آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي قتلها

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-01-2024, 00:50 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-04-2012, 07:15 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي قتلها

    العبقرية والهذيان: رسائل إلى إيلين

    لوي ألتوسير

    ترجمة سعيـد بوخليـط

    منذ بضعة أيام، اتصلت بي صديقة عبر الهاتف، كي تعبر عن سعادتها. لقد أنهت للتو، قراءة الرسائل التي كتبها الفيلسوف لوي ألتوسير (1918-1990) إلى زوجته إيلين ريتمانHélène Rytman. أولى هذه الرسائل، تعود إلى فترة ما بعد الحرب، وتؤرخ للحظة التقاء المفكر الماركسي بعالمة الاجتماع. أما أخرها، فتشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي قتلها، بعد أن أصيب ألتوسير بنوبة جنون.
    صدر مؤخراً، كتاب يتضمن هذه الرسائل، التي لم يسبق لأي أحد أن اطلع عليها. لكن، الصديقة المذكورة أعلاه، التهمته رسالة تلو الرسالة، مما جعلها تهمس لي: "الأمر بسيط، إذا بعث لي رجل برسائل كهاته، على امتداد ثلاثين سنة، فأريد حقا أن يكتم أنفاسي في نهاية المطاف!".
    دون ملامسة هذه الحدود، ينبغي الاعتراف بأن نصوص الرسائل ممتعة. أولاً، هي من توقيع، أحد أكثر المفكرين تأثيراً خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وعصابي اكتئابي من العيار الثقيل. لكنها خاصة تنشد غنائية فتّاكة، مزجت بلا توقف بين الرقة والقساوة: "هل يمكننا الانتشاء بالتدمير؟ يتساءل رامبو. رسالة بعد رسالة مخاطباً ألتوسير زوجته، سيجيب أخيراً: "نعم".
    هذه الجدلية، بين الإبداع والتقويض، أضفت قوة أدبية على رسائل ألتوسير. مع انسياب مداد قلمه، يتم كل شيء كما لو أن إفناء الآخر والذات، يبقى الوسيلة الوحيدة من أجل العمل على تماسك الزوجان. رباط، وقد أضفى عليه ألتوسير صفة حزب، كان بالفعل هشاً. ألتوسير، الكاثوليكي الراديكالي، صار ماركسياً علمياً، وعانى مبكراً جداً من أولى اضطراباته النفسية. أما، زوجته إيلين فهي يهودية ذات أصول روسية، مناضلة قديمة، طردت من صفوف الحزب الشيوعي لأسباب لم تكشف عنها أبداً. إيلين، ليست حقاً بالعنصر المريح: الفيلسوف جون غيتون Jean Guitton (1901-1999)، أستاذ ألتوسير وصديقه، وصفها بـ"اللغز المطلق" تشبه الأم تريزا. هكذا، ينصب شغفهما على النصي واللغوي، أكثر من الهاجس الجنسي. رسائل ألتوسير إلى إيلين، تبرز خاصة متعة الورق هاته، ورغبة في خلق الفراغ من أجل ملء الحياة: "أضمك بحنان بين ذراعي، يارفيقتي الصغيرة النابضة بالحياة". كل شيء قيل أو تقريباً، منذ الرسالة الأولى، تم تصير الرغبة قوية كي نقرأ مجموع الرسائل على ضوء النهاية المأساوية. ودود إلى أبعد حد، وبين الفينة والثانية، ساحر ومفعم بالدعابة، ويتكلم قليلاً عن الفلسفة أو السياسة: جورج مارشيه Marchais "أراد فرض رأيه". الحزب الشيوعي الفرنسي "بدا مرتاحاً" بدعمه الغزو السوفياتي لأفغانستان، ويبقى الأساسي لدى ألتوسير، استفساره عن أخبار إيلين، فيسألها إذا كانت تتقدم خطوات في تأليف كتابها، ويقترح عليها فكرة تخص العنوان ثم يشجعها أكثر فأكثر (نصك محرّر) ويبعث لها بإشارات عملية كي تتمتع بمدينة فينيسيا. غير أن الرسائل في مجملها، يحكمها خاصة إيقاع "الاضطرابات الداخلية" التي تهز وجوده الذاتي: يتحدث ألتوسير بتفصيل عن الحوار مع الطب النفسي وتأثيرات الأدوية المضادة للانهيار العصبي، والصدمات الكهربائية. عندما نقرأه، نشعر بأن أستاذ المدرسة العليا للأساتذة، يتأرجح بين خبل مطلق (أنام الليل جيداً، لكن النهار بشكل سيء) ونشاط جامح (الدراجة، البحر، السباحة، الريف..) حسب قدرته أم لا، على التحكم في قواه الغامضة، التي يسميها "شياطين". لكن على امتداد الرسائل، سيأخذ انتصار الشياطين، خطاً تصاعدياً. من وجهة النظر هاته، يبدو بأن سنة 1961، شكلت نقطة ترجيحية حيث اشتدت الأعراض، وبدأ نظامه اللغوي في الاختلال، ودخلت الكلمات دوامة الأزمة. هكذا، سيبدع ألتوسير على نحو مدهش، كتابة هذيانية. أحياناً، تغيب الفواصل عن النداء ومع لحظات أخرى، تصير لغة أساسها اللعب، تحافظ على طراوة الشفاهي، فاستبق ألتوسير بذلك، رسائل «SMS» الحديثة(1). بالموازاة، مع جنون اللغة، سنلاحظ تحولات إيلين في متخيل ألتوسير. هكذا، ستترك الزوجة على الفور، مكانها إلى الصديقة الحميمة وكذا أخت البؤس والرفيقة المضطربة. المحبة التي أظهرها الفيلسوف، أضحت شيئاً فشيئاً غامضة: دون إدراك منه تحول مبدع الرسائل العاطفية إلى كاتب للقسوة. إنها اللحظة، التي سيضاعف فيها ألتوسير الإشارات الخادعة لعشيقاته لاسيما أكثرهن شهرة «la môme franca» التي تحدث عنها إلى إيلين بنوع من الإعجاب: "مع فرانكا جيدا (...). ومع لابامبا فإني أهيم، أما مع نونا فأوه!..". لحظة أيضاً، سينتقل فيها من مجابهة الحب إلى الوقوع في شركه: "تذكري، وإن كنت شرساً، فإني أضمر لك محبة كبيرة"، يكتب ألتوسير، وهو مقتنع بأنه "أساء إليها كثيراً طيلة 35 سنة"، لذلك يتعهد لإيلين بأنه سيتوقف عن استفزازاته، وسيفعل كل ما من شأنه أن يصلح الأمور بينهما. لكن ما يرتسم جانبياً في الأفق، هو بالأحرى "الانتشاء بالفراغ" بمعنى تلك القفزة الكبرى في المجهول، التي أقدم عليها الفيلسوف يوم 16 نوفمبر 1980. اثنتا عشر سنة، قبل ذلك، كتب ألتوسير إلى "نصفه الثاني": "خلال كل الصباحات، يتكرر هذا الأمر بشكل متماثل: أشعر بأني أستيقظ في غرفة وقد بتر نصفي الثاني (على الجانب، وفي الأسفل، يوجد الشارع!) ويفتقد لمنتهى، أي الفراغ".
    والحال أن الهوس بالفراغ، حاضر جداً كذلك في العمل النظري لألتوسير، المهيمن حتى اليوم، على الحياة الفكرية سواء داخل فرنسا أو خارجها، ما دام يشكل مرجعية لرموز مختلفة مثل: آلان باديو، جاك رانسيير، بيير ماشري، أو بيرنار هنري ليفي. مشروع ملغز دائماً، وإشكالي، بحيث يجد كل مفهوم نفسه على الفور، ممتلئاً بالألغام داخلياً، وقابلاً دائماً للانهيار. لهذا السبب، توجب "رسائل إلى إيلين" بحمولة جديدة إحياء السؤال القديم: إذا كان الوجهان المؤسّسان لألتوسير: صاحب النظرية ثم المجنون، يمثلان واحداً دون أدنى تناقض أو أية قطيعة؟ فنظن بأن ما يجمع بينهما عندما سننهي قراءة الرسائل، يكمن في الانذهال بالتورط أي هذا الاعتقاد المؤلم شعرياً: وحده تقويض الصلات، يؤدي إلى بناء تحالف آخر، هكذا يبقى الإفناء، الفعل الوحيد للإبداع، وآخر دليل عن الحب.
    تقرير مزدوج للتحليل النفسي
    تجربة الاكتئاب، أساسية في حياة وعمل ألتوسير. بالتالي، فلا التحليل النفسي وعشق النساء والتطلع إلى الثورة وكذا العبقرية النظرية، باستطاعتهم استيعاب حدود هذه الثنائية الدائمة (الإحباط/ التمجيد) التي ألهمت كثيراً جيل سنوات 1965-1975.
    لذا، فإصدار كتاب "رسائل إلى إيلين ريتمان"، زوجته، بعد مرور 12 سنة، على رسائل ألتوسير إلى فرانكا مادونيا عشيقته الإيطالية، يعطي إمكانية فهم كيف أن الفيلسوف لم يتوقف عن التأرجح بين نموذجين للنساء: الأول مذنب ومنهك نفسياً، تمثله إيلين والتي تعكس صورة خيالية عن أخته جورجيت Georgette، كموضوع لشفقة حاضنة وطفولية. أما النموذج الثاني، فهو غامض ومتوهج، تجسده "الأجنبية" التي بقيت باستمرار نصف خفية، وأحياناً تحمل وتكشف عن هوية إيطالية متوقدة. علاقة ألتوسير بإيلين، وقد اتخذت أكثر مساراً جنونياً، تشبه علاقة أخرى جد عاطفية، إنه الانزواء الذي وجد دلالته من خلال ثلاث فضاءات: الحزب الشيوعي الفرنسي، المدرسة العليا للأساتذة وكذا ملجأ العُصابيين.
    منذ 1938، عانى ألتوسير من حالات عصابية، تنتابه كل سنة فترة شهر فبراير. لذلك، عاش أكثر من عشرين مرة الحكاية الميثولوجية ساغة «Saga» التي تتوخى احتجاز المريض بهدف إخضاعه للعلاج النفساني. وضع وصفه جيداً، تلميذه ميشيل فوكو: مهدئات الأعصاب، الصدمات الكهربائية، وأملاح الليتيوم التي تنضاف إلى مختلف العلاجات النفسانية المتصفة أيضاً بانشطار الأنا. في هذا الإطار، نسج ألتوسير مع التحليل النفسي علاقة مزدوجة، لما فصل دائماً بين وضعيته كخاضع للتحليل والعلاج النفسي، ثم ألتوسير مفكر الفرويدية: من جهة يصف ذاته بالضحية، المجبر على الامتثال لعلاج كيميائي، فأبدى ضده تمرداً مستمراً. ومن ناحية ثانية، أراد أن يكون مدافعاً عن قراءة لفرويد (تلك التي جاء بها جاك لاكان)، كي يدحض المبادئ العلاجية التي خضع لها هو نفسه.
    مع نهاية سنة 1963، واجهت لاكان صعوبة كبيرة في علاقاته مع جمعية التحليل النفسي الفرنسي والدولية. إذن، وقد أصابه الانهيار وتراوده فكرة الانتحار، حدث اللقاء بينه وألتوسير الذي لعب معه بشكل واع، دور محلل نفساني "مدافع" ودعاه كي يحاضر بالمدرسة العليا للأساتذة، فهيأ له بذلك منبراً بجوار جيل جديد من الطلبة/ الأساتذة، استقطب من بينهم مجموعة أنصار آخرين. كما، فهم لاكان على الفور دلالة هذه اللعبة (طبيب الطبيب) مما جعله يفكر في أن يقترح عليه، اصطحابه إلى أريكته، مفرقاً هو أيضاً العمل النظري عن العلاج. قبله، سبق لألتوسير أن اختار طبيبه. يتعلق الأمر بـ روني دياتكين (1918-1998)، معالج قديم لـ لاكان ومشرف كذلك على حالة جورجيت أخت ألتوسير، المصابة أيضاً منذ فترة طويلة بنفس الأعراض المرضية، لأخيها.
    سنة 1964، كتب ألتوسير مقالة قوية في مجلة (النقد الجديد) عبر بين سطورها عن تقدير مؤثر للاكان، وتوجه بانتقاد لمواقف الحزب الشيوعي الفرنسي القديمة، التي طعنت في شرعية التحليل النفسي سنة 1949 بناء على تهمة "العلم البورجوازي".
    بعد مرور سنة، بادر دياتكين إلى أن يأخذ على عاتقه حالة "إيلين التي أصيبت بانهيار عصبي، وطردها الحزب الشيوعي الفرنسي، كما تجر وراءها طفولة قاسية. اهتم أيضاً، بالمتابعة النفسانية لألتوسير، الذي أسر بدوره دياتكين" تحت سطوة قدراته: عشق الفيلسوف لعبة زواج نفس أفراد القبيلة، بأن ضم إلى دائرته النفسية كل أقربائه، لاسيما قرينته وأصدقائه وتلامذته وعاشقاته. في خضم ذلك، قام ألتوسير بدور المحلل النفسي لإيلين، يشرح لها "حالتها" ويوجهها نحو فهم "أوديبها القديم" حسب منهجية ميلاني كلين Melanie Klein. ثم صنع نفس الأمر مع عشيقته فرانكا، بأن عرض عليها معطيات إيلين، وأخيرا مع دياتكين، بحيث لقنه دروساً في اللاكانية: "لماذا تطرحون جانباً كتابات لاكان؟ إن ذلك يمثل خطأ".
    إبان العلاج الطيول الأمد، بقي ألتوسير يشغل موقع "محلل المحلل" أو "أب الأب"، مما قاده نحو انصهار زاخم ومستساغ بإيلين، وتبلور مرعب لكل أشكال العلاجات الطبية. مع نهاية هذه المرحلة، بعد إفراط كل واحد منهما في المخدرات والكحول واليأس، بل وفكرا في الانتحار معاً أو حريق يلتهم المدرسة العليا، وضع ألتوسير حداً لحياة إيلين، ظناً منه لحظتها بأنه يدلك عنقها كما اعتاد معها. إيلين، من شكلت "نقطته الثابتة الوحيدة، وسط بحر بلا أفق": حدثت واقعة الموت يوم 16 نونبر 1980.
    أُودع ألتوسير، محتجز "سانت آن"، لكنه استفاد من الفصل 64 للقانون الجنائي الذي ينص على ما يلي: "لا جريمة ولا جنحة، إذا كان المتهم يعاني، حالة عته وقت ارتكابه الفعل".
    ما إن ذاع خبر القتل وطيلة سنوات، أصبح ألتوسير عنوان حملة صحافية مكثفة، تجمع بين اتهامات واهية، وتأويلات نفسية افتقدت للجدية مثل: "مدرسة عليا، غير عادية"، "توقف إنك تخنقني"(2). وصف البعض ألتوسير، بأنه مجرم ينتمي لأسوأ الأنواع، معبرين عن امتعاضهم، قتله زوجته اليهودية. ولدواعي ماركسيته، اعتُبر مسؤولاً عن جرائم الغولاغ وضحايا الثورة الثقافية الصينية. أما، مناصرو الحركة النسائية، فقد استنكروا هذه اللامبالاة بالضحية. وجهت أيضاً إلى ألتوسير تهمة معاداة السامية، وصاحب نزعة ذكورية، بعقائدية ستالينية.
    سنة 1985، قارنته إحدى الصحافيات، بمجرم ياباني اسمه إيسي ساغوا «Issei Sagawa» قتل فتاة ثم افترسها بعد أن قطع جسدها. ألتوسير ركن إلى الصمت، وهو مدرك لحالته الشبحية أو الكائن الميت/ الحي نتيجة الحادث، ثم قرر أخيراً كتابة سيرته الذاتية. فترك لنا نصاً بديعاً متفرداً في حوليات الفلسفة، يروي وقائع طفولته كما وصف بدقة المشهد الشهير ومقدماته وكذا نتائجه، وهي السيرة التي ظهرت بعد وفاته تحت عنوان: "المستقبل يدوم طويلاً".
    يوم 22 أكتوبر 1990، وقف جاك ديريدا أمام نعش ألتوسير، كي يرثي صديقه، وكذا أهم فيلسوف في النصف الثاني من القرن العشرين، كما تصوره دائماً.
    لأني ارتبطت بعلاقة صداقة طويلة مع ألتوسير، تشير إليزابيت رودينسكو، امتدت لعشرين سنة أدركت في جميع الأحوال، أن تفسيره لما قام به يبقى أكثر حقيقة من تأويلات شتى، اكتست لباساً غريباً. لقد قتل من أحب، والتي توخت الموت كثيراً إلى درجة أنها رفضت الدفاع عن نفسها. تلك إذن طريقته لتحقيق رغبتها، ثم بعد ذلك أن يخبر بالقلم وللأبد، المحاكمة لم تستطع عدالة الأفراد اتخاذ إجراءات بصددها.
    مدرّس استثنائي، وفيلسوف صاحب مكانة دائمة
    سواء كان الأمر من ثمرات، الانشغال بالسير الذاتية للأموات، أو على العكس بمثابة مؤشر عن فكر يساري يعاني صعوبة التجديد النظري، فالاهتمام الحالي بشخص لوي ألتوسير وفي نطاق أقل مشروعه، يبدو غريباً شيئاً ما. إن صاحب كتاب «Pour marx» أصدر قليلاً من الأعمال، اللهم سلسلة مقالات تم تجميعها بعد رحيله وحملت إلى القارئ العديد من الدراسات، لم يسبق لألتوسير أن كشف عنها. سياق، سيغذي موجة منتظمة تروم التنقيب ثانية.
    هذا التناول المابعدي، يبقى مثقلاً بدين مشهد وازن، ارتداد الماركسية في فرنسا سنوات 1970، حيث ظل ألتوسير أيقونها الفكري. وإحدى الأسئلة، التي تطرحها مجموع المؤلفات التي تنكب حالياً على فكره، تركز على إبراز مسؤولية ألتوسير في هذا الانحطاط، تقول: هل حتمت فلسفته المآل منذ البداية، أم أصابها التهميش نتيجة انهيار المنظومة الشيوعية؟
    عندما نلقي نظرة سريعة، على الكتب الصادرة خلال حياة ألتوسير، سنلاحظ إلى أي حد أضحى أسلوبه الفلسفي عتيقاً، مقارنة مع متون معاصريه مثل جيل دولوز، ميشيل فوكو، وزميله جاك ديريدا أو "كيمان" Caïman (لقب، معيد الفلسفة في المدرسة العليا للأساتذة).
    على أية حال، استمر تأثيره خالداً، لأن هذا المدرس الرائع اقترنت كل حياته بمهمة إستراتجية توخت أساساً تكوين أجيال فلسفية في المدرسة العليا، وتهيئهم للأستاذية. هكذا، أدت محاضراته الشهيرة لسنوات 1960 إلى اتساع حلقة طلبته، المباشرين وغير المباشرين، الأوفياء والمتمردين. ألتوسير فيلسوف ومهرب أيضاً، لأنه امتلك موهبة استعارة عدد كبير من المفاهيم، أدمجها في نسق تأمله الخاص للماركسية. إدانته لـ"النزعة الإنسانية"، التي شكلت فلسفة شبه رسمية للحزب الشيوعي الفرنسي سنوات الستينات، ويعتبر روجي غارودي مفكرها الكبير، أحالتنا على البنيوية وكذا هيدغر. العديد، من المفاهيم الفرويدية وجدت طريقها إلى خطاب ألتوسير مثل "المحدد التضافري" أو "العلاج الموضعي". لكن مشروعه، اندرج أساساً في إطار الصراع ضد الأرتودوكسيين من مختلف الجهات والذين حرفوا الماركسية إلى عقيدة علموية. لقد صارع ضد أي نزوع نحو التحجر، بإلحاحه على دينامية القطيعة التي تجسد في نظره الماركسية (قياساً للتقليد الذي رسخته الهيغيلية) وتعميق مفهوم الإيديولوجيا. يعتقد ألتوسير، بأن الأخيرة، وبعيداً عن كونها محض انعكاس لأنماط الإنتاج، لها في المقابل مفعول على العالم المجتمعي، ثم لا يختزل كل شيء في "نهاية المطاف" إلى الاقتصاد، مما يبرر في نظره ممارسة الفلسفة.
    أما، مفهومه عن "الأجهزة الإيديولوجية للدولة"، والذي إليه يعود الفضل في بناء كثير من التأملات حول مسرح بريخت أو منجزات مخرج مثل جيورجيو ستريلر Giorgio Strehler، فيظهر ألتوسير من خلاله كيف أن "البنى الفوقية" الثقافية يمكنها تغيير "البنية التحتية" الاقتصادية. هذا الجانب من العمل، يمثل رافداً نوعياً للماركسية الثقافية خلال القرن العشرين، يبقى بكل تأكيد، الأقل تأثراً بالتجاوز، بحيث يخلق إمكانية أن نقرأ دائماً وندرس ألتوسير، سواء في فرنسا أو إيطاليا بل وداخل الجامعات الأنكلوساكسونية.
    لم يكن، أيضاً ألتوسير أقل حماسة كي يتصدى لمن أفرطوا في دفع ماركس نحو الفلسفة. الألتوسيرية، باعتبارها آخر المدافعين عن الماركسية، سلمت بوجود "قطيعة"، من جهة بين نصوص ماركس الشاب المتشبع لحظتها بالمثالية الفلسفية. ومن جهة ثانية كتاب "رأسمال". لكن العلم المقصود هنا، ليس "العلم البروليتاري" المتداول في المعاهد الماركسية ـ اللينينية، ما دام ألتوسير تمكن من الاستيعاب الجيد للإبستمولوجية الفرنسية السائدة خلال حقبته، ولاسيما كتابات غاستون باشلار (1884-1962)، التي ألهمته فكرة المعرفة القائمة على القطيعة، أي على منوال منجز غاليلي عندما حقق انتقالاً من نظرية مركزية الأرض، إلى أن الشمس هي المحور. إذن، ما إن ندرك الماركسية، كتغير للمنظور، سيواصل ألتوسير حديثة إلينا. لكنه لم يقترح قط بديلاً عن الماركسية الأرتودوكسية، مما أدى حسب البعض، إلى ثغرة كانت قاتلة بالنسبة للماركسية نفسها. ويبقى إذن رهان الاكتشافات الخلاقة لفيلسوف شارع أولم Ulm مناهضة الرأسمالية وفق "علم مضبوط".



