طائر فضيّ يعبر نهر صالحين

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 06:16 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-28-2012, 07:23 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
طائر فضيّ يعبر نهر صالحين

    كانت السماء زرقاء خالية تماما من "السحب والرياح والأعاصير". سماء قاحلة تطل على أرض خصبة. كما لو أن إحداهما لا تمتُّ إلى الأخرى بصّلة. كان الهدوء يلف كل شيء. وكان أبي يعقوب رحمه الله يقف هناك وحيدا منعزلا بقامته النحيلة الشامخة. وكان واضحا أن منازل المدينة ومآذنها وقباب أوليائها الصّالحين وأبنيتها الأخرى كقصر الحاكم الإنجليزيّ القديم المشيّد كرغبة في البقاء إلى آخر الزمن مختفية تماما وراء ظهره.
    على نطاق البصر، لاح هنا وهناك حقل واسع ممتد تحف جانبيه ورود بنفسجية لها رائحة المسك والعنبر. رائحتان ظلّتا تتناوبان في حضورهما كالتعاقب الدقيق لورديات العمل داخل محلج القطن القريب من محطة القطار في أعقاب موسم الحصاد. كان الحقل في زهاء نضرته تلك حقلا أخضر من الحنطة. يبدأ من تحت قدميه الحافيتين النظيفتين كقدميّ طفل حديث الولادة، مستقيا بجداول صغيرة من ماء أحمر معتكر، ساقطا أمامه كظلال جبليّة نحو الضفة القريبة من نهر صالحين. كان ينصت لحظة أن أخذ جدار السكون في التشقق لتغريد طائر فضيّ وحيد. وكان لا يزال ينهض هناك بعد الضفة الأخرى للنهر شبح غابة كثيفة من أشجار الهشاب، أخذ يشرئب من ورائها ذلك العلو المهيب لسلسلة جبال العاديات الممتدة بلا نهاية، حيث وقف الإمام محمد أحمد المهدي قبل قرن ذات غرة شهر شعبان، يخطب في الجموع عند بداية حربه على كتائب جيش الاحتلال الصليبيّ، قائلا بملء فيه "ومن البشائر التي حصلت لنا أنه حصلت لنا حضرة نبوية حاضرها الفقيه عيسى فيأتي النبي (ص) ويجلس معي، ويقول للأخ المذكور: شيخك هو المهدي. فيقول الفقيه عيسى: إني مؤمن بذلك. فيقول (ص): من لم يصدق بمهديته فقد كفر بالله ورسوله. قالها ثلاث مرات. ثم يقول له الأخ المذكور: يا سيدي يا رسول الله: الناس من العلماء يستهزئون بنا، والخشية أيضا من الترك، فيقول (ص): والله. والله. إن قوى يقينكم إن أشرتم بأدنى قشة تنقضي حوائجكم". فجأة، عند منتصف قبة السماء الزرقاء الصافية، انفتح باب أخضر اللون، وهوى منه بصوت أقرب منه إلى صوت حجارة ضخمة تسقط من شاهق سيفٌ بأجنحة نورانية لها حنان البرق لاحَ لعينيّ مزارع موسم جفاف متجها صوب رأسه مباشرة. "لا إلاه إلا الله محمد رسول الله"، صرخ أبي بفزعِ مَن تُوشك روحه بالخروج خطفا من الحلقوم، وأطلق العنان لساقيه النحيلتين المشعرتين، مسابقا الريح، مندفعا صوب المدينة، واضعا بين أسنانه حافة جلبابه السابغ، لا يلوي على شيء آخر من أمر العالم، سوى خلاصه. "يا رجل لا تجري كالنعام أوأسرع. قف مكانك. لا تراعي هكذا. ويحك، يا عبدالله. ما هكذا تُورد الإبل؟!. حنانيك، فهذا النصل لك. عد أدراجك وخذه".


    يتبع:
                  

11-28-2012, 07:32 PM

عبداللطيف خليل محمد على
<aعبداللطيف خليل محمد على
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 3552

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    علي القسم انت بغياباتك الكتيرة دي تؤثم جنس آثام (!)

    و كمان بتدس الكلام السمح ..

    بقوا عليك 2 ..

    الا تقوم جاري ..
    ( يا شنو كدا ما عارف ) ..
                  

11-28-2012, 07:33 PM

عبداللطيف خليل محمد على
<aعبداللطيف خليل محمد على
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 3552

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    علي القسم انت بغياباتك الكتيرة دي تؤثم جنس آثام (!)

    و كمان بتدس الكلام السمح ..

    بقوا عليك 2 ..

    الا تقوم جاري ..
    ( يا شنو كدا ما عارف ) ..
                  

11-29-2012, 01:47 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبداللطيف خليل محمد على)

    أشكرك، أخي عبداللطيف، وذلك مجرد حكي أحببت أن أتشاركه وأصدقائي وصديقاتي هنا، لا سيما الذين طلبوا مني في بوست أحمد عبدالمكرم أن أبقى بينهم قليلا. محبتي.


