الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون: بقلم الأستاذ عبدالله الفكي البشير

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-30-2024, 04:20 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عبدالله عثمان(عبدالله عثمان)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-20-2010, 00:38 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون: بقلم الأستاذ عبدالله الفكي البشير

    الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (1)


    عبدالله الفكي البشير


    في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).



    يهدف هذا البحث إلى التقصى في أبعاد موقف المثقفين من الأستاذ محمود محمد طه، عبر مقارنة القرائن والتتبع التاريخي والتنقيب في المصادر والمراجع، والتحليل للنصوص والمعطيات. ويسعى إلى إجلاء الظروف والملابسات التي تحكمت في بداية سيناريو المأساة، والعوامل التي تضافرت في حدوث قمتها، التي تمثلت في إعدام الأستاذ محمود صبيحة الجمعة 18 يناير 1985م، في سجن كوبر بالخرطوم بحري. يزعم هذا البحث أن مأساة الأستاذ محمود بدأت مع أنداده من طلائع المتعلمين، حينما ترسم هو طريق المواجهة والمناطحة والمصادمة للقوى الاستعمارية ولمراكز السلطة في المجتمع الدينية والتقليدية، ودعى أنداده إلى السير من أجل تحقيق الاستقلال الحقيقي وإحداث التغيير، إلا أنهم آثروا طريق المهادنة والتسوية والتصالح والتحالف مع القوى التقليدية والاستعمارية. سار الأستاذ محمود في طريق المواجهة والمصادمة بجسارة وشدة مراس فبدأت حروب المكائد والدسائس ضده، كما تبع ذلك نمو اتجاه الحسد نحوه. ويزعم هذا البحث أيضاً، أن جهود تضليل الرأي العام في الموقف من الأستاذ محمود، ومساعي تغييبه عن الذاكرة الجمعية، بدأت مع طلائع المتعلمين أيضاً، ومن شواهد ذلك إغفال جلهم لذكر الأستاذ محمود في مذكراتهم وسيرهم الذاتية، ومن ثم أخذ التضليل والتغييب طريقه إلى صحائف المؤرخين السودانيين، وإلى الأرشيف القومي السوداني، وإلى الأكاديميا السودانية. ويزعم هذا البحث أيضاً، أن بداية العداء المنظم ضد الأستاذ محمود، وشرارة الحرب الأولى ضد مشروعه، لم تنطلق من تفكير ورسم محلي بقدر ما كانت نتاج للنفوذ السياسي الخارجي، خاصة النفوذ المصري الذي اعتمد في أدواته على حلفائه المحليين من طلائع المتعلمين، ومباركة الطائفية عبر صمتها، فكانت محكمة الردة عام 1968م. ويزعم هذا البحث كذلك، أن اللبنة العدائية ضد الأستاذ محمود التي وضعها النفوذ السياسي المصري عبر أدواته وحلفائه من طلائع المتعلمين، هي التي أسست للمواقف العدائية اللاحقة من مختلف الأطراف الإسلامية في السودان، ومن بين هذه الأطراف الحركة الإسلامية السودانية. لقد جاءت الحركة الإسلامية متأخرة إلى حلبة الصراع مع الأستاذ محمود، وكانت قد باركت لبنة العداء المنظم ضده بالصمت، ثم ما لبثت ولأسباب عديدة أن دخلت حلبة الصراع لاحقاً بعداء شديد للأستاذ محمود ولمشروعه.



    التزاماً بضرورات المنهج ربما توجب عليّ أولاً تعريف كلمة "مثقف". هناك الكثير من التعريفات للمثقف، يرى الأستاذ محمود في كتابه: الثورة الثقافية، 1972م، أن معنى الثقافة في اللغة العربية يرتبط بالتقويم. فتثقيف قناة الرمح يعني لغةً تقويم اعوجاجها. ولذلك فهو يرى أن المثقف ثقافة حقيقة هو الذي يجسد وحدة الفكر والقول والعمل، ويعني ذلك المعرفة المرتبطة بالاستقامة. هناك من يرى أن المثقف هو من تتوفر فيه المعرفة وعمق بعضها، وإنتاج المعرفة، والمساهمة في مجمل الحركة الاجتماعية. وعرّف د. نصر حامد أبو زيد في كتابه: الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000م، ص 15) المثقف بأنه: هو الإنسان المنخرط –بطريقة أو بأخرى- في عملية إنتاج الوعي. وعنى الأستاذ كمال الجزولي في كتابه: إنتليجنسيا نبات الظل، باب في نقد الذات الجمعي، مدارك للطباعة والنشر، الخرطوم، 2008م، ص 107 بالانتلجينسيا، الفئة الاجتماعيَّة السودانيَّة التي تمتهن أو تختص بالعمل الذهني من مداخله التعليميَّة (الحديثة).



    يتهيكل هذا البحث مبدئياً على عدد من المحاور، قابلة للزياة، وبعضها قابل للتوسع، ذلك لأن هذا الموضوع عندي هو مشروع بحث مستمر ومفتوح. فبعد المدخل والتعريف بالأستاذ محمود والحديث عنه تأتي المحاور التالية:



    الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه
    الأستاذ محمود والالتزام الأخلاقي للمبدعين:
    الروائي الطيب صالح
    العلامة عبدالله الطيب
    الأستاذ محمود في موسوعات الأعلام وكتب التراجم السودانية
    الأستاذ محمود في الإرشيف القومي السوداني
    الأستاذ محمود والمؤرخون السودانيون
    الأستاذ محمود والمفكرون الإسلاميون: محمد أبو القاسم حاج حمد (نموذجاً)
    كلمة حق تقال:
    الدكتور منصور خالد
    الدكتور فرانسيس دينق
    وآخرون


    انتحال ونهب Plagiarization أفكار الأستاذ محمود (رصد أولى).
    الأستاذ محمود والمثقفون الإسفيريون أو المثقفون الرقميون أو الجدد (رصد أولى).
    خاتمة
    يمثل البحث في مأساة الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م)، استجابة لمتطلبات العصر، التي تحتم بالضرورة التفحص في مكونات الواقع الفكرية والثقافية، والنقد للعقل الثقافي السائد والغربلة للمفاهيم. ويمثل أيضاً، رغبة حقة في الإنتماء للمستقبل، عبر إجراء المراجعات، وتصحيح المسارات، خاصة بعد بودار الصحو من الغيبوبة المعرفية، ومؤشرات الوعي للأجيال الجديدة بعد طول آماد من التضليل لشعوب السودان وتغيبها عن الحقائق. ويمثل كذلك، إعلاناً شجاعاً عن بداية فجر جديد قوامه المكاشفة والشفافية والتفحص والتأسيس لثقافة الإعتراف والإعتذار. ويمثل أيضاً، بحثاً في تأريخ السودان وفي مدى العلمية والأمانة في كتابته وفي تعليمه. يقول البروفسير محمد عمر بشير (1926م-1993م) في كتابه: مشروع الدولة السودانية الديمقراطية: قضايا وإشكاليات البناء الوطني، جامعة أم درمان الأهلية، 2005م، (ص 8-9): (إن التاريخ في كل المجتمعات التعددية بما فيها السودان لحقه تزوير كثير، والأجيال الحالية في السودان لا تعترف بأزمتها بالصورة الحقيقية، والمدارس لا تعلم هذا التاريخ بطريقة علمية وإيجابية. إن هنالك من يطمس هذا التاريخ وما فيه من سلبيات لتحسين صورة الماضي وهنالك من يزور التاريخ بهدف الدفاع عن عقيدة، وكثيرون من الذين كتبوا في تاريخ السودان السياسي تجاهلوا تاريخ المجموعات وتاريخ الطوائف الدينية وكانت النتيجة هذه الصورة المشوهة في كثير من الأحوال لهذا التاريخ).
    في هذا المشهد، يصبح البحث في مأساة الأستاذ محمود، نقداً وبحثاً في الأزمة السودانية، بكل تجلياتها: نشأة الدولة السودانية الحديثة، ومساراتها، بما انطوت عليه من أخطاء في عناصر النشأة والتكوين، سواء كان ذلك بسبب التدخلات الأجنبية، أو بما ترسمته من مسارات حددها القادة الأوائل من طلائع المتعلمين، بعد خروج المستعمر عام 1956م، واللاحقين من بعدهم. فالقادة الأوائل هم أيضاً، كانوا تحت القبضة الأجنبية، وكان جلهم أداة للنفوذ الأجنبي. يقول البروفسير محمد عمر بشير في كتابه آنف الذكر (ص 12): (لقد تكون السودان الحالي نتيجة لإدارة خارجية وبدافع المصالح الأجنبية وتكرس هذا التكوين في اتفاقية الحكم الثنائي عام 1898م، واتفاقية 1936م، وفي اتفاقية عام 1953م، وفي إعلان الاستقلال عام 1956م. لقد اكتسبت الدولة الشرعية السياسية نتيجة للاتفاقيات وليس نتيجة للاختيار والرغبة، ونتيجة لسياسات وممارسات الحكم الأجنبي فقد ولدت هشة). والبحث في مأساة الأستاذ محمود هو كذلك بحث في حركة التغيير الاجتماعي وجمودها، وبحث في العقل الثقافي السائد في السودان، والحاجة إلى تحريره من قيود الجهل وقوى الإستلاب. لقد تشكل العقل الثقافي السائد في ظل انفصال عن حقب حضارية سودانية عظيمة، وفي لحظة غيبوية معرفية –لاتزال- تجاه الثقافات المحلية، وفي ظل اضطراب في المزاج الفكري والديني، كان نتيجة لإنقلابات ثقافية وفكرية أحدثتها القوى الاستعمارية الأجنبية، وتمددت على إثرها قوى وطنية لاحقاً. إن تحرير العقل الثقافي يتبعه بالضرورة تحرير الوعي بالذاتية السودانية، خاصة لدى المثقفين وقادة السودان ومحددي مساره، الذين ورثوا من طلائع المتعلمين الكثير من العلل والقوالب التقليدية في الفكر والسياسة. وهو بحث كذلك في حالة العداء السافر والواضح في السودان تجاه التميز والتمايز والخروج عن التشابه، وتجاه المبادرات المحلية الخلاقة، والأطروحات الإبتكارية في رسم السيناريوهات والمخارج التحررية والتنموية. وهو بحث أيضاً في أزمة الفكر الإسلامي، وتأمل في الميراث الفكري السوداني. وبحث أيضاً، في أزمة القيادات، والنموذج القيادي، وفي أزمة الحكم بما يجب أن يكون عليه من عدل ومساواة وحرية. وهو بحث كذلك في ما يسميه الفنان الدكتور عبدالله أحمد البشير (بولا) بـ (البنى الأساسية لانتهاكات حقوق الإنسان في السودان)، والتي يعني بها (البنى الذهنية المفاهيمية الاجتماعية والثقافية والنفسية والسياسية القائمة في مجتمعنا). (عبدالله أحمد البشير (بولا)، "شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية وحقوق الإنسان في السودان: أطروحة في كون الغول لم يهبط علينا من السماء"، مجلة مسارات جديدة، إعلام لواء السودان، أسمرا، العدد1، أغسطس 1998م، ص 46.
    ولد الأستاذ محمود بمدينة رفاعة في نهاية العقد الأول من القرن العشرين. كان السودان وقتئذ تحت الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري بموجب إتفاقية الحكم الثنائي المبرمة في 19 يناير 1899م، بعد أن قضى على الثورة المهدية عام 1898م، التي كانت بقيادة الثائر الوطني الإمام محمد أحمد بن عبدالله المهدي (1844م-1885م). توفيت والدة الأستاذ محمود –فاطمة بنت محمود- عام 1915م، فعاش وأخوته تحت رعاية والدهم، وعملوا معه بالزراعة، فى قرية الهجيليج بالقرب من رفاعة. ثم انتقل الاستاذ محمود وأخوته للعيش بمنزل عمتهم برفاعة، بعد أن توفي والده عام 1920م تقريباً.



