إزالة الغبش و إخلاص الترميم رأي د.محمود عبد الله إبراهيم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 10:45 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-09-2012, 02:36 PM

Husamuddine Ismail
<aHusamuddine Ismail
تاريخ التسجيل: 02-03-2012
مجموع المشاركات: 14

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
إزالة الغبش و إخلاص الترميم رأي د.محمود عبد الله إبراهيم

    تقْدُمةٌ
    الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم , و فهمه ما لا يفهم , و هداه للنظر في شأن صلاحه بتوفيقه , وســاقه بالنظــر و التفكر إلى التهدي للحق برحمته, و خيره غيرُ مكرهٍ لأي نجدٍ ينتهجُ , و أمهله لكي لا يعتلجُ , فضرب الأمثال له في قرءآنه , ثم حكى له القصص في فرقانه , على لسان آخر نبيانه , رحمة منه و دليل على رأفته و رضوانه.
    و الصلاة و السلام على أفصح القائلين , و أصدق القاصين , و أعدل الشاهدين , إمام المحققين المدققين , و فرد الراويين المتثبتين , سيدنا محمد بن عبد الله الأمين , و على صحابته العلماء الأطواد , و آل بيته الأعلام الأفراد , و تابعيه المشمرين المرضيين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
    فقد حدثني بعض إخواني من السالكين درب الوصول , على نهج أستاذي الشيخ إسماعيل بن عبد الله , عن رسالة ذاع صيتها بين أهل السلوك و غيرهم من المتتبعين لتأريخ التصوف في السودان , و هي رسالة الدكتور محمود عبد الله إبراهيم عن تأريخ الطريقة الإسماعيلية , فذكروا لي فيها تضارب بعض أقوالٍ عما تواتر إليهم من الثِّقات من الرواة , سواء كانوا من أهل الشيخ الأستاذ , أو من خلفائه الأفذاذ , فنظرت فيها بعين المتعلم المتأدب , و أبحرت فيها بمركب المتواضع المتعجب , أتمحص أي نهج إنتهج كاتبها , و أي رأيٍ جاد به عليه فيها مشرفها , أعني الأستاذ بيتر مالكوم هولت , و هو من غير مريةٍ بحرٌ لا تعكرهُ دلاءُ الطلاب لعلم التأريخ , سيما في شأن تأريخ الدول الإسلامية في أفريقية و الشام , إذ أن له كتب عديدة في شأن الدولة الصليبية و المملوكية , بل و السودانية, منها تأريخ السودان من منبعث الإسلام إلى الآن A History of the Sudan: From the Coming of Islam to the Present Day و كتاب " الدولة المهدية في السودان , 1881-1898 , دراسة في جذرها و نموها و مغربها " Mahadist State in the Sudan,1881-98: A Study of Its Origins, Developments and Overthrow و الذي كان أساس رسالة دكتوراته التي كتبها إبان مكوثهِ في السودان بين عامي 54 و 55 من القرن المنصرم , و كتبٌ أخرى قيمة , تتجلى فيها مقدرة العالم المدقق و الخّريد المحقق بشأن القَـصص و التأريخ للبشر و الأحداث والجغرافيا و التأريخ الأوربي في العصور الوسطى . و البروفيسور هولت يتقن العربية , إذ تعلمها وقت أن كان مؤرشِفاً لحكومة السودان , مما مكنه من النظر في وثائق الدولة المهدية , و أتاح له فهم كثير مما كان يجري في ذلك الأوان, و قد حاز الأستاذ هولت لقب الأستاذ الممتاز Professor Emeritus بجامعة لندن بكلية الدراسات الشرقية و الأفريقية , و هي ذات الكلية التي درس فيها العلامة عبد الله الطيب و درَس الإنجليز أنفسهم فيها قبلَ أن يقفل إلى السودان راجعاً في عام 1952. توفي الأستاذ هولت في عام 2006 مخلفاً إرثاً كبيرا , و سيرةً طيبة , و تلاميذاً راسخين في علم التأريخ الشرق أوسطي و الأوروبي.
    فلما فَرغتُ من قراءة الرسالة , علمت أن كاتبها فاتت عليه بعض المسائل المتعلقة بالنتائج و الخلاصات, و التي هي بالأصلية مبنيةٌ على المتحصَلِ من المعلومات, لا لنقصٍ في علم كاتبها و لا لثُلمة في مقصده , بل و لا لتقصير في تتبعه , بل لأن المنهاج الذي درج عليه مؤرخو الغرب في النظر إلى شأن غيرهم, و الذي هو مولود من ثقافتهم و بيئتهم , لا يشبه منهاجنَا نحن أهل الشرقِ, عاربنا و مستعربنا, في النظر إلى التأريخ , و في التأويل و التصريح و التقصي , فإختلاف الدين و الموروث و اللغة و المناخ , بل و التجارب و أساس النظرِ إلى الأحداث , يترتب عليه إختلاف النهج في التفكير , و يتولد منه شتين الرأي و التنظير , و يتحصل منه مغايرة النتيجة و المستفاد, و هذا أمرٌ إلهي , فسنة الله ماضية حكيمة في إختلاف ألسنة الخلق و ألوانهم , و قبائلهم و بطونهم , و هذا مسببٌ جعله الله لسبب , و هو إختلاف البشر , و الذي هو من آيته و معجزاته. ولعل منهج رسالة الدكتور محمود هو منهج يتجلى فيه نفَسُ العلامة هولت و عبق مدرسة الدراسات الشرقية و الأفريقية, و نمط تفسير الأحداث في السودان السناري و العثماني بذات الآلة التي يُفسرُ بها سلوك النبلاء و الفرسان و اللوردات في عصور التنوير في إنجلترا العريقة.
    لذا, رأيت أن أكتب رسالتي هذه , قاصدا بها كل من قرأ رسالة الدكتور محمود, من الذين لم يرق لهم ما كتبه, أوالذين استساغوا ما نظمه , موضحا فيها ما أشكل على قرّائها من أخبار , مُرجحا ما فيها من تضارب , راتقا فيها بين رأي كاتبها المبني على ما تحصله من معلوم و ما لم يدركه من مجهول , وفقَ ما تواتر إليّ من الثقاة من الرواة , بمتن محقَقٍ , و سندٍ مُدقَّقٍ و رأيٍ إجتهدتُ في أن يكون مسدداً, تجاوزتُ فيها عن مجاراة أسلوب المناقب المعهود , و الذي هو منذ قديم ٍموجود , في أدبيات الطريقة الإسماعيلية, و أبدلته بعرض وقائع تأريخية, ينتج من تفسيرها حقائق بدهية. فأبدأ سائلا الله أن يجعل عملي هذا محضاً لوجهه , لا رياء فيه و لا سمعة, مستعينا به على كل حزَنٍ , قاطعا به كل سهلٍ , مستغفُرهُ من كل زلل, ناكرا عن إلمامي بعلم التأريخ , فشخصي دارسٌ مبتدئٌ لعلم الإقتصاد القياسي , و هو علمٌ يُعمِـلُ الرياضيات و الإحصاء في تفسير سلوكيات الأفراد و الجماعات , عن طريق الرسم و المعادلات , و يوصِي أصحاب القرار , بأي رأيٍ يَرسِي بهم في سالمِ قرار, لكني أكتبُ ما درسته على أشياخي , سيما العلامة دياب أحمد دياب , الأزهري الأدهمي الأشعري الختمي , و ما تعلمتُه من السلوكِ في درب أستاذي الشيخ إسماعيل و درب خلفائه, من خبر دقيق , و نهج عتيق.
    فأبدأ مجاريا صاحب الرسالة في تقصيه و سرده, من غير ذكر للفصل الأول , إذ أنه عبارة عن سرد تأريخي لا خلاف عليه, و إن كان من الأهمية بمكان, لأنه ربط المكان بالزمان , فعليه بدأتُ بالفصل الثاني و ختمتُ بالفصل الرابع و تجاوزت عن الخامس إذ شملتُ مُستفاَدهُ مع سابقِه, واقفاً فيما رأيته لا يتطابق مع ما علمتُه , و ما تناهى إليّ من الخبر , مدلياً برأيي , و مقارنُهُ برأي الدكتور محمود , راجيا من الله أن أُوفقَ في ما أسميته : إزالةُ الغبَش و إخلاصُ الترميم لرأي رسالة د.محمود عبد الله إبراهيم في تأريخ الطريقة الإسماعيلية , و الله المستعان.

    حسام الدين حسن عباس إسماعيل
    طالب دكتوراة في الفلسفة في الإقتصاد القياسي
    جامعة الخرطوم
    حي السيد المكي , محرم 1433 , ديسمبر 2011














    الفصل الثاني
    مؤسس الطريقة: الشيخ إسماعيل الولي
    1207-1280 هـ - 1793-1863 م

