـوبة، تعنـي شعب النوبة.

    إختـار القـائد يـوسف كـوّه، الـرقيب إسمـاعيل كـونجي لقيـادة فرقة النـوبة الثقافيـة. وقـد كـان كـونجي، أشهـر فنـاني الأغـاني الحمـاسية للجيـش، يجعل الفرقـة أكثر حيـوية ونشـاطاً، بجانب أنه كأن إداري يعتمـد علـيه. كـان، الـرقيب كـونجـي، ممـثلاً مرحـاً وشخصيـةً مفعـمة بالـدفء. كـان يـرفع الـروح المعنـوية للقـوات في سـاحـات الـوغى، كمـا يسليـهم في سـاعات السلـم. و كـان وفيـاً، ومتفـانياً أزاء القضيـة إلـى أبعد ما يـكون. كـان الشـهيد، كـونجي، شهيـراً ومقـاتلاً جسـوراً! في ذلك اليـوم، في “لـومون”، قبل مـغادرتها إلـى نيـروبي، قـدمت الفرقـة عرضـاً حيـاً راقصـاً، بملابس مزركشـة زاهيّـة، متوّجـة بحُلـى وخـرز وقـرون لرقصة ال “كَـامْبَـلا”. رقـصـةُ متقـدةُ فيهـا يُزيّـن رؤوس الرجـال بقـرون ثور ليكـشف عن رجـولتهم بينما هم يضربون الأرض بأرجلـهم، بإيقـاعٍ، وحركاتٍ محسوبةٍ، بإتجـاهٍ عكسـي لدوران عقارب السـاعة، بينمـا النسوة يـزغردن عاليـاً بأغـاني الشجاعة والنبل والكـرم. غالبـاً ما يتم أداء رقصة ”الكَـامْبَـلَا” بالنهـار، وخـلالها يظـهر الأولاد كعجـولٍ بـلا قـرون. بالطبع، كـانوا سيـدات ورجـال عظام!

    إن الحـركة الشعبية لتحريـر السـودان، كحركة تحررية شعبية، كان لا بـد عليـها أن تنـوّع من النضـال وذلـك بإضفـاء أبعـادٍ ثقـافيةٍ ذات مغـزى، عليـها. كـان لا بـد للنـوبة من سلك مسيرة النضال لإنقـاذ، وحفـظ، وتطـوير وترقيـة ثقـافاتهـم الأفـريقيـة. كـانت الثقـافة هـي أحـد الأسبـاب التي جعلتنـا نحمـل السـلاح! وقـد كانت تلك هي جـل أهميـة المهـام. كـاد عقـل صغيـرنا، كـوّه يوسـف كوّه، يطـير فرحـاً وهو يشـاهد بأم عينـه ذلـك الأداء الراقص، ومـا كـان منـه إلا أن ذاب في الـرقص مـع أقـرانـه من الأولاد والبنـات. وقـد كان صغيـرنا، كـوّه، يعشق أن يُلتـقط لـه صـورة معـي أينمـا كـان ذلـك ممكـناً. لـذا إلتقـطنا بعض الصـور بالكاميراتان اللتـان كانتـا بمعيتنـا. لقـد قمنـا، صديقـي كـوّه وشخصـي، بتسجيـل أمنيـاتنا و تحيانـا القلبيـة الحـارة للفرقـة والنـاس في نيـروبي والمهـجر. بعـد ذلـك اليـوم الحـافل، أصبــح صديقـي كـوّه أكثر قـرباً إلـي، كـأننـي كنت قـد حظـوت بثقـة والـده لأهتـم بـه خـير إهتمـام، وقـد أصبحنـا صديقيـن حميمين جـداً.

    مـا أن غـادر القـائد يوسـف كـوه إلـى نيـروبي، حتـى توطـدت علاقتي بصورة أكبر ب “كـوّه” الصغيـر وذلك لأن مسـكنهم، المـكون من غرفٍ عبارة عن قُطيـاتٍ مسقـوفةٍ بالقش ومسـوّرةً بأحزمـة من القصب، كـان مقسمـاً إلـى قسمين: مسـكن للعائلـة، وأخـرى للضيـوف والـذي بدوره أصبح رئـاسة الحركة الشعبية والجيش لتحرير السـودان في لـومون بجبـال النـوبة. طيلـة إقـامتي في مرتفعـات لـومون، كان صغيرنـا الفضـولي كـوّه أكثر قربـاً إليّ. وكـان جُـل أوقـاته موزعـاً وفقـاً للظروف والبيئة المحيطة، حيث يتنقـل معي أينمـا وُجـد عمل أو منـاسبة: إستعراض عسكري، وصول ضيوفٍ، أعراس، عزاءات، ومناسبات تسمية الأطفال (سماية). لقـد كان، بمـا لا يـدع أي مجـال للشك، كـوّه الصغير، طفـل حـالفه الحظ في أن يـكون لـديه أم تقلق عليه، و تحيـطه بالعناية والرعـاية. مـدام أم ماصار ، كانت أيضـاً هناك، ليعتني به منذ شروق الشمس إلى المساء، حيث تقـوم بإستحمامه وهندمته لينضـم إلـى ركب أطفـال آخرون في “الفصل”، وهم جالسـون علـى صخراتٍ تحت شجر تينٍ شامخٍ.

