سنوات البشير.. "انهيار أسطورة الدولة السودانية" - فصول من كتاب -

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 02:57 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-02-2013, 08:06 PM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سنوات البشير.. "انهيار أسطورة الدولة السودانية" - فصول من كتاب -


    سأنشر هنا فصول من كتابي" سنوات البشير - انهيار أسطورة الدولة السودانية"

    أولا:

    الأسطورة

    التأسيسات ومحاولة فهم ما قبل !


    (1)

    المدنية والسلطان في "سودان الإسلام"

    يشكل سؤال "المدينة والسلطان"، أحد الأسئلة الملحة في الحياة السودانية على مدار أكثر من خمسة قرون. تحديدا في اللحظة التي تأسست فيها الدولة المسماة بسلطنة أو مملكة الفونج 04-1505م، والتي وصفت بأنها أول دولة إسلامية سودانية. وهو وصف مشكل في حد ذاته - بجمعه بين صيغتي الإسلام والسودان - الإسلام باعتباره لم يقدم أي مشروع واضح ومثالي أنموذجي لمشروع الدولة الإسلامية وفق التصور المقدس، الذي هو في أساسه مجرد صورة ذهنية لمدينة فاضلة لم يكن لها وجود ذات يوم، والسودان لكونه صيغة غامضة ومدرجة تحت عدد من التأويلات المفتوحة، لكيان يوصف أحيانا بالتفسير الجغرافي البحت، دون أن يعطي هذا التفسير أي دلالات واضحة، أو يوصف بفكرة لهوية لا محددات لها.
    لكن مشكل الوصف "إسلامي/سوداني"، لا يقف عند حد ما ذكر، حيث يتشعب ليكون بإمكانه احتواء مناخات أكثر غموضا في ظل خضوع العقل المنسوب للسودان بمعناه الحديث، كنتاج إمبريالي، إلى تقلبات وحالات من الدوران المتلازم مع فلك الحياة الإنسانية على الأرض، مع رحلة التيه لكائن يفتقد للمعنى إلا في حدود ما ينتجه من معرفة وخواص تجعله يقترب من ذاته بقدر مزعج، يحقق الاستغراق لحظيا في دائرة فوضى سلطة الزمن وقوانينه المؤنسنة، بيد أنه لا ينفك أسير العشوائية والنزوح إلى ذات البدايات.
    فالوصف في حد ذاته ليس له معنى، أو دقة. لأنه حتما نتاج مابعدي، لما تشكل في الماضي بطريقة قد تكون مغايرة تماما لما جرى اعتماده لاحقا. خاصة أن التاريخ لتلك الفترة افتقد لمصادر واضحة، أو بالأحرى هي شحيحة أو منعدمة تماما. وحتى لو توفرت هذه المصادر فليس معنى هذا أننا أمام حقائق، لأن التقرير المبدئي سيكون إحالة التاريخ إلى هوى السلطة التي كتب في زمنها.
    وإزاء ذلك فنحن أمام كيان هلامي، متشتت الهوية، مجهول الجذور. لذا كانت الاختلافات جلية حول متى بدأت تلك "الدولة الإسلامية" والكيفية التي تأسست بها، وأصول من أسسوها. "وبالرغم من أن هذه الحقبة من تاريخ السودان قريبة منا نسبيا فإن مصادرها قليلة ومشوشة والعهد الذي سبقها في علوة المسيحية كان أشد غموضا" كما يذهب المؤرخ مكي شبيكة.
    دولة بني ربيعة:
    ومن جهة ثانية فإن أهلية الفونج لاحتلال مقام السبق بوصفها الدولة "الإسلامية" الأولى في تاريخ السودان، هي قضية ذات جدل، فثمة إشارات مغايرة إلى أن أول دولة بذات المفهوم المشكك فيه أصلا، هي دولة "بني ربيعة" التي لم يرتض مكي شبيكة أن يسميها دولة، تماشيا مع منظومة السائد في وصف الفونج بقصب السبق، حيث سماها "دويلة إسلامية" ، وقد امتد نفوذها من أسوان جنوبا في بلاد النوبة وشرقها في الصحراء إلى البحر الأحمر، وتنسب إلى مؤسسها بشر بن أسحق بن ربيعة، وكان ذلك في حدود منتصف القرن العاشر الميلادي.
    وهي "الدويلة" التي استحق ملوكها لقب كنوز الدولة بمكافأة معنوية من الحاكم الفاطمي الحاكم بأمر الله، عندما استطاع ملك بني ربيعة، أبو المكارم هبة الله، القبض على الثائر أبي ركوة الذي كان من معارضي النظام الفاطمي والمحققين لانتصارات ضده في شمال أفريقيا إلى أن هُزِم في الفيوم المصرية ففر لاجئا إلى بلاد النوبة فانتهت حياته بفوز أنجال بني ربيعة بلقب الكنوز.
    ومن هذا السرد يبدو واضحا أن "الكنوز" لم يؤسسوا دولة ذات استقلالية، حيث كانوا بشكل أو بآخر تحت إمرة الحاكم الفاطمي الذي يدبجهم بالألقاب. كما أن دولتهم كانت تعاني منذ بدء تأسيسها من النزاعات الداخلية بين بطون قبيلة بني ربيعة، الأمر الذي أدى إلى قتل مؤسسها أولا، ليخلفه ابن عمه المعروف باسم ابن يزيد اسحق.
    ومن خلال المصادر الشحيحة حول هذه "الدويلة" نجد أن جل همها كان يقوم على موالاة الفاطميين والحرص على رضاهم من خلال مد نفوذها في بلاد النوبة، ولعل اعتراف الفاطميين بها ودعمهم لها كان ضمن خططهم لمد نفوذهم جنوبا حيث بالإمكان فتح أسواق جديدة للرقيق والنخاسة، وتطلب ذلك أسلمة النطاق الجنوبي ومحاربة المسيحية ومصاهرة أهل الجنوب، وكل ذلك كان لأهداف سلطوية تكتيكية، أراد منها بني ربيعة الحفاظ على دولتهم لأقصى زمن ممكن بتحالفهم مع العلويين الذي كان بمثابة شؤم عليهم عندما حل صلاح الدين الأيوبي حاكما على مصر، والذي أتهم سلطانهم بأنه لا يزال متشيعا للعلويين وأنه لعب دورا في حركة ثورية لم تكتمل فصولها كانت ترمي لإحداث انقلاب على نظام الأيوبي لصالح الفاطميين في مصر، ورغم أن سلطان الكنوز حاول أن يلعب فيما قبل دورا في تملق صلاح الدين بالوقوف معه ضد مجموعة من الجند السودانيين الذين كانوا قد حاولوا إقصائه عن الوزارة في عهد الخليفة العاضد الفاطمي، إلا أن هذا التملق لم يخدمه حيث سير الأيوبي حملة لغزو دولة الكنوز، استطاعت أن تقضي على "كنز الدولة" ودولته، فتشتت الكنوز إلى الجنوب واندمجوا مع النوبة.
    ويتضح من هذا السرد أن تلك "الدويلة الإسلامية" كانت تفكر في أدوار أكبر منها رغم عدم استقرارها الداخلي، مثل المشاركة في الحركة الانقلابية المشار إليها، أضف إلى ذلك قيامها بقتل والي صلاح الدين في جنوب مصر في حملة سيرها الكنوز على المنطقة الواقعة تحت سيطرته بعد سوء العلاقة بين الطرفين، وقد كان بإمكان دولة بني ربيعة أن تنسج علاقة جيدة مع الأيوبي بيد أنها أرادت أن تلعب على الحبلين كما يقال، (الموالاة الظاهرة واللعب الخفي)، الأمر الذي أفشلها وأدى لنهايتها، فقد كانت الأحلام أكبر من الواقع، وعلى ما يبدو أنهم كانوا يطمحون في قيامة إمبراطورية إسلامية تمتد إلى مصر ومن ثم باقي بقاع الدنيا، وهو ذات الحلم الذي سيحمله فيما بعد في نهاية القرن التاسع عشر خليفة المهدي، عبد الله التعايشي، ويتكرر المشهد في نهاية القرن العشرين بحلم آخر حاول أن يقوده الدكتور حسن الترابي بإقامة مشروع الدولة الإسلامية الكبرى انطلاقا من "دولة الكنوز الجديدة".
                  

02-02-2013, 08:12 PM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فصول م (Re: عماد البليك)


    الفونج ودنيوية الدين:
    بيد أنّ السؤال الأكثر مركزية، مع ضرورة تهميش مفهوم فكرة المركز، واستخدمها فقط لحاجة تفسيرية مؤقتة. هو سؤال يخارج ذاته بسهولة من مشكل "إسلامي/سوداني"، بحيث ينفتح على ما ابتدأت به "المدينة والسلطان"، أو جدلية العلاقة القائمة بين فضاء مكاني قادر على تذويب الذوات وإعادة إبداعها لتكون مجرد ذوات افتراضية، وأحد "مراكز" هذا الفضاء والذي يعبر عنه بالسلطان أو الملك أو السلطة الحاكمة التي لها السيادة. وقبل أن يدخل العرب السودان فإن هذه السيادة شكلها أساس الإقليم الجغرافي، ولم يكن مفهوم القبيلة واردا، حيث أنه اختراع عربي، فالسودان في العهد المسيحي كان يحكم على هذا الأساس الإقليمي، وهو الأمر الذي يقود إلى أن الإشكاليات بخصوص الجزء الأول من ثنائية (المدينة/السلطان)، لم تكن قائمة، في حين كان المشكل بخصوص الجزء الثاني، حيث كانت السلطة المركزية في يد الملوك، وكانت العلاقة طبقية بحتة: سادة وعبيد، حكام وشعب، وكان الملك هو السلطة المطلقة "يمتلك كل الأراضي ويعتبر رعاياه من عبيده لاحق لهم في امتلاكها أو التصرف فيها بالبيع والشراء" .
    ولعل التأكيد على أن الجدل يدور حول الثنائية المذكورة، أن "الدولة الإسلامية" في الفونج، لم تكن إلا مجرد إطار صوري للإسلام يقوم على إنزال حد القصاص وتحريم الخمر، وإن كان الناس بما فيهم الحكام يشربونها سرا، وافتقدت تلك الدولة لخصائص الإسلام في أبرز معانيها الحفاظ على النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ففي أحد مستويات السلطة كان الملك عند احتضاره يأمر بقتل جميع أخوته لإزالة فرص المنافسة والمؤامرات، حتى يبقي القوة لمن أراد من بعده، وإن كانت المصادر تذهب إلى أن الاختيار لا يتم بواسطة الملك مباشرة وإنما بمجلس يتم تعيينه بقرار ملكي، ولن ينأى الأمر بعيدا، فما يحدث هو تفويض غير مباشر، وقرار مستبطن لسلطة لن تغادر محلها حتى بعد رحيل صاحبها. والدولة لم تكن إلا كيان متشظ متشرذم، قائم على الصراعات القبلية المغرقة في الجهل، والمؤامرات التي لا تنتهي ضد الملك وأعوانه، أضف إلى ذلك الحروب التي اشتعلت مع الجارة الحبشة. ورغم كل هذا كان "الملوك المسلمون" اسما، يعيشون ترف الحياة وبهجتها غير آبهين بدين ولا شعب.
    كتب الطبيب بونسيه يصف ذلك المشهد:"ومن عادة الملك أن يخرج في ركب عظيم كل يوم سبت وأربعاء من كل أسبوع، إلى إحدى الضواحي، تتقدمه ثلة من الفرسان ما بين 300و400 فارس، ويحف بالملك عدد من البيادة بموسيقى طبلية يتغنون بمدائحه، ويأتي بعد ذلك موكب عماده نحو 700 أو 800 من النساء والفتيات يحملن سلال الطعام من لحوم وفواكه، وفي المؤخرة عدد من الفرسان مثل المقدمة. وعند وصول الركب إلى المكان المقصود يترجل الملك وتترجل حاشيته ويجلس إلى الطعام وهو ملثم بحرير شفاف متعدد الألوان الزاهية، وتتناول الحاشية الطعام ويتبارى الملك مع كبار دولته في التدريب على إصابة الهدف بالبنادق".. والذي يذكره بونسيه هنا:" أنهم لا يجيدونها.. وفي المساء يرجع الركب بنفس التشكيل إلى العاصمة".
    هذا النص يكشف كيف أن السلطة الدينية مارست دورها الدنيوي البحت منتعلة الدين كحذاء تدوس به على العباد كما سيتضح لاحقا من خلال تحليل نص بونسيه. فالأسبوع يفتتح (السبت) بهذا المشهد الدراماتيكي، والذي يبدو كما لو أنه مجتزأ من ألف ليلة وليلة، ويختتم ما قبل الخميس بذات المشهد. ورغم هذه الجمهرة التي تحف بالملك إلا أنه من الجلي مهدد بالموت في أي لحظة، فالفرسان في المؤخرة والمقدمة، وحتى لو كان التفسير يخضع لفكرة المشهد الاحتفالي إلا أن قضية الخوف على السلطان ورادة باعتبار غياب الأمن في دولة مشحونة بالدسائس والمكايد. ويبلغ الشغف الدنيوي ذروته في البذخ في الأكل والشرب والملبس والحاشية. ولنا أن نلاحظ أن هذا التصوير لا يكاد يذكر أي شعيرة دينية مرتبطة به، فالملك يعود في المساء وهذا يعني أن أوقات الصلوات قد مضت. ومن المحتمل أن بونسيه تغافل هذا الأمر وركز على التصوير الاحتفالي.
    أما ذروة لذة النص وبهجته في ما يكشف عنه النص من انعدام الخبرة في تصويب البنادق بالنسبة للملك وكبار دولته وهم الوزراء والأعوان، وليس المقصود بهم الحراس والجنود. فهذا الملك لم يوفر لنفسه الوقت المتواضع لكي يتعلم كيف يصوّب بندقية، حيث أوكل المهمة لمن يقوم على حمايته وكذلك وزراؤه ارتضوا نفس الدور الملكي ال########، دون أن يهتموا بكل تأكيد لسخرية من حولهم من "حور الأرض"، تلك السخرية المستبطنة من الكائن الأنثوي، فليس جملة المشهد إلا إطار تمثيلي يدركه كل طرف، في خطاب صامت.
    هذا الوضع ليس إلا إطار سلطوي بحت، لا يمت للدين بصلة، وهو يمارس بكل عفوية وأحقية مكتسبة من اللاوعي الجمعي المسيطر، والمتأتي من تجارب الدولة الإسلامية في العصور الأموية والعباسية وغيرها. وما فعلته الفونج أنها أعادت تكرار ذات ما حدث، وربما بصورة أسوأ وجهل كبير، لأن تلك المدنيات رغم ما كان فيها من مظاهر الترف السلطوي والتناقضات التي تدلل على مفارقة العقدي للممارسة المعاشة، إلا أنها من جهة أخرى حملت ثراء فكريا وزخما من حيث العلوم المنتجة والتسابق نحو إبداع معرفة.
    وبغض النظر عن الصراعات التي دارت بين العلماء والسلطة والخصومات التي ترتبت عنها فرق وشيع لا زالت تلقي بظلالها السيئة على عالم اليوم، إلا أن محصلة ما كان يجري تدل على حراك ثقافي واجتماعي ومدنية حقيقية. وفي المقابل كان النموذج السوداني غارقا في براثن الجهل وسلطة اللاوعي والأساطير والشعوذات، يصف بونسيه الناس في سنار بـ: "الخداع والدهاء وبميلهم للخرافات وبتمسكهم بدينهم وعندما يقابلهم مسيحي في الطريق ينطقون بالشهادة"
    هذا الوضع ليس إلا إطار سلطوي بحت، لا يمت للدين بصلة، وهو يمارس بكل عفوية وأحقية مكتسبة من تراث وافد اختلط بالطقوس المحلية في حدود مظهرية، ولم يعني السلطة من أمر الدين سوى إنجاز الحدود على عامة الناس على طريقة محاكم "التفتيش" أيام النميري والمسماة بـ "العدالة الناجزة" عندما أعلن تطبيق الحدود الإسلامية. كتب بونسيه: "وفي سنار تنظر الجرائم ويعاقب مرتكبوها في الحين".
    وقد شاهد بونسيه أثناء إقامته بالمدينة الحكم على شخص بالإعدام ضربا بالعصي الغليظة. وشاهد أسواق الرقيق المفتوحة في سنار، لدولة لم تصك عملتها حيث اعتمدت على العملات الأجنبية. وشاهد أيضا المفارقة الطبقية الواضحة والتي انعكست في ملابس النساء، حيث قارن بين لباس نساء الطبقة الراقية كما أسماهن ونساء الطبقات العادية.، فـ "الراقيات" يتحلين بالذهب ويمشطن شعورهن وينتعلن أحذية بسيور ويلبسن أقمشة "قد تكون من الحرير أو غيره" من الأقمشة الجيدة التي تتدلى إلى الأرض. أما "العاديات" فـ "لباسهن ما بين أوساطهن وركبهن فقط". ويكشف الوصف حجم التفاوت في المجتمع في مدينة بلغ سكانها حوالي المائة ألف نسمة، وتأتي في المرتبة الثانية بعد القاهرة من حيث ازدحام السكان بها كما وصفها وافد آخر هو كرمب.
    أما زعماء القبائل فقد كانوا يتسابقون لرضا السلطان والحظوة منه بالبذل والعطاء، كما في مشهد موكب المانجل زعيم قبيلة الذي وفد لسنار ومعه ضريبة مكونة من مئات العبيد والخيل والإبل ومقدار من النقود، واستقبله الملك في احتفال جماهيري كبير مصحوب بالموسيقى والحشود وزغاريد النساء والروائح المعبقة للجو، ووسط كل هذه الجموع يركع المانجل أرضا ويقبّل رجل الملك ثم ينهض ليركب ويدخل الموكبان سويا للمدينة.
    تسوق هذه السرديات التي ما خفي منها أعظم مشاهد مؤلمة ومفارقات تكشف هشاشة البناء المدني وثقل السلطة الغارقة في غيها، وكيف أن القبيلة لعبت دورها في تمزيق الكيان الإقليمي الذي كان قائما في فترة المسيحية، ليكون المشكل في عصر تأسيس"الدولة الإسلامية السودانية" ثنائيا، مدنية وسلطان غائبان. غياب المدنية في لاتحققها بالمعاني التي تحترم الكيان الإنساني، وغياب السلطان في ابتعاده عن دوره الفاعل في بناء الإنساني والمدني، ويتم ذلك داخل تكريس الخرافة والسماح بانتشارها وتوسعها دون أدنى تدخل من الدولة، مادامت هذه "الخرافات" لا تلعب أي دور في تهديد السلطة السلطانية على الأرض والشعب، وفي ظل احتفاظ الملك بنفوذه واحتفالاته المبهرجة.
    بل أن السلطة الدينية المتمثلة في شيوخ المتصوفة وعلماء الدين لعبت دورا في رفد سلطة الملوك وتكريسها، فثمة تحالف بين عدد من أعلام السلطة الدينية الشعبية والملوك في إطار تقديم النصح والمشورة بطريقة تظهر المتصوف وعالم الدين على أنه العارف والمدرك للحقيقة بما فيها مصائر السلطان ومآله. والواقع أنه حتى الملوك أنفسهم كانوا أسرى "الخرافة" في اعتقادهم في "أولياء الله". وإن كان البروفسور يوسف فضل يرى أن هذا الاعتقاد حقيقي وجازم، بقوله: "لم يكن الاعتقاد في الأولياء وقفا على عامة الناس بل اعتقد الملوك والسلاطين فيهم"، وراح يضرب أمثلة على ذلك من خلال الاستعانة بكتاب الطبقات والقصص الواردة فيه.
    إلا أن المسألة قابلة للتشكيك فيها وإعادة النظر، فالملوك كانوا يخشون تطور سلطة الأولياء لتفوق سلطتهم فآثروا رضاهم، وفي هذا نجد أن ثمة إغراءات لا تحتمل الشك، يكشفها فضل نفسه: "وإزاء هذا الاحترام والتأييد من السلطات الحاكمة، لقي المتصوفة (كالعلماء) كثيرا من أسباب العون المادي إذ أوقف الحكام عليهم الاقطاعات وأعفوهم من الضرائب بينما أغدق عليهم المريدون والأتباع من عامة الناس النذور والهدايا ". وقد حاول فضل أن يبرر هذه المشهدية النفعية، بأن "الأولياء" أنفقوا الأموال السلطانية مقابل "متطلبات وظيفتهم التي تجمع بين الإرشاد الديني والهداية الروحية". وهو قول باطل، لأن المشهد برمته يصب في البحث عن السلطة والنفوذ باستعارة الدين، والتلاعب بعقول العامة.
    ولنا أن نتأمل الطريقة التي وصل بها أحد هؤلاء الأولياء إلى الملك، في حشد يهدف إلى إظهار قوة الرجل في مقابل قوة الملك ونفوذه، بما يفسر الأمر على أنه تهديد ضمني للملك بأن لا يغتر بسلطته، وكان الملك بادي قد طلب عون الولي الشيخ حسن بن حسونة لعلاج أخيه ناصر الذي كان مصابا بمرض أعصاب يشبه الجنون، فتأهب الولي للسفر في ركب عظيم وصفه مكي شبيكة بأنه "أدهش ملك الفونج"، وتضمن الوفد الخيول والجمال والأموال وحملة البنادق، في مشهد "درامي" لا يمت بصلة للهدف الذي من المفترض أن الولي ذهب لأجله وهو استخدام مهاراته الدينية في شفاء "الأخ المجنون". ولعل الحوار الذي دار بعد ذلك بين الملك والولي والذي نقله الوسطاء - أي لم يكن مباشرا - يكشف عمق النزاع الباطني بين السلطتين، حيث يروي صاحب الطبقات أن بادي خرج ليرى ذلك الوفد المهيب وقال بعد أن رأى ما رأى: "هذا فكيا أخذ ملكنا" ، وهي صيغة واضحة تدل على مدى قوة الفكي/الولي والتي برزت عبر ما جاء به، فماذا كان رد الولي عندما أخبروه بما قال الملك؟. كان أن رد وبصيغة فيها شيء من المبالغة استخدمت أسلوب المتصوفة في إدعاءات بعضهم بأن لهم عوالم خارج العوالم المتحققة لعامة الناس وأيضا الملوك، بأن قال: "قولوا له أنا ملكك عرضوه عليّ، أنا أبيته".