    في هذا الفصل سأقف على نقاط جدلية أشارت إليها الرسالة التي أنا بصددها , و هي تأريخ ميلاد الشيخ إسماعيل و موته , و إختلاف ذلك عمّا ورد في مناقبه التي أعتاد الناس علي سماعها كل عام في الذكرى السنوية لوفاته, و تأريخ أسرة الدفار الملخّصِ في جزء من رسالةِ خلاصة الإقتباس للسيد أحمد الأزهري نجل الشيخ إسماعيل , و الذي ذكر فيه حال أسرة بشارة الغرباوي قبل هجرتها من منصوركتي, كما أجاري الرسالة المعنية بوقفةٍ في تعليم الشيخ إسماعيل الأوليّ و سندِه , ثم أقف في استقلال الشيخ بطريقته بعد إجازة شيخه الختم له بذلكَ , و أصرّحُ بما تعارض مع رأي كاتب الرسالة مع ما حصل أصلاً , و أختم ذلك بما ختمت به الرسالة فصلها الثاني, و هو تعليقها على أسلوب كتابة الشيخ إسماعيل , فأشرح في خاتمة الفصل مذهبه الأدبي و أقيس ذلك بمن تهدّى بهم الشيح إسماعيل في نمط أدبيات طريقته.
    فأقول في شان الإختلاف الموجود في تاريخ ميلاد و وفاة الشيخ إسماعيل, أن االتاريخ الهجري و الميلادي متلازمان , الفرق بينهما يُضبَطُ بمعادلةٍ حسابية و ضعها علماء الفلك , إبتدأ الفرق بينهما بهجرة الرسول خير الأنام , عليه أفضل الصلاة و السلام عام 622م إلى مكة , ثم ما فتئ هذا الفرق يقترب و يبتعد عن 622 عاما , حسب مجريات المحل الهندسي لمعادلة الفلكيين , فتارة هو 580 عاما, و تارة 583 عاما , و تارة 620 عاما, و تاراتٍ غير ذلك, و له في ذلك أطوارٌ , يسميها علماء الرياضيات الإحصائية بالنوبات cycles , تتحددُ وفقَ ضربِ و قسمةِ المتغيرات ببعضها ؛ رابط ذلك بموضوعنا , ما اختلف فيه الناس أن مولد الشيخ إسماعيل كان عام 1787 م و ليس 1793 م, و إتفاقهم على أن مولده بتأريخ هجرة خير المرسلين هو 1207 هـ , و إختلافهم في وفاته عام 1860 م أو 1863 م و إتفاقهم على أنها 1280 هـ بتقويم هجرة خاتم النبيين , و لهم في ذلك أضُرب , الضرب الأول هو جمعهم بإضافة الفرق الذي أخذوه من عدد ثابت أضافوه لسنين هجرية ركدت ردحا من زمانٍ, ثم حدث أن تغير ذاك العدد بعد أن تغيرت متغيرات معادلة الفلكيين بتحديث الأيام و الأسابيع و الشهور الشمسية , و التي هي أطول من أختها القمرية , و هم معذورون في مسلك ذاك الضرب , إذ أن علم الفلك في بلاد السودان آنذاك كان مغمورا, ناهيك عن مصرِ كردفان , و الضرب الثاني , ما أرخه مؤرخو الفرنجة الذين زاروا السودان في عهد دولة الفونج , و هم الذين ذكرهم الدكتور محمود في الفصل الأول من رسالته , فهؤلاء المؤرخين , جُبِلوا على إعمالِ التأريخ الميلادي أو الجريجوري في قياس الأزمنه , فسجلوا مولد الشيخ إسماعيل قياسا على ما رأوه, و حساباً على ما علموه , لا ما على عهده الناس من إعمال التأريخ الهجري في ذرع الوقت و ضبط الأحداث. حاصل الأمر , أن الشيخ إسماعيل مكث في دنيانا هذه 73 هجريا , إتفاقا و قولا واحدا , و إما 70 عاماً ميلاديا برأي و 73 عاماً ميلاديا برأي آخر , و الراجح أنه مكث 70 عاما ميلاديا , إذ أن معادلةَ حساب الزمان الهجري تعطي نتيجة أقصر من الميلادي, و للقارئ أن يرجع إلى متون حساب الفلك إن أراد إستزادة في هذا الصدد.
    و قد ذكرت الرسالة التي نحن بصددها في ثاني ما رأيت وجوبَ الوقوف عليه, أن هناك شحا في سيرة أجداد الشيخ إسماعيل مذ عهد بشارة الغرباوي , و هي بشارة الغربي, والغرباونجي لغة تركية , فاللاحقة "جي" تعني النسب بالتركية , و النون نون تسهيل , و هي لغة مارسها السودانيون تأثرا بالأتراك وقتذاك ,و المعنى أي القادم من غرب النهر, كما ذكر الدكتور محمود , و سبب التسمية معروف مذكور في ذات الرسالة , و هي أن بشارة بن علي بن أبرسي (أبّا رسِي : أي أبي , وهي كلمة تُطلقُ على العظيم من الرجال, رسىَ على البر بكلام مدغوم) كان يسكن غرب النهر قبل أن تُسمى قريتهم بمنصوركتي , و منصور هو معلم قرءان و جد لوالدة الأستاذ الشيخ إسماعيل و كتي هي المكان المرتفع بلسان النوبيين الدناقلة, فبشارة كان يركب المركب قاصدا بها جزيرة تُرنجَ , و هي جزيرة شرق منصوركتي الحالية, تقع قبلها قرية الدفار قبالة منصوركتي دَرَسَت معالمها نتيجة زحف الرمال عليها بدءأ من زمان المكناصرية , و هي أيضا , فخذ من أفخاذ الدهامشة ينحدر منها الحاج بشارة بن علي ذاته, و قصدُ بشارة الغرباوي لغرب النهر كان بقصدِ طلب العلم إتفاقاً على يد جابر البولاد الركابي القادم من قرية زيلع بجنوب اليمن . سبب هذا الشح في المعلوم عن الفترة بين بشارة و الشيخ إسماعيل هو وفاة عبد الله و لما ينقُلَ كلما عرفه عن أجداده لإبنه إسماعيل , و مكوث حمدٍ أخي الشيح إسماعيل بمنصوركتي و وفاته فيها أبترا من غير ذرية , و إنقطاع الشيخ إسماعيل عن زيارة أهله في الشمال لإنشغاله بالتعلم و لمشقة السفر. و أما ما تواتر عن أن سبب الهجرة من منصوركتي إلى كردفان هو نزاع بين الدواليب و هم ركابيون, و أسباط بشارة فهي رواية غثة مبتوته , أشير هنا إلى أن وصف منصوركتي بدنقلا كان وصفا غير صائب , فالتقسيم الإداري للأتراك قسم صقع البديرية قسمين , قسم ألحَقُوه بمروي حاضرة الشايقية , و كانت منصور كتي من أعمال مروي بأرض الشايقية, و قسم ألحقوه العثمانيين بدنقلا , و كانت دبة الفقراء من أعمال دنقلا , و الفاصل بين أعمال مروي و دنقلا هو قنتي , بداية رأس منعطف النيل , بيد أن لفظ الدناقلة ما فتئ يُطلقُ على كل من هو قادمٌ من طريق دنقلا من الجلاّبة و العلماء, و على رأسهم البديرية و الجابرية والركابية و النوبيون أصحاب دنقلا أنفسَهم , كما أن دنقلا العجوز كانت أشهر من مروي آنذاك بسبب التجارة و منتهى طرق السفر إليها. و أما رواية نعوم شقير فأتفق مع الدكتور محمود أنها مضطربة , إذ أن نعوم تلقى تلك الرواية إبان مكوثه في كردفان من أشخاص انقطعت الشقة بينهم و بين الشمال لما يقرب من مئة عام من غير تحقيق في السند و لا تمحيص في التلقي, و سبب ذلك هو أن متعلمي الكردفانيين و الذين هم دناقلة في معظمهم لم يكونوا أهل توثيق و تأريخ , بل كانوا أهل فقه و قرءان . و سبب الهجرة الأصيل هو أن ذرية عبد الرحيم بابا كانت قد كثرت , و ضاقت عليهم رقعة الأرض المزروعة بما رحُبَتْ, و التي هي إدامُ أهلِ منصوركتي آنذاك , فلم يجد عبد الله والد الشيخ إسماعيل بُدّاً من قصد كردفان متاجرا بالمحاصيل التي يزرعها بين منصوركتي و الأبيض , والتي كانت آنذاك أوفر رزقا و أكثر مطرا من الشمال القاحل , و ذلكم هو السبب الرئيس لهجرة البديرية و الدناقلة مطلقا لكردفان , فمنهم من قصد الجزيرة , كود عيسى و ود الترابي , ومنهم من قصد كردفان , كأسرة عبد الرحيم بابا و الركابية و الجابرية , فاختار الجابرية و الركابية بارا في معظمهم, و أختار البديرية الأبيض , إلا بعضَ أسرٍ كأسرة مكاوي الركابية , و التي تتلمذ عليها والد الشيخ إسماعيل كبيراً, فقد آثرت الأبيض . و اختُلِف في سببٍ هجرة بعض أسر البديرية التي اشتهرت بالدين و العلم هو نشر الإسلام و العلم : أهو نشر الدين أم ضيق العيش ؟ , أم أن ضيق العيش كان سببا في الهجرة و من ثم نشر الدين ؟, و تلك الهجرات المسببة هي هجرات متوارَثةٌ من العرب قبل ما يقرب من أربعمائة عام من زمان بشارة , فالعرب العباسيون دخلوا السودان لسببين أساسيين , أولهما الفرار من بطش التتار و الذي جعله الله سببا في نشر الإسلام في السودان و امتزاج دماء ذرية العباس بدماء النوبة , فمصائب قوم عند قوم فوائد , و ثانيهما هو نشر الإسلام.
    و فيما يتعلّقُ بقصة إمتطاءِ عبد الله والد الشيخ إسماعيل للفرس الشهيرة (و الفرس تطلق على الجواد الذكر و الفرس الأنثى) فقد حدثت القصة بمنصوركتي و ليس بالأبيض و لما يهاجر عبد الله والد الأستاذ إلى منصوركتي بعد, و قد حملت السيد ملكة الدار بالشيخ إسماعيل بمنصوركتي و وضعته بالأبيض, و الشجرة التي كان يجلس عليها الشيخ عربي موجودة إلى يومنا هذا بمكان ليس ببعيدٍ من مسجد منصور كتي القديم و الذي هو بالقرب من حوش ود بابا الذي أشار إليه مترجم الرسالة العم الأستاذ البيلي .
    و أما ما رأته الرسالة المعنية من اجتهاد السيد أحمد الأزهري في إثبات نسب الأسرة إلى العباس لتعضيد مكانها الإجتماعي و إسباغ الشرعية على شان الطريق بإكساء الشرافة العباسية على مؤسسها فحاصله ما يلي: أن الشيخ إسماعيل آنذاك , أي في 1844 , لم يكن في إربة لإثبات شرف و شرعية , فالطريق الإسماعيلي وقتها كان قد انفرد عن الختمية, بل أن الختم كان قد أجاز الشيخ إسماعيل سلفا و قفل إلى الحجاز راجعاً بل و التقاه الشيخ إسماعيل في الحجاز في موسم الحج بعد قفوله بأعوام و صلى بأقارب الختم بمكة , و أمرُ الشيخ إسماعيل وقتها كان قد اشتهر , بل كان مشهورا قبل أن يلج الختم كردفان, فالشيخ كان معلما للقرءان و علوم الشريعة مذ ختمه على أشياخه , فحديث السيد أحمد حينها عن والده كان حديث التلميذ عن شيخه , لا حديث المعظِم عن المعظَم ( بضم ميم الأولى و بكسر ظائها المشدده وفتح ظاء الثانية المشددة ) , والناظر لرسالة مزيل الإلتباس بعين المتفحص , يجد أن السيد أحمد لم يدخر وسعا في تعريف مصدر لفظ الغرباونجي من منحى لغوي لا من منحى جهوي , ودليل ذلك أن كل من أحاط بالشيخ إسماعيل آنذاك في كردفان , يعرف أن أسرة عبد الله هي أسرة دنقلاوية وافده, بل هي من أُسرِ الجلاّبة المعروفة, لا تمِتُّ لغرب السودان أو لقبائل جهينة العربية بصلة , و لم يكُن ذلك يحتاج إلى حرصٍ بيّنٍ لإزالة أي خلطٍ في الذهن , بل إنّ هذا المفهوم تجاه أسرة الشيخ إسماعيل هو مفهومٌ معاصِر, سببُه نموُّ قبائلِ الشويحات بكردفان , ذات الأصل الشمالي, و التي هي من نسل بدير بن سمره , لا من نسل دهمش بن محمد بن بدير بن سمرة , عَقِلَ هذا الفهمِ كل من لم يكن ذا علم بأصول أسرة الشيخ إسماعيل في منصوركتي , فهو رأيٌ معاصِرٌ للدكتور محمود لمسألة لها ما يقارب المئتي عام , و هو رأيٌ متأثٌر بمنحىً نحاه الخليفة عبد الله بتمييزه بين قبائل الغرب و الشمال , و كتابة السيد أحمد لرسالته المشتهرة حدثت قبل ما يقرب مئة و خمسين عاما , في وقت كان الناس فيه قله و أكثر تمايزا و معرفة بأنساب بعضهم و جهاتهم من زماننا هذا. و أنثني لذكر أن قبيلة الجوامعة الكردفانية هي قبيلة عباسية , إذ أنها فخذ من أفخاذ الجعليين هاجرت جنوبا من مملكة الأبواب, فليست كل قبائل كردفان و التي هي وسط السودان لا غربه و إنما غرب النيل , قبائلا جهنية, بل فيها العباسية كالجوامعة التي ذكرتُ و الجهنية كالرزيقات بدارفور و الفهرية كالتعايشة , و فهرٌ هذا هو قريش نفسه بن مالك بن النضر .

    أزيد في ذلك أن الحي الذي سكنه عبد الله والد الشيخ إسماعيل كان يسمى فريقُ الدناقلة مذ منتصف خمسينات القرن السابع عشر, أي في حوالي عام 1650 , قبل مولد الشيخ إسماعيل بنحو مائة و أربعين عاماً , و قد سمي بذلك نظراً لتمركز القبائل الدنقلاوية المهاجرة فيه, كالبديرية و الجابرية و الركابية , و الدناقلة النوبيين أنفسهم. ثم تحورَ اسم هذا الحي إلى فريق البديرية بعد ظهور أمر الشيخ إسماعيل و تجمع بديريه الشمال حوله في الأبيض و ما جاورها , أي بعد مئتي عام تقريبا من نشوءه , ثم صار اسم الفريق حي القبة بعد أن بنى السيد المكي قبة والده. شاهدُ الأمرِ , أن مسألة عمدِ السيد أحمد الأزهري لتفسير اسم بشارة الغرباوي دافعها نسْبُ أصل الشيخ إسماعيل للدوحة العباسية و تبرؤها من أي أصول من غرب السودان إنما هي إسقاطٌ لمعلومات سماعية تواترت لكاتب الرسالة وفق رواسب عرقية فرضها منهج الخليفة عبد الله في التمييز العرقي بين قبائل الشمال السوداني الكنانية المستعربة و قبائل الغرب السوداني الجهنية المستعربة, و هذا منحىً ينأى عنه منهاجُ رجال الدين , و هم الذين قدِمَ أسلافهم إلى السودان و قد كانوا عرباناً أقْحاحاً, تصاهروا مع النوبيين فأنجبوا قبائل السودان المستعربة, من غيرما حرج في مصاهرة الزنج أو الحُمْر من الناس.