    معظم الأوقات، كان الصغير كـوّه يأتي إلـيّ بعد إنتهاء الـدروس. أحياناً، بعد أن يتفـرّق الأطفال من الـروضة، ويشعر الصغير كـوّه بالتعب، لا يملك إلا الـذهـاب إلـى المنـزل ليجد شيئاً يسد به رمقه، ومن ثم أخـذ قيلـولةٍ. هنـالك، في تلك الروضـة، كان يتم تدريبهم وتعليمهم كيفيـة حفظ الحروف الأبـجدية، كتابتها وقـراءتها، وحـكي القصص، وصناعة براعات يدوية، ترديد وتأليف الأغـاني، والرسم. أيضـاً، تم تعليـم أطفـالنا عمـاذا يفعـلـون في حـالة إن شنت طيـران الخـرطوم الحربية هجمـاتها. إنـه لأمـرٍ مُحزنٍ أن يـرَ المـرء أطفالنـا حول لـومون وكـودا وجيـديل ومنـاطق أخرى، يتلقـون تدريباتٍ في كيفيـة حفر وتنظـيف الخنادق مستخدمين بـذلك أيـاديهـم الغـضّة، وكيف ينبطـحون أرضاً حين تكـون هنالك هجمـاتُ جـوية! ذات مرة، حـاول صغيرنـا كـوّه حفر خنـدقٍ له، لكـنه كـان أصغر من أن يقـوم بـذلك، فما كـان لـذلك الحـدث إلا أن يتحـول إلـى أمر مضـحك.

    احيـانـاً، كان الصغير كـوّه، يـأتي إلـي في الصبـاح قبل الـذهاب إلـى الروضة، أو يبحـث عني، بيـأسٍ، قبل أن يشعر بالتعب في منتصف اليـوم. بعد أن يتنـاول طعام غـداءه، واللعب مع أقـرانه، يـأتي إلـي كـوّه، وقد بـدا عليـه الشبع، ومن ثم يبـدأ معـي حـديثه المعـهود، الـذي غالبـاً ما يبـدأه بسـرد الأحـداث التي جـرت منذ الصباح إلـى وقت مجيـئه لي. “شـوف، شوف، شـوف، ولـد داك كان بطاردني… قل لي، إنت تعرف تسوق حاجة أسمه عربية؟” ” إت عارف، كـاكا بتعرف تحلب غنمـاية. هي بت شـاطرة.” “هـاي، قل لي الطيارة بتطير كيف؟” “إذا انت ضربت الحمار شـديد، هل دا بيخليهو يمشي بسرعة ولا بيقيف؟” قـالو لـي الحمار بيقيف، لانه مـا بيحب يتضـرب. الحمـير عنـدهم أمـخـاخ كبيرة!” “شـوف، شوف داك، داك كـومرد جـاي؟” هـو قطـع رقبة خروف بتـاعنا. هسه مـا عنـدنا خروف في زريبة بتاعنا. شُفت، هـو كـومرد كعب. هو قطـع رأس خـروف بتاعنا ورمـاه بعيـد في القش!” “شـوف زول الهناك دا. هـو ماشي يكُب مـوية في بصـل حقتو. هو عنـده مـزرعة بعيـد هنـااااك في الجبـل. أمبـارح مشينـا نشوفا.” رفيق كـات بيقول هو بيـديني ثور كبير وكـت نمشـي معـاه لأبيـي بكـره، أي…” ” كوماندا يـوسف كـارا جـا أمبـارح وكت الشمس ماشي لي تحـت بالمساء. إت قابلته؟ هو صديقـي. هو قـال لي مـا نطلـع بره في الظلام، عشـان في مرفعين كبير، كبير، هو قابله وراء جبل هنـاك، وكت هو كان جـاي. كبير، كبير شـديد، أوووه! المرفعين دا كـان بيـكوريك: وينـو هـوا، هوا، كـوه؟” وبعـدين قـام جرى بسـرعة وكت انـكل كوماندا يـوسف كـارا كان عـاوز يضربـه “تـا، تـا”، في نصف راسه. شُفت، شُفت، شُفت، المرفعين قام هرب بسرعة شديدة. مرفعين دا كان شاطر خلاص. وكمـان ########. ######## بجد. كان ينتظـر عشان يشـوف شنو كان بيحصل ليهـو، أيوا. أيـوا، أنـكل يوسـف كارا كان مـاشي يضربوا، تـاااا، في الرأس!”


    http://almasier.net/news/?p=10914
                  

04-04-2013, 08:04 PM

Deng
<aDeng
تاريخ التسجيل: 11-28-2002
مجموع المشاركات: 52561

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كوّه يوسـف كـوّه الشبل! بقلم. أدوارد لينو أبيى (Re: Deng)


    كوّه يوسـف كـوّه الشبل! (2-4)