                  

02-02-2013, 10:20 PM

فيصل المفتاح نور الهدي

تاريخ التسجيل: 02-03-2012
مجموع المشاركات: 96

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: عماد البليك)

    عماد البليك، تحية و تقدير.

    في إنتظار البقية، ما تنقطع فأنت تلقي في المقدمة فقط قولا مهما عن فترة في غاية الإظلام و الغموض.
    و العنوان به قدر كاف من الوشاية بمحتوي الكتاب.

    ثم ماتنقطع لانو لينا منك ما يقارب العشرين عام.
    سلامات وبالتوفيق.
                  

02-03-2013, 00:48 AM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: فيصل المفتاح نور الهدي)

    اولا مرحب بيك يا فيصل في ساحة سودانيز اون لاين ..

    بعد سنة يعني .. مش في وقتها..

    طبعا يا فيصل الذكريات لا تنسى ولا تمحى عن تلك السنوات التي اصبحت قديمة جدا

    وثانيا شكرا على القراءة والتعليق

    وسوف انزل باقي الفصول تباعا

    مع مودتي

    (عدل بواسطة عماد البليك on 02-03-2013, 00:51 AM)

                  

02-03-2013, 00:54 AM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: عماد البليك)

    المهدية والنزعة السلطانية الذاتية:
    ما تشكّل من علاقة متوترة بين السلاطين ورجال الدين، تقوم على المداراة والمناطحة بإشارات ضمنية، ولجوء السلاطين للأولياء توظيفا لخرافاتهم في إمكانية الحصول على نبوءات يستطيعون من خلالها وضع خطط إستراتيجية للمستقبل تكفل لهم مد سلطانهم لأبعد مدى زمني، كل هذه الصور التي ترسخت في دولة الفونج، برزت بشكل أوضح لدى قيام محمد أحمد المهدي بتأسيس مشروعه السلطوي، الذي وظّف الدين لإنجاز "الدولة الإسلامية" الثالثة بالسودان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. غير أن استيعاب هذه المسألة يتطلب درجة راقية من الوعي التاريخي الذي يشكل واحدة من طرق تفكيك القضايا السياسية والأيدلوجية الراهنة، والتي تظل غير محسومة، ويكون تعاملنا معها بنهج غير سليم لا يساعد في فهم مجريات الأحداث ودوافعها الحقيقية إذا ما التزمنا بالشروط "الأرثوذكسية" لقراءات التاريخ.
    تمثل قضية "الثورة المهدية" في السودان إحدى هذه القضايا التي يجب بحث أغوارها، فهي حتى الآن لم تُدرس الدراسة التفكيكية اللازمة لبنيتها وفق العلوم الإنسانية الحديثة، فمعظم الذين درسوا المهدية تعاملوا معها وفق إطار رؤيوي ضيق، أو تعاملوا معها كمقدس لا يحق بتر مفعلاته، بينما الرؤية الحقيقية توضح لنا أن "الثورة" في حد ذاتها ليست إنجازاً مطلقاً، بل هي فعل بشري من الممكن التفكير في زحزحة كثير من مؤطراته ومركباته الأساسية وتفكيك هذه المركبات كي ّما يتسنى لنا دراستها بوعي تاريخي مجرد عن الأسطرة والمخيال الجماعي الذي يتوجه وجهة قداسوية تجاه ذلك المنجز التاريخي.
    ومن أبرز الإشكاليات في دراسة المهدية وبالتالي غياب الاستفادة الماثلة من تراثها في التجارب الأكثر حداثة، كتجربة سنوات البشير، أن المعالجات التي تمت جاء معظمها ظاهريا وفوقيا لم يغص في التربة العميقة لبنيات "الثورة" ولم يحفر بشكل عملي في التكوين السيكولوجي لمفعل "الثورة" (محمد أحمد المهدي) والذي اكتسب هذه التسمية (المهدي) بعد أن خلعها هو على نفسه.
    إن البحث العميق في طبيعة النفس البشرية من شأنه أن يزيح الكثير من الغبار العالق برؤيا الذات في التاريخ، ومن خلال ذلك يكون ممكنا فهم التاريخ بوعي فعال وإيجابي، وبخصوص "الثورة المهدية" بوصفها ظاهرة ارتبطت بالدين، يصبح البحث في بنية إنسانها ضروريا لفهمها كظاهرة موازية للدين والمعتقد، وفي هذا الجانب فإن الدراسات الحديثة في علم النفس تركز على أن "البحث العميق في طبيعة النفس البشرية أصبح ضرورياً لفهم الظواهر الدينية " وهذا ما يمكن أن يبسط المسألة للنظر إليها وإدراكها بوعي تاريخي مجرد عن القداسة والخوف من مواجهة عنف التاريخ المنعكس على الواقع الآني. أيضا ولكي نفهم الدوافع الأساسية لـ "ثورة الإمام المهدي" في السودان، يجب أن نجرد أنفسنا من كل الألبسة الآنية المترتبة عن ذاك الحدث التاريخي القديم، ونخلع ذواتنا من إطار وعيها التاريخي التراكمي، وهذا لا يحدث ما لم تكن هناك حيدة تجاه الحدث التاريخي ومفعله.
    يذكر نعوم شقير في كتابه (تاريخ السودان) أن أسباب الثورة انحصرت في العنف الذي مارسه النظام التركي ونظام الضرائب ومنع تجارة الرقيق ، وكل هذه الأسباب أدت لزحزحة الوعي الجماعي ليخرج عن طاعة النظام.
    هذه الأسباب لا يمكن نفيها كمسببات مفعلة للثورة في خطوطها العريضة، لكن هذه النقاط التي أثارها شقير وغيره من المؤرخين والباحثين، كما يقول الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم "تصف في جملتها الظروف التي تستدعي قيام ثورة أو خلق احتجاج عام ولكنها لا تقف دون إبراز الظروف الذاتية والملابسات التي جعلت محمد أحمد دون غيره ممثلا لهذا الاحتجاج وقائدا للثورة على الأوضاع" ، أي أن أبو سليم يرى أن هذه الأسباب التي أوردها شقير وغيره ليست من شأنها أن تصف لنا لماذا تمت الثورة كنتاج فعلي على يد محمد أحمد دون غيره من السودانيين. هذا السؤال وبالاقتراب من الإجابة عليه يكشف لنا الكثير من البنى التي تقوم عليها عملية توظيف الدين في الثورة، أو في الحراك الاجتماعي، وتوضح لنا درجة من بناء العقل السوداني الحالم بيوتوبيا الدولة الإسلامية، ومن لحظة تأسيسية في التاريخ الحديث.
    لكن استخلاص النتائج ليس بالمسألة السهلة، إذ أن ذلك يتطلب أولا التمهيد النظري الذي يقرّب من فهم الدوافع، ومن هنا يجب دراسة بعض المركبات الهامة في شأن علاقة الدين بالمجتمع في السودان، ودور الدين في تفعيل الشعوب وتكوين وعيها الجمعي الذي من الممكن أن يتخذ كوسيلة لإدراك مآرب جهة معينة من الجهات، أو منظمة ما.
    إن أهم ما يلفت النظر إلى الحركة الإصلاحية التي قام بها محمد أحمد، أنها تعمل وفق منظور الديني حسب ما فهمه "محمد أحمد"، فقد كان "يعمل لبناء مجتمع ديني مقوماته من المجتمع الذي أقامه الرسول (ص) وصحابته" باعتبار أن هذا النموذج هو الذي يمكن أن يمهد للوعي الجماعي في قبول منطلقات الثورة. وبحسب محمد أركون يرى الوعي الجماعي في مثل هذه المجتمعات "أن الحقيقة كلها متضمنة في الوحي وتجربة المدينة"، ويشير أركون إلى أن تجربة المدينة تمثل نموذجاً للموقف الإصلاحي في القرن التاسع عشر الميلادي، أو ما سماها بالنزعة الإصلاحية التي بدأت منذ القرن الهجري الأول من قبل السلف.
    بالنظر إلى القدسية المسقطة على ذلك الزمان وباعتبار تجربة المدينة نموذجا مثاليا يبحث الإسلاميون عن إمكانية إسقاطه على الحاضر، وبوصف التجربة كونها كما يرى أركون بشأن اعتقادهم: "جاءت في زمن مقدس يعلو على كل الأزمان". كل هذا جعل الاستفادة من المضمون المتوارث عن تجربة المدينة محركا فعليا للجماعة، وبشكل غير مباشر أو واع، ومن ذلك المنطلق كانت الإرادة والسؤال هل يمكن بعثها من جديد لكي تشكل ثورة ضد نظام يؤمن بالعنف والضرائب الباهظة ويمنع الناس أن يمارسوا حياتهم التجارية في حرية ويحارب الرق. ويشير أركون إلى أن "الدين حتى ظهور الأيدلوجيات العلمانية الحديثة هو الذي يحمل وظيفة التبرير هذه والتي لابد منها"، أي أن هناك دوافع بحتة تتعلق بشخصية القائد، لكن الدين يأتي مغطياً البنية التحتية أو المركبة الحقيقية للثورة، ولذا فإن انتهاج الإسلام من شأنه "أن يقوم بوظيفة خلع الشرعية على الأنظمة والسلطات السياسية" في مجتمعات ينظمها عرف وقيم تؤمن بها تماماً وتتعامل معها بقداسة لا يمكن تجاوزها أبداً. وما يشار إليه هنا أن بنية الثورة دائما ما تتعلق بجانب أسطوري يضفي عليها الفوقية ويجعل مسألة قبولها حتمياً مثلما يقبل المسلم أن الله واحد، وأن الدين هو الإسلام، فعليه أن يقبل الثورة لأن إطارها المنطقي الذي جاءت به ينتهج طريقة الوعي السائد في المجتمع. ونجد أن أسطورة الثورة التي تمثل الدين مطية لها هي من نوع الأساطير الحديثة وهي "التي لا تتكلم عن قصة الخلق أو صراع الآلهة، وإنما عن صراعات قائمة وموجودة"، وهذا ما يفرقها عن الأسطورة القديمة ويلزم عملية التعامل معها بانتهاج طرق جديدة باعتبار أن منظومات الوعي قد تغيرت.
    جاءت تجربة محمد أحمد المهدي مستمدة من تجربة الرسول (ص) وصحابته، وهذه التجربة كما ذكر هي العامل المفعّل لتحريك بنية الوعي الجماعي لأي حركة سياسية تتخذ الدين كوسيلة لتحقيق أهدافها "فحياة الرسول (ص) تمثل مرتكز السلوك الإسلامي" الذي لا يمكن لأي مسلم أن يرفضه ما دام منتميا لهذه الجماعة، ولهذا تكون للتجربة فعاليتها وقوتها في التمكين لذاتها. وهذا ما فعله المهدي بوعي تام عبر مراحل من الوعي التراكمي وعبر دراسة مستفيضة لبنية الوعي لإنسان السودان في نهاية القرن التاسع عشر، فمذهب المهدي هو عبارة عن "آراء كونها عن الإسلام والمسلمين أثناء تجواله وإطلاعه وأثناء مخالطته للعلماء والصالحين" .
    يذهب نيتشه إلى "أن دعاة الزهد في التاريخ كانوا أبعد الناس عن الزهد وأنهم كانوا يضللون البشر بهذه الدعوة الزائفة" ، ويدعم هذا القول ما يقول به مذهب اللذة السيكولوجي الذي يقف نيتشه ضده وهو: "أن الإنسان ينشد دائما ما وراء أفعاله لذته ومنفعته". وهنا يكون السؤال: هل يوجد في حياة محمد أحمد ما يؤيد هاتين النظريتين المتوافقتين رغما أنهما متولدتان عن فلسفتين متعارضتين؟. هدف السؤال هو البحث عن قاعدة للدوافع الذاتية للتغيير الذي قاده "المهدي". وتستدعي الإجابة على السؤال أعلاه، إلقاء نظرة على ثقافة "المهدي" وبعض من القضايا التي ارتبطت بحياته المبكرة قبل تفجيره الدعوة، حيث أن ذلك يساعد في إدراك "الظروف الذاتية" كما اسماها أبو سليم، والتي يتطلب الوصول إليها معرفة "مزيد من الحقائق والبيانات عن حياة محمد أحمد الأولى ومدى ارتباطه بالحياة العامة، وإلى إبراز العوامل التي دفعت به من الحياة السلبية التي يمارسها المريد الصوفي إلى الحياة الإيجابية الهادفة إلى بناء مجتمع جديد" .
    بدأت الحياة الفاعلة لمحمد أحمد والخطوة الأولى لبسط فكرته التي تجمع بين الدين والسياسة أو تتخذ من الدين وسيلة لتحقيق أهداف سياسية عملية سنة 1871، وذلك عندما أنشأ خلوته في الجزيرة أبا، وكان إنشاء هذه الخلوة "من أول خطواته وأخطرها" كما رأى أبو سليم، إذ أن الخلوة تمثل المرجعية الأولى لتفعيل بذرة الحياة المستقبلية للفرد في السودان الشمالي والأوسط في ذلك الوقت، باعتبارها مؤسسة تعليمية راسخة في زمنها، تخرّج الفئات التي من شأنها أن تتحكم في تسيير الحياة في المجتمع.
    كانت الخطوة الثانية بعد إنشاء الخلوة، هي تفجير الخلاف مع شيخه محمد شريف والذي كان محمد أحمد من أتباعه المقربين وأخذ عنه الطريقة السمانية، وقد حدث هذا الخلاف سنة 1878. وهنا تختلف الرؤى بشأن مسببات الخلاف، وهي قصة طويلة، بيد أن التحليل المجرد لها يقود إلى أن هذا الخلاف لم يكن دافعه الأول ديني أو أنه بُني على المرتكزات الإسلامية ، وإنما كان بسبب التنافس الذي حدث بين التلميذ (محمد أحمد) ومعلمه (محمد شريف)، لأن التلميذ عندما أسس خلوته المنفصلة سالفة الذكر استطاع أن يجمع من حوله أتباعا أصبحوا يحملون اعتقادا جازما فيه، تحول إلى اعتقاد شخصي وليس اعتقاد في طريقة صوفية ينتمي لها التلميذ، هذا التصاعد الحادث لشخصية محمد أحمد أدى إلى إحساس من جانب محمد شريف بخطورة منافسه الجديد الذي برز على الساحة، فرأى أن يصعد من حدة الموقف بأن أشاع "أن محمد أحمد أفصح عن مهديته وأنه طرده بعد أن فشلت محاولاته عن إثنائه عنها".
    الخطوة الثالثة هي الحركة الإصلاحية التي بدأها محمد أحمد سنة 1880، وهي حركة عميقة الجذور والإشارات حولها صعبة، وكذلك محاولات تفسيرها، لأن "محررات المهدي في هذه الفترة لا تعطي إلا إشارات قليلة" . وفي هذه الفترة بدأ محمد أحمد دعوته السرية عبر حركة دائبة في الأقاليم ودعوة الناس إلى الالتفاف إلى الدين الحق. وحتى ذلك الوقت "يبدو أن حركته كانت ذات أهداف دينية خالصة وإنها كانت تخلو من الغرض السياسي" . غير أن الغرض السياسي الذي لم يتمظهر في الدعوة وقتها كان يجذر نفسه في ذات محمد أحمد، وكانت القاعدة التي تحمل دوافعه الذاتية قد بدأت في التأسيس لنفسها، فلم تكن المسألة في بساطة القول أن محمد أحمد كان مجرد رجل يحقق استجابة لمشاعر الآهلين التي انطبعت بما تركه المستعمرون من أثر سيء، لأن الاستجابة كانت مضمرة فيه وعمل على إبداع شروطها عبر تكوينه الشخصي والواعي بخطواته، الأمر الذي ساعده على التفاف الناس حول دعوته أولا ومن ثم حركة المقاومة التي قادها. وبشكل مختصر فإن هذه المرحلة هيأت المناخ الممهد لإعلان "الثورة" من قبل محمد أحمد.
    وبالفعل وفي مارس 1881 كانت الخطوة الرابعة والفعالة والتي اكتسب فيها محمد أحمد صفة (المهدي)، حيث "كان الناس على استعداد لتصديق هذا الأمر وأتباعه لكثرة ما أصابهم من ظلم ولحقهم من أذى، ولأنهم كانوا قد بلغوا نهاية القرن، وقد شاع أن القرن لا ينتهي قبل أن يأتيهم المنقذ الموعود" . ويشار إلى أن هذه الخطوة قد سبقتها الحركة عبر الأقاليم، والتي قام فيها محمد أحمد بتوثيق علاقات مع رجال الدين سيكون لها آثرها الفاعل فيما بعد، خاصة في إقليم كردفان عندما هاجر إلى هناك. ونجد أن إعلان محمد أحمد لمهديته كان قد أحاطت به هالة من الأسطرة والدعم المتمثل في استغلال مركبات العقل الجمعي لإنسان السودان في القرن التاسع عشر عبر شروط الثقافة والبيئة.
    ويلاحظ أن دعوة محمد أحمد لم تكتف ببعدها الميتافيزيقي في دعم مسارها، إذ أنها أول ما قامت كان يدفعها أيضا عامل "التشكل البيئي" في العقل الجمعي، وقد استفاد محمد أحمد من هذا العامل في مشروعه، فالدين في تلك البيئة التي نشأت فيها الثورة "ينهج له كممارسة روحية وعمل لا علم ودرس"، وهذا ما استوعبه محمد أحمد وحاول أن يطبق به منهجه الدافع لهمه السياسي الذي شكل ثورته فيما بعد، والتي "كانت ثورة بالمعنى العلمي – والاجتماعي طورت مؤسسات السلطنات، وعلى رأسها الطرق الصوفية في سبيل تحقيق أهداف سياسية وعملية"، كما فسرها الدكتور قيصر موسى الزين في دراسة له بعنوان: (الدولة والمؤسسات الاجتماعية في السودان).
    ولكن كيف نفهم استيعاب محمد أحمد للبيئة وتطويرها لرفد "الثورة"؟. يستدعي ذلك فهم مركبات التطور الإنساني في البيئة وهي "المركبة الاجتماعية – الاقتصادية (مركبة الإنتاج )، والمركبة الاجتماعية – الثقافية (مركبة العقل)، والمركبة الاجتماعية – التاريخية أو العناصر الحضارية". فكيف انعكست كل واحدة من هذه المركبات عبر التشكل البيئي مما أتاح استثمارها في تفعيل الثورة؟
    بالنسبة لمركبة الإنتاج فإن أول ما نلاحظه أن الإنتاج الزراعي هو المشكل الأول لهذه المركبة، والزراعة في ذلك المجتمع ارتبطت بالوسائل الطبيعية المباشرة كالمطر، وفيضان النيل، والتي لم تكن تتعلق – وقتذاك - بمعرفة الإنسان المباشرة وإنما تستند على قوى عليا يعلق الإنسان أمله عليها، ويؤمن الإنسان بدفعها للنجاح في سبيل تحقيق الإنتاج، أما الفشل فهو من عنده باعتبار أن الإنسان كائن عاجز ومقصر أمام قوى مطلقة لها مقدرة فاعلة على مستويات واسعة في حياته. وارتباط المركبة الإنتاجية بالعامل الفوقي يجعلها من الممكن أن تستجيب لأي قوى من شأنها أن تعمل على تعديل الإنتاج عبر "مسار فوقي" يستمد قوته من الدين، وهذا ما استفادت منه الثورة المهدية عندما رفضت أساليب النظام التركي الاقتصادية، لكن ما سوف نستنتجه أن الهدف الرئيسي لم يكن يتعلق بتعديل المربكة الاقتصادية فالمهدية "أقامت دولة أكثر مركزية وأكثر ضرائب، وأكثر قدرة على قمع المتمردين".
    أما بخصوص مركبة العقل، فقد سيطرت على العقل الفعالية الميتافيزيقية الفوقية، حيث أن البنية كانت صوفية خالصة تعمل وفق قانون التعالي الصوفي، وقد وعي محمد أحمد هذه المركبة واستفاد منها أكثر عندما أدخل الوعي الديني المتمثل عبر الصوفية في إطار "ثورته". هذا الوعي الذي عندما تمكن من موقعه السلطوي، كان أن جرّد الصوفية من أبعادها ليمركز نفسه على منهج يستمد ذاته من المركزية الجديدة، التي اتخذت الصوفية كوسيلة لغاية. ويظهر هذا الدعم الصوفي في استمداد محمد أحمد لبنية الوعي الصوفي واستغلالها، فإعلان مهديته سبقه تصوفه، وإنشاء خلوته، وعندما أعلن المهدية كان أول ما دعمها ما يعرف بكرامات الأولياء – أي البعد الميتافيزيقي للصوفية عندما تتسامى عن بعدها المادي عند أهلها أو كما يرون.
    ولم يكن محمد أحمد هو الذي بسط لنفسه الطريق بمفرده حيث ساعدته جهات لتدعيم فكرته عبر مستوياتها الغيبية، وحاجتها إلى التمكين السياسي لنفسها، وهذا ما فضحه المستقبل، حيث أن (الخليفة عبد الله) عندما قابل محمد أحمد لأول مرة وهو يبني قبة شيخه القرشي ود الزين:"قيل أنه لما رآه وقع مغشياً عليه، ولم يفق من غشيته إلا بعد ساعة أو أكثر وأغمي عليه ثانية لما نظر إلى إليه محمد أحمد، وحكى عبد الله لمحمد أحمد أن له أب صالح من أهل الكشف وقد قال له قبل وفاته إنك ستقابل المهدي وتكون وزيره وقد أخبرني بعلامات المهدي وصفاته فلما وقع نظري علك رأيت فيك العلامات التي أخبرني بها والدي بعينها ". ويتضح من المشهد "الدرامي" مجموعة من القضايا الهامة، والتي تعكس لنا كيف كان أول لقاء بين رجلين قادا مسيرة "الثورة"، ذلك اللقاء الذي بدأ أشبه بحكاية أسطورية، بيد أنه واقعي، واستخدمت فيه كافة أساليب مركبة العقل الجماعي ليفعل منطلقاته الخفية، ويسلط خطابه، لكن الخطاب يفضح نفسه من داخله حيث يتضمن داخل بنيته رائحة البعد السياسي " وتكون وزيره". وهذا يفسر كل القصة التي لا شك أن الخليفة قام بنسجها متماشيا مع موقع هذا الخطاب الذي ينتهجه المهدي لتأييد نفسه، فكيف لا يرتضيه، عندما يأتي ليدعم حالته من رجل يريد منصبا معينا وقد فاز به. واستغل محمد أحمد كما تمت الإشارة سابقا مركبات الوعي الصوفي في العقل الجمعي، ليمهد ليقام حكومته، كأنما بنى أمره على قاعدة علم الاجتماع الديني التي تقول: "أن الدين يختلف عن الحكومة التي تهتم بالسلطة والفوقية". فلم يكن باكر الدعوة يدعو لإقامة حكم بديل للحكم التركي ولكنه كان ينادي بالعدل بدلاً عن الظلم. ومفهوم البحث عن العدل المستمد من فلسفة الدين لم يكن له موقعه من "الجماعة" – وقتها - كوسيلة للوصول إلى الحكم، فلقد استند العقل الجمعي على أن الدين يحمل في محتواه خلاصاً، لكنه لم يكن يفكر في أن هذا الخلاص سيتحول إلى دولة بديلة للدولة القائمة، وربما ظهرت هذه النية معلنة عندما بدأت معارك محمد أحمد في أبا ومن ثم هجرته إلى قدير، هذا من منظور القراءة الخارجية لعامة من تبعوا محمد أحمد، أما منظوره هو فيحكم عليه من خلال دوافعه الذاتية المبكرة في الاشتغال السياسي ومد نفوذه ليصبح قوة تصنع دولتها.
    وفي تجربة محمد أحمد نحو صياغة مشروعه السياسي تتجلى بعض عناصر الاستغلال لطبيعة المركبات التي تحيط بالدين كالرؤى والأحلام والرموز والنبوءات، "وهي ذات الأدوات التي يستعملها الدين لإيقاع الهيبة ولغرس القداسة في النفوس" كما يشير خليل عبد الكريم . وهي قاعدة قديمة منذ أيام (الجاهلية) فقد استخدمها عبد المطلب جد الرسول (ص) عندما استثمر كل هذه المركبات، ومراجعة سيرته تعكس لنا ذلك مثلما في حادثة زمزم، وحادثة النحر، وقد كان عبد المطلب وفق رؤية خليل عبد الكريم: "يعمل على ضرورة ضرب المثل بالنفس بداية وأهمية القدوة عند دعوة الناس إلى أية عقيدة، وهنا تلازمت أو تزامنت طبيعته المتألهة معه نهجه في مزج الدين بالدولة، وضرورة ذلك حتى تكتسب الدولة القداسة التي انغرست في نفوس المحكومين وأثمرت طاعة كاملة وانقيادا تاما ". وقد سار محمد أحمد بنفس الخطوات تقريبا حتى فرض القداسة التي توازي قداسة عبد المطلب وأعلن دولته في مزج حقيقي بين الدين والدولة، مستفيداً من الماورائيات، واعياً لقاعدة أن "كل المجتمعات بحاجة إلى نظام من العقائد والقيم والمعارف من اجل تبرير نظامها وتأمين شرعيته والحفاظ عليه". هذه العقائد والقيم تستمد نفسها من البيئة عبر مركبة عقل المجتمع والعناصر الحضارية لهذا المجتمع. والقيم غالباً ما تأخذ تمحورها الأسطوري بحيث أنه "عندما ننزع التركيبات الأسطورية من إطارها الاجتماعي/المادي والزمني، فقد تتحول إلى هلوسة. ووما يشير إلى استغلال الماورائيات من فجر دعوة محمد أحمد، قصته عن رؤيا النبي (ص) يقظة وأنه أجلسه وقلده سيفه وغسل قلبه بيده وملأه إيمانا ومعارف وأخبره بأنه الخليفة الأكبر والمهدي المنتظر وان من شك في مهديته فقد كفر ومن حاربه خذل في الدارين، وغيرها من القصص التي تدعم كيفية استثمار محمد أحمد لمركبات الوعي الجماعي والعقل الاجتماعي الكلي. وبشكل عام بخصوص المركبة الحضارية فقد تتداخل هذه المربكة مع عقل المجتمع غير أنه يمكن الإشارة إلى أن المهدية كانت تحوي في وعيها الداخلي ضرورة إقامة نظام سياسي يستمد معارفه وقوته من الإسلام كموازي لنموذج المدينة، وقد طورت المفهوم السلطوي للنظام الصوفي لتقيم نظامها الجديد، مستفيدة من التجربة الصوفية، وكان هذا التطوير قد امتد إلى بعض العناصر (المقدسة) والتعدي عليها – بمعنى أنها مقدسة من قبل عقل المجتمع – حيث أن محمد أحمد "قام بأعمال أنكرها عليه العلماء إذ أحرق الكتب إلا أصول منها، كالقران والصحيحين (البخاري ومسلم) وأحياء علوم الدين، والكتب التي أحرقها كان يرى أنها حجبت المنبعث من القران والسنة، كما أبطل العمل بالمذاهب الأربعة.