    و أما ما ذكرته الرسالة في ذات الفصل و السياق عن ثراء الشيخ إسماعيل فلم يتواتر إلينا عبر خلفائه,فجلُّ ما كان يذبحُ من الذبائح في العقائق فقد كان من هدايا محبي الشيخ إسماعيل أو مما جادت به أرضه المزروعة من رزقٍ و ريعٍ, و هذا أمر ألفناه في رؤساء السجادة إلى يومئذ , لا من زكوات الحكومة المصرية المنتدبة كما أشارت الرسالة في فصل متأخر. و حاصل الأمر من قبلِ, أن ثراء عبد الرحيم بابا قد توارثه ذريته و توزع بينهم , فلم يشتهر أحد منهم بالثراء بعده , و ذلك أمر طبيعي, فقد كان لعبد الرحيم بابا خمسة إخوة من أبيه الحاج حمد , ثم انفرد ابنه إسماعيل جد الشيخ إسماعيل بست أخوة أُخر, تقاسموا ثروة عبد الرحيم بابا على مر أكثر من 70 عاما , ثم نفدت , لضيق الأرض الُمسهّمةِ على الوُرّاثِ , و لكثرة النسل في أسرة الغرباويين , فلم يكُن في الأمر مندوحةً من ذكر السيد أحمد ما كان عليه الحال في منصوركتي , بالقياس إلى ما عليه الأسرة وقت كتابة رسالته من رقة الحال و خشونة العيش, و الذي كان تارة يرغد بإهداء الأعيان و التلاميذ رزقا للشيخ إسماعيل و أسرته, و هو أمر ألفه فقهاء السودان لأربعمائة عام خلت . لذا , فالنظر إلى مقصد السيد أحمد بذكر ثراءٍ مضى هو نظٌر ذاتي, أو ما يسميه الفرنجة ب subjective , إذ أنه يمكن أن يُنظرُ إليه بزاوية التعريف بماض تليد , أو بزاوية التفاخر بواقع متقطع في الخير أكثر من إستدامته. وقد نحى بذلك السيد احمد منحى لم يسبقه له أحد , فلن تجد ترجمة دقيقة لأسرة عالم متصوف في عهد الدولة السنارية كالتي نظمها السيد أحمد الأزهري في تعريف والده و أسرته , و شاهد ذلك , تراجم صوفية الجزيرة , كالشيخ يوسف أبو شراء , و دفع الله المصوبن و التوم ود بان النقاء,و تراجم صوفية الشمال, كأسباط حمد أبو دنانه , أعني عبد الله الأغبش و حامد أبي عصاة و سوار الذهب, فجلُ ما تواتر عنهم هو توصيل نسب أبائهم بأجدادهم في جزيرة العرب, و هذا ما زاد عليه السيد أحمد بذكر الأمهات و الأجداد و المواقع و المشايخ.
    أشير هنا إلى خلط في التحشية ورد في رسالة الدكتور بالصفحة الثامنة و الأربعين من طبعة كتاب الذاكرين , إذا أنه ورد ذكر القيرواني صاحب الرسالة في غيرما موضعه.
    و لي في المسألة الدانية وقفة طويلة, ليس مع الدكتور محمود فحسب, بل مع كل من شرع في إحداثِ أشياخٍ للشيخ إسماعيل لم يذكرهم الشيخ نفسُه, و المسألة هي مسألة قديمة جديدة , رأسها هو : على من درس الشيخ إسماعيل قبل وصول الختمِ كردفان في عام 1816 , و هذه الفترة هي بين عامي 1800 و 1816.
    و أبدأ بقول الدكتور محمود في أسفل الصفحة الثامنة و الأربعين عن إعراض الشيخ إسماعيل عن البوح بأسماء من درس عليهم في الخلوة و ذكر السيد أحمد لشيخ جده بشارة الغرباوي.
    فاٌقول: إن الأمر ليس مقصوداً جزما, إذا أن الشيخ إسماعيل لم يشتهر أمرُه بالتلمذة على المختصر و الرسالة و ألفية إبن مالك , و إن كان قد درسهم , بقدر ما اشتهر بالتصوف و التسليك و الإرشاد, فذِكُر مشايخ العلماء كان و ما زال امرا شائعا لضرب العلماء الذين ساروا بدرب التدريس في علم الفقه و اللغة , و هذا ما أوجد له الأزهري سندا لجده بشارة الغرباوي, إذ كان جلُ مطلب العلماء و الدارسين آنذاك الإحاطةَ بمختصر العلامة خليل و الذي جمع فيه بين الراجح و المشهور بمذهب مالك رحمه الله أو بمتن الرسالة القيروانية, أما الأستاذ إسماعيل, فقد ضرب صفحا عن ذكر أشياخه لا ليَـتِـرَ حقهم و فضلهم , بل لأن الإجازة بحفظ القرءان و علوم الفقه صارت أمرا معتادا في دولة الفونج وقتها, بل و قد مكث الشيخ إسماعيل ردحا من زمانٍ يعلم أولاد المسلمين القرءان و علوم الدين جنباً إلى جنبٍ مع من تتلمذ عليهم, و هذا أمر يسهل تصوره, و أما من قال بأن الشيخ إسماعيل تتلمذ على عربي مكاوي فالقول يعارضه كبر سن عربي مكاوي مع سن الشيخ إسماعيل, إذ أن عربي مكاوي كان قد تدارس مع عبد الله والد الشيخ إسماعيل , كذلك الأمر مع الفقيه دليل, فالبون بين الثلاثة شاسع, و أحسب أن العلوم التي تلقاها الشيخ إسماعيل هي أقرب أن تكون من معلمي الخلاوي غير المشهورين و إن كانوا أفذاذاً ماهرين , كما ذكرهم الشيخ بنعتهم هذا في العهود, أقولُ : حفظ الشيخ فضلهم و لم يذكرهم لسبب, هو أن كتابه العهود الوافية هو كتاب تسليك لمريد متصوف, لا لمريد طالب علم شرعي, بل إستعاض عن ذلك بما يهم السالك المبتدئ و هو سنده في الطريق الصوفي , لا في العلم الشرعي.
    و قد مررت بغيرما سفٍر يجعل من أخوات الشيخ إسماعيل شيخاتٍ له , بل و تجتهد تلك الأسفار في افتعال أشياخٍ للشيخ إسماعيل إجتهادَ المتحرجِ المضّطر , فأقطع في ذلك قول كل خطيبٍ بسؤال أسأله , لمَ لمْ يذكرهن الشيخ إسماعيل فيمن ذكر من أشياخه و لو حتى تعريضا في كتابه العهود الوافية الجلية؟, بل أقول أن معظم الروايات المتعلقة بأخوات الشيخ إسماعيل و التي تنص على حفظ القرءان على أخته زينب أو أمه و درسه على يد أخته عاليه هي روايات سماعية غير مضبوطة و لا متصلة بسند, و هذا وإن حصل, فقد حصل لوقت قصير و بِكمٍّ من العلمِ و التحصيل لا يقوم به أودُ عالم , ولا يرقى لأن يوضع في ترجمة عالم متصوف محقق كالشيخ إسماعيل , و بل و يفضي هذا إلى سؤال آخر : على من درسن هاتيك الأخوات ؟, و هذا الأمر ُعلى حصولهِ, فلن يتعدى تشجيع الأم لولدها , أو الأخت لأخيها , بل يمكن أن يحسبَ من باب المدح لنساء أسرة عبد الله بن إسماعيل إذ أخرجنَ من أرحامهنّ و بعثْنَ من دورهنّ رجلا كالشيخ إسماعيل , و أغنيْنَه عن السفر و الترحال لطلب العلم, و هاتيك الروايات و إن تواترت , فقد واترها غياب الأثر لمن درس عليهم الشيخ, لا من باب قوة تواترها من رواة متفقين أو من أحاديث آحاد, لذا فهي روايات يستأنس بها , كحال الحديث الضعيف, لا يجتنى منه حكم شرعي مُلزم, و كذا الحال في شأن السير و التراجم. و أضرب مثلا بزماننا هذا عن عالم شهير , و هو العلامة عبد الله الطيب , فهو لم يذكر الكثير عمن درس عليهم في خلاوي المجاذيب الشاذليين, بقدر ما ذكر الكثير عن طه حسين, فقد أثر الأخير في العلامة و اشتهر به, و هذا لا يعني أن عبد الله طيب منكر لمعلمي خلاوي المجاذيب , و لا معظمٌ من شأن طه حسين, بل لأن العالم يشتهر بمن أجازه إجازة يصير بعدها العالم معروفا ساطعا للناس, و ذات المثال تجده في سيرة الإمام مالك بن أنس, فقد كانت أمه تدفعه للعلم دفعا هو و أخيه النضر بن أنس , فلم يمنع ذلك مالكاً رحمه الله أن ينسب سنده إلى فقهاء المدينة السبعة و نافع مولى عبد الله بن عمر , ذات المثل تجده في سيرة العلامة خليل بن إسحق و الشافعي و غيرهم من أعلام المسلمين , فأماتهم كن من خلفهم دفعا لطلب الدرس و التحصيل, بل تجده في سيرة الزبير إبن العوام حواري الرسول, فقد كانت أمه صفية تضربه ليخرج مع خاله حمزة بن عبد المطلب, رضي الله عن الجميع , ليصيد الأسود, فلما لبّ و تبّ, اشتهر أمر إبن العوام على أنه حواري الرسول, لا حواري أمه, و على ذلك قِس, و خلاصةٌ ذلك أنّ جَعلَنَا من أخواتِ الشيخِ إسماعيل أشياخاً له يرفعه, ولا عدم ذكرنا أشياخَه يضعهُ. فالأمر ليس كما فُهِم. و أردف ذا شيئا مهما , فالعلم في نساء الدفار ليس بالأمر التعجاب , بل العلم في النساء في تلك الفترة و هي من 1400م إلى 1700م كان أمرا ليس بالمستغرب في بيوتات الدين, فالشيخ حمد أبو دنانه مثلا, و هو الرجل الذي كان لبناته الفضل في أرساء الدين في السودان بإنجابهن خيرة رجال هم أطواد الدين , و هم حامد أبو عصاة الجعلي جد العمراب, و عبد الله الأغبش البديري, و سوار الذهب البديري , و إدريس ود الأرباب و عجيب المانجلك , فما سنّدوا مشايخهم في العلم , نسبوها للبولاد في الإجازة , أو لتلاميذ البولاد.