    لاحقا، حين الريح لا تزال تعوي رطبة كأصابع تحيّة باردة بين صديقين قديمين لم يعد يجمع بينهما في الحاضر شيء، مشبعة بنداوة تلك الأوقات، متلويّة فوق عتمة الطريق الضيقة إلى المسجد مثيرة شيئا من الغبار وذرات الروث الجاف المفتت ومزق الصُّحف المكتظة بأخبار الحكّام في تلك المدينة النائيّة التي تدعى الخرطوم؛ أضاف أبي يعقوب مخاطبا إياي بذلك الصوت الراعش المتهدج من زمهرير بدا مصدره الحمّى أكثر منه غوائل الطقس، قائلا "في حياتي، في حياتي المديدة، يا ولدي يوسف، لم يطرق أذنيّ مثل ذلك الصوت الهادر قطّ. كان يتناهى إلى مسامعي في لحظة واحدة من جهات الدنيا الست.. من أعلى جبال العاديات، من نهر صالحين، من بيوت المدينة الهاجعة، من خُوطٍ نبت في قلب ساق شجرة جافة، من غابة الهشاب، من مسام الطين، ومما لا يعلمه في الأخير سوى الله سبحانه وتعالى". ولم يخرج بعدها من صمته الجبليّ المطبق ذاك. إلا كيما ينغمس في دهاليز حلمه الأكثر غرابة من نوعه ثانية. ما إن عاد أبي يعقوب أدراجه، ممسكا بمقبض السيف الذي كان يعدو بدوره أثناء فرار أبي ودائما قاب قوسين أوأدنى من عنقه، حتى أُضيئت على حين غرة أسقف المنازل الطينية المتلاصقة بنور رائق كثيف لم يكن مصدره شمس أوقمر أوبرق أوكهرباء قال أحد أجدادي لحظة دخولها إلى بيوت المدينة في زمان سحيق لأول مرة إنها حتما من علامات "قيام الساعة"، وقد أخرجه من طوره وقتها أن تلك الجدّة تركت كل واجباتها وتفرغت لمعاينة تلك المعجزة التي تسمّى الكهرباء ليل نهار، قائلة لجاراتها بين الحين والحين "الله أعلم بحقيقة هذا الشيء". وقد كانت لذهولها تدعو ضيوفها ممن لم يحظّ برؤية هذا الوافد الجديد بعد إلى مشاهدة النور أكثر مما تدعوهم إلى كوب ماء في نهار قائظ. وكان ذلك الجدّ الذي أخذ يتصالح نوعا ما مع الكهرباء يتعجب من سلوكها ذاك قائلا لها في لحظات الصفاء القليلة النادرة "تالله لم يتبقَ لكِ شيء في هذه الحياة الزائلة لتفعلينه سوى بيع مشاهدة الكهرباء للناس". هكذا، صحا أبي يعقوب من نومه للمرة الثانية مرتعد الفرائص واجف القلب كما لو أنه لم يكن من سلالة أولئك المحاربين ممن قاتلوا في الصفوف الأولى لجيش المهدي حائرا منقوعا بالعرق، قائلا بحلق جاف تماما "اللهم اجعله خير". ولم يستطع أبي يعقوب العودة إلى النوم بعدها على الرغم من تفاقم إحساسه الثقيل بالرهق. هناك، داخل ظلام الحجرة الدامس، أخذ أبي يعقوب يتحسس خفيفا بطن أمّي المنتفخ، قائلا وسط تلك الظلمة الأشد حلكة لليل "سبحان الذي يعلم ما لم نكن نعلم". كان لا يزال يحدق في الظلمة، ويحاول جاهدا تفسير الحلم وفك رموز تلك الرؤيا، ولا يدري كم مر عليه من وقت في سهاده ذاك، عندما أخذت أجفانه تثقل، وشيئا بعد شيء انتظمت أنفاسه، ورأى في المنام مجددا نفس تلك التفاصيل والمشاهد. وإن قال أبي يعقوب بحيرةِ تلك الأيام "هذه المرة، يا ولدي يوسف، لم يصبني رعب، لكنّ الطائر سقط وسط دوامات الماء، التي أخذت تلف عنقه، وتدفع بريشه الفضيّ الجميل صوب الأغوار السحيقة لنهر صالحين". وقال مرددا ذات العبارة "اللهم اجعله خير". وضغط على مفتاح النور الذي لم يعد مدهشا. على الرغم من أن مؤذن المسجد لا يزال يستمسك برأي قديم قدم وجود الجدّة "كاشفة" نفسه مفاده أن نور الكهرباء هبة لا تليق سوى ببيوت الله وأن استخدامها في بيوت الناس علامة على غياب التواضع. هكذا، سقط ظلّ رأس أبي يعقوب على بطن أمّي زليخاء. ثم سألها أخيرا بصوت مختنق بدا كما لو أنه ينتمّي إلى شخص آخر قائلا "ما بكِ، يا أمّ يوسف". كان نادرا ما ينادي أمّي باسمها. وكان أبي يعقوب قد اسيقظ دفعة واحدة، هذه المرة، على صوت آذان صلاة الفجر المتناهي من غير مكان، وعلى صوت توجعاتها المتلاحق. قالت "ركلات الجنين" بنبرة واهنة لامرأة بدا أنها تجاوزت للتو إحدى لحظات الطلق، نبرة كادت أن تفسِّر لأبي يعقوب أبعاد الرؤيا الماثلة في ذهنه كتساؤل لا إجابة له، فيما أخذت تمسح قطرات العرق المتكونة أعلى جبينها. فجأة، في هدأة ذلك السكون الذي أعقب آذان صلاة الفجر، ندت عن أمّي زليخاء صرخة أخرى لكنّها أعلى نبرة وأعمق ألما من سابقتها. لم تمضِ ثانية حتى اقتحمت الحجرة جدتي لأمّي، وأخذت تلقي على أمّي بضعة تساؤلات فاحصة، وهي بالكاد تسند طولها. كانت جدّتي هذه تقول بلا مناسبة إنها لم تخرج من الحياة سوى بأمّي زليخاء. وحين أخذت أمّي تضحك على غير المتوقع من مرأى جدتي التي هرولت، بقامتها القصيرة، وظهرت لأول مرة أمام أبي هكذا، مكشوفة الرأس؛ أخذت العجوز تظهر سخطها بينما تنسحب مسرعة من داخل الحجرة كفتاة تمّ ضبطها عارية في مكان عام، قائلة "ما هذا المزاح السّمج، يا بنتي"؟!.