    بدأ الاستاذ محمود تعليمه بالدراسة في الخلوة، ثم التحق بالمدارس النظامية، فتلقى تعليمه الاوّلى والمتوسط بمدينة رفاعة. بعد اتمامه لدراسته الوسطى برفاعة انتقل في عام 1932م إلى الخرطوم. شهدت الخرطوم، في بواكير القرن العشرين، أثناء فترة الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري قيام مؤسسات التعليم الحديث: كلية تدريب المعلمين والقضاة بأم درمان عام 1900م، ومدرسة الصناعة بأم درمان، وكلية غردون التذكارية عام 1902م، والمدرسة الحربية (مدرسة الخرطوم الحربية) عام 1905م، ومدرسة كتشنر الطبية عام 1924م. والمعهد العلمي بأم درمان الذي أنشئ على غرار الأزهر عام 1912م. التحق الأستاذ محمود بقسم هندسة المساحة بكلية غُردون التذكارية، وتخرج فيه عام 1936م، وهو العام الذي شهد توقيع اتفاقية عام 1936م بين بريطانيا ومصر، والتي اتاحت توافد المصريين على السودان.



    كان أنداد الأستاذ محمود من طلائع المتعلمين يعانون حتى نهاية العقد الثالث من القرن العشرين من آثار إجراءات الإدارة البريطانية عقب ثورة عام 1924م. لقد أحكمت الإدارة البريطانية بعد إخماد الثورة الطوق عليهم بإجراءات مكثفة وسياسات متعسفة. نتج عنها إنشاء المتعلمين لجماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية بأندية الخريجين والموظفين. ومارسوا من خلالها نشاطاتهم الأدبية والاجتماعية. كانت هناك "جمعية أبوروف" و"جماعة الهاشماب" (أولاد الموردة)/ مدرسة الفجر لاحقاً، و"جمعية ود مدني الأدبية"، و"جماعة الأشقاء"، وغيرها. ساهمت تلك الجماعات والجمعيات في التعلُم الذاتي؛ إلا أنها أسست بالإضافة لنظام التعليم الذي أنشأه البريطانيون، إلى نشأة المزاج الصفوي، وضعف التفاعل مع الواقع. أيضاً، أدى انزواء المثقفين في تلك الجماعات والجمعيات إلى تعميق الارتباط بمصر، فكرياً وسياسياً، والتأثر بمثقفيها، من خلال متابعة أعضائها للإصدارات المصرية من كتب ومجلات. كما أدت أيضاً، إلى التمسك بالتراث العربي، باعتباره يمثل عملاً لمقاومة الاتجاه الاستعماري لهدم اللغة العربية وآدابها في السودان. مع بداية الثلاثينات خرج المتعلمون إلى الشارع العام وشهدت مجلتا "النهضة السودانية"، و"الفجر"، كتاباتهم وقد عبر بعضها عن تطلعاته وأشواقه، وموقفه من القيادات الدينية والطائفية. عزز زيادة نشاط المتعلمين ومشاركتهم في الحياة العامة مجئ سير ستيوارت سايمز في عام 1934م حاكماً عاماً للسودان، ولحق به سير دوقلاس نيوبولد سكرتيراً إدارياً عام 1939م، وهما من الداعمين للتعامل مع المتعلمين. كانت سياسة سير ستيورات الليبرالية كما يقول الدكتور صفوت فانوس في دراسته: "دور بريطانيا في قيام وتطور الأحزاب السياسية في السودان (2)" ترجمة: بدرالدين حامد الهاشمي، صحيفة الأحداث، 21 مايو 2010م، العدد 1068: (تمتاز بكثير من التسامح والمهادنة مع الخريجين السودانيين. ولعل مرد ذلك هو الخشية من تأثير الألمان والايطاليين المتزايد في أفريقيا، وكذلك توقيع اتفاقية عام 1936م بين بريطانيا ومصر، والتي أزاحت العوائق أمام تدفق المصريين نحو السودان. كان البريطانيون يخشون إن هم لم يبدوا استجابة لمطالب المتعلمين السودانيين، أن يلجأ هؤلاء للمصرين القادمين، وأن يتحدوا معهم ضدهم. لكل ذلك تم السماح بقيام مؤتمر الخريجين في عام 1938م).



    دخل الأستاذ محمود الشارع العام والخدمة المدنية بعد تخرجه مهندسًا برئاسة مصلحة السكك الحديدية، بمدينة عطبرة. ومنذ الوهلة الأولى أظهر الأستاذ محمود انحيازًا واضحاً الى الطبقة الكادحة من العمال وصغار الموظفين، كما أثرى الحركة الثقافية والسياسية بالمدينة من خلال نشاط نادى الخريجين، فضاقت السلطات الاستعمارية بنشاطه ذرعًا، فتم نقله الى مدينة كسلا فى شرق السودان فى العام 1937م، غير أنّ الاستاذ محمود تقدم باستقالته من العمل في عام 1941م، وأختار أن يعمل فى قطاع العمل الحر كمهندس ومقاول، بعيداً عن العمل تحت امرة السلطة الاستعمارية. في ذلك الوقت كانت الإدارة البريطانية قد دفعت بغير المتعلمين لتقدم الصفوف وتولي القيادة. وصاحب هذا، تمكُن الطائفية ورسوخها، ونجاح قياداتها في احتواء الجيل الحديث، واستقطابه، وإجهاض مبادراته، وتكبيله بالرؤية الطائفية لمسارات الاستقلال، فانتهت بوادر المواجهة والمجاهدة من أجل انتزاع القيادة الشعبية من الزعماء الدينيين، وتمت التسوية بين المتعلمين والطائفية، وتبع ذلك تحويل المواجهة بين المتعلمين والقيادات الدينية من ثقافة سائدة لدى الجيل الحديث، إلى عمل تقوم به قلة قليلة، نُبذت هذه القلة فيما بعد وحيكت حولها المؤامرات، وكان على رأس القلة التي استمرت في المواجهة، وحيكت من حولها المؤامرات الأستاذ محمود.



    استقال الأستاذ محمود من وظيفته مع نذر الحرب العالمية 1939م-1945م، وبداية تنظيم "مؤتمر الخريجين" لدوراته، الذي تطور عمله إلى مرحلة المواجهة والمصادمة، حيث خرجت من دورته الخامسة مذكرة الخريجين عام 1942م التي طالبت الإدارة البريطانية بحق تقرير المصير بعد الحرب. ولكن سرعان ما برز انقسام الخريجين، وصراعاتهم، ودخل النفوذ الطائفي والديني الذي تسرب في وسط المثقفين منذ اضراب الطلبة –طلبة كلية غردون- في أكتوبر عام 1931م. امتص النفوذ الطائفي مبادرات المثقفين، وظهرت الخلافات بين المثقفين منذ تكوين "مؤتمر الخريجين" عام 1938م، وحيكت المؤامرات، فاصبحت "مؤتمر الخريجين" مسرحاً للصراع بين التجمعات والطوائف الدينية، وسرت روح التنافس الطائفي المحموم في المؤتمر، ورويداً رويداً غاب دوره وفقد قيمته كمبادرة من المثقفين، تسعى لتحرير البلاد والنهوض بها. ومع منتصف أربعينيات القرن الماضي، والحرب العالمية تضع أوزارها عام 1945م، بدأ مهرجان تكوين الأحزاب السودانية، فظهر حزب "الاشقاء" عام 1944م، وحزب "الأمة" عام 1945، الذي تعود جذوره إلى ما قبل ذلك التاريخ، وحول "الاشقاء" و"الأمة" تبلورت الحركة السياسية الوحدوية والاستقلالية.



    حضر الأستاذ محمود في مهرجان تكوين الأحزاب السودانية معلناً فى يوم الجمعة 26 أكتوبر 1945م عن إنشاء الحزب الجمهوري، بصحبة ثلة من رفاقه هم: أمين مصطفى التنى، عبد القادر المرضى، منصور عبد الحميد، محمود المغربى، واسماعيل محمد بخيت حبّة، حيث اقترح التسمية أمين مصطفى التّنى، اشارة لمطالبتهم بقيام جمهورية سودانية مستقلة عن دولتى الحكم الثنائى، وقد أُختير الأستاذ محمود رئيساً للحزب، وعبد القادر المرضى سكرتيراً له. وقد كان الحزب الجمهورى هو الحزب السياسى الوحيد وقتها المطالب بالحكم الجمهورى، وفى المطالبة بالاستقلال التام، فى الوقت الذى كانت فيه الحركة الوطنية السودانية، بقسميها الذين يقودهما حزبا الاتحادى والامة لا يناديان الا بالاتحاد مع مصر (الاتحاديون) أو بالاستقلال فى تحالف مع التاج البريطانى (الامة).



    نلتقي يوم الخميس القادم



    ملاحظة: كان مصدر بعض المعلومات التي تتعلق بميلاد ونشأة الأستاذ محمود ونشاطاته وكتاباته هو موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت: http://www.alfikra.org



    (نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 26 أغسطس 2010م)
                  

09-20-2010, 00:40 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون: بقلم الأستاذ عبدالله الفكي البشير (Re: عبدالله عثمان)

    الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (2)


    في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).


    مُفكر وشعراء:


    فور إنشاء الحزب الجمهوري في أكتوبر 1945م، برز رئيسه الأستاذ محمود في الساحة الوطنية، مقارنة بأقرانه من طلائع المتعلمين، قائداً سياسياً متفرداً في رؤيته وفي صلابة مواقفه. انطلق في رؤيته السياسية من متطلبات المرحلة التي أطلق عليها مرحلة ملء فراغ الحماس، وتبنى خط المواجهة والصدام مع المستعمر، فسجن مرتين قبل نهاية الأربعينات. ومنذ 30 اكتوبر 1951م، والعقود التالية، سطع اسم الأستاذ محمود في سماء الخرطوم كمفكر كبير، صحاب مشروع جديد، بعد أن انتقل بالحزب الجمهوري من مرحلة ملء فراغ الحماس إلى مرحلة ما اسماه ملء فراغ الفكر. طرح الأستاذ محمود مبادرة خلاقة، تمثلت في مشروع فكري إسلامي جديد. ومنذ أن بدأ في طرح الخطوط العريضة لمشروعه، تجلت فيه طاقة فكرية هائلة، وقدرة عالية على الإنتاج المعرفي والإهتمام بالتوثيق. وتُعد حركة التأليف والنشر المستمرين، التي قادها الأستاذ محمود، ثقافة جديدة في الفضاء المعرفي السوداني منذ ظهور طلائع المتعلمين مع بواكير القرن العشرين.