                  

02-03-2013, 01:13 AM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: عماد البليك)


    سنوات الخليفة:
    هكذا تبدت الصورة في التأسيس لمشروع "الدولة الإسلامية الثالثة" في تاريخ السودان، من الحركة الإصلاحية الدينية إلى فتح الخرطوم سنة 1885. لكن تلخيص التلخيص أن "المؤسسة السياسية المهدوية" رسخت السلطان في مقابل أي "قيم مثالية" للدين، وجاءت على حساب المدنية السودانية حذفا، فما تحقق في العهد التركي قامت المهدية بشطبه في زمن وجيز، ليتراجع السودان عقودا إلى الوراء تخلفا وجهلا وتعنصرا. وهو ذات المشهد الذي يتكرر في مطلع الفترة التي جاء فيها انقلاب يونيو، لكن وبالنظر إلى تغير شروط العصر والحياة الإنسانية في عالم بفروض جديدة فقد كانت تجربة "الدولة الإسلامية الرابعة" مختلفة، وفقما حكمته الفروض الجديدة للعالم الحديث، في نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، ولكن بالنظر إلى البنى العميقة للعقل والمجتمع والحركات السياسية سنجد أن التاريخ يعيد نفسه، كما درج القول. لكن من العبط الاستناد على هذه المقولة بشكل جذري، لأن المعالجة الأكثر علمية تتطلب الاستفادة من تراث الأمس تحليلا وتفكيكا وإعادة قراءته وربطه بما حدث لاحقا. حتى يمكن الباحث من تحليل مكمن الأزمة، عسى أن يقترب من أفق استشرافي أكثر سعة وبصيرة في إضاءة المستقبل.
    وبمجرد أن تولى الخليفة عبد الله الحكم بعد وفاة محمد أحمد، بدأت "حروب الردة الجديدة" في ذاكرة لا تعرف الإبداع حتى في شروط إنتاج الوقائع في حياتها، حيث كان عهد الخليفة القادم من غرب السودان، فترة خصبة للنزاع العرقي وتغلغل فكر القبيلة إلى درجة مخزية. وإذا كان "المهدي" أكثر سياسة وحكمة، في الحفاظ على التوازن القبلي والاجتماعي إلا أن هذا الحكم يظل قاصرا لأن محمد أحمد لم يعش الزمن الكافي ليمارس السياسة في الدولة، فهو إن مارسها فقد كان ذلك في مرحلة التأسيس والمقاومة، فالرجل توفي بعد ستة أشهر من تحقيق حلمه ببناء دولته العالمية حيث أن بعض منشوراته كانت تشير إلى هذا الأمر، وأنه كان يفكر في فتح مكة والحجاز. وهذه "النبوءات" التي أطلقها كانت إحدى الأسباب التي سارعت لتمزيق دولته بعد وفاته، بدخول الخليفة في صراعات خارجية كان في غنى عنها لو أنه التزم الحكمة وعرف قدر حاله. لكن نشوة النصر على الأتراك وفي زمن وجيز لم يتعد الخمس سنوات، كانت سببا في الظن بأن القادم أسهل. غير أن الخليفة ولو كان متعقلا وأراد بالفعل أن يسيّر مشروع "العالمية" لكان قد عمل على رأب الصدع الداخلي بدلا من تأجيجه وبشكل مخز، حتى لو أن البعض حاول تبرير ذلك، في كتابة مشحونة بالتناقضات، على سبيل المثال كتاب (العلاقات بين الخليفة عبد الله التعايشي وقبائل السودان 1885- 1898) لمؤلفه عزام أبوبكر علي الطيب، فهو على الرغم من اعترافه بأن الأسس التي اختطها الخليفة لتحقيق الاستقرار كانت تصب في محاولة إضعاف زعماء القبائل ومراقبتهم مراقبة مباشرة بحشدهم في العاصمة، "واقتضى منه ذلك اللجوء إلى العنف بل القسوة في أغلب الأحيان" ، مما ساهم إلى "أحداث هزة قوية زعزعت قوة التماسك التي كانت للسودانيين أيام المهدي". أيضا اعترافه بمسؤولية الرجل عن انتشار روح العداء، بقوله: "كان الخليفة عبد الله مسؤولا بلاشك عن انتشار روح العداء لحكمه في شمال السودان وغيره من المناطق النيلية، وذلك منذ بدأ العمل على تركيز السلطة والانفراد بها". وغيرها من "الاعترافات" والأحكام. رغم ذلك يحاول عزام أبوبكر أن يوجد تبريرات لكل ما جرى، منها قوله: "الحكم على الخليفة عبد الله هو من أصعب الأمور كما يقتضي كثيرا من التجرد، فالرجل لم ينل من التعليم والثقافة شيئا يذكر، كما أنه قبل كل شيء رجل بادية جاء من أقاصي غرب السودان ليحكم إمبراطورية مترامية الأطراف متعددة القبائل والأجناس" . ويمضي في ابتكار الأعذار.
    وأمثال "عزام" وغيره يقدمون قراءات لا قيمة لها سوى التكرار والإعادة المملة، ولا تخدم في تطوير الوعي الاجتماعي والسياسي وإنتاج بنى أكثر تحديثا في المجتمع السوداني، وبمقارنة ما قام به عزام بما قام به "أبو سليم" رغم الفارق الزمني (عزام ثانيا)، سنكتشف ببساطة أن الثاني كان أكثر عمقا ورغبة في التحليل ومخارجة النص عن سلطته. بيد أن مشروع أبو سليم يحتاج إلى من يستند عليه ليطوره ويقدم أطروحات جديدة، تنفصل عن الخوف القابع في النفوس من "تابوهات" القبيلة والعرق والدين. فكثير من المشروعات البحثية في السودان تتسكع دون أن تدخل قصور أشواقها خوفا من المجتمع وسلطة الطوائف المتغلغلة سلطانا وجاه لأكثر من قرن، في بلد يحتاج لعقول جديدة وأكثر نضجا.
    إن القراءة لتاريخ السودان وبشكل غير روتيني سوف تكشف أن كثيرا من المشاهد التي عاشها السودانيون في "سنوات البشير" لم تكن سوى اجترار للماضي، سواء بأسلوب ردة الفعل أو بالمباشرة، أعني كقضية دارفور، التي قد يمكن فهم بعض جذورها من خلال الرجوع إلى الوراء في عمق التاريخ السوداني. وما فعله الخليفة عبد الله في إشعال نار الفتنة بين أهل النيل وأهل الغرب، لا يفسر جملة الصورة، لأن ثمة أمور أكثر تعقيدا تتعلق بتاريخ آخر مسكوت عنه في كثير من تفاصيله كقضايا الرق والفوقية التي يشعر بها أهل الشمال من ناحية عرقية بحتة، وليس لها أدنى علاقة بمفهوم "الإيمان"، لو تمت إجازة الفكرة الأخيرة مجازا. كما يتعلق الأمر بقضية أكثر "حساسية" هي تحول المجتمع السوداني السريع من المسيحية إلى الإسلام، وأشواق الدولة الإسلامية المعلقة في هامش من هوامش الخريطة التقليدية للعالم الإسلامي.
    والمطلوب من الجميع هو تجاوز شروط الوعي التقليدي للذات، بمحاولة إبداع "هوية جديدة" تقوم على أسلوب حداثي مدني، عصري. وهو حلم لكن يكون صعبا، فـ "سنوات البشير" رغم الإخفاقات التي صاحبتها إلا أنها حملت إيجابيات على صعد أخرى، وهو ما سيتم طرحه لاحقا. ومن أجل الدقة فإن هذه الإيجابيات تم كثير منها بشكل غير مقصود ودون وعي من السلطة، حيث أن الحراك الاجتماعي والحداثي والأسئلة الجديدة التي طرحتها تحديات الحياة في السودان خلال العشرين سنة الماضية، كل ذلك تقاطع مع المشهد العالمي وتسلح به، وتناغمت جملة عوامل مرئية وغير مرئية لتصوغ خطاب مستقبلي جديد للحياة في السودان، يمكن أن يعيد إنتاج الدولة السودانية في المستقبل القريب وعلى نحو أكثر جمالا وسلاما وحكمة، لو تم توظيفه بناء على رؤى علمية وإستراتيجية وبتجاوز الفوقية والأنا وضحالة النظر المؤقت للأشياء.