    يتبع:
                  

11-29-2012, 02:32 AM

سيف النصر محي الدين
<aسيف النصر محي الدين
تاريخ التسجيل: 04-12-2011
مجموع المشاركات: 8995

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    Up
                  

11-29-2012, 06:33 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: سيف النصر محي الدين)

    أسعد الله أوقاتك، يا سيف.


    في طريقنا المعتادة تلك، إلى آداء الصّلاة جماعة في المسجد، معربين عن عميق امتنانا للخالق في عزّ البرد الغريب لذلك الفجر، أخذ أبي يعقوب رحمه الله يسرد عليَّ أدق تفاصيل رؤياه، بكلمات واجفة، وملء نبرات صوته رهبة، كما لو أن ملاكا يُحصي عليه أنفاسه بدقة، إلى أن قال وهو يتجاوز عتبة المسجد داخلا بقدمه اليمنى "اللهم اجعله خير". أخيرا، أعلن الإمام عن خاتمة الصلاة، قائلا تارة عن يمناه وتارة عن يسراه "السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله". ورددنا بعده "السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله"، بذلك الهدير الخافت والمتناغم للجماعة، بينما نتلفت مثله يمنة ويسرة، معلنين هذه المرة الخروج بدورنا من بين يدي الله، إلى حين لقائه في صلاة أخرى. كان ثمة سكينة تجوس بين الأعمدة الأسمنتية الضخمة المنتصبة صوب السقف البعيد ذي القبة الغائصة إلى أعلى والمحلاة بثريا عنقوديّة ذات دوائر لولبيّة من الكريستال. وقد سادت أرجاء المسجد رائحة بخور الصندل وتسابيح المصلين الخافتة. "كان بعضهم يتزلّف إلى الخالق خوفا والقليل منهم يتقرّب للخالق رجاء". هكذا، ظلّتْ جدّتي لأمّي تصف حال المصلّين. ولم أرها ساجدة في حياتي قطّ. كان يخيل إليَّ، للحظة بدت فيها أعمدة المسجد ملائكة تصغي أسفل النور الرائق لفحوى رسالة غامضة، أن معجزة سماويّة عظيمة في سبيلها للوقوع، في أية لحظة، لا محالة. هكذا، كنت لا أزال أشعر من داخل طمأنينتي تلك بذلك القرب الشديد من الله، حين تناهى صوت أبي يعقوب، على حين غرة، قائلا:
    "هيا، يا ولدي يوسف".
    ما إن هممت بالمغادرة في أعقابه، حتى اعترض المؤذن طريقنا، أحكم قبضته حول معصم أبي، ومُنتحيا به عند ركن بعيد لا يكاد يصله ضوء، قال المؤذن المستثار لأبي بذلك الصوت الخفيض الراعش لرجلٍ لم يعد بمقدوره أكثر احتمال كتمان رسالة لم يكن في الأصل مُعدّا لحملها "أبشر أبا يوسف.. بما ساقه الرحمن إليك من نعماء. ووعده الصدق". إذ ذاك، قال أبي الذي بدا أنه هيّأ نفسه في ذلك الصباح لتقبل أحد تلك الأمور التي تحدث بعد مرور كل مائة عام "إن شاء الله خير". قال المؤذن "ليلة أمس.. وكنت صائما طوال النهار.. وقد تهجدت الليل إلا قليلا.. وبعد الركعة السبعين، تناولت بضع تمرات عجاف.. ثم غشيني النعاس.. ولم أمكث في غفوتي تلك طويلا.. حتى أقبل نحوي رجل لا يشبه أهل هذه المدينة.. ومع ذلك، لم تكن تبدو عليه آثار السفر. كان يرتدي ملابس شديدة البياض. ويضع على كتفه وشاحا أخضر في هيئة الهلال.. كُتبت عليه بأحرف كوفية بيضاء بارزة عبارة: لا إلاه إلا الله.. محمد رسول الله....". كذلك، قاطعه أبي الذي لم يستطع الوقوف أكثر من ذلك، قائلا: "اكمل أيها الرجل الصالح". تبع المؤذن أبي يعقوب في الجلوس، وهو يستعيد ما رآه في أثناء غفوته، مرددا بنفس العينين الجاحظتين "كنت أقف فوق حقل أخضر ممتد. وثمة سماء زرقاء تظللني. وكان هناك طائر فضي.. كان يعبر صوب الضفة الأخرى لنهر صالحين.. لم تكن جبال العاديات لحكمة ربانيّة ماثلة هناك. فجأة.. وبقدرة قادر على فعل كل شيء وفي أي وقت وحين.. انفلقت قبة السماء.. وهبط منها ذلك الرجل في غمامة ذهبية.. والذي أخبرني.. قبل تحوله إلى زهرة تعطِّر سماء المدينة برائحة المسك والعنبر.. أن أخبرك اليوم بعد صلاة الفجر بأن الله سبحانه وتعالى سيهبك غلاما ذكيّا.. سيملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا وفسادا.. وسيقطع رأس حفيد الملك الأشقر مثلما فعل الإمام المهدي رضوان الله وسلامه عليه برأس غردون باشا.. وقال لي الملاك: (يا أبا الحسين)، أي والهط العظيم نطق اسمي، ما عليك سوى تبليغ صاحبك.. وكان يردد اسمك، ياآآآآآ بشراك، أبا يوسف".
    في هذه اللحظة، أدمعتْ عينا أبي يعقوب، أخذتْ دواخلي تهتز، ولا أدري كيف أخذت الأرض تميد أسفل قدميّ على حين غرة، كما لو أنني على ظهر سفينة يؤرجحها موج. كان قلبي لا يزال يتابع خفقانه في تسارع إلى أن خلته سيتوقف، وقد رأيت دموعه تلك لأول مرة.. دموع الرجال!، بينما أخذ يرسخ في ذهني أكثر فأكثر، ذلك الشعور بحدوث المعجزة، في أية لحظة. هكذا، حمل أبي يعقوب نعليه تحت إبطه. وهرول خارجا من بوابة المسجد الجنوبية لا يلوي على شيء. كما لو أنه نسي وجودي إلى جانبه. حين التفتُ، قبيل تلك العتبة الداخلية المرتفعة لبوابة الخروج، رأيت المؤذن يُحصي ما أعطاه أبي من دراهم، ويخر ساجدا شكرا لله سبحانه وتعالى، قبل أن ينهض مرسلا إلينا نظراته على ضوء الأنوار الداخليّة للمسجد، ويبتسم، لأمر أثار حيرتي لفترة طويلة. وظلّ صوت أبي يعقوب يتناهى خارج المسجد مرارا وتكرارا "اللهم اجعله خير"، بينما التيارات الهوائية الآخذة في البرودة على غير العادة في مثل ذلك الوقت من العام تتدافع من هنا وهناك مثيرة في آن ذرات التراب ونثار الروث الجاف ورائحة رطوبة الحقول على تخوم المدينة. ولا أحد في تلك الساعة يمكنه أن يحدّس على وجه الدقة بما ظلّ يدور من أسرار في أروقة الأفق المحتجب وراء سلسلة جبال العاديات الجاثمة في صمتها الأبديّ المطبق. بالكاد، كنت ألاحق خطاه الواسعة أثناء سيري اللاهث المتعثّر.