    يتبع (الجزء الثاني من المادة):

    (عدل بواسطة عبد الحميد البرنس on 12-04-2012, 07:55 PM)

                  

12-04-2012, 08:48 AM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22492

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: عبد الحميد البرنس)

    البرنس
    تحايا عطرة

    شكرا على هذه السياحة الممتعة

    ***
    أما هنا :

    خلال تلك الفترة، جسد ألتوسير بامتياز هذا التردد بين العقلانيّة المفرطة، وكذا احتمالية الجنون المهددة. الهذيان، يقوم حيث العقل النظري، يرفض معرفة أي شيء عن أهواء الجسد التي تنتقم بالضرورة. مع ذلك ينبغي الحذر من التعميم.

    العقلانية المفرطة التي تجعل البعض يصفونها بالجنون والأمثلة كثيرة في عالم المشاهير

    دمتم
                  

12-04-2012, 09:18 AM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22492

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: عبد الحميد البرنس)

    البرنس
    تحايا عطرة

    شكرا على هذه السياحة الممتعة

    ***
    أما هنا :

    خلال تلك الفترة، جسد ألتوسير بامتياز هذا التردد بين العقلانيّة المفرطة، وكذا احتمالية الجنون المهددة. الهذيان، يقوم حيث العقل النظري، يرفض معرفة أي شيء عن أهواء الجسد التي تنتقم بالضرورة. مع ذلك ينبغي الحذر من التعميم.

    العقلانية المفرطة التي تجعل البعض يصفونها بالجنون والأمثلة كثيرة في عالم المشاهير

    دمتم
                  

12-04-2012, 11:47 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: ابو جهينة)

    أبا جهينة:

    تحية متجددة..

    Quote: العقلانية المفرطة التي تجعل البعض يصفونها بالجنون والأمثلة كثيرة في عالم المشاهير


    تلك، حقا، كتابة من الثراء بمكان. نصّ ذو مستويات متعددة للقراءة والتأويل. لا سيما موضوع الكتابة: ألتوسير. لقد كان حضوره، على صعيد تأريخ الأفكار، بمثابة علامة فارقة، لا سيما حين يتعلق الأمر بتجديد الماركسية تحديدا. لا بد أنني سأتوقف طويلا هنا أمام هذه الصفحة من كتاب "هذا الصاحب"!.
                  