    قدم الأستاذ محمود نموذجاً جديداً للقائد السياسي صاحب الرؤية، والمفكر الكبير صاحب العقل العبقري والإنتاج المعرفي الوفير. وهذا في حد ذاته أمر جديد وغير مألوف بين طلائع المتعلمين. ففي تلك الفترة كان معظم طلائع المتعلمين قد دخلوا إلى ساحة العمل العام عبر الشعر العربي والأدب، ولم يكن من بينهم مفكرٌ واحدٌ، وحتى الذين كتبوا عن الفكر السوداني، وألَّفوا في تطور الحركة الفكرية في السودان، لم يكن من بينهم مفكر. قال لورد كارادون، في المقدمة التي كتبها لكتاب محمد أحمد المحجوب (1908م- 1976م)، (الديمقراطية في الميزان، تأملات في السياسات العربية والأفريقية، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم، ط 3، 1989م، ص 6) واصفاً المحجوب بأنه: (ليس مفكراً بناء مثل نايريري في تنزانيا، ولم يستطع أن يحقق التسوية الوطنية في السودان كما حققها غوان في نيجيريا... ولكن فترة الانتقال الصعبة التي ابقاها حيَّة وروح الخدمة العامة المخلصة، يكونان مثلاً شخصياً رائعاً).
    كان البون شاسعاً بين الأستاذ محمود وأنداده من طلائع المتعلمين، حينما دلفوا إلى ساحة العمل العام. كان هو قائداً سياسياً حراً، ومفكراً كبيراً، بينما كان معظم طلائع المتعلمين يدورون في نشاطهم السياسي حول حركتى الاستقلالية والوحدوية، كما أن كثيرين منهم دخل إلى ساحة العمل العام عبر بوابة الشعر العربي. قال الدكتور محمد سعيد القدال (1935م-2008م) في كتابه: تاريخ السودان الحديث 1820م-1955م، مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ط2، 2002م، ص495: (إن الأستاذ محمود يمتلك قدرات فكرية إذا ما قيس بالسياسيين المعاصرين له). كان الأستاذ محمود مفكراً يمتلك عقلاً كبيراً ومذهلاً، في نشاطه وحيويته، وقد تجلى ذلك في إنتاجه المعرفي الهائل كماً وكيفاً. كتب معاوية نور (1909م-1941م) عام 1929م، وهو يستعرض كتاب "فن التفكير" الذي وضعه باللغة الإنجليزية الكاتب الفرنسي "أرنست دمنت"، عن ما هو المفكر؟ قائلاً: المفكر هو الذي (يرى حيثما لا يرى الآخرون، والذي لا تقع عينه على خلاف ما تقع عليه الأعين، غير أنه يرى فيها ما لا يراه بقية الناظرين) "معاوية محمد نور، الأعمال الأدبية لمعاوية محمد نور: دراسات في الأدب والنقد وقصص وخواطر، جمع وأعداد: رشيد عثمان خالد، دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع، الخرطوم، 1994م، ص 289-300".
    جبهات الصدام والمواجهة: الطائفية
    قدم الأستاذ محمود نموذجاً جديداً وفريداً للقائد السياسي، في الرؤية، وفي التطبيق العملي لمتطلبات العمل الوطني للمثقفين، سواء في مصادمة المستعمر أو في مواجهة الطائفية. نادى الأستاذ محمود تحت مظلة الحزب الجمهوري باستقلال السودان من مصر وأنجلترا على السواء، وقيام جمهورية سودانية. كما اتسمت مواقفه بالصدق في العزيمة، والصلابة في الموقف ضد المستعمر والطائفية، وضد خيارات المثقفين، التي راهنت على التسوية مع الطائفية، ونهج المساومة والمهادنة والتحالف مع القوى الإستعمارية (مصر وإنجلترا). قال الأستاذ أحمد خير المحامي (1905/3م-1995م)، في كتابه: تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان: كفاح جيل، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، 2002م، ص 95، 96 : (ولما وضحت معالم الخلاف واشتد وطيسه بين الاتحاديين والانفصاليين، نشأ الحزب الجمهوري، وهو حزب ينادي باستقلال السودان من مصر وانجلترا على السواء، وقيام جمهورية سودانية... لقد برهن رجال الحزب الجمهوري على صدق عزيمتهم وقوة إيمانهم لذلك يتمتعون باحترام الجميع، كما برهن رئيسهم "الأستاذ محمود" على إخلاص وصلابة وشدة مراس، ولعل هذه الأسباب نفسها مضافة إلى اختلاف أهدافهم هي التي جعلتهم يقفون في عزلة وانفراد، غير أن شدة العداء بين الجمهوريين وحزب الأمة، قدم دليلاً جديداً لعله أقطع الأدلة على انطواء الأخيرين على فكرة الملكية، فالحزبان استقلاليان، ولما لم يكن بين الجمهورية والملكية توسط كان من البديهي أن تقوم المكية في الجانب الثاني بعد أن قامت الجمهورية في الأول وإلا لما كان هناك مجال لعدم التعاون أو الاندماج).


    كتب الأستاذ التجاني عامر (1908م-1987م)، وهو مؤرخ وشاعر وكاتب صحفي سوداني معروف، لديه أكثر من ستة مؤلفات منشورة، جُلها في مجال الدراسات التاريخية. كتب التجاني في صحيفة الصحافة 16/4/1975م، وهو يتحدث عن الاحزاب السودانية قائلاً عن الحزب الجمهوري: (قد يكون هذا الحزب من أقدم الأحزاب السودانية بحساب الزمن، وهو أول حزب صغير، يعمل خارج نطاق النفوذ الطائفي باصرار، بل بمناجزة وصدام، واسمه يدل على المنهج الذي انتهجه لمصير السودان ومؤسس الحزب هو الاستاذ محمود محمد طه، الذي كان من أبرز الوجوه الوطنية، في مستهل حركة النضال).


    عاب الأستاذ محمود على المثقفين لهثهم وراء الطائفية، ووصف الطائفية بالبغيضة، ودعى إلى عزل الطائفية من الحركة الوطنية. كما رأى أن هناك تراخي من الحركة الوطنية في مواجهة الإنجليز، وأن أسلوب المذكرات لا يخدم إشراك الشعب في النضال ضد المستعمر، وإن إشراك الشعب يجعل للإستقلال معناً، ويحقق فرص البناء الوطني الجماعي. ولاحظ الأستاذ محمود أيضاً، أن الحركة الوطنية تعيش في انعزال عن الشعب وقضاياه، وتتبادل المذكرات مع المستعمر بوصاية على الشعب وبدون تنوير له. كما عاب على كل قادة الحركة الوطنية بشقيها: الاستقلالي والوحدوي (جماعة الأشقاء وجماعة الأمة) صراعاتهم وانقساماتهم ونهجهم المساوم ومسلكهم الناعم في النضال من أجل الاستقلال. ونبه إلى خطورة آثار تلك الانقسامات، وإلى خطورة انعكاسات النهج المساوم والناعم في النضال. عبر عن كل ذلك في مناشير وبيانات كانت تُنشر في مناسبات مختلفة، ولعل من أكثرها قوة ووضوحاً البيان التالي:


    (هذا نذير من النذر الأولى
    يا جماعة الأشقاء ويا جماعة الأمة –أيها القاسمون البلاد باسم الخدمة الوطنية –أيها القادحون قادحات الاحن بين أبناء الأمة– أيها المذكون ثائرات الشر والتفرقة والقطيعة، أيها المرددون النغمة المشئومة –نغمة الطائفية البغيضة– إنكم لتوقرون أمتكم وقراً يؤودها..


    يا هؤلاء، وهؤلاء، أنتم تلتمسون الحرية بالانتماء إلى المصريين فتتمسكون بأسباب رمام، وأنتم تلتمسون الملك بالبقاء تحت الانجليز فتتهيأون لدور الهر الذي يحكي بانتفاخه صولة الضرغام.. أنتم تريدون إبقاء المصريين، وأنتم تريدون إبقاء الانجليز، فإذا اجتمعت كلمتكم فإنما تجتمع على إبقاء المصريين والانجليز معا ..


    يا هؤلاء، وهؤلاء، أنتم تتمسحون بأعتاب المصريين لأنكم لاتقوون على مواقف الرجال الأشداء، وأنتم تتمسحون بأعتاب الانجليز لأنكم صورتم المجد في أخلادكم صورا شوهاء.. أنتم تريدون السلامة، وأنتم تريدون الملك .. أنتم تضيعون البلاد لمّا تجبنون وأنتم تضيعون البلاد لمّا تطمعون.. أنتم تستغلون سيدا لا يعرف ما تريدون، وأنتم يستغلكم سيد يعرف ما يريد، والبلاد بينكم أنتم، وأنتم، على شفا مهواة ومهانة.. فليلطف الله ببلاد لا يخدم نهضتها إلا صغار الموظفين، أو كبار الموظفين، وليتدارك الله دينا باسمه يحيا أناس في برد العيش، وقرار النعمة، ورخاء الدعة، وباسمه هم لأبنائه يكيدون..


    يا هؤلاء، وهؤلاء :إن الله لواحد، وأن الدين لواحد، وأن الوطن لواحد، ففيم تنقسمون على هذا النحو المزري. يا هؤلاء، وهؤلاء: كونوا ليوثا غضابا، أو فكونوا قردة خاسئين، وارحموا شباب هذا الوادي المسكين، فقد أوسعتموه غثاثة وحقارة وهوانا..


    ياهؤلاء، وهؤلاء – لأنتم أشأم على هذه البلاد من كل شؤم وشؤم .. أيها السادرون من هؤلاء وهؤلاء، لاتحسبن الكيد لهذه الأمة مأمون العواقب، كلا !! فلتشهدن يوما تجف لبهتة سؤاله أسلات الألسن، يوما يرجف كل قلب، ويرعد كل فريصة .. أما بعد: فهذا نذير بين يدى صاخة، تمزق مسامع من أصمّه الطمع).


    أصدر الحزب الجمهوري هذا المنشور، ونشره في يوم 18/2/1946م. حينها كانت الحركة الوطنية في أوج إنقساماتها، وهي تتمحور حول حركتي الاستقلال والإتحاد (الإتحاد مع مصر). كما كانت هناك حالة استقطاب حادة للمثقفين من قبل الطائفية بشقيها الاستقلالي والشق الآخر الداعي للإتحاد مع مصر.
    جبهات الصدام والمواجهة: الاستعمار
    قدم الأستاذ محمود نموذج القائد السياسي الذي يتبع القول بالعمل، وسبق انداده من طلائع المتعلمين في الحنكة السياسية، والصلابة في مواجهة المستعمر. لقد وزع الحزب الجمهوري المناشير، وخطب رئيسه وقادته في الأماكن العامة والمقاهي ضد المستعمر. قال العلامة عبدالله الطيب (1921م-2003م)، في قصيدته "مصاب وحزن"، التي رثا بها الأستاذ محمود بعد تنفيذ حكم الإعدام عليه عام 1985م، (أبيات متفرقة):


    وطنيّ مجــاهد وأديــب منشئٌ، فى بيــانه تجـويد
    وخطيبٌ مـؤثر ولديـه سرعـة الـرّد والذكـاء الفـريد
    وجرئ، وشخصـه جذّاب ولدى الجـد، فالشجـاع النجيد
    ذاق سجن المستعمرين قديماً ومضت فى الكفاح منه العقود
    سبق الناس فـى السياسة رأياً حين فيها تفكيرهم محـدود

    عندما أشتد نشاط الحزب الجمهوري عبر المناشير، والخطب في الأماكن العامة ضد المستعمر. تم اعتقال الاستاذ محمود فى يونيو من عام 1946م، وتم تقديمه الى المحاكمة، حيث خُيّر بين السجن لمدة عام، أو إمضاء تعهد بعدم ممارسة العمل السياسى فأختار السجن دون تردد. غطت الصحف المحلية في الخرطوم خبر محاكمة الأستاذ محمود ورفضه لتوقيع التعهد وتفضيله للسجن. ومن نماذج تلك التغطية ما جاء في صحيفة الرأي العام بتاريخ 3/6/1946م: (مثل الاستاذ محمود محمد طه المهندس أمس أمام قاضي الجنايات المستر مكدوال متهماً من بوليس الخرطوم تحت قانون التحقيق الجنائي لتوزيعه منشورات سياسية من شأنها الاخلال بالأمن العام، وقد أمره القاضي أن يوقع على صك بكفالة شخصية بمبلغ خمسين جنيهاً لمدة عام لايشتغل خلالها بالسياسة ولا يوزع منشورات. ويودع السجن لمدة سنة إذا رفض ذلك.. ولكن الاستاذ محمود رفض التوقيع، مفضلاً السجن، وقد اقتيد لتوه الى سجن كوبر).