                  

02-03-2013, 01:43 AM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: عماد البليك)

    مقدمات لسنوات البشير

    من الصعب اختصار ما يقارب أكثر من عشرين سنة بجرة قلم، فالرحلة التي بدأت منذ صبيحة الثلاثين من يونيو 1989 كانت حافلة بالكثير من التطورات في الحياة السودانية في كافة أصعدتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
    وهي رحلة بقدر ما تبدو في ظاهرها قائمة على فكرة أن انقلاب الثلاثين من يونيو جاء بالإسلاميين إلى دفة الحكم بعد ما يقارب أربعة وثلاثين عاما من استقلال السودان، وعن طريق توظيف القوة متمثلة في الجيش، بمعنى أن محصلة المشهد تتعلق بمجرد حكم يحاول أن يطبق الإسلام ويصبغه على الحياة في السودان، إلا أن هذه الرحلة أكثر تعقيدا إذا ما أعيد النظر فيها برؤية غير تقليدية وروتينية، لأن ما جرى خلال عشرين سنة كان نتاج تداخلات لعوامل كثيرة ومتشعبة تتعلق بنسيج المجتمع السوداني وتركيبته العرقية وإطاره الجغرافي والسياسي، إضافة إلى الأسئلة الأكثر إرباكا مثل سؤال الهوية، وقضية الدين والعلمانية، وبالطبع العوامل الخارجية وبروز نظام عالمي جديد أحادي الاستقطاب ما بعد انهيار سور برلين في التاسع من نوفمبر من ذات عام الانقلاب العسكري للبشير، الذي سمى نفسه بـ "ثورة الإنقاذ".
    في الأول من يناير 1956 كان أن حقق السودانيون استقلالهم بظن التحرر من سلطة الإمبريالية والنفوذ الخارجي، وبرغبة في بناء الوطن بجهود أبنائه وفكرهم الذي اعتقدوا أنه قد اكتمل بما فيه الكفاية لإدارة دولة عصرية بشروط مدنية وليبرالية غاية في الكمال، بيد أن المثال غير الواقع، والتنظير والخيال غير المماحكة العملية للأمور. هذا ما كشفت عن سنوات ما بعد الاستقلال، حيث لم تلبث أول حكومة وطنية سوى ما يقارب الثلاث سنوات ليدخل الجيش في المشهد السياسي في السابع عشر من نوفمبر 1958بحكومة عسكرية برئاسة الفريق إبراهيم عبود، استمرت حتى الرابع والعشرين من أكتوبر 1964 حيث تمت الإطاحة بها عبر نضال شعبي عرف بثورة أكتوبر.
    عادت الديمقراطية من جديد وما لبث أن عاد العسكر للسلطة في الخامس والعشرين من مايو 1969 بوصول جعفر محمد نميري مدعوما بالشيوعيين الذين حاولوا الانقلاب عليه في التاسع عشر من يوليو 1971 فاستطاع إقصائهم ومن ثم دخل في دوائر من الحروب مع الأحزاب التقليدية المعارضة في الخارج، إلى أن تمت مصالحة وطنية ومن بعدها ببضع سنوات جاءت مشاركة الإسلاميين في الحكم وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في 1983 التي عرفت بقوانين سبتمبر، وقبل أن يبارح النميري السلطة بثورة شعبية وتدخل الجيش مرة أخرى في السادس من أبريل 1985 كان أن عزل الإسلاميين وزج بهم في السجون.
    وانتهى نظام النميري لتأتي الديمقراطية مرة ثالثة بعد فترة حكم انتقالي مرحلت للانتخابات، ترأسها المشير عبد الرحمن سوار الذهب الذي هيأ الانقلاب ضد النميري، غير أن الديمقراطية الثالثة برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة وقبل أن يشتد عودها، كانت قد فوجئت بعودة العسكر من جديد.
    وكانت صبيحة الثلاثين من يونيو، ليستيقظ الشعب السوداني على وجه جديد يقود انقلابا عسكريا للمرة الثالثة منذ الاستقلال، وقد بدا من الواضح أن ذلك الوجه لرجل تبدو سحنته من أهل الشمال، كما جرت العادة، ويبدو أنه في العقد الرابع من عمره، يرتدي بزته العسكرية برتبة فريق. إنه عمر حسن أحمد البشير الرئيس الجديد للبلد الذي كانت تبلغ مساحته مليون ميل مربع، لدرجة أنه درج القول على تسميته بأرض المليون ميل مربع.
    كان السودان وقتذاك.. لان جنوبه قد فصل.. او انفصل.. كان أرضا بمساحة شاسعة وامتداد جغرافي مهول من الشمال إلى الجنوب "طولا" ومن الشرق إلى الغرب "عرضا"، من الصحراء القاحلة في الشمال إلى الأراضي الاستوائية بغاباتها ومستنقعاتها في الجنوب، يشقه نهر النيل أطول أنهار العالم ليقطعه إلى نصفين طولا، من بحيرة فكتوريا في أوغندا عبر الجنوب "النيل الأبيض" إلى الخرطوم العاصمة "في الوسط تقريبا"، ليلتقي هناك "النيل الأزرق" القادم من هضاب أثيوبيا، ومن ثم يشكل النهران مجرى النيل الذي يأخذ طريقه إلى مصر شمالا، مع مجموعة أخرى من الأنهار الفرعية العديدة، والجبال والسهول والمراعي الواسعة والصحارى في الشمال.
    هذه الرقعة المترامية كانت لأكبر بلد من حيث المساحة في أفريقيا والوطن العربي والخامس على مستوى العالم، والذي كان يلقب بـ "قلب أفريقيا" وسبق أن لقب ما بعد استقلاله بـ "سلة غذاء العالم" عندما اعتقد البعض، لاسيما العرب أنه يمكن أن يوفر بأراضيه الواسعة والخصبة محاصيل ومنتجات زراعية إضافة إلى ثروته الحيوانية الكبيرة.
    وقد كان لابد لهذا البلد بمقتضيات واقعه المضطرب أن يصبح "رجل أفريقيا المريض" وهو لقب ثالث يناقض اللقبين السابقين، فلقد عانى السودان ويلات الحروب والمجاعات والفقر المدقع والمرض والأمية، وسائر عوارض الزمن، بفعل السياسات غير الحكيمة التي قادته عقد بعد آخر إلى المزيد من المصير المجهول بشأن المستقبل.

    السياسة كهواية سودانية:

    عندما شاهد السودانيون الرئيس الجديد يتحدث على شاشة التلفزيون، استشعر أكثرهم الخير والأمل بأن تكون الحقبة الجديدة من الحكم العسكري القادم هي البداية لعلاج "الرجل المريض" وخروج البلد من نفق مظلم دخلته منذ استقلالها. ولأن السودانيين شعب ملول بطبعه "الطارئ"، لم يحزن كثيرا أن الديمقراطية التي اكتسبت بعد انتفاضة "شعبية" في السادس من أبريل، ضاعت بين ليلة وضحاها، فالعهد الديمقراطي الثالث، لم يأت بجديد بل تعقدت الأوضاع على كافة مستويات الحياة، لاسيما الضغوط الاقتصادية على المواطنين، الأمر الذي جعل الشعب مهيأ لأي تغيير قادم، في ظل الملل المترتب عن الإحساس شبه الدائم بأن الحلم بوطن معافى يوفر العيش الكريم يظل حلم بعيد المنال.
    وقد فشلت الديمقراطية في تحقيق أي نجاح، بفعل غياب بنية الوعي الاجتماعي العميق، فرغم أن الشعب السوداني يفهم في السياسية ويمارس الكلام فيها يوميا وعلى قارعة الطريق كجزء من هواياته وسبيل لتمضية الوقت والتسلية، إلا أن الثقافة السودانية وبشكل عام تعاني من سيطرة الآني والوقتي، وبهذا يغيب النظر إلى المستقبل والأفق البعيد، بإزاحة التخطيط الاستراتيجي والرؤى المتعمقة بشأن بناء الغد. ونجد أن هذا الأمر ينطبق على السوداني كفرد، وكعائلة، وكمجتمع، وكدولة.
    وكان انعكاس غياب الوعي جليا في تكرار ذات دورة التاريخ، بإعادة نفس الوجوه الحزبية التقليدية إلى دفة الحكم مرة ثالثة. ورغم نشوء حركات حزبية حديثة وأكثر عصرية، إلا أنها كانت تفتقد في خطابها للتماهي مع العقل الجمعي للشعب، وظلت نخبوية ذات تأثير ضيق، تمارس نموذجا مثاليا في النظر إلى الواقع وحل مشكلاته. كما أن الواقع نفسه ومن منظوره الاجتماعي كان يفتقد لجذور معرفية راسخة فيما يتعلق بفكرة الحكم والسلطة والدولة الحديثة، بفعل مؤثرات كالولاء الطائفي والأمية في كثير من بقاع السودان. ونعني هنا بدرجة أعمق المشكلة الأساسية في غياب العقل البنائي الجدلي القادر على قراءة حياته وفق منهج علمي.
    وفي شأن السياسة كهواية سودانية لرجل الشارع، وبربط هذا الموضوع بمسألة غياب الوعي الاستشرافي ومن ثم الإحساس بالملل الطارئ، وأخيرا النتيجة: تشوش الحلم بشأن المستقبل مما يفاقم المشاكل الآنية. فإن جملة هذه المشاهد تعكس لنا وفقا لتفسير جون قاي نوت يوه (باحث سياسي من جنوب السودان) أن غرام السودانيين بالسياسية إلى حد وصفهم من قبل جون بـ "من أكثر الشعوب بلاغة ولحد ما مبالغة في الحديث خاصة عند سرد الأحداث السياسية" يفتقد لجانب مهم هو القدرة على ربط الماضي بالحاضر، الأمر الذي يمكن من رؤية مستقبلية، أي إنتاج نقاش سياسي حداثوي يقوم على التحرك السريع في الزمن، بل ينفي فكرة الزمن التقليدية ليكتب زمن المشكلة عبر امتداده التاريخي وبالتالي يسهل تحليلها والوصول لفك عقدتها.
    بيد أن ما يحدث في الواقع، كما يرى جون قاي هو: "يعتمد غالبيتهم على تحليل الحاضر مما يجعل فرص التنبؤ بالمستقبل قليلة" . ويمضي جون قاي إلى أبعد من ذلك ليذهب بما يفيد بأن المشكلة تتعقد بانطباق ذات المشكل على الطبقة المستنيرة أو النخبة التي من المفترض أنها عالمة وعارفة وذات قراءة غير تقليدية، ففي رأيه أن الدور الذي يمارسه المثقف الذي يكتب في الشأن السياسي لا يتعدى واحد من ثلاثة احتمالات: إجادة استخدام اللغة في الكتابة والمبالغة في استخدامها وبالنتيجة يضلل القارئ، دون قصد، عن المضمون أو محتوى الحدث. والاحتمال الثاني إجادة فن التخيل والجري وراء الأحلام الرنانة والتمنيات كما في نموذج قضية السلم والحرب في السودان . أما رجال السياسة أنفسهم فيفتقدون للتخطيط الاستراتيجي أيضا، في إطار غياب الرؤية الشاملة والأهداف الصحيحة، فهم مشغلون بالمصالح الذاتية الآنية والرضا عن الذات قبل إرضاء عامة الناس، بحيث تحولت لعبة السياسة في السودان إلى مجرد بحث عن أمجاد وبطولات فردية وسعادة مادية ورفاهية شخصية.
    ورغم ذلك السواد الأعظم من التفكير العشوائي والبحث عن حلم لا ممكن بغياب شروطه، إلا أن هناك قلة مثقفة كانت تراقب الأحداث عن كثب وتحاول إعادة قراءتها بشكل علمي وأكثر منطقية، ومن هؤلاء محمد أبو القاسم حاج حمد الذي أنفق جزءا مقدرا من حياته في إنجاز مجلدين عن الأزمة السودانية جاءا بعنوان "السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل"، وبدرجة أقل أنجز منصور خالد كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل" في مجلدين أيضا، وغيره من الكتب.
    بيد أن الأول كان أكثر دقة في تفسير الواقع بربطه بجذور الماضي منذ الممالك الوثنية فالمسيحية القديمة في السودان الشمالي، إلى العصر الحديث، واعتمد على قراءة حداثوية في الربط والتحليل والتفكيك البنيوي لمركب الحياة السودانية، لاسيما في بعدها السياسي وتقاطعات ذلك مع الثقافة والمجتمع والاقتصاد. أما الرجل الثاني ورغم أنه أكاديمي ورفيع المستوى من حيث الدرجة العلمية (دكتوراه) بخلاف حاج حمد الذي لم يدرس الجامعة، فقد كان، أي منصور خالد غير خارج عن ذلك الوصف الذي جاء به جون قاي في التلاعب باللغة والتركيز على مجرد الحاضر وغياب أي منظومة مستقبلية في كتاباته، رغم أنه ممارس سياسي حيث سبق له أن شغل منصب وزير خارجية في عهد النميري، ومن ثم مستشارا للحركة الشعبية التي قادها جون قرنق في حرب الجنوب. كما أن منصور لم يتخلص من النزوات الشخصية في الحكم على الأحداث السياسية، باعتباره مشاركا فيها بشكل مباشر. وإذا كانت الأزمة عند حاج حمد تقوم على فوضى من التناقض والتداخل الجدلي غير البنّاء، ومحاولة تلمس الحلول بكيمياء ذهنية بحتة، فإن خالد كان لا يقوم بسوى دور الكاتب المسلي الذي يمتع بقراءته لمجرد تمضية الوقت والإضحاك أحيانا بحيله اللغوية وعبقريته في ابتداع المفردات وثقافته المتمكنة من اللغة.
    "النظام يتجه إلى حتفه التاريخي":
    كان حاج حمد وبحكم منهجه الشفاف في رؤية الأحداث قد تنبأ بتغيير قد يحدث في السودان، وكتب عن ذلك في مجلة الاتجاه الصادرة عن شركة الدينونة في قبرص، والتي كان يرأس تحريرها ويمتلك الدار الناشرة لها، وهي مجلة يحررها وحده بشكل عام، ولم يصدر منها غير عدد واحد لغياب الميزانية الكافية لذلك، ومن المصادفات الغريبة أن العدد الأول صدر في شهر يونيو 1989، ذات الشهر الذي وصل فيه البشير لدفة الحكم، وحمل على الصفحة الأولى مانشيت يقول: (السودان: النظام يتجه إلى حتفه التاريخي) وكان يعني نظام الصادق المهدي أو الديمقراطية الثالثة.
    لكن رؤية أبو القاسم أخفقت هذه المرة في جزء منها، ربما لإحساس كان بعيد التفاؤل بشأن المستقبل، أن ثمة قوى اجتماعية حديثة تتحرك في الباطن الاجتماعي وأن ثمة جيل جديد قادر على التغيير وإزاحة الكيانات التقليدية التي تحكم. والواقع أن ما كان أبو القاسم يكتب عنه، ليس إلا مجرد تصور لإمكانية الحل من منظوره الذاتي، ما كان يحلم أن يكون، ولم تكن قراءته لفكرة الجيل الجديد الذي نشأ في عهد النميري منبتا عن الفكر الطائفي بإضافة ما يسميه بالقوى الاجتماعية الحديثة، وإمكانية قيامها بدور إصحاحي، ببعيدة، لو أن الأمور سارت بناء على صدق في النوايا أولا وقبل ذلك التخلص من أسر قصر النظر في استبصار الأزمة.
    كما أن الجيل الذي يتحدث عنه حاج حمد كان يعاني البطالة والتشوش وفقدان بوصلة المثال الذي يحتذى به إضافة إلى أن تعقد الوضع الاقتصادي والذي جعل الكثيرين لا يفكرون بسوى الهجرة إلى أي مكان في الدنيا ينقذهم من براثن الفقر. إذن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن أبو القاسم، رغم صدق نبوءته القائمة على قراءة وتشريح الواقع، حيث أن ما تخوف منه كان قد حدث، حيث كتب في ذلك المقال: "ليس المطلوب انقلابا عسكريا يضيف إلى همومنا هما جديدا ويدخلنا في متاهات الاستقطاب الإقليمي، وبمعزل عن أي تصور استراتيجي أو اجتماعي أو اقتصادي أو حضاري واضح، وكفانا ما جربنا خلال انقلابين عسكريين أخلا بكل معادلات السودان الداخلية والإقليمية والعالمية. علما بأن العسكريين أنفسهم قد فقدوا الميل نحو تدبيج البيان رقم واحد، ولكنهم لم يفقدوا القدرة على التأثير تحت ضغط ما يحملونه من أثقال المشكلات السودانية" .
    إذن فقد كان المتحقق هو العكس، فالعسكريون لم يملوا تدبيج البيانات أبدا. وكانت إشارة حاج حمد برفض انقلاب عسكري مبنية على ما كان قد حدث على أرض الواقع من تمهيد من قبل الجيش لتغيير مرتقب، فقد كان الجيش قد تقدم بمذكرة مشهورة في العشرين من فبراير 1989، يطلب فيها من حكومة الصادق المتحالفة مع الجبهة الإسلامية، الاستجابة لعدد من المطالب المتعلقة ببنية الجيش حيث أنه يعاني من أوضاع لا يحسد عليها لاسيما في الجنوب، وكان من تداعيات هذه المذكرة الشعور بأن ثمة أمر ما قد يحدث من قبل الجيش، لاسيما أن المذكرة كانت تتضمن بندا يشير بشكل واضح إلى أن ولاء الجيش لله والأرض والشعب، ولم يرد ذكر الدستور، وهو ما يمكن تفسيره كإشارة مبدئية وتهديد ينذر بإمكانية أن تشق القوات المسلحة عصا الطاعة عن الحكومة. ورغم أن الحكومة قدمت ردا ركزت فيه على دفاعها عن سياستها تجاه الجيش، إلا أن المذكرة طالبت الجيش بالإقرار بالشرعية الدستورية والانضباط، الأمر الذي جعل بعض الأصوات داخل المؤسسة العسكرية تشعر بالامتعاض وتتحدث بصوت عال بضرورة التغيير العسكري لنظام الحكم. وقد أفضت الأزمة إلى تشكيل حكومة جديدة في 27 مارس1989، عرفت بـ "حكومة الجبهة الوطنية المتحدة"، سبقها توقيع كل القوى السياسية على برنامج عمل مشترك ينص على المحافظة على الشرعية الدستورية والتعددية ودعم القوات المسلحة ومعالجة الواقع المتردي على كافة الأصعدة بقيام ما اصطلح عليه بـ "المؤتمر الدستوري".
    كل هذا التحول السياسي كان أن عارضته الجبهة الإسلامية وبالتالي كانت خارج الوفاق الوطني والحكومة. وهو الأمر الذي فسر لاحقا من قبل محللين سياسيين كانوا عاجزين عن صنع الرؤى قبل حدوث الوقائع، أن الجبهة الإسلامية كانت تدبر لنقض عهد الديمقراطية والاستيلاء على السلطة بالقوة، وتم تدعيم التفسير السابق بحقيقة تاريخية وهي أن الجبهة الإسلامية كانت قد رفضت من ذي قبل التوقيع على "ميثاق الدفاع عن الديمقراطية" بعد انتفاضة أبريل، لكن إشكالية جملة القراءات السياسية في السودان أنها تفتقر للعلمية وتظل محدودة الأفق، يضاف إلى ذلك أن السياسة في حد ذاتها هي نظام معرفي تجريبي كما فسرها هارولد لازويل، تصعب بشأنها قطيعة القول ويغلب الشك والظن.