    أدوارد لينو وور أبيى

    ترجمة : د/ أرثر غابريال ياك

    ذات يـومٍ سـألني كـوه قـائـلاً: “كـوماندا، إت عنـدك ولـد زي أنا؟” قـلت لـه أن لـدي إبـن أكـبر منـه سنـاً، يـدعى قـوم. “هـو بيمشـي مـدرسة وين، في نيـروبي ولا لـوكي؟” ثـم قـدمت لـه بعض من صـور أبنـائي، فقـام بخطفهـا مني، وهـرع ليظـهرها إلـى والـدته وآخرون، وهـو يـؤكـد: ” هـييي تـعال، تعـال، تعال شـوف، شـوف يـال كـوماندا أدويت. هما حلـوين، أه! شـوف، شوف، شوفهم” مثـل هـذه الأشيـاء، دائمـاً مـا كانت تطـغي على محـادثـاتنا السطحيـة. علـى الـرغم من أن بإستـطاعة كـوّه أن يـكون مـزعجـاً، إلا أنـه كان طفل رائـع. كـان فضـولياً، ومحباً للبحث والتحقيق لإكتسـاب كلمـاتٍ وأشـياءٍ جديـدةٍ، ومن ثم يُعبّر عن نفسـه بإستخـدام مفرداتـه الـتي إكتسبـها حديثاً. كـان صـديقي لا يتردد، ولا يخـجل، ولا يخـاف أبداً في التعبير عن نفسـه. وقـد كـان، أيضاً، ميال لتـأكيد مـا تعلـمه. كـأن يُقـحم ويلصق الكلمـات، بـجديةٍ، وطريقةٍ مُضحـكةٍ، لخلـق جمـلٍ إلى أن يُصحح، كمـا يفعل الأطفال دائمـاً. وكـان دائمـاً ما يتصرف كالظمـآن، الـذي يبحث عن مـكانٍ يشـفي فيـه غليلـه للمـعرفة. حسن حـظه، كنت هنـاك بالقرب منـه، لأعطيـه مـا يريـد، في ظـل غيـاب والـده. كـان يتصرف كالمبتـدئ الـذي جمع مفـرداتٍ في البيت، ثم يخـرج لإكتسـاب الكثير منـها، في عـالمٍ ينتهـي بـطوق من السمـاء، كمـا يعتقـد الأطفـال بأنه نـهاية العالم.

    تعـود كـوّه أن يستيقـظ مبـكراً، ويـركض، مقـلـداً أي فعـلٍ يقـوم به الجنـود. فقـد كان محـارب فضولي صغير، ولكنـه ليس الجنـدي الطفل! وكأمـر ضروري، كـانوا يقطنون في معسـكر للجيـش، وذلـك لأن والـده كـان يقـود نضـال التحريـر في منطـقة جبل النـوبة، رئـاسته منطقـة لـومون؛ بسلسلـة جبالها العاليـة، في قلب السـودان. أسـر كثيرةً كـانت هنـاك. تعسـكر الناس في قطـياتٍ متفرقـةٍ، في لـومون، أعـلى وادٍ، كثيف الدغل، أخصبه، في منطقة مسـاحتها خمسـة عشر كيلـومتر مربع. لم يـكن للناس مـكان آخـر، آمن يلـجأون إليـه في منـاطق النـزاع بجبـال النـوبة، وإلا أصبحو عُرضةً للإعتقـال والسجن وسـوء المعـاملة أو التصفيـة وذلك إن لجـأوا إلـى مـدينةً قـريبة تُسيطـر عليـها أولـئك الإسـلاميين المتشـددين، عديمـي الرحمـة.

    كـانت “لـومون”، رئـاسة الجيش لتـحرير السـودان، محـروسة حراسـة مشـددة. وكـان الجيش السـوداني و “المجـاهدين” يعتـبرونـها أخطـر بقعـة في كـل جـبال النـوبة، علـى الإطـلاق. فقـد كانت، مـرتفعـات لـومون، بالنسبـة للحكـومة، هي المنطـقة ذاتها التي يقطـن فيـها الشيـطان. وأن القـائد يـوسف كـوّه مـكي، كـان هـو الشيطـان بعينـه، وذلك وفقـاً للإسـلاميين المتشـددين. وقـد كان ذلـك،هو التـحدي! لـذا كـان عـلى النـاس المـراقبة بحـذر. فأي محـاولـة يقـوم بهـا الإسـلاميون بالتسـلل أو خلـق عـدم الإستقرار في منطقـة لـومون والمنـاطق المجـاورة لـها، كـان يُرصَـد ويُصَـد بقـوة. كـل شـئ يـدعى “سيـارة” كان مرتبـطاً بالـعدو، يـتخبـأ منه النـاس، يهـاجمونـه، أو يفـرون منـه. إنـه ذلـك النـوع من الحيـاة المتسمـة بالفظـاظة والقسـوة؛ خشـونة وقسوة أثـرت علـى أطفالنـا بصورةٍ سلبيةٍ بالغـة. في كـل المنـاطق المحـررة، لم تكـن هنالك مـدارس ومستشفيات وأسـواق وسيـارات وملابـس، أو حتـى بطانيـاتٍ تقـي أطفـالنا من برد الشتـاء القارس. لـذا، كـان علـى الأطفـال العيش في تـأرجحٍ، بين الحـرمان الرهيب، وحياة العسكريـة القاسيـة. وكـان عليـهم، التعلـم، أو تقـليد أي شـئ يفعلـه الكـبار، الـذين دائمـاً ما يتحركـون خلـف أسلحتهم!