12-04-2012, 12:28 PM

Sidgi Kaballo
<aSidgi Kaballo
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 1722

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: عبد الحميد البرنس)

    عبدالحميد البرنس في المنبر مرة أخرى
    مراحب بيك وبحديثك الشيق وبالمقال الرصين عن ألتوسير
                  

12-04-2012, 07:18 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: Sidgi Kaballo)

    أشكرك كثيرا، أخي الدكتور الحصيف صدقي كبلو، وتحية تصلك من جنوب الكرة الأرضية، مارة بالوطن، في شمالك هناك. وبعد، أوكما تعلم، تبدو لي الآن (قد تشمل هذه الآن عقود خلت) العودة إلى ألتوسير مهمة، لا لأنه ينتمي إلى تلك الفئة من المفكرين الأفذاذ، أمثال لينين وتروتسكي ولوكاتش وبولانزاس وكاريللو وفرانتز فانون وسمير أمين وغيرهم ممن حاول تفكير الماركسية من داخلها والخروج بها من الجمود الذي أصابها تاريخيا فحسب، بل لجوهر مساهمته هو بالذات في كون إحالته بتلك البراعة التفصيليّة إلى الدور المتزايد الذي أخذت تلعبه الآيديولوجيا/ البنية الفوقية في صياغة وإعادة صياغة الذاتيّة الإنسانية، أوبمعنى ذو طبيعة صراعيّة في إنتاج وإعادة إنتاج الاستغلال، وذلك على نحو لا تزال تغذيّه تلك التحولات المتزايدة التي لا تني تنتجها الثورة العلميّة الثالثة (ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال). فألتوسير في هذا السياق تعمّق بألمعية نادرة بينما يعيد في ظني قراءة سؤال ماركس الذي تركه في (الآيديولوجية الألمانية) معلقا إلى حد بعيد بينما يعالج موضوعة الإستلاب، وأعني بالسؤال "لماذا يسلك البشر أحيانا ضد ما تمليه مصالحهم الخاصّة؟"، ولعلي أشير هنا بالذات إلى مقال ألتوسير (الآيديولوجيا وأجهزة الدولة الآيديولوجيّة)، أوكما أسماه فانون معالجا ذات الفعالية المتزايدة التي أخذت تلعبها البنية الفوقية (الأشكال الجماليّة لاحترام النظام)، عوضا عن عملي ألتوسير عن "لاكان" و"فرويد"، والأخير يتناوله ألتوسير بقدر عال من الحنان ضاربا بعرض الحائط تلك المقولات المهيمنة على صعيد الماركسية الستالينية من شاكلة (علم برجوازي)، بل ساخرا في موضع آخر من منظومة تنتج مثل هكذا معرفة لا علميّة بالواقع عبر هذا التشبيه "كالبط، يحاول الركض حتى بعد قطع رأسه".
                  

12-04-2012, 07:59 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: عبد الحميد البرنس)

    الجزء المتبقي من المقال:

    حوار مع بيرنار سيشير Bernard Sichère: وصف للروابط بين فكر المنظّر الماركسي ومصير المناضلين الماويين في فرنسا.

    1 أشرتم في عملكم Ce grand soleil qui ne meurt pas إلى "الشغف" السياسي الذي جسدته الماوية الفرنسية. ومن بين جميع رموز هذه الحركة، سنلاحظ بأن أغلبها تأثر بألتوسير، كيف تجلى الأمر؟
    - نعم لعب، ألتوسير دوراً حاسماً في توجيه كثير من المفكرين الشباب، كي ينخرطوا في النضال. لقد أبان بداية على الأقل، عن إرادة توفق بين المواقف النظرية والالتزام الواقعي. كشف منظوره هذا، عن اختلاف كبير مع لغة الحزب الشيوعي الفرنسي. في نفس الوقت، راوده شعور غير مستقر: اعتقاده بإمكانية تحريك الأشياء من داخل الحزب الشيوعي الفرنسي. بشكل سريع، أظهرت التجربة ضرورة طرح التساؤل بخصوص مسار جد رجعي لهذا الحزب العتيق.
    2 ـ على الرغم من هوسهم بالأفق الثوري، فقد مرّ شباب "الحرس الأحمر" بجوار حدث ماي 1968، دون اكتراثه بما تنطوي عليه الثورة من جديد. في رأيكم، هل يرتبط الإخفاق، بدرس ألتوسير؟
    - سؤالكم يلامس جوهر ماي 1968. قناعتي، أن ثورات 1968 الجميلة جداً والخلاقة، لم تلتقط إلا آخر الموجة التي سادت الولايات المتحدة الأمريكية سنوات 1960، وسعيها لتعبئة الشباب بهدف أن يرسي في العمق صلة أخرى مع العالم والحياة والحب، بحيث تعلق الأمر، في الآن ذاته بثورة وجوديّة وسياسيّة وفنيّة. لكن يبدو، بأن مفهوماً دوغماطيقياً وعقائدياً للسياسة، أحال بين الماويين والتماهي مع كنه الحركة، وقد عكست بوضوح لغة ألتوسير أثر هذا الانغلاق. خلال تلك الحقبة، اتجه اهتمامي أكثر إلى جاك لاكان مقارنة مع ألتوسير، أظن لسبب دقيق: كان البناء المفهومي حاضراً كلياً عند لاكان، ثم توفر لديه في الوقت ذاته ثقل الواقع، الذي تنطوي عليه معاناة العصابي وأضرار الذهاني. فبغير، هذا الوزن للجسد والعنف والانفعال الأولي، تبقى السياسة مجرد وهم أو دجل.
    3 بعد قطيعة أغلب رموز هذه الحركة مع الماوية، انقلبوا نحو المبتغى الديني. أنتم أنفسكم تحدثتم عن "إعادة اللقيا بالمنبع المسيحي"، فهل تلمّس ألتوسير، الذي تبلورت بداياته النضاليّة ضمن الشباب المسيحي، طريق التحول؟
    - يمتلك ألتوسير ماضياً مسيحياً، بالتالي لا يمكنه أن يبقى غير مبال. وسيزداد الأمر تأكيداً، إذ علمنا بحضور المفكر المسيحي جون غيتون إلى جواره خلال فترات متأخرة. إن تاريخ الرجل، تؤسسه مجموعة مستويات تمارس حسب اللحظات، أدواراً يختلف زخمها. لقد تساءلت في كل الأحوال عن نزوع العديد من المناضلين الماويين، وجهة الدين، لكن ليس بالمعنى الضيق للمفهوم، بل أقصد التجربة الروحية التي مثلت محور التقليد الواحدي في الغرب: الحكمة العبرية لدى ليني ليفي، والروحانيّة الإسلاميّة عند كريستيان جامبي، وبالنسبة لموقفي الشخصي آمنت بقوة التيولوجية المسيحية، بحيث أراها نقيضاً للانكفاء والانطواء: إحياء للفكر، إنطلاقاً مما اعتبره، استناداً على ذخيرة اسمها الفكر المسيحي للتاريخ ظاهرياً. لم يتجاوب ألتوسير مع هذا المنحى، ورفض عموماً تفحصه، ولم يكن له الوقت أو الأدوات كي يجتاز المنافذ المسدودة التي ارتطم بها فكره الخاص. ولا تضمر الدعوة إلى الفكر الديني، تخلياً عن العقل، لكن الإيمان بوجود طريقة أخرى لتأمل التاريخ، غير ماركسيّة النصوص التي بقي ألتوسير وفياً لها بإصرار، وهي في حقيقة الأمر، رؤية مختزلة جداً مقارنة مع ماهيّة الإنسان والوجود والحرية.
    4 في نتاجه وكذا حياته، تأرجح ألتوسير ذهاباً وإياباً بشكل ملغز بين الخطاب والهذيان، ثم النظرية والجنون. بحسبكم أيشكل هذا المسار أيضاً جزءا من إرث "ماو"؟
    - خلال تلك الفترة، جسد ألتوسير بامتياز هذا التردد بين العقلانيّة المفرطة، وكذا احتمالية الجنون المهددة. الهذيان، يقوم حيث العقل النظري، يرفض معرفة أي شيء عن أهواء الجسد التي تنتقم بالضرورة. مع ذلك ينبغي الحذر من التعميم. إذا ركزت على أن أستعيد ثانية، علاقتي مع مجلة "تيل كيل" Tel Quel فلأن الالتزام أدبياً وفنياً يستبعد كل إنكار لهذا الجانب المزعج جداً، ويقترح على النقيض العمل على تعريته من أجل طرده والإفصاح عن ذاته عبر الضحك والسخرية. والتماهي الجنوني بالماوية، توخى أساساً إخضاع الفن والأدب إلى معايير الإيديولوجية السياسيّة، والحال أن التجربة الشعريّة، والأدبيّة، تتنافى مع هذا النوع من التدبير البوليسي، بحيث أن تكون روايات آلان باديو ضعيفة، يعكس إشارة لا تخطئ أبداً.
    مقاطــــع من الرسائل
    - رسالة 30 شتنبر 1950:
    "تحية، صغيرتي. في هاته اللحظة، أقبّلك وأنا أخبرك بالأمر، بعد أن قبّلتك سراً لفترة طويلة. ألتمس منك فضل أن تتحملي بصبر الأيام التي تباعد بيننا، بمشاهدة أفلام وقراءة كتب توفر لك زاداً لأبحاثك. تشجعي، صديقتي، مع القلب لا نعاني عزلة قاسية. أحضنك بحب جارف. حنان قوي، لا يبدو بأنه قد يتخذ منحى يضجرك، أو بالأحرى حسب قلبي..." (إليك)
    - رسالة 25 يوليوز 1961:
    "معذبة قلبي، عندما أقرأ نصك، أشعر أيضاً بتأثير، يزيد عن ما يقدمه لحظة الإصغاء إليه. إنه حقاً، مدهش متين، جلي، دقيق، عميق، يزخر بخلفيات (مثل مناظر حقيقية)، وبنشاط شبيه، بما تظهره الحياة لما تكون ناجحة. أنت دائماً في هذه المناسبات (النادرة جداً)، تعبرين نظرياً عن إبداع مفهومي عميق، يمثل دائماً بالنسبة إلي، تجلّ لك. لكن أيضاً، بخصوص ما تقولين وتطمحين إليه. اكتشاف: بالتالي، أنا محتجز تماماً، وأعبر بكلمات الانفعال: مدهش، يا إلهي، رائع جداً".
    - رسالة أبريل 1980 (الثلاثاء، منتصف الليل):
    سكين يخترق فؤادي، مضطرب، لأني أخبرتك بكل ذلك، أردت، أن أخفي عنك تأثيرات الأمر، لكن بدا لي بأنه من الأفضل إحاطتك علماً، بما يسكنني كهاجس، هكذا، أنا، خلال الفترة الحالية. لكن، أحكيه إليك بكيفية، عوض أن تسمح بأخذ مسافة، فقد عبرت بالأحرى عن نفسها بقدر وقوعي في شباك قوة أعتى مني. حقاً، خلف بعض التمظهرات التي أكشف عنها وأعرضها وأتماهى معها، تكمن حالياً قوة تهزمني كثيراً..".

    [email protected]

    هذه ترجمة للمقالة المنشورة في:
    Le monde des livres: 27 mars 2011
    الهوامش
    (1) «Moteur et Pneu . mékédéluj!», si t’arriv avant moâ cessoir je te fai la biz».
    (4) المقصود هنا، آخر الكلمات التي تلفظت بها زوجة ألتوسير.

    http://www.alkalimah.net/article.aspx?aid=4982
                  

12-04-2012, 11:29 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: عبد الحميد البرنس)
                  

12-05-2012, 03:40 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: عبد الحميد البرنس)