                  

02-03-2013, 01:52 AM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: عماد البليك)


    الإسلاميون: من العقيدة إلى "الثورة"

    عندما أطل الفريق البشير من على شاشة التلفزيون السوداني وعبر الإذاعة، لم تكن عامة الشعب تدرك طبيعة وهوية الذين صنعوا التغيير الجديد، وظلت "الإنقاذ" بمثابة لغز يحير الجميع، من هي هذه الجماعة ومن أين جاءت وماذا تريد أن تفعل بالضبط؟!.. وباعتراف الدكتور الترابي في رسالة قدمها في ذكرى مرور عام على ولادة حزبه المؤتمر الشعبي ، الذي جاء بعد الانشقاق الذي حدث في النظام نهاية القرن الماضي، فقد "طلعت ثورة الإنقاذ أولا انقلابية (مبهمة)، ثم تكشفت بعد عام ونصف (تعلن) عن وجهة إسلامية سافرة، ثم تطورت إصلاحيا متواليا إلى دستور وقانون ومرسوم يصدق مبادئها الخ...".
    وقد جاء الإعلان عن "الإسلام السافر" ليتحول انقلاب الثلاثين من يونيو من غموضها ووجهها العسكري إلى "ثورة إسلامية" ساهم الترابي في التأسيس لها بشكل رئيسي، فقد كان الرجل دينمو الحركة الإسلامية السودانية والذي بتجريدها منه، لا تعطي أي دلالة تاريخية. وهكذا سرعان ما تكشف الضباب شيئا فشيئا لتبدو الصورة واضحة وجلية للعيان، أن ذلك الانقلاب المبهم كان إسلاميا، سواء صنعته الحركة كعقل جمعي، أو صنعته عقلية مفردة ممثلة في الترابي، أو أشخاص آخرون في الحركة.
    ولعل فهم تداعيات هذا الانقلاب وكيفية انتقال فكر الإسلاميين من العقيدة والإصلاح الاجتماعي، إلى "الثورة" وفق مفهومهم، تستدعي إعادة قراءة تاريخ الحركة الإسلامية في السودان، حيث أن أبرز النتائج التي يمكن الخلوص إليها، أن الحركة طوال تاريخها الذي امتد لأكثر من نصف ظلت من أكثر التيارات السياسية قدرة على التلون، ودائما ما افتقدت لغياب الصبر في مسارها الزمني، أيضا رغبتها في تحقيق انتشار وتوسع بأسرع فرصة، مستندة على تراث وذاكرة جمعية تقول بأن الإسلام وهو المبدأ الذي تعتمده، انتشر في وقت وجيز وتمكن من الوصول إلى كل بقاع الدنيا في طرفة عين، وفي السودان بالطبع.
    وقد كان الإسلاميون السودانيون وعلى رأسهم الدكتور حسن الترابي ينطلقون من ذلك الإرث في الذاكرة بظن أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه، وأن "الدولة الإسلامية" يمكن أن يعاد بناءها من جديد انطلاقا من الخرطوم، التي روجت لها بعض الكتابات الإسلامية آنذاك على أنها "مجمع البحرين" في إشارة إلى أنها المكان الذي التقى فيه موسى بالرجل الصالح وفقا لتفسير يحاول إيجاد مقاربات أسطورية، ليست لها محل في الواقع، بالاستناد إلى النص القرآني، الذي يمثل المرجعية الأولى للحركة في بناء أفكارها الإيجابية والسلبية أيضا باعتماد الحركة وفق منهج زعميها الروحي الترابي، ما اصطلح عليه بـ "فقه المصلحة والضرورة"، وهو نوع من التحايل الذي يلعب باللغة والمصالح الآنية ليحور ويأول النص التأسيسي وفق مقتضيات المطلوب في الحاضر من رغبات وأشواق.
    كما أن ذات الحركة التي يمكن وصفها بإتباع تيار الإسلام السني، كانت أيضا تستعين بكثير من مقولات وتقاليد وتصريفات التيار الشيعي مثل مسألة "التقية" التي تعني بأن يظهر المرء خلاف ما يبطن ليتمكن من طوي أسراره والوصول لأهدافه، ما دام ذلك الشيء يحقق المصلحة العامة بحسب رؤاهم، والتي هي في خلاصة الأمر مصلحة ذاتية بحتة لا تتعدى أشواق الذات الراغبة في السلطة والمال والجاه والسلطان، بما يجعل الحركة الإسلامية وفي واقعها العملي تعيش ذات الدور الذي تعيشه كافة التيارات السياسية الأخرى في السودان، فيما فُسِّر سابقا بمجرد البحث عن أمجاد وبطولات فردية وسعادة مادية ورفاهية شخصية.
    ولهذا لم يكن من المستغرب أن تعتمد الحركة الإسلامية ذات آليات غريمها الحزب الشيوعي في بناء خلاياها وتقنيات التنظيم وهو الأمر الذي لا ينكره الترابي في تأريخه المكتوب للحركة، بل تكرر ذات الذي قام به الشيوعيون في مايو 1969 عندما أوصلوا النميري إلى السلطة، ولكن بشروط مختلفة دخلت في حالة من اللبس والتمويه الذي يكشف هذا الكتاب جزءا منه. وكأن التاريخ يعيد نفسه في بلد يفتقد للإبداع الخلاق في ابتكار طرق جديدة للحياة والسياسة، وأثبتت الدورة الجديدة أن ما حدث في عهد مايو بإقصاء الشيوعيين عن السلطة والتخلص منهم، يتكرر في عهد "الإنقاذ" بإقصاء الأب الروحي للحركة الإسلامية، بعد أن تحول حلم عالمية "الدولة الإسلامية العالمية" إلى حلم محلي بحت.
    عودة إلى "أمس الحركة":
    ولكي نفهم المشهد بدرجة أفضل وبالعودة إلى الأمس، متخلصين من الذهنية الجمعية التي تحدق في مقعر الحاضر، نجد أنه وفي الربع الثاني من القرن العشرين بدأت الحركة الإسلامية السودانية عملها في شكل مجموعات وخلايا صغيرة في الجامعات والمدارس، معتمدة على سنن حركة الأخوان المسلمين الناشئة في مصر ومنهج مؤسسها حسن البنا، حيث كانت مصر "القبلة" والمثال الذي يحتذى به في رفد الواقع السوداني بمعطيات التجديد والتغيير، وشكلت منذ بدايات القرن الماضي فردوس المعرفة الذي لابد من دخوله لكي يجتاز المثقف السوداني اختبار الأهلية ليشكّل مركزيته في أي ضرب من ضروب الحياة، سياسية كانت، أدب، فنون، تخصص الخ...
    ورغم وجود تراث حركي إسلامي سوداني متمثل في الحركة الصوفية ذات الانتشار الواسع والمعتقد الراسخ في الذاكرة الجمعية، إلا أن هذا التراث الصوفي لم يتطور ليكون قادرا على التعايش مع متطلبات الحداثة، وبالأحرى استطاعت الصوفية أن تتقدم خطوات بسيطة نوعا ما، عبر الحركة الطائفية، وخلقت أنظمة سياسية، إلا أنها ظلت دائما قاصرة الأفق في إنتاج تيارات حداثوية ذات بعد معرفي يعيد إنتاج التراث بما يجعله مؤهلا لصياغة واقع جديد، يحل قضايا البلد ومشكلاتها المتراكبة والمعقدة.
    ووجدت الحركة الإسلامية في السودان الشمالي المسلم تربة خصبة من حيث تعمق البعد الديني في العقل الجمعي، ملبية أشواق المتدينين الذين يرون في عودة الإسلام بعد غربته، عودة لزمن مثالي لم يتحقق ذات يوم على أرض الواقع، والمعني أشواق "دولة المدينة" وما جاء بعدها.
    وفي ظل غياب قراءة واعية وعميقة للتاريخ الإسلامي، كانت الحركة تعتمد في تأريخ الماضي الذي تحاول إعادة إنتاجه، على ثقافة هشة افتقدت لمعاينة الأمس بعقل محايد يستفيد فعلا من التراث الفكري الإسلامي، المعتزلي على وجه التحديد، بمعنى أدق الاستفادة من نقاط إيجابية في مجمل حركة التاريخ الإسلامي.
    وما حدث في الواقع أن الاستفادة تمت في حدود فوقية، أو تبصرات فكرية بغرض التنظير ومتطلبات اللحظة، وصبت في ذات مسألة البحث عن مجد الذات، بعيدا عن الفائدة العامة، كما في فكر الدكتور الترابي، الذي قدّم بداية لمشروع تنويري كان من الجائز أن يقدم أطروحات لإسلام جديد يتقاطع مع شروط العصر والتحديث المطلوب، بيد أن الدكتور سرعان ما نسي ما بدأه، أو تناساه حيث كان مهموما بالسياسة أكثر من اهتمامه بالفكر، لتجد الحركة الإسلامية نفسها حركة مصلحية تتخذ الدين كوسيلة للمعاش وتحقيق الذات والمنافع الدنيوية المجردة.
    وبقراءة أدق لا يمكن عزل صورة السودان عن صورة "الحركة الإسلامية العالمية" التي افتقدت للعقل الجديد، القادر على تجاوز شروط الماضي، وهي مشكلة الفكر الإسلامي بشكل عام في اعتماده التكرار والإعادة والتدوير، دون مغامرات كبيرة تنقذ الإنسان وتحدد له موقعا فاعلا في الحراك الكوني.
    وهكذا عاشت الحركة الإسلامية السودانية "فوبيا الانغماس في السياسة" وابتعدت عن الإصلاح الفكري الجذري، وصار همها الأول والأخير هو السلطة والمال، فانتقلت من طور "الأخوان المسلمين" و"جبهة الميثاق الإسلامي" البدائيين، إلى أطوار أكثر توسعا في استقطاب أكبر عدد من الجمهور بعيدا عن مرتكز الشروط الكلاسيكية لتجنيد الأفراد في الحركة.
    فإذا كانت البدايات تُعنى باستقطاب أفراد لهم ميول دينية ويلتزمون بالعقيدة وتطبيقاتها العملية من صلاة وصوم وغيرها، فإن الخطوة الثانية كانت لا تلتفت كثيرا لهذه الشروط، وإن كانت باقية في إطار الأسس المظهرية التي لابد منها بهدف القول بأننا ما نزال ملتزمين بالعهد القديم. وفي ذات الآن التزمت الحركة بخطاب الإسلام الشكلاني بوعي تام منها بأن ذلك يفيد جدا ويخدم غرضها الجوهري في الوصول إلى السلطة في مجتمع يعتقد بأن خلاص الإنسان في العودة إلى الماضي، وأن الشريعة هي التي ستنير درب الإنسان وتخلصه من درن الحاضر.
    وكان أن انفصلت ومن وقت مبكر نسبيا مجموعة عن الحركة الجديدة المتوسعة بشراسة، بعد أن رأت أن العهد الجديد يخالف المبادئ، وأن "الثوريون" الجدد يخالفون عهد الله ورسوله، وتمثلت هذه المجموعة الخارجة عن طاعة "الجماعة" في "الإخوان المسلمون" الذي يتزعمهم الصادق عبد الله عبد الماجد، والذي ينطلق من رؤية مخالفة للترابي الثوري تعتقد بأن الحركة ابتعدت عن مبادئها وأهدافها وأن ما يحدث ليس إلا بحث عن متع دنيوية زائلة . غير أن الحقيقة التي يجب الإفصاح عنها أن خطاب عبد الماجد لا يخلو من نوع من التنافس والغيرة غير المرئية بينه وبين الترابي.
    زمن الترابي:
    استطاع الترابي أن يكسب التنافس في حلبة الصراع، بعد أن تحولت الحركة الإسلامية إلى ميدان خصب لرياضة "ماراثونية" هدفها من يصل أولا إلى خط النهاية ومن يحرز أكبر عدد من الأهداف. وكان كسب الترابي متأتي عن العقلية التي كان يتمتع بها ليس نتيجة تعليمه الغربي الراقي فحسب، بل ذكاؤه "الفطري" الذي مكنه من إجادة "لعبة اليوجا" في تأمل عملي يذهب إلى ما أبعد من اللحظة الحاضرة، وهي طريقة تخالف السائد في السياسة السودانية ذات التأطير المرحلي.
    لكن الإشكال الذي وقع فيه الترابي أنه سرعان ما أغتر بقدراته الذاتية ونجاحاته المتواترة الأمر الذي أوقعه في نهاية اللعبة في الفخ الكبير، ومن لاعبين كان يظن أنهم صغارا على استيعاب شروط اللعبة، متناسيا أن المدرسة التي قام باختلاقها في الحركة الإسلامية: "مدرسة المداورة والتنطيط والشقاء الطفولي المبرمج"، استطاعت أن توجد تلامذة أذكياء لم يحفظوا الدروس فحسب، بل كانوا قادرين على استخدام القاعدة التي تقول بأن "المعلمين جسور تعبر فوقها الأجيال". وقد كانت "سنوات البشير" لحظة الفراق بين المعلم والتلاميذ عند "مجمع البحرين" الأسطوري، بعد أن "تلاحقت الكتوف" كما درج القول السوداني، في كناية تفيد بأن الصغير قد كبر وأصبح قادرا على أن يشق طريقه بنفسه وأن يقول قوله دون أدنى مساءلة من الكبير.
    وقد كانت "سنوات البشير"، وهي الحلقة الثالثة في مسار الحركة الإسلامية السودانية، هي المرحلة الأكثر تعقيدا من حيث إمكانية قراءتها والخروج بنقاط واضحة تفسرها، حيث أنها لا تزال مرحلة معاشة يكون الحكم عليها مترتبا عن قراءة آنية، بخلاف المراحل السابقة والتي قضي أمرها وأصبحت تاريخا يسهل تفكيكه وإعادة تركيبه بمعيار منهجي عقلاني صارم.
    لكن هذا القول لا يمنع أن هذه المرحلة الثالثة، بعد مرحلتي: التأسيس الكلاسيكي (مرحلة الريادة التقليدية)، والانفتاح المتحفز (مرحلة الترابي)، هي مرحلة تحقيق الحلم وجني الثمرات وتحوير التأسيس الأول "اليوتوبي" ونقله إلى بناء واقعي يتماهى مع شروط العصر - سواء اتفقنا معه أم اختلفنا- في إطار البحث عن تركيبة لبناء الدولة الحديثة اعتماد على إسلام "براجماتي" عملي، على الرغم من أن هذه المرحلة لم تخلو من عقليات ما زالت متشبثة بماضي الحركة الإسلامية في إطار شكلي وكإرث يمكن التباهي به، وكنوع من طمأنة الذات: بأننا لم نفارق الوعي المُؤسِس لمسارنا. بيد أن جملة المشهد لا يعني وجود رؤى إستراتيجية واضحة سواء للحركة الإسلامية من جانب، أو للدولة من جانب آخر، حيث لا يزال الأمر يخضع لاعتبارات الآني والمؤقت الطارئ، وهي مسألة متأتية عن غياب الجدل الفاعل بشأن المكتسب والمأمول.
    وبشكل عام يمكن اعتبار "سنوات البشير"، بمثابة مرحلة الاختبار الحقيقي للحركة الإسلامية وحلقات الدولة السودانية في بحثها عن التشكيل، تلك الدولة التي لم تتشكل إلى الآن بالصورة النهائية ذات الطابع الحداثي والمستقر الذي يرفد مشروع تنمية الإنسان وبعثه ليكون فاعلا في البناء والتعمير، ورغم أن هناك الكثير من المنجزات التي تحققت على مستوى البني الفوقية والظاهراتية للدولة إلا أن هذه المنجزات لا تعطي التصور الكافي لإطلاق صفارة النهاية والقول بأن كل شيء قد أتضح، وأن المستقبل قد تم رسمه والتاريخ السوداني قد أغلق بوابة الصراعات والبحث عن الذات. لأن إشكاليات الهوية السودانية ما زالت معلقة، وقضايا التنمية ما زالت مرتبكة، وأفق المستقبل ما يزال محفوفا بالمخاطر وبجدلية البحث عن الممكن من خلال اللاممكن. وإذا كان السودان وبما يتمتع به من إمكانيات هو قطر (الممكن الذي يجرّب في اللاممكن) فإن المستقبل يمكن أن ينرسم وبشكل باذخ الجمال والكسب، لو أن المسائل تم النظر إليها بعيدا عن التأطير المرحلي، وبتجرد تام.
    إن الموضوعية تتطلب من الباحثين النظر إلى "سنوات البشير" خارج شرط كونها حقبة صراع بين المؤسسة العسكرية والمدنية الإسلاميتين، أو بين فكر المعلم ورجع الصدى لدى التلاميذ الخارجين عن قانون الأب الروحي، ولكن بأفق أكثر اتساعا يستلهم من التجربة المفيد والقابل للتعايش مع الغد، ويستقصي الدرن والآني والجائر على بلد كان من الممكن أن يكون على أفضل حال لو أن الزمان عاد للوراء، ولو أن ذات العقول التي قادته أعادت شروط علاقتها مع الذات أولا ومع العالم ثانيا. ولو أن ذلك مستحيل بفيزياء الكون التي لا تسمح لغير زمن يمتد خارجا إلى الأمام دائما، فإن الأمل مرهون بالمستقبل وبأجيال جديدة قد يكون ممكنا لها أن تقدم دولة عصرية حقيقية، ولكن ذلك مشروط بتضحيات جسام وتجاوز كبير يتطلب التدرب على "يوجا جديدة" غير التي اصطنعها الترابي أو المهدي أو نقد أو غيرهم، يوجا ذات جدارة باحترام الآخر قبل كل شيء. الآخر الذي يكون لي أن أتعايش معه بكل صدق ومحبة، في إطار حقوق وواجبات ووعي بدوري أولا وقدراتي وما الذي يمكن أن أقدمه وبعقلانية بعيدا عن البحث عن "مدن أفلاطونية فاضلة" لا وجود لها على هذه الأرض.