    لقـد كانت تلك الحـرب، طويلـة وقاسيـة وفظـة وأكثـر ضـراوةً، وبالطبـع، لا إنسـاني! عملـياً، كان النـاس لا يملـكون وسيلـة للمواصلات عـدا الحميـر، و ليس لـديهم مـا يكسـون به أنفسـهم. كـانوا يتنقلـون حفاة الأقـدام، بملابس مـرقّعة، وخِـرقُ ممـزقة. ولكـن، فوق كـل ذلـك، كـانوا يشعـرون بالرضـاء وهـم ينعمـون بالحـرية في أرضٍ مـحررةٍ. في أبشـع أيـام الغـزوات الجـهـاديـة، كان إبـادة شعب النـوبة، شـئ يتم بمـوافقة الله، وذلك وفقـاً لتفسيـرات الإسلامويـون الضحلـة، يقـودهم في ذلـك دكتـور الـترابي، والبشـير، وأيـاديهم العنيـدة، أمثـال أحمـد هـارون وطيـارة، الـذين نفـذوا خطـطٍ عنصـريةٍ عنيـفة بمشـاركة “المجـاهدين” و “والمراحيـل” اللإنسـانيين! بتـاريخ 24 أبـريل 1993 أصـدرت نخبـة من الأئمـة مرسـوماً ضـد النـوبة والجنـوبيون. مرسـوم يقضـي بإلاجـلاء والإبـادة، دون أي تمييـز، من علـى وجه الأرض، كمـا هـو مصدق عند الله، لأنـهم كـفار، و مـرتدين عُضـال، لا سبيـل لعجلاهـم. لـقد كان عـام 1993 في جبـال النـوبة، عـام في غايـة الفظـاعـة!

    كـان ذلك مصيـر صديقـي كـوّه وأقـرانـه، أن يـولـدوا ويترعرعـوا في بيئـة حربٍ، مجـهولـةٍ، ومعـزولـةٍ، وشـرسـةٍ. وكشـخصُ، تُـرك ليقـوم مقـام القـائد، شعـرتُ بحـزن عميق وأنـا أرى أطفـال بوجوههم البريئـة، وطلعاتهم السمـحة، بلا مـدارس، ولا يتلقـون عنايـةٍ طبيـةٍ، ولا ملبس يلبسـونه وبلا رعـايةٍ إجتمـاعيةٍ. لـقد كان ذلـك، بالضبط، هو الحـرب المفروضة علينـا من قبـل النظام في الخـرطوم لنخـوضها، حتـى نـكون أحـراراً. لـقد كانت تلـك الظروف المثيـرة للشفقة، أفضـل بكثير من حيـاة المـزلة في تلـك المـدن التـي تسيـطر عليـها رّعـاع النظـام الإسـلاموي! أنـه لمشـرفُ جـداً أن يلتحف المـرء ظلال الأشـجار، من أن يعيش في بيئـةٍ تطغـي عليها ممارسـاتٍ إجراميةٍ مخجلـةٍ يقـوم بها نفرُ من الإنتهازيين. سـوف لا يلـعق أطفـالنا أحذيـة الـدجال، البتة! كان كـوّه، كـوالـده، يعشـق التفاعل مع القادميـن الجـدد إلـى لـومون، ويسـألهم عن صحتهم ومن أين أتـوا، مـاذا فعلـوا وكيف كان حـال النـاس في البيت أو المعسـكر، ومـا شـابه ذلك من أسئلـةٍ. في تـلك اللحظـات، يصبح كـوّه أكثـر إنتبـاهاً.

    عنـدما ينسى النـاس كـوّه ولا يعبـأون به، خـاصةً عنـدما يـنهمـكون في لعبة ورق الكـوتشينة أو الدومينـو، يبـذل كـوّه أقصـى مـا لديـه من جهـد للفت إنتبـاهم، كأن يقـوم بخطـف ورقتين أو قطعتين من الدومينـو أو قطـعة شطرنج و يهرب بهـا. بغتـةً تقع علـى مسمعك أصوات اللاعبـة وهم يصـرخون: “جيبو، جيبو يـا كوّه! كوّه، جيبـو!” “جيبـو هسـه، هسـه ولا أنـا بكسـر رأسـك الصغير دا، آه!” “هـوي..! أمسـكو! أمسك ولـد دا!” “هـوي، مـا تخليـهو يجري بيهـو! أيـوه، أمسـكو!” كـانوا يصرخـون هكـذا وهم يركضـون، بإهتيـاج شـديد، خلـفه، لإنقـاذ مـا إختطفـه. تلـك هي اللحظـات التي تقـوم فيها والـدته بضربـه بخيزرانـة. معليش، معليش، يا صديقـي! ومن ثم تسمـع كـوّه يصرخ ويعـول بأعلـى صـوته، راكضـاً، متفادياً، ضربه بالخيزران، وصائحـاً، كصفـارة إنـذار سيـارة الإطفـاء في منتصف اللـيل!

