|
|
الجسد والحقيقة ... رواية يقتلها القدر على جدران المدينة !
|
على وجه جدار المدينة الممتد حتى نهايتها وعند بداية درج السلم النازل لأسفلها لفت انتباهي ذلكم الشاب الاسيوي نحيف الجسد مكررا وقوفه الصلد بجانب عربته تلك المليئة بالماء كلما مررت بقربه... لم يكن دوما ينطق الا بصوت خافت وابتسامة تخفي وراءها عذابات اطفال ينتظرون على الجانب الاخر من العالم وعلى بعد عشرات الالاف من الاميال او هم آتون! وعلى ذات وجه الحائط تترجل اطياف المارة نزولا وصعودا من على الدرج وكلهم يرمق المكان بالآلاف الاسئلة الغير منطوقة يهمسون بها حياء او دهشة او ربما تحفظا.. اقتحمت هدوء ذلك الشاب بعد مرات عدة من المرور حيث لم اجرؤ في اي منها ان اتحدث اليه، فمد الي يده مبتسما و بصوت باهت تسرب الى اذني كتحية المسلمين لكنه ربما قد اختلطت بقامته لغة التعابير جميعها فهي ترسم لوحة لانسان يترنح بين الحياء والوجل وبين الهم والفرح المصنوع قسرا .. تبدو عوالمه المحيطة بسيطة ومرتبة ومنزوية الى الجدار كأنها تحاول ان تتوارى عن اعين المارة ... حاولت سؤاله عن سبب تواجده المتكرر هذا! لكن منيرة قد اقتحمت المكان اثناء نزولها للأسفل مقاطعة تساؤلي بتطابق مذهل: انا نفسي كنت اتساءل يوميا عنه ! بل كتبت في دفاتري عن لغزه المحير هذا ! ربما آتيك بواحدة من خواطري العبثية التى تضمن بعضها هذا المشهد المدهش ! كانت هي المصادفة وحدها التى جعلتنى احس ان من بين المارة من شده هذا الواقع المتكرر ..على اية حال فقد اكدت تساؤلات منيرة اننى لست وحيدا أتساءل! لاحظت في طريق نزولي و صعودي داخل المدينة ان هناك ثوابت لا بد لاي مار ان يحس بها كما ان هناك ملفتات قسرية تشد انتباهك ناحية اليمين او اليسار بصورة آلية.. يبدو وقع الاقدام الى جواره كدبيب النمل لا يمل ولا يكل وتتغير روائح العطر وتتدرج بعشوائية غريبة تبعا لتغير المارة بين الرجولة والانوثة بكافة ألوانهما وطقوسهما ... يخلق هذا التمازج الصاخب بين العطر والصوت انشودة متهكمة تكرر مفرداتها نظرات المدينة وحسها الداخلى .. وهو لا يزال تراه مكوما اصابع يديه في حياء الى الوراء ومرسلا ساقيه في زاية حادة مع الحائط الذي يستند عليه ظهره بلطف... وما ان تقترب من اذنيه اصوات القادمين او الرائحين يتبدل وضع ساقيه الى الزاوية القائمة وترتسم على ثغره ابتسامة قسرية مصنوعة تميزها بحدة بالغة وهي مشدودة ككوب زجاجي شفاف شارف على السقوط من اعلى قمة المدينة ! ايمكن ان تكون ذات الطريق المؤدية الى اسفل المدينة هي طريق النهاية واللاعودة ! ام هي بداية لصعود جديد... على كل لم يكن بالاسفل مختلفا عن الاعلى فجميع الاطياف تتكرر بمراتبها ومستوياتها المختلفة تكاد لا تميز من كل هذا الحراك سوى بعض الاوجه والالوان… وعلى هذا لن تحس باختلاف للهبوط عن الصعود فأنت ببساطة نسخة من نسخ متشابهة اخرى وان اختلفت المبادئ والقيم والامزجة ! تبدو دوما النوافذ مشرعة داخل المدينة في كل ردهاتها والحركة تبدو دائبة حولها والحواجز جميعها معطلة رغم وجودها... هذا المتنفس الرحيب جعل من انسان هذه المدينة متبلد الحس متجدد الاصطناع ومكرور الهيئة والرسم .. لكنه منسجما تماما مع واقعه يلاطفه باصطناع متعمد ويتجاوزه بحنكة مكتسبة من المدينة نفسها.... قبل ان يبادلنى احمد التحية قصدت ان اجبره على كسر هذا الروتين المألوف وفي معيتى تراكم من المعاني والاسئلة المتلاحقة.. السلام عليكم ... وعليكم السلام .. انا عمر واضح اننى من السودان - واخذت ضحكة خفيفة لكسر الروتين ايضا وانا احمد .. طبعا (كلنا شاربين مية النيل ياعم ) .. وضحكنا سويا كم قضيت هنا ؟ ياسيدي ما تعدش ! يعنى قديم هنا حضرتك ! انا من مؤسسى المدينة دي ياسيدي ... الله يكرمنا واياك... تشرفت بهذه الفرصة ... اظنك مشغول سنلتقي مرة اخري حتما ان شاء الله ... ولنا عظيم الشرف ... شكرا... بعد هذه اللحظات القصيرة التى التقيت فيها احمد تداركت معها ان المدينة تحتاج لمبادرات مستمرة لكسر هذه البرامج المحفوظة والمتكررة.. كما انه يتحتم على ان ابادر وحدي اذا ان الجميع قد اكتفي بالبرامج والمؤثرات المتعددة حتى صارت رغبتهم في المبادرة منعدمة او ربما يفرون عنها عن قصد... اجتاحتني بوادر حمى وغثيان بقرب العيادات الخارجية لمستشفى المدينة ورعشة كادت ان تفتت امعائي ... ارتميت على كرسي قريب وظللت اقاوم هذه اللحظات العصيبة بتأوه داخلى قاس ... اقترب منى رجل في نهاية عقده الثالث تبدو ملامحه مالوفة بعض الشئ بجانبه كانت تسير طفلة تدمع عيناها فسالنى بلهجة سودانية : ياخي انت مع الناس ديل؟ - الناس ياتم؟ ناس المستشفى؟ - ليه ... في شئ؟ لا والله.. بس المرة تعبانة شوية... خليتا هناك في السيارة ماقادرة تمشي - شوف الطوارئ من المدخل ناحية اليسار بيساعدوك وبدخلوها وعندهم اطباء سودانيين بقوموا بالواجب - اديك العافية ... ذهب مسرعا نحو الطوارئي واختفي داخل الناحية اليسرى وتبعته تلك الطفلة التى اغلب الظن انها كانت ابنته.... من نفس الجهة لمحت احمد خارجا صوب المصعد فناديته: - دكتور احمد ...دكتور احمد سمع ندائي وقدم الى وجسدي كاد ان يستلقى على الكرسي من شدة التعب .. سألنى: عمر؟ ايه حا تنام هنا واللا ايه يا عم؟ ثم اردف سريعا: الله الله الله .. دا انت تعبان جدا ... الف سلامة ... مالك في ايه ؟ لا.. لا تعبان ولا حاجة ان شاء الله بسيطة ... ممكن بس اصل الحمام ؟ أوي أوي ... عينى الاتنين ... شكرا يا دكتور كتر خيرك ... الحمد لله تنفست الصعداء بعد مساعدة دكتور احمد.. وهدأت حالي كثيرا ... لكننى تذكرت ان اذهب الى قسم الطوارئ حالا .. وجدته فقد كان يتحدث الى الدكتور محمد الذي اعرفه وقد عاد لتوه من اجازته السنوية ... حمد الله على السلامة يا دكتور محمد ... اها يادكتور ... بشر ان شاء الله الزول دا ما قصرت معاهو ؟ - الحمد لله مافي عوجة ... دخلناها الطوارئ و ان شاء الله بسيطة .. - الحمد لله ان شاء الله ما في مشكلة تعال استريح بي جاي اتجهنا سويا الى بهو الانتظار الرئيسي بعد ان وعدنا الدكتور محمد بانه سيتابع الحالة شخصيا ويبلغنا اول بأول بادرت الزائر بالسؤال المعتاد عن زوجته المريضة : - مالا هي ... بتشكي من شنو؟ - والله من ايام كدا حست بالام حادة في الظهر مؤلمة جدا لدرجة انها ما نامت وواصلت الليل بالنهار آخر ثلاتة ايام .. - يازول ؟ - آي والله - لا انشاء الله خير .. تهون ان شاء الله ... - من وين في السودان؟ - والله احنا رباطاب وساكنين امدرمان الثورة الحارة السابعة ... - يازول ؟ السابعة وين؟ - محطة (الاكشاك) - يازول ؟ ... عندنا خالنا بي هناك .. ناس حسين صالح بتعرفم ؟ - يازول ... كيف ديل حبايبنا وناس مؤسسين وقدامي بالحي - والله فرصة سعيدة انو اتعرفنا عليكم اليوم .. - ياسيدي احنا الاسعد .... ثم اتت باتجاهنا مسرعة الممرضة " مالو" منادية: - بليز سير ..( آر يو) محمد؟؟ اجابها قائلا :( يس ) وتوجهنا مسرعين الى حيث غرفة الطوارئ ... الا اننا وجدناها قد فارقت الحياة .. - أجهش محمد باكيا بصوت عال ونحيب مفجع ... الله يرحمك .. الله يرحمك ... في امان الله ... في امان الله...
|
|
 
|
|
|
|