                  

02-03-2013, 02:05 AM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: عماد البليك)


    من هو البشير؟

    لا يهدف هذا السؤال "من هو البشير؟" على تحقيق إجابة بالشروط الكلاسيكية التي تستعرض حياة شخص ما، كونه ولد في المكان المعين وتعلم وفعل، وفعل.. الخ.. لأن هذا النوع من القراءة لا يقرّب من رؤية الشخصية وفهمها بوجه صحيح. فالمنهج الذي يستخدمه الكاتب هنا يعتمد التخلص من النظرة التي تعتمد حياة الفرد على أنها مجرد خط صاعد، يبدأ من الطفولة إلى الشيخوخة، حيث يشكل المرء تراكم خبراتي حياتي يؤدي به في النهاية إلى خلاصات معينة.
    فالنفس البشرية أكثر تعقيدا من هذه النظرة المسطحة، كما أنها ليست نتاج مجرد خبرات وثقافة واحتكاك، إنها معقدة بطريقة شائكة تجعل بعض الأمور لا تفسر حتى للإنسان نفسه، عندما يقوم بفعل ما. كما أن بضع مؤثرات صغيرة غير ملحوظة للذات أو للآخر تلعب في بعض الأحيان دورا في تشكيل وصياغة المرء، فمجرد حدث صغير في الطفولة قد يكون له نتيجته بعد خمسين سنة، وفي المقابل هناك وقائع كبرى في حياة الإنسان لا يكون لها أي دور في تشكيل مستقبله. ودائما خيارات الإنسان لا تخضع لشروطه بقدر ما تستجيب لعوامل خارجية، لكن هذا لا يعني أن ثمة إرادة داخلية أو بوصلة غير مرئية تحرك باشتغال في اللاوعي سلوك الإنسان، رغباته وأحلامه.
    المعني بالعوامل الخارجية ليس مجرد التأثير الذي تعكسه البيئة الثقافية على الإنسان، المحيط الذي ينشأ فيه ويدرس ويعمل، أو الثقافة التي يكتسبها، بل أبعد من ذلك فثمة عوامل خارجية غير مرئية منها ما يرتبط بأمور غيبية، لاسيما في مجتمعات معلقة بفكرة الغيب والقدر وأن حياة الإنسان مقدرة ومكتوبة.
    وفي مقابل ذلك فإن العوامل الداخلية تحمل أيضا ومن رؤية نظرية علمية بعدها الثقافي، حيث أن هناك من يعتقد أن الجينات لها دور في نقل الكثير من الأفكار والمكتسبات عبر الزمن من ذرية لأخرى، ولهذا الأمر كذلك تأسيس ديني عند البعض، فثمة إشارات واضحة في التراث النبوي تحث عند الاختيار للزواج أن يختار المرء الزوجة بناء على عدة اعتبارات منها النسب، وتكرس الرؤية الدينية هذا المفهوم كما في مسألة الإمامة عند الشيعة التي هي عملية وراثية، ونجدها عند الأنبياء الذين هم بيوتات معينة كما في آل إبراهيم وذريته، إلى آل يعقوب وغيرهما، ويطول الحديث عن هذا الموضوع وليس هنا مجال بحثه. وبشك عام نجد أن التراث الديني يؤكد على مسألة النسب بشكل جذري فالرسول عليه السلام من ذرية إسماعيل "خيار من خيار من خيار" كما ورد في الأثر،وهكذا.
    عموما ومع كل هذه السرد النظري الوارد يجب التنبيه إلى أن أي قراءة لشخصية ما أو الكتابة عنها لا يمكنها التحرر من فكرة الإسقاط الذاتي، فأن تكتب عن الآخر، لا يعني أنك تكتب عنه بدرجة مطلقة، فأنت لحد ما تكتب عن نفسك، حتى لو أنك استعنت بكم هائل من المعلومات الموثقة، خاصة في ظل مفاهيم ما بعد الحداثة التي ترى حرف كالفن والكتابة، حتى لو حصرت في دائرة (الفن للفن) أو (الكتابة للكتابة) لن تتعدى كونها رؤية للذات من خلال الآخر.
    الديك والبدرج:
    انطلاقا من هذه التأسيسات وبالعودة إلى الوراء، إلى ما قبل أربعة قرون وبالرجوع إلى كتاب الطبقات الذي يمثل مرجعا ثريا في التراث الصوفي والمجتمع السوداني الشمالي والأوسط بشكل خاص في عصر الفونج وهي أول مملكة إسلامية في السودان حكمت من 1505م إلى دخول الأتراك في 1821م، سنجد أن المكان الذي ولد به عمر حسن أحمد البشير، بلدة حوش بانقا (أصلها بان النقاء)، وهي تقع بالقرب من مدينة شندي (شمال الخرطوم على النيل بحوالي 180 كيلومترا). هذه المنطقة كان لها تاريخ ديني باذخ الثراء، ومن ضمن الذين عاشوا فيها وأشار إليهم الكتاب المذكور المتصوف بان النقا (وأصلها النقاء أي الصفاء والطهر) ولد الشيخ عبد الرازق.
    هذا الرجل له "قصة غريبة" مع والده - وكلاهما فقهاء دين ومتصوفة- ، ولو صدقت هذه القصة وأن لو الرجل كان له علم لم يتوفر لعامة الناس كما روي عنه لكان الأمر عجبا، ولكان البشير واحدا من أحفاده. مع الإشارة إلا أن المسألة تحتاج إلى تقصّ تاريخي وليس هذا مجال الكتاب، أيضا نشير إلى أن السودانيين رغم احتفائهم كثيرا بالنسب واحتفاظ بعض الأسر بما يسمى وثيقة النسب التي ترجع أغلب القبائل العربية إلى العباس عم الرسول أو إلى علي بن أبي طالب أو غيره من السلف من آل النبي، إلا أن هذا الأمر يفتقد للدقة، فكثير من هؤلاء يجهلون في الواقع نسبهم الحقيقي، وليس بإمكان الواحد أن يحدد بدقة من يكون جده العاشر. واعتقد لهذه العادة جذورها الدينية كما سبقت الإشارة، ولها بعدها العرقي أيضا، لاسيما في مجتمع كالسودان ما يزال يفرق بين أبيض وأسود، غير مهتم بتأكيد الأثر على أن التقوى هي التي تميز المسلمين.
    القصة طريفة، يتم استحضارها هنا من قبيل التشويق وفتح الأسئلة وليس لأنها تؤكد حقيقة معينة، حيث تقول أن ود بانقا المشار إليه والمسمى على جده الكبير الذي ينسب إليه اسم البلدة التي ولد بها البشير، قال له أبوه "عبد الرازق" والكلام باللغة الدارجة: "وَحَات نور محمد صلي الله عليه وسلم ديِكي يَغوعِي آخر الأدياك" ، وأضاف ود ضيف الله مؤلف الكتاب يقول: "يعني بذلك ذرية بان النقا". وشرح الكلام أن "أقسم بنور محمد أن ديكي سيكون آخر الديوك التي تصيح". وقد كتب البروفسور يوسف فضل الذي حقق الكتاب يشرح ذلك: "المعنى أن ذريته ستتبوأ مكانا رفيعا ويعلو شأنها في آخر الأمر". فهل يكون البشير هو "الديك الأخير" المعني في رواية الأب عبد الرزاق؟!..
    لا إجابة.. مع التذكير بأن دلالة الديك بناء على تأويلات فقيه البصرة في العراق محمد بن سيرين (653 – 729م) في كتابه (منتخب الكلام في تفسير الأحلام) : "يدل على رجل له همة وصوت كالمؤذن.. والسلطان الذي هو تحت حكم غيره، لأنه مع ضخامته وتاجه ولحيته وريشه داجن لا يطير" ، ومن يعتقدون في مثل هذه الأمور سوف يحاولون خلق روابط بشكل فوري بين "ديك ود بانقا الموعود" وبين البشير، خاصة أن مراجعة قصة الديك وسبب كونه سلطانا مملوكا لغيره لها مرجعية في قصص الأنبياء. مع الإشارة إلى التأويل الذي قد يدور بالأذهان أن التنظيم الإسلامي جاء بالبشير ثم سيّره كيفما يشاء.
    يورد ابن سيرين: "أن (البدرج) سأل نوحا أن يأذن له في الخروج من السفينة ليأتيه بخبر الماء، هل جف أم لا، وجعل الديك رهينة عنده، وقيل أن الديك ضمنه. فخرج البدرج وغدر ولم يعد، فصار الديك مملوكا وكان شاطرا فصار داجنا. وكان البدرج ألوفا فصار وحشيا، وهو طائر أكبر من الدجاج أحمر العينين".
    وإذا ما تم استخدام "الطريقة التأويلية العبطية المؤسطرة" التي استخدمها الكاتب الإسلامي والمحامي السوداني أبوبكر القاضي في مقالاته بجريدة الوطن القطرية - قبل ان ينضم لحركة العدل والمساواة ويصبح مسؤولا فيها -، الذي أوّل ذات مرة الآية :"فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فأرتد بصيرا، قال ألم أقل لكم أني أعلم من الله ما لا تعلمون" بزعمه أن البشير هنا تحمل إشارة لبشير السودان، يعني عمر البشير. كان ذلك قبل انقلاب "القاضي" على البشير وانضمامه لجماعة العدل والمساواة ومن ثم معارضته للنظام.
    بطريقة القاضي، فإن قصة الديك والبدرج، يمكن إسقاطها على عهد الإنقاذ، حيث أن الديك هو البشير والبدرج هو الترابي الذي فرّ وتحول إلى وحش، والديك المسكين ضمن البدرج ولم يكن يعلم غدره، لكن في نهاية الأمر فإن الجميع نزلوا من السفينة، ولم يكسب البدرج غير الوحشية بعد أن فقد ألفته أما الدجاج فهو عامة أعضاء التنظيم الذين يتبعون الديك، لكن البدرج يظل أكبر من الدجاج والديك، ربما بعلمه وثقافته وفقهه.
    ويشار إلى أن الذاكرة السودانية تلعب كثيرا على مثل هذه التأويلات وتغرم بها، كما في تأويل حكاية حمد النحلان المشهور بابن الترابي (ود الترابي) الوارد ذكره أيضا في كتاب الطبقات والذي يروي ود ضيف الله أن أدعى المهدية في مكة: "ثم لما وصل مكة قال: أنا المهدي.. فضربوه هو وحيرانه".. ، فالسودانيون وبإيمان بعضهم بأن التاريخ يعيد نفسه، وبالقول أن ود النحلان هو جد الترابي الحالي، فقد اخترعوا حكاية أن الترابي الجديد وباتجاهه الإسلامي يكاد يعيد تاريخ جده في الإدعاء. وبذات الطريقة في التأويل فأن الترابي الجد عاش فترة من الزمن في قرية "مويس" من قرى شندي التي تجاروها بلدة حوش بانقا، وربما التقى جد الترابي و"جد البشير" ولا ندري ما الذي حدث، لأن صاحب كتاب الطبقات لم يقص لنا شيئا بهذا الخصوص!..


    (عدل بواسطة عماد البليك on 02-03-2013, 02:09 AM)
    (عدل بواسطة عماد البليك on 02-03-2013, 02:15 AM)

                  

02-03-2013, 03:34 AM

طه جعفر
<aطه جعفر
تاريخ التسجيل: 09-14-2009
مجموع المشاركات: 7322

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: عماد البليك)

    هكذا واجَه تَمدُنُها بداوتَه المسافرة في صحراءٍ جاورت النهر بكراهيةٍ و حقد. وقف جمالها الذي تحرسه صلبانٌ خضراء في بطن ساعديها و أك########ا. صلبانٌ نقشتها يدٌ طالما حلمت بالأمان في هذه النواحي الخطرة. في نظراتها سهوم، في رأسها تضج الاسئلة حول من يختبئون في غرفِ البيتِ السرية. مزّق الجندُ ثيابَها، أذلوا كرامةَ أمومتها و أمتهنوا عزَّ أنوثتها الذي يعرفه بوركيل زوجُها.
    كاسقيلي هو إسمها وعند هذا العدو هي ليست أكثر من أسيرة تم سَبيُها بعد هروب جنود الملك داؤود و مرور موكب هزيمته بمريم بوت. هرب الملكُ تاركاً وراءه رعيته تحت رحمة الجند الأغراب الذين يأتمرون بأمرة أشيكندا الملك الذي نصّبتْه الخيانةُ و الأطماع علي عرش تهاوت أركانه امام ضربات بني عكرمة، بني جعد، بني كنز و الحداربة في تحالفهم مع الملوك الأرقاء، الأرقاء البيض في مصر الذين جلبتهم مخازي متجذرة ليكونوا جنداً مأمورين فصاروا ملوكاً آمرين.
    مريم بوت علي ضفة النهر ظلّ مكانٌ آمن لأعوام و أعوام قبل أن تنتهك حرمة كنيسته حوافر الخيل وسفاهة الجنود الأغراب. ليس في مريم بوت غير عائلات كودلانيل، تينوسي ،إيلانات و سبعانول بالإضافة لأسرة كاسقيلي حيث تتشارك السكني مع أبيها سايتي هي و زوجها بوركيل و أطفالهما مع عدد من الجدات ، الأجداد، العمات ، الخالات الأخوال و الأعمام. يتجمع عدد من عائلات التجار في مساكن قليلة التحصين جوار السوق، معظم التجار مولدون إمّا آباؤهم او أمهاتهم أغراب. تحتجز تلالٌ صخرية تمتد كحزامٍ من جهة الغرب، تحتجز الرمالُ الغاضبة و تمنعها عن الجروف الخصبة التي تمتلك أراضيها عائلات مريم بوت ، المُشْرَع نفسه علي جزء منخفض من ضفة النهر تنتشر فيه أشجار كورمي التي يعتمد عليها بوركيل في مهنته كصانع للمراكب و أجزاء السواقي والأقداح الخشبية و قطع الأثاث، باركت يديه صلوات القسس و عبّاد الكنيسة و ألهمته ملامح كاسقيلي و طيب معشرها ما يحتاجه فنان من عزيمة.
    البيوت في مريم بوت حالها ككل البيوت في ذلك الزمن، صماءٌ لا أبواب لها، يصيح الزائر منادياً فتتدلي له سلالم الكرم نازلة بالبشر و التحية و الطعام المبذول قمحا و إدام تصنعه أياد تدربت علي حسن وفادة الزائروالغريب. حيطان البيوت عالية مبنية من الحجر و الجالوص، ظهورها ملساء يصعب تَسلقُها، للبيوت ساحات مشجرة بأشجار عالية، الغرف متجاورة تفضي أي غرفة الي غرفة ملاصقة لها ، الغرف في الطابق السفلي مبنية بحوائط سميكة و بأسقف من خشب السلم لتحمل غرفا في الأعلي، في أي بيت غرفة علي الأقل مموهة المدخل، البيوت في مريم بوت متشابهة جميعها من طابقين و في أي من البيوت تتعايش أجيال ثلاث و ربما أربع من نفس العائلة. ، في مريم بوت سوق صغير يموِّن المراكبية و العابرين بما يحتاجون لسفرهم عبر النهر أو خلاله.
    منذ أن عَرِف الناسُ في مريم بوت بخبر الحملة العسكرية الأخيرة و تأكدوا من هزيمة الملك داؤود توقفوا عن مغادرة البيوت بذلك صارت الجروف متروكةً ينبت بين قموحها و خضرواتها نبات السِعْدة. ترك بوركيل أعماله غير مكتملة في منْجَرته .
    هكذا وقف تمدنُها أمام بداوتَه،أشعثُ لا تخفي العمامةُ المختصرة شَعْره الأسود الطويل، لحيته نابتةٌ بغزارة فاحمة، يغطي شاربٌ كث شفته العليا، لونه يميل إلي حمرة متسخةٍ بغبار سفرٍ مرهق ، عيونُه غائرة وضيقة وفي نظرته قسوة. كاسقيلي لا تعرف إسمه هو فقط أحدهم ،هو من ذلك الجمع من المعتدين، قائدٌ ربما للجنود الذين أحرقوا البيوت، قتلوا حد طاقتهم من الفتك و لم يتوقفوا حتي بعد هروب الملك داؤود و جيشه المنهزم. كان أكثر ما يؤلم كاسقيلي أحراقهم لمن احتموا في بطن الكنيسة، أحرقوهم أحياءً و لم يهتموا لصرخات النساء و الأطفال . فكرت كاسقيلي في إتساخه و تذكرت المخبأ اسفل بيتهم حيث يحتمي أهلها فارتجف قلبها و إعتصرها ألم خائف و مترقب.هدمَ الجندُ حوائطَ البيوت و المخازن في سوق البلدة. جمع الغزاةُ غنائمهم، حشدوا اليافعات و اليافعين في أحد البيوت المنتهكة.تأكدت كاسقيلي من أن ما ينتظر ابناء و بنات اهلها و سكان البلدة هو الاسترقاق في مصر. القسوة المفرطة للجند، ذبحهم للمسنين و الأطفال، صلْبَهم و إحراقهم لجنود الملك داؤود ضيقت فرص المناورة أمام كاسقيلي لتظفر بمهرب من هذا المعتدي. تذكرت كلام أبيها "سايتي" عندما سألته عن سر الأسم، ابوها يحب ترديد هذه الحكاية "ولدت كاسقيلي في نهار شتوي،كان القمح مستويا علي سوقه، ولدت سليمة الجسد متوردة الوجه و لحمرة شفاهها أطلق عليها أسم كاسقيلي، بالفعل كانت كزهرة حمراء".
    أحتفظ بها قائدُ المِفْرَزة لنفسه. جلبَها جندٌ كانوا في محاولة لهدم حائط بيتهم، الترقب و الخوف علي الصغار هو ما حمل كاسقيلي إلي السطح، صعدت لتعاين الجند و هم يحاولون هدم جدار البيت السميك و العالي، صعدت لتحسب فرص نجاتهم ، رأوها فانعدمت فرصة الإختباء و توقف الهدم. قررت النزول اليهم لتقنعهم بأنها لوحدها بالبيت. يبدو ان شبقهم و أحلامهم بالإعتداء عليها هو ما ضعضع موقفهم. أحدهم اراد الصعود بالحبل الذي أنزلها لينهب البيت، غشامته و وزنه جعلتا الحبل ينقطع. مد أحد الجند يده الي صدرها فخمشه بخشونة، نزلت علي رأسه ضربة بكعب سيف، بدأ شجار بين الجنود أوقفهم قائد المجموعة الذي قال " علينا أخذها لقائد المِفْرَزة" . قائدُ الجند أرادها لنفسه، ادخلها في غرفة في أحد بيوت التجار في الحي المجاور للسوق. و أوقف جندي خارج الغرفة لحراستها. إنتهت مهام الجند و تمّ حمل الأرقاء و سَوْقِهم، رُبِطَت الغنائمُ علي ظهور الجمال ،الخيول و البغال التي تم نهبها من مريم بوت. علي نحو مغرب الشمس جاء قائد المِفْرَزة إلي غرفة إحتجازها. إحتشدت بمجيئه في الغرفة روائح مُنّفرة، خليطٌ من انفاسٍ مُتفعَنة و عرقُ مسافرٍ في الصحراء مع نتانة المغتصبين. تقدم نحوها و حاول إمساكها، طلبت منه كاسقيلي الإنتظار، ففعل. يبدو ان جمالها ألجمه. بحثت في البيت فجمعت عدة حمام و غسول منظف، سطل ماء، طست معدني، منقوع الخشب الذي يستخدم للنظافة و تاكة من الكتان. غسل الرجل جسده، أمر الجندي بالمغادرة. قررت كاسقيلي أن تهبه جسدها لتكسب من وراء ذلك أمان أهلها. تمرغ قائد الجند في جسدها الذي نهبت جماله و هدوءه الفجيعة الماثلة، قضي لنفسه اوطاراً في جسدها. في الصباح هَمّ بأخذها معه.لم يكن أمامها فرصة غير الإستجداء، دموعها ربما، أو ذكريات الليلة الفائتة أو ربما إشراقُ جمالها المنطفيء مع شمس الصباح المعتمة جعلته يفكر في الإستماع إليها. أرسل الحارسَ في طلب أحدهم.جاء الحارس بجندي آخر. ألقي عليها الجندي تحية فهمتها و لم ترد عليها ثم سألها ماذا تريدين؟ فقالت سأعطي قائد المِفْرَزة أمَةً و ذهب فأنا أم. كلّم الجندي قائدَ المِفْرَزة بلسانٍ كاسقيلي لا تعرفه. بعد مماحكة من قائد المفرزة و كثير أصرار من كاسقيلي وافق قائد المفرزة علي طلبها و طلب مزيدا من الذهب. قَبّلَت كاسقيلي قدماه ، إنتهز الجندي و الحارس تلك السانحة لمعاينة جمال عجيزتها، عظمة جسدها و بهاء جماله القادر علي أرغام أنوف الرجال بتراب الذل و الخضوع. ذهب قائد المِفْرَزة علي رأس مجموعةٍ برفقتها إلي ببيتهم. في طريقها إلي البيت ملأت عيونها بالدمع مناظر الدمار المفجع الذي خلفته الكارثة، بيت عائلة سبعانول كان بحائط متهدم ، اعواد أسقف الغرف مازلت ترسل دخاناً نحو سماءٍ تركتهم في العراء، بيت عائلة كودلانيل تهدمت حوائطه جميعاً و كان حطام الأثاث المحترق في باحة البيت الرئيسية، بيت عائلة إيلانات كان كقلعة محترقة تذكرت كاسقيلي احتفالاتهم في بيت عائلة إيلانات و أمسيات الطرب، الأنس و وافر الطعام و الشراب في بيت كان مركزاً للأفراح. أمّا بيت عائلة تيونسي فكان حطاما محترقا و مبددا بقسوة ربما لأنهم عائلة غنية فكان نصيبهم من النهب وافراً و مدمراً . الكنيسة منتهكة، سقفها محترق، الايقونات مرمية علي أكوام من حطام الأثاث الذي كان بالكنيسة و الدير، الرَّقُ ممزق و مرمي بعضه محترق غادرته قداسةُ أحْرُفه إلي الأبد . المشي جوار الخيل و رفقة الجنود الأغراب و ما رأته كاسقيلي من خرابٍ حَاقَ بمريم بوت حفّف عنها هول ما أصابها من الضيم فسلامة أهلها تستحق التضحية. نادت كاسقيلي والدها سايتي بنبرة أطلقت شيبا إضافيا علي رأسه و لحيته و أنزلت الصمت البارد علي نواحي البيت، حتي أوراق الشجر في ساحة البيت توقفت عن الإهتزاز للرياح غير المواتية.
    خلال غيابها إشتغل كل من في البيت في حزم أغراضهم و تجهيز الزاد لرحلة طويلة خلال النهر صوب الجنوب ، لم يكن بوركيل بينهم، إرتاحت كاسقيلي لذلك لأن جسدها متسخ بماء و عرق رجل آخر. سَلَمت علي أولادها بإختصار فهي لا تريد لرائحة الذل أن تغشي أنوفهم الصغيرة المدركة. أبوها عرف بالصفقة دون شرح. إستلم قائد المفرزة ما وعدته به كاسقيلي. رجع بوركيل منكس الرأس وكسير الفؤاد،كان في منجرته منذ البارحة، جَهّز في تلك الأثناء مركب هروبهم و المركب الذي سيحمل أغراضهم إلي كبنجي .