    كان الاستاذ محمود بذلك أول سجين سياسى بعد قيام مؤتمر الخريجين عام 1938م. وحتى فى السجن فقد واصل مقاومته للمستعمر بعدم تنفيذ أوامر السجن، فى حين واصل رفقاؤه فى الحزب مقاومتهم خارج السجن، فأضطُرت سلطات الاستعمار الى اطلاق سراحه بعد خمسين يوم من سجنه. وقد أدى نبأ اطلاق سراحه، تماماً كنبأ سجنه، الى تجاوب واسع من قطاعات الشعب، أظهرته برقيات التأييد التى انهمرت على الحزب من كافة محافظات السودان. ومن تلك البرقيات النماذج التالية:


    إلى سكرتير الحزب الجمهوري – أم درمان: (كان سجن الرئيس درساً وطنياً قيماً لشباب الجيل في الايمان والروح وقد سررنا لخروجه لا شفقة عليه ولكن ليواصل الجهاد الوطني). حسن بابكر، القضارف، 24/7/1946م.


    إلى محمود محمد طه، الحزب الجمهوري، أم درمان:
    (تأكل النار الصدأ واللمما وبها يسمو كريم الذهب
    ويرى الحر العذاب المؤلما لذة في الحق يا للعجب
    ياسجينا قدره قد عظما وسما حتى جثا في السحب)
    أحمد محمد عثمان – عطبرة 29/7/1946م.


    إلى الاستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري، أم درمان: (أعضاء جبهة المؤتمر الوطنية بالابيض يرون في خروجك من السجن آية واضحة للايمان بالوطنية الصادقة ويعدّون جهادكم رمزا للكرامة السودانية، فبقلوب مفعمة بالغبطة يشاركون اخوانهم الجمهوريين السرور بعودتكم لميدان الجهاد) السكرتارية 24/7/1946م.


    إلى أمين صديق، البوستة الخرطوم للرئيس: (دخلته رجلاً وغادرته بطلاً وضربته مثلاً)، علي عبد الرحمن، الابيض 23/7/1946م.

    إلى سكرتير الحزب الجمهوري، الخرطوم: (إن جميع أعضاء الجبهة الوطنية بسنجة مستبشرون بالافراج عن رئيس حزبكم العظيم وهم جميعا يبتهلون الى الله أن يسدد خطاكم ويتمنون للرئيس العافية وحسن الجهاد).سكرتير عام الجبهة الوطنية، سنجة، 2/8/1946م.

    إلى محمود محمد طه – أم درمان: (عرفنا فيك المثل الاعلى منذ عهد الطلب، فسرّنا أن يعرف القاصي والداني هذا القلب الكبير) صديق الشيخ، كوستى 30/7/1946م.


    إلى محمود محمد طه، أم درمان: (أوفيت كرامة السودان وابائه حقهما – فلتعش رمزا صادقا للوطنية الخالصة، لك تقديرنا واعجابنا)، إتحاد طلبة كردفان، الأبيض 23/7/1946م.

    إلى محمود محمد طه، أم درمان: (لقد سجلت بعزمك القوي وايمانك الصادق فخرا للأجيال فلتعش مرفوع الرأس – لك منى التهاني؟)، الطيب حسن، عطبرة 24/7/1946م.


    بعد اطلاق سراح الاستاذ محمود واصل الحزب الجمهورى نضاله ضد الانجليز، حتى حانت فى سبتمبر 1946م فرصة أخرى لتصعيد المقاومة، اذ قامت سلطات الاستعمار بتفعيل قانون منع الخفاض الفرعونى والذى كان قد صدر فى ديسمبر من عام 1945م، وبناءً عليه قامت السلطات فى رفاعة بسجن ام سودانية خفضت بنتها خفاضاً فرعونياً، فنهض الاستاذ محمود الى التصدى لحادثة الاعتقال هذه، معتبراً أنّ الاستعمار بتفعيله القانون فى مواجهة عادة متأصلة لا يمكن محاربتها بالقوانين، إنما يرمى الى اضفاء الشرعية على حكمه عن طريق اظهار نفسه محارباً لعادات الشعب السيئة من ناحية، واظهار السودانيين كشعب غير متحضر مستحق للوصاية من ناحية ثانية. خطب الاستاذ محمود خطبة قوية فى مسجد رفاعة مستنهضاً الشعب للدفاع عن المرأة التى أُقتيدت من بيتها الى ظلمات السجن. فتوحدت المدينة بأكملها خلفه فى ثورةٍ عارمة تصاعدت وأدت الى أطلاق سراح المرأة، برغم المواجهة العنيفة التى ووجهت بها من قبل السلطات والتى وصلت لحد أطلاق النار على الشعب. تمخضت ثورة رفاعة عن سجن الاستاذ محمود لمدة سنتين، حيث ُسجن فى سجن ودمدنى لبعض الوقت، ثم أتم باقى مدة السجن فى سجن كوبر بمدينة الخرطوم بحرى. كتب الأستاذ التجاني عامر في مقاله آنف الذكر قائلاً: (وقد تعرض محمود للسجن الطويل، في خصومات ايجابية مع الانجليز، منها حادث " الطهارة الفرعونية" في رفاعة، وهو حدث اجتماعي، رفعه محمود إلى مستوى المساس بالدين والوطن).


    كتب الشاعر محمد المهدي المجذوب (1918م-1982م) في ديباجة قصيدته "المُجاهد" التي نظمها في أوائل مارس عام 1947م، وكان محورها الأستاذ محمود، وبلغ عدد أبياتها ستة وستون بيتاً، وضمنها ديوانه "نار المجاذيب"، الصادر عام 1969م من وزارة الإعلام والشئون الاجتماعية، الخرطوم، ص 189-192) قائلاً: (قيلت هذه القصيدة بعد أيام من الزيارة الرسمية لسجن (كوبر) وقد منعت سلطات السجن يومذاك أعضاء الحزب الجمهوري من زيارة رئيسهم المجاهد محمود محمد طه). جاء في بعض أبيات القصيدة (أبيات متفرقة):


    يا صاحبي والسجـنُ فـرق بيننا زمنـاً على قلبي الوحيد طويلا
    ما السجن هل مسخ الرجال أعزة والغمدُ هل أكل الحسام صقيلا؟
    أسمعـت أبطـال (الأشقَّـةِ) كذبوا معنى الجهـاد وآثروا التأويلا
    وطني بُليت على الخطوب ولم تجد أسفاً يهـز لك القلـوب دخيلا
    قد خـاب ظنـك في بنيـك أذلـة أتُراك تدمـن وعدهم ممطولا
    بات الرجـال على الخيانةِ والخَنَى وجعلـت قيدَكّ للوفـاء مقيلا
    قَلَّبْتَ يا وطـني السـيوف كثـيرةً حتى وجدتَ حسامك المأمُولا
    أنظرْ حسامُك ذو المضاءِ مُحَجَّبٌ في السجن يبُرقُ حده مصقولا
    محمـودُ يلمعُ في عَمَايَـةِ كُـوبَرٍ مثل الهـلال وضاءَةً ونحُولا


    الشاهد أنه على الرغم من هذا النضال الوطني للأستاذ محمود الواضح الساطع، والموثق شعراً وفي الدوريات والوثائق، تجاهله معظم معاصريه من طلائع المتعلمين عندما كتبوا مذكراتهم وسيرهم الذاتية، وأغفلوا ذكر الأستاذ محمود، وحجبوا نضاله وجهاده ضد المستعمر، وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً. أيضاً، سار مؤرخو الحركة الوطنية السودانية على نهج طلائع المتعلمين في إغفالهم للأستاذ محمود، وتجاهلهم لنضاله ولمساهمته الوطنية دعك من المساهمة الفكرية، والإنتاج المعرفي الضخم الذي رفد به الفضاء المعرفي السوداني والإسلامي والإنساني. بل ذكر أحد مؤرخي الحركة الوطنية السودانية قائلاً: أنه بحث في الوثائق الرسمية، ولم يجد شيئاً عن نضال الأستاذ محمود ضد المستعمر. وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً.


    بعد إتمامه لمدة سجنه فى العام 1948م خرج الاستاذ محمود الى مدينة رفاعة حيث اعتكف لمدة ثلاث سنوات فى خلوة عن الناس، حيث أتم ما كان قد بدأه فى سجنه من تهيؤ لدعوته الاسلامية. كان الحزب الجمهوري طوال فترة اعتكافه قد توقف نشاطه، وكان أفراده ينتظرون خروج قائدهم من اعتكافه.


    خرج الاستاذ محمود من اعتكافه فى اكتوبر 1951م ودعا الحزب الجمهورى الى اجتماع عام عقد فى 30 اكتوبر 1951م. فى هذا الاجتماع طرح الاستاذ محمود المذهبية الاسلامية الجديدة، والتى تقوم على الحرية الفردية المطلقة، والعدالة الاجتماعية الشاملة، ليتجه الحزب الجمهورى من ملء فراغ الحماس الى ملء فراغ الفكر. وفى عام 1952م صدر كتاب (قل هذه سبيلى، وصدر منشورٌ بالانجليزية هو (Islam, The Way out) ، وبدأت بذلك حركة واسعة لتأليف الكتب ونشرها التى تتولى شرح فكرته للبعث الإسلامي. ومنذ ذلك الوقت ظل الأستاذ محمود ينشر آراءه في الكتب والمناشير والبيانات. كما كان يوجه الخطابات والرسائل إلى الرؤساء وإلى قادة المؤسسات المحلية والإقليمية والعالمية، معبراً فيها عن آرائه ومواقفه من القضايا والمشكلات المحلية والإقليمية والعالمية.


    نلتقي يوم الخميس القادم


    (نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 2 سبتمبر 2010
                  

09-20-2010, 00:42 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون: بقلم الأستاذ عبدالله الفكي البشير (Re: عبدالله عثمان)

    الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (3)

    في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).