    ومـع ذلـك، كان كـوّه الصغيـر ولـدُ نشيـطُ للغـاية. بـعد أن يفعـل ذلـك، كان يبحث عن شـئ آخر، بينما يظل هـارباً. كـان دائم الحضـور سـاعة إجـراء العرض العسـكري، خـاصةً، عنـد وصـول والـده من رحـلاته الكـثيرة. هكـذا يظـل كـوّه هنـاك إلـى أن يشعر بالتعب في المسـاء ويلـوذ بالمنزل وإلقـاء جسـده في السـرير. أحيـاناً يجـد المـرء، كـوّه الصغيـر، وقـد لـوّن بعشـوائيةً، ملطـخاً، وموّسخـاً جسـده بحسـاءٍ أو لبـنٍ أثناء تنـاوله طعـام غـداءه، أو غـارقُ في نـوم مسـائي عميـق! ومـا أن تـألفه مستيقـظاً، فلا بـد أن تـراه، غـالباً، في كـل مكـان، وفي نفس الـوقت؛ هنـا وهنـاك، كشخصياتٍ عديدةٍ، متنـاقضـةٍ ومضغـوطةٍ في شخصيـةٍ واحـدة. كـالعـادة، كان كـوّه محبـاً لتعلـم أشـياء جـديدة وفهـم كيفية تجلـيها للعيـان حتى يقـلدهـا. كان حب الإستطـلاع واحـداً من أهـم أسقـامه.

    هـكذا، بإستطـاعتك أن تـرَ كـوّه الصغير كـل صبـاحٍ، راكضاً، ومُغنيـاً متمـايـلاً، ومتحـدثاً، وفي بعض الأوقـات، تجـده يُحـدّق بيقـظةٍ ليغتنم حِيَل و بعض من الأشيـاء الجـديدة المُذهلـة، كل ذلك يفعلـه بحريةٍ في جـوٍ صحـي كان يترعـرع فيـه. لكن كـوّه كان قـد علـم أن الحيـاة مليئـة بأشياء غريبـة وغير مُستحـبة. فـذات مرة رأى كـوّه، صبـي مشاغب قد سقـط من فوق شجرةٍ، مرتطماً بصخـرةٍ كادت أن تشُـق رأسـه! وهـكذا أصبح حـذراً جـداً من أن يتسـلق شجـرةٍ بأطرافـه الصغيرة. وقع، كـوّه، في حب النقّيفـة (النبلة): تلك الأداة التي يقـذف بها الأطفال الحصـى والحجـارة، وقـد حـاول إستخـدامها، لكن دون جـدوى، فقـد كان صغره وضعف عضلاتـه تحـولان دون ذلـك. ومـا كان منـه إلا أن هجـرها مباشرةً بعـد أن رأى صبيـاً ضُـرب علـى جبهتـه وقـد إنبجس منـها الـدم وغـطى وجـهه. ” لا، لا، لا، النبلـة بطال خـالص. بطـال، وو، ووو…!” هـكذا تجـرأ في أن ينصحنـي، همسـاً. كان يمُـج الـدراجة الهـوائية، أيضاً، كأخـطر “الحيـوانات” مطيـةً، في وقـتٍ كان الأطفـال لا يمـلكون دراجات هوائية إلا تلك التي إمتلـكها قبل عـام. لم يستخـدم أقـدامه الصغيرة، البتة، في تحـريك بدالات الدراجـة الثقيلـة كما كان يتعشـم في قـرارته. كان يعشق كـرة القـدم، لكـنه، لم يستطع ركل الـكرة بقـوة وإحراز هـدفٍ. ذات مرة، أخـطأ صديقاً لـه في ركـل الـكرة فقـام، بـدلاً عن ذلـك، بتسـديد صخـرةٍ وخلـع ظفـره. واه! متضـامناً مع صـديقـه، إنتحـب الصغيـر كـوّه وأهـدر دمـوعاً غزيراً، بينمـا أخـذ صديـقه في القفـز والـركض برجـلٍ واحـدٍ، وقـابضاً علـى الأخرى بيـده! بـعدها، تـراه يتصبب عرقـاً، كـأنه يُـدرب أقـرانـه، يضحـك ويعـدو بسـرعةٍ علـى قصبةٍ طويلـةٍ يضعها بين فخـذيها، كأنه يمتطـي جـواداً. كانت تلـك، هـي اللعبـة التي يحبهـا كثيـراً، وقـد يمكـث ساعات في ممـارستـها. كـانت هنـالك الكثير من الألعـاب التي يلعبـها الأطفـال، ولكـن، مـاذا يفعـل صغيـرنا كـوّه برجليـه وذراعيـه الـصغيرتيـن! لقـد كـان العمـر هو التـحدي أمـامه، و واقـع لـم يكـن ليـدركـه!
                  

04-05-2013, 07:20 AM

Deng
<aDeng
تاريخ التسجيل: 11-28-2002
مجموع المشاركات: 52561

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كوّه يوسـف كـوّه الشبل! بقلم. أدوارد لينو أبيى (Re: Deng)

    .
                  

04-05-2013, 08:48 AM

Sameer Kuku
<aSameer Kuku
تاريخ التسجيل: 03-28-2013
مجموع المشاركات: 1591

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كوّه يوسـف كـوّه الشبل! بقلم. أدوارد لينو أبيى (Re: Deng)

    القائد ادوارد لينو كان من الشخصيات المقربة جداً من يوسف كوة مكي و جبال النوبة و يعتبره وطنه الثاني.

    شكراً دينق على المقال.
                  