    وفي رأي الرسالة في أن السيد أحمد الأزهري أحجم عن ذكر أشياخ والده فأقول أن ليس للسيد أحمد في هذا يد, فقد كتب ذلك الشيخ إسماعيل نفسُه في العهود, و أما رأي الرسالة أن أتباع الشيخ يروجون بأن علم التحقيق الذي اكتسبه الشيخ إسماعيل هو علم لدني محض ففيه نظر, لذا ؛ فأقول لأتباع الشيخ إسماعيل و لذريته و للرسالة ذاتِها, أن الشيخ تتلمذ على الختم محمد عثمان كما ذُكر في العهود, فمنحه علوما تتعلق بالسلوك و التأمل و الأوراد, و لما كان الشيخ إسماعيل طويل عهد بالذكر و الإنقطاع للعبادة , فقد اكتسب من أوراد شيخه ما أفاده في وقت ليس بالطويل , و هو ثلاث سنوات, قبل أن يدخل الخلوة التي أشار إليها في كتابه المشتهر بالمشارق, حاصل الأمر, أن الشيخ إسماعيل قدم نفسه كمتصوف و عالم إرشاد, لا عالم فقه و لغة, و إن كان التمكن من الفقه و اللغة و القرءان أمراً جعله الشيخ أساسا للسير في درب الحقيقة, إلا أنه آثر نسب نفسه لمحد عثمان الختم حين أراد إشهار أمر طريقته , و أعرض عن ذكر معلميه في الخلوة, لأن السالك لن يستفيد من ذكرهم قطميرا, و نسب الفضل لشيخه الختم , تأدباً و توقيراً. و أقول في شأن التمشيخ بلا شيخ أمراً , و هو انه لم يتواتر إلينا وصول رجل من الساليكن لمرتبة الإرشاد من غير واسطة معلم, بدءا من السري الرفاء و الجنيد , مرورا بعبد القادر الجيلاني , و الغزالي و أحمد بن إدريس بل و الختم نفسه , و إنتهاءا بالشيخ إسماعيل ذاته , لكن الذي يجعل المريد يظن أن شيخه قادر على تكسب العلوم اللدنية من غيرما واسطةِ أستاذٍ مُتبَعٍ هو محبة المريد لشيخه بجهلٍ , و إكتفاء المريد بأداء الأوراد دون تكسب العلوم الشرعية الضرورية, لذا , كثرما كان الشيخ إسماعيل يصْدرُ رسائله التي كان المأرب منها ترقية سلوك المريد, و إكسابه علما شرعيا ضروريا يُيسرُ عليه السلوك و الترقي , و التفكر في شأن العقيدة و الأخلاق. و هذا هو الذي يجعل من لغة الشيخ إسماعيل متفاوته في درجات اليسر و العسر للفهم , حسبما تقضيه كل رسالة , و حسبما خاطبت من فئام الطلاب و العلماء.
    و أجرح هنا في مُستقَى نعوم شقير من المعلومات التي نشرها في سفره المهم , و التي هي من مصادر الرسالة المعنية, تاريخ و جغرافية السوادن, فنعوم لم يجعل الإسماعيلية جلَّ همِّه , بل تمركز رأيه في الإحاطة بخبر الدولة المهدية و السياسة , و لن تراه في أي موضع تحدث عن أسرة الإسماعيلية بتوثق كما تحدث عن الخليفة عبد الله و المهدي مثلا, فالشيخ إسماعيل لم يكن موضوع شقير بقدرما كان رؤساء الدولة آنذاك .
    ثم أعرج لرأي الرسالة في هذا الفصل في أن الشيخ إسماعيل كان مقيدا بنفوذ الختم مرتَهناً به. أقول فيه: كيف يتحرر الشيخ إسماعيل من نفوذ الختم, كما ذكر في أسفل الصفحة الثالثة و الخمسين من طبعة الذاكرين, و قد سُجِن كما ذكر بسبب تأجيله لإشهار منهجه الخاص به ؟ أي أنه سجن لأنه لا يريد الانفكاك من حمى شيخه الجليل . و أقول في سبب سجن الشيخ إسماعيل في عام 1822 على التقريب : أن الشيخ إسماعيل لم يكن يدخر وسعا في تخطيئ عمال الأتراك في فظاظة جمعهم للمكوس من أهل كردفان, و أن الشيخ على هذا, صار قبلة للسالكين من أهل الأبيض و حواضر كردفان , و كثر جمعه و زاد مؤيدوه, سيما من أهل قبيلته , فكان هذا مؤرقا لعمال العثمانيين , فراودوه عن أمره فلم ينزجر, فسجنوه ترهيبا , و قد كان مؤلفه انتظام الرئاسة زاجرا لكل من أراد مُهادنة عمال الأتراك , و لعمال الأتراك أنفسهم. و حاصل الأمر أن تلاميذ الختم هم من روجوا لهذا الرأي, إذ أن الشيخ إسماعيل كان من المحظيين عند الختم إتفاقا عند رواية الإسماعيلية , بل كان الشيخ إسماعيل هو السبب في زواجه من رقية بنت جلاب أم السيد محمد الحسن نجل الختم الأكبر , فكيف يكون الأمر عكرا بين الختم و الشيخ إسماعيل وفق ما ذكرت الرسالة؟
    و أتفق مع رأي الرسالة الوارد في الصفحة الستين في أن الشيخ إسماعيل بدأ يغاير من أسلوب كتابته , لكني أنحى منحى مختلفا في تفسير تغاير الأسلوب , و هو أن العلماء المتصوفة في كتاباتهم لهم أضرب من الأساليب خبروها من تتبع أثر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حينما كان في بادئ أمره. خذ مثلا رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مقوقس مصر و أقيال اليمن و حضرموت و همدان و طهفة النِّهدِي , فقد كتب الرسول صلى الله عليه و سلم لكل منهم حسب تمكن مُخاطَبِهِ من لغة العرب , و حسبما رأى الرسول صلى الله عليه و سلم من مصلحة في تألف قلوب من كتب إليهم , و إليك ما جاء في رسالة الرسول صلى الله و سلم للمقوقس و قد كان عاملا للرومان على مصر قبل فتحها :
    (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الإسلام إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعوة الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾).
    و هو كلام سهل , أو فطِر كما وصفت الرسالة سهولة أسلوب الشيخ إسماعيل, حاشا لسان الرسول الكريم , بل هو كلام سهل ممتنع , يظن قارئ هذا الزمان أنه قادر على أن يكتب مثله.
    خذ مثلا آخر , و هو كتاب الرسول صلى الله عليه و سلم لصاحب دومة الجندل أكيدر, و أكيدر هذا أخو فصاحة و بلاغة :
    (‏ بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيْدِر حين أجاب إلي الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنانها أن له الضاحية من الضّحلِ والبُور والمَعامي
    وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحِصنِ ولكم الضّامنةُ من النّخلِ والمَعين من المعمور وبعد الخمس لا تُعدلُ سارحتُكم ولاتُعدُ فاردَتِكُم ولايحظر النباتُ ولايؤخذُ منكم إلا عُشر النبات تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها عليكم بذاك العهد والميثاق ولكن بذلك الصدق والوفاء شهد الله ومن حضر من المسلمين‏.‏)

    و رسالة أخرى أرسلها الرسول الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة و أتم التسليم , و هي لطهفة النَّهدِي :
    ( اللهم بارك لهم في مَحْضِها و مَخْضِها و مَذْقِها و ابعث راعيهم في الدَّثَر و افجُر له الثَّمَد و بارك لهم في المال و الولد , من أقام الصلاة كان مسلما , و من آتى الزكاة كان محسنا, و من شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا, لكم يا بني نَهْدٍ ودائعُ الشِّركِ و وضائعُ المِلْكِ , لا تُلْطِطْ في الزّكاةِ و لا تُلحِد في الحياةِ , و لا تتثاقلْ عن الصلاة )

    و كتب لهم : ( في الوظيفة الفريضة و لكم الفارضُ و الفريشُ و ذو العنان الرَّكُوبُ و الفَلُوّ الضَبيس , لا يٌمنعُ سَرْحُكُم و لا يُعضدُ طلحُكُم و لا يُحبسُ دَرَّكُم ما لم تُضْمِروا الرِّماقَ و تأكلوا الرِّباقَ , من أقرّ فله الوفاء بالعهد و الذمة و من أبى فعليه الرَّبوة).


    فتدبر أخي في تباين الأساليب وفق الغرض و ملكة الرسول صلى الله عليه و سلم بغرائب اللغة , و هو أفصح العرب كما حدث عن نفسه, وفي كتاب الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض من معجز الكلام للرسول خير الأنام ما تقف أمامه البلغاء كُسحاءَ.

    أقفلُ منثنياً إلى قولي: أن رسائل الشيخ إسماعيل كانت تتغاير وفق الغرض , فتارة تكون اللغة جزلة قوية حين يخاطب ضديدا من أهل العلم منافسا, و لكثرما قوبل الشيخ بالمنافسة من أترابه تلاميذ الختم و غيرهم من أهل الدعاوى و الإفتراءات مدعيي التصوف , أو سهلة ممتنعة حين يرقي سالكا محبا مريداً متبعاً, فلكل مقام مقال , و قد أُمِر الأنبياءُ أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم , و هذه سنة. و قد وصفت الرسالة كتابات الشيخ بأنها متزايدة في الموضوعية بعد ان تمرس الشيخ إسماعيل في شأن الطريق , و أقول في هذا , أن الشيخ إسماعيل بدأ الكتابة في عام 1812 و قد بلغ العشرين , فنظم رسائلا هي في الرصانة و الجزالة ما لا تنكره البلغاء , و إلى أن بلغ الشيخ الثانية و الخمسين في عام 1845 , كان نتاجه الأدبي متسقا , ترى فيه منطق طلاب التوحيد و علم الكلام و المنطق , سيما في كتابه المشتهر بالمشارق , و ترى فيه نفَسا يشابه نفسَ إبن العربي في كتابه الفتوحات المكية , كما أن شطحاته التي نظمها على غرار شطحات الجيلي , نظمها و هو في الثانية و الثلاثين , و قد أشار الشيخ إسماعيل لذلك بتفاوت الأذواق في التعبير عن الأحوال , فالناقد الأدبي لمجمل رسائل الشيخ إسماعيل يجدها متسقة , و إن تفاوتت في الجزالة و القوة و عرض المفردات وفق الغرض , و ذلكم عين البلاغة و الفصاحة , و الناقد التاريخي لأسلوب الشيخ يجده متوافقا مع المستفاد من الحدث و مع المستهدف من الناس , طلاباً كانوا أم سلاطيناً أم علماء أقراناً.

    و أربط أسلوب الشيخ في الكتابة بمفردةِ كتابٍ اشتهر في السودان قبل سبعمائة عام , لا يصير المرءُ عالما مرجعيا مُجازا الإ إذا قرأهُ , و هو مختصر العلامة خليل بن إسحق المالكي , و هو كتاب أُلِفَ في الفقه المالكي على رأي المالكيين المصريين, نظمه الشيخ خليل بن إسحق الجندي بأسلوب مضغوط , الغرض منه إلزام قارئه بالرجوع للمعلم بغية فك طلاسمه , درَسه أولاد جابر أولَ وصولهم بلاد السودان , و تلقاه جل الراغبين في العلم الشرعي آنذاك , كالحاج بشارة الغرباوي بن علي أبرسي ذاته , و عووضه القارح من قبله , و عبد الله العركي و سوار الذهب الأول و الأخيران هما أسباط الشيخ حمد أبو دنانه , و الكل ذو صلةِ دمً بقبيلة البديرية , أقول : كان ذلك ديدن الشيخ إسماعيل دواما في كل أسلوب كتاباته , و وازعه في ذلك , بعد التأثر بالأسلوب العلمي المتلقى , هو حفظ الإرث الأدبي الإسماعيلي من تدخل و تحريف و تصحيف ما أسماهم بأهل الدعاوى و الإفتراءات مدعيي التصوف , و إليك أسطرا من المختصر تتلوها أسطر أخرى من إحدى رسائل الشيخ إسماعيل :

    ( و هل يضْمنُ شاكيِهِ لمُغرِّمٍ زائداً على قدرِ الرسول إن ظلم و أو الجميعَ, أو لا ؟ أقوالٌ, و مَلَكَهُ إن اشتراه, و لو غاب أو غَرِمَ قيمته إن لم ُيموِّه و رجع عليه بفضله أخافاها , و القولُ له في تَلفهِ و نعْته و قَدْرِه , و حَلَفَ : كمشترٍ منه , ثم غَرِمَ لآخرٍ رؤيةٍ , و لربَّهِ : أمضاهُ بيعهُ , و نقْضُ عتقِ المشتري , و إجازتهُ و ضَمِنَ مشترً لم يعلمْ في عمدٍ ؛ لا سماويٍ , و غَلّةٍ , و هل الخطأُ كالعمدِ ؟ تأويلانِ ,و وارثُهُ و موْهوبُه إن عَلِمَا : كهُو ؛ و إلا بُدِئَ بالغاصِبِ ..)

    و شرحُ ما ذكرتُ في متون شرّاحِ خليل.

