حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 10:15 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-27-2012, 08:17 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي

    مقدمة المؤلفة
    " نحن حزب المجاهرة لا المؤامرة. وحزب المثابرة لا المناورة"
    من أقوال المعلم عبد الرحيم الأمين هساي عن حزب الأمة
    بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد-
    إن تجمع سوبا الذي تم بقيادة السيد مبارك المهدي في الفترة ما بين 10-12 يوليو 2002م ليس مفاجئا ولا مدهشا، فقد مثل ذلك التجمع الحلقة الأخيرة من مسلسل عاشه الجميع داخل وخارج الحزب واطلع على حلقاته الأولى حتى الأخيرة/ مسلسل الاختراق والانسلاخ في حزب الأمة.. وقد ظل السيد مبارك وجماعته يثيرون مختلف القضايا التي تقدح في الحزب وكيان الأنصار، بصورة فيها تناقض مع بعضها وتدل على أنها لمجرد التجريح وليس وصولا لحق معين.. وذلك كضغط على الحزب لدفعه دفعا نحو خط المشاركة في السلطة بدون الضوابط المرضية للأجهزة القيادية وللقواعد، وللتخلص ممن لا يرغب بهم داخل الحزب. لذلك لم يكن مؤتمر سوبا 2002م معزولا عما قبله، فقد جاء نتيجة طبيعية لتبرم هذه الجماعة المعزولة داخل حزب الأمة بنهج الحزب الديمقراطي ورفضه المشاركة في السلطة بدون ضوابط.
    وأخيرا عقدت هذه الجماعة ما سمته "المؤتمر الاستثنائي لحزب الأمة من أجل الإصلاح والتجديد والتحديث". عقد "المؤتمر" بأرض المعسكرات بسوبا في الفترة ما بين 10 إلى 12 يوليو 2002م. تمت الدعوة لهذا المؤتمر بصورة تآمرية تباهى بها مخططه، وحاول تبريرها بمبررات واهية. وقد خرج التجمع بقرارات تنظيمية وسياسية اعتبر فيها نفسه حالا محل حزب الأمة. وقد أصدرت الناطقة الرسمية للحزب – الأستاذة سارة نقد الله- بتاريخ 10 يوليو بيانا أكدت فيه أن المشاركين في ذلك المحفل يعتبرون مقالين من مناصبهم بأجهزة الحزب القيادية. واعتبر الحزب أن أولئك لا زالوا أعضاء بالحزب، وسينظر في أمر عضويتهم المؤتمر العام للحزب المزمع انعقاده في 26 يناير 2003م. وقد أكد بيان الناطقة أيضا أن ما حدث اختراق للحزب من جهة خارجية، جاء في البيان: "في تاريخه الطويل تعرض حزب الأمة لإنشقاق واحد وعدد من الاختراقات، والفرق بينهما هو أن الإنشقاق إنطلق من عوامل ذاتية وخلافات داخلية وقد حدث مرة واحدة في عام 1966م. أما الاختراق فقد حدث في الماضي مرتين في ديسمبر 1951م بإسم الحزب الجمهوري الإشتراكي، وفي عام 1957م بإسم حزب التحرر، وكلاهما إختراق لأنه إستهدف قواعد حزب الأمة وإستند لدعم خارجي.. التجمع المسمي مؤتمر تداولي لحزب الأمة إجتماع يتم خارج الشرعية والنظام وهو مستهدف قواعد حزب الأمة لمصالح الآخرين". أكد البيان أيضا أن الاجتماع المشترك للمجلس القيادي والمكتب السياسي في يوم الإثنين 8/7/2002 قرر إعلان أن المؤتمر المذكور نشاط مخالف للشرعية ولنظام الحزب المتفق عليه والمشاركة فيه خروج علي الشرعية والنظام ورأي الجماعة، وأن المشاركة فيه من قبل الذين يحتلون مواقع سياسية أو تنفيذية تعتبر إستقالة من تلك المناصب. وأن أجهزة الحزب المعنية سوف تقوم بتعيين المسئولين الجدد في المواقع التي أخلاها أصحابها . كما نبه البيان كافة الأطراف الوطنية إلى أن هذا الإجتماع لا يمثل حزب الأمة وأن إستخدام إسم الحزب تزوير يجب ألا ينطلي علي أحد. ورجا من أعضاء السلك الدبلوماسي أخذ علم بهذا الإجتماع وعدم الإلتباس بأنه مؤتمر لحزب الأمة. وأكد أن حزب الأمة قد أوضح آلياته للإصلاح والتجديد في إطار الشرعية ولكن ما يحدث الآن يستخدم شعار الإصلاح والتجديد كلمة حق يراد بها دعم باطل المشاركة في السلطة دون المبادئ التي قررها حزب الأمة وأعلنها، فهي محاولة لإختراق قرارات حزب الأمة ويجب أن ترفض ويعلم القائمون بها أن حزب الأمة غير قابل للتدجين بهذه الوسائل وأنه سوف يحمي نظامه وقراراته المؤسسية الديمقراطية.
    لقد وقفت الصحافة السودانية بوعي ومسئولية تجاه هذه التصرفات التآمرية فقضية الديمقراطية لا تتجزأ وإدانة الأسلوب الإقصائي والانقلابي على مستوى الدولة تتطلب إدانته على المستوى الحزبي. مما يظهر أن شعارات تجمع سوبا لم تمر على أحد.
    لقد كنت إبان هذه الأحداث في موقع أتاح لي الاطلاع على الكثير من الحقائق التي غابت عن الكثيرين، وأجدني بطبيعتي الخاصة أميل إلى التوثيق ورصد المعلومات.. وقد رأيت بيدي مادة غزيرة صاحبت حادثة سوبا 2002م، ورأيت من المفيد جمعها وعرضها، وقد بذلت جهدا أقل في التحليل أو الرد على الحجج التي ساقتها جماعة الانسلاخ، أنتج كل ذلك هذا الكتاب.
    يتكون هذا الكتاب من جزئين: الجزء الأول (قراءة للحقائق) هو السفر الذي بين أيديكم وهو محاولة لتبيان الحقائق حول تصرفات تلك الجماعة الضائقة بالديمقراطية داخل الحزب منذ أكثر من عام (الفصل الأول)، وحقيقة تجمعهم في سوبا في منهجيته ومداولاته (الفصل الثاني)، وحقيقة اتفاقهم مع النظام (الفصل الثالث)، وحقيقة تنظيم حزب الأمة الحالي والذي أثاروا حوله الشكوك (الفصل الرابع). أيضا في الكتاب مناقشة للمرجعيات التي يسوقها الاختراق في هجومه وفي دفوعاته -وهي انشقاق الحزب في الستينيات من القرن العشرين، وانقسام المؤتمر الوطني مؤخرا (الفصل الخامس)- ثم نفرد فصلا خاصا بأهم الحجج للانسلاخ في سوبا (الفصل السادس).
    أما الجزء الثاني لكتاب الاختراق والانسلاخ في حزب الأمة بعنوان (مقالات ووثائق) فنفرده للمقالات الصحفية الرصينة التي صاحبت عملية الاختراق والانسلاخ في الحزب، وللوثائق من خطابات وبرقيات ومذكرات جاءت من مختلف جهات الدنيا وولايات السودان تبين موقفها من هذه الأحداث.حقا.. ألسنة الخلق أقلام الحق!.
    إننا لا نود من خلال هذا الكتاب بجزئيه "إعدام ميت" فغالب الرأي الموضوعي في السودان وقف لجانب حزب الأمة وشرعيته واستخف بسوبا وحلقاتها الأولى حتى الأخيرة، بل وهزئ منها كما لم يهزأ بمناسبة سياسية في الماضي القريب.. وعلى المغالط مثلا أن ينظر "كاراكاتيرات" كاروري وعز الدين..أو يقرأ الحاج وراق- عبد الحميد عوض- تاج السر شبو-د.صالح عبد القادر صالح- د.عبد اللطيف البوني-صلاح الدين عووضة-خالد فضل- حيدر المكاشفي- محمد المكي إبراهيم- محمد عبد السيد- وليقرأ نور الدين مدني- الطيب زين العابدين- عبد الله رزق- عبد الله آدم خاطر- محمد لطيف- لبنى أحمد حسين.. والقائمة لا تنتهي. وللأستاذ صلاح الدين عووضة مقالة خفيفة الظل تحدثت عما سماه "الحكمة الموسوية" في تثمين الكتابات التي وقفت تطبل لسوبا 2002م، إذ حكى عن زميل له كان يدرس الفلسفة اسمه موسى ولكنه يعتقد يقينا أن الحق يمكن معرفته عن طريق الرجال، فهناك نفر معين إذا تأكد موسى من اتفاقهم على موقف لتجنبه على الفور مهما بدا له حسنا في البداية!.. أكدت تلك المقالة أن كل الأسماء التي طبلت للإنقاذ ووقفت منافحة عنها هي عينها التي دافعت عن سوبا 2002م، وبالتالي فإن المقالات والأقلام التي كتبت لصالح ما حدث في سوبا على قلتها كانت تستبطن الوقوف لصالح الانخراط في الإنقاذ وإن أظهرت غير ذلك. وقد ضاعت تلك الظلمات بين أنوار الكتابات الكاشفة.
    .. نعم لقد "ماتت" سوبا أو ولدت ميتة، ونحن لا نفضحها –رغم موتها- تشفيا ولكن توثيقا للأجيال القادمة والتي ربما وقعت على بعض ما يشير له الاختراقيون بدون أن تكون تلك الأجيال قد اطلعت على دقائق ما يحدث.. وربما وجد الآن بعض ممن يجهلون حقيقة ما تم في سوبا وما سبقه وما تلاه، وهؤلاء سيكون هذا الكتاب مفيدا في عرض الصورة الحقيقية لسوبا أمامهم.. كما أن في الكتاب مساحة حتى لأولئك الذين تابعوا وأدركوا رداءة الإخراج المسرحي في سوبا- والإشارة هنا لمقال الأستاذ عبد الحميد عوض بعنوان "المسرحية التي لا تستحق جائزة"- وذلك لأننا اطلعنا على بعض الجوانب في تجمع سوبا لم تنقلها كاميرات التلفزيون، بل لقد كان ما نقل للجمهور على ركاكته، هو أكثر صور تجمع سوبا القابلة للعرض.. وسقطت الجوانب الأكثر تهافتا..
    وأخيرا، فإني حاولت جاهدة أن تبتعد لغة الكتاب من الحدة و القصور في تقبل الرأي الآخر. لقد تصرفت جماعة سوبا بشكل إقصائي وسطت على إرادتنا مزيفة لها وعلى شرعيتنا منتهكة لها وبذلك جعلت مسألة تقبل خطابهم بهدوء من أصعب الامتحانات في ضبط النفس. إن كثيرا من الشعارات والآراء التي رفعتها سوبا تستحق نقاشا هادئا، وكثير من اختلاف وجهات النظر أمر طبيعي ومحمود ليكون التنوع قوة، ولا يظن أحد أن الهجوم على بعض تلك الأفكار من باب الاستهجان لها كأفكار، ولكن لأنها ارتبطت بمسرح سوبا الإقصائي في فلسفته وفي إخراجه.. لقد أشهرت جماعة سوبا السيوف وأغمدت الحجج والمداولات التي تقبل اختلاف الآراء وتدعو بالحسنى، لقد أرادوا قبرنا أحياء لا لشيء إلا لأننا اختلفنا في الرأي، إنني من أحرص الناس ألا يتجاوز الجدل السياسي حدود الهدوء ولا يدلف إلى الطحان، ففي أي طحان بيننا كسودانيين لا يسقط إلا الأحباب ولا يطعن إلا الوطن.. لقد حاولت جهدي أن أخرج من لغة الطحان، وحاولت جهدي أن أناقش وأعرض وأحلل بهدوء، فإن كنت تجاوزت هدفي، فإن البادئ أظلم!. وقد قال عز وجل: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم".
    بقي أن أذكر أن هذا الكتاب ليس صنع يدي خالصا.. إنه مكون من العديد من الأدبيات الخاصة بالحزب وبرئيسه والتي صدرت في تواريخ ومناسبات مختلفة، علاوة على بعض المقالات الصحفية خاصة مقال الدكتور عبد الرحمن الغالي رئيس قسم الدراسات والبحوث بالحزب بعنوان: قراءة هادئة في مسألة السيد مبارك.. لقد قمت بتجميع تلك الأدبيات وإعادة تبويبها. كما حاولت عرض مناشط مؤتمر سوبا وتحليلها والرد على الحجج التي سيقت.
    وقد ساعدني في تتبع كل مناشط سوبا عن قرب أعين حضرت سوبا ونقلت بدقة المسرحية التي تريد القضاء على الحزب، ولكن هيهات.
    أجزاء كبيرة من الكتاب إذن هي في الحقيقة بيد أقلام اقتت عليها. أما ما ذهب إليه الانسلاخيون من أن الكتاب بيد والدي فأمر عجب، ذلك أن قلمي ليس جديدا على القارئ السوداني وأحسب أن نفسي في الكتابة يبدو للمتابعين ولو قلوا. وإنني لأتوق أن يكون هناك وجه شبه بين القلمين – قلمي وقلم والدي- وهو أمر بعيد المنال، فلو صح أنني أصبت شيئا من نفس قلمه بالوراثة ثم بالتدريب على طول فترة عملي معه، فإن بحار العلم التي يقتات منها قلمه تحتاج لمجهودات جبارة في الإطلاع والمتابعة لم يتح لي بذلها، والأبعد من ذلك أن أسلوب التناول والاهتمام بأمر سوبا يختلف.. إنني أعترف أنني اضطررت لبعض تقاصر حتى أفحص ثنايا تلك المساقط السوبوية، ومن يهتم بفحص الوحل يتلطخ. فهل يحلمون أن يأتي ذلك من السيد الصادق؟ وأنا اشهد أنه كان طيلة اهتمامي بأمر هؤلاء الجماعة منذ الهجمة الصحافية في يناير 2002م وحتى الآن ينصحني وينصح جميع من هم حوله قائلا: انصرفوا للأمور الجسام ولا تهتموا بصغائر الأمور، ما هذه إلا زوبعة في فنجان!.. صحيح أنه استحسن فكرة الكتاب حينما عرضت عليه المسودة الأولى، ونصحني ببذل مزيد من الجهد لفحص أدبيات سوبا وتحليل محتواها، كما علق على المسودة بما يفيد الابتعاد عن أي حدة أو هتر. وقد شجعني على التوثيق الدقيق لما حدث والرد على الحجج والمغالطات، ولم يكن ذلك أبدا من باب الاهتمام بصغائر سوبا 2002م وتتبع هفواتهم و"آدابهم". ولكنني ربما كانت تستهويني أساليب القص من حين لآخر، كما وجدت متعة حقيقية في المقارنات التي مهما كانت دقيقة فسيلحقها البعد الكاريكاتيري.. إنني لست من أهل الطرفة ولا الدعابة غير أنني أصبت طرفا من ذلك في مجرد الوصف!.. وكان أمتع شيء متابعة أطراف الشعر في سوبا 2002م، والتهام ردود الفعل من شعراء الحزب الفحول.. مع أن الوقت لم يسعفني كثيرا للحصول على كل ما قيل أو تفريغ القصائد المصورة بالفيديو من مختلف الزيارات والوفود. لقد قيل لي ما لزوم الشعر في كتاب كهذا؟ وأقول.. كيف يحتمل الحديث عن الاختراق والانسلاخ صرفا وهو ليس فيه شيء كثير يغني العقل ولا الوجدان وقد بان للغالبية وباخ طعم فضحه.. كيف يمكن متابعة ذلك لو لم يمزج ببعض الشعر حتى تحمله هذه "الأرض الشاعرة"؟.
    لقد ساعدني في مراجعة وتنقيح هذا الكتاب الحبيبتان رشا عوض وإيمان الخواض، فجزاهما الله عني كل خير.. فقد ساعدتا بذلك أن يكون الكتاب الأول في موضوع حادثة سوبا نسويا في نصه ومراجعته، في بلاد بل عالم يأتي الصوت النسوي فيه بعد الرجال.
    لقد كان كثير ممن يتابعون الأحداث داخل حزب الأمة يسألون عن حقيقة ما حدث، وتفاصيل سوبا 2002م، ومقارنة حادثة سوبا بانشقاق الستينيات وبما حدث للمؤتمر الوطني، وحقيقة التنظيم المرحلي للحزب، وغيره مما تطرق له الكتاب، ولذلك فقد حرصت حالما فرغت من مسودة هذا الكتاب أن يملك للقارئ السوداني، فوزعت نسخا من مسودة الكتاب الأولى للصحف الوطنية، وقد تكرمت بنشره صحف الأيام، والصحافة، وأخبار اليوم، ولا زالت توالي نشره. وقد يلاحظ من تابع نشر الكتاب في الصحف المذكورة بعض الفرق بين ما نشر وبين النص الحالي، فقد تسلمت بعض التعليقات، كما راجعت النص قدر استطاعتي نفيا للحدة التي قفزت من قلمي من وقت لآخر دون قصد. وقد استفدت من بين تعليقات الأحباب بالدرجة الأولى من إفادات الحبيبين محمد عبد الباقي (أبو ظبي) وعبد الله الصادق (بريطانيا)، وهذان الاسمان يمثلان قمما للعطاء والهمة في حزب الأمة سعدت بالتعامل معهما في فترة "الإنقاذ" المرة، كما امتد فيضهما حتى بعد الانفتاح السياسي النسبي الأخير. عرفت الأولي وصوته الجهوري عبر خطوط التلفون كما تعمقت معرفتي بالثاني –وهو قريبي رحما- عبر الإنترنت، والمثل الذي يقول: رب أخ لك لم تلده أمك، يمكن تحويره اليوم ليصير: رب أخ لك لم تلقه رأي العين!.. إن حزبنا يضج بمثل هذه المعادن الصلبة، رجال ونساء يعملون في صمت وخفاء، نفع الله بهم البلاد وكثر من أمثالهم. آمين.
    ولكن الشكر الذي لا يحد هو للعم الحبيب السيد صلاح إبراهيم أحمد، والسيد محمد عبد السيد.. فهذان ما فتئا يشجعان قلمي منذ بداياته الأولى، وكنت ما نشرت مقالا أو كتبت عمودا إلا علق الواحد منهما عليه بشيء مراجعا أو مؤيدا أو مضيفا، ولكم هي منة رعاية المخضرمين للمحدثين أو المختصين للهواة.. من ذلك نصائح العم صلاح لي فيما عرضت وداخلت خاصة نقاشي في مقالات مطولة لكتاب الدكتور عبد الله علي إبراهيم "الإرهاق الخلاق"، ومقالاتي حول تعليق الدكتور عبد الوهاب الأفندي بشأن كتاب السفير الأمريكي الأسبق نورمان أندرسون عن السودان.. لقد كانت لتلك التعليقات أبلغ الأثر في نفسي المتسائلة حول جدوى مواصلة مشوار الكتابة المضني الآكل للوقت والجهد، فحسب الكتابة أنها تفتح أبوابا من المعرفة والود وتبادل الآراء مع متعاطي الفكر بجدية.. ولأن العطاء يغري بالسؤال، فإنني حينما فرغت من مسودة الكتاب وأشكلت علي مسألة تمويل طباعة الكتاب اتجهت للأول، والذي تكفل بالجزء الأكبر منه بأريحيته العامرة، ندعو الله له الحفظ والسداد- آمين.. واتجهت للثاني طالبة التصدير للكتاب، والذي لم يبخل علي به جزاه الله عني كل الخير.. ومثلما أن التمويل أساسي لأي عمل ضرورة الهواء والماء للحيوان، فإن الدعم المعنوي والرفد الفكري ضروري لأي قلم.. لقد داخل السيد محمد عبد السيد عمودي الأسبوعي الذي كنت أكتبه في جريدة "الصحافي الدولي" وكان ذلك حول "جمال المرأة السودانية والثمن الباهظ".. والآن نحن بصدد موضوع مختلف تماما، ولغة مغايرة جدا.. ويظل أهل العطاء لقلمي من تعودوه. ولا أقدر على سداد العرفان الواجب.
    وأخيرا فإنني أرجو أن أكون قد ساعدت في إلقاء الضوء على أحد جوانب "التدافع" في أكبر حزب سوداني، دفعا لمسيرة التوثيق في السياسة السودانية وإثراء للحوارات السياسية الجارية.
    والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل..
    رباح الصادق
    أم درمان في أغسطس 2002م
                  

08-27-2012, 08:19 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)


    الفصل الأول
    مسلسل الاختراق: الحلقات الأولى
    ما دهـــاك ودر نهاك كونتي للفرقة الفريق
    حقيقة ما بسمع نواح الصايحيــن ميت غريق
    نوع الجزا نفس العمل خوفي عليكي من الحريق
    خضر عرمان
    انعقد في العاشر من يوليو 2002 مؤتمرا سُمى المؤتمر الاستثنائي لحزب الأمة، توج المؤتمر سلسلة من الحلقات المتصلة لأعمال جماعة ظلت منذ قرار الحزب بالعودة للداخل وتصفية العمل المعارض، تكدح وتجهد لشق طريقها الخاص المخالف من داخل الحزب. فمنذ تغير الوضع من المواجهة للحوار ومن الاستئصال والاستئصال المضاد إلى خانة المربع الثالث وتلك المجموعة تعمل ليكون استبدال المواجهة بالانخراط في النظام.
    برز أول خلاف للسطح لتلك الجماعة مع خط الحزب في عقب قرار 18 فبراير 2001م حول التفاوض مع النظام والمشاركة في السلطة، وفي إطار تحدى القرارات والمؤسسات الحزبية قامت هذه المجموعة بتقديم ما سُمى بالمذكرة الأربعينية في مايو 2001م، وقد كان القصد منها دفع رئيس الحزب دفعا إجباريا نحو تنفيذ أفكار تلك الجماعة بغض النظر عن الأجهزة الحزبية التي لم تكن الجماعة تعترف بها. ولما لم تحقق المذكرة شيئا من مقاصدها لجأ قائد التيار الانخراطى إلى نهجه المفضل وهو التبشيع بمن يخالفه الرأي في هجمة صحافية ضد الحزب وقيادته عبر اللقاء الصحفي الذي نشر بجريدة أخبار العرب في ديسمبر 2001، وعبر غيرها من الكتابات بيد تابعيه.. هذه الهجمة الصحافية اعتبرت تجاوزا من آلية المحاسبة الحزبية مما أدى إلى تجميد عضويته داخل الحزب، وقد صاحب التجميد ضجة إعلامية قامت بها الجماعة والأقلام الإنقاذية المنافحة عنها، وبعد احتواء تلك الأزمة واصلت الجماعة أعمالها المخالفة سرا وعلانية في الولايات والعاصمة.
    كانت المرة الأولى التي تحاول فيها جماعة سوبا 2002م مناقشة أفكارها داخل أجهزة الحزب عندما قدمت مذكرة القطاع السياسي في مارس 2002م ولكنها انسحبت من نزال الآراء داخل الأجهزة حالما ظهر لها خسرانها المبين، ثم واصلت تشكيكها في الحزب وفي سياساته ظهر ذلك جليا في التعامل مع آلية المراجعة التي كونها الحزب عبر لجنة تقويم وضبط الأداء ومناقشة تقريرها في أبريل- يونيو 2002م..
    ثم كانت قاصمة الظهر لمخالفة الجماعة والخروج عن الحزب وتكوين حزبهم الانسلاخى في مؤتمر سوبا الأخير: قمة اختراق حزب الأمة لصالح الانخراط في النظام.