04-06-2013, 07:43 AM

Deng
<aDeng
تاريخ التسجيل: 11-28-2002
مجموع المشاركات: 52561

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كوّه يوسـف كـوّه الشبل! بقلم. أدوارد لينو أبيى (Re: Sameer Kuku)


    كوّه يوسـف كـوّه الشبل! (3-4)


    أدوارد لينو وور أبيى

    ترجمة : د/ أرثر غابريال ياك

    من بين رفقـاءه عمـره، كان كـوّه، قـائد بلا منـازع. القـيـادة شـئ يُطبـع ويتأصـل في الشخص منـذ الطفـولة المبـكرة. وأنهـا، أيضاً، قـابلـة للتطـور. كـان يمشـي، واضعـاً يـديه خلـف ظهـره، وممسـكاً بعصا، ويـومئ برأسـه، كـوالـده، فاحصـاً أعمـال من الطين والقصب صنعتهـا أيـادي رفقـاءه؛ بيـوت وحيـوانات وطيـور، أسلحـة و مراكب. بإمكـان المـرء أن يـر الأطفـال يستوعبون أوامره وتـوجيهاتـه، بطـاعةٍ، ويقظـةٍ، كما الجنـود يستجيبون لوالـده. أينمـا وُجِـدَ، وُجِـدَ الأطفـال. كـان الأطفال يجتمـعون تحت شجـرة تين وارفـة، ليتلقـون تعاليمهم ويلعبـون ألعابهم.

    هـذا الصبـي اللعـوب، كثير الكـلام، كان بعيـداً عن الشجـار أو إفتعـال عـراك، ربـما أنـه قـد شعر بـأنه قـائد؛ صفـةُ إستنسخها من والـده. فعنـدما يـكون وسـط زمـلائه، تجـده يغير من سلـوكه، وتصبح لغتـه حـازمة، صارمـة كقـائد! كــان، كـوّه، يبـدو كشخـص يعـرف أهميـة أن ينـأى المـرء بنفسـه من البـلاء وما يُثيـر الخلاف لكـي يتم حلهــا تباعاً. لقـد كـان يقـوم بحل الخلافات التي تحـدث بين أقـرانـه. وأينمـا صرخ طـفل أو بـكى تجـد الناس سـائلين: دا منو، آه؟ كـوّه! يـا كـوّه! في شنـو حصـل؟ دا كـوروراك بتا شنـو؟ آه..، دا منـو؟” حينهـا يقـفز كـوّه، دون خـوف، ويفـرض نفسـه كفاضٍ للنـزاع أو قـد يستنجـد بشخص أكبر ليتـدخل. ورغـم صغـر سن كـوّه إلا أنـهه كان قـد فـرض نفسـه كصـانع سـلامُ شجـاع، في أرضٍ كانت تظمـأ للسـلام.

    كـان، كـوّه، يـلجـأ إلـى مشـاركة أقـرانه كل شـئ يملـكه، وقـد كانت تلـك خصـلةُ عُـرِف بها وسـط زمـلائه، و جعلـته أكثر شعبيـةً. فقـد رأيتـه ذات مرة، مُنهمـكاً، وهـو يشـق قطـعة حلـوىٍ بحجـرٍ ليتقـاسمها مع أصحـابه! كـل ذلـك جعل الأطفـال يحبونه، ومنـحه شـهرةً، خـاصةً عنـدما كان يقـوم يفُض خلافـاتهم. كـان ينشـر في الأطفـال أنبـاء عن الـذي وصـل، ومن غـادر وإلـى أين، وعن مـا يحـدُث، ومـا فُعِل، إلـى جانب كل مـا كان يعـرفه. بدون شـك، أن كـوّه، كان علـيمُ بأشياء، بموجب المناخ العام لمنـزلهم الـذي يأتي فيه الأخبـار من كـل أنحـاء الجبـال، ثـم تنتشـر. كان كـوّه يقـلد ويقـقهـه وهو يـروي قصصـه، مصحـوبةً بحركات يـدوية مضحكـةٍ، بينمـا الأطفـال يصغـون إليـه بإنتباهٍ شـديدٍ، وينفجـرون ضاحكيـن، وهو مـا يزال يحكـي قصصـه دون إنقـطاع. كـان، كـوّه، يُحب ويُحـظى بإحتـرام أقـرانه. بالطبع، قد يكـون الأطفال لعـوبين، لكنهـم في الوقـت ذاتـه، أكثـر جديـةً. وعنـدما يفعلـون شيئـا يـكون ذلـك بصـدقٍ وإخـلاصٍ وبـدون إدعـاء!