    و إليكم ذات الأسلوب في رسائل الشيخ إسماعيل, خذ مثلا رسالة الكمال في أذواق الرجال:

    (.. وأن المرادَ من الشهودِ الحضورُ مع الله , وشهودُ الأمريْن يُظِهرُ لكَ سرُّ الأشياءِ التي قامت به على حسبِ قوةِ شهودِه وضعفهِ لأنّها لا تتضحُ إلا بعلمٍ من عِلمِهِ , وكثرَتِهِ على حسْبِ معرِفتِكَ بهِ ومعرفتِك لها من غيرِ التفات , بلْ إنتَـفَـشت في البصيرةِ ولزِمَت , ثمَّ نهايةُ الولايةِ دون مبدأِ النبوةِ لأن مبدأها لغيرهِ صلى الله عليه وسلم وسطَ الحجابِ المُحمدّي لأنه مرآةٌ الكلِّ وأمّا هُو فلا حجابَ له أصلاً , ونهايةُ الأولياءِ أدْناهُ , أمّا وجهُ تلقيهِ فلا يعرفُ لأحدٍ ولو نبيّنا وملكاً , فلذلكَ صحّ القولُ إنه على علمِ الأوليّن والآخرِين , أيْ ممَا سِوى ذاتِه الأنبياءُ, وذكرُ الكلَ اللهَ هو الكيفيةُ مَخلفُهُ , ثم الكاملُ لا يَرَى الأكوانَ إلا سحابةً كنظرِ الكعبةِ للصلاةِ وكشفاً مَثلاً ويستغفرُ عنْ ذلكَ ..)

    و شرح ما ذكر الأستاذُ الشيخ إسماعيلُ عندنا.

    فتدبر أخي القارئ تطابقَ الأسلوبين , و الذي يُجلِي لنا تأثر الشيخ بمنهاج النظم الأدبي الموروث عن الأشياخ المتلقى عنهم عن وسع إطلاعه وحسن علاقته بأمهات الكتب و تمكنه من نواصي الأسفار و الطروس, و ذلكم ما ورثه عنه جل أبنائه من العلماء في أساليبهم , كالمكيِ و الأزهريِ و البكريِ و الباقرِ و إسحقَ و غيرهم ممن برز أمرهم من نسل ذرية بشارة الدفاريين. ثم تدبر قول الرسالة المعنية في رأيها بفطارة أسلوب الشيخ إسماعيل و ضعفه.


    و أتفق مع الرسالة في أن خلفية أسرة الشيخ التعليمية لها كبير أثر في صوغ شخصيته بل و صوغ طريقته ذاتها , فالتعليم هو دأب الدفاريين و ما زال , و أما مسألة محدودية التعليم الذي تلقاه الشيخ فقد تجاوزها بالإطلاع بعد الإجازة التي نالها عقب تخرجه الخلوة , و بالمدارسة مع الختم فترة مكوثه كردفانَ , و هذا أمر يشترك فيه كل أهل العلم , الدنيوي و الشرعي و الحقيقي, فالعلم يزيد بالمطالعة و يتقوى بالمدارسة و المناظرة و المحاورة.


    و اختم هذا الفصل بقولي في تسلط فكرة التأريخ للأحداث التي نعت بها كاتب الرسالة حرص الشيخ إسماعيل لتوريخ مؤلفاته, فالشيخ أرخ لرسائله إستنانا بنهج من سبقوه من علماء التوثيق , فالطبريُ مثلا , و هو إمام المؤرخين من غير مراء, كان يتحرى تأريخ الأحداث من غيرما مصدر, بل و كان يصدِّرُ مؤلفاته بكتابة تواريخها من باب التحقيق , لا من باب تسلط الأفكار .























    الفصل الثالث
    الطريقة الإسماعيلية و المهدية



    يليني في هذا الفصل توضيح ما أشكل على الرسالة المعنية , في الفصل بين اتجاهات الأفراد المنتسبين لأسرة الشيخ إسماعيل , و بين اتجاهات السجادة الإسماعيلية ذاتِها, و الذي هو ما يعنينا حال التأريخ للطريقة الإسماعيلية, إذ أن منهاج الطريقة في التعاطي مع الساسة يمثله رأي الخليفة الذي هو قائد الطريقة لا رأي و ميل منتسبيها. كما أجدني أقف وقفة قصيرة مع مقارنة الرسالة بين ما أسْمَتْــهُ بذلَ الشيخ إسماعيل لمجهود و فكر مستحدث ليضارع به مجاهيد الشيخين الطيب أحمد البشير و المجذوب الصغير لجلب أفكار نهضوية من خارج السودان آنذاك لإثراءٍ حادثٍ في فكر التصوف.

    وأعيدُ هنا دواعي ما كتبه السيد أحمد رسالته خلاصة الإقتباس, مصدِّراً إياها باقتباس مقولةٍ نسبت إلى عالم مجهول و هي أن علم النسب هو علمٌ لا ينفعُ و جهالةٌ لا تضُر , و قد نسبت هذه المقولة إلى الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم في زمرة الأحاديث الموضوعة, فلقد انثنى الأزهري موضحاً ضرورة معرفة النسب بما تستقيم به صلة الأرحام , فداعي هذا أنه أمر يحض عليه الدين الحنيف , و ختم سرده بالنهي عن التفاخر بالأنساب و الأحساب كما أمر الإسلام بذلك , و هو في ذلك ينتهج نهج وسطيا ؛ بين ما تحتمه ضرورة الترجمة لوالده تمشيخا و نسبا , و هذا أمر أصطلح عليه العلماء في كل زمان , و بين ما يحض عليه الدين من زجر للتمايز بالعرق دون التقوى , و بين ما رآه الشيخ إسماعيل من تقديم ولده السيد أحمد كعالم محقق في التقصي بما اكتسبه من تعلم الحديث بالأزهر , و قد برع في ذلك السيد أحمد الأزهري براعة لا نظير له فيها , فلن تجد مثل السيد أحمد محدثا في بلاد السودان و ماهرا بالرواية المسنودة مذ دخل الإسلام السودان و إلى أن بدرَ التعليم النظامي في كليات الحديث.
    و يجدر بي في هذا الفصل أن أمايز بين أمرين هامين لم تمايز بينهما الرسالة المعنية بجلاء , هما ؛ نمط تعاطي أعلام الأسرة الإسماعيلية و المهدية من جهة, سواءً من الأسرة أو من الأصهار و الخفاء, و نهج تفاعل رأس الطريقة الإسماعيلية و المهدية من جهة أخرى, ففي الأمر الأول , يمثل الأعلام ذوو الصلة بالشيخ إسماعيل أو بالسيد المكي أنفسهم , كالسيد أحمد الأزهري و مناصبته العداء للمهدية و كالسيد محمد الباقر وقبوله العمل كقاضيٍ بالسبيل في الجزيرة في عهد الخليفة التعايشي وكإسماعيل الكردفاني و انتصابه مؤرخا للجانب المشرق من الدولة, و كالخليفة مساعد الأنصاري صهر الشيخ إسماعيل وقتاله عمال العثمانيين صدرَ الثورة المهدية ,يمثل هذا ما أرتأوه من تقويم و إصلاح , و مسايسة و مهادنة للمهدية أو التعايشية , و في الأمر الثاني يمثل السيد المكي رأس السجادة و فلسفتها و نهجها في التعامل مع السلطان , و ما ارتئآه من المصلحة في مناصرة الثورة المهدية في بادئ أمرها لما رآه من كبد الناس من عمال العثمانيين , و ثم ما رآه من مسايسة الدولة بعد موت المهدي و تولي الخليفة سدة الحكم , ومن ثَمّ ما رآه من مداراة الخليفة حال تكبد كل علماء السودان المشاق في التعامل معه. و في سفر العلامه عبد الله علي إبراهيم " الصراع بين المهدي و العلماء " ما يغنينا عن الخوض في شرح و تفسير عن الشد و الجذب بين الطرفين , و أعني بهما : الخليفة و المهدي في طرف , و العلماء في طرف آخر.

    خلاصة التمايز بين الأمر الثاني و الأول, أن الجميع استنوا سننا ماضية في التعامل مع السلطان , ذكرمرجعياتها الشيخ إسماعيل في كتابه (السهم الخراق لمن إعترض أحوال أولياء الملك الخلاق), فذكر في هذا الكتاب , أضربا من العلماء الأعلام في صدر دولة الإسلام و في عهد التابعين , كانت لها مواقف مختلفة في البعد أو القرب من الحاكم أو التنعم بمطايب الدنيا كما الزهد فيها, فالإمام مالك مثلا , لم يدخر وسعا في أن يحض المنصور على طلب العلم و أن يقبل عطاياه , و أن يستجيب له في نظم الموطأ , و لم يردع هذا المنصور في أن يجلد مالكا رحمه الله لفتوى أفتاها , و لعل هذا المثال هو أقرب ما يشبه شأن السيد المكي مع الخليفة و المهدي من قبل , و عبد القادر الجيلي العراقي مثلا, كان لا يمتنع عن التنعم بنعم الدنيا و مداخلة السلاطين. فالسيد المكي كان مقربا للمهدي و الخليفة , مناصحا لهما , و على حذر دائم منهما , تدل على ذلك أشعار المادح بكري أحمد فقيري الشهير ببكري المادح و هو من قرية دبة الفقراء جنوب دنقلا و غرب منصوركتي (ديوان بكري المادح), و لعلي أتحفظ أن استشهد بكتب شقير و سلاطين و بابكر بدري و أبو سليم و ميخائيل في هذا الأمر , و تحفظي هذا منبعه الجدل الذي ولجته مع كثيرمن الأقران في إثيات أن كلا المهدي و الخليفة لم يكونا صلحاء مع جل العلماء في زمانهما , سيما أقراني من أنصار المهدي و الخليفة, و الذين مصادرهم في تواتر التأريخ تختلف جلا و كلا عما تواتر إلي و إلى غيري من العلاقة العكرة بالأطراف المعنية , و أعني المهدي و الخليفة من جهه , و العلماء و المشايخ من جههة أخرى.
    فالخليفة لم يتواتر عنه أنه صالح عالما أو هادن شيخا , و المهدي تواتر عنه أنه حاول أن يستنصر بالعلماء في بادئ أمره , كمحمد شريف نور الدائم و القرشي ود الزين و السيد المكي , فالأولان رداه حين لم يجدا سندا دينيا للمهدية في دعواه , و هذا نهج الأزهري من بعد , في حين أن السيد المكي قبِلهُ كمصلح سياسي لا ديني , و أرجأ القبول بالمهدوية إلى حين. و لم يزد السيد الباقر على أن تعاطى مع الخليفة كسلطان ألزمه القضاء الشرعي بمصرٍ من أمصار الدولة, و هو ناحية الجزيرة.

    أما الدور الإصلاحي الذي مارسه السيد أحمد الأزهري مع المهدي , فإنه يشبه كثيرا دور سعيد بن جبير مع الحجاج , و الذي انتهى بمقتل سعيد رحمه الله, كما انتهى بمقتل السيد أحمد تقبله الله , و يتماثل مع وقفة الشيخ إسماعيل ضد فظاظة عمال الأتراك بكردفان قبل أربعين عاما من إستشهاد السيد أحمد, و الدور الذي تعاطاه السيد المكي مع المهدي الخليفه , نحاه من قبله الإمام مالك و الجيلي و الشبلي في التعامل مع السلاطين , سيما من اشتهروا بالجور و تقريب الحاشية و ضهد الرعية, مناصحين مرة و مبتعدين تارات. و لكلٍ في ذلكم سلف .

    و أجزم قاطعا أن الرسالة المعنية لم تطلع على ديوان السيد المكي في مدح الرسول الكريم عليه الصلاة و التسليم , للسيد أحمد و إخوته , بل لم تطلع على مدح السيد أحمد و السيد الباقر للسيد المكي , و إن كان مدح السيد احمد أخيه في قصيدته أدر ذكر إسماعيل بين المحافل , أكبر دليل علي طيب العلاقة بين الأزهري و المكي , حتى بعد انبعاث المهدي نفسه بالمهدوية , فحاصل المسألة أن هناك من اجتهد بتصور وجود عكرة بين الرجلين , سببها أولاً هو مهادنة السيد المكي للمهدي أول أمره , وثانياً تصريح السيد أحمد ببطلان المهدية بعد أن زار المهدي فريق القبة قبل أن يعلن المهدي أمره في جبل قدير بناحية الصعيد , كما أورد السيد أحمد ذلك في رسالته النصيحة العامة لأهل الإسلام في الزجر عن مخالفة أمر الحكام. أشير هنا إلى أن تلكم الفترة كانت مملوءة بالوشايات و سوء النقل و غواية الرواية, سيما من القبائل المناصرة للخليفة عن واقع الناس و نوايا العلماء .
    و لي في هذا الصدد وقفة قصيرة , ذات صلة بمنهج الرسالة المعنية في النظر إلى مجريات الأمور , فالرسالة نظرت من زاوية إيجاد الإختلاف و الخلاف بين الأعلام الإسماعيليين , لا من زاوية تفسير الرؤى و المواقف. وعلم التأريخ يتبنى المنهجين , بل يتبنى مناهج أُخر. و إستخدام المنهجين تحدده نوايا المؤرخ و ما تواتر إليه من أخبار , كما تحدده أهواء من نقلوا هذه الأخبار إليه , و إن صحت. و هذا أمر , وقع فيه كثيرممكن كتبوا في التأريخ الجدلي , أي تأريخ الأفراد و الجماعات و الدول التي لها مادح و ذام, كتأريخ الدولة العباسية و العثمانية , و المهدية و التعايشية. و أشير إلى أن منهج إبن جرير الطبري في كتابة التاريخ هو منهج حري بالإتباع , من حيث دقة التقصي و حيادية النقل, من غير تتبع لهوى ناقل أو منقول منه, بل هو منهج يجعل المتلقي يحكم بنفسه, من غير سوق فكرة محددة إليه.