    لوي ألتوسير
    ماركس والنزعة الإنسانية

    لوي ألتوسير



    ترجمة: د. محمد سبيلا



    هناك مسلك أخير، جد مختصر، للتعرف على قضية أخرى مثيرة: إنها أطروحة النزعة الإنسانية النظرية لماركس. وفقط من أجل التمتع بلذة الاستماع لجوقة الأبواق الإيديولوجية التي جوزيت بها، سأقول بأني، حتى ولو لم أكن قد دافعت عن هذه الأطروحة، فإنه كان علي أن أبتدعها.
    إنها أطروحة جادة، شريطة أن نأخذ بعين الاعتبار وبشكل جدي، إحدى الكلمتين اللتين تتضمناها. وهي ليست الشيطان مع ذلك، إنها كلمة نظري. لقد قلت وكررت بأن مفهوم أو مقولة الإنسان لا تلعب لدى ماركس دورا نظريا. لكن يجب أن نوقن بأن كلمة نظري لا تعني شيئا بالنسبة لأولئك الذين لا يودون سماعها.
    فلنحاول سماعها.
    ومن أجل ذلك، نقول كلمة عن فويرباخ، الذي ترجمت له بعض النصوص. لا أحد سيجادل بأن فلسفة فويرباخ فلسفة ذات نزعة إنسانية نظرية بشكل واضح. يقول فويرباخ: تعلن كل فلسفة حديثة عن نفسها بواسطة كلمة جديدة. وفلسفة العصور الحديثة، فلسفتي، تعلن عن نفسها بواسطة كلمة إنسان. وفعلا، فالإنسانية والماهية الإنسانية، هي المبدأ المركزي لكل فلسفة فويرباخ، ليس معنى ذلك أن فويرباخ لا يهتم بالطبيعة، لأنه يتحدث عن الشمس، والكواكب، وأيضا عن النباتات واليعاسيب والكلاب وحتى عن الأفيال ليقول عنها بأنها لا تمتلك ديانة، لكنه، إذا صح القول، يلمس الطبيعة عندما يعرض علينا بهدوء القول بأن لكل نوع عالما خاصا به، وهذا العالم ليس إلا تجليا لماهيته. وهذا العالم مكون من موضوعات، ومن بينها موضوع متميز تتحقق فيه ماهية النوع وتشبع ذاتها: أي الموضوع الأساسي للنوع. وهكذا فإن الموضوع الإنساني لكل كوكب هو الشمس التي هي أيضا الموضوع الأساسي للكوكب... الخ.
    همذا ننتقل إلى الإنسان، إنه مركز عالمه كما هو مركز أفقه المطلق، عالمه المحيط. ليس هناك شيء من عالمه لا ينتمي إليه: وبالأحرى لا شيء في عالمه ليس هو، لأن كل موضوعات عالمه ليست موضوعاته إلا من حيث إنها تحقق وإسقاط لماهيته.
    إن الإنسان مركز عالمه، بالمعنى الفلسفي للكلمة، إنه ماهية عالمه الأصلية وغايته. وهذا هو ما يمكن أن ندعوه نزعة إنسانية نظرية بالمعنى القوي.
    يمكن أن يتفق معي على أن ماركس بعد أن تبنى بعمق إشكالية فويرباخ عن الماهية النوعية للإنسان والاستلاب، فإنه قد قطع مع فويرباخ وأن هذه القطيعة مع النزعة الإنسانية النظرية لدى فويرباخ تطبع بشكل جذري تاريخ فكر ماركس.
    لكنني أريد الذهاب إلى أبعد من ذلك، ن فويرباخ شخص فلسفي غريب يمثل هذه الخاصية، التي أرجو السماح لي بأن أعبر عنها بكونه "قد أنجز المهمة". إن فويرباخ ذو نزعة إنسانية معلن عنها. لكن يوجد وراءه إرث طويل من الفلاسفة الذين إذا لم يكونوا قد أعلنوا عن أنفسهم مثله، فإنهم لم يكونوا يشتغلون أقل منه بالإنسان، وإن كان ذلك بشكل أقل انكشافا. وأنا بريء من فكرة الحط من قيمة هذا التقليد الكبير في النزعة الإنسانية، الذي يرجع فضله التاريخي إلى كونه قد ناضل ضد الإقطاع وضد الكنيسة وإيديولوجيتها، وإلى كونه قد أعطى للإنسان كرامة ودرجات مهمة. لكن يجب استبعاد أنني أعارض في كون هذه الإيديولوجيا ذات النزعة الإنسانية، التي أنتجت أعمالا كبيرة ومفكرين كبار، يمكن فصلها عن البورجوازية الصاعدة التي كانت هذه الإيديولوجيا تعبر عن طموحاتها، وذلك بالتعبير عن مقتضيات اقتصاد تجاري ورأسمالي مصادق عليه ومقرر لقانون جديد، أي القانون الروماني القديم الذي تم تعديله في صورة قانون تجاري بورجوازي. فالإنسان الذي هو ذات حرة، الإنسان الحر أو فاعل أفعاله وأفكاره هو، قبل كل شيء، الإنسان الحر في أن يملك، وفي أن يبيع ويشتري. إنه ذات فاعلة من الزاوية القانونية.
    أختصر القول، وأزعم أنه ما عدا في بعض الاستثناءات الواردة في غير أوانها، فإن التقليد العظيم للفلسفة الكلاسيكية قد تناول من جديد في مقولات أنساقه حق الإنسان في أن يعرف، هذا الإنسان الذي جعل منه هذا التقليد الذات الفاعلة لنظرياته في المعرفة، ابتداء من الكوجيتو إلى الذات الاختيارية، ثم إلى الذات المتعالية. كما تناول هذا التقليد حق الإنسان في أن يفعل، وقد جعل منه الذات الفاعلة الاقتصادية والأخلاقية والسياسية. إني أعتقد، وهذا أمر لا أستطيع البرهنة عليه هنا، أن لي الحق في التأكيد بأن مقولة الإنسان، بمظاهرها المختلفة حيث تتوزع وتختفي في نفس الوقت، أو مقولة الماهية الإنسانية أو مقولة النوع الإنساني، كلها تلعب دورا نظريا أساسيا في الفلسفات الكلاسيكية الماقبل ماركسية. وعندما أتحدث عن الدور النظري الذي تلعبه مقولة ما، فإني أعني بذلك أنها تندمج بالمقولات الأخرى، وأنه لا يمكن فصلها عن المجموع دون أن يتأثر بذلك عمل الكل. وأعتقد إذن أني أستطيع القول: ماعدا في بعض الاستثناءات، فأن الفلسفة الكلاسيكية الكبرى تمثل، في أشكال غير معلن عنها، تقليدا إنسانيا نظريا لا غبار عليه. وإذا كان فويرباخ بطريقته الخاصة "قد أنجز المهمة"، وإذا كان قد وضع الماهية الإنسانية صراحة في مركز الكل، فذلك لأنه كان يعتقد بأنه يستطيع الإفلات من سبب اختفاء الإنسان عن الفلاسفة الكلاسيكيين، هذا الإنسان الذي كانوا يوزعونه إلى عدة ذوات. إن هذا التقسيم للإنسان، ولنقل إلى ذاتين على سبيل التبسيط، الذات العارفة والذات الفاعلة، الذي يطبع الفلسفة الكلاسيكية يحول بينها وبين إعلان عند فويرباخ الرائع بأنه يستطيع اختزال هذا التقسيم وهذا التعدد: فهو يحل تعددية الصفات في الذات الإنسانية محل تعدد الذاوات، ويعتقد أنه يحل بذلك مشكلة أخرى مهمة سياسيا، وهي التمييز بين الفرد والنوع بواسطة الجنس، الذي يحذف الفرد لأنه يجب أن يكون هناك دائما اثنان على الأقل لتتم العملية الجنسية، وهذا هو النوع. أريد أن أقول أننا من خلال طريقة فويرباخ في التفكير نستطيع أن نعرف ما كان مطروحا قبله، إنه الإنسان، ولكنه إنسان موزع بين عدة ذوات وموزع بين الفرد والنوع.
    ينتج عن هذا أن النزعة الإنسانية النظرية لدى ماركس تتجه إلى أبعد بكثير من مجرد تصفية الحساب مع فويرباخ: إنه يضع موضع شك فلسفات المجتمع وفلسفات التاريخ القائمة معا، وكذلك التقليد الفلسفي الكلاسيكي، ومن خلال ذلك كل الإيديولوجيا البورجوازية.
    وأقول بالتالي: أن النزعة اللاإنسانية النظرية لدى ماركس هي أولا وقبل كل شيء نزعة لا إنسانية فلسفية. وإذا كان ما قلته يحمل بعض الحقيقة، فيكفي أن نقربه مما ذكرته قبل قليل عن صلات ماركس مع سبينوزا وهيجل ضد فلسفات الأصل والذات لنقتنع بذلك. وبالفعل إذا ما فحصنا النصوص التي يمكن اعتبارها حاسمة في الفلسفة الماركسية، فإننا نرى أنه لا توجد فيها أية مقولة الإنسان أو أية صورة أخرى من صورها الماضية أو الممكنة. فالأطروحات المادية والجدلية التي تؤسس بوضوح كل الفلسفة الماركسية يمكن أن تكون محط كل أنواع التعليقات. وأنا لا أرى أنها قد تتلاءم مع أي تأويل ذي نزعة إنسانية: بل هي، على العكس من ذلك، قد أقيمت لكي مثل هذه التأويلات من حيث هي نوع من أنواع المثالية، ولكي تدعو إلى التفكير بشكل آخر مختلف كل الاختلاف.
    لكننا لم ننته بعد، ذلك أنه بقي علينا أن نتفاهم حول معنى النزعة اللاإنسانية النظرية للمادية التاريخية، أي حول إقصاء أفهوم (Concept ) الإنسان كمفهوم مركزي من قبل النظرية الماركسية عن التشكيلات الاجتماعية وعن التاريخ.
    هل ينبغي مقدما إبعاد اعتراضين اثنين؟ بدون شك، ذلك لأنهما يتولدان من جديد وباستمرار. فالأول يستخلص أن النظرية الماركسية المتصورة بهذا الشكل تنتهي إلى احتقار الناس وإلى شل صراعهم الثوري. لكن الرأسمال مليء بمعاناة المستغلين منذ أهوال التراكم البدائي إلى الرأسمالية الظافرة، وهو قد كتب من أجل تحريرهم من العبودية الطبقية، الأمر الذي لا يمنع ماركس بل يرغمه في نفس المؤلف (أي الرأسمال) الذي يحلل ميكانيزمات استغلال الإنسان، على أن يغض النظر عن الأفراد المشخصين، وعلى أن يعاملهم، نظريا، على أنهم "ركائز" بسيطة لعدة علاقات. أما الاعتراض الثاني: فإنه يقدم مقابل النزعة اللاإنسانية النظرية لدى ماركس الإيديولوجيات ذات النزعة الإنسانية التي -إذا كانت تخدم على وجه العموم الهيمنة البورجوازية- فإنها أيضا، في ظروف معينة وفي شرائح اجتماعية معينة، وحتى في إطار شكل ديني، يمكن أن تعبر عن تمرد الجماهير ضد الاستغلال والاضطهاد. ولكن هذا لا يطرح صعوبة بمجرد أن نعرف أن الماركسية تعترف بوجود الإيديولوجيا وتفسرها حسب الدور الذي تلعبه في صراع الطبقات.
    إن الأمر الذي هو موضوع نقاش وجدل هو أمر آخر تماما: إنه الإدعاء النظري لتصور إنساني بالقدرة على تفسير المجتمع والتاريخ انطلاقا من الماهية الإنسانية، ومن الذات الإنسانية الحرة، ذات الحاجيات، وذات العمل، وذات الرغبة، وذات الفعل الأخلاقي والسياسي. وأؤكد أن ماركس لم يستطع تأسيس علم التاريخ وكتاب الرأسمال إلا شريطة القطع مع الادعاء النظري لكل نزعة إنسانية من هذا النوع.
    ضد كل الإيديولوجيا البورجوازية التي تسربت إليها النزعة الإنسانية يعلن ماركس: "إن المجتمع لا يتألف من أفراد" ولا ينطلق منهجي التحليل من الإنسان، بل من الحقبة الاقتصادية المعطاة"، ويعلن ضد كل الاشتراكيين ذوي النزعة الإنسانية وضد الماركسيين الذين أعلنوا في برنامج غوتا "أن العمل هو مصدر كل قيمة وكل ثروة"، ويعلن: "أن للبورجوازية حججا في غاية القوة بأن ينسبوا إلى العمل هذه القدرة التامة والكاملة على الخلق".
    فهل يمكننا أن نتصور قطيعة أكثر جلاء؟
    يمكننا قراءة أثر ذلك في "رأس المال". فماركس يوضح أن ما يحدد، في المقام الأخير، تشكيلة اجتماعية ما، وما يعطينا عنها معرفة، ليس هو شبح ماهية ما أو طبيعة إنسانية ما، وليس الإنسان، وليس حتى "الناس"، بل علاقة، أي علاقة الإنتاج التي تشكل وحدة مع القاعدة أي مع البنية التحتية. ويبين ماركس، ضد كل مثالية ذات نزعة إنسانية، بأن هذه العلاقة ليست علاقة بين الناس، أي ليست علاقة بين أشخاص، ليست لا علاقة بين الذوات، ولا علاقة سيكولوجية، ولا أنتروبولوجية، ولكنها علاقة مزدوجة: علاقة بين مجموعات من الناس تخص العلاقة بين مجموعات الناس والأشياء، أي تخص وسائل الإنتاج. إن من بين أكبر التضليلات النظرية هو أن نعتقد أن العلاقات الاجتماعية يمكن اختزالها إلى علاقات بين الناس، أو حتى إلى علاقات بين مجموعات من الناس: لأن معنى ذلك افتراض أن العلاقات الاجتماعية علاقات لا تسري إلا على أشخاص، بينما هي علاقات تشمل الأشياء، أي تشمل وسائل الإنتاج المستمدة من الطبيعة المادية. يقول ماركس: إن علاقة الإنتاج هي علاقة التوزيع، فهي توزع الناس إلى طبقات، في نفس الوقت الذي تسند فيه وسائل الإنتاج إلى طبقة. إن الطبقات تتولد من تصارع هذا التوزيع الذي هو في نفس الوقت إسناد، وبالطبع فإن الأفراد الإنسانيين أطراف فاعلة وبالتالي مؤثرة في هذه العلاقة كما لو أن الأمر يتعلق بعقد حر، لكن وقبل كل شيء، من حيث أنهم مأخوذون فيها، وليس كونهم مأخوذين فيها ناتجا عن كونهم فاعلين فيها كما هو الأمر في حالة عقد حر، بل على العكس، فإنهم فاعلون فيها لكونهم منفعلين بها.