    هذا الفصل سيتناول الحلقات الأولى لمسلسل الاختراق بشيء من التفصيل، على أن نفرد للحلقة الأخيرة (سوبا 2002م) الفصل القادم، ولنتفرج قليلا على المسرحية "التي لا تستحق جائزة". فيما يلي حديثنا عن الحلقات الأولى:
    ردود الفعل على قرار المشاركة بتاريخ 18 فبراير 2001م:
    بعد عودة قيادات الحزب بالخارج -إثر التوقيع على نداء الوطن- وعلى رأسهم الدكتور عمر نور الدائم، والسيد مبارك المهدي للسودان في 6 أبريل 2000م، بدا لبعض قيادات الحزب بالداخل أن علاقتنا بالنظام خالية من الشفافية وحول هذا الأمر وحول العودة نفسها تباينت آراء قيادات الحزب. فرأى رئيس الحزب أن يدعو كافة الأطراف المعنية للقاهرة للاجتماع وتصفية الأمر. عندما أبلغ السيد مبارك بالاجتماع أنكره وقال أنه لن يحضره لأنه يعتبر أن العناصر المخالفة لا تستحق هذا الاهتمام وعلينا أن نمضي في طريقنا ولا نعبأ بها. وتحت التهديد أن يقوم الاجتماع ويتخذ القرارات بدونه حضر للاجتماعات التي انعقدت في أواخر يوليو واستمرت حتى أوائل أغسطس 2000م، ونجحت الاجتماعات في تحديد سياسات الحزب وفي تكوين تنظيم مرحلي على أساس التراضي، والتصعيد، والانتخاب ما أمكن على أن يستمر هذا التنظيم المرحلي حتى انعقاد المؤتمر العام. اتفقت القيادات على ذلك وأخذوا عليه موثقا. ولكنه في نهاية الاجتماع فاجأ القيادات بأنه متخل عن أية مسئولية محددة في الفترة الانتقالية. راجعه الآخرون فتراجع، ولكن يبدو كما ظهر فيما بعد أنه في قرارة نفسه لم يكن راضيا عن ميثاق التراضي الذي تم إبرامه .
    اندفع عمل حزب الأمة التنظيمي ولكن قعد به أن النظام الذي صادر من الحزب ما قيمته 4.5 مليون دولار لم يسدد إلا ربعها، وعاقب الحزب النظام الإريتري على موقفه السياسي بحجز ما قيمته 2.5 مليون دولار من سياراته. هذه الإمكانيات كانت رصيد الحزب المهيأ للتمكين من الحملة التنظيمية والتحضير لمؤتمر الحزب العام في 26 يناير 2001م كما قدر .
    واندفع عمل حزب الأمة التعبوي الشعبي والسياسي من أجل الأجندة الوطنية. هذه الحملة كان متوقعا أن تكون أكثر عطاءا لولا إحجام القوى السياسية الأخرى فلا هي واصلت نشاطا عبر التجمع في الخارج ولا نشاطا تعبويا في الداخل وعلى كثرة مناشدة حزب الأمة لها كانت الاستجابة محدودة. أما التفاوض مع النظام فقد قطع شوطا معتبرا في مجال الاتفاق على أسس اتفاقية السلام، وعلى مسألة الدين والدولة، ولكنه تعثر حول قضايا الإصلاح الدستوري الديمقراطي المطلوب والإصلاح القانوني المطلوب للالتزام بالحريات العامة وكفالتها.
    واصل الحزب بعد العودة حواره مع النظام بقيادة السيد مبارك الفاضل المهدي، ووصل لمرحلة معينة ناقشتها الأجهزة القيادية للحزب نقاشا واسعا. حرص رئيس الحزب أن يتم النقاش في المكتب القيادي ثم في المكتب السياسي. وحرص أن يدلي كل عضو برأيه بحرية تامة فرفعت اللوائح لكيلا يكون على النقاش قيد زمني. وحرص السيد الصادق ألا يتأثر أي شخص برأيه فلم يدل برأي أبدا. وتوصل المجلس القيادي بعد نقاش مستفيض لقرار صاغه الرئيس وعرضه على أعضاء المجلس فقبلوه بالإجماع. ثم بحث المكتب السياسي الأمر دون أن يبلغ بقرار المكتب القيادي. وبعد نقاش شامل توصل المكتب السياسي لقراره بالإجماع وكان القراران في جوهرهما متطابقين وصدر قرار الحزب الشهير في 18 فبراير 2001م. (أنظر الفصل الثالث: اتفاق سوبا ومرجعيات الحزب).
    ومع أن القرار كان بالإجماع فإن السيد مبارك لم يكن راضيا عنه. وكان يقول لمفاوضي الحزب في النظام إن قرار الحزب سوف يكون إيجابيا للمشاركة لأن المعترضين عليها قلة لا وزن لها. وبعد القرار الذي أكد مبدأ المشاركة ووضع ضوابط لم تكن في حسبانه ، حاول في البداية ادعاء انتصاره في القرار والتقليل من شأن المؤسسة وفي لقاء تلفزيوني معه في برنامج "في الواجهة" استخف بما أشيع أن بالحزب مؤسسة ناجزة وذكر أن القطاع السياسي صاغ القرار وأعطاه للرئيس الذي مرره على الآخرين فقبلوه بالإجماع!. ثم صار يفسر المفارقة لمفاوضينا في النظام بأن الرئيس هو الذي أثر على الأعضاء!! . الحقيقة أن الرئيس لم يبد رأيا وأن أقرب الناس له كانت آراؤهم متباينة مما يشير بصفة غير مباشرة إلى أنه لم يتبن رأيا معينا. وكان هذا في حد ذاته بابا لغضب عرمرم من السيد مبارك على الرئيس لأنه لا يثق أن للناس أسبابا موضوعية وآراء مستقلة، ويعتبر أن وقوف الرئيس مع خطه كان كفيلا بتغيير القرار لصالحه!.
    مثلما قبل السيد مبارك التنظيم المرحلي ظاهرا وتحرك ضده باطنا، قبل قرار المشاركة في 18/2/2001م ظاهرا وتحرك ضده باطنا، وانتهى به الأمر لهندسة المذكرة المقدمة للرئيس في مايو 2001م.
    المذكرة الأربعينية بتاريخ مايو 2001م
    كانت اجتماعات الأجهزة القيادية للحزب مستمرة، وكان الحزب يعيش انتعاشا بين جماهيره إبان توضيح الموقف إزاء مسألة المشاركة في السلطة. كما كانت صورة الحزب في الصحف الوطنية زاهية للغاية، وصار الكتاب والصحافيون يبشرون بنهج الحزب الديمقراطي. ولكن هذه الصورة لم ترض الفئة المذكورة التي كانت تريد للقرار الحزبي أن يؤيد خط المشاركة بدون أية ضوابط. ففكرت الجماعة في وسيلة للضغط من خارج المؤسسات والأجهزة –تقليدا لخط مذكرة العشرة من داخل المؤتمر الوطني- فتمت هندسة المذكرة الأربعينية، وكان من أهم نقاطها اثنان:
    • الحديث عن أزمة تنظيمية حقيقية في الحزب. وضجر بوجود ما أسموه "الشيوخ" في الحزب. والدعوة لمراجعة هياكل الحزب مع التبرم من كثرة المراجعات من قبل "لا بد من الثبات في العمل المؤسسي فليس كل مشكلة تطرأ تغير لها هياكل الحزب"‍ . والدعوة لاختيار "كلية ذات شرعية ثورية تضم إلى جانب الرئيس المنتخب والأمين العام المكلف الذين حافظا على هذه الشرعية مع كل الذين حملوا راية النضال منذ عام 1989م إلى عام 1999م في المركز والأقاليم وخارج السودان" يناط بها إعادة هيكلة الحزب وانتخاب أجهزته إلى حين انعقاد المؤتمر العام.
    • الحديث عن أزمة سياسية لأن قرارات الحزب جاءت منسقة مع رؤية القطاع السياسي في المشاركة، ولكن نتائج التفاوض الأخيرة التي وصل لها القطاع السياسي لم تعرض على الأجهزة القيادية (باعتبار أن تلك النتائج فتوحات كانت الأجهزة ستقبلها)، و"تقاعست" القيادة فقررت إرجاء المشاركة. وتحدثت المذكرة عمن أسمتهم قيادات مخذلة وضغط على القيادة أدى لعدم قبول المشاركة. كما تحدثت عن ضعف الحركة السياسية، واستحالة تخطي القوات المسلحة و"الحركة الإسلامية"- إشارة للمؤتمر الوطني. ومراعاة أثر البترول والظروف المعيشية الضاغطة لجماهير الحزب، وتوحيد الحزب وتجاوز الشروخ.
    رئاسة الحزب رفضت هذا الأسلوب لأن مقدمي المذكرة أعضاء في أجهزة الحزب المتفق عليها وأجهزة الحزب قابلة لبحث أية مسألة بحرية داخلها فإن لجأ الحزب لأسلوب المذكرات فإنه يكون قد فتح باب تجاوز أجهزته، وسوف يلجأ كل صاحب رأي للتعبير عن موقفه بمذكرة. هذه المسألة مهمة، فالمذكرات التي ترفع لمجرد إبداء الرأي لأشخاص لا يصل صوتهم للمؤسسة إما لأنهم غير ممثلين فيها، أو لأنهم لا ينتمون للحزب ولكن قرروا مخاطبته -كما فعلت جماعة الخطاب الوطني المستقل مثلا - فهذه ممكن التعامل معها، أما أن يقوم أعضاء متنفذون في المؤسسة وممثلون فيها برفع مذكرة -تقدم أو تناقش خارج تلك الأجهزة- فهذا بمثابة سحب لاعترافهم بها. علاوة على ذلك، فقد كان الدافع الحقيقي للمذكرة أنها كانت مشروع انقلاب على الأجهزة الحزبية، فهي رؤية تثمن قيادات الحزب بمزاج خاص إقصائي تمدح بعضهم وتقدح في الآخرين، وقد دعت لما سمته "الشرعية الثورية" التي لا تعترف من بين قيادات الحزب إلا بالرئيس والدكتور عمر نور الدائم، وتدعو للتخلص من الجميع لصالح مقدميها. وهذا هو السبب الرئيسي لرفعها من خارج الأجهزة تفاديا لمواجهة الأطراف المراد إقصاؤها.. لذلك كان موقف قيادة الحزب أن هذه المذكرة أسلوب هدام وأمام مقدمي المذكرة خياران: سحبها وبحث ما يشاءون داخل الأجهزة أو الإصرار عليها والتخلي تلقائيا عن عضوية تلك الأجهزة.
    وبعد تفكير في الأمر أبدت الجماعة الموقعة على المذكرة تفهما لموقف الرئيس، وبعد اجتماع بالقيادة في مايو 2001م أقروا اعتبار المذكرة لاغية. ولكنهم الآن ينكرون ذلك فقد صدر مؤخرا بيان وقعته "سكرتارية المذكرة الأربعينية" تؤكد أنها لم تسحبها، بينما أكد بعض الموقعين –ممن لم يتبعوا خط الانسلاخ- أنهم سحبوها بكامل رضاهم. من أولئك السيد طه أحمد سعد والذي أرسل خطابا للصحف بهذا المعنى. الشاهد، أن تلك الجماعة بعد أن سحبت المذكرة الخاطئة إجرائيا الخاطلة تنظيميا ومؤسسيا لم توقف زحفها نحو المشاركة بدون قيد أو شرط، أو نحو إقصاء من تكره داخل الحزب، وواصلت حملة من الهمز واللمز تشكك في شرعية أجهزة الحزب القيادية. وسنتطرق في فصل "المسألة التنظيمية" لهذه القضية بالتفصيل.
    وقع على هذه المذكرة أربعون شخصا يحتلون مناصب سياسية وتنفيذية بأجهزة الحزب. أحدهم "حسن أحمد الحسن" أنكر أن يكون قد وقع عليها واعتبر إيراد اسمه فيها تدليسا عليه. منهم من عبر عن أنه وقع عليها بعد إطلاعه على أنها بالتنسيق مع الرئيس ليقدم على ما فيها بصورة مبررة ، وقليل منهم انسحب عن الخط الانخراطي في النظام بعد أن اتضحت تفاصيله في خطوته الأخيرة "مؤتمر سوبا" –مثلا: طه أحمد سعد- تبيرة إدريس هباني- ومكي يوسف النصيبة. ولكن غالبية الموقعين فيها استمروا في خط المشاركة الانخراطية حتى آخره.
    وعلى حد تعبير الدكتور صالح عبد القادر، فلقد "غلب على المذكرة الأربعينية طابع لغوي استعلائي واستئصالي في آن واحد" .
    المذكرة ملآى بالمغالطات التي تسهل محاصرتها والرد عليها:
    فالمذكرة تنتقد كثرة التعديلات في الهياكل- وهي تدعو لهيكل جديد.
    والمذكرة تتحدث عن وقوف الأجهزة مع المشاركة وأن القيادة هي التي تقاعست، مما يوحي أن المشكلة في رئيس الحزب وليس في المؤسسة، ولكنها للغرابة تدعو لحل المؤسسة مع الإبقاء على ذلك الرئيس "المتقاعس".
    والمذكرة لا تعترف بأجهزة الحزب بينما شرعية مقدميها مستمدة من تلك الأجهزة نفسها.
    والمذكرة تدعو الرئيس لقيادة انقلاب داخل الحزب يبقي فيه على نفسه ونائبه الأول، وتقدح في الأجهزة المرحلية، ولكن تصورها البديل لم يتحدث عن آليات انتخابية ولا أخرى بتراض جديد، تصورها الجديد جراحي، ويقوم على تقديرات ذاتية لأصحابها. فهي إقصائية حين حديثها عن مخالفيها في الحزب، تريد التخلص منهم بمشرط "الشرعية الثورية".
    كما أنها استئصالية حين التحدث عن الآخرين في الساحة السياسية السودانية "فالمذكرة في هذا الجانب قد تعاملت مع القوى الوطنية ومع مشاكل ومستقبل السودان بسطحية متناهية. لأنهم اتجهوا للفكر الإقصائي والاستئصالي، وهي في هذا الجانب ترسل إشارات مبكرة للسلطة بالعودة للمربع الأول".
    والمذكرة تلتف حول قضية الديمقراطية في السودان لتبرر المشاركة بطريقة تصبح معها المشاركة نفسها "متأرجحة ومعلقة على مجهول بمعنى أن جني فوائدها يحتمل التحقق أو عدم التحقق واقعيا". والمذكرة تدل على أن واضعيها "يسيرون في اتجاه التلاشي في الإنقاذ وثوابتها الحزبية التي ربما أصبحت ثوابت وطنية بالنسبة لأهل المذكرة القطاعية" ..
    والمذكرة تدعو لتجاوز الشروخ وتوحيد الحزب، بينما هي مشروع لتفجير الحزب وتمزيقه شذر مذر "فالشرخ الذي أحدثته المذكرة وما صاحبها من جرأة بعقد مؤتمر استثنائي دون موافقة القيادة الشرعية للحزب والسير في اتجاه تأسيس حزب قائم بذاته هي التي تغري المغامرين وتشجعهم لضرب مكاسب الشعب" .
    والمذكرة تتحدث عن الظروف الضاغطة كأن المشاركة ستحل هذه القضية، مع أن هذا التقدير ميكافيللي في فلسفته، وواهم في تقديره، كما سنبين لاحقا.
    ..ببساطة، تلك المذكرة تجمع تناقضات وأفكار سطحية منبتة عن جذرها ومقاصدها.. ولقد كان في متناول الرئيس الرد على تلك المذكرة وتبيان خطلها بل خلطها المريع وركاكة صياغتها التنظيمية والتي تنبي عن تصورات سياسية فطيرة لا تقدر العواقب، ولكنه اعتبرها –كما ذكرنا- مخالفة لنظام الحزب .. ومرة أخرى: السيد مبارك الذي شارك في اجتماع سحبها، أظهر موقفا وأبطن موقفا آخر ومضى يدير القطاع الذي يرأسه بأسلوب شبيه بتكوين حزب داخل الحزب.
    الحملة الصحفية المبتدئة بديسمبر 2001م.
    الفئة التي ربطت مصيرها بالمشاركة دون شروطها واصلت التشكيك في شرعية التنظيم المرحلي، والطعن في قرارات الحزب السياسية، وإيهام قيادات النظام أن أغلبية حزب الأمة تؤيد المشاركة كما يرونها، وأن هناك فئة قليلة معارضة لمبدأ الحوار مع النظام من أساسه، وأن بينهما فئة ثالثة مترددة.. أوهموا قيادات في النظام بهذه الصورة الزائفة وأكدوا لهم أن الحزب لا خيار له سوى الانخراط لأن ظروفه المالية والتنظيمية سوف تجبره على ذلك. هذه الصورة المشوهة لحزب الأمة لعبت دورا في استخفاف النظام بالحزب واستمر أصحابها يرددونها همسا ومن وراء الكواليس إلى أن أقدم قائدهم- السيد مبارك المهدي- على التصريح بها علنا في صحيفة أخبار العرب بتاريخ 26 ديسمبر 2001م، ثم نشر ذات اللقاء بعناوين مختلفة في جريدة الرأي العام السودانية بتاريخ 30 ديسمبر 2001م. هذا الإعلان اعتبرته هيئة الرقابة الحزبية وهي هيئة تراضت على قيامها قيادات الحزب بالإجماع حماية للحزب من التجاوزات والتفلت - اعتبرتها خروجا على ضوابط الحزب...
    عندما صدرت تلك التصريحات العلنية درستها هيئة الرقابة بمبادرة منها وقررت إنزال عقوبة التجميد لعام على صاحبها بتاريخ 5 يناير 2002م. لائحة الهيئة تجعل عقوبتها نافذة ما لم يعدلها الرئيس نتيجة لاستئناف الشخص المعاقب. ههنا جرت وساطات من نفر كريم ونتيجة لها وقع السيد مبارك على التزام بمؤسسات الحزب وبقراراته فاعتبر الرئيس ذلك الإجراء بمثابة استئناف وقرر إلغاء العقوبة.
    خلاصة تصريحات السيد مبارك كانت:
    1. إن حزب الأمة عاجز ونشاطه أكاديمي غير فاعل واصفا حركة الحزب بأنها "مجرد ضوضاء إعلامية تكتفي بالتعليق على الأحداث وانتظار الأفعال لترد عليها". ومؤسسته "ضعيفة للغاية.. لأنها ما زالت بالتعيين وغير منتخبة وتعاني كثيرا من القصور في الإمكانيات والقدرات".
    2. أن ركود الحزب دفعه –أي مبارك- نحو مواصلة عمله وعلاقاته بصورة قومية "وحزب الأمة يمكن أن يستفيد منها" وذلك لأنه بدأ يشعر "بصغر حجم الحزبية".
    3. طالب بتجديد الحزب قياسا على ما حدث في الحزب الحاكم حزب المؤتمر الوطني. قال: "حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي والشيوعي في حاجة إلى تجديد الدماء وتجديد القيادات. فالمؤتمر الوطني الحزب الحاكم هو الوحيد الذي ينفرد بقيادات شابة".
    4. دعى لتأييد إمامة السيد أحمد المهدي للأنصار، قال: "أحمد المهدي له دور تاريخي في هذا الكيان وسنه متقاربة مع الصادق المهدي، والإمام عبد الرحمن دفع بهما في العمل الأنصاري والسياسي ونالا تقريبا تدريبا مماثلا على يد الإمام وتخصص كل منهما في مجال".. "أحمد مسئولية الأنصار والصادق العمل السياسي".
    الطعن في حزب الأمة:
    في هذا اللقاء الصحافي رمى السيد مبارك حزب الأمة بثلاثة اتهامات هي: أنه عاجز وراكد. أن موقفه ضبابي. وأن مؤسساته معينة. وسنتطرق بالتفصيل لهذه المسائل لاحقا (فاعلية الحزب- والمسألة التنظيمية) ولكننا نناقش هذا الأمر لتبيان فداحة ذلك الهجوم حينها:
    أما أن مؤسسات الحزب معينة فهذا غير صحيح كما سنرى. فالمكتب السياسي تم التصعيد له من كليات انتخابية والأجهزة القيادية والتنفيذية تم الاتفاق عليها بتراضي القيادات ومبارك من ضمنهم في اجتماعهم المشترك المذكور آنفا.
    التهمة الثانية: أن موقف حزب الأمة هو في خانة التعايش بعد أن ترك المعارضة ولم يدخل الحكومة وهي خانة للسكون: هذا الاتهام غير صحيح الصحيح أن موقف حزب الأمة هو الطريق الثالث: طريق الدعوة للأجندة الوطنية بشقيها: السلام العادل والتحول الديمقراطي والضغط على الأجندة الشريرة: الشمولية- الحربية- التدويل. الفكرة هي أن يضغط حزب الأمة على جميع الجبهات لتحقيق تلك الأهداف بما فيها الضغط على الحكومة بمعارضة بناءة ومسئولة وقد أثمر ضغط الحزب كما سنرى لاحقا حينما نتناول مسألة فاعلية الحزب.
    هذا الشرح أعلاه يثير قضية هامة وهي كيف يجهل قيادي بارز مثل هذه البديهية في خط الحزب السياسي؟.
    حديث السيد مبارك عن الخيارات الثلاثة المتاحة أمام الحزب وهي: إما الانخراط في النظام أو الرجوع إلى المعارضة والمواجهة السابقة أو البقاء في حالة تعايش وسكون افتراض خاطئ:
    أولا: لأنه يفترض صمدية وسرمدية الإنقاذ واستحالة زحزحتها عن مواقفها.
    وثانيا: لأن الوقائع كذبته فقد استطاع الحزب من موقفه الثالث أن ينقل النظام من المربع الأول خطوات نحو المربع الثالث وكذلك ينقل المعارضة نحو نفس المربع بعد أن تبنت خيار الحل السياسي الشامل. هل كان هناك من يصدق أن تقبل وتوقع الإنقاذ على حكومة انتقالية تلتزم بتنفيذ التحول الديمقراطي على نحو ما جاء في مذكرة النقاط التسع التي قدمتها المبادرة المشتركة . أو أن يتم توقيع بروتوكول ماشاكوس من الطرفين: الحكومة والحركة؟!
    استمرار الحملة: لم تقف حملة السيد مبارك وأتباعه على تلك التصريحات. فقد تلى ذلك العديد من المادة الإعلامية التي غطت بعض الصحف بأسماء وهمية أو بأحرف، مقالات عديدة تصب كلها في الهجوم على مؤسسة الحزب، وهيئة شئون الأنصار، ورئيس الحزب، وتمتدح السيد مبارك باعتباره قيادة مؤهلة يجب أن تحل محل قيادة الحزب الحالية، وتتبنى ذات رؤيته المذكورة أعلاه لقيادة الأنصار. وصاحبت ذلك حملة منظمة تشيع الشائعات وتصب في ذات الهدف. ومن أشهر المكاتبات الصحفية كان الخطاب المفتوح الموجه للسيد الصادق المهدي الممهور بالأحرف ح. م. أ. والذي ادعى كاتبه أنه عضو بالمكتب السياسي لحزب الأمة ومجلس الحل والعقد لهيئة شئون الأنصار، والذي أرسل لكافة الصحف ولم تنشره إلا جريدة الصحافي الدولي. ذلك الخطاب كان مليئا بالإساءات والمغالطات والأكاذيب، كما كان مصحوبا بصورة من بيان للسيد عبد الله الفاضل المهدي- وقد أرسله مكتب السيد مبارك –والذي استطعنا تتبعه رغم تخفيه وراء عنوان مجهول- أيضا للبريد الإلكتروني للسيد الصادق المهدي، وقد حاول اختراق شبكة أخبار الأمة الإلكترونية بذلك العنوان المجهول، رغم أن مكتب السيد مبارك وعددا من منسوبيه كانوا ولا زالوا أعضاء بالشبكة. كل ذلك يرجح أن كاتب الخطاب هو السيد مبارك نفسه أو أحد جماعته المقربين. والأحرف نفسها كاذبة (فلا يوجد شخص تنطبق عليه الصفة المذكورة في الحزب والهيئة بهذه الأحرف). هذه الحملة استمرت حتى آخر الشوط بصحافي واحد أو اثنان يعلنان عن أسمائهم، والبقية تأتي في شكل مقالات بأسماء وهمية، وتتخذ التجريح الشخصي، والكذب، وخلط المفاهيم، كوسيلة للنيل من الحزب ومن قيادته.