    قـبل أعيـاد الكـريسماس ورأس السنـة لعام 1998، جـاءتنـي طرود بسكـويت وحلـوى وبلـح معبـأةً في كـرتونـةٍ كبيـرةٍ. كان ذلـك الطـرد الخـاص، قـد بُعِـث إلـىّ من قبل القـائـد، يوسـف كـوّه، من العـاصمة نيـروبـي لأحتفـل بأعياد الكـريسمـاس ورأس السنـة الميـلاديـة التـي كنا أعـدنا لهـا العدة لنحتفـل بهـا علـى طريقتنا المتـواضعة. دائمـاً ما يحتفل الناس، في جبـال النـوبة، معاً، سـواء أن كـان ذلك عيـد كـوربان بيرام، أعيـاد الكريسمـاس، الفـطر، أو عيـد الفصح! فقـد يجـد المـرء في الأسـرة الـواحدة، مسلمون ومسيحيون، غير مؤمنون ومن هم يتبعـون كريـم المعتقـدات الأفريقيـة، كـل هـؤلاء تـألفهم يحتفلـون—دون تمييز— في مناسبة واحدة. لـذا، في تجهـيزاتنا للاحتفال بأعياد الكريسماس ورأس السنة، كـان لدينـا وفـرة من الخمـور المحليـة وثيـراناً للـذبـح وغـذاءً كثيـراً. كـان ذلك يوماً خاصاً يـأتي مرةً في السنـة، عنـدها يـحسُ قلـةً من الأطفال بشعـورٍ جديـدةٍ. وبينمـا كـوّه الصغير يصـول ويجـول، ينتـابه دهشـة عارمـة وهو يكتشـف بأني أمتلـك كميـة كبيرة من الحلـوى والبسكـويت والبلـح وبمقـدرته الحصـول علـى شـئ منها. آنـذاك، لم تـكـن هنالك دكـاكين وأكشـاك، في لـومون والجبال المجـاورة، يمكـن للمـرء أن يبتاع منها شـيئاً. لكن من أين، ولمـن بمبلـغٍ من المـال! في ذلـك اليـوم، ومنـذ أن حل النهـار إلـى وقتٍ متـأخرٍ من المسـاء، لم يغـادر كـوّه مكـان سكـني. فقـد إمتـلأ سعـادةً وحبـوراً بما ظفـر بـه، وآثر أن يقضـي علـيه بمفـرده، في هـدوءٍ وسـلام. وأبـى أن يـذهب إلـى أي مـكان خشيـة أن يضـايقـه الأطفـال. كـان ذلـك هو المـرة الأولـى التي حطـت فيها الحـلوى أرض لـومـون بعـد فترةٍ طويلـةٍ جـداً!

    لم يكـن هنالك من تم مكـافأته بالمـال أو شـئ من هـذا القبيل طيلـة سنـوات التحرير. كنا جميعـاً متطـوعون وليس إلا! لـذلك، كان شـراء شـئ من دُكانٍ أو كُشـكٍ في كل الأراضي المحـررة بجبال النـوبة أمر يمكـن حـدوثه في الحُـلم فقط. لـهذا السبب، إنبـهر أطفالنـا المحرومين، بالأخبار السعيـدة التـي تقـول بأن الحلـوى والبسكـويت والبـلح قـد وصلت، أخيـراً، وبسـلام، إلـى لـومون، علـى الرغم من أنهـا ظلت تحت سيطـرة ال “كـوماندر أدويت”، كـأنها خُـردواتٍ أو ذخـائر. أعتقـد الأطفال بأن تسليمي هذا الطـرد، كـان خطـأً جسيمـاً، و أصبحت أنا، حجـرة عثرة بينهم والحـلوى. وقـد كان ذلـك هو اللُغـز الـذي ظهر جليـاً في وجـه كل طـفلٍ رايتـه. فقـد اعتبرني الأطفال بأنـي قـائد شمـولي جشـع، إستـولـى علـى الحـلوى والبـلح والبسـكويت، فـأخـذوا يبتعـدون عني وإعتباري “أنـكُل سـئ، صعب المـراس” لا يعبـأ بالإطفال، وليس لـديه من بينهـم طفل.

    منـذ ذلك الـوقت، أخـذ كـوّه الصغير، وبمعيتـه أطفال آخريـن، يأتون إلـي، بعـد أن أفـلح هـو في فـك الحصار. وكان يأتون كلما رأوا كـوّه مستيقـظاً. كان يـأتي إلـى مكتبي، وبمسـاعدةٍ ما، يقفـز إلـى كرسي وثير موضوعُ علـى شمالي، ليجلس بـهدوءٍ، وإنتباهٍ، علـى أمـل ان أشعر بـوجوده، وتستعطفـني حالته، ومن ثم منحـه قطعة بلحـاً، أو بسـكويتاً، أو حلـوىً. كان يتصـرف كشخص نـاضج يهتم بي بطريقـةٍ إنتهازية، الأمر الـذي لـم أستسيغـه البتة. فقـلت له ألا يفعل ذلـك مرةً أخرى، وإلا، سـوف لا امنحـه بلحـا، أو بسـكويتا أو حلـوى! أصغ السمع إلـي وأخـذ قـولي هـذا مـاخذ الـجد، مُنكص الـرأس، ومُحـدقاً في الأرض لبـرهة قصيرة. كـان الأطفال، في لـومون و كـاودا، أكثر حظـاً من أقـرانهم في منـاطق أخـرى من جبال النـوبة. وقـد كـانتا من المنـاطق التي تهبـط فيها الطيران، آتيـةٍ بضيـوفٍ من الجنـوب وشـرق أفريقيا والنيل الأزرق، خـاصةً منطقـة جيـدل التي كان بهـا مبشـرين. بعيـداً في المنـاطق الغربية لجبال النـوبة، خاصةً منطقـة سـيلارا، المنطقـة السـابقة للكعـك والحـلـوى والبسكويت قبل إنـدلاع الحـرب؛ أصبـح الأطفـال يبتعـدون ويهربون من الحلـوى والبسـكويت، ويرفضـونها لأنـهم وُلِـدوا، في حُرمانٍ تام، إبان سنـوات الحرب. حلـوين كما كانـوا، لم يعرف الأطفال الحـلوى!