    يتبع:
                  

11-30-2012, 06:45 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    أخيرا، دفع أبي يعقوب الباب الخارجي الكبير للحوش. كانت صناعة الأقفال في تلك الأيام كاسدة تماما. لا لأننا كنّا نعيش في ذلك الفردوس الذي يرعى في رحابه الذئب إلى جانب الغنم في إخاء مثاليّ. بل لأن اللصوص يدركون جيّدا في تلك الأيام أن عاقبة أفعالهم في حال ضبطهم أمر واحد لا أقلّ أوأكثر: أن يتمّ تقييدهم إلى إحدى صخور جبال العاديات ويُرمى بهم طعاما طيبا إلى الأسماك في القاع السحيق لنهر صالحين بلا تأخير.
    دلف أبي يعقوب إلى الداخل. وأرخى أذنيه الكبيرتين هنا وهناك. كان الهدوء لا يزال مخيما، حين ارتفع صوته كالعادة تأدبا عند منتصف حوش النساء الداخليّ، قائلا "السلام عليكم ورحمة الله، يا آل البيت". جاوبه من داخل المطبخ صوت جدتي، يُؤذنه بالدخول عليهما، قائلا "وعليكم السلام ورحمة الله، يا أبا يوسف". كعهدنا سائر صباحات تلك الأيام، تجمعنا داخل المطبخ الصغير، متقاربين حول نار الكانون، في دائرة غير مكتملة، وليس ثمة ما يُسمع، سوى صوت الريح الباردة في الخارج ورشفات الشاي. كانت جدتي تتابع صنع شاي آخر، أمّي تستند على مرفقها شبه راقدة على عنقريب صغير نُسج متنه من جلود الجمال، أبي يجلس إلى جانبها لا يني يجيل نظراته ما بين السقف وبطنها المنتفخ، ولم يتوقف أبدا عن التسبيح أثناء ذلك الصمت الذي أعقب حديثه الراعش المقتضب عن تكرار الرؤيا في "منامين مختلفين". أمّي لم تعلق بشيء وقتها. أما جدتي التي قالت إنها رأت في هذه الدنيا "العجيبة" الكثير، فلم تزد على قولها: "ذلك المؤذن يعرف تماما كيف يحبّ المال كأطفاله". ولأول مرة، أراها تشمل أمّي بنظرة طويلة حانية في صمتها. "ليكن الخير في ما يختاره الله". كانت تلك عبارة أبي يعقوب رحمه الله حين يوصد باب الحوار حول أمر ما. وكنت لا أزال جالسا هناك، على الأرض الترابية الرطبة، غير بعيد من العتبة، متكئا بظهري على باب المطبخ الخشبي العتيق المتهالك، أتشاغل عنهم بقراءة كتاب "دلائل الخيرات"؛ حين تناهى طرق عنيف متلاحق على الباب الخارجي الصغير للحوش. "ترى مَن يكون"، تساءلت أمّي بهلع. "هذه ليست ساعة زيارة"، قررت جدتي بصوتها الحاسم. "اللهم اجعله خير"، قال أبي مسقطا مسبحته الحجازية. وتزايدت وتيرة الطرق حدة.