    هوامش:
    1- كاسقيلي: إسم سوداني لفتاة يعني الزهرة الحمراء (الخير محمد حسين بوست في سودان فورال)
    2- كورمي: شجرة تنبت علي ضفاف النيل يكون نصف ساقها تحت الماء، اخشابها صلبة استخدمت في صناعة البكرات و اجزاء الساقية و المراكب و الأسرة (الخير محمد حسين)
    3- بوركيل: تعني في واحدة من اللغات النوبية النحات ( الخير محمد حسين)
    4- سايتي، كودلانيل، سبعانول، تيونسي و ايلانات اسماء ملوك و نبلاء من مملكة نوباديا المسيحية اوردها ويليام آدمز في كتابه " النوبا رواق افريقيا ترجمه الدكتور محجوب التجاني
    5- كبنجي : إسم تاريخي لكبوشية ( الخير محمد حسين)
    6- مريم بوت : تعني مُشْرَع مريم ( الاستاذ الخير محمد حسين)
    7- تاكة: قطعة قماش قطني من نسيج يدوي استخدمت كفوط صحية،مناشف و استخدمت لصناعة الملابس و احيانا كعملة للمايضة (المقايطة بالعامية) (راجع يوسف فضل تاريخ ممالك السودان الشرقي الاسلامية
    8- الرَّق: رقائق من الجلد استخدمت كورق للكتابة في الممالك المسيحية و الدولة المروية المتأخرة
    9- البيوت الصماء: مصطلح اطلقه الاثاريون علي المنازل الحصينة خلال الايام الأخيرة لمملكة نوباديا و المقرة. هي بيوت بلا ابواب مازلت موجودة في مواقع آثارية (ويليام آدامز) و (الكتور اسامة عبد الرحمن النور)
    ....................................................................................................

    القصة اعلاه منشورة في الموقع ببوست مستقل و لم تجد حوارا كنت اطمح لإدارته هنا و لكن للحوار رافع كما للقدم رافع

    طبعا يا عماد القراية في منابر السودانيين الإلكترونية بقت اصحاب اصحاب و هذا أمر يجد عندنا مجمل الذم و كامل الاإرذال
    شكرا علي نشر مقاطع من كتابكم القيم و هذا امر من الامور التي اهتم بها في كتاباتي الادبية من جنس السرد القصصي
    رغم ان ما نشرته في بوستكم هو نوع الكتابة تحتلف عن الايميل و المقال لكنها تشتمل علي رؤي تاريخية محددة جدا و بعناية
    هذا عن امر دولة بني ربيعة
    ارجو ان يجد عندكم العناية

    طه
                  

02-03-2013, 03:43 AM

طه جعفر
<aطه جعفر
تاريخ التسجيل: 09-14-2009
مجموع المشاركات: 7322

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: طه جعفر)

    و عن امر الحلف السناري السردية ادناه تم نشرها في سودانفورال في عام 2007 ربما و هي منشورة في مجموعتي القصصية التي نشرتها دارعزة للنشر في العام الماضي المجموعة بعنوان " عذابات سوبا و حريق النهر " و لم تجد العناية المرجوة بالنقاش ايضا اتمني ألا تسبب مساهمتي معكم هنا في الحوار لكم لعنة التجاهل فهذه الامور الحيوية جدا ليس من ضمن اهتمامات متعلمينا في الوقت الحالي رغم انها هي الأهم لحلحلة شوائك الحروب المحتدمة بسبب الهويات و الموارد

    نيكانج يقاتل المانوشول في السافل

    تعالي الصياح و ربما الضحك الهستيري من قطية الرث1 المقدس، في اليوم الثالث, عند الظهيرة و السماء شديدة الزرقة تنتشر فيها بقع من سحب بيضاء مشتتة في السماء بجمال ساخن, تخذ طعمه من حر النهار. في فشودة و ليس بعيدا عن الشجرة التي تنجز فيها عدالة الرب، و يعترف فيها المعتدون بفعلتهم ضد أفراس النهر أو ضد الرعية. تعالي الصياح في اليوم الثالث لمرضه.
    روح نيكانج2 لم يمهل الجمع خرجت من الضريح، خرجت من التكل. خرج نيكانج جسداً مرئيا في هيئة محاربي الشولي ، خرج بحرابه المقدسة و كانت تلتف حول أك######## العارية سَلَبَه طويلة من حبل السلم المتين. الجميع يعرفون بمرض جلالة الرث، و جلالة الرث نفسه يعلم بالمصير و يدرك النتائج. نيكانج لم يكن غاضبا فقط كان مستعجلا، معلوم أن الآلهة ينفذون أحكام العدل بحزم جاد.
    يجب أن يتم شنق جلالة الرث هنا في أفرع شجرته، هنا في فناء محكمته معلوم أن جلالة الرث لا يجب أن يغيب عن محكمته لأكثر من ثلاثة أيام، معلوم أن جلالة الرث عليه أن يشبع شبق نسوته بفتوته التي لا تلين. و أذا عجز فعلي الجميع إنفاذ السبر و إنزال الحكم. جلالة الرث هو رمز ديمومة القبيلة و القبيلة حية علي الدوام.
    جاء (الاورورو)3 من هناك يحملون الوعد بالخلاص، الدروع الجلدية و الحراب الطويلة أم كوكاب و النبال النوبية ذات المجد القديم و الككر، كانوا فهودا خلف أقنعتهم الحازمة.
    خرج جلالته بثوبه الأبيض و قربابه الأبيض و هو شديد السواد، طويلا مفتول العضلات، لامع القوة شديد البأس. اشتكي جلالة الرث من أعراض بسيطة، هي الآلام في الرسغ و الركبة , هذه الآلام أجلسته في البيت و منعته من معاشرة زوجاته. خرج ليقف أمام الجمع , الاورورو و أمام الروح المتجسد نيكانج و مقاتلي الشولي الأشداء و نساء القبيلة . نيكانج ربط الحبل مشنقة علي احد أفرع شجرة الجميز العملاقة، وضع الاورورو الككر ليصعد عليه جلالته, وقفت العمات و الخالات و أختيه. نيكانج انتظره ليقف علي الككر , جلالة الرث يعلم أن من ستدفع الككر4 برجلها هي زوجته الكبرى أويل، ذات الأيادي الرقيقة و الجمال المميز. يعلم جلالته أيضا أن عليه أن يقفز بهدوء إلي الأعلى حتى لا يمتحن رقتها , دفعت أويل زوجة جلالة الرث الكبرى برجلها الككر بصمت و ثبات فسقط جسد جلالته ليقع في الفراغ الذي تركه الككر الذي دفعته أويل من مكانه، سقط جسد جلالته مشنوقا بأمجاد الأرض و عز القبيلة حبل ٌ يلتف حول الاعناق. جلالته يجب ألا يمرض و ألا يعجز. انطلق الغناء المصاحب للمعارك الوهمية بين الفرسان من أتباع الرث و الفرسان من أتباع نيكانج في البركة الصغيرة جوار الشجرة, محكمة القبيلة.
    الاورورو عندهم غناء جديد و هو رجز غير معتاد.


    من أين سنجلب الكتان الأبيض؟
    من أين سنجلب السنان لحرابنا؟
    كيف سندافع عن أفراس النهر؟
    هل سنترك جلالته عاريا؟
    مانوشول5 احرقوا سوبا
    العنج أهل المعدن و الحَجَر هربوا إلي الصعيد
    مانوشول كَضَّاب ! قال سوط عنج !

    انتهي الغناء،فعلمت النساء أنها الحرب و أن نيكانج غاضب، لان المانوشول اعتدوا علي عز القبيلة و منعوا تجارتها و أسرفوا في قتل أفراس النهر لصناعة السياط. المانوشول قتلوا فتيان القبيلة من صائدي الأسماك، هناك في أسفل النهر في السافل, الهمج6 ( الفون)7 بنبالهم من علي الجبال يقتلون الفتيان من الشولي.
    حُمِل جسد جلالة الرث مفلوفا بأثواب الكتان البيضاء , إلي التكل8 ، حُمِل إلي المقبرة. أويل لم تنسي حربته أم كوكاب و درعه المزين المصنوع من جلد التيتل الذي صارعه جلالة الرث و صرعه، و اخذ جلده فقط و منح لحمه لأويل نظير برمة من المريسة الطاعمة. هنا بكت أويل و اخفت حزنها حتى لا يراه نيكانج أو الاورورو. و ضع هناك و استقبل بوجهه الطاهر اتجاه مغرب الشمس حتى لا تحزن أرواح الأسلاف و لا يغضب نيكانج.

    انتهي العراك الصوري و انصرف الجميع إلي مراسم تنصيب الرث الجديد. جلالة الرث الجديد المحارب الذي سيعيد للشولي مجدهم و سيطرتهم علي مجري النهر.
    انتشر جمع كبير حول ارواح نيكانج و دانج9 المتجسدة في وسط دائرة كبيرة من فرسان شولي الأشداء. فرسان شولي يراقصون العذارى، الطبول تجعل المكان يرتجف من الرهبة و يخاف من جلال الأحداث المقبلة، يزأر الطبل المصنوع من جلد الثور مشدودا علي وعاء معدني كبير و ثقيل، مع مجموعة طبول أخري مشابهة و اصغر، الأكبر هو الثور و الصغار هم العجول، الطرق الشديد و دمدمة الطبول الغاضبة تملأ المكان بالترقب.

    فرسان الرث الجديد يقدمون بقرة واحدة و ثور لفرسان نيكانج و خمس حراب مسننة و طويلة ، هذا هو عطاءهم له أثناء الطقوس. ثمانون من الراقصات في صفوف خلف الرث يذهبن في رقصهن تجاه الفرسان.. فرسان جلالة الرث الجديد المحارب. السياط المقدسة يستخدمها فرسان نيكانج لطرد فرسان جلالة الرث بعيدا عن العذارى الراقصات, يمضي نيكانج إلي جلالة الرث المتوج ليجلسه علي الككر. الككر هو مجلس السلطان. جلس جلالته، سواد جليل يكسوه بياض الكتان بسحابة مجد، واردة من سوبا مدينة العنج الصناع الذين يقضون وقت فراغهم في قطع الأحجار و تشذيب السنان . غادر جلالة الرث إلي قطيته المهيبة ذات الأمجاد. ثم عادت روح نيكانج المتجسدة الي ضريحها بعد إنفاذ السبر.

    في اليوم الثالث يجتمع فرسان نيكانج من (أكوروا)10 و هم يحملون دمية نيكانج و فرسان الرث و يتعاركون بأعواد الذرة , ينتصر فرسان الرث و يأخذونه إلي كدوك و يتم إجلاسه علي الككر المقدس , حول جلالته عماته و اخواته و خالاته. هو الآن علي العرش، و هو الآن رسمياً رأس قبيلته و حارس النهر المقدس بحر الشولي و صاحب أفراسه العملاقة.
    انتهت المراسم ، الفرسان و العذارى لم يغادروا ظل الجميزة، هم في انتظار جلالته ينتظرونه ليدخل التكل و يكون بذا قد آذنهم بالذهاب.
    جاء شابان يحملان فلوكة، و يتوكأ كل ٍمنهما علي رمح طويلة و علي كتف كل منهما قوس و جراب به النشاب. حيَّ القادمان علي الجميع ثم جلسوا في قبالة الحشد, جلب الروب و بعده المريسة ، شرب القادمان ما قدم لهما. و بعد حين ظللت المكان غمامة، و سمع قصف الرعود، من العلية نزل نيكانج حيا جسدا .
    قال احد القادمين كنا مع نيكانج في رحلة في بحر الشولي، وصلنا إلي نهاية بحر الشولي عندما يلتقي بالبحر الأسود ومن المقرن ذهبنا جنوبا إلي سوبا. وجدنا سوبا محترقة و مهجورة و لا ناس فيها، الكنائس مهجورة و البيوت فارغة و متهدمة و النار قد أكلت السقوف، و ليس في السوق احد عم الخراب مدينة العنج.
    نيكانج كان معنا , ماشيا علي الماء و ملوحا بحربته الذهبية إلي ما نريد من ثمار الضفاف فتاتينا سعيا دانية القطوف . و كان نسوة عرب في الضفاف يغسلن و يسقين الماعز، كن يغازلننا بغنج, منعنا نيكانج من معاشرتهن. من هناك أبحرنا في البحر الأسود إلي أعلاه أبحرنا حتى سنجة و مابابان وجدنا العنج في ذهابهم مقهورين و تعبين يتسولون الضفاف، نيكانج خاطبهم بلسانهم فحكوا أمر المعارك الظالمة و السبي و الهلاك. كلمنا نيكانج عن أحزانهم، و جاء معنا ليكلمكم عما جري.
    قال نيكانج بلسان شولي المبين موجها خطابه للجمع قال:"الهاربون من حكام خيم11 العرب, جاءوا كهاربين و طمعوا في الملك و الثروات و المرعي، الهاربون لا عهد لهم هم يخافون حتى من ظلالهم و يحسبون كل صيحة عليهم، تجمعوا تناسلوا مع العنج كانوا يبحثون عن أفضل الفرسان فيطلبون أخوات الرجال الأشداء من فرسان العنج،يطلبون المصاهرة بكل ماعندهم من املاك . كان الهاربون يبحثون عن القوة في جسد الفارس الذي استضافهم، فوهبوه نسائهم بلا مقابل. فعلوا ذلك ليحوزوا قوة الفرسان في نسلهم الملعون. "
    و يبكي نيكانج بدمع من ماء حارق ، زفر زفرات هي هبوب جهنم الماحقة، ببكائه ارتجفت شجرة جلالة الرث، و انطلق دوي الرعد من سماوات صافية بلا سحب، كأنما صوت يأتي من الشمس بعلو حار.و يواصل نيكانج زفراته المحمومة أثناء كلامه بلسان شولي المبين و يقول:" الهاربون من جحيم خيم المنتهكة و المستباحة منذ الأزل، خيم بوابة تشبه في سفالتها بيت العاهرات طاف علي أثدائها الملعونة بالقبل و اللعق كل رجال الأرض و (تَيَرَب)12 في أحشاء نساءها نسل البعوض و الذباب."
    و تنهد نيكانج و ازفر بالغضب قائلاً:" خيم !!.. بطالمة، رومان، عرب تجار، قبط متوسطيين، أمويين وعباسيين، فاطميين، أيوبيين، مماليك، أنصاف رجال، صعاليك، ترك ،أرمن ، ألبان ،اشكناز ... كيف تجد المرأة صبرا علي كل هؤلاء الرجال، .. و يواصل نيكانج، هل هو النهر و الخيرات؟ هل هو الذهب و العبيد؟ هل الأمل هو في الاستقرار بعد طول عذاب في الوطن؟. أم هل هو ترحال البدو؟ .. لا اعرف."

    نيكانج يعرف !!.و لو قال الحقيقة لانكشف عري الرجال و النساء علي عتبات بيت جلالة الرث! توقف نيكانج عن السرد حتى لا يحدث ذلك!.
    و قال نيكانج:" أعدو جيوشكم سننزل جميعا انتم و أنا معكم إلي البحر، بحر الشولي المقدس حتى المقرن هناك في علوة، المقرن حيث يلتقي البحران بحر الشولي مع البحر الأسود."

    الاورورو.. صاحوا بهياج و اطلقوا رماحهم صوب السماء، يهددون الموت و يزجرونه عن أخذ الفتيان، يطلقون الرماح في وجه كل إله شرير سيهدد خصوبة البنات بنات شولي الجميلات اللائي ينجبن الفرسان.... و أنشدوا نشيد الحرب و الموت الزؤام
    بلحن قاتل و صوت حزين منتقم ، انشدوا..أنشدوا أغنيات الحرب, و أناشيد الانتصار المؤكد في حربهم ضد المانوشول
    منذ أيام اوشالو
    بدءوا في المجيء الي نوباديا.
    منذ أيام اوشالو كانوا يتسللون عبر الأبواب.
    مقرة. كرهتهم , و فتيانها طردوهم.
    علوة وفرت لهم المرعي لإبلهم و خيلهم الجائعة.
    بساتين علوة ملأت بطونهم التي لا تشبع.
    منذ أيام اوشالو . كانوا يخططون..