    ذات مرة، شعرت بحُمـى أشبـه بأعراض المـلاريا، وهـذا شـئ طبيعـي لكـل سـوداني! الناس في السـودان يقـولون: ” إن لم تُصـاب بالمـلاريا، فأنت لست سـودانياً” غايـة السـخرية، لكنها، بالطبع، لُغـة مـقززة للنفس! متعبـاً كما كنـت، قررت أن أخـذ قيلـولة في ذلـك النهار. سمـع صديقـي كـوّه بنبـأ وعكتـي الصحيـة وجـاء إلـي، ببطء، وجلس بالقرب منـي وهو يراقبني، كالمـلاك الحـارس، وأنا أغُط في نـومٍ عميق. عنـدما جـاء أحـد حراسـي، همس إليـه كـوّه، مُحـذراً أيـاه أن لا يُصدر صـوتاً أو إزعـاجاً حـتى لا يـوقظنـي لأننـي مريضُ. إلا أن ذلك الحـديث المفترض أن يـكون هامساً، كـان قـد أوقظنـي، فلـم يكـن كـوّه يدرك بأنه كـان غير هـادئـاً. لمحتـه حين أخـذ يضع سبـابته عـلى شفتيـه في إشـارةً واضحـة للصمت التام. نـاديته، بينما كنت أضع الوسـادة علـى وجهـه. حيث لم أعلـم بأنـي صببت عرقـاً غزيـراً وأنا نـائم. مـا برئ أن إستجـاب، كـوّه الصغير، في الحـال، فوقف بطـريقةٍ مثيرة للشفقـة وهو يحـاول أن يخفف وطـأة الحُمـى التي طغت علـيّ بوضع كفـه علـى جبهتـي قـائلاً: ” يـاآه! شنـو، انت عيـان يـا كوماندا؟” “أيـوه، أيـوه.” كان ذلـك ردي، ثم إنقلبت لأراه. ” آها، إنت عندك حُمـى؟ جسمـك سُخُن خلاص. يـا! نجري نكلم ماما عشـان يعمل ليـك مديده، شـاي ولا عصير ليمـون؟ إت عارف، عنـدنا ليمـون. خليني نكلما.” ثم ركـض صـوب المنزل لُخبر أمـه. فقد شعر بأن ذلـك مسـئوليته مباشـرةً!

    في وقـتٍ آخر، وبينما كنا الأثنين في مكتبي، رأيت كـوّه الصغير يقفـز من علـى الكـرسي، بسـرعة، راكضاً نحو رُكـنٍ قصـي يقـع عـلى يميني، بينمـا يحاول، بإهتيـاج شـديد، فـتح زمام (سُستـة) رداءه البني، لكن دون جـدوى. قـد يشعر المرء بأن لسـان حـاله في ذلـك الوقت يقـول: ” هيـا، النجـده، النجـده! بحـق الجحيم، مـاذا بك أيها الـرداء، ماذا بـك؟ وعنـدما لم يفـلح، قـرر كـوّه الصغيـر، إنـزال رداءه، كمـا لـو كان يقشّر قطعـة مــوز ناضج. وعنـدما شعرت بأن ذلك قـد أقلقـه بشـدة، أمسـكت بما كان يضـايقه، قتبـوّل، بإرتيـاحٍ، داخـل المكتـب. فـدخل أحـد الـذين يخـدمون المكتب، وحاول أن يـوبّخـه، لكنـي تـدخلتُ، ” لا، خليـهو براهو!” وعنـدما أفرغ مـثـانته، جلس كـوّه بهـدوٍ. حـدّق، علـى الأرض، بيأسٍ، وقـصد الكـرسي. في ذلـك اليـوم، رأيت جردلاً مملـوءاً خجلاً بـارداً قـد سُكب علـى وجهـه البـرئ، الصغير! رفع عيـونه اللامعـة إتجـاهي، ثم ثبتهما إزاء ذاك الركن، بينمـا ظل هـادئاً. وظهرت علـى أرنبة أنفه حُبيبـات عـرقٍ، وكنـت أرى روحـه المتمزقـة. لقـد شعـر، كـوّه الصغير، بخجـلٍ عارمٍ! مُتـأثراً بعمـقٍ، بما رأيتـه، مددت يـدي إلى درج مكتبي، وملأتها حـلوى ومنحتها أياه دون أن أنبس ببنت شفة. استقبل هديتي، بهـدوء، وإنحنى ببطء، ثم نظر إلـى الجهة الأخرى، منزلقاً من الكـرسي بسهولة، كمنـديلٍ مصنـوعٍ من الحـرير.



    منقول من صحيفة المصير:

    http://almasier.net/news/?p=11114
                  

04-07-2013, 08:15 AM

Deng
<aDeng
تاريخ التسجيل: 11-28-2002
مجموع المشاركات: 52561

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كوّه يوسـف كـوّه الشبل! بقلم. أدوارد لينو أبيى (Re: Deng)

    الأخ سمير كوكو

    شكرا على مرورك يا حبيب.
                  

04-07-2013, 12:44 PM

Artiga Gilani
<aArtiga Gilani
تاريخ التسجيل: 02-16-2013
مجموع المشاركات: 1073

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كوّه يوسـف كـوّه الشبل! بقلم. أدوارد لينو أبيى (Re: Deng)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    دينق
    مع انى قررت انو ما شارك
    فى اى بوست يخصك ..
    ولكن ما قرأته لادوارد لينو
    اجبرنى على المشاركة لتحيته
    على هذه اللوحة الفنية ...


    ارتيقا
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de