    لم تقف أعمال الجماعة عند ذلك الحد بل لقد كونت غرفة عمليات مقرها منزل السيد مبارك المهدي في شارع البلدية بالخرطوم. العاملين في تلك الغرفة كانوا كوادر حزبية انخرطوا في سوبا لاحقا. فيهم قادة القطاع السياسي وأمانة الإعلام التي تتبع له. لقد كانت تلك الأمانة شبه مجمدة صحفيا، فلم تخط سطرا للرد على مهاجم أو متابعة نشاط صحفي يذكر (والصحافة أهم المناشط المتاح بها هامش للتحرك بين وسائل الإعلام الآن)، ولكن أفراد الأمانة الذين تقاعسوا عن عملهم الحزبي –كما كان يفعل معظم الانسلاخيين فلا يعملون إلا من داخل خطهم الحزبي داخل الحزب- أولئك المتقاعسون انتفضوا في تلك المرحلة –مرحلة الهجمة الصحافية- وأغلقوا مكتب أمانة الإعلام بالمركز العام للحزب، وتحولوا للبلدية لقيادة هجمة شرسة على الحزب وقادته من هناك بأسماء مستعارة على صفحات الوفاق التي فتحت لهم ذراعيها، أو مستغلين مساحة حرية الرأي عند الصحف الوطنية الرصينة. هذه الأمانة –أمانة الإعلام- كانت مثال الفشل في العمل الإعلامي الذي كان يمارس من خارج جبتها. وبالرغم من ذلك فلم يصمت المنسلخون عن الإشارة إلى فشل الآخرين وركودهم. مع أن الركود كان يتبعهم كظلهم، فكل الجهات التي تقلدوا فيها المسئوليات كانت تجمد عنية حتى لا يجد الحزب بدا من أحضان المؤتمر الوطني.. هكذا فعلوا بالمؤتمر العام، والذي كانت اللجنة المشرفة على وضع التصور له برئاستهم ومقرريتهم. لقد ظلوا يرددون: هذا المؤتمر لن يعقد. وقد كان ذلك بفعل فاعل!.
    ذكرنا تفاصيل الهجمة الصحافية وسنقوم في فصل "حجج الانسلاخيين" بالرد على تلك الحجج مجملا. لكننا هنا نناقش معنى ومشروعية هذه الهجمة من قيادي في حزب كبير على حزبه..
    يا من كل يوم هو في حال!..
    لقد جاء وقت على السيد مبارك كان يضجر جدا من أي حديث يسوقه قيادي في الحزب يخالف رؤيته، وكان يرى في ذلك الزمان أن رؤيته تتطابق مع خط الحزب المعتمد، وأن أولئك القياديين يضعفون الحزب. ولهذا كان من أكثر الناس تحمسا لإيجاد آلية للمحاسبة للخروج عن الخط العام للحزب باعتبار أن حرية التعبير والنشر لا تعني تخريب الخط السياسي الحزبي. وبيدي الآن خطاب وجهه للأخوة والأخوات الأحباء في قيادة الأمة بالداخل" في 5 فبراير 2000م وكان حينها في لندن.. يقول في الخطاب "لقد هالنى ما قرأته في صحيفة الصحافى الدولي بعدد 31 يناير 2000 من بيان باسم الحزب صادر من الأخ الدكتور آدم مادبو بعد أن نقله لي أحد الاخوة الأصدقاء في صحيفة عربية دولية، أرادت إعادة نشره فطلبت منهم العدول عن ذلك توخيا للمصلحة العامة، ففعلوا مشكورين. حزنت كثيرا للمستوى الذي انحدرت إليه العلاقة بين قيادات الحزب إلى درجة تنعكس على العمل الوطني وفى ظروف بالغة الخطورة تحتاج إلى أقصى درجات الوحدة والتكاتف لننتشل الوطن من وهدته الحالية التي تتهدد كيانه بالضياع، خاصة وأن غالبية أهل السودان وجيرانه -قبل عضويتنا الملتزمة- يتوخون في حزب الأمة العقل والقيادة في هذه الظروف الدقيقة البالغة التعقيد التي تمر بها بلادنا.
    أولا: إن روح البيان وأسلوبه غريبة علينا في حزب الأمة، ولا أجد مبررا لها مهما بلغت درجة الحساسيات الشخصية أو درجة الخلاف والمنافسة بين الكوادر والقيادات، فقد تربينا في هذا الكيان على أن نكظم الغيظ ونقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وان نحترم ونقدر بعضا البعض لأننا أهل عقيدة واحدة قبل أن يجمعنا العمل السياسي.
    ثانيا: إن الموضوعات محل الخلاف التي أثيرت لا ترتقى لهذا الموقف، فكان يمكن استيضاح ما فاتنا من بعضنا البعض في الداخل أو الخارج.". إلى أن يقول: " إنني في الختام أناشدكم بحق الزمالة والنضال المشترك وملايين البؤساء الذين ينتظرون ثمرة جهودنا هذه أن تعالجوا خلافاتكم داخل الاجتماعات وتتمسكوا بوحدتكم. وأناشد الاخوة مادبو وبكرى عديل بان يعالجوا آثار تصريحاتهم التي ألقت بظلال سلبية على سمعة الحزب ومصداقيته. وان يغالبوا النفس ويتجاوزوا الخصومات والحساسيات الشخصية من اجل مصلحة الكيان والحزب والوطن فنحن من جانبنا تجاوزنا هذه الخصومات والحساسيات في حينها لأنها أصلا لا مبرر ولا أساس ولا معنى لها، فان ذواتنا فانية والكيان والوطن باقيان. فيجب علينا أن نصفي نفوسنا ونتكاتف من أجل إعداد الحزب للألفية الثالثة وبناء الوطن، فلا خير فينا إن لم نفعل ذلك. والتاريخ لا يرحم من يدعو للفتنة والشقاق في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها بلادنا."..!!
    لماذا نسي السيد مبارك كل هذه المعاني الرصينة حينما صار هو الذي لا يرضى عن قرار الحزب في المشاركة؟، وطفق يرفع كل يوم شعارا يذر عبره الشطة في أعين الحزب وزملائه فيه، خارج الاجتماعات، وعلى صفحات الجرائد!؟.. هل تبدل حال الحزب في عامين أو أقل، وباخ الكيان الجامع، والوطن.. ولم يعد للحزب ولمصداقيته رنين؟، أم كما قال أبو العلاء المعري في لزومياته:
    يحرم فيهم الصهباء صبحا ويشربها على عمد مساء
    إذا فعل الفتى ما عنه ينهى فمن جهتين لا جهة أساء
    لقد كان السيد مبارك يعلم أن الحزب متجه نحو مؤتمرات قاعدية ومتخصصة للبناء التنظيمي القاعدي. ونحو ورشات عمل لدراسة وتقديم البرنامج السياسي لكي تفضي المؤتمرات الفرعية وورشات العمل لعقد المؤتمر العام وهو مكان مشروعات الإصلاح والتجديد. أما الخوض في هذه المسائل قبل ذلك وفي أجهزة الإعلام من شخص شارك في إبرام الترتيبات التنظيمية المرحلية وأقسم على اعتمادها مرحليا حتى قيام المؤتمر العام فمعناه الزج بالحزب في معارك جانبية لغير مصلحته ولغير مصلحة الوطن..
    هذا ما كان من أمر (معنى) التصريحات لشخص يعلم أن سمعة الحزب تنال منها هذه الأعمال، ويدرك أن الخلافات تكون داخل الاجتماعات، ويعلم أن الحزب ساع للتجديد وللبناء فهو مشترك في كل ما تم، وهو أن ذلك القيادي لم يعد يأبه للحزب ولا لسمعته ولا للزمالة وصار معلقا بهوى آخر.. والسؤال –بغض النظر عن معنى التصريحات- هل من المشروع لقيادي في حزب أن يتصرف على هواه ويتجاوز المعلوم بالضرورة من أوليات العمل السياسي داخل حزب واحد؟ هناك ملاحظات عامة أوردها د. عبد الرحمن الغالي في مقاله "قراءة هادئة في مسألة السيد مبارك" تناولت هذا السؤال:
    (1) أخطأ السيد مبارك خطأ تنظيميا ومؤسسيا بمناقشته لتلك القضايا الهامة والتي تشمل خط الحزب وشرعية مؤسساته وفاعليته خارج مؤسسات الحزب بغض النظر عن صحة أو عدم صحة محتوى تلك التصريحات.
    (2) السيد مبارك قيادي بحزب الأمة لمدة تتعدى ربع القرن فهو بالتالي يتحمل أية إخفاقات آلت إليها المؤسسة كما يشارك في النجاحات التي حققتها.
    (3) الهياكل والأجهزة الانتقالية بالحزب تم التراضي عليها في الاجتماع المشترك لقيادات الداخل والخارج بالقاهرة أغسطس 2000م وبوجود السيد مبارك ومشاركته وموافقته عليها بما فيها هيئة الرقابة وضبط الأداء.
    (4) هذا التراضي تم على أسس موضوعية إذ شمل القياديين الذين انتخبهم المؤتمر العام للحزب( ليس من بينهم السيد مبارك). كما شملت الأسس الأخرى معايير البلاء والعطاء. هذا بالنسبة للجهازين القيادي والتنفيذي أما الجهاز التشريعي ( المكتب السياسي ) فقد تم التصعيد له من كليات انتخابية شملت: الشباب- المرأة- الأقاليم- الهيئة البرلمانية- هيئة شئون الأنصار وغيرها. إن مكان الانتخاب الكامل لتحمل المسئولية هو المؤتمر العام للحزب.
    (5) يشكل موقف السيد مبارك اعتداءاً سافراً على الحزب ومؤسساته وعلى الكيان الديني ومؤسسته هيئة شؤون الأنصار وبهذا فإن محاولة حصر الموضوع في قضايا شخصية اختزال مخل .
    مذكرة رئيس القطاع السياسي في منتصف مارس 2002م:
    قلنا أن الهجمة الصحفية أدت إلى تجميد عضوية السيد مبارك المهدي لمدة عام، وأن ذلك أدى لحملة محمومة مقرها شارع البلدية تدبج المقالات وتشيع المغالطات وترتع على صفحات الوفاق حالة أهلا ونازلة سهلا، أو تجد طريقها لصفحات غيرها من الصحف الوطنية مستغلة مساحة الحرية المتاحة فيها. ثم تدخلت وساطات لإيقاف حالة الهستريا التي أصابت البلدية والتي تضرر منها الحزب ومنظره أمام الرأي العام، كان من نتائج تلك الوساطات توقيع السيد مبارك على وثيقة تفيد اعترافه بقرارات الحزب وأجهزته واعتماد المؤتمر العام الوسيلة الشرعية للتغيير. ولكن ذلك لم يؤد إلى توقف التحركات "التعويقية" المشككة في خط الحزب وفي هياكله من جماعة سوبا، وفي منتصف شهر مارس قدم رئيس القطاع السياسي رؤية للموقف السياسي للجهاز التنفيذي تشمل قراءة معينة للموقف السياسي والمستجدات. ووزع مذكرة بدون تاريخ على المكتب التنفيذي في يوم الاثنين 13 مارس 2002م. كانت المذكرة تحتوي على قراءة جماعة سوبا السياسية المشككة في صحة "الطريق الثالث" فمبارك منذ تصريحات صوت العرب أكد أن الحزب أخطأ في أنه لم يشارك في الحكومة أو يصطف مع المعارضة، وأنه صار أكاديمي الطبيعة عديم الفاعلية.. التسلسل الصحيح لتناول هذا الموضوع هو أن يقدم التقييم المقترح للمجلس القيادي وقد اتفق على عقد جلسة لذلك. ثم يناقش الموضوع في المكتب السياسي وما يقرر يحال للجهاز التنفيذي لتنفيذه لا لرسم السياسات، وكما علق رئيس الحزب فـ"هذه المسائل معلومة ما فيها من غموض وإن وجد فإجلاؤه لائحيا" . ولكن بصرف النظر عن الخطأ الإجرائي فقد رأى رئيس الحزب أن ما ورد في تلك المذكرة رؤية يجب أن تناقش بجدية وموضوعية. وقد كان اعتبار تلك المذكرة رغم هذا الخطأ الإجرائي الفادح بمثابة تشجيع لتلك الجماعة أن تناقش أقاويلها وقراءاتها السياسية من داخل الأجهزة.. فقد درجت الجماعة على القراءات "المغلقة" ثم الضغط الذي مارسته عبر المذكرة الأربعينية من خارج المؤسسة، ولذلك فقد تم الترحيب بمناقشة آرائها خاصة وأنها سبق وملأت بها الصحف، وجابت بها البلاد، ولم تجلس يوما لتستمع لنصف رأيها لدى زملائها داخل الأجهزة.. خلاصة ما جاء في مذكرة مارس:
    1. أن موقفنا الاستراتيجي صحيح. وقراءته المبكرة للأحداث صائبة.
    2. لكن الحزب لم يستطع تثمير ذلك في اتخاذ الأهداف المرجوة. أي أن الحزب من الناحية العملية أخفق وإن كان من الناحية الاستراتيجية مصيب. والآن فإن علينا أن نراجع الأمر بما يمكننا من تفعيل حزبنا .
    رد رئيس الحزب على تلك المذكرة قائلا:

    يتبع
                  

08-27-2012, 08:21 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)



    1. أبدأ بملاحظتين على هذه القراءة:
    الملاحظة الأولى: أن البرامج والسياسات العملية والإجراءات التكتيكية تمثل تنفيذا مرنا للاستراتيجية وليس بديلا عنها وإلا كما قال العز بن عبد السلام: "كل إجراء يناقض مقاصده باطل". إن موقفنا الذي سميناه الطريق الثالث هو موقف ملتزم بالتحول الديمقراطي الحقيقي والسلام العادل ويعنى ذلك تمييز موقفنا من شمولية النظام وحربية الجيش الشعبي بل والتدويل الخبيث. نحن استراتيجيتنا ضد هذه الرايات الثلاث.
    الملاحظة الثانية: إن في هذا التقييم ظلما على أداء حزب الأمة.
    لقد فصل رئيس الحزب الجوانب التي حقق فيها الحزب تحولات في الساحة السياسية والساحة الدبلوماسية، ثم قال: .. هذه إنجازات ولا يجوز أن نهدر قيمتها في تقييم الأحوال .. وتفاصيل ذلك موجودة في الفصل السادس (الرد على حجج سوبا) ضمن مناقشتنا لفاعلية الحزب.
    وفي الجلسة المقررة لمناقشة مذكرة رئيس القطاع السياسي –في الاجتماع المشترك بين المكتب السياسي والمجلس القيادي- وتعليق الرئيس وذلك بتاريخ 1 أبريل 2002م قررت جماعة المشاركة بدون ضوابطها افتعال مشكلة داخل المجلس والانسحاب من الاجتماع. الرواية التي ساقها السيد مبارك في برنامج في الواجهة بتاريخ 29 يوليو 2002م هي أن الرئيس استدعى الزهاوي وطلب منه عدم التصعيد على أن يسحب كلاهما مذكرته. وأنهم لما جاءوا للاجتماع فوجئوا بأن عبد الرحمن الصادق ضرب أعضاء المكتب السياسي، وأنه لما اعترض على ذلك كان سيتهجم عليه (لكن جذبته والدته) وبذلك انسحبوا من الاجتماع!. غرابة هذه الرواية أنها لم تكن بين شخصين أو ثلاثة حتى يجوز فيها هذا التلفيق. ولكن السيد مبارك في هذا الأمر لم يتحر الدقة، ولم يذكر الحقيقة، والحقيقة هي: أن الصادق لم يستدع الزهاوي ولا لاقاه في ذلك اليوم- وكان الزهاوي قد زاره قبلها بصحبة السر الكريل ليقول له أنهم لا يشككون في قيادته ولكن عندهم ملاحظات ورد له الصادق بأن يكتبوا تلك الملاحظات، فوعد وأخلف.
    والحقائق فيما يتعلق بالأعضاء الذين يمثلون جيش الأمة (سابقا) الآتي:
    - كانت اجتماعات أغسطس الشهيرة والتي خولت للجيش أن يمثل في المكتب السياسي قد وافقت للجيش ألا يكون تمثيله شخصيا، بل تترك له مقاعد ثلاثة يملأها بمن يرى في الوقت الذي يرى، وذلك مراعاة لخصوصية الالتحاق والعمل بالجيش.
    - الأعضاء الذين اختارهم الجيش بدءا لتمثيله وقعوا على مذكرة مضادة للحزب وللجيش لم تسلم داخل جهازهم المعني (المكتب الاستراتيجي) بل نشرت على صفحات الوفاق!. وقد قرر الحزب أن كل من وقع على تلك المذكرة فقد عضويته بالأجهزة الحزبية. فهم حتى بالمقاسات الحزبية العادية فقدوا عضويتهم للأجهزة، أما بمقاسات تمثيل الجيش (سابقا) المشار لها أعلاه، فقد قام الجيش بملء مقاعده بممثليه كما هو متفق (لاحقا وبعد المشاكل التي أثارتها جماعة سوبا كونت لجنة قررت أن يبتعد الجيش عن الأجهزة الحزبية أصلا).
    - مرت جلسات عديدة للمكتب السياسي امتثل فيها الأعضاء المذكورين للقرارات ولم يعبروا عن رفضهم للجهات المسئولة في المكتب الاستراتيجي) أو للجهات المسئولة في المكتب السياسي للقرارات الحزبية ضدهم.
    - تسربت أخبار عن اجتماع عقدته جماعة سوبا ظهر ذلك اليوم سرا قررت فيه الانسحاب عن اجتماع المناقشة حتى لا تهزم مذكرتهم من داخل الأجهزة. ومهما يكن من وثوقية المصدر الذي سرب الخبر، فقد صدقته الأحداث التالية.
    - في سياق افتعال مشكلة جاءت جماعة سوبا لذلك الاجتماع مصطحبة الأفراد المذكورين أعلاه – بعد غياب طويل وإذعان لقرار المؤسسة- ليحضروا اجتماع المكتب السياسي. وقد قامت الجهات المسئولة عن الأمن في الدار (زملاؤهم في المكتب الاستراتيجي- الجيش سابقا) بمنعهم عن الدخول بالقوة- وهذا يختلف عن الضرب بالطبع!.
    - قبل بدء الاجتماع دخل السيد مبارك هائجا وهو ينتقد بصوت عال مجموعة المكتب الاستراتيجي ومليشيات "عبد الرحمن الصادق" على حد تعبير الوفاق وألسنة سوبا المختلفة. علق السيد رئيس المكتب السياسي (الدكتور مادبو) للسيد مبارك راجيا إياه الهدوء ومناقشة ذلك داخل الاجتماع. قال الدكتور مادبو أن المناقشة لا يمكن أن تتم قبل بدء الاجتماع، ومع أن الموضوع ليس في الأجندة ولكن للضرورة التي يتحدث عنها السيد مبارك اعتبار بإعطاء مسألة الأفراد المذكورين أولوية (الجند الأول للاجتماع كان مناقشة مذكرة السيد مبارك ورد الرئيس عليها).
    بدأ الاجتماع فأعطي السيد مبارك وبعض جماعته فرصة وكانوا هائجين وينتقدون مسألة "الجيش"، وقد تحدثوا وهاجوا وماجوا، وقالوا أنهم متابعون لتصرفات عبد الرحمن الصادق ففي يوم كذا فعل كذا ..الخ. بعد ذلك أعطى رئيس الجلسة (د. مادبو) فرصة لعبد الرحمن الصادق (المتهم الأول) ليرد على الاتهامات الموجهة إليه. وقف عبد الرحمن ليرد على الاتهامات (وكان كل من مبارك وعبد الرحمن في مكان بعيد عن الآخر)، وبدأ يوضح موقفه. هنا تحول السيد مبارك من مكانه ومشى ناحية عبد الرحمن وهو يصمته ويقول له "اسكت- اقعد..الخ". ولكن لم يصمت أو يجلس بل رد له بكل التهذيب: أنني أعطيت فرصة من المنصة وهي التي تستطيع إسكاتي. وحينما وصل السيد مبارك لمكان يقف عبد الرحمن رفع يديه وقال بصوت عال ليسمعه الجميع: (اضربني إذا داير). حينها صمت عبد الرحمن فعلا وقال له أنت تعرف أنني لا أفعل ذلك!.. والعجيبة أن عبد الرحمن الصادق معروف بهواية المصارعة، فهو لا يجتمع بفتية حتى يبدأ دورة مصارعة تخرج بالفائز، ولكنه معروف عنه أيضا انه لم يعتد على شخص بالضرب أو يتشاجر بالأيدي أبدا، وحتى إذا وجد بعض إخوانه أو أقاربه في شجار بالأيدي يتدخل لوقف ذلك، وينصح ألا يستغل القوي قوته في مهاجمة الآخرين، حتى أنه في حفل تخريج أخويه الأصغرين "محمد أحمد من الكلية العسكرية الفنية المصرية وبشرى من الكلية الحربية المصرية" خاطبهم ناصحا إياهم بضرورة المحافظة على اللياقة البدنية، وعكس صورة مشرفة عن العسكرية لجميع الأصدقاء والأقارب حتى يحبها الجميع ونخدم بذلك الوطن بتغذية قواته المسلحة بأفضل أبنائه. على أن يكون البناء البدني في خدمة نفس تعف عن العدوان، ولا تستخدم القوة في ضيم الآخرين، قال الشاعر:
    إذا لم يَزِدْ علمُ الفتى قلبَه هــدىً وسيرتَه عدلا وأخلاقَه حُسْنا
    فبشـــره أن الله أولاه فتنـةً تغشيه حرمانا وتوسعه حزنا
    فكيف يقوم من هذا شأنه بمحاولة الاعتداء على عمه وداخل اجتماع حزبي رسمي.. والفصل في ذلك أن تلك الحادثة محضورة للعشرات ولا مجال فيها للتدليس.
    - الحركة الأخيرة "الهجوم على عبد الرحمن ثم إسكاته والوصول لمحله" كان لاستفزازه، ولكن عندما لم يستفز كان لا بد من مواصلة مشوار حجة الانسحاب، بادعاء أنه تعرض فعلا لاعتداء عبر حركة رفع الأيدي والتعليق!.. على رأي المثل السوداني: الما عندها تيلة تسوي الحد حيلة!، لذلك قال السيد مبارك: إننا ننسحب، فرد عليه رئيس الجلسة: تنسحب أنت أم نحن لأن كل شخص من عضوية المكتب السياسي يمثل نفسه، ولم يرد السيد مبارك بل أشر بيده فتبعه 16 فردا. فخرجوا وطفقوا ينشرون رواياتهم المخالفة. والعجيبة هنا أن السيد الصادق بكل كاريزميته وما يشيعه عنه الانسلاخيون لم ولن يسوق مؤيديه بالإشارة احتراما للأجهزة التي تعمل بالرأي والرأي الآخر، وللمؤيدين أنفسهم وتعضيدا لاحترامهم لذاتهم، ولاحترام الآخرين لهم.. فقد فتحت مسألة الإشارة للتابعين الستة عشر بابا من السخرية لا حد لها.. وبعض الناس سموهم بأرقامهم حسب خروجهم من القاعة (فهذا رقم واحد- وذلك رقم عشرة.. وهكذا)!.
    لقد كانت جماعة سوبا قد انزعجت جدا من فكرة مناقشة مذكرتها ورد الرئيس في المكتب السياسي (الجهاز التشريعي للحزب) وهي تعلم سلفا أن ذلك الجهاز لن يمرر خطها السياسي فقد ذكر السيد مبارك جملة الرئيس (الحشاش يملا شبكته) مستنكرا في برنامج في الواجهة، ومعلوم أن السيد الصادق "يحش" أكثر!!. والعجيبة أن هؤلاء يتحدثون عن الديمقراطية ويستنكرون على الرئيس أن يدلي بدلوه باعتبار ذلك مناقضا للديمقراطية!. فحين مناقشة مذكرة السيد مبارك ورد الرئيس عليها في المكتب القيادي استنكر أحمد بابكر نهار (المنسلخ) أن يرد الرئيس أصلا باعتبار هذه ديكتاتورية! وأنه سيلون آراء أعضاء المكتب القيادي!! إن ديمقراطية سوبا تفترض أن يصمت الرئيس!!.