    يتبع:
                  

12-01-2012, 09:06 AM

بله محمد الفاضل
<aبله محمد الفاضل
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 8617

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    سلام يا برنس
    وحمداً لله على سلامة العودة



    أشهر حرفك/حرافتك فينا


    في انتظار التتمة
                  

12-02-2012, 01:02 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: بله محمد الفاضل)

    يا مرحبا، أخي المبدع بله. وهذا كثير كرم:

    Quote: أشهر حرفك/حرافتك فينا


    شكرا، لهذا الحضور:

    Quote: في انتظار التتمة


    أرجو أن يكون ذلك قريبا. وقد شغلتني قضايا أخرى قليلا. وهذا النصّ ظللت عاكفا عليه لمدى سنوات تقارب العشرين. لكنّ بعضه عمره سويعات، أي وليد هذا البوست، كتلك الجزئيّة الخاصّة بموضوعة الأقفال واللصوص أعلاه. وهو، أي النصّ، مفتتح متتالية سردية، عنوانها (إنسان المكان)، وقد تأسست، أي المتتالية، بالكامل، على خلفية سيرة النبيّ يوسف، وسورة يوسف من نافل القول أقرب السور إلى قلبي، لما تنطوي عليه من خبرات على مستوى التعاملات اليوميّة من جهة، وعلى مفهوم الرحلة وما يحدثه من تداعيات مثل جدل الحضور/ الغياب من جهة أخرى.

    كن بألف خير.
                  

12-02-2012, 06:28 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    القاص المبدع الجميل.. اخي الأكبر عبد الحميد البرنس. ها أنت تعبر نهر النيل.. التحية لك في هذا العبور..
                  

12-02-2012, 09:04 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: احمد ضحية)

    Quote: هذا العبور


    أخي أحمد، لو أن ما نكتب يقيم فقط جسرا آخر بين الناس، لا جدارا آخر، أن نعبر إليهم بالكتابة، أكثر الأدوات مشقة في التاريخ الممتد للبناة الأكثر ندرة ممن خلق الله، أو كما أوضح في "فن الرواية" صديقنا كولن ولسون"، قائلا "شعرت أن المبدأ الأساس للإبداع هو البقاء للأصلح.. إذ إن الكتابة الإبداعية عملية شاقة كالصعود إلى أعلى التل، حيث يتساقط الضعفاء بينما يواصل الأقوياء بتؤدة كي يصبحو كتّابا جيدين..". لكنّ مقياس الجيّد يستحضره كولن ولسن هنا من ملاحظة بالغة الدلالة لجبلٍ راسخ يدعى وليم فوكنر لحظة أن سئل حسب ولسون عن رأيه في نورمان ميلر "إنهم يكتبون كتابة جيّدة، غير أنه ليس لديهم ما يقولونه"، وقد يأخذ مني فهم مقولة فوكنر أياما، لو لا أن ولسون أسعفني في سياق تال مستعينا هذه المرة بما أسماه تعليق "مبشر شو" القائل "إن ملكوت الرب يكمن في داخلك.. ويتطلب الأمر مشقة هائلة لإخراجه من أعماقك".

    كن بألف خير، أخي.
                  