    إن من المهم جدا أن نرى لماذا يعتبر ماركس الناس فقط "كدعائم" (supports ) لعلاقة أو "كحاملين" لوظيفة في عملية الإنتاج المحددة بعلاقة الإنتاج. ليس بتاتا، لأنه يختزل الناس في حياتهم العينية إلى مجرد "حاملين" لوظائف: فهو يعتبرهم كذلك لأن علاقة الإنتاج الرأسمالية تختزلهم إلى هذه الوظيفة البسيطة في البنية التحتية وفي الإنتاج، أي في الاستغلال، فعلا إن إنسان الإنتاج الذي يعتبر كعنصر منتج، ليس سوى ذلك بالنسبة لنمط الإنتاج الرأسمالي، أي أنه محدد على أنه مجرد "حامل" للعلاقة، أي على أنه مجرد "حامل وظائف" مجهول كليا، ويمكن تعويضه لأن من الممكن الإلقاء به إلى الشارع إذا كان عاملا، وبإمكانه أن يغتني أو يفلس إذا كان رأسماليا. إنه في كل الحالات خاضع لقانون علاقة من علاقات الإنتاج التي هي علاقة الاستغلال، وبالتالي العلاقة تواجه طبقي. إنه خاضع لقانون هذه العلاقة ولمفعولها. إذا لم نمارس "تعليقا" نظريا على كل التحديدات الفردية المشخصة للبروليتاريين، والرأسماليين، ولحريتهم أو شخصيتهم، فإننا لن نفهم شيئا في "التعليق" العملي الرهيب الذي تخضع له علاقة الإنتاج الرأسمالية الأفراد، والذي لا يعاملهم إلا على أنهم حاملون للوظائف الاقتصادية لا أكثر.
    لكن أن نعامل الأفراد على أنهم مجرد حاملين لوظائف اقتصادية فهذا ليس بدون نتائج على الأفراد. ذلك لأنه ليس ماركس المنظر هو الذي يعاملهم كذلك، بل إن علاقة الإنتاج الرأسمالية هي التي تفعل ذلك !! أن نعامل الأفراد على أنهم حاملون لوظائف قابلة للاستبدال، فهذا معناه، في الاستغلال الرأسمالي الذي هو الصراع الطبقي الرأسمالي الأساسي، أن نحددهم وأن نطبعهم بصورة لا رجعة فيها في جسمهم وفي حياتهم، وأن نختزلهم إلى أن يكونوا مجرد ذيول للآلة، وأن نلقي بنسائهم وأولادهم إلى جحيم المعمل، وأن نمدد لهم يوم العمل إلى أقصى حد، وأن نعطيهم فقط ما يمكنهم من التناسل، كما أن هذا يعني أيضا أن نشكل الجيش الاحتياطي الضخم حيث يستنفر حاملون آخرون مجهولون من أجل الضغط على الحاملين المستغلين الذين كان لهم حظ الحصول على عمل.
    لكن هذا يعني في نفس الوقت خلق ظروف تنظيم صراع الطبقة العاملة. إذ أن نمو وتطور الصراع الطبقي الرأسمالي، أي تطور الاستغلال الرأسمالي هو نفسه الذي يخلق هذه الظروف. فكم من مرة ألح ماركس، على واقعة أن التنظيم الرأسمالي للإنتاج، أي للاستغلال هو الذي يربي، بواسطة الإكراه، الطبقة العاملة على الصراع الطبقي، ليس فقط بتركيز جماهير العمال في مكان العمل، وليس فقط بتجميعهم، ولكن أيضا، بصورة خاصة لكون الاستغلال قد فرض عليهم نظاما مهولا في العمل وفي الحياة الجماعية وهو هذا النظام الذي سوف يتحمله العمال لكي يعيدوه على شكل تحركات جماعية ضد سادتهم.
    لكن من أجل هذا يجب أن يكونوا في نفس الوقت أطرافا فاعلة ومنفعلة ضمن علاقات أخرى.
    وذلك أن التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية لا تختزل فقط إلى علاقة الإنتاج الرأسمالية، أي إلى بنيتها التحتية فقط. إن الاستغلال الطبقي لا يمكن أن يستمر، أي أن يعيد إنتاج ظروفه، دون الاستعانة بالبنية الفوقية، وبدون العلاقات القانونية-السياسية والعلاقات الإيديولوجية التي هي محددة بعلاقات الإنتاج في آخر المطاف. إن ماركس لم يشرع في هذا التحليل إلا من خلال بعض الإشارات المختصرة. ولكن كل ما قاله لنا يضعنا على طريق تصور أن هذه العلاقات تعامل هي أيضا الأفراد الإنسانيين العينيين على أنهم "حملة" للعلاقات وعلى أنهم "ركائز" للوظائف حيث لا يكون الناس أطرافا فاعلين في هذه العلاقة إلا لأنهم منفعلون فيها. وهكذا، فالعلاقات القانونية تغض النظر عن الإنسان العيني لكي تعامله على أنه مجرد "حامل للعلاقة" القانونية، وعلى أنه مجرد موضوع قانوني، قادر على التملك، ولو أنه لا يمتلك سوى قوة عمله عارية. وهكذا أيضا تغض العلاقات السياسية النظر عن الإنسان الحي لتعامله كمجرد "ركيزة" للعلاقة السياسية، كمواطن حر، حتى ولو كان صوته الانتخابي يقوي عبوديته. وهكذا فإن العلاقات الإيديولوجية تغض النظر عن الإنسان الحي لتعامله كمجرد موضوع خاضع أو رافض للأفكار المهيمنة. لكن كل هذه العلاقات الي تجعل كل واحدة منها من الإنسان العيني ركيزتها، وتحدد وتطبع -مثلها في ذلك مثل علاقات الإنتاج- الناس في جسمهم وفي حياتهم. ومن حيث أن علاقة الإنتاج هي علاقة صراع طبقي، فإن الصراع الطبقي هو الذي يحدد في المقام الأخير علاقات البنية الفوقية وكذا تناقضاتها، والتحديد المتعدد (surdétermination ) الذي تطبع به هذه العلاقة البنية التحتية.
    وكما أن الصراع الرأسمالي يخلق، في الإنتاج، شروط الصراع الطبقي العمالي، فإننا نرى كذلك أن العلاقات القانونية والسياسية والإيديولوجية تساهم في تنظيم الطبفة العاملة وفي وعيها وذلك عبر الضغط الذي تمارسه هذه العلاقات، إذ أن صراع الطبقة البروليتارية قد تربى سياسيا في إطار وفي حضن العلاقات البورجوازية وبواسطة نضال الطبقة البورجوازية نفسها. فالكل يعرف أن البورجوازية لم تستطع قلب النظام القديم، وعلاقاته الإنتاجية، ودولته، دون أن تجند الجماهير الشعبية في صراعها. والكل يعرف أن البورجوازية لم تستطع الانتصار على الملكية العقارية الكبيرة إلا بتجنيد البروليتاريين في معركتها السياسية لتضحي بهم فيما بعد. إن البورجوازية، بواسطة قانونها وإيديولوجيتها وكذلك بواسطة رشاشاتها وسجونها، قد ربت العمال أيضا على الصراع الطبقي السياسي والإيديولوجي بما في ذلك إرغامهم على أن يفهموا أن الصراع الطبقي للبروليتاري ليست له علاقة بالصراع الطبقي للبورجوازية، كما ربتهم على خلخلة إيديولوجيتها.
    وهنا تدخل فكرة المطاف الأخير (La dernière instance ) أو اللعبة المتناقضة التي تحدثها في "البناء" لكي تلفت الانتباه إلى جدلية هذه الظواهر التي لا تخلو من مفارقات، التي كان ماركس يفكر فيها، ليس بالاستعانة بالمفهوم المزيف للإنسان، ولكن ضمن مفاهيم أخرى مختلفة تماما: علاقة الإنتاج، الصراع الطبقي، العلاقات القانونية والسياسية والإيديولوجية. من الناحية النظرية، لعبة المطاف الأخير تمكننا من مراعاة اختلاف وتفاوت أشكال الصراع الطبقي انطلاقا من الصراع الاقتصادي إلى الصراع السياسي والإيديولوجي، وبالتالي انطلاقا من لعبة التفاعلات الموجودة بين الصراعات، وانطلاقا من المتناقضات الموجودة في هذا الصراع.
    إن النزعة اللاإنسانية النظرية لدى ماركس في المادية التاريخية هي إذن رفض تأسيس تفسير التشكيلة الاجتماعية وتفسير تاريخها انطلاقا من مفهوم للإنسان ذي ادعاء نظري، أي كذات أصلية لحاجياتها (الإنسان الاقتصادي Homo-economicus ) وأفكارها (الإنسان العاقل Homo-Rationalis ) وأفعالها وصراعاتها (الإنسان الأخلاقي، القانوني والسياسي Homo-morolis, Juriducus, Politicus ) ذلك لأننا عندما ننطلق من الإنسان، فإننا لا يمكن أن نتجنب الانزلاق المثالي نحو الاعتقاد في القدرة التامة للحرية، أو للعمل الخلاق، أي أننا إنما نخضع ونتلقى بكل "حرية" القدرة التامة للإيديولوجيا البورجوازية المسيطرة، التي تعتبر وظيفتها هي حجب وفرض قدرة أخرى أكثر واقعية، وقادرة بشكل آخر، أي قدرة الرأسمالية، وذلك على هيأة أنواع وهمية من القدرة الحرة للإنسان، إذا كان ماركس لا ينطلق من الإنسان، ويرفض أن يولد نظريا المجتمع والتاريخ انطلاقا من مفهوم للإنسان، فذلك لكي يقطع مع هذا التضليل الذي لا يعبر إلا عن ميزان قوة إيديولوجي يجد أساسه في علاقة الإنتاج الرأسمالي. إن ماركس إذن ينطلق من العلة البنيوية التي تنتج هذا الأثر الإيديولوجي البورجوازي الذي يحافظ على وهم ضرورة الانطلاق من الإنسان: إن ماركس ينطلق من التشكيلة الاقتصادية المعطاة، وبالضبط في "رأس مال، من علاقة الإنتاج الرأسمالية ومن العلاقات التي تحددها هذه العلاقة في البنية الفوقية في المقام الأخير. ويبين في كل مرة أن هذه العلاقات تحدد وتطبع الناس، وكيف أنها تطبعهم في حياتهم الشخصية العينية، وكيف أن الناس العينيين يتحكم فيهم نسق هذه العلاقات عبر منظومة صراع الطبقات. يقول ماركس في المقدمة سنة 1857 : إن العيني هو تركيب لتحديدات متعددة، يمكننا أن نأخذ تعبيره من جديد ونقول: إن الناس العينيين محددون من طرف خلاصة التحديدات المتعددة من العلاقات التي هم مأخوذون فيها وأطراف فاعلة. إذا كان ماركس لا ينطلق من الإنسان الذي هو فكرة فارغة، أي مثقلة بالإيديولوجية البورجوازية، فذلك ليصل إلى الناس العينيين الملموسين، وإذا كان يمر عبر هذه العلاقات التي "يحملها" الناس العينيون، فذلك من أجل التوصل إلى معرفة القوانين التي تتحكم في حياتهم وفي صراعاتهم الملموسة.
    ربما كنا قد أشرنا إلى أن مرور ماركس عبر العلاقات، لم يبعده في أية لحظة عن الناس العينيين الملموسين، إذ أنه في كل لحظة من لحظات عملية المعرفة، أي في تحليله، يبين كيف أن كل علاقات الإنتاج -ابتداء من علاقات الإنتاج الرأسمالي التي تحدد في المقام الأخير كل العلاقات الأخرى القانونية والسياسية- هي التي تطبع الناس في حياتهم الملموسة التي تتحكم فيها أشكال ومفعولات الصراع الطبقي. إن كل "تجريد" لدى ماركس يقابله "تجريد" تفرضه هاته العلاقات على الناس، وهذا التجريد المشخص بشكل رهيب، هو ما يجعل الناس عمالا مستغلين أو رأسماليين مستغلين. وقد أشرنا أيضا إلى أن الحد النهائي لهذه العملية الفكرية أي "المشخص الفكري" الذي ينتهي إليه، هو هذا التركيب من المحددات المتعددة التي تحدد ملامح المشخص الواقعي.
    كان ماركس يضع نفسه بهذه الطريقة في مواقف طبقية، وكان يضع نصب عينيه الظواهر الجماهيرية لصراع الطبقات. كان يريد أن يعطي للطبقة العاملة إمكانية فهم ميكانيزمات المجتمع الرأسمالي وأن يكشف لها عن العلاقة والقوانين التي تعيش في ظلها، وذلك من أجل تقوية وتوجيه صراعها. لم يكن له موضوع آخر سوى صراع الطبقات، وذلك من أجل مساعدة الطبقة العاملة على القيام بالثورة وبالتالي القضاء -عند المرحلة القصوى للشيوعية- على الصراع الطبقي وعلى الطبقات.
    إن كل اعتراض قريب من الجدية على هذه النزعة الإنسانية النظرية المضادة لدى ماركس يعتمد -وأنا أعترف بذلك صراحة- على النصوص التي تتحدث في كتاب رأس المال عن موضوع الاستلاب. وأنا أذكر تجاوزا موضوع هذه النصوص لأنني لا أعتقد أن المقاطع التي تم التحدث فيها عن الاستلاب كانت لها أهمية نظرية، وأني لألمح من خلال ذلك إلى أن الاستلاب لم يظهر فيها كمفهوم مفكر فيه بحق، بل كبديل لعدد من الوقائع التي لم تتبلور بعد، حتى يتمكن ماركس من الالتجاء إليها: أي في أفق أشكال التنظيم وصراع الطبقة العاملة. إن موضوع الاستلاب في رأس المال يأخذ صورة مفهوم أو بالأحرى مجموعة من المفاهيم التي تتشكل بعد، وذلك لأن الشروط الموضوعية والتاريخية لم تنتج موضوعها بعد. وإذا كان لهذه الفرضية أساس فإننا يمكن أن نفهم بأن استجابة الكومونة لما توقعه ماركس، قد جعلت موضوع الاستلاب متجاوزا، كما جعلته الممارسة السياسية للينين متجاوزا. وفعلا بعد الكومونة لم يعد هناك مجال لطرح مسألة الاستلاب لدى ماركس، كما في مؤلفات لينين الهائلة.
    إن تلك مشكلة لا تلزم فقط النظرية الماركسية، بل تلزم أيضا الأشكال التاريخية لانصهارها مع الحركة العمالية. وهذا المشكل هو اليوم مشكل مطروح بشكل واضح وصريح، ويتعين دراسته وفحصه.