    بعد انسحاب السبعة عشر عضوا بمن فيهم مبارك المهدي، ناقش الاجتماع مسألة الانسحاب المذكور، وأجل أجندته الأخرى، ثم خرج عن الناطقة الرسمية للحزب في 2 أبريل 2002م البيان التالي:
    "عقد اجتماع مشترك بين المكتب السياسي والمكتب القيادي لحزب الأمة مساء أمس الإثنين الموافق 1 أبريل 2002م وذلك لمناقشة المستجدات السياسية المتمثلة في مذكرة قدمها رئيس القطاع السياسي للحزب، والتعليقات عليها في المكتب القيادي. وقبل البدء في الأجندة المذكورة وقع خلاف حول جزئية تتعلق بعضوية المكتب السياسي. ونود توضيح الآتي:
    • أعضاء المكتب السياسي يمثلون كليات.. الخلاف الذي أثير كان حول كلية سيوف النصر وهي كلية تابعة لمجموعة جيش الأمة للتحرير سابقا، وقد خصوا بتلك الكلية لما لهم من تاريخ نضالي، وذلك حتى يكون لهم تمثيل في المكتب السياسي.
    • أثار السيد رئيس القطاع السياسي خلافا حول ممثلي الكلية في المكتب السياسي، فبدأ المكتب في بحث هذا الخلاف ليجد له حلا عادلا وفق اللوائح، وشرع في مناقشة الأمر بالرغم من أنه لم يكن من الأجندة الموضوعة للاجتماع. وفي تطور غير مبرر للخلاف رأى السيد رئيس القطاع السياسي الانسحاب مع 16 من الأعضاء، ومجموع الحاضرين للاجتماع تسعة وثمانين عضوا.
    • بقية الحضور كانت تمثل نصابا قانونيا كاملا، وكان يمكن للمجلس أن ينعقد بصورة قانونية ويقرر في الأمر المثار، وفي الأجندة الموضوعة، ولكن الاجتماع رأي رفع الجلسة لمدة 48 ساعة، ومناقشة الأجندة المقررة في حينها.
    • أما بشأن القضية العارضة المثارة أمام الاجتماع –المتعلقة بكلية سيوف النصر- فقد كوّن الاجتماع المشترك للمكتبين السياسي والقيادي للحزب لجنة برئاسة د. عمر نور الدائم النائب الأول لرئيس الحزب ورئيس الجهاز التنفيذي، وعضوية كل من: الأستاذ/ بكري أحمد عديل النائب الثاني لرئيس الحزب- السيد / صلاح عبد السلام رئيس لجنة الرقابة وضبط الأداء- السيد/ عبد الرسول النور رئيس قطاع الجنوب- الأستاذ/ عبد المحمود الحاج صالح مساعد الرئيس للشئون القانونية- السيد / السر الكريل عضو المكتب السياسي. وذلك للنظر في تلك الملابسات. وفوض الاجتماع اللجنة ليكون قراراها حولها نهائيا.
    • قرر الاجتماع أن هذا النوع من السلوك غير ديمقراطي وغير مقبول، ولكن يجب أن يمنح الخارجون فرصة أخرى، بعد أن تقرر اللجنة بشأن المسألة الخلافية.
    ناشد الاجتماع الجميع ضبط النفس والاحتكام للوائح والقرارات المؤسسية."
    وقد كانت التقارير التي ترد لقيادة الحزب، وما تسرب للصحف اليومية تؤكد على عزم الجماعة على المشاركة بأي ثمن في السلطة، وبدون موافقة أجهزة الحزب على ذلك، بل لقد أقسموا في أحد اجتماعاتهم السرية "قسم المشاركة" وأن يصمدوا على الخط حتى آخر المشوار. كان من ضمن تلك التقارير التي تسربت للرأي العام ما ورد على لسان صحيفة الحرية في ذلك الوقت من أن جماعة المشاركة الانخراطية عرضت على النظام أن تشترك جزئيا بدون باقي الحزب وأن النظام طلب منهم أن يتوالوا فلما وافقوا على ذلك وقدموا للتوالي تردد النظام في الأمر.. لقد نفت جماعة الانسلاخ وقتها أن تكون تلك التقارير صحيحة بل وقاضت صحيفة الحرية على نشرها ذلك الخبر. ولكن الشكوك بدأت تزداد حول نية جماعة الاختراق على الانسلاخ من الحزب لصالح الانخراط في النظام. وكان ذلك المناخ بداية ما تم الاتفاق حوله ورسم السيناريو له في سوبا أخيرا. وسأتعرض في الفصل السادس للأكاذيب ومقامها في تكتيكات سوبا.
    لجنة تقييم الأداء الحزبي وقرار المشاركة بتاريخ 8 أبريل 2002م
    كثر الحديث داخل الحزب عن تضارب بين القطاعات وعن تجاوز القطاع السياسي لصلاحياته التنفيذية ورأت أجهزة الحزب القيادية ضرورة مراجعة الأداء الحزبي على ضوء التجربة منذ الاتفاق على التكوين المرحلي الجديد في فبراير من عام 2000م، لذلك قرر المكتب السياسي بتاريخ 14 يناير 2002م القرار رقم (112) تشكيل لجنة تقييم الأداء في مؤسسات الحزب وتشخيص ظاهرة عدم الانضباط وتقديم توصيات بالمقترحات المطلوبة. كونت اللجنة من 16 شخص برئاسة السيد عبد الرحمن عبد الله نقد الله، كونت اللجنة بطريقة موزونة بحيث اشترك فيها أصحاب وجهات النظر المختلفة وارتضاها الجميع بالإجماع. وفي أبريل 2002م أي بعد ثلاثة أشهر من التدارس والبحث قدمت اللجنة بإجماع أعضائها تقريرها.
    دعت القيادة لاجتماع مشترك للمجلس القيادي والمكتب السياسي وعبر ست جلسات درس الاجتماع المشترك التقرير. وبعد النقاش العام وتهوية الآراء قدم رئيس الحزب للاجتماع المشترك قراءة تقييمية للتقرير في 8 مايو 2002م قراءة خلاصتها: هنالك توصيات مقبولة لديه ينبغي تحويلها لقرارات، هنالك توصيات يرى أنها غير مقبولة لأسباب ذكرها، هنالك جوانب أغفلها التقرير يرى ضرورة إلحاقها به، وضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لعقد مؤتمر الحزب العام الرابع في 26 يناير 2003م.
    هذه القراءة، وغيرها من القراءات والتعليقات على التقرير تم التداول حولها بحرية تامة، ونتيجة لتداول الرأي اتخذ الاجتماع قراراته بشأن التقرير في 3 يونيو 2002م ونتيجة لهذه القرارات أدخلت إصلاحات محددة في بنية الحزب التنظيمية وتقرر أن يستمر التنظيم المرحلي بشكله المعدل حتى قيام المؤتمر العام في 26 يناير 2003م. هكذا حسم الحزب أمره التنظيمي. ولكن اتضح أثناء مناقشة التقرير أن بعض أفراد الفئة المذكورة أعلاه غير راضية عن توصيات اللجنة التي اشتركت فيها! . وقد انتقدوا أي تعديل في التقرير، واعتبروا مرة أخرى أن تعليق رئيس الحزب على بعض الجوانب ديكتاتورية.. هذه الجماعة تفهم أن الديكتاتورية هي كل ما يخالفها الرأي، ولو كان وسيلته الإقناع والحجة واستمطار آراء الآخرين..
    هذه الفئة ذاتها اقترحت في أوائل أبريل 2002 أن هنالك مستجدات توجب على الحزب مراجعة قراره التاريخي بشأن شروط الاتفاق مع النظام في 18 فبراير 2001م. قالوا: إن إجراءات الوساطة لا سيما الأمريكية لا تعترف إلا بجهتين هما: الحكومة والجيش الشعبي ولكي يدخل حزبنا في دائرة الفاعلية السياسية فإن عليه الإسراع باتخاذ قرار بالمشاركة في النظام الحاكم. لذلك وبعد تداول الأمر ملياً قرر الاجتماع تأييد جوهر قراره السابق وفي يوم 8/4/2002م أتخذ القرار الآتي:
    قرار رقم (122) :
    يؤكد الاجتماع جدوى قراره التاريخي بتاريخ 18 فبراير 2001م وسعة أفق القرار مع تأكيد ضبط المشاركة في أحد الإطارين المذكورين: حكومة انتقالية قومية- انتخابات حرة نزيهة.
    تداول الاجتماع الظروف المحدقة بالبلاد كافة وفرص الحل السياسي الشامل وقرر:
    ‌أ. مواصلة الحوار مع النظام بهدف الاتفاق على إصلاح دستوري وقانوني وسياسي بما يحقق التحول الديمقراطي وأسس السلام العادل بما يشكل أساسا للحل السياسي الشامل ويتطلع الحزب لإبرام هذا الاتفاق على ضوء ما يعرض عليه من تفاصيل نتيجة التفاوض.
    ‌ب. يدعم الحزب عمله التعبوي الشعبي ويواصل مفاوضاته مع القوى السياسية السودانية للتعاون في سبيل السلام العادل والتحول الديمقراطي.
    ‌ج. يلتزم المفاوضون في المجالات كافة مع النظام ومع القوى السياسية بالضوابط الآتية:
    • بأهدافنا العليا وهي مبادئ الحل السياسي الشامل المعلنة.
    • شفافية تامة تجعل أجهزة الحزب تتابع التطورات في كل مراحلها.
    • الانضباط التنظيمي بحيث لا يصدر في أجهزة الإعلام تعبيرا عن موقف الحزب إلا ما يمثل موقف الحزب الحقيقي.
    ‌د. مراجعة تكوين فرق التفاوض مع النظام والقوى السياسية على ضوء توصيات لجنة تقييم الأداء في مؤسسات الحزب لتأكيد توازنها وتناسقها.
    ‌ه. يسعى حزب الأمة لتكوين تحالف عريض حول الأجندة الوطنية، وهو تحالف لا يحده إلا عدم وحدة الهدف.
    ‌و. بالإشارة إلى ما ورد في قرار الحزب في 18 / 2 / 2001 حول التعاون في القضايا القومية يؤكد الحزب استعداده للتعاون على أن يكون النشاط قوميا روحا ونصا.
    ‌ز. مؤسساتنا وقراراتنا قابلة للمراجعة وفق المستجدات بصورة منهجية ومؤسسية وإلى حين ذلك يجب أن يراعى احترام المؤسسات وقراراتها في اختصاصاتها.
    ‌ح. ينظر الاجتماع في الاقتراحات المتعلقة بتفعيل الخطى نحو عقد المؤتمر العام مباشرة بعد مناقشة توصيات لجنة تقييم الأداء ويعطي هذا الموضوع الأولوية المستحقة.
    ‌ط. تأسيسا على روح الموضوعية التي عمت الاجتماعات يواصل السيد رئيس الحزب مجهودات علاقات حميمة واجتماعية لدعم روح المودة والزمالة بين الأعضاء.
    هكذا حسم حزب الأمة أمره بوضوح تام، وقرر مواصلة العمل التنظيمي والتعبوي وعقد المؤتمر العام الرابع للحزب في 26/1/2003م. ولكن جماعة سوبا لم ترض عن كل ذلك. لقد حزمت تلك الجماعة أمرها فهي لم تعد تطيق الجلوس مع زملائها (الشيوخ/ المعوقين/ المخذلين/ المتقاعسين/ الحالمين/ التقليديين.. إلى آخر المسميات) والذين تتعالى عليهم، ولم تعد تطيق بعدا عن أحبابها في النظام (الذين ثبتوا أقدامهم وصاروا مع ثوابتهم من ثوابت البلاد، وأتاهم البترول وجددوا شبابهم.. إلى آخر ما أوقع جماعة سوبا في الغرام) بل وجعلهم يتوقون لمربع الإنقاذ الأول !.. صحيح قول الإمام الشافعي:
    إذا المرء لا يلقاك إلا تكلفـــــــــــــا فدعه ولا تكثـــــــر عليه التأسفا
    ففي الناس إبدال وفي الترك راحة وفي القلب صبر للحبيب إذا جفا
    يتضح مما سقناه أعلاه، أن الجماعة التي خططت ونفذت مؤتمر سوبا الأخير كانت تبيت النية لما أقدمت عليه لبرمها الشديد بخط الحزب المتفق عليه في ناحيتين:
    الأولى: استمرار الحزب كحزب جامع لطيف سياسي عريض يحسم خلافاته الداخلية ديمقراطيا، ويحاسب الخروج عن الجماعة بآليات منضبطة بلوائح. لأن جماعة سوبا كانت تنشد تنظيما أحادي التوجه يتحرك بالإشارة، ويتم فيه حسم الخلاف بشكل إقصائي جراحي على نحو ما خططت المذكرة الأربعينية.
    والثانية: مناقشة مسألة المشاركة في الحكم بشكل يراعي آراء قيادات الحزب وقاعدته وأجهزته والرأي العام السوداني، ويصل لمعادلة تجعل الحزب يبادر في القضية الوطنية ويلتزم بمبادئه المعلنة. بينما تلك الجماعة تناقش مسألة المشاركة من باب مصلحة ذاتية للحزب ترجى من انخراطه في الحكم، بصورة فيها وهم سياسي سنناقشه بعد حين.




                  

08-27-2012, 08:22 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الفصل الثاني
    الحلقة الأخيرة: تجمع سوبا- يوليو 2002م.
    يا الزعماء اللكان زعماء وباعوا الغالي وأصبحوا لا فكر لا رأي وراسهم خــالي
    زي موية الرهاب الما بتتطلع عـــــــالي مساك الدروب فضل يكون متــــــــوالي
    بشير عثمان
    لقد برمت جماعة المشاركة بدون ضوابطها بالحزب وأجهزته وقررت الانخراط في النظام، ولذلك فقد أقدمت على التخطيط سرا – وإن كانت المعلومات قد تسربت للقيادة – لما أسمته مؤتمرا استثنائيا، عقد في أرض المعسكرات بسوبا في الفترة ما بين 10 إلى 12 يوليو.
    حضر هذا التجمع حسب التقديرات 1200، ولكن حصر تلك العضوية وعلاقتها بحزب الأمة لم ترصد بدقة بعد- وهناك بعض التقارير تشير إلى أن جزء من عضوية هذا التجمع كانت من المؤتمر الوطني ومن العاملين بجهاز أمن الدولة. ومهما يكن، فإن جزء كبير من العضوية تابعة لحزب الأمة، ولكن وجدت أخطاء إجرائية وتنظيمية تخرج التجمع من كونه آلية تنظيمية لتجديد الأجهزة ورسم السياسات، إلى كونه محفلا لاستعراض خطب التأييد لقيادة معلومة ولخط سياسي معد سلفا، يسفر عن ولادة تنظيم سياسي جديد –وإن كان قادته ينتمون إلى حزب قائم تاريخيا ومعلوم الأجهزة والشرعية واللغة الفكرية، مع إضافة أن التنظيم الجديد المكون من أقلية في ذلك الحزب، يود تجريد الأكثرية من كينونتها ويحل محلها.
    أهم الملاحظات على ذلك المؤتمر هي:
    من الناحية التنظيمية:
    المؤتمر الاستثنائي اسم يطلق على المؤتمر الذي يعقد في غير وقته لضرورة أو أمر طارئ. وفي دستور حزب الأمة تتم الدعوة لانعقاده من رئيس الحزب أو ثلثي الأعضاء أو ثلثي أعضاء اللجنة المركزية . ومعلوم أنه في أية مؤسسة فإن الدعوة لاجتماع (الجمعية العمومية) أو أي جهاز يكون عن طريق القيادة الشرعية للمؤسسة، وعبر الأجهزة التنظيمية (قطاع التنظيم) كما يشرف على تمويله الجهاز المالي (قطاع الإدارة والمال). ولكن الدعوة للمؤتمر أتت من جماعة ليس لها أية شرعية تنظيمية ولا يحق لها الدعوة للمؤتمر الاستثنائي للحزب دون الآخرين. هذا باب للفوضى إذ أنه إذا حق لأية جماعة الدعوة للمؤتمر الاستثنائي لحق لجماعات أخرى غيرها ولانفتح باب للفوضوية بلا حد.
    لم يجر التحضير لذلك المؤتمر بانتخابات قاعدية. بل لقد أعلن السيد مبارك المهدي –المخطط الأول للمؤتمر- وأذيع في أجهزة الإعلام أن الحضور للمؤتمر كان أكبر من الدعوة إليه. أي أنه مؤتمر بالتنادي وليس بالعضوية المصعدة المنضبطة. وحتى ذلك التنادي فإن الدعوة له للقيادات الحزبية لم تجر بصورة مفتوحة بل كانت بصورة انتقائية محضة روعي فيها السرية.
    ملاحظة مهمة في هذا الصدد أيضا أن الدعوة للمؤتمر انطوت على خداع بعض المشاركين، والدليل على ذلك هو:
    • زار السيد الصادق المهدي وفد من حلفا الجديدة ومن المحيريبة والحلاوين- والجبلين عبروا عن أنهم خدعوا، وتمت دعوتهم على أن المؤتمر سيشارك فيه السيد رئيس الحزب والدكتور عمر نور الدائم.
    • أرسلت قيادات الحزب بكسلا مذكرة للحبيب السيد/ الصادق المهدي تؤكد أن المؤتمر كان فيه خداع. وقد وقع في تلك المذكرة ثلاثة من المشاركين في وفد المؤتمر من كسلا وهم: علي البشير وقيع الله- نقد الله مصطفى قسم الباري- ومحمد أبشر.
    • استلم السيد مدير مكتب السيد الصادق المهدي مذكرة من السيد نصر الدين الأمين عبد الرسول يؤكد فيها أن اسمه قد ذكر ضمن المشاركين في المؤتمر وهو ما لم يحدث.
    وإذا تحدثنا عن الشرعية، فإن جميع المنظمين للمؤتمر –بمن فيهم مبارك المهدي- لا يملكون أية شرعية انتخابية في آخر مؤتمر عام للحزب عام 1986 وهم جميعهم ممن أتت بهم آلية التراضي التي ينتقدونها. أما المشاركون فقد جاءوا بصورة سرية، وحتى الذين يتقلدون مناصب في التنظيمات الولائية لم يحضروا كممثلين لتلك التنظيمات، فتتالت بيانات فصلهم من داخل أجهزتهم بعد مشاركتهم في مؤتمر الزور. وغالبيتهم مجرد أعضاء بالحزب لا يملكون أية صفة تصعيدية من محلياتهم.
    ليس للمؤتمر أية شرعية تذكر بل حتى الشرعية "الثورية" التي تحدثت عنها المذكرة الأربعينية لم تستند على من نادت بهم: وهم الرئيس المنتخب والأمين العام، والذين تصدوا للعمل المعارض. بل كان كثير من الأعضاء المشتركين فيها هم من الأعضاء الذين وقفوا بعيدا –بل منهم من انخرط في لحظة سابقة في النظام المايوي ثم في الإنقاذ. من هؤلاء نذكر: البشير النعمة (الذي قدم كلمة الإقليم الأوسط) – جلال خالد شيخ الدين - الناظر عمر إدريس هباني (وهذان حيتهما المنصة في سوبا فلم يكنا حاضرين وحسب). ومنهم أمثال الهادي بيتو الذي كان ذا علاقة جيدة بقيادات المؤتمر الوطني في فترة الصدام معهم حيث نزل رئيس المؤتمر ببيته حين زيارته لدارفور في تلك الفترة. ليس ذلك فحسب بل لقد خرج تجمع سوبا في توصياته بالتوصية بتكوين لجنة لمصالحة كل من فصله الحزب في فترة الثلاثين عاما الماضية ، ومعلوم أن هؤلاء لم يتم فصلهم إلا لأنهم خرجوا على قرارات الحزب في التصدي للدكتاتوريات أو انخرطوا فيها.. إن جماعة المشاركة الانخراطية لم يبتعد عنهم غالبية المناضلين فحسب، بل إنهم كونوا قاعدة عريضة تبني بنيانهم من الذين ضاقوا بالتصدي للدكتاتوريات .
    من الناحية اللوجستية
    عقد المؤتمر بإمكانيات تفوق إمكانيات الحزب بكامله ناهيك عن جماعة فيه. أرسلت طائرات لجلب المؤتمرين من دار فور، ومن كردفان. كما تم توفير تذاكر السفر لوفود المدن المختلفة. وقد كان الانطباع للحضور أن الإعداد تم بأموال ضخمة صرفت على ملفات المؤتمر والأطعمة والأشربة وغيرها.
    دعمت الحكومة المؤتمر ماديا ومعنويا بصورة ظاهرة. تمت مصادرة جريدة الحرية ليوم 13 يوليو بدون إبداء سبب والمسئولون يرجحون أن يكون ذلك بسبب مهاجمة الانخراطيين ومؤتمرهم. فقد جاء في صحيفة البيان الإماراتية الآتي: "عطلت أجهزة الرقابة أمس صحيفة «الحرية» السودانية المستقلة عن الصدور. وأرجع الحاج وراق، الأمين العام لحركة القوى الجديدة الديمقراطية «حق» الذي يشغل منصب المدير العام للصحيفة السبب في التعطيل الذي تم بطريقة جديدة إلى الهجوم الشرس الذي شنته الصحيفة ضد مبارك الفاضل المهدي حليف الحكومة الجديد. وقال وراق لـ «البيان» أن عدداً من منسوبي جهاز الأمن وصلوا إلى المطبعة في تمام الساعة الثانية من فجر أمس وصادروا الصفحات الأولى بحجة قراءتها ولم يعيدوها إلا في السابعة والنصف صباحاً، الأمر الذي تعذر معه صدور الصحيفة. وشدد وراق على أن الصحيفة لن تتراجع عن موقفها ضد تشتيت القوى السياسية وتقسيمها رغم الخسائر التي تعرضت لها أمس من جراء عدم الصدور وتلف كميات كبيرة من الأعداد التي تمت طباعتها من العدد خاصة الصفحات الداخلية".. إلى أن قالت: "من جانبها أكدت الصحافية آمال عباس مستشار مجلس إدارة الصحيفة أن الخسائر التي تعرضت لها الصحيفة من جراء المصادرة لا تقل عن 15 مليون دينار سوداني". وبتاريخ 14 يوليو صدرت توجيهات من جهات الأمن لبعض الصحف بعدم التعرض بسوء للسيد مبارك المهدي وجماعته. فهل يصير موضوع مؤتمر سوبا من ضمن المواضيع المحظور التحدث فيها لدى الصحف؟.
    - بينما تمت تغطية المؤتمر تغطية إعلامية كاملة من الإذاعة والتلفزيون، فإنه لم يتم إجراء مماثل مع صلاة الجمعة التي أمها السيد الصادق المهدي بتاريخ 12 يوليو مع أنها كانت حدثا هاما في سياق الأحداث في سوبا وقد قامت بتغطيتها أجهزة الإعلام العربية الأخرى. هذا يؤكد الانحياز الرسمي لسوبا.
    - تعرضت السلطات الأمنية لوفد الجزيرة المروية المكون من سبعة حافلات يوم الثلاثاء 23 يوليو عند حدود العاصمة وذلك الوفد كان يزمع الحضور للتنديد سلميا بتجمع سوبا ويساند الشرعية في الحزب..
    أدبيات سوبا
    كان بسوبا العديد من كلمات الوفود بلسان أبناء الجهات التي أتت منها الوفود- ولكن "الجاكيت" الذي وزع للحضور كان يحتوي على الأدبيات الرسمية للاجتماع الآتي بيانها:
    قدمت اللجنة المنظمة للمؤتمر كلمة بلسان الزهاوي إبراهيم مالك، وقدم في المؤتمر سبع أوراق هي: "مفهوم التجديد في حزب الأمة" قدمها مبارك المهدي، الواقع السياسي الراهن وآفاق المستقبل- قدمها نجيب الخير، قضايا البيئة والتنمية- قدمها محمد أرباب- البترول في السودان قدمها أحمد خليل مسلم- التنظيم تحت راية الإصلاح والتجديد – تقديم الزهاوي إبراهيم مالك- الاتصال والخدمات في سودان المستقبل- تقديم الدكتور الفاتح محمد سعيد- ثم الهيكل التنظيمي المقترح تقديم أحمد بابكر نهار، والورقتين الأخيرتين وضعتا في البرنامج ولكن لم توزعا على الحاضرين. ونوقشت (حسب البرنامج) أربع أوراق عمل، ثم خرج البيان الختامي للمؤتمر. في هذا الباب نناقش أدبيات المؤتمر المذكورة.