    القلم المتميز الوحيد

    منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي، والعقود التالية، ظل الأستاذ محمود يطرح آراءه وأفكاره، من خلال حركة إنتاج معرفي واسعة وفريدة وجديدة. قوامها تأليف الكتب ونشرها، وتوزيع البيانات والمناشير، وإرسال الخطابات، وتقديم المحاضرات. في ذلك الوقت كان تأليف الكتب في السودان في قضايا الفكر والثقافة والحضارة أمراً نادراً حتى بين طلائع المتعلمين. صاحب حركة تأليف الكتب نشاط مكثف من الأستاذ محمود في كتابة البيانات والمناشير وتوزيعها، وتوجيه الخطابات والرسائل إلى الحكام ورؤساء الدول، وإلى قادة المؤسسات المحلية والإقليمية والعالمية. ضمَّن الأستاذ محمود تلك البيانات والخطابات آراءه ومواقفه من القضايا والمشكلات المحلية والإقليمية والعالمية. اتسمت موضوعات كتب الأستاذ محمود بالتنوع والجدة والجرأة في طرح القضايا إلى جانب العمق في تناولها. وتناول في كتبه ومحاضراته قضايا عديدة منها: الإسلام كمذهبية تبشّر بتحقيق إنسانية الإنسان، قضايا الفكر، والحرية، والديمقراطية، والاشتركية، والشيوعية، والقومية العربية، والمساواة الاجتماعية، والتغيير الاجتماعي، وتطور المجتمعات، والاقتصاد، والتعليم، والمرأة، والموسيقى، والفنون. وقدم في كتبه ومحاضراته تحليلات علمية عميقة ووافرة لقضايا السودان، ومأزق الحضارة الغربية، وواقع المسلمين، ورجال الدين عبر العصور. ونادى في كتبه بضرورة تقليد النبى محمد صلى الله عليه وسلم كمنهاج للسلوك الدينى، ودعى إلى تطوير التشريع الاسلامى.

    طرح الاستاذ محمود مشروعه فى آفاقه الفكرية، والسياسية، والمعرفية، بعلمٍ واسعٍ، وحجةٍ قوية، وبيان ناصعٍ، وصبرٍ على سوء الفهم والتخريج والقصد وإنخفاض السقف المعرفي لدى معارضيه. لقد أحدث الاستاذ محمود من خلال حركة التأليف والنشر، ومنابر الحوار وأركان النقاش التي أقامها تلاميذه لاحقاً، فى الجامعات والطرقات العامة والميادين والحدائق ودور العلم والأحياء، ثورةً فكريةً نادرة الشبيه! من حيث وسائلها الجماهيرية وغزارة إنتاجها الفكري. ففي عام 1952م أصدر كتاب: قل هذه سبيلى، ومنشور باللغة الإنجليزية هو (Islam, The Way Out) ثم توالى تأليف الأستاذ محمود للكتب، وقد بلغت أكثر من أربعين كتاباً منها: كتاب: أسس دستور السودان، عام 1955م، وكتاب: الإسلام عام 1960م، وكتابا: رسالة الصلاة و طريق محمد عام 1966م، وكتاب: التحدي الذي يواجه العرب عام 1967، وكتاب: مشكلة الشرق الأوسط، 1967م. وفي عام 1967م أصدر الأستاذ محمود الكتاب الذي يُعد العمدة للفكرة الجمهورية وهو كتاب: الرسالة الثانية من الإسلام. أيضاً، أصدر الأستاذ محمود كتاب: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، عام 1968م وكتاب: تطوير شريعة الأحوال الشخصية، عام 1971م، وكتاب: الثورة الثقافية، عام 1972م، وكتاب: الإسلام والفنون، الذي كان في أصله محاضرة ألقاها الأستاذ محمود على طلبة كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، عام 1968م، ثم صدر نص المحاضرة في كتاب عام 1974م. وكان آخر نص كتبه الأستاذ محمود هو المخطوطة المسماه "الديباجة". وقد كتبها الأستاذ محمود في معتقله الأخير عام 1984م، وفيما يبدو أنها نص لم يكتمل بعد. وحينما قرأتها شعرت بأن "الديباجة" هي بمثابة نص وداع. تناولت "الديباجة" قضايا عديدة منها: الديمقراطية الشعبية، والتعليم، والعلم التجريبي، والاشتراكية، والثورة التكنولوجية، وتحدث فيها عن الحضارة العلمانية، المادية الآلية، الحاضرة. وقدم فيها تحليلاً عميقاً للعقل والجسد والكبت. إلى جانب ذلك فقد أشرف الأستاذ محمود، على تأليف أكثر من مائتي كتاب صدرت بعضها باسم الأخوان الجمهوريين، وبعضها الآخر باسم الأخوات الجمهوريات. كما قدم الأستاذ محمود مئات المحاضرات والندوات وهو يجوب بقاع السودان المختلفة، في الخرطوم، ورفاعة، ومدني، وكوستي، وعطبرة، والقضارف، وبورتسودان، والأبيض، وبارا وغيرها من بقاع السودان.

    في كتابه: الحركة الإسلامية في السودان 1969م-1985م: تاريخها وخطابها السياسي، الدار السودانية للكتب، 1999م، ص 175-176. تحدث البروفسير حسن مكي عن التطور الفكري والثقافي للحركة الإسلامية السودانية. وأشار إلى أن خطابها قد أثر بعمق على حركة المجتمع السوداني، إلا أن حصيلتها الثقافية ظلت ضئيلة نشراً وإنتاجاً.. وأرجع ذلك إلى طبيعة السودانيين الذين لم يشتهروا في تاريخهم ولا حتى في حاضرهم بتسويد الصفحات وكتابة المصنفات.. وأن إسهامات السودانيين بقيت محصورة في مجال البحث العلمي المرتبط بنيل شهادة علمية أو درجة جامعية.. ولم يعرف في تاريخ السودان المعاصر من كَتَبَ في مجالات الفكر والثقافة والحضارة إلا صفوة الصفوة مثل: "جمال محمد أحمد، محمد أحمد المحجوب، منصور خالد، محمد عمر بشير، أبو القاسم حاج حمد..." حيث طغت روح الفكر العلماني على توجهات هذا النفر وانعدمت محاولات التأصيل وضاعت الكينونة والهوية الإسلامية... كما نبغ عدد من السودانيين في مجالات القصة والأدب والشعر "محمد المهدي مجذوب، الطيب صالح، مصطفى سند...إلخ".. وقد اهتمت طائفة من الكتاب السودانيين بدراسة جوانب الحضارة الإسلامية في السودان "د. يوسف فضل، د. محمد إبراهيم أبوسليم، د. عبدالله الطيب، د. عون الشريف قاسم، د. مدثر عبدالرحيم"، إلا أن التجويد الأكاديمي طغى على كتاباتهم كما تحاشوا الكتابة من موقع الدعوة والالتزام، ثم اتبع ذلك قائلاً عن قلم الأستاذ محمود: (وبدا كأنما القلم المتميز الوحيد الذي دأب على الانطلاق من موقع الالتزام هو قلم محمود محمد طه ...).

    الشاهد، أنه على الرغم من الإنتاج المعرفي الكبير للأستاذ محمود، وهو إنتاج جديد وفريد في السودان، من حيث الضخامة والعمق. ظل موقف معظم القادة والمثقفين -ولا يزال- مقاطعاً للأستاذ محمود، وظلت المؤسسات الأكاديمية مهمشة لإنتاجه المعرفي، ومهملة لآرائه الفكرية والسياسية. بل لا يجرؤ أحد من المثقفين، حتى يومنا هذا، إلا أصحاب العقل الحر والفكر المستنير، وهم قليل، على الاستشهاد بأقوال الأستاذ محمود، أو آرائه، وإن نطق الواقع بصحة أقواله، وأفصحت الأحداث عن عبقرية آرائه وسلامتها. لقد ظل الجميع يجردون الأستاذ محمود من حقوقه الفكرية والمعرفية، وهي موثقة ومكتوبة، وباخلين بأن ينسبوا إليه صواب الرأي وحكمته، حتى حين أتضح ذلك بعد نصف قرن من الزمان. قال الدكتور منصور خالد: (وفي أخريات الأيام أخذنا نتدفق على الفدرالية وكأنا قد اكتشفنا الوجه الآخر للقمر؛ الدعوة للفيدرالية جاهر بها في الشمال قبل نصف قرن (ديسمبر 1955م) الأستاذ محمود محمد طه في كتاب عنوانه: أسس دستور السودان لقيام حكومة جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية. ففي شمال السودان، إذن، لم تكن الفيدرالية كشفاً "إنقاذياً" ولا ابتداعاً جيبوتياً. ولا غضاضة في أن يتعلم الناس من أخطائهم، كلنا يتعلم من أخطائه ويعترف بها ويدين بالشكر لمن أعانه على تدبر الصواب؛ المنقصة تكون عندما يدفع الرضا بالنفس بعض الناس لعدم الاعتراف بأخطائهم الماضية بل ولتجاهل من سبقهم إلى الحق، ثم الادعاء بأنهم أهل الكشف المبين). (منصور خالد، جنوب السودان في المخيلة العربية: الصورة الزائفة والقمع التاريخي، دار تراث للنشر، لندن، 2000م، ص 330).
    الأستاذ محمود وموقف السيدين
    قاد الأستاذ محمود المواجهة والصدام مع أكثر من تسع جبهات. بعضها محلي، وبعضها الآخر خارجي له تحالف أو أنصار أو أتباع أو تأييد محلي. والجبهات هي: المستعمر البريطاني، مصر قبل استقلال السودان وبعده، الطائفية، رجال الدين، القومية العربية، الشيوعية، النظام الرأسمالي، الأخوان المسلمون، والطرق الصوفية فيما بعد. لقد اتسمت مواجهة الأستاذ محمود لكل هذه الجبهات بالاستمرارية والصلابة وشدة المراس. كما وثق كتابةً لكل مواقفه في المواجهة والصدام؛ إذ كان في كتابته سواء كانت كتباً أو مقالات أو مناشير أو بيانات أو خطابات، يعلل أسباب المواجهة، ويدلل على صحة موقفه، ويقدم البدائل والحلول لما يجب أن يكون عليه الحال. تحدثت في الحلقة السابقة عن أثنين من تلك الجبهات، وهي المستعمر البريطاني والطائفية، ولاحقاً سيأتي الحديث عن الجبهات الأخرى. إلا أن الحديث عن مواجهة الأستاذ محمود للطائفية لا يكتمل بدون الإشارة إلى موقف السيدين من الأستاذ محمود. والسيدان كما هو معلوم هما: السيد علي الميرغني (73/79/1880-1968م)، مرشد طائفة الختمية، والسيد عبدالرحمن المهدي (1885م-1959م)، إمام الأنصار، وراعي حزب الأمة.
    على الرغم من موقف الأستاذ محمود المعلن والموثق والمستمر ضد الطائفية منذ بداية الأربعينات من القرن الماضي، ودعوته إلى عزلها من أن تصبح المسيطر على الحركة الوطنية، لم يصدر من أيٍ من السيدين حديثاً ضد الأستاذ محمود، ولم يسجل عنهما عداء له، ولم يسمع منهما قولاً فيه نيل منه. بل تؤكد الشواهد أن السيدين: السيد علي والسيد عبدالرحمن، كانا يحترمان الأستاذ محمود، ويكنان له التقدير والإعجاب. أيضاً، كان الأستاذ محمود على الرغم من موقفه من الطائفية، يُقدر دورهما، ودور رجال الحركة الوطنية، فقد جاء في كتاب: معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية، خلال ثلاثيـن عاماً، (1945م-1975م)- الكتاب الأول، 1976م (ص 6): (وماينبغي أن يغيب عن بال أحد، أن رجال الحركة الوطنية الآخرين قد أدوا دوراً مقدراً في سبيل جلاء الاستعمار، وفي اتمام السودنة، وإقامة أول حكومة سودانية بعد الاستقلال .. فان الدور الذي قام به رجال مثل: السيد علي الميرغني، والسيد عبدالرحمن المهدي، وأعوانهما من السياسيين، دور كبير..).
    كان السيدان كبيرين بحق، في مواقفهما، وفي تقيماتهما. لقد كانا من أهل الحكمة والروية والخير الكثير، ولعبا دوراً عظيماً في تاريخ السودان الحديث. ذكر الأستاذ يحي محمد عبدالقادر (1914م-؟؟؟)، في مذكراته الموسومة بـ: على هامش الأحداث في السودان، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، بدون تاريخ نشر، ص 17، 18، 162)، قائلاً: (يتهمني الكثيرون بأنني –صحفي متقلب- وهي عبارة مؤدبة لمعنى –صحفي معدوم الضمير-، وقد بدأ هذا الإتهام عندما كنت أعمل في جريدة النيل لسان حال آل المهدي، وهي استقلالية، مع احتفاظي بمراسلة الأهرام، وهي صحيفة مصرية، يفترض فيها الدعوة للوحدة بين مصر والسودان، واشتراكي في نفس الفترة في تأسيس الحزب الجمهوري- محمود محمد طه- وهو منظور له كحزب مناهض لآل المهدي...وأن أعلن في جريدة النيل الناطقة بلسان آل المهدي أن الرسائل الواردة للحزب الجمهوري تُعنون باسمي، وهو حزب منظور إليه كخصم لدود لحزب الأمة).
    كانت جريدة النيل أول صحيفة يومية تصدر في السودان عام 1935م، وكانت تتحدث بلسان حال آل المهدي، إلا أنها كانت في فهم الإمام عبدالرحمن المهدي، جريدة كل السودانيين. لم يعب السيد عبدالرحمن على الأستاذ يحى إعلانه بأن تصل رسائل الحزب الجمهوري عن طريق جريدة النيل على الرغم من مواقف الحزب الجمهوري المعلنة. وأضاف الأستاذ يحي قائلاً: إنه ألتقى السيد عبدالرحمن، في ظل هذه المعطيات، ودعاه للإنضمام إلى حزب الأمة، وقبل ذلك كان الأمير عبدالله عبدالرحمن نقدالله (1915م-1979م) قد دعاه أكثر من مرة للإنضمام إلى حزب الأمة. اعتذر الأستاذ يحى صراحة إلى الإمام عبدالرحمن عن إنضمامه لحزب الأمة، متعللاً بعمله مراسلاً لصحيفة الأهرام المصرية. فقال له الإمام عبدالرحمن: (ألا ترى أن عضويتك في الحزب الجمهوري الآن قد تعرضك أيضاً للمتاعب في الأهرام. إن مصر الآن تطالب بأن يكون ملك مصر ملكاً على السودان). لم يذهب السيد عبدالرحمن في رده على الأستاذ يحى إلى الحديث بصورة سلبية عن الحزب الجمهوري أو عن الأستاذ محمود. وفي مرة ثانية ألتقى الأستاذ يحى بالسيد عبدالرحمن عام 1946م، عندما تخلى عن العمل بصحيفة النيل، وهو عضو بالحزب الجمهوري. ودار بينهما حديث شعر بعده الأستاذ يحى كما عبر قائلاً: (كأنما خاب أمل الأمام فيّ، فشعرت بأن حرارة حديثة قد خبت). ثم قال السيد عبدالرحمن بعد توقف: هل أنت حريص على استقلال السودان؟ قلت: نعم. قال السيد عبدالرحمن: (إذن أي طريق تسلكه فهو حسن). وأشار الأستاذ يحي قائلاً: وأكد لي الإمام عبدالرحمن أن جريدة النيل ليست لحزب الأمة، وأن محرريها أحرار في اعتناق المبادئ التي يرونها أنسب لهم، وذكرني بأن أطلب مكافأتي عن مدة خدمتي في جريدة النيل). وأضاف الأستاذ يحي قائلاً: (والغريب أنني لم أطلب هذه المكافأة حتى اللحظة رغم حاجتي إليها).