    و أطرحُ هنا أسئلة عديدة , تعليقا على ما أوردته الرسالة في أن الشيخ لم يبذل مجهودا في إحداث فكر نهضوي كنظيريه الشيخ الطيب و المجذوب : أقول : أيُ فكر نهضوي أكبر من إدخال وثنيي جبال النوبة و جنوب كردفان الإسلام, و جعل الإسلام ديانة رئيسة في صقعٍ أثخنته سيوف المبشرين النمساويين بالتنصير مذ القرن الثامن عشر ؟, و أي فكر نهضوي أكبر من تأليف سبعة و تسعين مؤلفا في علوم الشريعة و الحقيقة , و أي فكر نهضوي أكبر من إثراء الأدب العربي بعدد من القصائد تحوي أمهات الألفاظ و فرائد المعاني ؟ و أي فكر نهضوي يباري مجاهدة الأتراك وقت أن تماشى نظراء الشيخ إسماعيل مع واقع السودان البائس آنئذ؟ تدبر أن ذلك كله حصل من رجل لم يضرب أكباد الإبل لطلب العلم خارج محيط فريق الدناقلة بحاضرة الأبيض , و قت أن كان الناس يجلبون الطرق الصوفية من أشياخهم من خارج السودان.

    لا يفوتني إلى أن أشير إلى أخطاء التحشية في نسخة كتاب الذاكرين في هذا الفصل في الصفحات الواحدة و الثمانين الثانية و الثمانين و الرابعة و الثمانين و الخامسة و الثمانية , إذ أن المصادر المذكورة في الحاشية غير ذات صلة بمتن الموضوع.

    و أرجئ قولي في ختام هذا الفصل إلى الفصل الذي يليه فيما رأته الرسالة من التمايز الذي اعترى الأسرة الإسماعيلية عقب وفاة السيد المكي , سواء كان هذا التمايز في الرؤى السياسية أو في طريقة إدارة السجادة.



















    الفصل الرابع و الخامس
    الإسماعيلية بعد إعادة فتح السودان
    و تنظيم الإسماعيلية و ممارساتهم

    في هذا الفصل , أفسر ما أشكل على مستفادات الرسالة المعنية و المبنية على كم من المعلومات الخديجة , في رأيها في الشُقة التي حدثت في الطريقة الإسماعيلية بشأن التعاطي مع واقع الحكومة الأنجلومصرية , في عهد السيد محمد عثمان الميرغني بن السيد إسماعيل , كما أتناول مسألة قبول الطريقة الإسماعيلية لزكوات الحكومة وقتها. و أختم ذلك بتفنيد رأي الرسالة في رأيها بعدم أصلية الطريقة الإسماعيلية و ضعف إضافتها للحراك الصوفي في السودان.
    بعد معركة أم دبيكرات و استشهاد الخليفة , مارس الإنجليز ضغطا بتوجيه من رودلف سلاطين على مشايخ الدين بتقليص دورهم الإجتماعي في أم درمان. كان من نتاج ذلك أن أجبر الإنجليز السيد المكي أن يخرج من أم درمان قافلا إلى الأبيض, ترتب على ذلك رجوع كثير من أنصاره , سيما ذريته إلى الأبيض عاصمة كردفان , و مكوث بعضا من أقربائه كالأزاهره و السيد محمد الباقر بأم درمان , لإرتباطهم بها بالمعايش و الرحم , كان ذلك في العام 1900 و ليس 1902 كما ذكرت الرسالة.
    أفسر قبول الإنجليز للسيد المكي إبان عودته كردفانَ على نحو مغاير مما ذكرته الرسالة . فليست علاقات السيد المكي مع الميرغنية هي التي كفلت له حظوة عند الإنجليز أو صلة الدم التي تربطه بود البدوي ( ود البدوي هو إبن خالة السيد أحمد الأزهري , فالشيخ إسماعيل زوج خالته و التي هي من قنتي أصولا) , بل الذي حظى السيد المكي عند الإنجليز هو وسطيته في التعامل مع المهدي و من بعده الخليفه حسبما أفادت به تقارير المخابرات البريطانية و تقارير سلاطين وقتذاك . فالإنجليز كانوا قد تمكنوا من معرفة نهج بعض العلماء مع الخليفة مذ بدء حصار الخرطوم و حتى معركة أم دبيكرات, مما حدا بهم أن يصنفوا العلماء صنفين, علماء وطنيون تتمحض رسالتهم في خدمة الدين و الرعية بعيدا عن التزلف للسلاطين, و منهم السيد المكي و أسرته و ود البدوي , و علماء منحدورن من بيوتات دين شهيرة أو من أسر حاكمة سابقة لهم رؤى سياسية و رغبة في التعاطي مع الحكومة الجديدة , و يعنيني في رسالتي هذه الضرب الأول من العلماء .
    رغم هذا, لم تردع وسطية السيد المكي الإنجليز من إبعاده للأبيض, و هذا الأمر , وافق هوى السيد المكي تماما و ما رآه من مصلحة الطريق , بل أيضا , ما رآه من مصلحة تكسب المعايش لأسرته الممتده, فكردفان آنذاك كانت أوفر رزقا من أم درمان سيما في الزراعة و تجارة المحاصيل, فرجع للأبيض , و أعاد مجالس العلم و الدرس يومي الإثنين و الخميس , و بنى قبة الشيخ إسماعيل , و أحيا خلوة القرءان, لا من باب جلب الزخم الإجتماعي كما ذكرت الرسالة المعنية , بل من باب التأريخ لشيخه و والده و السير على دربه في الإرشاد و التسليك , و حاصل ذلك , أن جعله من مشاهير العلماء وقتذاك في كردفان , مما أدخله بساط مجلس العلماء الذي فيه ود البدوي و آخرين , نتيجة ذلك أن صار السيد المكي من مشاهير كردفان بل السودان .
    وقد ترتب على تلك الأمور مشتقات عده , أهمها في تأريخ الطريقة و تأريخ الأسرة الإسماعيلية ما يلي.
    مكث الأزاهرة و أسرة السيد الباقر بأم درمان , إذ كان جلهم يعمل في مجال القضاء الشرعي مذ عهد الخليفة عبد الله, الشيئ الذي أمكنهم من التعاطي مع ما تقدمه المدينة من تعليم و ترقي في السلك الإداري الذي فرضته الحكومة الأنجلومصرية آنذاك , و أشهرهم ممن تقلد مناصب في القضاء الشرعي من الأسرتين السيد إسماعيل المفتي نجل الأزهري و السيد محمد السابق و أخوه السيد الميرغني نجلا السيد محمد الباقر. كما على خافق آخر, ثوى أهل السيد المكي في الأبيض بعد وفاته لتسيير مصالح السجادة و رعاية مصالح الأسرة التي أصلا هي من مواريث عبد الله والد الشيخ إسماعيل. و نظرا لأن مشاريع التنمية في مجالي التعليم و التوظيف في كردفان لم تكن ترقى إلى نظيراتها في الخرطوم و أم درمان فقد توارث أبناء السيد المكي نظام التعليم التقليدي و الذي يعتمد في أساسه على تعليم الخلوة و شيئ من الكتاتيب, و لا أجد فيما تواتر إلي أن أبناء السيد المكي كان ينظرون نظرة المبتدع لكل من شرع في التعليم النظامي الإنجليزي, و الذي هو كان مقصود به محاربة الخلوة و التعليم القرءاني أكثر مما كان مقصود به تمليك السودانيين أسلوب الحياة الحديث. و أذكر ما يعضد قولي رواية تواترت بسند متين عن إبن السيد إبراهيم بن السيد المكي قدر فوار الذي كان قد مُنع من السفر لدراسة الصيدلة بإحدى الدول الأروبية ,مما يدل على رغبة كثير من ذراري السيد المكي آنذاك في التعليم النظامي مع التمسك بأصل التعاليم الإسماعيلية.

    و لي قول في دور الإسماعيلية المنافس للأنصار و الختمية إبان تمكن الحكومة الأنجلو مصرية من مقاليد الحكم في السودان. فقد وصفت الرسالة أن الإسماعيلية قد تقاعست بشكل ما عن دورها السياسي في مجتلد الحراك الوطني آنذاك. أقول في هذا , ان الطريقة الإسماعيلية لم تكن طريقة سياسية يوما ما, بل كانت مذ تأسيسها عهدَ الشيخ إسماعيل طريقة صوفية تهدف إلى ترقية سلوك الفرد و المجتمع , دونما الخوض في وحل السياسة الذي يشغل عن الرسالة الحقيقة للعلماء و المشايخ, و يجلب اجتراء الفساق و الدهماء و السفلة على العلماء أهل السلوك , بل كانت دوما تستأثر بالبعد عن بلاط السلاطين كيفما كان ذلك ميسرا,و أعني بذلك دور السيد المكي في عهد المهدي و الخليفة و أوائل عهد الإنجليز الذي هو آخر أعوام السيد المكي. و مستفاد ذلك أن تعمّدَ السيدُ المكيُ النأيَ بالطريق و بنفسه و بالخلفاء من بعده من السياسة و السياسيين , و إن إحتفظ بعلاقة الود و الإحترام مع الجميع.
    و بهذا , أشير إلى ما ذكرته آنفا من الضرب الثاني من العلماء و الأعيان الذين استهدفهم الإنجليز بالتنشئة و الرعاية لتوريث ذات النظام في ويست منستر, بلاط الإمبراطورية البريطانية و عراب سُيّاسِها و وحي منظريها, فقد سعى هؤلاء الأعلام إلى حشد العامة و الخاصة لتكوين طرق سياسية موازية للقواعد الدينية التي شرعها سلفاً أباؤهم, و أعني بذلك الختمية و الأنصار, و لعل مقولة السيد ميرغني الشهيرة في منتصف الثلاثينات و التي قال فيها لخلفائه ( السيد عبد الرحمن صديقي و الأزهري ولدي , فمن شاء إتباع أحدهما فهو حر) أكبردليل على حيادية السجادة الإسماعيلية في العمل السياسي و زهدها في الخوض في شأن الحكم و السلطنه , مع تفرغها للإرشاد و التوجيه و تربية سالكيها على النفع مهما كانت قبلة هواهم السياسي. و أجد هنا قولي الآنف في شان السيد أحمد الأزهري و إسماعيل الكردفاني مكرورا , فالإسماعيلية تمايز دوما بين الإتجاهات السياسية لأفرادها و إن كانوا من المقربين لرأس السجادة بالعصبة و الرحم و المصاهرة,و بين الإتجاه الحيادي الحذر لرأس السجادة ذاتها في التعاطي مع الدولة, و أعني بذلك السيد الميرغني الخليفة الثالث للشيخ إسماعيل, و يجلو هنا أن السيد الميرغني قد تعاطى من الحكومة الإنجليزية ذات الدور الذي تعاطاه الشيخ إسماعيل مع الأتراك قبل مئة عام. يناقض ذلك ما رأته الرسالة من نظرة الطريقة لترقي السيد إسماعيل الأزهري في العمل السياسي , وقت أن كان السيد الميرغني خليفة السجادة.