    كلمة اللجنة المنظمة لسوبا
    احتوت الكلمة على لغة بلاغية قصدا لا فعلا، ولذلك كان الناتج ركاكة في الأسلوب وتناقضا في التصورات لا يشفي عنها إلا الاطلاع عليها إجمالا. ابتدرت الكلمة بتأكيد أن جماعة سوبا قررت "المسير على طريق التحديث والإصلاح والتجديد في حزب الأمة". وذلك "بوعي بعيد عن الإعلام المرعوب".. استطرد كاتب الكلمة قائلا: "نحن، سيداتي آنساتي لسنا أبناء صدفة ولا نتاج مرحلة، إننا دعاة الهجرة إلى المستقبل". مقتطفات من هذه الكلمة:
    - الأنصار كما تعلمون يقوم بمهمتهم أدناهم.
    - ليعلم الجميع بأن ساحة التجديد ليست بحاجة إلى نماذج معادة وأنماط وأساليب مكررة، بل إلى التحديث والتعصير.
    - إن تحقيق الأهداف الكبيرة يحتاج إلى عنصرين: لحظة تاريخية مناسبة وقيادة واعية قادرة.
    - تعلموا بحزب وصمت، فالعمل الشاق الشاق المفيد كدقات قلب الجنين في بطن أمه، وللعشوائية و(الشوفوني) صوت عال وضجيج.
    - في معرض الحديث عن التجديد قال: "إن أي دعوة لمزيد من الصبر والتحمل وضبط النفس هي رهان على الموت عجزا ومهانة وهو منا لا يقبل أحد أن يرضاه لنفسه أو يقنع به غيره".
    - واعملوا جميعا بأن من يعمل في السياسة اليوم بجد وإخلاص وصدق ونكران ذات: نبي أو شهيد أو بطل.. فكونوا ما تشاؤن، كونوا ما تشاؤن!.
    لم يفت كلمة اللجنة المنظمة الخلط بين الحزب وكيان الأنصار في مفهوم غريب " الأنصار يقوم بمهمتهم أدناهم!" والغرابة أن الحديث عن رسول الله  هو: " الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ" وهو لا يعني القيام بالمهام لأن القيام بالمهام في الإسلام "للقوي الأمين" وليس لأدنى الناس!. كما لا تخفى أخطاء اللغة "تعصير!" والطباعة والتعبير، أو لعلها هرطقات تلك الواردة حول أن عامل السياسة بينهم نبي أو شهيد أو بطل: فكونوا ما تشاؤن!. ثم الخلط بين المصطلحات العلمية غربية المنشأ مثل "الشوفينية" وبين اللهجة العامية "شوفوني". كلمة اللجنة المنظمة للمؤتمر تنبي عن مستوى متدن في الدرج العلمي الذي ينشدون.
    ورقة الإصلاح والتجديد في حزب الأمة- مبارك المهدي
    كتب السيد مبارك ورقته وزاد عليها شفاهة.
    الورقة المكتوبة بعنوان: مفهوم الإصلاح والتجديد في حزب الأمة (ملخص):
    ابتدرت الورقة نصها بآية من الذكر الحكيم: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" وإقرار أن التدافع بين الناس أمر كوني، كما أن وجود طائفة قائمة بالحق قدر محتوم أيضا، إنها مشيئة الله في إصلاح هذا الكون وتجديده. ليكون لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال كما قال الإمام المهدي عليه السلام".. "الوقت والزمان والأوان متحركات تتطلب تغيير الحال وتجديد الرجال لتظل جذوة التغيير متقدة خروجا من الركود وحالات الشيخوخة والجمود التي أدخلت البلاد في أزماتها السياسية الراهنة".
    دعت الورقة للإصلاح والتجديد في النهج والأسلوب والعقلية. ثم تحدثت عن الفشل في التجربة السياسية في السودان منذ الاستقلال وعزته إلى:
    1- فشل المؤسسات الحزبية والسياسية في إرساء دعائم النظام الديمقراطي الفاعل.
    2- فشل الأحزاب في تطوير برامجها لتكون مؤسسات تتجاوز العصبيات وتسمو إلى رحاب الفكر والبرامج العلمية والعملية.
    3- تعثر الحركة السياسية في إقناع الجماهير وبناء حركة سياسية راشدة ومعالجة الضعف في:
    • انغماس الحركة السياسية بقياداتها الصفوية منذ فجر الاستقلال في الصراع على السلطة مما جر الجيش إلى حلبة الصراع السياسي في الأعوام 58-69-1989م.
    • لم تلتفت الأحزاب إلى كسر طوق الحلقة الشريرة وعجزت عن إيجاد صيغة مرضية للناس لإدارة البلاد.
    • فشل الأحزاب السودانية والنظم الشمولية التي تعاقبت على الحكم من إيقاف الحرب الأهلية المدمرة سلميا.
    رأت الورقة أن تلك العلل والأزمات توضح حجم القصور والضعف في أحزابنا السياسية المتمثل في:
    • ضعف المؤسسية، واعتماد نهج التبعية والولاء للفرد بصورة اختزلت ذاتية المؤسسية في شخص واحد.
    • قيام أحزاب صفوية بعيدة عن هموم المواطنين تتصارع حول أيديولوجيات مستوردة.
    • غياب البرامج والمناهج العلمية والفكر الواقعي في الأحزاب.
    • ضعف الارتباط بين القيادة والقاعدة والذي ولد شعورا أفقد القواعد الثقة في جدوى المؤسسات الحزبية- عزوف الحركة الطلابية كمثال.
    • غياب الديمقراطية الحقيقية واختلال المعايير في بناء المؤسسات وتشكيل المكاتب المتخصصة وتقسيم القيادة والمناصب.
    • عدم الالتفات لمعالجة قضايا القوات النظامية.
    تحدثت الورقة عن الإصلاح والتجديد في حزب الأمة بالاستفادة من تلك الدروس بإصلاح المنهج وتجديد الأسلوب وتطوير الممارسة لتحقيق الآتي:
    أولا: بناء مؤسسة حزبية ديمقراطية فاعلة تؤمن مشاركة حقيقية من القاعدة إلى القمة.
    ثانيا: العمل وفق برامج علمية مدروسة محورها القضايا الوطنية وقضية المواطن. بصورة موضوعية بعيدا عن الكسب الذاتي أو النظرة الحزبية الضيقة والتي لم نجن منها إلا البوار.
    ثالثا: العمل على بناء مؤسسات المجتمع المدني على أسس سليمة.
    رابعا: تأسيس قوات مسلحة محترفة للذود عن ارض الوطن.
    ختاما: إن الدعوة للإصلاح والتجديد في العمل السياسي بدأت بحمد الله تنتظم غالبية القوى السياسية نسأل الله أن تأتي ثمارا طيبة عما قريب.
    بعض مما زيد شفاهة:
    بدأ السيد مبارك عرض ورقته بحمد الله (بدون بسملة)، ثم خاطب الحاضرين (رجالا ونساء) بأنهم هم قادة حزب الأمة لا شك في ذلك- نعم لا يمكن أن نمثل حزبا كله بكامل عضويته ولكن نمثله بقادته وقادة أماناته السياسية وقادة الحزب في كل المحافظات والولايات. ثم قال: حزب الأمة هو الآن وسيظل حزب واحد. لأنك لا تصنع قيادات ولا تصنع كوادر في لحظات أو في أيام بل تنبع (بفتح الباء!) هذه القيادات وهذه الكوادر من قلوب الجماهير ومن الكد والنضال خلال سنوات، فهؤلاء هم الذين قادوا حزب الأمة في الأعوام الأخيرة- وهؤلاء هم أعمامنا الذين قادوا من الثمانينات والسبعينيات عمل الحزب.
    هذا المؤتمر لم يكن وليد تخطيط لزمن طويل- وهو كما التأم هنا أقرب إلى الخيال مما يؤكد عزم الرجال ومما يؤكد صدق النوايا ومما يؤكد مشيئة الله أن ننهض بحزبنا وبأمتنا.
    لقد ظللنا ننادي منذ أن بدأنا العمل العلني بعقد مؤتمر تأسيسي ينتخب جسما انتقاليا يقود الحزب في مرحلة الانتقال ويؤسس المؤتمرات الولائية القاعدية ولكن ذهبت مناداتنا أدراج الرياح. رأى أخوة منا أن يتنادوا إلى اجتماعات محدودة- في القاهرة 14 شخصا، فكونوا تنظيما انتقاليا كان المفروض يستمر 6 أشهر.
    هذا الجسم لم يكن يمثل تطلعات جماهير الحزب ولم يستطع أن يستنهض سواعد جماهير الحزب حتى ينعقد المؤتمر فظل الحزب عاجزا- وكما قالت لجنة الأمير نقد الله هذا التنظيم قد ولد ميتا وصار جزيرة معزولة ، وعندما تدهورت الأوضاع ووصلت إلى حافة الهاوية تنادينا نحن جميعا.
    انفجر الصراع حول التجديد منذ يناير هذا العام- كانت من داخل هذه الأجهزة دعوتنا أن تدعى القاعدة لمؤتمر استثنائي- ظللنا ننادي بمؤتمر استثنائي ومؤتمر قاعدي ولم تسمع آراؤنا- وأصبحت الإجراءات الطاردة تترى بالتجميد والطرد والتراشق في الصحف. نزلنا للقاعدة في يناير من هذا العام- نبصرهم ونتشاور معهم حول قضية الإصلاح- كان التجاوب كبيرا مما شجعنا على هذا المؤتمر. عندما حددنا الموعد ودعونا لهذا المؤتمر لم يتجاوز ذلك أسبوعين. جئنا من أجل هدف سام وهدف مقدس وهو بناء حزب الأمة وبناء الوطن.
    ثم تحدث عن الحلقة الشريرة في السياسة السودانية وقال: حينما نتحدث عن الإصلاح والتجديد نتحدث عن كيف نكسر هذه الحلقة الشريرة.
    لنا فيما نفعل أسوة فلقد قال الإمام المهدي: إنما لكل وقت ومقام حال.. هذه الكلمة الشهيرة هي التي تأسست عليها الثورة المهدية.
    هذه الورقة هي قراءة عميقة للأزمة السياسية التي مرت وتمر بها بلادنا.
    تحدث عن ضعف العلاقة بين القيادة والقاعدة. وعن انعدام الديمقراطية داخل الأحزاب. قال: "نتكلم عن أجهزة ومؤسسات شرعية تتخذ قرارات بالفصل والتجميد ولكنها عاجزة غابت الديمقراطية فغابت المؤسسية في هذه الأحزاب".
    قال أن الأحزاب ليست جمعيات خيرية بل هي للحكم، والحكم يتعلق بأمن الناس ومعايشهم. وتحدث عن ضرورة الأمن والمعايش في حياة الناس. ثم استشهد بسورة قريش "مغيرا" في آية بشطب رحلة الشتاء والصيف وزيادة اللام، قال: ربنا ذاتو لما قال في سورة قريش قال: (لإيلاف قريش لإيلافهم فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
    حزب الأمة دة تراث وضعوه الأجداد امتداد للثورة المهدية- كل واحد فينا عندو جدو جاهد أو استشهد – حزب الأمة بتاعنا كلنا.
    جاء في مطبوعة كتاب العودة: فشلنا في التنظيم- فشلنا في الإعلام- فشلنا في المال. إذن أنت غير قادر على قيادة الجماهير لتحقيق أهدافها.
    ثلاث مدارس في الساحة:
    المدرسة الأولى: المدرسة الحالمة: حالمين وعندهم أحقاد.عايشين في الماضي- عايشين في أحقادهم- عاوزين تصفية حسابات- واحد عاوز يعتمد على التناقضات والفرقة والحرب عشان يغير الأوضاع في البلاد- مدرسة ما عندها الرغبة في تغيير الأوضاع مشككة ومعوقة لعملية البناء وعملية الإصلاح
    المدرسة الثانية: المدرسة التقليدية: معوقة- مدرسة المدمنين مدمني الصراع إذا ما عاش في صراع ما بيجد نفسه- جيل الثلاثينات عندنا في السودان- مدمن الصراع عاوز يرهننا لهذه الصراعات ولهذه الطموحات التي لن تتحقق. مدرسة عاوزة تعيشنا في الصراعات والمرارت- هناك أجيال قامت ولا تعرف ماذا حدث وليست طرفا عاوزين يتعلموا وعاوزين يكون عندهم مستقبل.
    مدرسة الواقعية: ما دايرين نرجع لي ورا- نرجع لي ورا فقط حينما نفتش للأخطاء لنعتبر بها لكيلا نكررها لكننا لا نجتر الماضي ونرجع للوراء- نتعامل مع الواقع عاوزين نمشي لي قدام- إذا حاولنا نكرر الأخطاء وندفن راسنا في الرملة ما ح نبني المستقبل.
    في من الجماهير عمرهم وصل تسعين سنة كانوا عاوزين يجو- انتو بتمثلو تطلعات أجيال. نبني التنظيم ونبني وطن ونجمع الشمل احنا ما جينا نفرق كلمة جينا نوحد أهل السودان.
    عاوزين نكسر الاحتكار الفردي عاوزين نبني مؤسسة!!!!.
    بنقول لي أخواننا الليلة غضبانين وزعلانين مننا – إحنا كنا عاوزنهم يقودوا ويسلمو الراية للأجيال اللي بعدهم- إحنا اتقدمنا الصف وعاوزنكم تقفوا معنا بالرأي – احنا ما جينا نقصي حد جينا نجمع شمل حزب الأمة!!!!.
    الرجال بيبنوا وبيتركوا البناء لأحفادهم – بنقول لي أخواننا اللي ما جو احنا عاوزنكم تقيفوا معانا عشان يكون فعلا حزب الأمة رمز القوة. عاوزين نبني مع أخوانا في الحركة السياسية والقوات المسلحة- ح نناقش الحوار ببينا وبين اخوانا في الحكومة. كان أمامنا خيارات- مجموعة من القيادات في التنظيم القائم نعمل مؤتمر صحفي- لكننا اخترنا الطريق الصعب قررنا نرجع للقاعدة هم يناقشوا عاوزين نمشي الحكومة أم المعارضة- هذه الوجوه النيرة هي صاحبة القرار.
    تحليل الورقة وعرضها:
    وأول الملاحظات على الورقة أيضا كثرة الأخطاء المطبعية والأخطاء في النحو. وثانيها انعدام أي منهج علمي، ولو افترضنا أن الورقة اتخذت المنهج الوصفي لمسألة الإصلاح أو التحليلي لما خرجنا بشيء ذي بال. والورقة تخلط خلطا أساسيا في الآتي:
    - تسوق الورقة مفهوم التدافع كسنة كونية بين الناس لتتحدث عن مفهوم الإصلاح، وهذا مقبول. ولكنها تخلط بين مفهوم التدافع (كجدل قائم بين طوائف موجودة في زمان معين ومكان معين) وبين مفهوم التطور والتغير عبر الأزمنة والأمكنة على حد قول الإمام (لكل وقت ومقام..الخ). فالإمام المهدي هنا لا يتحدث عن تدافع بين نظريتين معاصرتين، بل يقول عن السلف الصالح من المجددين والمجتهدين من أئمة المسلمين "نحن رجال وهم رجال"، ويرد على الذين يحاجونه بما قاله الأئمة مناقضا لاجتهاده (ولا تعرضوا لي بنصوصكم عن الأقدمين، إنما لكل وقت ومقام حال). ويذهب لتأكيد ذلك –أي أن التغير في الاجتهاد ناجم عن تغير في الزمان والمكان - لا اختلاف في درجة إخلاص الرجال أو نبوغهم- أنه لو كان المصطفى حاضرا لأقره على ذلك- وأنه صاحب الزمان. كل تلك المفاهيم تخرج خروجا عن مفهوم "التدافع" لتصب صبا في مفهوم "الاستمرارية" و"الاتباع لا الابتداع"، وأن زمنه مندرج في زمن رسول الله (ص) (لا متدافع معه). لقد تسببت ذهنية (لكل وقت ومقام حال) في غرس ذهنية التطور (لا على أساس شجب الإرث) بل على أساس إقراره والبناء على جوهره وتغير مظهره فيما يوافق تغير الزمان والمكان، هكذا سارت المهدية في طورها الثاني مقرة بيعة المهدية –كما هي –إلا فيما يتعلق بمفهومي الزهد والجهاد- ومطورة نفسها في إطار تسامحي تعايشي مع الآخرين. وقد واجه الإمام عبد الرحمن في هذا الصدد معارضة كبيرة من العديدين وكان رده لأولئك لو كان الإمام المهدي حاضرا لقرني على ذلك ولاتبع سبيلي.. وهكذا سارت المهدية في طورها الثالث مقرة بيعة المهدية في طوريها، ومطورة إياها فيما يتعلق بالبناء المؤسسي، والدعوة لمأسسة التعايش بين الاجتهادات المختلفة على غرار "نداء المهتدين" وبين الأديان بوثيقة "نداء الإيمانيين" وللسلام العالمي بنهج يفصله "نداء حوار الحضارات"، وهي تعتبر أنها متبعة في ذلك الهدى المهدوي في طوريه لا مبتدعة مجددة لا مقلدة على نهج "إنما لكل وقت ومقام حال"، فلو حضر الإمام عبد الرحمن هذا الزمان لسار بسيرها الآن ولم يتدافع معها..المهم، أن خلط مسألة تغير الأزمنة والأمكنة مع مسألة التدافع خلط ينبي عن فهم فطير للنصوص القرآنية، وللسيرة المهدوية، بل للغة العربية نفسها.. إنه مؤلم للقلب هذا الحضيض الفكري السحيق.
    - تخلط الورقة (وعرضها) بين مفهوم المؤسسية والاستنفار. فقد تحدث مبارك عن تناديهم "للمؤتمر"، في أسبوعين فقط، وعن حضور ضعف العدد المتوقع. وأنهم وصلوا الجماهير ولم يصلها قبلهم أحد، وأنهم أتوا برأي الجماهير المغيبة. نحلة "الجماهير المغيبة" وتمثيل رأيها، واستنفار الناس كدليل على موافقتهم هو ديدن الشموليين، فلن يعدم أحد يبذل المال ويهون "اللوجستيات" لحضور الرجال والنساء بضع مئات أو حتى آلاف يستجيبون. ولكن المؤسسية (المبنية على أساس ديمقراطي) هي الآلية التي تضمن تمثيل الملايين (كما هم عضوية حزبنا) عبر التصعيد بالمؤتمرات القاعدية، لعضوية محددة منضبطة تقاس بنسب تمثيل الحزب في الولايات (استنادا على آخر انتخابات حرة عام 1986م). هذه هي المؤسسية، وهي لا تعني الاستنفار ولا التنادي بأي حال. والخلط الأكبر يتضح في حديثه عن السريةـ فقد اعترف في مقابلة مع جريدة الصحافي الدولي –بتاريخ 17 يوليو 2002م-أنه حجب الأمر عن رئيس الحزب تحوطا من إجراءات مضادة تقطع عليهم الطريق!. وحجب الأمر عن الرئيس يتبعه حجبه عن عشرات ومئات القيادات التي لا تحلف يمين الولاء (لمبارك) وإن سمعت لأوصلت الأمر للرئيس (المحجوب عنه). فكيف يقوم إثر دعوة سرية "مكلفتة" في أسبوعين فقط لا تتيح إجراء مؤتمرات قاعدية، ولا ورش عمل تحضيرية، ولا إعداد أوراق عمل حقيقية، وقامت بالتنادي فجاء ضعف العدد المتوقع (كما لو كانت لوليمة زفاف)، كيف يكون الحديث هنا عن مؤسسية أو "مؤتمر" إلا كالذي قام "مسخ عشوائي القسمات".
    - تحدثت الورقة عن ما أسمته "الفشل في التجربة السياسية منذ الاستقلال" فعزت ذلك الفشل كله تقريبا للأحزاب السياسية السودانية عامة –مع ذكر مقتضب للأنظمة العسكرية التي جرها للساحة الفشل الحزبي- وبعد ذلك تحدثت الورقة عن الضعف الحزبي في السودان بصورة عامة، وكان هذان القسمان هما الجزء الأكبر من الورقة. في هذا الجانب خلط بين الداء (الأسباب) وبين الأعراض (الظواهر). فشل الأحزاب السياسية هو ما تسوقه الأبواق الشمولية للحديث عن فشل الديمقراطية والذي يفترض أنه حدث نتيجة لأخطاء القيادة السياسية. أما اعتماد المفهوم على ثقافة سياسية ومدنية كأساس (دعامة) جماهيرية عامة فمفقود تماما. كان من الأجدى للسيد مبارك الحديث عن إطار للتنمية السياسية يركز على "محاولة دمقرطة" السودان، بدلا عن افتراض أن تعثر تجربة الأحزاب السياسية هي شيء مساو لفشل تلك الأحزاب ولفشل الديمقراطية.. إن الديمقراطية (وأحزابها) لم يتح لتجاربها أكثر من انتخابات تنافسية دورية كان يتاح لها أن تجرى لمرة واحدة أو مرتين بالكثير في كل تجربة ديمقراطية. فلم يسمح لها بالعيش واكتساب الخبرات والأقلمة..الخ . إن لحزب الأمة نظرية شائعة لخصها عنوان كتاب الصادق المهدي "الديمقراطية في السودان عائدة وراجحة"- وهو الكتاب الذي كتبه في سجن كوبر وسربه للخارج فقام الحزب بالخارج تحت قيادة السيد مبارك المهدي بطباعته ونشره- نظرية الحزب هي أن الديمقراطية على علاتها أرجح من الديكتاتورية وذلك بيانا بالعمل لا بالشعارات وبالأرقام والحسابات، فالفشل في الساحة السياسية السودانية لا يمكن أن يعزى للأحزاب وهي لم تتقلد سدة الحكم إلا أقل من ربع المدة منذ الاستقلال، فمن بين ثمانية وأربعين عاما لم تحظ الأحزاب بأكثر من تسعة أعوام، ولم يحظ حزب واحد بأغلبية مطلقة في الحكم.. فكيف يعزى الفشل في النتيجة للحكم الحزبي ويلبس الأوتقراطيين "الذئاب" ثياب الحملان؟. إن السيد مبارك في هذا الموقف لا يناقض شعاراته المعروفة فحسب، بل هو يتناقض مع تاريخه كقيادي في حزب الأمة منافح عن الديمقراطية وعن رجحانها في الحياة السياسية.. لأجل ماذا ينزع عنه ذلك التاريخ المجيد ويتمسح بتواريخ ستكتب ذات يوم بالرماد؟:
    شان ما يدوس على زندو.. ويوجه طلقة لي الضدو
    وقف بيـــــن بـــــــين ..وسمّ على العديل والزين ضبـــــــــــــــح جدّو.
    وما أدراك ما جــــــــدو..كأنو العوجة حزبية
    نسى التاريخ نسى الآداب.. لعلو سهى ولعل مشيو انبدل كغراب
    هجر زمن النضال الكان..قلب صفحاتو قال: بعدو
    ..وفرتق تاني حرية
    .نسج لي الميري من نشدو وما كانت في محرية
    وقف يتبرك المبدول.. قعد يتعرك المعلول
    على حيطة الشمولية
    - كما يوجد خلط بين النظام الديمقراطي –الذي يحوي ويتأثر بمعطيات شتى حزبية ونقابية وصحافية وإقليمية وعالمية وعسكرية ومجتمع مدنية- وبين النظام الحزبي فقد سيق كأن الأخير يعني الأول.. وهو خلط أتقنته النظم الشمولية في سعيها الدؤوب لتبرير انقلابها على الشرعية، ولتكوين شرعية قائمة على الوصاية. ففي هذه الورقة كفر بالأحزاب السياسية السودانية، وبما أن هذه الأحزاب تساوي الديمقراطية إذن: (فكفر بالديمقراطية).. والنتيجة أن الديمقراطية ليست محور الإصلاح والتجديد. هذا ما أدركه كل مطلع على أدبيات جماعة سوبا، قال الأستاذ تاج السر شبو: "ومن غرائب الأشياء أن كلمة الديمقراطية غابت تماما في أدبيات مجموعة الأمة "الحكومية" غابت كمصطلح، وكقيمة، وشعار.. حتى في مداولات المؤتمر "الفرقعة" و"الكلفتة" ".