    نلتقي يوم الخميس القادم

    (نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 9 سبتمبر 2010م)
                  

09-20-2010, 00:44 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون: بقلم الأستاذ عبدالله الفكي البشير (Re: عبدالله عثمان)

    الأستاذ محمود ووحدة السودان (4)
    بقلم: عبدالله الفكي البشير


    في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).

    حب السودان من حب الله (الأستاذ محمود محمد طه)

    نأمل أن يظل السودان موحداً.. ليس هناك أشد ألماً من ضمور أراضي السودان، وتغيير ثوبه الجغرافي، وتكلس تنوعه الثقافي، في حال اختيار الأخوة الجنوبيين لخيار الانفصال بدلاً عن الوحدة، وفقاً لاتفاقية السلام الشامل. بذلك، يكون قد كتب على الأجيال الجديدة من السودانيين، مضغ مرارة النتيجة في صمت. إن النتيجة أياً كانت، تكون هي خلاصة الإرث السياسي الذي ورثناه عن الآباء والجدود، قادة الحركة الوطنية وموجهي مسار السودان السياسي، طلائع المتعلمين واللاحقين من بعدهم وحتى يومنا هذا. ما من مجال في السودان أحوج، وبشكل عاجل إلى إعمال العقل والفكر، للقيام بالمراجعات وإعادة النظر سوى الإرث والمسار السياسي. لقد فشل ساستنا وقادتنا منذ وقت باكر في وضع صيغ التعايش لشعوب السودان، ورسم الخطط للنمو المتكافئ لبقاع السودان المختلفة، وصموا آذانهم عن المبادرات الخلاقة التي أتت باكراً. فمعظم القادة والساسة لدينا ضعيفو الصلة بتاريخ شعوبهم وسير حياواتها، تهمهم اللحظة الراهنة، ويعيشون فيها غير آبهين بالمستقبل، حتى تداهمهم القضايا، وتأخذهم أخذ عزيز مقتدر. معظمهم أقرب إلى الماضي منه إلى المستقبل، لا يقرأون ، ولا يسمعون. فالقائد الحق هو الذي يعمل في الحاضر منسجماً مع أصوات الواقع وألحانه، ومستجيباً لنداءات الراهن، وملبياً لمتطلبات كأنها لا تنتهي، وبهذا يكون قد حقق بعض الإنتماء للمستقبل. فالإنتماء للمستقبل، ضرورة حتمية، تتطلب الكثير من الواجبات الفردية، أقلها، وفي الحد الأدنى، قراءة التاريخ، وتدبر سير الشعوب، والتفكر في مسارات العصر ومتطلباته، والبكور في مواجهة قضايا الشعوب. ويبدو أن قادتنا وساستنا جُبِلوا على المجئ المتأخر للقضايا العظام، وفُطموا على شن الحرب على من يأتي باكراً بالمبادرات الخلاقة، حتى ولو كان في إتيانه الخير والمخرج والخبر اليقين. قبل استقلال السودان كان موقف القادة والسياسيين نحو أصحاب المبادرات الخلاقة في الشأن السوداني، موقفاً عدائياً، ورافضاً لمبادراتهم، بل فالحاً في تضليل شعوب السودان حول المبادرات وأصحابها. فقبل نصف قرن ونيف من السنين، تحدث الأستاذ محمود وكتب الكثير من الكتب حول الشأن السوداني. وضع الحلول الشافية للكثير من القضايا، ورسم سيناريوهات لاتزال حيَّة وناجعة لصور البدائل والحلول للمشكلات. لكنه قُوبل بالرفض، والحرب، وحملات التضليل حوله وحول أطروحاته، بل سعى الكثيرون لتغييبه، وتغييب إنتاجه الفكري والمعرفي من الذاكرة الجمعية.

    كان الأستاذ محمود يرى ما لم يستطع أن يراه أنداده من طلائع المتعلمين، في سير الأحداث ومآلاتها، وآثارها على المستقبل. قدم أطروحاته بأفق بعيد، ونظر مُوغل في المستقبل. لقد وضع الأستاذ محمود يده على إرهاصات مشكلة الجنوب، منذ وقت باكر، وسبق بذلك الساسة والقادة من طلائع المتعلمين، وتقدم الأحداث ناظراً للمستقبل. قال في السفر الأول الذي صدر في أكتوبر عام 1945م: (والمكان الأول من هذه العناية سينصرف لمواطنينا سكان الجنوب الذين قضت عليهم مدنية القرن العشرين أن يعيشوا حفاة عراة جياعاً مراضاً بمعزل عنا)... وتحدث في يوم 26 أكتوبر من عام 1945م، ضمن دستور الحزب الجمهوري، عن ضرورة العناية بالوحدة القومية، قائلاً: (نرمي بذلك إلى خلق سودان يؤمن بذاتية متميزة ومصير واحد وذلك بإزالة الفوارق الوضعية من اجتماعية وسياسية، وربط أجزاء القطر شماله وجنوبه وشرقه وغربه حتى يصبح كتلة سياسية متحدة الأغراض متحدة المنافع متحدة الإحساس).

    تحدث الأستاذ محمود قبل ستة عقود ونصف من الزمان، بلسان المستقبل، وببصيرة العارف، وحكمة الحكيم الذي أوتي الخير الكثير. دعى باكراً إلى الحاجة لتنمية الوعي بالذاتية السودانية. ونادى بإقامة المشاريع التنموية في مختلف أجزاء القطر، لإزالة الفوارق بين المجموعات البشرية. وحثَّ على ضرورة العمل منذ ذلك الوقت على ربط أجزاء القطر بسبل النقل والمواصلات حتى تتحقق وحدة المنافع والأحساس. أيضاً، جاء في كتاب: معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية، الكتاب الثانى، الأخوان الجمهوريين، 1976م: (إن حل مشكلة الجنوب في حل مشكلة الشمال.. فالشمال والجنوب لا تحل مشكلتهما إلا بالمذهبية التي توحد، مشاعر الشعب وتوحد أفكاره.. ولقد اقترحنا الحكم اللامركزي الفدرالي ليس للجنوب فحسب بل لأقاليم السودان الخمسة وجاء هذا في كتابنا "أسس دستور السودان" بتاريخ 1955م، وقد قابله الناس في ذلك الوقت بالاستغراب وعدّوه تفتيتاً للقطر وفصلاً للجنوب.). وحول هذا المعنى تحدث الدكتور منصور خالد في محاضرة له، كان عنوانها: "محمود الذي عرفت" قدمها يوم 22 يناير 2009م، في مركز الخاتم عدلان للإستنارة والتنمية البشرية، بمناسبة مئوية الأستاذ محمود محمد طه، (1909م–2009م)، في الذكرى الرابعة والعشرين لإستشهاده عام 1985م، قائلاً: (ففي السياسة الحكمية كتب محمود في عام 1955م عن الفيدرالية كأصلح المناهج لنظام الحكم في السودان، في الوقت الذي كان غيرُه يصفُ الفيدراليةَ بأنها ذريعةٌ استعمارية لتفتيت وحدة السودان وكأنا بهؤلاء لم يكونوا يعرفون كيف وحدتْ الفيدراليةُ دولاً مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والهند، وكندا، والبرازيل، وألمانيا). إن ما طرحة الأستاذ محمود في كتابه: أسس دستور السودان، الذي نُشر عام 1955م، واستهجنه الناس آنذاك، قامت على جوهره إتفاقية أديس أبابا عام 1972م، ولم تخرج إتفاقية السلام الشامل من روحه، وقد جاءت بعد نصف قرن من الزمان.