    خلاصة المقارنة : أن رئاسة الطريقة الإسماعيلية لم تنجرف عمداً لا عجزاً وفشلاً , رغبةً لا إضطراراً, كما ذكرت الرسالة, خلف العمل السياسي كما حدث لنظريتيها الختمية و الأنصار بعد المهدية بل و إلى ما بعد الإستقلال. بل واصلت في رئاسة محور دور الإرشاد و النصح للرعية , و محايدة الحكام بل و البعد و الحذر منهم , و مداخلتهم , ما لم تكن هنالك مندوحة في غير ذلكم , و تركت أمر تحور الطوائف الدينية المناظرة لأحزاب سياسية للختمية و الأنصار.
    و أرجع إلى آخر الفصل المنصرم في حديث الرسالة التي أنا بصددها عن الإنشقاق الذي كانت بوادره قد ظهرت في آخر حياة السيد المكي في شأن الخلافة لرأس السجادة.
    أقول في هذا الرأي أن الرسالة هنا خلطت مجددا بين تأريخ الطريق الإسماعيلي , و الذي هو من شأنه التوعية و ترقية السالكين, و بين أمور أسرية لا صلة لها بشأن التصوف و الدعوة و العمل الإرشادي, و أترك الخوض في هذا الحديث لوهانة المصلحة المترتبة على البوح بما خفي على كثير من المراقبين , الأحباب منهم و الخصماء , لشأن السجادة الإسماعيلية عبر مئتي عام من الوجود, بيد أني أعرَّضُ هنا برواية حدثني بها والدي عن والده السيد عباس إسماعيل أبو, تقول هذه الرواية أن السيد الميرغني خليفة السيد المكي في أم درمان و الأبيض بعد وفاة والده السيد إسماعيل , أسر بحديث للسيد عباس في منتصف الثلاثينات بضرورة الحذر من الخلفاء و الإنصياع لرؤاهم, والخلفاء هم الذين كانوا و ما زالوا يمثلون المعاضدة لرأس السجادة في إدارة شان الطريقة الصوفية, وذات الخلفاء, كان لهم دورسالب قبل أقل من مئة عام في دسائس قد حدثت بين السيد أحمد الأزهري و السيد المكي و الخليفة , بل و بين إسماعيل الكردفاني . كما إنى أذكر رواية عن المادح بكري حميد مادح دبة الفقراء عن حادثة أُستغضب فيها السيد الميرغني بدبة الفقراء نتيجة خلاف متكرر كان يحدث بين خلفائه هنالك و في أم درمان .

    و أستعير قولي أعلاه في إبانة ما أعتمَ على الرسالةِ الرؤيةَ لموقف السيد ميرغني من سفر الولاء , كما ورد في الصفحة التاسعة بعد المائة بطبعة الذاكرين , فالسيد الميرغني لم يكن يُكنُّ أي نزعة ولائية لا للإنجليز و لا للمصريين , بل كان له موقف متحفظ ناءٍ عن الخوض في الأمر بعضه و جُلِّهِ , و إن كان هناك ضغط من خلفائه عليه بتحديد هوية السجادة من المتغيرات السياسية سريعة الحركة آنذاك , مما سبب له كثيرا من الغضب غير مرة, لعجز خلفائه فهم حقيقة المراد من التصوف, و لانشغالهم عن السلوك بأمور هي ليست من صميم عمل خليفة الطريق, و إن كان السيد الميرغني قد نحا في ذلك منحى مرناً , فلم يفرق بين من اتبع السيد عبد الرحمن من خلفائه لعلاقته الشخصية بنجل المهدي , و قد كانا زميلا درس على ود البدوي في زمانٍ مضى , و بين من انتهج حزب الأزهري, إبن أخيه, في العمل السياسي, و حاصل ذلك هو أن دفع به للعودة للأبيض , لكي ينجو بالطريق الإسماعيلي من الانزلاق في وحل السياسة, و ليس لحل مشاكل نزاعات حدثت بين أبناء عمومته في شأن إدارة السجادة , بل كان حل النزاعات إحدى ثمرات قفوله للأبيض راجعا بعد مكوث زمان بمنزل جده لأمه السيد البكري بن الشيخ إسماعيل بحي السيد المكي.

    و أقول هنا في ولوج إسماعيل الأزهري في السياسة , أنّ هذا كان أمرا يتشرف به السيد الميرغني ذاته كثيرا, و لكثرما التقيا في غير مناسبة عامة , أبدى فيها الزعيم الأزهري كياسة فطرية في إبراز نفسه ممثلا لها لا للطريق , و مناضلا لنيل الاستقلال منفصلا عن استخدام نفوذ السيد الميرغني الروحي و الاجتماعي , فقد كان بإمكان السيد الميرغني أن يجبر كل أتباعه لموالاة الأزهري بالعصبية , لكنه لم يجد في ذلك روحا من الإرشاد في شيء , بل ترك الأمر لأتباعه وفق ما يرون من مصلحة دنياهم .

    فمستخلص الأمر أن الأخبار الواردة إلي بشأن علاقة الود بين السيد الميرغني و السيد عبد الرحمن و من بعده السيد الصديق تتعارض مع الأخبار الواردة المذكورة في الرسالة, فالعلاقة بين الإسماعيلية و الأنصار عهد السيدين الميرغني بن إسماعيل و السيد عبد الرحمن كانت علاقة امتداد لمدارسة على عهد و د البدوي , و علاقةَ وفاءِ من بعد وفاة السيد عبد الرحمن ممثلا في شخص السيد الصديق, و أما غضب الخلفاء و أقارب الميرغني فقد كان تفسيره أنّ ذلك , و هي دعوة الميرغني للسيد الصديق, قد ينعكس بإصباغ اللونية الأنصارية على السجادة , و قد نسي الجميع أو تناسوا ما لقيته السجادة من توقير زمان الخليفة و من قبله المهدي , فبرُّ أهلِ مبرةِ الوالد سنةٌ واجبة في ديننا الحنيف, و في ذات الوقت , لم ينجرف السيد الميرغني خلف الضاغطين بإقحام السجادة في شأن السياسة سيما من الخلفاء الأم درمانيين, و لا خلف ما توجبه صلة التمشيخ بالولاء للسيد علي الميرغني سبط الختم شيخ الأستاذ إسماعيل, مما سبب ذلك للسيد الميرغني نزاعات اجتماعية في كافة أصقاع نفوذ الطريقة. و أجد هنا أن تباين النظرات بين ما رأته الرسالة المعنية و بين ما أراه سببه إختلاف الروايات باختلاف هوى راويها .
    و لا أجد حرجا هنا , بعيدا عن شأن السياسة , في التعليق على تلقي السجادة الإسماعيلية حصصا من الزكاة بداية الحكومة الإنجلومصرية , كما أوردت الرسالة بالصفحة الأولى بعد المائة بطبعة الذاكرين , فلم أجد ما تواتر إلي من أن رأس السجادة كانوا يتلقون حصصا من الزكاة كغيرهم من المشايخ, و لم أرى مصدرا يُرتجعُ إليه في الرسالة المعنية, بيد أني أتفق مع الرسالة فيما ذكرته في الصفحة اللاحقة من أن اقتصاديات الطريق تعتمد جلا في ذاك الوقت على الزراعة و هدايا المريدين , و اختلف مع الرسالة في أن كم هذه الهدايا لم يكن كبيرا , بل كان قلّمِا يكفي أن يسيّرَ الأمور في الخلوة و أن يكفل قرى الأضياف , بل إن دخل الإسماعيلية لم يكن كبيرا بالأصلية , بالمقارنة مع اقتصاديات طرق أخرى كالأنصار و الختمية , فكلا الطريقتان كانتا من أصحاب الأملاك الزراعية و العقارية في مناطق نفوذهما , و أعني بذلك دارفور و كردفان و الجزيرة أبا في حال الأنصار , و حلة خوجلي و الخرطوم و شمال السودان و كسلا في حال الختمية. أتفق مع الرسالة أن ترتب على ذلك ابتعاد كثير من الراغبين في الانضمام إلى السجادة بغية الوصول عبر الطرق الصوفية القوية كالإسماعيلية إلى براح العمل السياسي و الدنيوي التجاري , بل و حدا ذلك إلى قلوص كمها الاجتماعي و انحصارها على الأسرة و الخلفاء و الأصهار , و بعض المخلصين.

    و لي في إسقاط الرسالة نظرية جلسنان في كتابه Saint and Sufi in Modern Egypt رأي مغاير. فالشيخ إسماعيل لم ينفصم روحيا عن طريقته بدليل صلاته خلف السيد المكي مدى عشرين عاما تفرغ الشيخ إسماعيل فيها للتأليف و العبادة , و هو أمر من صميم ثقافة العلماء في كل زمان , و عهد بالأمور الإدارية للسيد المكي , تأهيلا له و تدريبا , و قد كان ذلك من قبل هو عين منحى الختم مع الشيخ إسماعيل وقت سفره للجزيرة قبل أكثر من ثلاثين عاما من ذاك الوقت, إذ أن الختم عهد للشيخ إسماعيل تسيير الطريقة الختمية و تنظيم المريدين , مما أكسب ذلك الشيخ إسماعيل ملكة في إدارة الدعوة و الإرشاد , و ما فتئ الشيخ إسماعيل يورث نجله السيد المكي هذه الملكات على مدى عشرين عاما قبل انتقاله للدار الآخرة. و أحسب أن نظرية جلسنان معني بها أسلوب المصريين في منهاج التصوف و التسليك و التدرج , و هو منهج مختلف في التفاصيل لا في العموميات عن منهج الطرق الصوفية في السودان, إلا ما وجد في الطرق الصوفية السودانية و التي هي في جذرها مصرية بالنشوء و النمط و الأسلوب , كالأحمدية و الشاذلية و البرهانية و الدسوقية.
    و قد ذكرت الرسالة تأثر مدرسة الشيخ إسماعيل بالمدرسة القادرية سيما في نمط وقعِ و دقات الطبول, و أقول في ذلك , أن هناك كثير من الدراسات في تأريخ التصوف في السودان لها مشارب مختلفة في التأصيل و التجذير لاستخدام الطبول في ترغيب المريدين و تحميس السالكين, لكن كل هذه الدراسات اتفقت على أن الطبول كانت هي الوسيلة الملائمة التي اتبعها الدعاة الأوائل , سيما من تلي غلام الله بن عائد و الشيخ حمد أبو دنانه , لتبسيط الدين للأميين من الوثنيين, و قد كان لهذا الأسلوب عظيم أثر في جذب الناس لإعتناق الإسلام , و لعل ذلك يدعم ما تواتر إلينا عبر رؤوس السجادة الإسماعيلية من استخدام الشيخ إسماعيل للطبول أول مرة بجبال النوبة لجذب السكان الأميين الوثنيين وقت أن خرج من الأبيض إبان ضغط العثمانيين عليه في تخوم عام 1822, و ليس كما ذكرت الرسالة بأن الإسماعيلية نقلت الطبول من الطريقة القادرية, و قت استخدام تلاميذ البهاري ذات الأسلوب لنشر الطريق القادري في الجزيرة قبل مولد الشيخ إسماعيل بأكثر من مائتي عام . فالطبول ليست فلسفة قادرية , بل هي أسلوب نحاه علماء أقدم من البهاري دخولا للسودان , كحسن ود حسونة و إدريس ود الأرباب .