    - ومثلما أجملت الورقة تحليل الفشل السوداني، والضعف الحزبي، فلقد تحدثت عن مرامي الإصلاح الحزبي العامة (المؤسسية الحزبية- النهج العلمي القومي- المجتمع المدني- والقوات المسلحة) ولكنها لم تفصل ما يعني حزب الأمة من كل ذاك. هذا القصور جعل الورقة مجرد ترديد ببغائي لشعارات "الإنقاذ" ومن قبلها "مايو" ونوفمبر بصورة تفتقر الإبداعية في الطرح الذي صب في أدبيات الشمولية ولم يسع لتطويرها ولا حتى مزاوجتها مع أدبيات حزبه, فالورقة لم تستفد من أدبيات حزب الأمة التي كان كاتبها يرددها من قبل. فقد كان مبارك المهدي يطلع على الأطروحات الفكرية الحزبية، كما كان يشارك في بعض ورش العمل الفكرية التي أكثر حزب الأمة من عقدها لرسم سياساته، وكان يدلي بدلوه، بل لقد قدم من قبل ورقة in Sudan Second Birth المقدمة لمؤتمر "حقوق الإنسان في الفترة الانتقالية" في كمبالا في فبراير 1999م، قدمها نيابة عن رئيس الحزب ودافع عن أطروحاتها. تحدثت تلك الورقة بالتفصيل عن تحليل الأزمة السودانية ودور الأنظمة الشمولية والديمقراطية في تركة الحرب. فخرجت تؤكد أن الأنظمة الديمقراطية مع عيوبها كدحت نحو الحل السلمي وكانت متطورة للأحسن، والأنظمة الديكتاتورية فجرت الصراع أو أججته وكانت متدهورة للأسوأ. في تلك الورقة أيضا ليس فقط تحليل المشكلة، بل تنظير للحل، عبر الحل السلمي القائم على ضبط علاقة الدين بالدولة، والمواثيق الثقافية والعسكرية، والتنمية المستدامة، والديمقراطية المستدامة، والعلاقات الدولية المتوازنة المحترمة للتنوع الثقافي والديني السوداني، والتعامل الواعي مع العولمة.. إلى آخر ما يسهم في التنظير لفك الحلقة الشريرة. تحدثت الورقة عن دور القوات المسلحة، والصحافة، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني، زائدا الأحزاب في الماضي وما يرجى منها في المستقبل.. هل نسي السيد مبارك كل ذلك لمجرد توقيعه على "البرنامج الوطني" فما عاد بجعبته غير تنظيرات "المؤتمر الوطني" أم ماذا حدث؟.
    إن تتبع ركاكة الورقة وتهافتها الفكري، وانبتاتها عن خطاب كاتبها نفسه قبل ثلاثة أعوام مثلا ممكن التبحر فيه أكثر. لكننا نكتفي بهذا القدر، لأن تلك الورقة أصلا لم يبذل فيها جهد ولا هي ذات بال تنظيري، ولولا ارتباطها بانسلاخ سوبا لما كان من داع لبحثها في الأصل. والسؤال الذي يؤرقني، نابع من مرارة أن هذا التهافت يأتي من رأس في حزب هو مصدر الرصانة في الساحة السياسية.. السؤال هو: هل هو قدر محتوم أن يتنازل المنخرط عن مبادئه في مبادئ الآخرين عن عقله وفكره ذاته كما قال بشير؟: وأصبحوا لا فكر لا رأي وراسهم خالي.
    إننا نفهم العقل شيئا كالبصر لا تفقده بتغيير "النظارة" وتغير لون صبغتها، وأفهم أن أخوتنا الذين خلعوا نظارة "الديمقراطية" ولبسوا "الأوتقراطية" سيظلون مبصرين برؤية الشمولية، ولكن لماذا جاء خطابهم حتى أدنى مما يسوقه الشموليون؟.. أم لعلها حتمية صنع الغراب:
    كما فعل الغراب فضل مشيا فما بلغ القديم ولا الجديدا...؟
    إن حادثة سوبا خير كلها وفاروق بين الحق والباطل وراحة من عناء "الحجامة" كما قال محمد المكي إبراهيم، ولو كان فيها "لكنة" فهي هذا السؤال الثقيل، ولو كان بيننا وبين أخوتنا في سوبا مناشدات لناشدناهم الله أن يرتقوا قليلا بخطابهم، وأن يكونوا أقل قليلا في سفور أهوائهم وجحوظ عينيهم "وقد وصف الأستاذ محمد عبد السيد هذه الحالة من جحوظ الأعين بدقة مخيفة في عمود داخله بجريدة الأيام".. لناشدناهم أن يكونوا بقامة تحترم تاريخا لهم ما كان هذا ديدنه. ولكن، قال شاعرنا الفحل عرمان:
    حقيقة ما بسمع نواح الصايحين ميت .. غريــــق
    أما عرض ورقة السيد مبارك –والذي أبرزنا جانبا منه- فلا يختلف عن الورقة نفسها إلا في زيادة تهافت الطرح. ولكن فيه أشياء تستحق الإشارة لها، منها:
    المدارس السياسية: نشير فقط إلى ذلك التصنيف (المدارس في الساحة) الحالمة والتقليدية والواقعية- وأي صاحب لب يعرف أن هذا نهج غرابي فالمدرستان الأوليتان وسما باسمين مختلفين وهما يتحدثان عن صفة واحدة: الصراع وإدمانه. شيء آخر هو حديثه عن "جيل الثلاثينات" وهذه أول مرة –في الفكر السوداني- يتم فيها تصنيف أجيال المفكرين والساسة والقادة حسب ميلادهم.. فجيل الثلاثينيات حسب التصنيف السوداني هو الجيل الذي برز عطاؤه في الثلاثينيات أمثال رواد مدرستي الفجر والموردة، وقادة مؤتمر الخريجين. والناس يتحدثون عن جيل الستينيات مفجر ثورة أكتوبر وقد برزت فيه دماء جديدة في غالبية الأحزاب السياسية كان منها في حزب الأمة الصادق المهدي وفي الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب وفي الإخوان المسلمون حسن الترابي.. والسيد مبارك أراد أن يرمي السيد الصادق بهذه الجملة المعلقة على هواء التصنيفات الفكرية السودانية بلا خيط واصل.. فهلا قال لنا ماذا فعل جيل الأربعينيات "جيله" حسب تصنيفاته المستحدثة؟.. السيد مبارك لا يملك آليات التحليل والفكر والتصنيفات العلمية، وقد قال الشاعر:
    لا يدرك الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
    إن شعار (لا تنظير) و(الناس لا تأكل فكرا) يناسب مقدرات السيد مبارك. ومن الأفضل أن يلتزم ذلك الخطاب ومتطلباته من البعد عن الأسلوب العلمي ومحاولة صياغة الأفكار.
    الشرعية: لم تذكر الورقة مسألة تجمع سوبا وشرعيته ولا كيفية التصعيد أو الاختيار لبرنامج الإصلاح ، ولكن العرض تطرق لذلك شفويا، فابتدر السيد مبارك تقديمه لورقته مخاطبا الحضور بأنهم لا شك يمثلون قيادات حزب الأمة والمسئولين عنه في كل الولايات والمحافظات، ولم يذكر السيد مبارك كيف تحددت هذه الخاصية القيادية: هل بالاعتراف بالمؤسسات القائمة حاليا بالولايات؟ أم بتصعيد وانتخاب قيادات جديدة؟ فإذا وضعنا في بالنا أن الدعوة كانت سرية وبالاختيار . لعلمنا بمبلغ الشك بل تحوله إلى يقين، أن ذلك الجمع لا يمثل قيادات الحزب بل يمثل فقط "أنصار مبارك" داخل حزب الأمة وهم قلة قليلة بالنسبة لعضوية الحزب. وأكثر ما فضح إدعاء الشرعية التردد تجاه التعامل مع رئاسة الحزب الشرعية، والاضطراب البادي لدى المنصة وكل المتحدثين الذين كانوا يتوجسون خيفة من هجوم من الحزب الأصل "أشار له دكتور قطبي المهدي على أنه سبب الإجراءات الأمنية المكثفة في سوبا".. صدق من قال:
    ما قالولنا بالموعد قصـــــــد يا جــــاري
    ودسو على الخبر لكنو جــــــانا وجاري
    البي دقنو حين يرقص عليش بيــــداري؟
    دة الورل القدل خايف يجيـه عشـــــاري
    ويقود هذا للتناقض الواقع في حديث السيد مبارك عن "إخواننا" الذين كانوا يرغبون حضورهم لتسليم الراية، ولكنهم غضبانين وزعلانين ..الخ. فأولئك الإخوان لم يدعهم أحد بل لقد صرح السيد مبارك في جريدة الصحافي الدولي –كما أشرنا- إلى أنه أخفى الدعوة عن الرئيس قصدا، فهي مؤامرة.. قال الأستاذ شبو تعليقا على مهزلة سوبا: "إن المؤسسية والتآمر لا يلتقيان" ..
    تعليق أخير، أنه لم يغضب من سوبا أحد.. وما كان من داع لتلك الإجراءات الأمنية التي ذكرها الدكتور قطبي المهدي في برنامج في الواجهة بتاريخ 15 يوليو 2002م. إن حزب الأمة الذي ينبذ العنف لم يكن يزمع التعرض لتلك الجماعة بسوء، ليس فقط لأننا غير غاضبين، بل لأن جماهير الحزب ارتاحت من تلك الجماعة (ففي الناس إبدال وفي الترك راحة). لقد سممت تلك الجماعة الجو الحزبي لأكثر من عام، وهو ما شبه بخروج دم فاسد بدون عناء الحجامة، وما قال عنه دكتور صالح المتحدث من خارج مظلة حزب الأمة أن الاتجاهات الفكرية للسيد الصادق المهدي : "تجعله وبالفم المليان يقول لدعاة المشاركة- ودعناكم الله وفي أمان الله أيضا. "
    الانشغال بهموم الجماهير وخدمة جماهيرنا
    لقد تناول الأستاذ تاج السر شبو في مقال رصين سبق إشارتنا له الشعارات التي رفعتها جماعة سوبا و"أفصح" من دعا لها كان السيد مبارك وورقته المذكورة، قال شبو: "شعارات التيار الحكومي المخترق كلها كانت على النحو التالي: إصلاح وتحديث الحزب- الانتقال من وضع لا معارضة ولا مشاركة- البناء السياسي القديم غير قادر على حل الأزمة السودانية لأنه شمولي رغم رفعه لشعارات ديمقراطية- هدم الكيانات القديمة القائمة على القبلية والكاريزمية- على الكبار أن يتيحوا المجال لأجيال جديدة- الصراع على السلطة والصراع القديم جربناه 46 عاما ولم نصل فيه لشيء فالواجب التعامل مع الأمر بواقعية.. هذا كل ما ملكت أيمانهم من أفكار واجتهادات وطروحات فكرية فلسفية لمحاولتهم الاستيلاء على حزب الأمة القومي..نهارا جهارا"!.. ثم رد على تلك الأطروحات الفجة رديئة السبك واحدا واحدا، واختتم بتناول شعار الخدمات، قال: "الأستاذ البوني- يقصد الأستاذ عبد اللطيف البوني وعموده "حاطب ليل" بجريدة الرأي العام- أبدى حيرته لغرابة هذا الشعار ######ر منه وداخله مداخلة هزلية في نهاية عموده. وإن التيار الحكومي في حزب الأمة يدخل الحكومة بهدف تقويضها من الداخل.. وما إلى ذلك من الكلامات لا أرغب في مداخلة الشعار البائس اليائس و"فلفلته" ولكنها أول مرة في السودان تعلن جماعة سياسية تدعي "الحداثة والتجديد والإصلاح" إنها تدخل السلطة لحل مشاكل أهليها ومناطقها".. وهي نفس الجماعة الناعتة للكيانات القديمة والقبلية في حزبها مطالبة بهدمها!. .. إننا موعودون بإنتاج فكري سياسي عامر وغزير من "جماعة الأمة الحكومية" تقلب فيها الوضع السياسي رأسا على عقب!. إنها أول مرة في تاريخ العمل السياسي على وجه الأرض تكون فيه حلول مشاكل الجماهير الحياتية اليومية من مسئولية المعارضة.. وهي بالفعل فلتات فكرية لا تدانيها فلتات!."
    وفي ختام تحليلنا لورقة السيد مبارك، نورد أبيات من قصيدة الشاعر خضر عرمان نصحا له:
    أرجع مكانك يا فتى.. راجع حسابك كون رقـــــيق
    دفقت مويتك لي السراب مسكت في الخيط الرقيق
    سوي التقى زاد السفر ما تهنا بي أكل الدقــــــيق
    ما تفوتك العبرة الزمان هابيل سفك دم الشقيق
    يا الكنا قايلنك ركن أصحى انتبه جيّد وفـــــــــيق
    ركز لبابك إن سهى ثبت جنانك من خفـــــــــــيق
    ورقة: الوضع السياسي الراهن وآفاق المستقبل: نجيب الخير عبد الوهاب:
    وهي ورقة تحتوي على تبريرات الانسلاخ للانخراط في النظام، التي يسوقها الانخراطيون في مذكراتهم ومجالسهم وفي أجهزة الحزب. تبتدر الورقة بجملة: "ستة عشر عاما مرت منذ التقينا آخر مرة في هذا المكان في العام 1986م"، والمعلوم أن كاتب الورقة انضم لحزب الأمة في عهد "الإنقاذ" عام 1990م ولا يدرى إلى ماذا رمى بهذا الاستهلال؟!.
    تتحدث الورقة عن التحرك الأمريكي الأخير، والمبادرة المشتركة. ثم تقول أن الديمقراطية والسلام متلازمتان موضوعيا وليس على أرض الواقع فالمبادرات الخارجية تركز على السلام دون الديمقراطية، وإن الديمقراطية تصبح بذلك شأنا داخليا لا يتم إلا بالاتفاق مع الحكومة عبر الحوار أو بالضغط الشعبي. تتحدث الورقة أن موقف الحزب الاستراتيجي صحيح وتكتيكاته خاطئة، مما أفقده الفاعلية. وأنه اتخذ خط "المربع الثالث" بوسائل: الحوار الثنائي مع النظام (ولكن جمد الاتفاق الناتج عنه)، والتعبئة الشعبية (ولكن أقعدته إمكانياته القاصرة وتنظيمه الضعيف)، والمبادرة المشتركة والضغط الدولي وهاتين لا يملك سلطة عليهما. مما يتطلب أن يراجع حزب الأمة وسائله لتحقيق أهدافه.
    وسيناقش هذا الكتاب مسألة فاعلية الحزب، وقصور إمكانياته وضعف تنظيمه، في فصوله اللاحقة. لكننا نتطرق هنا لمسألة الطريق الثالث الذي دعا له الحزب مقترنا بالأجندة الوطنية.
    الطريق الثالث: دعوة دعا الحزب لها جميع القوى السياسية السودانية. وفي تنظيره أن ذلك الطريق يدفع ضده البعض ويعضده الآخر: " هذا الطريق الثالث ترفضه عناصر في الواقع السياسي السوداني أهمها عنصران: الأول: عنصر حريص على الإبقاء على الشمولية خوفا مما تأتي به المتغيرات ولذلك يسعى لبناء دفاعات ضد التغيير. الثاني: عنصر يعتقد أن الحرب تحقق له مكاسب ولا يأمن العمليات السياسية، ويحرص على مواصلة التصعيد العسكري. هذان العنصران مع أنهما متناقضان فإنهما يبرران بعضهما بعضا بحيث يمكن القول أن بينهما تحالف موضوعي وإن كانا متناقضين. لكنهما يواجهان تحالفا عريضا مضادا لهما قوامه:
    أولا: الرأي العام السوداني الشمالي والجنوبي الذي سئم الحرب وويلاتها وتبين وجود فرصة لحل سياسي شامل، لذلك سوف يزداد صوته في دعم الحل السياسي الشامل. هذا الرأي العام السوداني يرجى أن تقوم الصحافة السودانية بالتعبير الصادق عنه لا سيما والصحافة السودانية كانت رائدة في التمدد في هامش الحرية المتاح.
    ثانيا: لقد كان الرأي العام الكنسي قوي المواجهة للنظام السوداني وهو المسئول عن تعبئة الموقف السياسي الغربي ضد النظام. ولكن بدا لهم بوضوح أن استمرار الحرب سوف يؤدي لإفناء سكان الجنوب بالجوع والمرض والنزوح واللجوء وغيرها، لذلك قاد وسيقود اتجاها قويا من أجل السلام ووضع حد للحرب. كما اتضح لهم وجود استعداد أكبر لحل سياسي للنزاع.
    ثالثا: دول الجوار تبينت أن لها مصالح قومية في إبرام اتفاقيات ثنائية مع النظام تقوم على حسن الجوار.
    رابعا: الاتحاد الأوربي اتجه لاعتبار الحل السياسي الشامل في السودان أفضل الخيارات المتاحة.
    خامسا: لا أحد يدري ما سوف يكون الموقف الأمريكي لكن لا شك في المؤشرات الآتية: الحزب الجمهوري الأمريكي أقل تأثرا بلوبيات الأقليات التي لعبت دورا هاما في تشكيل سياسة الحزب الديمقراطي الخارجية في عهد الرئيس السابق كلينتون- اعتبار السياسة الأمريكية نحو السودان في عهد كلينتون فاشلة تماما وضارة بالمصالح الأمريكية- عدم الرغبة في مواصلة تناقض السياسة الأمريكية مع سياسة الاتحاد الأوربي نحو السودان- هذا التحالف العريض يرجى أن يشكل سندا قويا للطريق الثالث الذي يرجى أن تتجه نحوه العناصر الأكثر جدية والأكثر إحاطة والأكثر وعيا في السودان أيا كان موقعها" .
    لقد كانت هذه الرؤية صائبة، ولئن خطت قبل أكثر من عام، إلا أن الواقع صدقها وما اتفاق ماشاكوس الأخير إلا مصداقا لذلك. كما كذبت التطورات ورقة نجيب الخير التي قدمت قبل أقل من أسبوعين.. لقد ظهر في الاتفاق الاهتمام بالديمقراطية والذي جاء لاهتمام الأطراف العالمية التي رعت الاتفاق بها... هذه الأطراف قد رفدت رؤيتها بالرؤى الوطنية للحل والتي ساهم حزب الأمة في تكوين حيثياتها مساهمة لا يغفلها إلا العميان عن حركة الشعوب المغترون ببريق الصولجان فلا يعترفون إلا بالألقاب الرسمية.. ووفق بروتوكول ماشاكوس فستتكون حكومة انتقالية يوضع لها برنامج تعميري تعضيدي للوحدة ويجري استفتاء لتقرير المصير، وتعقب كل ذلك انتخابات ديمقراطية حرة ومراقبة.
    لقد خطط الحزب للدفع لصالح الطريق الثالث عبر الحوار مع النظام ليتخلى عن الأجندة الشمولية- ومع قوى المعارضة الأخرى لتتخلى عن الأجندة الحربية- ولتعبئة الرأي العام وتوجيه الصحافة لصالح الأجندة الوطنية- وللاتصالات الدبلوماسية بدول الإقليم والاتحاد الأوروبي وأمريكا لتكون تدخلاتها لصالح الأجندة الوطنية وبمفردات الرؤية السودانية لا التصورات الخارجية. وقد ساهمت جهوده في دفع الاتجاه الوطني والعالمي نحو مفردات الأجندة الوطنية كما رأينا. ولكن الحديث كأن الحوار الثنائي مع النظام هو للوصول لاتفاق ينفذ تحت أي ظرف فمعناها فتح الباب للحزب أن يكون من ضمن جنود الأجندة الشمولية، إن الديمقراطية لا تتحقق لأن بعض القوى المعروفة بالمناداة بالديمقراطية انضمت للحكم، "إنك لا تعرف الحق بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله"، الديمقراطية تتحقق إذا كان من شروط الانضمام إجراء تحول ديمقراطي بضمانات مشهودة، حتى لا نخرج برياك مشار جديد، والقائمة طويلة في هذا الصدد! وكما قال شاعرنا بشير:
    يا بطل الفلـــــــــم ما تقول ممثل بارع زي لمح البرق قايــــم وجاري مسارع
    أحزر من ضباع وسباع وبعشوم فارع ياما بكرة تندم وتنجــــــدع في الشارع
    ورقة قضايا التنمية والبيئة: محمد أرباب:
    وهي تنظر لضرورة الاهتمام بالبيئة بصورة معزولة تماما عن أي دور يمكن أن يلعبه الحزب في هذا المضمار. وقد وجد في البيان الختامي علاقة بها إذ تم التخطيط تنظيميا لتكوين هيئتين متخصصتين إحداهما "المجلس الأعلى للبيئة". أما الورقة فلم يكن لها بعد عملي حزبي. وهي ورقة تصلح للنشر في الصحف على سبيل التوعية لا أن تقدم "لمؤتمر" يخرج بسياسات حزبية إصلاحية تنظيميا وسياسيا.

    يتبع
                  

08-27-2012, 08:24 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    ورقة: البترول في السودان: أحمد خليل مسلم:
    وهي ورقة "بايتة" تم عرضها العام الماضي من قبل مجلس القطاع السياسي في ندوة مفتوحة لبعض عضوية الحزب وللصحافة. تنور بقصة استخراج البترول وخطط الإنتاج والاستراتيجيات المتبعة، والآثار السالبة والموجبة لاستخراج البترول. لا تتطرق الورقة لسياسة الحزب واستراتيجيته في التعامل مع الواقع السياسي/ الاقتصادي/ الاجتماعي المتغير بسبب استخراج البترول. أيضا هي سياحة في الأرقام والأفكار بصورة تحلق بعيدا عن "مؤتمر" حزبي تنظيمي سياسي.
    ورقة التنظيم تحت راية الإصلاح والتجديد: الزهاوي إبراهيم مالك:
    تعيد هذه الورقة غالب "الأفكار" التي قدمها كاتبها باسم اللجنة المنظمة للمؤتمر والتي تطرقنا لها آنفا، بعضها منقول نقلا ومكرر في الورقتين –لا يدرى أمن قلة في الأفكار الممكن تداولها، أم من إعجاب قاتل بتلك العبارات التي "نجرت" بصعوبة!. تؤكد الورقة أن المقصود بالتجديد ليس "كسر الساحة تماما من كل ما عليها من متقدم الآثار" لأن ذلك من عمل التاريخ وليس من عمل الأجيال. ولذا "فقد أبقينا في هيكلنا التنظيمي المقترح على رئاسة الحزب كما هي ممثلة في السيد الصادق المهدي".
    ثم ساقت الورقة حديثا هو من قبيل "مفهوم التجديد" –والذي خلت ورقة مبارك المهدي المعنونة بذات العنوان منه- وقد تحدثت عن مفهوم التجديد أكثر من حديثها عن: "التنظيم تحت راية الإصلاح والتجديد"، مثلا: مواجهة العقلية التقليدية والذهنية المركزية والإدارة الأبوية التي تسير حزبنا، وتنمية تفكير إبداعي، والبعد عن البيروقراطية، وخلق إدارة تتخطى الحساسيات وتعمل بمرونة فائقة، واختيار قيادة مستوعبة لضرورات التغيير، والانتقال من إدارة الشخص الواحد إلى الذهنية الجماعية، والأخذ بالمشورة.. الخ.
    أفرزت الورقة مكانا معتبرا للحديث عن النهج القومي: متطلباته: التسامح- الشفافية- والعقلانية. ومقاصده: توحيد الرؤى حول القضايا القومية- التعاون والتنسيق- الاتفاق على الحد الأدنى- التشاور المستمر- الاتفاق على آلية لحسم الخلاف. وأخيرا كررت للمؤتمرين أن العامل بإخلاص: نبي أو شهيد أو بطل، فكونوا ما تشاؤن!