12-03-2012, 04:27 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    نهضت من قعدتي في شرود تام مشبع بخوف مبهم غريب وغامض. كما لو أن الشروع في ما بدا قراءة لكتاب "دلائل الخيرات" زاد من متاهتي داخل دهاليز رؤيا بدا تكرارها أثناء منام آخر حدث في ذات الليلة بمثابة أمر لا يمكن التشاغل عنه بما مُنحنا إياه منذ الميلاد كملاذ أخير لعقل أشياء هذا العالم. وقد كنت أسمع كثيرا، مرارا وتكرارا، بوقوع المعجزة هنا وهناك، لكنني لم أتوقع أبدا أن تطرق المعجزة باب بيتنا بالذات في صباح كهذا الصباح. كنت أمشي بالكاد على أرض الحوش الترابية. أسير ولا أسير. لكنني أتقدم. كما لو أن قدميّ لا تنتميان لي. أو كما لو أن الأرض ما تنفك تغور هابطة في مكان وتعلو فائرة في مكان آخر. كما لو أن قوّة خفيّة لا تني ترفعني صوب السماء المغسولة بالبرد. وفتحت الباب ذي الضلفة الواحدة ناظرا إلى أعلى. كانت تلك جارتنا، الحاجة كاشفة، ذات الأعوام المائة والعشرين، وقد بدت في وقفتها تلك مستثارة تماما. كانت تقف هناك، داخل فراغ الباب، بظهرها المستقيم، تفوح منها رائحة قشر البرتقال المنقوع في الودك المغلي. وكالعادة، كانت حافية القدمين. والكلمات تندفع من فمها. تماما، كما يندفع سيل الرصاص عبر فوّهة آلة شديدة البأس. "وين أهلك، يا يوسف"، سألتني، لا لأنها لا تعرف مكانهم في مثل تلك الساعة، بل لأن تلك كانت طريقتها المتعالية في تحية الصغار من أمثالي. ذلك ما أدركه الآن وسط غيوم الحنين المتكاثفة إلى ذلك العالم الآفل برمته أويكاد. قلت "يجلسون هناك في المطبخ، يا جدة". أزاحتني عن طريقها على نحو كاد أن يفقدني ما تبقى لي من توازن في صباح تتوالى أحداثه وأفكاره توالي المقطورات في قطار مسرع. ولم تعد تشعر بي. كما لو أنني حشرة تمّ إزاحتها بيد مشيحة في ذروة الغضب مرة وإلى الأبد. "يا لها من أرنب صغير"، قلت في نفسي، بينما أتابعها، وهي تندفع نحو الداخل، كسهم أُطلق هذه المرة من قوسه للتو. هرولت وراءها بينما أسمعها تخرف لا تزال بصوت عال منطلق قائلة بلا توقف "لقد جيئتكم بالبشرى.. لقد جيئتكم بالبشرى.. يا آل يعقوب.. لقد أرسلني الملاك وبركة سيدي المهدي المنتظر بالبشرى". كانوا ينظرون إليها في صمت بدا نطقا. لم تنتظر حتى الإذن بالجلوس على بنبر داخليّ كان يتوسط عنقريب أمّي الصغير ومجلس جدّتي. ولم تنزل نظرتها عن بطن أمّي المنتفخ لحظة. كان كل شيء يصدر عنها ينمّ عن ذلك الحضور الكليّ الكثيف والغامض لسلطة الخُلد المنيعة على الفناء. هكذا، مرة أخرى، سقطت مسبحة أبي الحجازية قرب حافة قاعدة الكانون الأسود ذي الفتحات الجانبيّة المتعددة للتهويّة. وقد لاح هناك في باطنه المجوف. ذلك الرماد المتراكم مقدار شبر لحرائق سابقة. لا شك أنه كان من أكثر أيام أبي يعقوب قلقا ورهبة. وقال أبي يعقوب في صوت أقرب للتوسل مخاطبا الحاجة كاشفة:
    "إن شاء الله خير".
    على بعد خطوات قليلة من عتبة قبرها الفاغر منذ عقود، ضحكت الحاجة كاشفة، مظهرة كامل أسنانها ذات البياض الناصع، ثم حوَّمت براحتيها المفرودتين فوق نار الكانون التي علاها رماد خفيف، متابعة النظر إلى بطن أمّي المنتفخ من غير أن يطرف لها جفن واحد. كانت جدتي تقول في تلك الأيام إذا غدا عمر الإنسان بطول عمر شجرة اللبخ التي كان يجلس تحتها المفتش الانجليزي جامعا للضرائب من الأعيان والمشايخ سيتحول إلى أرنب صغير. لا يعنيه من أمر نفسه في نهاية المطاف أن يتبول جالسا، أوواقفا. قلت في نفسي مواصلا التخفيف من شحنة الغيظ تلك "ربما تتحول الحاجة كاشفة في الليل إلى أرنب بنعلين". وموغلا في مسار تخيلاتي أكثر فأكثر، أخذت أتصورها كأرنب سُلخ جلده على يد صيّاد، تمّ وضعه على فحم متّقد أعلى الشبكة المعدنيّة الملتهبة لكانون المناسبات، وقُدِمَ شهيا على مائدة العشاء. أخيرا، قال أبي يعقوب بينما يُدخل يده اليمنى داخل جيب جلبابه الأبيض الواسع "إن شاء الله خير، يا جدة". وكدت أضحك في عمق الرهبة الماثل حين قال أبي يعقوب "يا جدة". لم أتصور أبدا أن يتفوه أبي يعقوب رحمه الله بمثل تلك العبارة: "يا جدة". وقد بدت لي وقتها غريبة عليه تماما.


    يتبع:
                  

12-03-2012, 06:48 AM

الرفاعي عبدالعاطي حجر
<aالرفاعي عبدالعاطي حجر
تاريخ التسجيل: 04-27-2005
مجموع المشاركات: 14684

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    ونحن نتابع ما يتبع يا انيق
    مرور وتحيه ومحبه .











    ......................................حجر.
                  