    النص مأخوذ من:
    Louis Althusser : Positions Ed. Sociales Paris, p. 159-172.

    ترجمة: د. محمد سبيلا


    http://ebn-khaldoun.com/traduction.php?article=10
                  

12-05-2012, 06:41 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: عبد الحميد البرنس)

    نص..ألتوسير بين جنونه وسيرته
    سعيد بوخليط نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 26 - 10 - 2010
    توفي الفيلسوف الماركسي الفرنسي، لوي ألتوسير يوم 22 أكتوبر 1990، بعد أن راكم متنا نظريا مهما، بوّأه مقاما، ضمن أهم فلاسفة القرن العشرين، الذين أحدثوا نقلة نوعية على مستوى تاريخية المفاهيم. كلنا، يعلم إضافاته الرصينة إلى الأدبيات الماركسية، نتيجة إعادة قراءته لنصوص ماركس وكذا التأويلات المنهجية الجديدة التي رافقت هذه القراءة، في أفق إخراج النظرية من عنق زجاجة التمثل الأرثوذوكسي، العقائدي الجامد، كما عانته داخل تنظيمات اليسار التقليدي، لاسيما في أوجهها الستالينية، والبحث عن الآفاق الرحبة التي تفتحها المقاربات الإبستمولوجية. مستفيدا من مؤلفات باشلار وفرويد وستراوس ولاكان والبنيويه.
    بيد، أنه لا أحد من تلامذة ألتوسير وأتباعه وعشاقه، بل خاصة المدرسة الفلسفية الفرنسية، واليسار الفرنسي، قد توقع لوهلة، صيرورة عبقريته الأريبة إلى تلك النهاية المأساوية، بعد الحادث الذي جرى يوم 16 نوفمبر 1980، حينما قتل زوجته «هيلين» داخل شقتهما المتواجدة بالمدرسة العليا بباريس، جراء إصابته بحالة جنون حادة، مما شكل انقلابا في مصير ألتوسير، لم يكن واردا في الحسبان. يقول : «لقد قمت بخنق زوجتي التي جسدت لديّ كل العالم، إبان أزمة عصبية طارئة، شهر نوفمبر 1980 نتيجة خبل ذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة أنها توخت الموت إذا عجزت عن تحقيق ذلك. بلا شك، لحظة جنوني وبممارسة لا واعية «قدمت لها، هذه الخدمة» وماتت دون أن تقاوم عن نفسها».
    حيثيات القضية، سيتطرق إليها، ألتوسير عبر صفحات سيرته الذاتية، التي جاءت تحت عنوان :
    ( avenir dure longtemps l المستقبل يدوم طويلا) عن منشورات «ستوك» سنة 1992، فترة بعد وفاته. فقد وُجدت السيرة محفوظة بين ثنايا أرشيفه، الذي تكفل به منذ يونيو 1991، «معهد حفظ ذاكرة الإصدار المعاصر» (IMEC)، من أجل تأمين القيمة العلمية لهذا التراث الإنساني.
    أكد، «أوليفيي كوربت» و»يان موليي بوتان»، اللذان أشرفا على إخراج سيرة ألتوسير، بأن القرار جاء بعد مبادرة من «فرانسوا بوديرت» الوريث الوحيد لألتوسير، كحلقة أولى في إطار سلسلة أعمال، ظلت بحوزة الفيلسوف ولم يكشف عنها، من ذلك مثلا مشروع سيرته الذاتية ثم مذكرات أسره المكتوبة فترة اعتقاله عند الألمان بين سنوات 1940 و 1945، إلى جانب مؤلفات ذات طابع فلسفي محض، ونصوص متنوعة سياسية وأدبية، ثم العديد من مراسلاته. ولحظة، أراد الباحثان، تهيئ الإصدار، فقد سعيا إلى تجميع شهادات عن مرجعيات مختلفة: أصدقاء ألتوسير، مذكرات، إشارات، قصاصات صحافية، رسائل، أي كل ما يمكنه إعادة رسم المعالم والمؤشرات بل والأصول التي يستند عليها ألتوسير.
    نشرت الروائية «كلود ساروت» مقالا بجريدة «لوموند» يوم 14 مارس 1985، استحضرت في إطاره حادثة قتل افتراسي، لشابة هولندية من طرف ياباني اسمه «إيسي ساغوا»، ثم النجاح الذي عرفه العمل الموثق لمعطيات الجريمة داخل اليابان. طُرد القاتل نحو بلده، بعد حكم قضائي بإسقاط الدعوى، وإقامة قصيرة بمستشفى فرنسي للأمراض العقلية. حتى الآن، كان الحديث عاديا، لكن حين، قالت «ساروت» : «نحن في الإعلام، ما إن نرى اقتران اسم نافذ بمحاكمة تسيل اللعاب كما هو الحال مع «ألتوسير» أو «تيبو دورليان» Thibaut d orléans، حتى نصنع من الأمر طَبَقا. صاحب الجريمة، نجم، أما الضحية فلا تستحق غير ثلاثة سطور». مباشرة، بعد شيوع محتويات المقال، فإن كثيرا من أصدقاء ألتوسير، نصحوه بالاحتجاج على الجريدة بسبب ورود جملة «محاكمة تسيل اللعاب»، لكنه انتصر إلى رأي زملاء آخرين، والذين رغم انتقادهم لما صرحت به «ساروت»، اعتبروا مع ذلك، بشكل من الأشكال، أن ملاحظتها كشفت النقاب، عن نقطة أساسية، تتعلق بأن انعدام محاكمة ألتوسير بسبب قتله زوجته، يعود إلى استفادته من مبدأ إسقاط الدعوى. اتهام، أرغمه على كتابة رسالة تراجع على إرسالها إلى صديقه الحميم «دومنيك لوكور» معترفا له بعدم رغبته «كي يظهر ثانية في المشهد العمومي» قبل أن يوضح بدقة ما وقع له ذاك اليوم، بمعنى ضرورة صياغته نصا «سير ذاتيا، يبيّن مواقفه من المأساة و»معالجتها» الإدارية وكذا الاستشفائية ثم بالطبع سببها».
    للإحاطة بمختلف المعطيات، راسل ألتوسير مجموع أصدقائه بالخارج، راجيا منهم تزويده بكل القصاصات الصحافية التي تحدثت عنه بعد نوفمبر 1980، كما فعل الشيء ذاته مع الصحافية الفرنسية، حيث جمع أو طلب من معارفه تزويده بتوثيق مسهب، يهم القضايا القانونية لسقوط الدعوى، ثم الفصل 64 من القانون الجنائي 1938، وكذا، نتائج التقارير المرتبطة بالأمراض العقلية والنفسانية. التمس، منهم أيضا، أن يطلعوه على الجرائد الصادرة إبان تلك السنوات أو يحيطوه علما بالوقائع، التي لم يعد يتذكر بعض مظاهرها. كما، استفسر طبيبه وكذا المسؤول عن متابعته النفسية، بخصوص العلاجات التي خضع لها، وما تناوله من أدوية، وأحيانا كان يوثق حرفيا تفسيراتهم وتأويلاتهم، ويسجل جانبا مختلف الأحداث والوقائع والتأملات والاستشهادات والكلمات المتناثرة. باختصار، كل المعطيات العملية والشخصية والسياسية أو النفسانية، فهيأت، جل روافد العمل التحضيري الذي ساعد على تأليف خيوط سيرته الذاتية. كشف، ألتوسير مرات عديدة لبعض الناشرين، عن رغبته لإنجاز مثل هذا العمل، لكن دون أن يفصح عن المسودة أو على الأقل تقديمها في نموذجها النهائي. كل شيء، إذن يظهر مراعاته أقصى الاحتياطات، حتى لا يتم تداولها على النقيض مما اعتاده مع نصوصه. لذا، لا نعثر بين أرشيفاته على أية نسخة مصورة. كما، اقتصر عدد الأشخاص الذين أمكنهم قراءة المسودة في مجملها أو قسم دال منها، على بعض المقربين، مثل «بوليت الطيب»، «ساندرا سالومون»، «ميشيل لوا»، «كلودين نورمان»، «هيلين تروازيي» ثم «أندري توسيل»، هذا الأخير، سيخبرنا بأنه لم يتمكن من قراءة العمل إلا شهر ماي 1986، برفقة ألتوسير في بيته دون تدوين ملاحظات، أما صياغة المسودة ورقنها على الآلة الكاتبة، فقد أخذ غالبا أسابيع قليلة ابتداء من آخر أيام مارس إلى بداية ماي 1985، ثم سلم العمل منتهيا إلى «ميشيل لوا» من أجل قراءته.
    أيضا، حين توخى ألتوسير كتابة : المستقبل يدوم طويلا، لاسيما في فصوله الأولى، وجد نفسه بكل بداهة، تحت وقع تأثير سيرته الذاتية السابقة المعنوية ب : les faits (الوقائع). نص، اشتغل عليه ألتوسير سنة 1976، ثم سلمه إلى ريجيس دوبري، الذي خصصه، لعدد كان يفترض نزوله إلى الأسواق، يدشن لمجلة جديدة تسمى : (ca ira)، أُعلن عنها سابقا، لكنها لم تعرف النور. بالتالي، بقي مجهولا.
    مع ذلك، قد لا يجوز كثيرا، قراءة الفصلين باعتبارهما سيرة ذاتية. بحيث، أفصح في تقديمه الأول ل «المستقبل يدوم طويلا»، أنه لم يقصد وصف طفولته، كما مرت، ولا أعضاء، أسرته في حقيقتهم بل استرجاع التصور، الذي قاده إلى كتابة العمل. يقول ألتوسير : «أتكلم عنهم كما أدركتهم وأحسست بهم، مع العلم جيدا، كما الشأن في كل إدراك نفسي، أن ما قد يصيرونه، استُثمر قبل ذلك دائما، بين طيات الانعكاسات الاستيهامية لاضطرابي النفسي». فأسس تاريخا لهواجس، تتموضع في قلب الخيال بالمعنى القوي للمفهوم، أي الوهم بل الهذيان. يضيف ألتوسير : «لقد حرصت فعلا، على امتداد تداعيات هاته الذكريات، بأن أمتثل بصرامة للوقائع : لكن الهلوسات، وقائع أيضا»، مما يروم بنا إلى تمييز جلي لحلقتي سيرته الذاتية، وقد تحدد كل واحد منها داخل مسار مختلف. في حين، تندرج «الوقائع» ضمن النموذج الكوميدي، تتجلى التراجيديا بالنسبة للجزء الآخر «المستقبل يدوم طويلا».
    إذن، إذا ولجنا مع هذين النصين، إلى التخيل والهلوسة، فلأن مضمونهما الجنون أي الإمكانية الوحيدة، التي من خلالها تتصرف ذات ألتوسير، كمجنونة وقاتلة، لكن مع بقائه دائما فيلسوفا وشيوعيا. وإذا وضعنا الجنون، أمام وثائق واصفة للأمراض، مثل : «ذاكرة الرئيس شريبر» Shreber، الدراسة التي قام بها فرويد، أو عمل، «بيير ريفيير» : ( أنا بيير ريفيير، لقد ذبحت أمي وأختي وزوجتي)، بمقدمة ل ميشيل فوكو، سنفهم حينئذ كيف لمفكر ذكي جدا، وفيلسوف محترف أن يسكن جنونه وكذا علاجه من المرض العقلي ؟ كيف يمتطي الفكر الجنون، دون أن يكون قط رهينة له أو رغبته المتوحشة ؟ كيف إذن لتاريخ حياة، الانزلاق نحو الجنون مع وعي صاحبها الحاد بذلك ؟ كيف فكر الفيلسوف في تأليف عمل كهذا ؟ هل يمكن ترك حالة ألتوسير للأطباء والقضاة ؟ هل بكتابته عن حياته الخاصة، استطاع الهرب إلى مصير ما بعد وفاته ؟ ...
    شيء راسخ، أن سيرة ألتوسير، تحتل بقوة حيزا جوهريا ضمن مشروعه الفكري.