    ولا نحتاج لتكرار ما قيل عن هذا النهج (الخطابي)، وعن مناقضته لخط الجماعة المعنية الأبعد عن القومية. وداخل حزب الأمة كان هؤلاء يتعاملون بعقلية "الشللية" تشهد بذلك بعض خطاباتهم، وأوراقهم التي تسربت للصحف ترمي الآخرين في القوى السياسية بكل قبيح ولا ترى من داع للتواصل معهم. وتشهد مذكرتهم التي كانت تتحدث باللغة الإقصائية داخل حزب الأمة نفسه. فلو كانوا يدركون أهمية النهج القومي ثم يتصرفون كديدنهم المشهود، ويعلمون بضرورة وجود آلية لحسم الخلاف مع الآخرين، ثم يلجأون للمشرط والانقلاب على الشرعية كما كان تجمع سوبا، فإننا نكرر دعوة المصطفى الخالدة: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ "!.
    ورقة الخدمات في سودان المستقبل: د. الفاتح محمد سعيد
    وهذه الورقة التي لم تكن بالجاكيت نالت النصيب الأكبر من النقاش لأن هناك أوراق (خاصة ورقة السيد مبارك المهدي) لم يكن متاحا نقاشها بل قيل ستناقشها لجان خاصة، فلم يسمح للمؤتمرين الخوض فيها!
    ورقة الهيكل التنظيمي المقترح: د. أحمد بابكر نهار
    قبل تقديم ورقة الهيكل التنظيمي في آخر جلسة بسوبا، تقدم الدكتور نهار إلى المنصة وبسمل وحمدل وصلى على النبي وقال بالحرف: "الأخوة المؤتمرون، في هذا المنعطف التاريخي بالنسبة لحزب الأمة وبالنسبة للسودان أهنئكم على هذه القرارات الشجاعة، فقد تم حل كل أجهزة حزب الأمة، وباتخاذكم هذه القرارات لا توجد شرعية الآن في حزب الأمة إلا شرعيتكم أنتم.. الآن في حزب الأمة لا في مكتب سياسي لا رئيس لا ولا ولا.. الآن هذه الوجوه الموجودة هي المسئولة من حزب الأمة. وكي لا يحدث فراغ داخل حزب الأمة لا بد من الإسراع – عشان ما يحصل انقلاب تاني- لا بد من الإسراع في تكوين أجهزة حزب الأمة. أصبح حزب الأمة الآن محلولا، فلا بد من الإسراع في تكوين أجهزة. وقبل أيام تحدث أخ من المجموعة التانية وقال (ضل مبارك المسار) ونحنا بالشفناه اليوم بنقول (أجاد مبارك المسار)!".. وتلعثم الدكتور نهار بعد ذلك فقد حدث هرج ومرج في القاعة وكثرت عليه المداخلات وصار يقول "والله في رأي على إنو يستثنى رئيس حزب الأمة، يا جماعة انتو رأيكم شنو؟.." وطال تلعثمه!.. وبعد أن حسمت هذه المداولات بالطريقة التي خرج بها البيان الختامي -المذكور لاحقا- قدم السيد نهار ما سماه ورقة النظام الأساسي. وهي ورقة خلو من أي جديد كمقترح أولي لدستور الحزب. وقد ختم تقديمه القصير لها بالإشارة إلى تقرير لجنة الأمير نقد الله وما أوردته عن تنظيم حزب الأمة (المحلول)!!.
    والتعليق الوحيد الذي أود سوقه هو ما انفلت من لسان نهار وقد صرفت عشرات الملايين لإخفائه (الانقلاب).. صدق زهير:
    ومهما يكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم!!
    البيان الختامي
    يذكر البيان الختامي –المتحدث باسم حزب الأمة- أن قادة الحزب وكوادره القيادية والوسيطة في العاصمة والولايات والخارج عقدوا "مؤتمرا" استثنائيا للحزب استنادا على شرعية التصدي التي اكتسبوها خلال الثلاثة عشر عاما الماضية بعد أن انتهت في العام 1988م شرعية أجهزة الحزب المنتخبة، وانتهت في يناير 2001م شرعية الحزب المعينة في القاهرة.
    أقر "المؤتمر" أن فشل الحركة السياسية في القيام بواجباتها يعتبر عاملا أساسيا في تدويل القضية السودانية. ولاحظ أن حزب الأمة قد قام على بنية تنظيمية فاعلة تسندها قاعدة اقتصادية صلبة.. كما لاحظ بأن ذلك الدور المشهود للحزب قد بدأ في التراجع لانجراف أجهزة الحزب وراء الصراع السياسي المرتبط بقضايا الحكم وإهمالها للمصالح الاقتصادية والقضايا المعيشية للجماهير وعملية البناء الذاتي على مستوى الفرد والتنظيم، كما يعود التراجع إلى غياب التجديد والإصلاح والتحديث وعدم القدرة على قراءة الواقع السياسي والتقدير السليم لقدرات الحركة السياسية على البناء الديمقراطي ومواجهة التحديات.
    وأشار البيان أيضا لما سماه "الأجهزة غير الفاعلة التي خرج بها اجتماع القاهرة في أغسطس 2000 الذي ضم أربعة عشر شخصا فقط في الحزب". ولاحظ أنها "همشت القوى الفاعلة الرئيسية في الحزب والمتمثلة في: الشباب والمرأة والدماء الجديدة". وأنها باعدت "بين قيادة الحزب وجماهيره وجعلت الحزب جزيرة معزولة في العاصمة". قال البيان: "أعرب المؤتمر عن اسفه أن كل المساعي والمحاولات الإصلاحية التي بذلت سواء عبر المذكرات أو الحديث داخل المؤسسات والاجتماعات المغلقة لم تجد أذنا صاغية بل كان يتم الرد عليها في كثير من الأحيان بتضخيم الذات والحديث عن الإنجازات الوهمية"، كما استنكر "المؤتمر" استخدام هذه الأجهزة المريضة مؤخرا لعزل وإقصاء ومعاقبة كل من له رأي مخالف خاصة في قضايا التجديد والإصلاح التنظيمي والسياسي للحزب.
    القرارات:
    القرارات التنظيمية:
    • حل كل الأجهزة، ما يسمى بالمكتب الرئاسي- المكتب القيادي- والمكتب التنفيذي.
    • تشكيل هيكل تنظيمي جديد: المؤتمر العام- الهيئة الفيدرالية العليا- أمانة الهيئة الفيدرالية العليا- المجلس القيادي الفيدرالي- الجهاز التنفيذي (أمين عام ونائب ومساعدين)- الهيئة البرلمانية- مجلس الرأي وتجويد القرار- المجلس التخصصي- منظمة شباب الأمة للسلام والتنمية- هيئات متخصصة (مجلس للبيئة وهيئة لتنمية المرأة).
    • تفويض المجلس القيادي الفيدرالي بوضع المعالجة المناسبة واللائقة بالقيادة التاريخية.
    القرارات السياسية:
    • عقد اتفاق مع المؤتمر الوطني وقيادة القوات المسلحة وسائر القوى الوطنية في الشمال والجنوب لبناء الديمقراطية وتحقيق السلام والاستقرار والتنمية.
    • إجازة البرنامج الوطني المتفاوض عليه مع المؤتمر الوطني.
    • إقرار اتفاق الشراكة في الحكم وفق البرنامج الوطني.
    • تكليف الأجهزة المختصة باتخاذ كافة التدابير اللازمة لتنفيذ قرارات وتوصيات المؤتمر.
    أهم المفاهيم التي وردت في البيان الختامي والتعليق عليها:
    لقد تم التعليق آنفا على مسألة فشل الحركة السياسية ومآلاته حين تحليل ورقة مبارك المهدي عن مفهوم التجديد والإصلاح. وهنالك قضايا أثارها البيان الختامي مثل مسألة فاعلية الحزب، وغياب التجديد والإصلاح داخله، ومشروعية التنظيم المرحلي وماهيته، هذه المسائل سيتم الرد عليها مفصلا في فصول الكتاب اللاحقة.. ولكننا هنا نتعرض للآتي:
    أن شرعية المؤتمر تستند على شرعية التصدي للعمل في أعوام الإنقاذ الأولى: والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن أي مطلع على هذا الادعاء السافر بطلانه هو: من هو الذي يحدد شرعية التصدي؟ هل هو مبارك الفاضل المهدي؟ أم هو حزب الأمة بكل قياداته؟ وأين نصيب عشرات الرجال والنساء –بل مئات من الذين سئمت من مرأى وجوههم حيطان الزنازن، والذين عملوا سرا وعلانية من عضوية الحزب في الداخل من شرعية التصدي؟ أين كل هؤلاء؟ وهل كان مرتادي المؤتمر أوائلهم؟ اللهم لا وإن كان لبعضهم في الدرجات نصيب، ولكن المؤتمر في غالبه تجمع للوجوه التي نفضت عنها غبار السنين وبدت مع الانفراج السياسي الأخير. ثم أين عشرات القيادات في الخارج الذين عملوا كخلية نحل متكاملين مع التصدي الداخلي للبطش.. أين هم؟ إننا حين نتساءل عن أسمائهم نجدهم من بين من وقعوا يدينون تجمع سوبا. بل إن السيد مبارك حينما سئل في صحيفة "الخليج" عن تفسيره لأن كل الطاقم التنفيذي الذي كان يقوم بالعمل معه بالخارج وقع ضد تجمع سوبا علق قائلا بأن هؤلاء لا يعرفون مصلحتهم.. صحيح هذه أعظم تزكية لأولئك الأشاوس من الرجال والنساء الذين أثبتوا بلا أدنى شك أنهم ليسوا صيادي سلطة ولا مناصب ولا تحركهم الوعود بالوزارات.. وهكذا هم كل أهل شرعية التصدي في الداخل والخارج: إنهم من دفعوا المهج والأرواح مسترخصة لأجل الديمقراطية للوطن والمنعة للحزب، فلا يرجون لتلك الأماني إجهاضا عبر سوبا. ولذلك فإن غالبيتهم الساحقة يقفون في الصف الأكثر إدانة لتجمع سوبا.
    أن الحزب في بدايته كان سليم التنظيم وله قدرة اقتصادية سند بها جماهيره، ثم تدنى ذلك الوضع لانجرافه وراء الصراع السياسي المتعلق بالحكم: وتختلط هذه النقطة بمسألة الحركة السياسية بالبلاد. ليس حزب الأمة وحسب، كل الأحزاب السودانية التي نشأت في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين نشأت في جو عالي الانضباط التنظيمي، فمعظم تلك الأحزاب ولد في رحم "مؤتمر الخريجين" أو بقيادة قياداته، وذلك كان مؤتمرا مؤسسا بصورة ديمقراطية على رأسه قادة الخدمة المدنية المنضبطين "كالساعة" في ذلك الوقت، وكذلك كانت الخدمة المدنية حيث خرج الإنجليز مخلفين السودان "بروسيا أفريقيا". ثم كانت حكومة نوفمبر وحل الأحزاب السياسية وبدء التدهور في الخدمة المدنية وكافة أوجه الدولة الحديثة، ولكن الانهيار الأعظم كان في فترة مايو الممتدة لليل طويل. تلك النظم "آخرها نظام الإنقاذ الآن" تستهدف الأحزاب السياسية بشكل رئيسي: تحلها، تجردها من ممتلكاتها- وتسلط عليها دعاية إشانة سمعة لتغتال رموزها تجريدا لها من رصيدها المادي والمعنوي، كما أن الأداء في الخدمة المدنية والشارع السياسي يتدهور بسبب شيوع المحسوبية وسيادة منطق الترهيب والترغيب وإبعاد المخالفين في الرأي: هذا التدني عام في البلاد، واستهداف الأحزاب من قبل النظم الشمولية لم يقتلعها –هذا صحيح- لكننا لا يمكن أن نتوقع ألا يكون بلا أثر وأن تكون نتيجته الحفاظ على البناءات كما هي: الخدمة المدنية الآن في أسوأ أحوالها من تسيب ومحسوبية ورشوة وفساد مالي وأخلاقي. والبنية المجتمعية تؤذن بانهيار المجتمع وقيمه، فهل تستطيع الأحزاب- وهي الجزء الأكثر استهدافا في المجتمع- هل تستطيع الحفاظ على نفسها لا يمسها سوء؟. إن للدكتور عبد الوهاب الأفندي –وهو على رأس مؤسسة تهتم بالديمقراطية في العالم الإسلامي بجامعة وستمنستر ببريطانيا- له كتابات مفيدة في هذا الصدد وقد قال عن الانقلاب الباكستاني وأسبابه: "الإشكال الحقيقي يكمن في الحلقة المفرغة التي يخلقها غياب الديمقراطية" إلى أن يقول: "ولكن التداوي من هذا المرض لا يكون بمزيد من الأسباب التي جاءت به أساسا، فالترحيب بالانقلاب والذي جاء من عناصر المعارضة الباكستانية هو في حقيقته عرض للمرض الذي تحدثنا عنه، إذ أنه تعبير عن الانقسامات التي سادت النخبة الباكستانية من جهة، وعن الإفلاس الأخلاقي الذي دفع بعض الفئات للتشفي بمصائب خصمها من جهة أخرى. ولا شك أن استمرار الحكم العسكري سيعمق هذه الانقسامات، ويؤدي إلى إغلاق قنوات الحوار الصحي والتواصل الاجتماعي مما يصيب البلاد بالجمود والتصدع نتيجة لانسداد شرايينها وقنواتها التنفسية" . الدكتاتورية إذن تساهم في انحطاط الممارسة السياسية عامة حتى عند الأحزاب الديمقراطية التي تتصدى لها ، ويمكننا أن نشير إلى أن الديكتاتورية وسيادة منطقها قد جذب جماعة سوبا فساهم في انحطاط مستوى الفكر السياسي لدى تلك الجماعة، فتمثلت منذ مبدأ أمرها أسلوب المؤتمر الوطني وحاولت تقليده. إن المشاكل داخل حزب الأمة ناجمة عن تخلف في المجتمع وفي الأداء السياسي والحزبي بسبب الدكتاتوريات وطول فترات القهر وذهنيته. وتجاوز ذلك يكون بالديمقراطية ومزيد من الصبر، لا بالضيق ذرعا بالرأي الآخر والانقلاب على الشرعية. التداوي لا يكون بالداء!.. ولو كان للأحزاب أن تحتفظ لنفسها بغرفة مكيفة لا تتأثر بهجير الدكتاتورية وقيظها القاتل المقيد للتطور الفكري والتنظيمي، بل والذي يجعل الأجيال في حالة "كل عام ترذلون"، لو كان ذلك ممكنا لما أتى على قمة حزب ديمقراطي كحزب الأمة قيادي تفتنه الأوتقراطية وتسرب إليه سمها، فيتجاوز كل أطروحاته، ويكتب ورقة على غرار ورقة "مفهوم الإصلاح والتجديد في حزب الأمة" يخلط فيها بين التدافع والتطوير، وبين النظام الديمقراطي والجسم الحزبي، ثم يقول أنه يخلق ثورة باتباع النهج العلمي..قال محمد المكي إبراهيم: " أحياناً يبدو على السودانيين أنهم يطلبون المستحيلات وليس المستحيل وحده من أحزابهم السياسية فمنذ أواخر عام 1958م والى اليوم ظلت الأحزاب السياسية مصنفة في خانة الممنوعات مع الحشيش والأفيون بل أن الحرب على الحزبية كانت أضرى وأشد من الحرب على المخدرات . فقد صودرت أملاكهم وحظر نشاطها وتشرد قادتها في المنافي وبلدان اللجوء ورغم ذلك لا يفتأ السودانيون وخاصة المتعلمين من أولاد المدارس يطالبونها بالديمقراطية والشفافية وكلما التقطوا في الدنيا من مفردات . ومن عجب أن الانقسام الحالي في حزب المهدى رفع نفس القمصان العثمانية متحدثاً عن غياب الديمقراطية والميل إلى التنظير كأن المهدى هو الحاكم الفعلي للبلاد أو كأنهم أرادوا الوثوب على السلطة وانتزاعها من خلفاء الترابي فمنعهم المهدي من ذلك استبدادا منه بالرأي وانفرادا بالقرار. " إن نهج جماعة سوبا دليل على سوء التربية التنظيمية داخل الأحزاب والتي تنتظم أحزابنا كبيرها وصغيرها، شعبيها وصفويها، بسبب طول سنوات الديكتاتورية وما يستتبعه من "انسداد الشرايين" ولا يجدي ألا نعترف بها. إنها معلومة بالضرورة. ولكن أن يعزى ذلك للقيادة التي تصدت لهذه الألاعيب الأوتقراطية في نوفمبر ومايو والإنقاذ، وحاولت تبييض وجه النظام الديمقراطي، والتنظير لتجاوز البندول الحزين، باعتبار ذلك انجرافا وراء السلطة أمر غريب من جماعة ظلت تلهث وراء تلك القيادة لربع قرن، هل صعب عليها اللحاق فقررت الخوض مع الخائضين في الوحل؟. أم أنها إنما كانت تردد أفكار قيادتها بدون فهم ولا تدبر.. صدق شاعر الحزب "حاج العمدة" والذي حركته أحداث سوبا فقال مخاطبا رئيس الحزب الذي دلل جماعة سوبا على عدم إدراكهم للأفكار النيرة التي يبشر بها:
    هاك دي نصيحــــة لــــي البتسابقــــــو الينضمو ما بضارعو البتصفالو الدول تقبل كلامو تهضمو
    كـــــم درج عطــــــالة ودرسهـــــم من فهـــــمو ولقن للوطن دة تـــــــراث- بجــــــــم ما فهموا!
    التمويل كثغرة
    أما مسألة البناء الاقتصادي، فصحيح أن الإمام عبد الرحمن المهدي الذي كان له قدر معلى في بلورة رؤية الحزب ومساندة قياداته المؤسسة في قضيتهم الوطنية رأى –برؤية فردية- أن يكون مؤسسة اقتصادية قادرة تمول العمل السياسي الذي كان يقوده قبل تكوين الحزب، ثم استمر بالتنسيق مع حزب الأمة لمواجهة الدعاية المصرية المسنودة بحكومتها في السودان، ثم لمناهضة الاتجاه البريطاني لجعل السودان تحت جناحهم ومعارضة مطلب الحكم الذاتي لاحقا، إلا أن ذلك البناء لم يكن حزبيا مؤسسيا بالمعنى المفهوم. وقد التفت هو منذ 1950 لضرورة فك الاشتباك بين مالية الدائرة والحزب، ولاحقا تم التخطيط لأن تكون للحزب ماليته المنفصلة (أنظر دستور الحزب لعام 1964م)، وقد تكررت النداءات من القيادة الحزبية الحالية للفكاك من عقلية (الدائرة) والتكية والنهوض نحو الحزب المؤسس في ماليته القائمة على الاشتراكات والمشاريع الاستثمارية، لا على الفيض الفردي. هذه النداءات واجهتها أيضا عقبة الأوتقراطية التي قطعت الطريق أمام أية محاولة للحزب للاستثمار الحقيقي والتمكين اقتصاديا. نعم استطاعت بعض القوى أن تبني ماليتها إبان الدكتاتوريات –وتستطيع جماعة سوبا أن تفعل ذلك الآن- هذا ممكن، ولكن مهره غال تاريخيا ومبدئيا: "الانخراط في النظام الأوتقراطي والدفع لصالح الديكتاتورية وضد الديمقراطية".. مهور يسترخصها البعض لأجل التمكين الاقتصادي وهم وربهم وهم وشعبهم.. والصحائف لا تسقط عنها السقطات. جاء في جريدة الشرق الأوسط تحت عنوان "حزب الترابي يعترف بارتكاب خطأين تاريخيين ويطلب الغفران" الآتي: "أعلن مسؤول بارز في حزب المؤتمر الشعبي السوداني المعارض الذي يقوده الدكتور حسن الترابي أن الحركة الإسلامية في السودان ارتكبت خطأين في مسيرتها السياسة منذ أربعينات القرن الماضي بمشاركتها في النظام العسكري للمشير جعفر النميري في حقبة الثمانينات، وبقيامها بانقلاب يونيو (حزيران) الذي أتى بحكومة الرئيس الحالي الفريق عمر البشير إلى السلطة" لقد برر القيادي المذكور تصرفات حزبه بأن الساحة السياسية العالمية والسودانية كانت تضج بالأفكار الانقلابية، وكان الأجدى أن يقف عند حد طلب الغفران فالرجوع للحق فضيلة.. الجدير بالذكر أن تلك الخطايا التي اعترف بها مقترفوها كانت هي بابهم للتمكين الاقتصادي و"للفاعلية" عبر الجلوس على مقاعد الحكم التي يسيل لها لعاب سوبا 2002م. ألا ما أبلغ العماء التاريخي لدى هؤلاء القوم! .
    عدم القدرة على قراءة الواقع السياسي. وهذه تناقض ما ساقه الانسلاخيون وكرروا قوله: في مذكرتهم الأربعينية، وفي مذكرة قائدهم في مارس 2002م والتي تطرقنا لها في الفصل الأول. ثم في ورقة "الواقع السياسي الراهن" التي قدمها نجيب الخير وتطرقنا لها أعلاه. أكدت هذه الأدبيات أن قراءة الحزب الاستراتيجية سليمة، وله قدرة على قراءة المستجدات، وقد رأى الانسلاخيون أن المشكلة في التكتيكات التي يتخذها فقط، ثم ها هم يجردونه من أية ميزة. ذلك أن "الباطل لجلج" لذا تراهم يقولون شيئا وينقضونه، وهذه هي سنتهم يبدلون قولهم ولا يبدلونها. والسؤال المنطقي حول ما ساقه البيان الختامي هو: هل ما قيل عن مساوئ الحزب ينطبق عليه منذ تولت رئاسته قيادته الحالية (أي منذ الستينيات) كما يوحي البيان؟ أم أنها مسألة طرأت منذ عام أي بعد قرار المشاركة في 18 فبراير 2001م؟. وإذا كان الأول صحيحا إذن لماذا اتبعوا تلك القيادة أصلا ولم يفكروا هذه الأفكار الجهنمية منذ دخلوا العمل السياسي قبل ربع قرن؟. وإذا كان الثاني صحيحا فمعنى ذلك أنه اختلاف في وجهات النظر حول المشاركة في السلطة، ألبسه أهل سوبا لباس التنظيم تارة والبرنامج أخرى والقراءة للواقع السياسي ثالثة.. إنهم في بحثهم الدؤوب عن "الرايحة: مشاركة السلطة" قد فتحوا أفواه كل البقر في حظيرة الحزب.. فهل في فم أي من أبقارنا وجدوها يا رب؟.
    عدم استيعاب القوى الرئيسية الفاعلة: الشباب والمرأة والدماء الجديدة: أما الشباب فقد تم تصعيده في الأجهزة القيادية بصورة غير موجودة في أي حزب سوداني آخر (نسبة 30% في المكتب القيادي والأغلبية في المكتب السياسي). والمرأة ممثلة في كل الأجهزة القيادية كما أصدر قطاع تنمية المرأة رؤيته الفكرية وعقد ورشته التي اعتمد الحزب توصياتها للمؤتمر العام. إن جماعة سوبا ما فتئت تردد أن هناك قيادات ديناصورية على قمة الهرم الحزبي والشباب يقفون عشرات السنين في الصفوف الخلفية. وهذا يدل على ضحالة خيال هؤلاء. فاستيعاب الشباب لا يكون بالضرورة في المقاعد القيادية بل بخلق مناشط تستوعب طاقاتهم وأفكارهم وإبداعهم، وهذا ما خطط له الحزب بجعل نشاطه أشبه بتنمية مجتمعية (في مقابل الانحصار في المناشط السياسية). وإذا كنا نرى أن تصعيد الشباب يكون لتلك المقاعد القيادية فحسب إذن لدخلنا في دوامة لا تنتهي حتى نرضي طموح كل المستحقين.. المناصب القيادية لا تصل الثلاثين، والشباب ألوف متزايدة كل عام. الرد على هذه الفرية سيكون بمراقبة الانسلاخيين والهرم الذي سيصنعونه لإرضاء طموحات الشباب وتطلعاتهم القيادية!. إن القائد الشاب الوحيد الذي تبعهم من المكتب القيادي للحزب –وهو الفاضل آدم- قد تم ركنه في مساعدية الأمين العام - علما بان تاريخه النضالي يبز كل الأسماء التي رصت فوقه، والوحيد الذي يمكن عده من الشباب في المكتب الرئاسي الفيدرالي هو الصادق الهادي المهدي الذي جاءت به اعتبارات أسرية إذ قصر به تاريخه الحزبي.. إن وقفة جادة أمام الهيكل الذي تمخضه جمل سوبا سيسفر عن فأر ضئيل الهيئة إزاء ادعاءات سوبا 2002م وشعاراتها الكاذبة.