12-03-2012, 09:52 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: الرفاعي عبدالعاطي حجر)

    أخي حجر: تحية تليق بك

    هذا النصّ، كتبته لأول مرة في بداية تسعينيات القرن الماضي، أيام الدراسة الجامعية، في الزقازيق، وتركته جانبا، خارج مجموعة "تداعيات في بلاد بعيدة" و"ملف داخل كومبيوتر محمول"، وقد ظللت أشتغل عليه من حين لآخر، كما أفعل الآن. كنّا آنذاك، أنا وزملاء من مصر ينتمون إلى "النادي الأدبي" بقصر ثقافة الزقازيق، نعمل بوعي ولا وعي تحت التأثيرات الشكليّة المضللة السائدة في مصر آنذاك، سواء على يد إدوار الخرّاط، مجلة فصول، أوجماعة "إضاءة 77"، وغير ذلك. إن الأدب في الأخير أكثر من مجرد تشكيلات لغويّة وألاعيب أسلوبية. ودمتم.
                  

12-05-2012, 05:39 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    هكذا، وقد أدرك لحاله تلك متأخرا بعض الشيء أن العجلة في نفوس الناس من أمثالها قد ماتت منذ قرن، إلا في أحوال خمس "إطعام الضيف اذا نزل، وتجهيز الميت اذا مات، وتزويج البنت اذا بلغت، وقضاء الدين اذا وجد، والتوبة من الذنب اذا أفرط"؛ مد أبي يعقوب بشفاه مرتعشة إلى الحاجة كاشفة حفنة من الدراهم. والله في عليائه وحده أعلم كم كنّا في مسيس الحاجة إليها. كان أبي يعقوب رحمه الله يقول إن المماطلة في مثل هذه الحال لا يقطع دابرها سوى البشارة. كانت اللهفة بادية على سحنة الحاجة كاشفة. كما لو أنها تخشى أن يغير أبي يعقوب رأيه على قيد أُنملة من يد متأهبة للأخذ. كيف لا!، وقد أمسكت بالدراهم بعناية وحرص زائدين. وصرّتها لفورها في طرف ثوبها باحكام تام. وذلك لم يسعف أبي يعقوب بدوره على ما بدا أكثر. إذ أفرغت العجوز في جوفها بتلذذ غريب بآخر ما تبقى في قعر الكوب من قطرات الشاي. قالت "سبحان الله". وسألتْ جدتي بغتة أن تصنع لها فنجانا من القهوة. وعادت قابعة مرة أخرى في أحابيل الصمت. كما لو أنها تقول لأبي الذي بدا حتى اللحظة الأخيرة كالمشتري الغشيم "تلك الدراهم ليست كافية". وأخيرا، أخيرا أخيرا، تناهى صوتها المئوي صافيا رنانا مفعما تماما بالحياة، قائلا "لقد حلمت الليلة الماضية.. يا أبا يوسف.. والله شهيدي.. بحلم. رأيت نفسي في المنام مثل بنت العاشرة. وهذا ما أشهد الله عليه أمامكم الآن. نعم بدوت صغيرة في عمر الزهور. أقف فوق أرض خضراء. تحيطها زهور جميلة. والله على ما أقول شهيد هذا ما حدث. ومن نهر صالحين جاء طائر في لون صحن الفضة المختوم.. وغرق. وهذا ما حدث وأشهد الله عليه". نظرتُ في تلك اللحظة إلى وجه جدتي. وقد بدا كما لو أنها على وشك أن تصرخ في وجه الحاجة كاشفة، قائلة "أماتك الله مئة ميتة"!. جدتي لم تكن تهاب أحدا من الناس في هذا العالم. إلا أبي. كان دافعها إلى ذلك قناعتها القائلة "إن النسيب عين شمس". فجأة تلبستْ أبي تلك الحال التي رأيته عليها في حضرة المؤذن فهتف غريقا في ذروة جيشانه "الله أكبر.. الله أكبر". ولم يضع وقتا وراء خيط الدموع الرفيع المتكوّن منذ فترة، إذ رجا من الحاجة كاشفة أن تكمل له حكي ما رأتْ، فيما عيناه لا تزالان تنفتحان على ذات الرعب الخفيّ المبلل. قالت العجوز متابعة سرد ما حدث لها في أثناء النوم "ومن حيث ما لا أحتسب، والله على ما أقول شهيد، هبط رجل من السماء السابعة.. وقد تقولون: أيتها الأرنبة العجوز.. لِمَ لم تكن الثالثة.. أوحتى السماء الخامسة؟!.. نعم، يا يوسف ولدي، أقول لكم عرفت ذلك من سمك الغبار الذي كان على جناحيه.. لقد وضح لي ذلك من أثر السواد على حواف جلبابه السابغ.. لا بد أنه مر هابطا من هناك عبر شوارع مغبرة في كل سماء. وجدّتك هذه، يا يوسف، تظن أنني أهرف بما لا أعرف. وقد قال الله سبحانه وتعالى "وفاكهة مما يشتهون". وهو الذي أعطانا مخا. فإذا لم يكن التراب موجودا نفسه في الجنّة، فكيف تنمو الفاكهة إذن؟". عند هذا الحد، قاطعتها جدتي، قائلة بذلك الخراج الشامل والعسير للروح:
    "وبعدين، المهم، ماذا حدث"؟!.




    يتبع:
                  

12-05-2012, 07:40 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    *
                  

12-06-2012, 11:44 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: احمد ضحية)

    أشكرك، أخي المبدع الناقد المحبّ أحمد ضحية.
                  