    و أتطرق في خاتمة هذا الفصل إلى رأي كاتب الرسالة بأن الطريقة الإسماعيلية و الكتب التي ألفها الشيخ إسماعيل لم تكن أصيلة في أفكارها و أنها أضافت القليل جدا للفكر الصوفي في السودان. و أقول في هذا الأمر قولا موجزا ؛ و هو سؤالي : ماذا تعني كلمة أصيلة ؟ و أحسب أنها إما ترجمه لكلمة original , إذ أن المترجم الأستاذ البيلي قد قام بنقل الرسالة من اللغة الإنجليزية إلى العربية , أو لكلمة authentic , أو لكلمة genuine . و الكلمات الثلاث مترادفات عند لغة الإنجليز, و إن كن يختلفن في المعنى البلاغي للاستخدام و الاصطلاحي. فكلمة original تعني الأصل الذي لم يقلد , أو الأصل الذي لم يستنسخ , و هذا في سياق استخدام الرسالة للمفردة , و الكلمة الثانية authentic تعني جدير بالتصديق و تعني أصيل أيضا , و الكلمة الثالثة genuine تعني غير زائف , و هي تشبه الكلمة الأولى . فإن كانت الرسالة بإستخدامها للمفردات على شتين معانيها تعني أن الطريقة الإسماعيلية هي امتداد مستقل عن الطريقة الختمية و قائم بذاته له سماته الخاصة, فهذا أمر لم ينكره مؤسس الطريق و لا خلفاؤه من بعده, بل لم يدخر الشيخ إسماعيل وسعا في ذكر شيخه في كل رسائله و أوراده , بل و يعني بالأحروية أن كل الطرق الصوفية في السودان ليست أصيلة , إذ أنها كلها امتدادات لمدارس إرشادية تربوية نشأت خارج السودان و قدمت إليه , من المغرب تارة و من مصر تارة و من الجزيرة العربية تارة و من العراق تارة, بل إن الطريقة الإسماعيلية بزت هاتيك الطرق في إن نشوءها لم يحدث خارج البلاد , بل إن إجازتها حدثت داخل السودان من قبل عالم شريف حسيني, و هو محمد عثمان الختم, و هو أيضا أجازه شيخه إبن إدريس بذات النسق. و أما إن كانت المفردة تعني أن الطريقة الإسماعيلية في نهجها الإرشادي لم تأت بجديد , بل إن كل ما أتت به هو معادٌ من قولهم مكرورٌ, فذلك ديدن الدعاة إلى الدين مذ عهد الرسول الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة و التسليم, و هو تعليم الناس التوحيد و الفقه و السلوك , و العلوم الشرعية , بل الذي يتغير هو الأسلوب , بما يتطابق مع البيئة و المناخ و درجة التعلم , فتارة يكون بالطبول كما كان نهج الصوفيين الأوائل في السودان , و تارة يكون بالانعزال عن الملاهي و الناس, كما كان نهج الصوفيين في القرن الثالث الهجري , و تارة يكون بالتأليف الغزير, كما كان نهج جلال الدين الرومي في تركيا , و تارة يكون بشد الجماعات و إبراز الثراء, كما كان نهج عبد القادر الجيلاني , و على ذلك قس , فكل الدعاة لهم مناهج مختلفة في نشر أفكارهم الإرشادية , و هي كلها متناسخة , أعني الأفكار , لكن الوسائل تختلف .

    أما عن الإضافة للأدب الصوفي الإسماعيلي , فإني أدعو كاتب الرسالة إلى الإطلاع على كل الأدب المناظر للمشايخ و العلماء في عهد الشيخ إسماعيل , أي في عهد خواتيم الدولة السنارية , و أن يقارنه بأسلوب الشيخ إسماعيل الأدبي البلاغي , و أن يقيسه قياسا أدبيا لا تأريخيا , فالإضافة الأدبية تقاس بالمعيار الأدبي , و هو جزالة اللفظ و قوة التعبير و إحاطة المعنى و سدادة الأسلوب في زمان الكتابة بمقياس ذلك الزمان, لرجل لم يسافر خارج كردفان إلا حاجاً , و حتى و إن قاسه قياسا تأريخيا , فأصالة الأسلوب بيّنةٌ, كما أن الإضافة الفكرية في شأن أصل الدين أصلا غير متصورة, إذ أن الإضافة الفكرية هنا تعني الإضافة للديانة الإسلامية و هذا أمر قد أغلق بابه مذ ألف و أربعمائة عام , أو تعني تغايرا في أسلوب التقديم الصوفي, و هذا أمر تختلف دواعي ضروريته وفق واقع المستهدفين بالإرشاد , و انظر ما ذكرته أعلاه في الفصل الثالث من المضارعة بين الشيخ إسماعيل و نظرائه و ما استجده من إضافة للإرث الصوفي في السودان, و لعل الرسالة لم تطلع على مؤلفات السيد أحمد بن إدريس أستاذُ شيخِ الشيخ إسماعيل , و إن فعلت , لوجدت الأسلوب أصيلا مختلفا , و أيضا, يجلو أن الكاتب لم يُحِطْ بمؤلفات الختم محمد عثمان , إذا أنها تختلف كما و نوعا عن مؤلفات السيد أحمد بن إدريس, و الناظر لمؤلفات الشيخ إسماعيل بعد أن يطلع على مؤلفات أشياخه لرأى تباينا في ذوق الثلاثة أجمعين , و إن كان المعنى المراد توصيله واحداً , لذا , فإن نعت الطريقة الإسماعيلية و أدبياتها بعدم الأصالة نعت يحتاج إلى نظر , و إلى تحديد أكثر في أي أمر من الأمور انعدمت الأصلية, على ضوء ما بيناه آنفاً.

    و أرى في هذا الفصل و الفصل الذي يليه أن مجمل التحاليل التي ساقتها الرسالة لفهم واقع الطريقة الإسماعيلية , هي تحاليل بأدوات لا تشبه واقع الشرق و لا طبيعة المسألة, بل هي أدوات قد تكون أقرب مزاجا و أكثر نفعا لفهم واقع نمو الأسر النبيلة في العصور الوسطى في إنجلترا و أروبا جمعاء, إذ أن الأسر و المنظمات الإجتماعية و الدينية في أوربا لها رؤية مختلفة للنماء و البقاء و التأثر و التفاعل عن نظيراتها في إفريقية المستعربة أو حتى في جزيرة العرب. خذ الكنيسة الأوروبية مثلا في زمان الدولة السنارية , أي على مدى أربعمائة عام قبل انفراد الشيخ إسماعيل بطريقته عن الختم , تجد أن الكنيسة كانت كيانا يكابد ليبسط نفوذه على الجماهير و يمد أذرعه ليشارك بالقرار في الدولة , و هذا أمر لم تنتهجه الطرق الصوفية في السودان في ذات الفترة, بل قد كان جل مقصدها تقديم الإسلام بأسلوب يلائم تعليم الناس البسيط , و يقدم الأمان و الطعام بل و الرياضة لجعل ذلك الدين الوافد أمرا مستساغا. خذ أيضا نمو الأسر الحاكمة في أوروبا في الألف عام الأخيرة , أي قبل ما يقرب من سبعمائة عام قبل ميلاد الشيخ إسماعيل , تجدها تكابد في أن تبسط يدها و نفوذه للإستئثار بالريع الإقتصادي للأرض و بالوجاهة الإجتماعية و التي غالبا ما يتمخض عنها ثقل سياسي , و هذا الإستئثار , سواءً كان للكنيسة أو للأسر النبيلة , أدى إلى قيام الثورة الفرنسية في 1789 , بعد طفح كيل الناس بتعاضد الكنيسة و الملوك و تعمد تجهيل الناس و تجويعهم , وقد قارنتٌ هنا بين الأسر النبيلة في أوروبا و أسرة الشيخ إسماعيل , أي عيال بشارة الغرباوي , و الكنيسة و الطرق الصوفية في السودان رجاء توصيل فكرة أن الرسالة التي نحن بصددها تمرنت على النظر لتأريخ الطريقة الإسماعيلية بمنظار أوروبي , كمناظير المؤرخين النمساويين و الإنجليز الذين زاروا السودان تلك الآونة, و بمناظير منهجية مشرف الرسالة و بما تواتر إليه , لا بمنظار المراقب لتطور الطريقة الإسماعيلية و أثرها في حياة الناس آنذاك .



    خاتمة
    لعلي أرى في منهاج التحليل المُتبنّى نَفَسَ العلامة بيتر مالكوم هولت ظاهراً , إذ أن هذه الرسالة لم تكن لتنجو بالإجازة من نقد مجلس العلماء بجامعة لندن بكلية الدراسات الشرقية و الأفريقية لولا أنها كانت مُلزَمةٌ بالتطرق إلى نقاط منهجية و هي طبيعة المسألة و تعريفها, و خلفيتها التأريخية , و الأدبيات السابقة , و المعلومات المبني عليها الإستنتاجات , و الفرضيات , و التحليل , ثم الخلاصات, و التوصيات إن كان هناك توصيات تحتّمها طبيعة التناول للموضوع, و هذا المنهاج في التحليل كان يمكن أن يكون أليق إذا تطرقت الرسالة حصراً لتأريخ الطريقة الإسماعيلية من حيث نشأتها و بمن تأثرت ,و فيمن أثرت , و كيف تعاطت مع المجتمع و المستهدفين و السياسيين , ولأدبيات الطريقة الإسماعيلية, و لتشابهها و اختلافها مع مشيختها, و لتفاضلها مع نظيراتها المعاصرات و لسِماتِها, كسمانية الشيخ الطيب مثلا أو المجذوبية , كما و لنقاط ضعفها من شح في المال و بعد عن مراكز القرار (و قد يكون هذا مَحْسنَة) , و لنقاط قوتها و إلى ما غير ذلك مما يتلاءم مع عنوان الرسالة الجاذب, بيد أن الرسالة خاضت في تفاصيل أسرية غير ذات صلة بما يمكن أن يفسر عنوان الرسالة, مثل انشقاقات خلفاء السيد الميرغني بدافع هواهم السياسي , أو فقر أسرة عبد الله والد الشيخ إسماعيل, أو حج السيد المكي بغية استقطاب الجماهير أو فطارة أسلوب الشيخ إسماعيل الأدبي, و كلها نقاط فندتُّها عاليَهُ , و إلى ما غير ذلك من التحاليل التي لا تستند إلى وجاهة في النظر بل لا إلى بصيرة في تفهم المسببات, فصارت الرسالة أشبه بنقد لاذع لسيرة حياتية لشخصيات تكابد في إرتقاء سُلّمِ النجومية؛ و بوصمٍ بالرغبة في المنافسة الدنيوية لأسرة بشارة الغرباوي أكثر من أنها رسالة أكاديمية يقصد بها تتبع تأريخ نشوء و تطور الطريقة ذاتها, بل و العقبات التي اعترضت رسالتها الإرشادية, و هذا ما فُهِمَ من مَرْمى عنوان الرسالة. كما إني أرى أن الرسالة بها تقصير في الإحاطة بكثير من المجهول عن توثيق تأريخ الطريقة الإسماعيلية , إذ أنها حصرت نفسها في روايات محصورة بمدينة الأبيض , و لم تبحث عن إرث الطريقة بأم درمان, حاضرة نشأة الطريقة بعد الشيخ إسماعيل , إذ بها مكث السيد المكي خمسة عشر عاما , و مكث بها الميرغني قرابة الخمسين عاماً. و قد مالت الرسالة أيضا إلى استعمال آلة الرأي في ملئ أي فراغ حادث نتيجة غياب المعلومة الضرورية , سيما و إن الرسالة كُتبت في إنجلترا , بعيدا عن موقع التقصي و التحقيق.

    و أختم قولي في هذه الرسالة التي أسميتها إزالة الغبش و إخلاص الترميم لرأي رسالة د.محمود عبد الله إبراهيم في تأريخ الطريقة الإسماعيلية , أن واقع الطرق الصوفية في السودان كله واحد , و إنما تختلف فيه أذواق مؤسسيه و مدارسهم في نشر الدعوة لدين الله الحنيف , و فق إختلاف شخصياتهم و انتماءاتهم و قدراتهم الطبيعية و الظروف المحيطة بهم, بل و مرجعياتهم في التعاطي مع فقه الضرورة, فالحسن بن علي بايع معاوية حقنا لدماء المسلمين , و مات مقتولا بالسم جراء ذلك, في حين أن أخوه الحسين قاتل السلطان بغية استرداد حقه و له الحق , و مات مقتولا بالسيف جراء ذلك, رضي الله عن الجميع, فتدبر أخي في فهم أمر التأريخ و عَقْلِ السبب و المسبب و المستخلص و المستفاد و العبر. و اللهَ أسأل تمحض الإخلاص في هذا العمل و في غيره لوجهه الكريم, و الصلاة و السلام على خير خلق الله أجمعين , و الحمد لله رب العالمين.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de