    الشاهد، أنك حينما تقرأ أطروحات الأستاذ محمود، تشعر كأنها قد كتبت صباح اليوم. قال في كتابه آنف الذكر: أسس دستور السودان: (ولقد قلنا إن المشاكل الراهنة لأي بلد هي في حقيقتها صورة مصغرة لمشاكل الجنس البشري جميعه، وهي في أسها، مشكلة السلام علي هذا الكوكب، وعندنا انه من قصر النظر أن نحاول حل مشاكل مجتمعنا السوداني داخل حدودنا الجغرافية، من غير أن نعبأ بالمسألة الإنسانية العالمية، ذلك بأن هذا الكوكب الصغير الذي نعيش فيه قد أصبح وحدة ربط تقدم المواصلات الحديثة السريعة بين أطرافه ربطا يكاد يلغي الزمان والمكان إلغاء تاماً، فالحادث البسيط الذي يجري في أي جزء من اجزائه تتجاوب له في مدي ساعات معدودات جميع الأجزاء الأخرى، يضاف إلي هذا أن هذا الكوكب الصغير الموحد جغرافيا، إن صح هذا التعبير، تعمره إنسانية واحدة، متساوية في أصل الفطرة، وان تفاوتت في الحظوظ المكتسبة من التحصيل والتمدين. فلا يصح عقلا أن تنجب قمتها الإنسان الحر، إذا كانت قاعدتها لا تزال تتمرغ في أوحال الذل والاستعباد، أو قل، علي أيسر تقدير، انه لا يمكن أن يفوز جزء منه بمغنم السلام والرخاء إذا كانت بعض أجزائه تتضرم بالحروب، وتتضور بالمجاعات..).

    ظل الأستاذ محمود مسكوناً بحب السودان، ومهموماً بمستقبل شعوبه وأراضيه، إلى الحد الذي يجعلك تشعر بأنه كان مهموماً بالمستقبل أكثر من الحاضر، ويُعَوِّل على الأجيال الجديدة واللاحقة، ويُراهن عليها في إحداث التغيير، وفي القدرة على استيعاب اطروحاته. تلمس ذلك في كتبه وفي محاضراته. كان موضوع حب السودان ومستقبل مساره، من أهم محاور كتاباته ومحاضراته، وأحاديثه في مجلسه. كتب الأستاذ تاج السر حسين بتاريخ 27 يناير 2007م مقتطفات أجملها لاحقاً في مقال عنوانه: "محمود محمد طه الذى عرفته.." قائلاً: (وكنت من المحظوظين الذين التقوا الأستاذ/ محمود واستمعوا اليه وشربوا شاى الصباح فى بيته المتواضع المبنى من (الجالوص) وهو المهندس المتخرج من كلية غردون! وأستمعت للقرآن يتلى والأناشيد العرفانيه تردد، وأمور الدين والدنيا تطرح للحوار، وكأن ذلك البيت البسيط احدى جامعات العالم الأول العريقه، وهو فى الحقيقه أكبر من ذلك كله. ومن أكثر ما علق بالذاكره حديثه الذى خصنى به والذى قال فيه: "حب السودان من حب الله")! (تاج السر حسين، "محمود محمد طه الذي عرفته.."، سودانايل Sudanile، منبر الرأي، استرجاع (Retrieved) يوم 4 يناير 2010م، الموقع على الإنترنت: http://www.sudaneseonline.com.

    كان الأستاذ محمود صاحب نظر بعيد، وصاحب منظار شامل ومتكامل. يُمعير الأمور والأحداث بمعيار العارف المفكر الكبير، المتأمل للصورة الكلية والمشهد المتكامل، لا بمعيار السياسي، قصير النظر، ناقص النضج، ويافع الخبرة والتكوين. ذكر الدكتور منصور خالد في كلمة كتبها في يناير عام 1985م، ونُشرت بجريدة السياسة الكويتية، قائلاً: (ويا ليت حاكم السودان كان يملك الحس من المسئولية الوطنية التي تجعله يقول ما كان يقوله شهيد الحرية الأستاذ محمود: "تقول الحكومة راح منا عشرون وقضينا على ستمائة من المتمردين" أما نحن فنقول "لقد راح ستمائة وعشرون مواطناً سودانياً").

    ذكر الدكتور فرانسيس دينق في كتابه: صراع الرؤى: نزاع الهويات في السودان، ترجمة عوض حسن محمد أحمد، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، ط2، 2001م، ص (114-122)، وهو يعيد النظر في ما عانته القومية السودانية من أحداث. ووقف عند أهم حدثين، يرى أنهما كانا الحدثين الرئسيين، الذين مثلا تطوراً هاماً في مسار القومية السودانية. وأشار إلى أن أولهما: ابعاد الجنوبيين من مفاوضات تقرير المصير الوطني، وثانيهما: فشل (وفقاً للمترجم) "الأخوان الجمهوريين"، بأن يكون لهم تأثير هام في الاتجاهات السياسية في البلاد. قائلاً: (بالنسبة للحدث الأول، فإذا ما حدث وتم اشراك الجنوبيين بشكل أكبر في عملية اتخاذ القرارات المؤدية للاستقلال لكان من الممكن غالباً، ضمان مساعدتهم في تطوير الترتيب الذي كان من الممكن أن يكون أكثر عدلاً في تقبل التنوع داخل الوحدة. ولو تحققت خلال فترة من الزمن حرية الحركة في البلاد والتعامل بين الجنوبيين والشماليين في اجواء من السلام والأمن، والانسجام النسبي، لكان ممكناً حينها دعم التكامل والاحساس بالهوية الوطنية. كان لابعاد وعزل الجنوبيين، خاصة في المرحلة النهائية لعملية تحقيق الاستقلال، جر البلاد في طريق جائر وصدامي دفين متوارث).

    وعن الحدث أو التطور الثاني الذى أثر في مسار القومية السودانية يقول فرانسيس دينق: (وبنفس القدر، إذا ما قُدر لمحمود محمد طه أن ينجح في تحقيق نظرته للمسيرة الإسلامية مرشداً للحركة السياسية في البلاد، لسادت الظروف المساعدة على المساواة بين المواطنيين، وشجع احترام الأسس الديمقراطية على خلق رؤية للوطن تجد الاحترام من الشماليين والجنوبيين على حد سواء. وكان يمكن حينها أن يكون الاحساس بالهدف الوطني مدفوعاً بتعاليم الإسلام، الليبرالية، والمتسامحة كما فسرها "الأخوان الجمهوريين" مما يعني، على المدى البعيد، امكانية أن تحقق فلسفة "الأخوان الجمهوريين" نجاحاً أكبر في تطوير الانتماء والتقارب مع الإسلام، مقارنة بالنماذج الأكثر قهراً والتي مازالت مهيمنة الآن. ومهما كانت النتائج المفترضة لعملية الاستيعاب المتسامحة هذه داخل القالب الإسلامي. إيجابية أم سلبية للجنوب. أدى كبت فكر محمود محمد طه، إلى ضياع الفرصة لتطوير هوية وطنية أكثر شمولاً وتكاملاً. على كلٍ ساعد كبته في الحفاظ على هوية الجنوب كوحدة مختلفة ثقافياً ودينياً).

    نلتقي يوم الخميس القادم

    (نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 16 سبتمبر 2010م)
                  

09-22-2010, 11:49 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون: بقلم الأستاذ عبدالله الفكي البشير (Re: عبدالله عثمان)

    فوق
                  

09-26-2010, 04:18 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون: بقلم الأستاذ عبدالله الفكي البشير (Re: Omer Abdalla)

    الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (5)

    رُفَقاء الأستاذ محمود وتلاميذه

    في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).

    رُفقاء الأستاذ محمود

    رُفقاء الأستاذ محمود، غير تلاميذه. فهم أولئك النفر الذين كانوا معه في مرحلة ملء فراغ الحماس، كما سماها الأستاذ محمود، وكان جلهم من طلائع المتعلمين. أسس معهم الحزب الجمهوري، في أكتوبر عام 1945م، واختاروه رئيساً للحزب، وعملوا معه تحت مظلة الحزب، قائدين النضال ضد المستعمر. قام الحزب كما جاء في دستوره على مبدأ الجلاء التام. وتتلخص أغراضه في: قيام حكومة سودانية جمهورية ديمقراطية حرة مع المحافظة على السودان بكامل حدوده الجغرافية القائمة الآن. وبناء الوحدة القومية، عبر خلق سودان يؤمن بذاتية متميزة ومصير واحد، وذلك، بإزالة الفوارق بين مجموعاته البشرية وتحقيق وحدة المنافع ووحدة الشعور في أجزائه المختلفة. أما العضوية فكانت لكل سوداني بلغ من العمر 18 سنة. ولكل مواطن ولد بالسودان أو كانت إقامته فيه لا تقل عن عشر سنوات لم يبارح خلالها السودان.

    لم تكن للحزب الجمهوري ارتباطات طائفية أو قبلية، ولم تربطه علاقات مع الساسة في مصر أو مع الإدارة البريطانية. في الوقت الذي كانت فيه جهود الاستقلال تقوم على المفاوضات الفوقيه مع دولتي الحكم الثنائي، ولم يخرج السعى إلى الاستقلال من حيز المفاوضات والعمل الفوقي إلى النشاط السياسي العريض، أو العمل الجماهيري الواسع، اتجه الحزب إلى مخاطبة الجماهير في المقاهي والأماكن العامة. (تضمنت معظم كتب الدكتور محمد سعيد القدال (1935م-2008م) إشارات إلى ذلك). كان من رفقاء الأستاذ محمود، في مرحلة تأسيس الحزب الجمهوري: عبد القادر المرضى، ويوسف مصطفى التني(1907م- 1969م)، ومنصور عبد الحميد، ومحمود المغربى، واسماعيل محمد بخيت حبّة. وكان معهم آخرون. فقد ذكر الأستاذ يحي محمد عبدالقادر (1914م-؟؟؟)، في مذكراته الموسومة بـ: على هامش الأحداث في السودان، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، بدون تاريخ نشر، ص (162)، أنه اشترك في تأسيس الحزب الجمهوري، وأن الرسائل الواردة للحزب كانت تأتي عن طريق عنوانه بصحيفة "النيل". وهناك أيضاً، بعض أعضاء الحزب الذين صدرت بحقهم أحكام بالسجن بعد يومين من صدور حكم السجن الثاني على الأستاذ محمود في يوم 17/10/1946م. فقد ورد في كتاب: معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية، خلال ثلاثيـن عاماً، (1945م-1975م)- الكتاب الأول، الأخوان الجمهوريون، 1976م، أنه جاء في صحيفة الرأي العام، الصادرة في يوم 19/10/1946م، الخبر التالي: (أصدرت محكمة الجنايات حكمها على بعض أعضاء الحزب الجمهوري المتهمين تحت المادة 105 وكانت الأحكام كالآتي: عثمان عمر العتباني 3 شهور سجنا، سعد صالح عبد القادر، شهر سجناً، ذا النون جباره شهر سجناً وكانت المحكمة برئاسة استانلي بيكر، وعضوية محمد أفندي محمود الشايقي مفتش الخرطوم بحري، والعمدة عمر كويس).