    http://www.maghress.com/alittihad/117385
                  

12-06-2012, 08:47 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: عبد الحميد البرنس)

    لنزعة الماركسية عند ألتوسير أو بنيوية موت الإنسان



    سهمي سعيد
    17-05-2012, 02:26 AM
    شاء القدر أن يولد لوي ألتوسير سنة 1918 في بلد منكوب ومستعمر ، إنه الجزائر التي كانت تعتبر إلى زمن قريب مقاطعة فرنسية والتي أنجبت فلاسفة أفذاذا أمثال ألبير كامي ولوي ألتوسير الذي حصل سنة 1948 على الإجازة من مدرسة المعلمين العليا، شهادة أهلته للتدريس بنفس المؤسسة، لينضم بعد ذلك إلى صفوف الحـــــــــــزب الشيوعي ويكرس حياته في خدمته باسم الماركسية العلمية، كما أنتج كتبا عدة في هذا الاتجاه مثل:"مونتسكيو: بين الفلسفة والتاريخ"-."دفاعا عن ماركس"-"قراءة رأس المال"-"لينين والفلسفة"
    في الواقع يبدو من الصعب جدا الإمساك بالاتجاه الفكــــــــــــــــــري والإيديولوجي البحت لألتوسير نظرا للاضطرابات الواضحة داخل أفكاره الفلسفية والتحولات الحاصلة في مسار نظريته الماركسية.
    لكن من المحقق جدا أن ألتوسير عرف بماركسيته العلمية وبوفائه للحزب الشيوعي الفرنسي كأحد ركائز لجنته المركزية وإن أثار زوبعات تنظيرية جعلت رفاقه ينظرون إليه نظرة عدائية على أنه عدو للحزب لا صديقا وفيا ل.
    ولقد كان ألد خصومه في الحزب روجيه غارودي، اليساري المعروف والذي أفرد فصلا خاصا يسرد فيه مؤاخذاته على الرفيق ألتوسير في كتابه "البنيوية-فلسفة موت الإنسان"، وتبرز أهم مؤاخذاته في كون ألتوسير إذ كان يبحث في اتجاهه الماركسي عن الدقة العلمية فوضع مقابلة بين العلم والإيديولوجيا ودعا إلى التطهير المفهومي قد أنشأ نظرية دوغمائية تقوم على بنيوية مجردة غير قابلة للتطبيق على الواقع، بنيوية قتلت الإنسان وتاريخه لأنه سعى إلى خلق ما يسمى بالقطيعة المعرفية في أعمال ماركس والى تصور المعرفة باعتبارها إنتاجا وإلى اعتبار
    النظرية ممارسة لا تحتاج إلى تجربة في مجال علم آخر كما هو الحال للرياضيات ناسيا، برأي غارودي، دور الممارسات التقنية والمشكلات الفيزيائية في إرساء الرياضيات وخلق تجديدات ثورية فيها.
    من جانب آخر ومن خلال قراءته البنيوية لأعمال ماركس يتجلى خطأه في اعتبار أشكال المعرفة كلها إيديولوجيا ينتجها المجتمع، كما هو الحال للأخلاق يقول:"الأخلاق في جوهرها إيديولوجيا"(البنيوية- غارودي ص.56 وانظر مع ماركس145) بل إن العالم عنده ،في نفس الكتاب، ليس سوى"عالم الأخلاق والسياسة والدين، وباختصار عالم الأساطير والمخدرات".
    إن نظريته تنبني على القطيعة والانفصال، القطيعة الجذرية للنظرية عن التاريخ، أي أنه يدعو إلى قطيعة مع المادية التاريخية‘ بل قطيعة مع الإنسان حين أعلن:" إن التاريخ مسيرة، ولكن بدون ذات"(زكريا إبراهيم،مشكل البنية ص.5). وإذا كان في هذا الصدد ينتقد جوهر الفكر الماركسي المؤسس على التاريخ فهويدعو إلى خلق قطيعة مع مجموعة من أعمال ماركس، أو بالأحرى مع مراحل معينة من حياته خاصة مرحلة الشباب وبالأخص ولاءه لهيجل، الأب الروحي لماركس، حين يقول:"علينا ان نتحاشى فخ قراءة هيجلية للرأسمال، قراءة تزعم أن شكل البضاعة يحتوي بذرة
    سائر تناقضات نمط الإنتاج الرأسمالي"( البنيوية. ص.65).وإذا علمنا أن جوهر الماركسية يقوم على أعمال هيجل كما في تأكيد إنجلز"إن الاشتراكية العلمية ما كان لتوجد قط لولا الفلسفة الكلاسيكية اللمانية، وعلى الأخص لولا كانط وفيخته وهيجل"(مقدمة 1875 لحرب الفلاحين-البنيوية ص.69)، إذا علمنا ذلك فهمنا التناقض الكبير الذي وقع فيه ألتوسير الذي يزعم أنه ماركسي ويتنكر لجذور فكره في الوقت ذاته. وليجد لنفسه مخرجا يدعونا إلى قراءة بنيوية أعراضية لأعمال ماركس كما تعامل لاكان مع فرويد. وهذا سيدفعه، طبعا، إلى تخطيء ماركس وإنجلز
    لاعتمادهما النزعة التجريبية للمعرفة ، كما أنه سينتقد مفهوم الإنتاج عند ماركس( المبني على إنتاج البضاعة الخاضعة للتقسيم الاجتماعي)ليعوضها بعلاقات الإنتاج والتي اعتبرها في قراءة الرأسمال الفاعل الحقيقي بقوله" الفعلة الحقيقيون هم علاقات الإنتاج"(البنيوية ص.86)".
    ويبقى لينين مثال ألتوسير كماركسي علمي طهر فلسفة ماركس من كل أفكار هيجل مما جعله ينجح في إقامة ديكتاتورية البروليتاريا. ولنتساءل الآن: كيف استغل ألتوسير شروط البنيوية في ماركسيته العلمية؟
    إن علم اللغة البنيوي كما هو معروف، يعتبر أن نسق العلاقات المعجمية هو جزء من مقدرتنا اللغوية ، وهي تنبع من تجربة القارئ، الذي يعتبره البنيويون أداة للتحليل ووسيلة لإعادة قراءة النص( انظر عصر البنيوية، إديث كيرزويل.ص.49)،وإذا كان لاكان قد قرأ فرويد قراءة بنيوية فإن التوسير دعا، بدوره، إلى قراءة ماركس قراءة تعتمد الأبنية اللاواعية أو بطريقة أعراضية وهذه القراءة هي التي ستكشف عن الأبنية اللاواعية الخفية في الفكر الماركسي عن طريق تفسير التحولات والتناقضات والأغلاط التي وقع فيها ماركس وذلك ما سيمكننا من
    إنتاج نص مختلف. إنه في النهاية كان يسعى إلى خلق محاولة توفيقية أو تلفيقية( برأي زكريا إبراهيم) بين الماركسية والبنيوية.
    ولعل قراءته تلك لماركس هي ما جعلته يتخلى عن ماركس نفسه، أو على الأقل يتخلى عن أهم أعماله خاصة الرأسمال والبيان وفقر الفلسفة ليقتصر على جزء ضئيل من أعماله كالاقتصاد السياسي أي أعمال ما بعد 1857.
    إن ألتوسير لعب دور الماركسي الحر رغم اشتراكيته المعروفة ورغم قيادته للحزب الشيوعي، أو إنه كان ماركسيا من نوع خاص، فادعاؤه أنه ماركسي حر لم يمنعه من إنشاء فكر مقيد لحرية الأفراد، برأي غارودي، حيث اختزل الإنسان وجعله مجرد " ركيزة" للعللاقات المتحدة بالبنية، إنه، بذلك، خلق فكرا ماركسيا جبريا رفضه ماركس وإنجلز وموريس توريز أنفسهم حين أعلنوا أنه (لا الاشتراكية جبرية ولا البؤس جبري ولا الحرب جبرية)، كما أخطأ حين همش معظم أعمال ماركس وهاجم كل النظريات التاريخية والإنسانية والانتروبولوجية.
    ولعل أخطاءه هذه هي التي ستجعل معظم تلاميذه يتخلون عنه لصالح الاتجاه الماوي(نسبة إلى ماوتسي تونغ) الذي يطالب بسلطة نظرية مستقلة عن سياسة الحزب الشيوعي الفرنسي، ليلفتوا إليهم أنظار الرأي العام كفلاسفة جدد.
    ولهذا أيضا، وبعد انهزام تجمع اليسار الشيوعي والاشتراكي في انتخابات 1978 سيتلقى انتقادات حادة من رفاقه، بعد أن تخلى عنه بعضهم كرفيقه روجيه غارودي، كما سيعجز عن إنقاذ حزبه بعد فشله في إقامة تحالف مع الحزب الشيوعي الإيطالي. وبذلك أيضا ستعلن فلسفته عن فشلها كما تنبأ بذلك أندريه جلوكسمان سنة 1967 لأنها تفتقد إلى التماسك الداخلي.
    لقد كان يحلم بنقل بنيويته إلى الممارسة،
    لكن ذلك ظل مستبعدا لأنه كما تقول كيرزويل" ظل منقسما على نفسه، رجله اليمنى الواهية تقف على الفلسفة ورجله اليسرى على أرض السياسة المراوغة"(انظر عصر البنيوية ص.61).
    لكن علينا في نهاية المطاف أن لا نبخس الناس أشياءهم، ولا ننكر أن ألتوسير على الرغم من التناقضات التي وقع فيها كماركسي ورافض للمادية التاريخية، إلا أنه ألهمنا أنه يمكن قراءة ماركس قراءات متعددة غير تلك التي خصه بها قادة الاتحاد السوفياتي، كما تنبأ بفشل الاتجاهات الماركسية التي تستغل أفكار ماركس استغلالا سلبيا لاستقطاب الجماهير المسحوقة في المجتمع، كما أنه نجح أخيرا في أن يؤكد لنا نسبية ما كان يعتبر حقائق ثابتة عند دعاة الماركسية.
    سعيد سهمي

    http://www.mdaad.com/vb/archive/index.php/t-17302.html
                  

12-07-2012, 08:58 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر رسائله إليها، تشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي ق (Re: عبد الحميد البرنس)

    لويس ألتوسير قارئا لماركس


    تمهيد يعد ألتوسير L.Altusser من أهم النقاد والفلاسفة الذين عرفتهم فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين الى جانب ميشال فوكو M>Faukault وجاك دريدا J.Derida وجاك لاكان J.Lacan وقد عرف ألتوسير بمحاولاته النظرية المتميزة، الهادفة الى إخضاع الماركسية لنسق المقاربة البنيوية، ومن ثم تخليصها من طابعها الايديولوجي التعميمي.

    والحقيقة أن ألتوسير لم يكن سباقا الى هذا النهج، فقد سبقه إلى ذلك مواطنه لوسيان سيباغ L.Sebag الذي تميزت مقارباته بالجذرية، مما أدى به الى طرده من الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 6591، ومن جملة ما طرحه سيباغ اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، وإنكار مبدأ الحتمية في النظرية الماركسية، وعدم اعتبار العامل الاقتصادي أساس الحركة التاريخية، إضافة الى الاعتراف بدور الأنظمة الايديولوجية (الفكر، الدين، الثقافة،...) في حركة التاريخ(1).

    أنجز ألتوسير كتابين هامين في سياق قراءته الجديدة لماركس، وهما «قراءة رأس المال» Lire le Capital و«من أجل ماركس» . Pour Marx ويرى عمر مهيبل ان ألتوسير نزع الى هذه القراءة بدافع سببين:

    1 - شعوره بالنقص النظري للفلسفة الماركسية في فرنسا، بفعل انصراف الماركسيين الفرنسيين الى السياسة.