12-07-2012, 06:38 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    بل وأردفتْ جدّتي، وقد ركبتها شياطين الغضب، لحظة أن أخذ جمر الفحم المصنوع من شجر السنط يفرقع، كما لو أن ألعابا نارية تُقام في ميدان الحريّة؛ قائلة "من أين يأتي الخير من تطاير هذا الشرر". كانت رائحة البن المحروق للتو لا تزال تضوع في المكان. وكان الصمت قد أخذ يخيم بكثافة في أعقاب كلمات جدّتي. وقد خيل إليَّ بعدها، حين رفعت جدتي مطرقة البن الحديدية الثقيلة المصمتة، أنها ستهوي بها مباشرة على رأس الحاجة كاشفة، بلا تردد، لكن الأخيرة أخذت تنظر إلى جدّتي بلا مبالاة ذلك الوهج المشلّ لعينين لا تنتميان لهذا العالم، قائلة: "واقترب مني الملاك. كان يحمل سيفا ومصحفا أخضر. قلت له: حبا في الله ورسوله وسيدي الشيخ الطيب راجل أمّ مرِّح قطب الأقطاب وحبيب الله الإمام المهدي عليه السلام، لا تأحذ روحي الآن، يا ملاك. لدي أشغال أقوم بها، وأعمال أرغب في القيام بها. يعني يا أبا يوسف عايزة أشوف قبر المهدي في أم درمان. وحدث بعد داك أمر غريب. أخذ الملاك يبتسم لي بلا فم، وبلا أسنان مثل جدتك هذه يا يوسف. وقال لي: أيتها الحاجة كاشفة، لا تثريب عليك، ستعيشين مائة عام أخرى. لكنَّ زوجة جارك الطيب (أبا يوسف)، وهي الآن حبلى، سيهب الله لها غلاما ذكيا، سيكون إماما صالحا تسير بأخباره الركبان، شريطة أن يُسمَّى "محمَّد"، ونفخ في صدري وطار مثيرا عاصفة ترابية. وأنا بأمانة كان يكفيني مائة شهر فقط. لكنها إرادة الله، أبا يوسف".

    يتبع:
                  

12-08-2012, 11:12 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    كان قد أخذ يبدو على وجه أبي ذلك الشعور بالوهن على وجه الصائمين آخر نهار من رمضان. وكل ما فتح الله به لأبي يعقوب لحظتها قوله "اللهم اجعله خير". ونهض خارجا من المطبخ بتلك المشاعر الكظيمة مدركا في قرارة نفسه أن الله "لا يُحبُّ الفرحين" تاركا النسوة يتداولن في أمر تلك الرؤيا غارقات في الحديث إلى بعضهن البعض في لحظة واحدة. إذ ذاك رأيته في ظلّ الضحى القصير يفترش المصلاة الحجازيّة، مختليا بنفسه، بينما يواصل بثّ ما يعتمل في دواخله إلى الله مغمض العينين، خارجا بكلياته عما حوله متخففا تماما من أثقال هذا العالم، معيدا ترتيل تلك الآية الكريمة من سورة يوسف دون غيرها، برهبة ولا توقف "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ". كما لو أن صوته يحمل غرف البيت والحيطان دائرا بها في الفضاء الرماديّ المغسول بالضياء. والمعجزات قد تحدث في أية لحظة. لقد ظلّ أبي يعقوب على تلك الحال إلى أن غمر وهج الشمس سائر أعضائه. كان الطلق يحمل صوت أمّي هذه المرة بعيدا صوب جبال العاديات وراء النهر الساكن في مثل ذلك الوقت من العام. جدتي والحاجة كاشفة تتراكضان هنا وهناك. الصوت الوليد يهدر مدويّا بوتيرة أكثر وضوحا وجلاء من وتيرة أصواتهم مجتمعة. بعد عشرين سنة، سيقول أبي يعقوب في غيابي لبناته الثلاث: "لا أذكر الآن من ذلك الحلم سوى نظرة طائر غريق".
                  

12-16-2012, 06:51 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    .
                  

12-18-2012, 06:19 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    .
                  

12-18-2012, 06:23 PM

Mohamed E. Seliaman
<aMohamed E. Seliaman
تاريخ التسجيل: 08-15-2005
مجموع المشاركات: 17863

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    ????????????????????
    ??????????
    ??
                  

12-18-2012, 06:49 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: Mohamed E. Seliaman)

    أخي، محمد عيد سليمان، تحية طيبة مباركة، وبعد:

    ضمن أشياء أخرى هنا، لقد حاولت فحسب أن أقول للناس إن معاودة السير في الطُرق التي تمّ تجريبها من قبل للألم لن تُفضي في نهاية المطاف سوى إلى مزيد من الألم.
                  

12-19-2012, 09:05 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    .
                  

12-19-2012, 06:36 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    .
                  

12-19-2012, 07:05 PM

Muna Khugali
<aMuna Khugali
تاريخ التسجيل: 11-27-2004
مجموع المشاركات: 22503

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: عبد الحميد البرنس)

    طائر فضي يعبر نهر الصالحين..
    لكنه يمر بقلبي أولا تاركا بعض من بريقه هناك ويأخذ بعض من قلبي ليعبر معه!

    آمين!
                  

12-20-2012, 04:00 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: Muna Khugali)

    Quote: لكنه يمر بقلبي أولا تاركا بعض من بريقه هناك ويأخذ بعض من قلبي ليعبر معه!


    أية قوة تحملها الكلمات، أحيانا.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de