    انتهي نشيد الحرب, في انتظار جلالة الرث كان الجميع و معهم نيكانج و دانج و روح اوشالو تحلق حولهم، متوعدة أعداء جنود الشولي، بالشؤم و المذلة و الموت الرخيص.
    خرج جلالته ليرسم المسار أمام قادة الجيش. قال جلالة الرث:" المسار سيكون من فشودة إلي (دوليب) و منها إلي( لول) و منها الي (ملوط) و من ثم( كاكا) و (هيبان) و( ألّيس) عند الجبال سننزل للهمج و نضرب الأعناق و نسحل، و من (ألّيس) إلي (كرتوتي)13 و من هناك الي( سوبا) و نزولا الي سنجة و من ثم الي( مكوار) و سنعود بطريق( شالي- ابايات) من هناك بالبر و سيحمل المانوشول فلوكاتنا14 و الغنائم و رؤوس الرجال المهزومين من همج و مانوشول" .
    اتضح مسار الجيش ،لا غموض في المسار الطريق المغلق سيفتحه رجال الشولي بعناد رماحهم. الأهداف واضحة، المانوشول عليهم ان يرتدعوا، و عليهم أن يدينوا بالولاء لأسيادهم . رعية جلالة الرث و جنده الأشداء لن يتركوا الباب مفتوحا أمام نسل الكلاب من المانوشول الخائبين.
    ركب جلالته النهر و معه النساء، عز القبيلة و مجدها، نيكانج، دانج و روح اوشالو، جميعهم سيقودون جنود الشولي لتخوض حربا لن ينساها النهر، أبناء القبيلة و جند الشولي علي الضفاف بحرابهم و دروعهم، كالفهود يمشون علي العشب و بين الشجيرات، إذا سمع الطير صوت خطوهم المجيد و جلجلة أصواتهم بغناء الحرب، إذا سمع الطير تلك الأصوات امسك عن التغريد و ردد ورائهم بصوت عميق كهديل القماري . تحرسهم الأرواح غادروا أراضيهم الي هناك.
    كمن البدو أبناء الرذائل عند أطراف الجبال بين لول و اليس، كمنوا يَعُّدون نبال غدرهم المكشوف، البدو لم يدركوا معني أن يرافق نيكانج الجيوش، لم يدركوا معني أن يكون دانج و اوشالو بين الجند في مهمة حماية جلالة الرث المحارب، البدو الخائنون كمنوا بنبال غدرهم و ترصدوا ترصد العربان للصيد في البوادي الشحيحة علي تخوم علوة. عرفهم نيكانج أحس بهم علي بعد مسيرة نهار و ليل, رأي في الأفق المخاتل، ابتساماتهم المخذولة الصفراء، البدو أبناء العار و الكذب!! . شقت صمت السماء صيحات نيكانج الغاضبة ، و من الرعب غطست أفراس النهر تلتمس النجاة، و التماسيح ضمت أرواح الأجداد بحنو و اتجهت نحو القاع، التماسيح تقتصد في استهلاك اوكسجينها و هبات الطبيعة و كذلك فعلت افراس النهر. صيحات نيكانج الغاضبة هي بشارة النصر، و هي الخبر السار. صيحات نيكانج أصابت البدو في مكامنهم ،البدو قد سحقوا ..!؟هكذا شق صمت سماء النهار صوت البشارة، نيكانج سحق البدو و لعنهم.!
    هناك في مكامنهم البدو، قد نزلت عليهم البواسير فطفقوا يحمون قضبان النحاس في نار أعواد الطلح، ليكووا بها مؤخراتهم المنتهكة بالشرور. جلست نساء البدو يعددن خوازيق من عجينة، قوامها مسحوق القرض المخلوط بدهن الخراف المخصية، أولج البدو خوازيق الودك الملعون في مؤخراتهم ليبردوا حر الكي اللاهب . انتهت بهم الأمور الي خور و انكسار فصاروا عربا يَتَفَنَجُون ، و يزعمون الانتساب الي بيت بني أمية، انكسروا لدرجة أنهم وجدوا في هرب سلفهم شرفا و غنيمة.
    اشتد عذاب السماء و هبطت علي الأرض الهجايم بصياح نيكانج اللاعن، نيكانج كان يقول .." خيم عليها لعنتي .. خيم عليها لعنتي.. لم يأتنا منها غير السفلس و الإنخسافات ..خيم عليها لعنتي."
    البدو جنود الأكاذيب، مرت عليهم ارتال جنود الشولي، البدو كانوا يتلذذون بخوازيق الودك الملعون في مؤخراتهم المكوية بقضبان النحاس المحمي علي نار أعواد الطلح. البدو لوحوا بأيديهم لجنود الشولي رحبوا بهم و انزلوهم، ثم بذل البدو نساءهم عطاءً غير مشروط لجنود الشولي، و بذلوا الطعام و المريسة , عندما فرحت نساءهم برجولة جنود الشولي، انشدن مغنيات لترانيم انكسار فرسانهم و رجالهم المرذولين، أنشدن...

    راجلي اضليم و أبويا ربطة
    سفر يومين سوهو في جبطة
    إن جاهم عدو إتعدموا الضرطة
    خوازيق الودك حامايهم النطة

    راقدين في السجم ما بعرفوا عديله
    رجالة خزف فوقم رديم السيلة
    إن جاتم حرب ما بشيلوا الشيلة
    خوفم من أم كوكاب خلا العقول ضليلة.

    نيكانج و روح اوشالو و دانج غادروا المكان، تبعهم جنود الشولي في النهر خلف جلالة الرث أو علي الضفاف مشيا و ركضا تنسحق تحت أقدامهم أعواد النبات اليابس، هكذا مضوا في اتجاههم الي كرتوتي عند المقرن.

    عندما مرت طلائع الجيش قريبا من كلكول و هي احدي قري العنج، خرج فتيان العنج علي خيلهم ، صدورهم عارية إلا من ثوب الكتان المخلوف ليرسم الصليب المائل، كانوا علي خيولهم و الحراب علي أك########م و علي جنوبهم السيوف تتوعد العدو بألف عذاب. جنود الشولي قابلوهم بالبشر. أنزلهم فرسان العنج و مضي زعيم العنج أب كريك ود ارو الي ضفة النهر يلوح بيده لجلالة الرث يطلب منه النزول عندهم . نزل جلالته بالمكان. بذلت الذبائح و انطلقت في الأجواء روائح الشواء و عبير الكرم العنجاوي. جلبت التمور التي يدخرها أهل القرية للضيوف عروضا و استقبال. أعد الشبان من العنج قطية لجلالة الرث. انتشر جنود الشولي في فضاء القرية العريض و حولهم فرسان العنج علي خيولهم يتبخترون بمجد قديم. أوقدت تكابة ضخمة في وسط المكان، كانت نوراً علي مقربة من قطية الرث التي تجاور راكوبة الضيوف، التي يرتفع سقفها علي مائتي شعبة، حيث يجلس أب كريك ود ارو في نهاره.
    ارتاح نيكانج للاستقبال و هدأت روح اوشالو الغاضبة، و دانج فرح كثيرا بجسارة أب كريك ود ارو. تباشير الهدوء انتشرت في المكان، فنام الجنود في طمأنينة لا تستحيل علي أب كريك ود ارو في أحلك الظروف، طمأنينة تكفلها السيوف و الحراب و النشاب و الخيل العنجاوي .
    جلب فتيان العنج الككر و اجلسوا عليه جلالة الرث عند الصباح، جلس جلالته و علي رأسه أم قرينات طاقية المجد الموروث من الإسلاف تاجا علي رأسٍ يستحقه. تقدم جنود الشولي و فتيان العنج في صفوف حاسري الرؤوس حفاةً يحيون جلالة الرث، الذي ازدان به الككر في حضرة أب كريك ود ارو زعيم العنج.
    كان جلالته بلباسه الأبيض، طويلا و عاليا، علي رأسه تاج الملك النيلي القديم ذو الأمجاد المحروسة بالآلهة المبجلة و الأرواح.
    بُذِلَت الذبائح و ادخل الطعام الي قطية الرث حيث تنظر جلالته العذراء التي منحها أب كريك ود ارو الي جلالته و معها عبد يافع يخدمه. امضي جيش جلالة الرث مساءه هناك و ناموا ليلة أخري.
    عند الفجر ناداهم نيكانج باعثا فيهم حماسا جديدا، خرج جلالته من قطيته يحث جنود الشولي علي الاستعداد للرحيل. علي الآفاق انتشر فتيان العنج علي خيولهم مستعدون لمرافقة الجيش الي الأمام. إلي جوار جلالة الرث وقف أب كريك ود ارو تزين صدره الجعارين المباركة و صلبان الذهب، و علي عنقه يتلألأ عقد الخرز الذي يفصله السوميت, أب كريك في أثواب حربه متمنطقا سيفه، و علي يسراه درعا من جلد الفيل و بيمناه رسن الحصان الأسود العاتي، حصان العنج المبجل.
    قال أب كريك:" كنا نريد ان يظل الجيش معنا أربعين يوما، حتي يتم تنصيب جلالة الرث ملكا علي النهر". اعتذر جلالة الرث و قال: "علينا أن نمضي الي أسفل النهر، نيكانج غاضب و علينا أن نؤدب المانوشول في أسفل النهر و عندما نرجع سيكون لنا ملكا يدوم .. و يدوم .. نحن جنود الشولي أبناؤكم أبناء العنج.
    غادرت الجموع متجهةً صوب أسفل النهر، جنود الشولي و محاربي العنج علي خيولهم العالية، غادروا .. و الحراب أم كوكاب تشق صدر المدى، لينزف ناراً و خراب انزله نيكانج بالمانوشول.

    و هناك كان البدو، توافدوا من براريهم الشحيحة المانوشول من هناك من شرق الأبواب و جنوبها الشرقي، توافدوا و معهم القادمون من غرب (الأبواب)15 و جنوبها الغربي، تجمع المانوشول البدو و كانوا يحتفلون ببناء مجدهم الذي نبت علي اثر حريق النهر و عذاب سوبا مدينة الوعود. علوة التي وهبت خيراتها للنازحين من جحيم خيم الملعونة، الهاربون من تقلبات مزاج و عرق و أطماع الحاكم في خيم الملعونة. نزلوا منذ زمان علي أقاصي السافل، ربما (برشمبو) هو وهبهم الفرصة النادرة فتح أمامهم مغاليق أبواب امتنعت علي الغزاة منذ أيام البطالمة. دخل البدو أسلاف المانوشول و تناسلوا كجراد حاقد يأكل شجرة الملك الخضراء من أسافل سافلها السافل, أكلوها ليل.. نهار, لم تشبع لهم بطن، عيونهم فارغة لا يملأها حتى الرمل. المانوشول لن يوقفهم إلا زحف نيكانج الغاضب. جيوش المانوشول تعلمت القسوة من أسلافهم أمثال (الأمير علاء الدين الخازندار) الذي تدرب علي إحراق الزروع في السواقي و قطع أجساد الأسري بالمناشير, تعلموا الخيانة و الغدر من (عزالدين أيبك الافرم) و نصيره المنكسر (شكندة) أمير الخراب و الخيانة.

    عند المقرن أشار نيكانج علي جنود الشولي و من رافقهم من عنج من جنود أب كريك ود ارو صاحب الخيول العاتية المبجلة، الخيول التي تجلس علي ظهورها برادع من جلد الفهد16. برادع جلد الفهد تجلب معها مجد أمطار سهول السافنا و غزلانها و تياتلها المقرونة ذات النترة النافرة. أزياء أب كريك ود ارو و عدة حربه لا يعتريها التعب، و حصانه العالي الأسود يجمح طامحا في فضاء الحرب و الانتقام. امضي جنود الشولي الساعات الطوال يملئون عيونهم من جلال أب كريك ود ارو . عند المقرن نزلوا في مساء، طالعتهم من بعيد تقاقيب الشيوخ و نيرانها المشتعلة بقرآن المحس الرخيم. نيكانج باركهم و عفا عنهم و قال في سماوات الجيش بصوت سمعته جموع الجند و الوحوش و دواب الارض و هوام الجروف قال نيكانج:" إنهم يطلبون ربا كما تفعلون معي، هم عباد و أنا لهم مسامح، لا تعبروا النهر و لا تزعجوا خلواتهم الذاكرة المتعبدة، اتركوهم و شأنهم."

    امضي الجيش ليله هناك و المانوشول غافلون هناك في اربجي، غافلون في دار العرب.
    أب كريك ود ارو قاد مسيرة الجيوش في الصباح الباكر نحو سوبا مدينة الوعود. إلي سوبا حيث تم الحريق و الموت و وقعت تفاصيل الخيانة و الغدر. دخلت الجيوش الي سوبا المحترقة من نواحي شمال شرق( كدرو) عند النهر. دخلوا فكان الخراب و رائحة العذاب، و صفير الريح في ديار كانت منذ أزمان مجدا و حياة و صلاة. سوبا انتهكتها المصائب و ذهبت بمصيرها نحو الزوال الخيانات و الانكسارات، و الانخسافات سحقتها. سوبا تعذبت و سقطت. غادرتها زينة نسوان العنج و جمال سوقهن و عجائزهن المدهشة الي فضاءات جديدة و بعيدة عن دار العز، و بعيدة عن منال أيدي الغزاة القذرة الملوثة. كانت مشاغل الكتان و دور الغرل فارغة، (متاريرها)17 غطاها تراب الموت، افران الخزف لم يبق فيها كسرات الخزف الغبراء و مصاهر الحديد و النحاس خاوية إلا من سواد فحمها. الدور متروكة و سقوفها متهدمة، البساتين هجرتها يد الإنسان، فانحدرت في التوحش و انتشرت أعشاب السعدة و التمليكة و الموليتة بين قموحها و فاكهتها، الكنائس محترقة و صلبانها غاضبة، بيوت الناس غزتها الكلاب الضالة و القطط الجائعة المتوحشة، انتشرت في المكان جماجم الأعزاء من أهل و صحاب بذلوا في غابر الأيام الابتسامات و الترحيب في وجوه الزائرين من سكان الأقاليم و تجار الشولي المسالمين. تعرفت الخيول العنجاوية علي أصحابها و اهلها من رفاق اب كريك و خيلهم، فطفقت تسلم و تصهل بحنو يتقطع له قلب الحجر، تعرفت علي أب كريك ود ارو و من معه من أبناء كلكول الوديعة، تعرفت الخيول العنجاوية عليهم و سالمتهم و حكت لهم بعجمتها هول ما حدث.
    تكون جبل الصمت، نما و تمدد في مساحات الحزن المهول. أدرك أي جندي في جيش العنج و الشولي هول المأساة، و علموا بيقين لا تلتبسه الشكوك أسرار غَضَب نيكانج.

    غَضِبَ نيكانج و أرسل زفرات من غضب أنزلت كتاحة و عذاب غبار علي اربجي و سوقها و جروفها.
    هناك اعد المانوشول عدتهم لملاقاة جنود الشولي و جيش العنج. المانوشول لبسوا عماماتهم الملونة بألوان عمامات الصحابة، و رفعوا رايات تخذت ألوانها من ألوان رايات العرب الغارقون في أحلام المجد الزائف. المانوشول اعدوا سيوفهم و نبالهم و مقاذف النفط الملتهب, و أوقدوا مشاعل نفط الكذابين، اعدوا عدتهم، و حشدوا في إعدادهم خبرات ورثوها من أسلافهم من أمويين و عباسيين و فاطميين و أيوبيين، من أسلاف هاربين بجبنهم من خيم الخائبة. اعدوا عدتهم .

    الي الغرب من اربجي في فضاءات الرمل و العذاب، كان مكان الوعد المحتوم بعذاب قَدَّره نيكانج و رسمه كمصير مشئوم علي المانوشول. عاديات العنج الموريات قدحا علي خدود ذرات الرمل المرذول، الواسطة جمع الغادرين، و المنزلة عذابا علي أوهام المتخاذلين, عاديات العنج المثيرات نقع الهزائم و المنزلات عذاباً بالمانوشول، بأم كوكاب التي تنزل علي صدور الحالمين بمجدٍ لا يستحقوه. نبال العنج و الشولي باركتها آلهة النيل و أساقفته و مطرانيه بجعارين و صلبان،نبال نزلت علي رؤوس المانوشول المعممة بعمامات الغطرسة.
    أم كوكاب أنجزت فعلتها في الصدور، النبال فقأت العيون و أرمدتها إلي ابدٍ بانكسار و خيبة. و سيوف العنج قطعت الرؤوس و أهدرت كرم العمائم في ماء النهر المبارك، تدحرجت رؤوس المانوشول المقطوعة، فانفك رباط العمائم التي لامست عري النهر المنتصب، تبخرت العمائم في السماء الغاربة بخاراً ينتفث من مؤخرات، مؤخرات كوتها قضبان النحاس، مؤخرات جاءت تبردها خوازيق ودك الخراف المخصية المخلوط بمسحوق القرض، فصارت الخوازيق بخارا متعفنا برائحة منتنة. العمائم تدحرجت صوب النهر فانتهرها و أزال عنها أصباغها الكذابة، بمائه الطاهر، و كشف الماء عري جلودها المتوهم. هم سود و النهر اسود.
    سال نهر من دم علي ارض اربجي دم نحس ملعون، وافد مع الهاربين من جحيم خيم الملعونة دم نحس نزلت نجاسات به و حلّت لعنات عليه. دم المانوشول ي###### الأرض بالخيانة و الكذب.
    أتم نيكانج مهمته و تبسم و قهقه عاليا، عندما لاقت عيونه المباركة منظر أزياء أب كريك ود ارو الممجد بصلبان و جعارين مباركة و المتوج بدم المانوشول المهزوم الكذاب، المتوج ملكا علي نهر الحروب ، النهر الذي غضب من حريقه و عذابات سوبا مدينة الوعود، التي فتحت أبواب خيراتها و فتحت المنافذ إلي مراعيها، أمام الغادرين من عترة الناموس و الذباب و نسل الكلاب الملعون.
    طرب دانج و طربت روح اوشالو و تمجد جلالة الرث أميراً علي النهر. غادر نيكانج المكان و ذهب الي فشودة في الصعيد، مضي نيكانج إلي حيث شجرة جلالة الرث هناك، ليحكي قصته الي أوراق شجرة جلالة الرث و جذورها و تعرجات ساقها، شجرة عدالته التي تنزل العذاب علي من يعتدي علي أفراس النهر، علي أبقار جلالة الرث.
    روح اوشالو و دانج تجسدت في سماء اربجي المهزومة، روحا تخذت لونها من خليط لون النهر و لون الرمل المحمر بدم الغرباء، قال الروح المتجسد قال:" لنا ملكا نبنيه في سنار في صعيد النهر، لنا ملكا نبنيه في صعيد النهر في مدينة الرعود و العواصف سنار. المانوشول يكونون المانشلك و عند ما تحين ساعة الوعد يصيرون المانجلك.



    طه جعفر
    نأسف علي إزحام البوست بالمساهمات من العيار الطويل
    مجرد كاتب يبحث عن حوا ر جديو ليس اكثر
    فلتتحملنا يا عماد
    لكم الشكر علي الصبر

    (عدل بواسطة طه جعفر on 02-03-2013, 04:33 AM)

                  

02-03-2013, 09:55 AM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: طه جعفر)

    البلد بلدك يا طه

    سواء قصة او دراسة او رسمة كلو اذا بخدم المستقبل
    ما في عوجة

    تسلم ومشكور
                  

02-03-2013, 07:59 PM

طه جعفر
<aطه جعفر
تاريخ التسجيل: 09-14-2009
مجموع المشاركات: 7322

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: عماد البليك)

    يا عماد سأداوم علي المرور مناقشا ما اوردته من افكار مهمة في الاجزاء المنشورة من كتابكم
    لنحافظ علي جذوة الحوار متقدة
                  

03-27-2013, 11:46 PM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات البشير.. andquot;انهيار أسطورة الدولة السودانيةandquot; - فص (Re: طه جعفر)

    قبل الارشفة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de