    أيضاً، كان الشاعر محمد المهدي المجذوب (1918م-1982م)، عضواً في الحزب الجمهوري. وكانت تربطه علاقة خاصة بالأستاذ محمود، وظل على صلة به حتى وفاته عام 1982م. كتب المجذوب ثماني قصائد، كان محورها الأستاذ محمود. قال في قصيدة عنوانها: "سيدة رفاعة"، وقد ضمَّنها ديوانه: (الشرافة والهجرة):

    أبايِعُ مًحْمُوداً على الحَقِّ بيعةً هى الصبرُ والرضوانُ في عَقْدِها بَدْرُ

    وقال عام 1946م في قصيدة عنوانها "الجمهوري"، وضمَّنها ديوانه: (منابر):

    شَفي النفـسَ رأيٌ لقيتُـه وبايعـتُ فكـرَ العبقـرى المسددِ
    فتى لم يقل هاتوا زكاةً ولم يرد بإسلامه ديناً سـوى دين أحمدِ
    يُصاولُ كُهان الدياجي بمنطــقٍ يَدكُ عليهم كلَ زَورٍ مشيـدِ

    وقال عام 1964م، في قصيدة عنوانها "الفيضان"، وضمّنها ديوانه (منابر):

    خذ هبة الثورةِ عن محمودِ إقدامِه وفكرِه الجديدِ
    مواثباً لخصمك اللدود منتزعاً من بأسه الحديدي
    ثأرَ جدودٍ وعُلا جدودِ

    كما أشار في قصيدة "سيدة رفاعة"، إلى بعض أعضاء الحزب الجمهوري، قائلاً: (أبيات متفرقة):

    لك النصــرُ يا محمــودُ والنَُورُ بَاقِيــاً وأعطيتَ ما أعْطَى بصَائِرَنَا الفَجْرُ
    عرفنـا رِجـــالاً قدرُهُـــمْ ليسَ قَادِراً وغيرُكَ في السـودانِ لَيْسَ لَهُ قَدْرُ
    سَـعيـنا إلى النّادِي فطــارُوا وأبْلَسُــوا عصافيرَ أهْوَى بينَ أعْشَاشِهَا نَسْرُ
    بَسَـطْنَا لهُــمْ بَرقِِيــّـةً من رِفَاعَـــةٍ فأعْشَى عيون القَوْمِ بَارِقُهَا الشّـزْرُ
    رَفعْـنَا بهــا في أولِ الليــلِ رايـــةً يظاهِرُها الفِكـرُ المقاتِلُ والجَهْـرُ
    (أمينٌ) و(منصورٌ) و(فَضْلٌ) وصاحِبِي (مُنِيرٌ) (ومـا يُلْـوِي بأخلاقِـنَا الزَّجْـرُ)
    عبــابٌ ونفسِي في الجَماهِير قَطْـــرَةٌ هي البرقُ والرَّعْدُ المُفَجّرُ والبَحْـرُ

    ذكر المجذوب في قصيدته أربعة من أعضاء الحزب الجمهوري وهم: أمين محمد صديق، ومنصور عبد الحميد، وهو من خريجي كلية غردون، ومحمد فضل الصديق، والشاعر منير صالح عبدالقادر (1919م-1994م). كان الشاعر منير عضواً في الحزب الجمهوري، وظل على علاقة مستمرة بالأستاذ محمود، وكان يزور الأستاذ محمود حين يعود من إجازاته السنوية حين كان يعمل خارج السودان. كما أن بعض أفراد أسرته كانوا يمضون أوقاتاً في منزل الأستاذ محمود. وحينما تم تنفيذ حكم الإعدام في حق الأستاذ محمود عام 1985م، رثاه الشاعر منير، بقصيدة عنوانها: (النشيد الأول) قائلاً: (أبيات متفرقة):

    أحسـبت هاتيك المشـانق تقوى على طمـس الحقائق
    أحسـبت أن الحبـل يجتاح الخليقــــة والخـلائق
    محمـود يرفع للســماء وأنت فوق الأرض لاصـق
    محمـود قد عشـق الحبال وطالما عشـق المشــانق
    محمـود ليس يغـيب بل يأتي ليحــتل الشــواهق
    ويعــيش فـي التاريخ وهاجاً يلــوح بكل شـارق
    لو غـاب محمــود فما غــابت مبادئه النواطــق

    عُرف رجال الحزب الجمهوري بصدق العزيمة. وكان رئيس الحزب، الأستاذ محمود، يتمتع بقدرات قيادية نادرة وفريدة، وشهد له الكثيرون بالصلابة ورباطة الجأش، وقوة المراس. وعلى سبيل المثال، كتب الأستاذ أحمد خير المحامي (1905/3م-1995م)، واصفاً رجال الحزب الجمهوري ورئيسه قائلاً: (لقد برهن رجال الحزب الجمهوري على صدق عزيمتهم وقوة إيمانهم لذلك يتمتعون باحترام الجميع، كما برهن رئيسهم "الأستاذ محمود" على إخلاص وصلابة وشدة مراس). (أحمد خير المحامي، تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان: كفاح جيل، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، 2002م، ص 95، 96).
    الشاهد، أن الأستاذ محمود رافقه بعض طلائع المتعلمين، وبعض من غير طلائع المتعلمين، في درب النضال، وعرفوه عن قرب، فظل الأستاذ محمود عندهم موضع ثقة وإعجاب. وهناك بعض آخر جمعته بهم صلات أخويه وإنسانية طيبة، وشهدوا له بالاستقامة الشديدة، وسمو الأخلاق. أيضاً، كان زملاؤه المهندسون، من خريجي كلية غردون، وأعضاء نقابة المهندسين لاحقاً، يكنون له التقدير والاحترام والاكبار. ومن هؤلاء المهندس حسن بابكر الحاج علي الحسين (1908م-1975م)، وهو من خريجي كلية غردون عام 1932م، وعمل مهندساً بالسكة حديد، ثم استقال منها عام 1944م. كان زميلاً للأستاذ محمود وصديقاً له، ولم يكن عضواً في الحزب الجمهوري. فعندما صدر حكم الردة في حق الأستاذ محمود عام 1968م، كتب المهندس حسن بصحيفة الأيام في يوم 11/12/1968م قائلاً: (ولن يؤثر هذا الحكم على شخص محمود وآرائه التي تدعو إلى الحرية والرجوع إلى الإسلام وتنقيته من الشوائب التي لحقت به ممن يسمون أنفسهم رجال الدين – اللهم إن كان محمود مرتدا فأنا ثاني المرتدين، وإن كان المرتدون غيره فأنت أولي بهم). لقد ظل الأستاذ محمود عند بعض طلائع المتعلمين موضع احترام وإعجاب وإكبار. وظل عند الكثيرين منهم، ولأسباب عديدة، موضع حسد، وحرب. لا يسع المجال في هذا الحيز تناول هذا المحور باستفاضة؛ إلا أن الحلقات القادمة، ستتضمن بعض التفصيل، كما أني عزمت على اصدار هذه الحلقات بعد اكتمالها في كتاب، خاصة بعد أن جاءتني أشارات من بعض أستاذتي الأجلاء، ومن بعض أهل الخدمة التنويرية من الكُتاب. فالكِتاب يتيح فرصة التوسع في كل المحاور.

    الخلط حول الأحزاب الجمهورية:

    إن تناول التاريخ يتطلب الدقة واللا خلط. وما دمنا بصدد الحديث عن الحزب الجمهوري فإنه من المهم الإشارة إلى خلط بعض الناس، بين الحزب الجمهوري، والحزب الجمهوري الاشتراكي، وحزب الاستقلال الجمهوري. ويرد الخلط أحياناً عند بعض الكُتاب. فخلط الكُتاب بعضه نتاج لاخطاء تلازم عمليات هندسة الكتابة، وطباعتها ومراجعتها، برغم حرص الكاتب على التدقيق والاتقان. ومن نماذج ذلك ما ورد في كتاب البروفسير محمد إبراهيم أبوسليم (1927م-2004م): بحوث في تاريخ السودان: الأراضي- العلماء- الخلافة- بربر- علي الميرغني، دار الجيل، بيروت، عام 1992م، ص 188. قال أبوسليم: (ولجأ السيد "علي" إلى المواجهة البطيئة وتقدم وهو يتحسس طريقه، قدم السيد ميرغني وخلف الله وجماعة الحزب الجمهوري فأسسوا الحزب الجمهوري، وظل الجمهور ينتظر ليرى هل يقف السيد على مع الجماعة أم لا، وفي وسط هذه الدوامة مات الحزب لفقدان السند الشعبي). من الواضح أن البروفسير أبو سليم، يقصد حزب الاستقلال الجمهوري. فالحزب الذي حُظي بتأييد السيد على الميرغني، هو حزب الاستقلال الجمهوري، الذي كوَّنه كل من ميرغني حمزة، وخلف الله خالد وأحمد حلبي، عام 1956م، بعد أن استقالوا من الحزب الوطني الاتحادي بزعامة إسماعيل الأزهري. وقد تم حل حزب الاستقلال الجمهوري عام 1956م. ثم نشأ حزب الشعب الديمقراطي الذي قام على سند طائفة الختمية، برئاسة الشيخ علي عبدالرحمن الأمين. ثم اندمج حزب الشعب الديمقراطي مع الحزب الوطني الاتحادي في عام 1965م، وتم تكوين الحزب الاتحادي الديمقراطي، برئاسة إسماعيل الأزهري، وأصبح الشيخ على عبدالرحمن الأمين نائباً للرئيس. (محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900م-1969م)، ترجمة هنري رياض وآخرون، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، بدون تاريخ نشر، ص 240).

    أيضاً، كتب الأستاذ عبد المحمود نور الدائم الكرنكي فى عموده اليومي بصحيفة ألوان، يوم 13/9/2010م، العدد رقم: 4340، مقالاً بعنوان: "أنا عيسى بن مريم!" قال فيه: (التقيت الدكتور الراحل أحمد صفي الدين عوض فى مكتبه بكلية الإقتصاد بجامعة الخرطوم، ليحدثني عن تاريخ الحركة الإسلامية فى السودان... الدكتور احمد صفي الدين متزوج من بنت السيد/ مختار محمد طه، الشقيق الأكبر لـ (محمود محمد طه) مؤسس الحزب الجمهوري الاشتراكي. كان من زملائه عند تأسيس الحزب فى الأربعينات الشاعر محمد المهدي المجذوب...). من الواضح أن الأستاذ الكرنكي يقصد الحزب الجمهوري، وليس الحزب الجمهوري الاشتراكي. فالحزب الجمهوري الاشتراكي نشأ عام 1951م، ودعا إلى استقلال السودان، وقيام جمهورية اشتراكية مستقلة، وكان إبراهيم بدري (1897م-1962م) أمينه العام، ومكي عباس (1909م-1979م)، أحد مفكريه ومنظريه، إلى جانب آخرين. لقد أفرد السيد محمد خير البدوي، مساحة واسعة للحديث عن هذا الحزب، في مذكراته الموسومة بـ: (قطار العمر، في أدب المؤانسة والمجالسة، دار النهار للإنتاج الإعلامي، الخرطوم، 2008م). فالسيد البدوي هو أحد معاصري نشأة الحزب، وأول من قام بجولة في جنوب السودان مبشراً بميلاد الحزب، وكان ذلك بناءً على توجيهات السيد إبراهيم بدري.

    مرحلة التتلمذ على الأستاذ محمود

    ظل الأستاذ محمود يعمل تحت مظلة الحزب الجمهوري، حتى بعد ظهور اسم الأخوان الجمهوريين. فمتى توقف نشاط الحزب الجمهوري؟ ومتى ظهر اسم الأخوان الجمهوريين؟ ومتى وكيف نُؤرخ لبداية مرحلة التتلمذ على يدي الأستاذ محمود؟ في يوم الخميس القادم، سأحاول الاجابة على هذه التساؤلات، من خلال تناول الجزء الثاني من محور اليوم: رفقاء الأستاذ محمود وتلاميذه، وهو تلاميذ الأستاذ محمود.

    (نقلاً عن صحيفة الأحداث، السبت 26 سبتمبر 2010م)
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de