    2 - الرد على النزعة الانسانية التي روج لها بعض الماركسيين الفرنسيين أمثال جارود R.Garaudy ، والتي رأى فيها ألتوسير إفقارا للماركسية، وتجاوزا لطابعها العلمي.(2)

    القراءة المنهجية لرأس المال:

    يعد منهج ألتوسير من المناهج البنيوية المغرقة في الصرامة العلمية، لقد انتهى الى تقسيم مسار ماركس الفكري الى مرحلتين كبيرتين:

    مرحلة الشباب التي كان فيها متأثرا بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ومرحلة الكهولة والنضج التي قطع فيها ماركس مع ماضيه الايديولوجي والمثالي، ليبلور مقاربة علمية، تبدو بصورة واضحة في كتابه «رأس المال».

    من خلال هاتين المرحلتين، يبدو ماركس قد حقق قطيعة ابستيمولوجية ونقلة معرفية من الممارسة الايديولوجية الانسانية الى الممارسة العلمية والنظرية، ومن التأثير الهيغلي- الفيورباخي الى الوعي الأصيل بضرورة قراءة الأشياء قراءة نسقية، تكشف عن بنيتها الخفية ونظامها الهيكلي، بدل الاكتفاء بالتأمل الفلسفي.

    يرى ألتوسير أن القراءة الحقيقية التي يمكنها أن تكشف عن ثراء رأس المال هي القراءة الفلسفية، فقد قرئ الكتاب من قبل علماء الاقتصاد والمؤرخين، ولكنه لم يقرأ من قبل فلاسفة ومنظرين، يكشفون عن إشكاليته النظرية الجوهرية.

    إن قراءة «رأس المال» من الزاوية الفلسفية يعني التساؤل عن المكانة التي تحتلها في تاريخ المعرفة. ومن هنا يطرح ألتوسير جملة من الأسئلة يلخصها في قوله: «هل أن رأس المال هو مجرد نتاج ايديولوجي من بين نتاجات ايديولوجية اخرى؟ هل هو اعادة تشكيل هيغلي للاقتصاد الكلاسيكي، ومحاولة فرض مقولات انتربولوجية محددة في المؤلفات الفلسفية للشباب، أو تحقيق لطموحات مثالية في «المسألة اليهودية» ومخطوطات 4481. هل أن رأس المال هو مجرد تكملة للاقتصاد السياسي الكلاسيكي الذي ورثه ماركس بموضوعه ومفاهيمه؟ وهل يتميز رأس المال عن الاقتصاد السياسي فقط بموضوعه ومنهجه الجدلي الذي اقتبسه من هيغل؟ أم أنه نقلة ابستيمولوجية حقيقية في موضوعه ونظريته ومنهجه... ».(3)

    القراءة الجديرة بنص ماركس في نظر ألتوسير هي «القراءة العرضية» Lecture Sympthomale وهي التي تنحو الى تتبع ما في الخطاب من فجوات La cunes ، وبياضات، وأماكن يظهر فيها خطاب ماركس وكأنه ما لم يقله الصمت Le non dit du silence على حد قول ألتوسير.(4) إنها قراءة تبحث في لا وعي الخطاب، في صمته وتناقضاته، قراءة تفكيكية منتجة باختصار.

    يصف ألتوسير هذه القراءة بأنها غير بريئة، بل أكثر من ذلك تطالب بحقها في الخطأ. ويرى أنه منذ فرويد بدأنا نتهم السمع والكلام، وبدأنا نتساءل عن القصد منهما، وأخذنا نكتشف خطاب اللاوعي. لقد كان ماركس الشاب يمارس قراءة العالم، وهو يكشف جوهر الأشياء، وجوهر العالم التاريخي والانساني وانتاجاته الاقتصادية والسياسية والجمالية.(5)

    نقد النزعة الانسانية- التاريخية:

    لقد أعجب الماركسيون الفرنسيون بالقدرات التقنية العالية للبنيوية، ولكنهم ظلوا متحفظين بخصوص نزعتها اللاانسانية. وبخلاف هؤلاء سعى بعضهم الى امتلاك عناصر المنهج من أجل «إثراء الطاقة التفسيرية للماركسية».(6)

    ومن هؤلاء ألتوسير ومن سار على نهجه أمثال بيار ماشري P.Macheris ، وفرانس فريني F,Vernier ، ورينيه واتيان باليبار، وتيري ايغلتون، لقد قاوم ألتوسير التقاليد الهيغلية- الماركسية التي تم التأسيس لها مع لوكاتش وهنري لوفيفر H.Lefbver وبشكل خاص عند غولدمان . I.Goldman

    سادت في فرنسا في بداية الخمسينيات والستينيات نزعة فلسفية تدعو الى ابراز البعد الإنساني في الماركسية، وكان جارودي رائد هذا الاتجاه. لقد أظهر هذا الأخير الأبعاد المثالية في الفلسفة الماركسية ذات الأصول الكلاسيكية الألمانية (هيغل، كانط، فيخته). لم يتقبل ألتوسير هذه النزعة، ورأى فيها مفهوما ايديولوجيا تجاوزه ماركس في فترة نضجه النظري، حينما حقق القطيعة المعرفية مع الفلسفة الانسانية ومفاهيمها الايديولوجية مثل: الإنسان والاغتراب، واستبدالها بمفاهيم جديدة كالتكوين الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية.(7)

    لقد اعتبر ألتوسير مفهوم «الماهية الانسانية» مفهوما ايديولوجيا ينتمي الى الحقبة المثالية عند ماركس، تخلى عنه بمجرد انخراطه في مسار علمي جديد.

    كما يرى ألتوسير أن من المفاهيم الخاطئة عند الماركسية اعتبارها ذات نزعة تاريخية Historosicme فهي في مرحلته الثانية بطبيعة الحال- نزعة مضادة للانسان والتاريخ.(8)

    ويبرر التوسير ذلك بكون ماركس لم ينطلق من الذات أو الفرد أو الماهية أو الانسان، وإنما انطلق من نمط الانتاج وعلاقاته، أو من البنية الاجتماعية. فالفرد هو حصيلة العلاقات الاجتماعية. وليست الذات هي التي تصنع التاريخ بل الصراع الطبقي الذي يمثل شكلا من الصراع بين البنى والعلاقات الخارجة عن الارادة الانسانية الحرة، والتاريخ في آخر الأمر هو تفاعل بين قوى(9) وبين هياكل ونظم بنيوية قارة، وليس نتاجا للفاعلية الإنسانية.

    وقد وصف غارودي طروحات ألتوسير بأنها «لا إنسانية نظرية» ورأى أنها أخطات في تصورها أن في الامكان انطلاقا من المفهوم (العلم) معالجة البنى والعلاقات الاجتماعية بصرف النظر عن الاختيارات الإنسانية، هكذا يلغى «الجانب الفاعل» من المعرفة الذي طالما ألح عليه ماركس بوصفه اللحظة الذاتية».(10)

    لقد كرست هذه النزعة دوغمائية جمدت الماركسية، وقضت على روحها الحية من خلال قطعها عن تراث الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. وتكمن هذه الدوغمائية في نظرته الى التاريخ بوصفه كامنا في المفهوم لا في الانسان، حيث يتحقق التاريخ خارج إرادة البشر الذين «ينقلبون مجرد حوامل لعلاقات الانتاج، وتمسي الأخلاق والممارسة بصورة اعم خاليين من أي معنى».(11)

    لقد اراد ألتوسير تخليص الماركسية من أوهام الايديولوجيا، وضبابية المثالية التي أغرقتها في متاهات البؤس النظري، ومن ثم اجتهد في ابراز الأطر العلمية والمنهجية التي تأسس عليها فكر ماركس في فترته الثانية، كما توخى ألتوسير تفعيل الفلسفة الماركسية الفرنسية، وإثراء الخطاب النظري الفرنسي الذي أوشكت أن تقضي عليه السجالات السياسية والصراعات الايديولوجية.

    ومهما تكن وجاهة الانتقادات الحادة التي وجهت لألتوسير خاصة من قبل الفلاسفة والانسانيين Humanistes ، فاننا لا نستطيع أن ننكر القيمة المعرفية الكبرى للمقاربة الألتوسيرية، حيث أثرت الماركسية، وكشفت عن نواح مستورة فيها. ولا عجب فإن النظم المعرفية الكبرى هي التي تتيح مثل هذا الجدال لما تنطوي عليه من معالم الثراء والخصوبة والقابلية للتأويل وتعدد القراءات.

    إشكالية الأدب والايديولوجيا:

    إذا كان ماركس يرى ان الايديولوجيا ذات طبيعة وهمية وضبابية وتزييفية، فإن التوسير ينظر إليها بوصفها وظائف عملية ليس من السهل الاستغناء عنها.

    وينظر ألتوسير إلى الأدب على أنه «نسق من التمثلات (من صور وأساطير وأفكار وتصورات حسب الأحوال). يتمتع داخل مجتمع ما بوجود ودور تاريخيين».(12)

    ولكن من جهة أخرى يرفض أن يكون الأدب شكلا من أشكال الايديولوجيا، ويضعه في منزلة بين الايديولوجيا والمعرفة العلمية. والعمل الأدبي الممتاز لا يقدم رؤى مطابقة للواقع، كما انه لا يتوقف عند التعبير عن ايديولوجيا معينة. إن العمل الفني الجاد لا ينقل الايديولوجيا، بل يقع على مسافة منها. ان التخييل الجمالي لا يكتفي بإعطاء معنى للعالم، بل يتجاوز ذلك الى تقنيع علاقاتنا مع هذا العالم بل وقمعها كما يقول رامان سلدن.( 13)

    يذهب أنصار المدرسة الألتوسيرية الى أن الأدب يمارس شكلا من التعمية الجمالية، ينزع فيها الى فضح الإيديولوجيا، وابراز زيفها وتناقضاتها، بل نقلها أو التعبير عن تكاملها وتماسكها.

    لقد انطلق ألتوسير من مقاربة مختلفة لعلاقة البنية التحتية بالبنية الفوقية، حيث تجاوز الطرح التقليدي القائل بالعلاقة الحتمية بين البنيتين، «فهناك درجات من البعد عن التأثير بالاقتصاد تحظى بها بعض عناصر البنية الفوقية، ومن اهمها الأدب والفن، بل إن هذه العناصر تمتلك - في لحظة تاريخية ما- دورا فعالاً يجعلها قادرة على التأثير في الاقتصاد ذاته».(14)

    وهكذا يكون ألتوسير قد طرح رؤية ديناميكية للعملية الابداعية، نأى بها عن الطرح الماركسي المحتحجر الذي يسجن الفن في بوتقة القوى الاقتصادية والصراعات الطبقية.

    وعلى العموم، فان المدرسة الألتوسيرية استطاعت- بفعل عمق طروحاتها النظرية- أن تحتل مكانة هامة في الساحة الفكرية الفرنسية التي زخرت خاصة في الخمسينيات والستينيات بتيارات فكرية وفلسفية متميزة، وشهدت صراعات حادة بينها، شكلت ثورة الطلاب سنة 1968 احدى وجوهها ومعالمها البارزة ، لقد أثرت هذه الثورة الى أزمة الفكر الفرنسي ومأزق النزعة البنيوية الصارمة، ولكنها أبانت- في الوقت نفسه- عن عمق الصراعات بين الماركسية والوجودية من جهة والوجودية والبنيوية من جهة أخرى، وأشير هنا الى ذلك النقاش الخصب الذي دار بين سارتر وكلود ليفي شتروس.

    الهوامش

    1 - عمر مهيبل، البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ديوان المطبوعات المركزية، الجزائر، 1991، ص180.

    2 - المرجع نفسه، ص182- 183.

    3 - Louis A Ltusser et Etienne Ballibar, Lire le Capital, Maspero. Paris, 1973, p11-12.

    4 - عمر مهيبل، البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ص183.

    5 - المرجع نفسه ، ص12- 13.

    6 - Marc Marxisme et theorie litteraire aux Etas Unis: Auto critique des premieres

    mediations esthetiques in sociocritique; ouvrage collentif, Fernand Nathan, 1979, p54.

    7 عمر مهيبل، البنيوية في الفكر الفلسفي، المعاصر، ص122- 222.

    8 - . Lire Le Capital, P150

    9 - عبدالسلام المسدي، قضية البنيوية: دراسة ونماذج، دار الجنوب للنشر، تونس، 1995، ص11/ 211.

    10 - روجيه جارودي، ماركسية القرن العشرين، تعريب نزار الحكيم، منشورات دار الآداب، بيروت، ط4، 1978، ص248.

    11 - المرجع نفسه، ص250.

    12 - محمد سبيلا وعبدالسلام بن عبدالعالي، الايديولوجيا، سلسلة دفاتر فلسفية، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 1999، ص10.

    13 - رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1996، ص67.

    14 - سيد بحراوي، علم اجتماع الأدب، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1، 1992، ص33.

    http://www.nizwa.com/articles.php?id=2278
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de