    القرارات التنظيمية: وتتضح فيها ثنائيتهم تجاه رئيس الحزب، فمرة هو الحكم الفرد والمتسلط أبويا، وكل أسباب التقاعس، ومرة هو صاحب الدور التاريخي الذي يرون الإبقاء على رئاسته (ورقة الزهاوي) ثم أخيرا يحل منصبه ولكن يتم البحث حول معالجة مناسبة لقيادته التاريخية!. وهذه القرارات أيضا مكلفتة الصياغة، فقد أسقطت الورقة المطبوعة المكتب السياسي (الجهاز التشريعي للحزب) من قائمة الحل وطبقا لذلك فالمكتب السياسي لا زال شرعيا عند هؤلاء. ومكلفتة لأنه حينما أعلنها في الجلسة الأخيرة في سوبا الدكتور أحمد بابكر نهار وقال أننا حللنا وحللنا... ثم تلعثم وتساءل كما ذكرنا آنفا: يا جماعة إحنا رئيس الحزب حليناه ولا ما حليناه؟.. وظل مترددا حتى أتاه الخبر اليقين!. والقرارات لم تشر للتنظيمات الولائية وتنظيمات المحليات التي تنتظم القطر ولا لموقعها في تنظيمهم الجديد. لكن تلك التنظيمات هي التي بادرت بعدم الاعتراف بسوبا كما سنورد لاحقا. ولم يذكر بيان سوبا مؤتمر محلية "الحوش" القاعدي في يونيو 2002م ولا مؤتمر المناقل القاعدي في يوليو2002م، ولا كيفية التعامل معهما.
    والعجيب في أمر هذه القرارات التنظيمية أنها جبت كل ما قبلها- سواء أكان ذلك في مؤتمر الحزب 1986م، وتنظيم المواجهة حتى 1996م، والتنظيم الاستثنائي حتى 2000، والتنظيم المرحلي منذ 2000 وحتى الآن، والشيء الوحيد الذي استصحبته من (الماضي) هو "الهيئة البرلمانية". والمعلوم أنه وطبقا لدستور الحزب لعام 1986م أن المؤتمر العام للحزب يتكون من: أعضاء اللجنة المركزية، المكتب السياسي، المجلس الاستشاري، الهيئة البرلمانية، والوزراء، وممثلو لجان وأمانات الأقاليم والمديريات والمناطق والمدن والأرياف والأمانة العامة . الغريب في هذا القرار أن "الهيئة البرلمانية- والوزراء" هم فئات تدخل في تكوين الحزب إبان الديمقراطيات حيث يوجد برلمان ويكون للحزب وزراء في الحكومات، ولكنها ليست فئات "حزبية" في المقام الأول، بمعنى أنها مصعدة من القواعد بصفة حزبية. إن عدم الاعتراف بأية شرعية لانتخابات 1986م الديمقراطية –عبر المشاركة في الإنقاذ بدستورها الحالي- وعدم الاعتراف بأية شرعية للمؤتمر العام للحزب وانتخاباته عام 1986م –وهي شرعية انتخابية حقيقية مهما قيل عن تأخر الزمان- ثم الاعتراف فقط بالهيئة البرلمانية لا يمكن النظر له بمعزل عن حقيقة أن تلك الهيئة هي المكان الوحيد الذي نال السيد مبارك المهدي عضويته عبر الانتخاب. ذلك أن عضوية مجلس الوزراء، وبالتالي المكتب السياسي، دخلهما مبارك بتزكية واختيار رئيس الحزب. وهذا هو السبب الأساسي في الغضب من "الأمانة العامة" فيما يبدو، أنها أتت بقيادات على قمة الهرم الحزبي ليس هو من بينها، ولم يكن ذلك لصغر سنه حينها فمن أعضاء الأمانة العامة المنتخبة السيد نصر الدين المهدي وهو أصغر منه سنا، كما أن السيد الصادق المهدي قد انتخب رئيسا للحزب في 1964 وهو بسن أصغر من مبارك 86 بحوالي ثمان سنين!.
    القرارات السياسية. جاءت كما هو متوقع، هذه القرارات هي مربط الفرس الذي من أجله تنادى ذلك الكرنفال.. السلطة.. السلطة. والعجيبة أن جماعة سوبا لم تكن تخفي استخفافها بذهنية الحزب في عدم المشاركة إلا في حكومة قومية، أو انتخابات. وقد سمع قائدهم يستنكر مستهزئا ويقول: نفر يقال لهم اقسموا على اثنين، يقولون: نقسم على عشرة؟!..
    وملخص حديثنا عن أدبيات المؤتمر.. رغم أن من شعارات المؤتمر الاستناد على النهج العلمي إلا أن الأوراق لا ترقى إلى مستوى الأوراق التي درج حزب الأمة على تقديمها بأي حال. لقد كانت ركيكة في صياغتها وفي طباعتها وفي فكرها وفي لغتها بشكل عام. وما ينطبق عليها هو كلمة "مكلفتة" بشكل عجيب. وإذا قسناها بتصور الحزب لمؤتمره الذي تسبقه ورش عمل قطاعية ابتدأت في مارس 2001 بورشة قطاع تنمية المرأة تلحقها بقية القطاعات، وورشات عمل برامجية، ومتخصصة انعقد منها حتى الآن الورشة القانونية والعسكرية ، ورشات كونت لها لجان للسكرتارية واستنفر فيها قطاع الدراسات والبحوث.. إذا قيست أدبيات سوبا بمثل هذا البرنامج لكان الناتج هو مثلما قاله أحد الظرفاء من قبل حول مناظرة بين قائدين سياسيين بز أحدهما الآخر بصورة ماردة قال: لعبة بين البرازيل وأم دوم!.. مع الاعتذار طبعا لفريق أم دوم!.
    شعارات المؤتمر:
    عقد المؤتمر تحت شعار: "حزب الأمة من أجل الإصلاح والتجديد والتحديث في حزب الأمة"، كان ذلك هو الشعار خلف المنصة في قاعة سوبا، أما الشعار خلف المنصة في قاعة الصداقة فكان "من أجل النماء والوحدة والبناء".. وهذه أول مرة نرى فيها محفلا يغير شعاره هكذا من مكان إلى مكان، ولعله اتباع أعمى لمقولة "لكل وقت ومقام حال"!.. تعليق إضافي أن الشعار الأخير يشبه كثيرا شعار مؤتمر الحزب الرابع بأسمرا الذي كان "معا من أجل التحرير والوحدة والبناء" مع تغيير التحرير إلى النماء وأحسب أن ذلك باعتبار أن التحرير قد تم إنجازه أو باخ طعمه!.
    الشعارات المكتوبة على جدران قاعة المؤتمر منها: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال- الرأي قبل شجاعة الشجعان.. هو الأول وهي المحك الثاني - الهجرة إلى المستقبل بالإصلاح والتجديد- من أجل الديمقراطية والتنمية السلام-. أما الهتافات داخل المؤتمر فقد كان منها: شارك ..شارك يا مبارك- للتجديد مبارك- للإصلاح مبارك- للحرية مبارك- ديمقراطية مبارك- مية المية مبارك- نحن أنصارك يا مبارك- قيادة جديدة يجب تأييدها- مناضل مناضل يا ابن الفاضل- قائد قائد يا مبارك- ولا قداسة مع السياسة – سير سير يا مسار- حزب الصادق غير صادق- التطوير ولا التنظير- لا تبعية ولا تقليد حزب الأمة للتجديد- التكبير والحمد..الخ
    الشعر في "مؤتمر" سوبا 2002م:
    خلفية عن دور الشعر عند حزب الأمة والأنصار
    التراث المهدوي ركز على الشعر والمديح كوسيلة للتعبئة الشعبية. يقول المرحوم قرشي محمد حسن صاحب كتاب قصائد من شعراء المهدية: "ومما يؤكد إيمان المهدي بالشعر ورسالة الشاعر في الحياة والدور الذي يلعبه في قيادة المجتمع الثوري تلك المنشورات التي كتبها إلى شعرائه محمد ود التويم (وهو أمير بالمهدية) وأحمد ود تميم وأحمد ود سعد والأخير كتب عريضة يلتمس فيها إذنا مكتوبا بمدحه فكتب إليه الإمام هذا المنشور.."، ويورد المؤلف صورة من المنشور الذي جاء فيه: "إن المدح فيه إرعاب الكافرين وموعظة وتذكرة للمجاهدين ولهو فيهم –أي الكفار- أسرع من النبل وهو كان ينشد بين يدي رسول الله  فأقره وزجر من تعرض لناشده" . وقد كان من شعراء المهدية في طورها الأول المشهورين علاوة على الثلاثة المذكورين أعلاه أيضا أحمد أبو شريعة، أحمد القلع، أحمد ود سليمان، الزين أبو كساوي، المنبور محمد، ومحمد ود سوركتي . أما المهدية في طورها الثاني على يد الإمام عبد الرحمن المهدي وخليفتيه، فقد نبغ فيها شعراء مثل ود محمد ود التويم، ومحمد أحمد حاج العاقب، وعكير الدامر (في فن الدوبيت)، محجوب سليمان وإبراهيم السيد، بركة جبران، وعبد الحليم علي طه ، والشاعر حامد عيشاب. كما قال شعرا مادحا للإمام عبد الرحمن الكثير من شعراء الحقيبة أمثال صالح عبد السيد أبو صلاح، وعبد الرحمن الريح، والحاج محمد أحمد سرور، وسيد عبد العزيز، وإبراهيم العبادي، وعمر محمد عمر البنا، وعبيد عبد الرحمن ، وخالد ابو الروس. كما مدح الإمام عبد الرحمن شعراء السودان في غالبهم، من أولئك التجاني يوسف بشير- عبد الله عمر البنا- محمد سعيد العباسي-محمد المهدي المجذوب- محمد الأمين القرشي- ابن الخياط- صالح عبد القادر و محمد عبد القادر كرف. وقد قام مختار أحمد مختار بكتابة العديد من روائع قصائد الحزب والكيان مثل "إلى الأمام يا شباب الإمام".
    أما المهدية في طورها الحالي فقد صاحبها شعراء فحول بدءا بحسن طه (شاعر المؤتمر) الذي نشر ديوان "صادقيات في الشعر السياسي" في الستينيات وجاء في قصيدة "الحق أبلج":
    أفمن يسير على هدى أهدى لنا أمّن يسير على الهوى كالمارق
    يا من يرجي الخير دون معارك قد طال شوقك للهناء الدافــــــق
    الشعب أدرك أمره وقد اهتــدى وهو القمين بكشف كل منافـــق
    ما زال يأمل في ديمقراطيـــــةٍ يبني بها صرح البناء السامـــق
    ما أن تلفت باحثا عن قائــــــــد يجري به جري الجواد السابق
    حتى تصدى صادقٌ وكأنـــــــه قمر أطل على الدنا من شاهق
    وطنية من نبع قلب مخلــــــص وأصالة من نفس حر واثـــــق
    حمل الرسالة قائدا يسعى إلـــى تحقيقها سعي الزعيم الحـــاذق
    آفاقه عزت على زعمائنـــــــــا ما فيهمو مهما ادعوا من لاحق
    قد بزهم في عزمه في حزمــــه في علمه أو في الذكاء الخارق
    فالفرق بين نضاله ونضالـــــهم كالفرق بين مغارب ومشارق
    في حلم أحمد في شجاعة خالـــــد في حكمة المهدي وحنكة طارق
    قل للخوالف صادق يدعوكمـــــــو للصلح والإصلاح رغم الفارق
    هيا اركضوا في السير خلف ركابه كي تتقوا في السير شر مزالق
    لو تجمعون خياركم في واحـــــــد هيهات أن تأتوا بمثل الصادق
    ..ثم أبو القاسم عثمان صاحب ديوان الاستقلال والأبيات الشهيرة:
    ستظل شمسا حية تهب الضياء ولا تغيب
    ستظل شابا دائما إن المكارم لا تشيـــب
    لقد جعلت إحدى المنظمات الشبابية مؤخرا هذه الأبيات شعارا لها، وهي إنما قيلت بحق السيد الصادق المهدي منذ الستينيات، لكأنما صاحبها محدث!.. ومن الشعراء الذين ارتبطوا بهذه الفترة أيضا السر أحمد قدور- وعبد الله محمد زين (صاحب رائعة أنا أم درمان أنا السودان)- وإدريس البنا (وقد نظم قصائد عديدة في تمجيد المهدية وفي مواجهة الدكتاتوريات وإن غير موقفه عن الحزب الآن)- وفضل النور- وحاج العمدة عبد الماجد- والمرحوم عبد المنعم أحمد قدور- محمد صالح سليمان- العمدة رشاد محمد كرار- وخضر عرمان، وغيرهم. كما برز شباب في الآونة الأخيرة منهم المكي مصطفى- ومحمد صالح مجذوب- بشير عثمان بشير. أما حادثة سوبا الأخيرة فقد أخرجت للحزب نوارا من الشعراء أطل برأسه لم يحص بعد منهم على سبيل المثال الشاعر الشاب أحمد عبد الله أحمد سعد، والذي قال لدى زيارة رئيس الحزب وصحبه لمنطقتهم (ولاية نهر النيل) بعد حادثة سوبا الأخيرة:
    نحميك من صقور الجو خليك من بغاث الطير
    وللأنصار وحزب الأمة شعر مختلف ألوانه بألوان الشعر الشعبي في شتى بقاعهم، ففي الغرب يوجد "هداي" يصوغه ويردده جماهير الحزب والأنصار- وفي الشمال يوجد شعر الرباعيات الذي اشتهر فيه عكير الدامر ومشى على دربه الكثيرون من أبناء الإقليم. وفي الأوسط يوجد المديح (فقد أقام أحمد ود سعد بالجزيرة وروى له مؤخرا حاج التوم من الله، وتوجد في أسرة حاج التوم من الله مادحات مجيدات يروين شعر ود سعد وغيره من قديم الشعر المهدوي وحديثه) ثم جاء المادح زين العابدين أحمد عبد القادر والذي أتحف جماهير الحزب والكيان بروائعه التي تتجلى إبان المحن ، وذاع أمر رفيقه شهيد الدعوة المادح بشير الحاج النور الذي توفي إثر حادث وهم يؤدون واجبهم لإحياء افتتاح مسجد في قرية المشرع بنهر النيل في أغسطس 1997م. والحزب غني جدا من هذه الناحية بل في بعض بقاعه (مثلا العكد في ولاية نهر النيل، وتنّوب في الجزيرة المروية) يكون الجميع تقريبا رجالا ونساء وأطفالا من رواة الشعر أو حفاظه أو مؤلفيه. ومؤخرا برز عند الحزب فن الملاحم التي ساهم فيها الحبيب العم السر قدور أولها ملحمة "أمجاد الأمة" التي أديت أول مرة إبان مؤتمر الحزب الرابع بالخارج في أسمرا عام 1998، والثانية هي "أوبريت العودة" الذي قيل بمناسبة عودة قيادة الحزب في نوفمبر 2000، وهو حول "نداء الوطن":
    نداء الوطن.. في سبيل الوطن لنحيا كراما ولا نمتهن
    وهي ملحمة رائعة.. أذكر أنني سمعتها أول مرة في القاهرة في مطلع نوفمبر 2000م وكنا مزمعين على العودة مع القيادة في يوم 23 نوفمبر.. جلست قبالة عمي السر استمع لأوبريت العودة، فما لبث أن قال: "يوم العودة يا أمد رمان .. العيد السبق رمضان".. فاقشعر بدني وسالت عيناي من بلاغة التشبيه، فقال لي لما رأى من حالي مازحا وعالما بمقدرته الشعرية الفائقة: "فقري مش كدة؟" .. وذلك أن العودة كانت توافق يوم 26 شعبان 1421هـ (أي ثلاثة أيام فقط قبل رمضان)، وقد كانت عيدا لنا نحن العائدين كما كانت لجماهير الحزب بالداخل، وقد واكبها طبع ونشر "شريط كاسيت" بالداخل فيه مقطع يقول: "يا أمة عملاقة أرواحنا مشتاقة.. يا الصادق المهدي باكر بنتلاقى!".. لقد كان عيدا للعائدين ولمستقبليهم سبق رمضان بحق.. يتكون أوبريت العودة من عدة مقاطع من غناء الحقيبة ومن الغناء الوطني، ففيه من "فلق الصباح" ومن "إلى العلا" ومن "أنا أم درمان تأمل في ربوعي" ومن "وطن الجدود"، وفيه دوبيت ينشد بطريقته المعروفة، وفيه لحن "الدلوكة" الفرح يحدث عن "العيد"، كما فيه أيضا جزء مقتبس من تراث المهدية هو الجزء الأخير. وروعته تكمن في أنه استنهض تراثا حزينا –وهو قصيدة ود سعد في رثاء الإمام المهدي- والتي يقول فيها:
    سيد بقعة المسجد ببكي عليك سرمد
    عيشا بلاك اسود يا مهدي الله.
    استخدم تلك "المدحة" في لحنها وفي مفرداتها وحولها لمناسبة بشرى وفأل، فقال بنفس اللحن:
    في بقعة المسجد الجمع احتشد
    للصادق الوعد بشرانا بيه
    والبلاغة أيضا في أن الاستقبال يوم العودة كان "في بقعة المسجد" المقصودة فعلا.. وقد قال في هذه القصيدة الرائعة:
    الضحى للبلد … بالمال وبالولــــد الصادق الوعد … بشرانا بيهـــو
    ما غاب عنا .. يوما ولا ابتعـــــــد لاقى الأحداث … بالصبر والجلـد
    من أجل الوطن صابر واجتهــــــد والاه الشعب.. وعليه استنـــــــــد
    لاقى القواسي.. حاشاه ما ارتعـــد الشعب جمعيا.. يتلقى منه المـــــد
    يسمع كلامه ويشاوره ساعة الجد الخالفو انخمد … والتابعو انسعد
    السيد السند … الفايح طيبــــو ند الصادق الوعد … بشرانا بيهــــو
    شعر سوبا 2002م
    نعم لا تخلو مناسبة لحزب الأمة من أمثال هذه الفنون. ولقد حاول التجمع في سوبا أن يخلع عليه هذه الصفة –ومع أن الأشعار تتخلل الجلسات الاحتفالية :الافتتاحية والختامية فقط- فقد تخللت الأشعار تقديم بعض الأوراق في سوبا، والملاحظة الأولى أنه لم يحضر أيا من شعراء ومادحي الحزب والكيان المشهورين، وكان الشعراء نكرات على الأقل على مستوى المركز، والشعر نفسه كان مصنوعا، ركيكا في غالبه، نذكر من تلك الأشعار.
    شاعر أول:
    السلام عليكم جملة هذه الأحرار
    وعلى رأسكم السيد مبارك والدكتور نهار ومسار
    نحن الأنصار جميع وما فينا كبار وصغار
    لكن يجب أن ناخد حقنا كامل طالما عندنا الأفكار
    ما كان لينا فيه نصيب أبدا
    ***
    دايرين تجديد دايرين اصلاح
    دايرين تعويض للزمن الراح
    شاعر آخر :
    حزب الأمة من ما قام
    حزبا يدعو للوحدة ويوقدها تمام
    مبارك الفاضل كفؤ لقيادة الحزب وأمين
    حفيد المهدي اللكان لي وطنا أمين
    نحن وراه لا بنخضع ولا بنلين
    شاعر ثالث:
    ديل الانتظار معاهم ما بنفع
    الجد في مكان الجد
    شهر واحد حقوقنا نمسكها في اليد
    يا كل زول يشوف ليه جحر وينسد
    كل تلك الأشعار كانت في الجلسة الأولى، ويتضح أن القيادة محسومة ومسألة المشاركة أيضا محسومة (وقد اتضحت هذه النتائج المفترض أن تكون نهائية منذ الجلسة الأولى أيضا في كلمات الوفود المشاركة من الولايات).
    وفي الجلسة الثانية، حين تقديم ورقة مبارك المهدي (العلمية) هلل الناس فأتى شاعر بمداخلة شعرية:
    ود خليفة المهدي.. البي هداك للعالمين تهدي
    إلى أن قال:
    لي صالح الوطن كل الصغير ما لامنا
    أيدناك يا عمر البيه تم مرادنا.
    ومع أن الجلسة (علمية) فلم يسأل أحد الشاعر من هو ود خليفة المهدي؟ ثم من هو "عمر" أهو "البشير" أم ابن الخطاب؟.
    وغير هذا كثير.. أغلب الشعراء كانوا يتذبذبون في الدرجة ما بين "لا تشتهي أن تسمعه" و "لا تستحي أن تصفعه" ومن يستحق "وضع البردعة"!! .. القصيدة الوحيدة التي يمكن تصنيف شاعرها مع الخائضين وسط المعمعة، هي قصيدة الشاعر بشير أبو شورة وهي طويلة، منها:
    اطلعنا على الأوراق في الوضع الراهن قديم وجديد
    ننحاز لي الوطن ولي عـــــــــــــزة حزبنا نعيـــــــد
    السودان عمـــــــموم شرق وغرب شمال وصعيـــد
    بهنيك يا مبارك والتجديـــــد بخيت وسعيــــــــــــــد
    ***
    انقذت الحزب خليتو صــــــف مرصوص
    يا ابن العلي كفو الكهانــــــــة تبـــــــــوس!!!
    حزب الأمة بي عين الإلـــــــه محـــروس
    ما بضيع بي وراك ما دام انتو ليه رؤوس
    ***
    احنا غير السلام والوحدة شن دايريـــــــــــــــــــــن
    والإصلاح والأمن والتنمية في السودان شمال ويمين
    كيف نبعد بعيد نتجمد نقول حايريــــــــــــــــــــــــن
    وأنصار الله في كل البلد نايريـــــــــــــــــــــــــــن
    ***
    نهج الشورى ليه ناباه ليــــــــــــــه نتعمــــــــــــــــد؟
    من التنمية والإصلاح للوطن ليه يصبح حزبنا مجمد؟
    تجديد المسار سنة نبيــــــــــــــــــــــــنا محمـــــــــــد
    وعلى هذا النهج نصبح كالجبــــــــــــــــال نتصمـــــد
    ***
    في السودان عموم في البر والحضر والريف
    نفخر بي سلام بي تنمية وتشريــــــــــــــــف
    ما بهددنا تيار الرهــــــــــــــــــــــد والزيف
    ***
    مبارك البحر الطمح في قيوفو ماشي بهدّر
    الري الدفر عم وخريف ومبــــــــــــــــــدّر
    لي السودان عموم يعمل حساب ويــــقدر
    والبوطاها كان جاها المطر ما تخــــــــدر!!!
    ***
    عندو الجود موفر والكرم والقيمــــــة
    مبارك عزة لي حزب الأمة قوية وقيمة
    غابة تلبد الخايف عملو جريمــــــــــة!!!
    تعتز بيه فاطمة وتفتخر بي حليمـــــــــة
    ***
    قيادة الحزب راجياك من قديم ورياسة
    فيك عزة رجال هيبة وجوه وفراســـة
    أنصارك عموم ياك عزها ونصرها وياك راسها
    طير ما بجيها إت ياك فارساها وحراسهــــــــــا
    ***
    بعيدة مسافتو إن قسنا الجدود بي جــــدو
    وراه رجال ياهم دول لي كل البلد بتحدو
    كريم بي دارو باسط للمساكين يـــــــــدو
    باب لي الغيرو بي طبلة وشمع بنسدو!!
    ***
    حزب الأمة من ما قام ما لقى الفجريــــــــة
    راجيانا الفراسة من زمن الجدود فطريـــــة
    نشارك بل نشارك دون جهجهــــة ######رية
    وإن جات لي الوطن نحن أخوان سعاد ورقية
    لا شك أن هذا الشاعر يعلم موجهات سوبا الظاهرة: المشاركة- التجديد. والخفية: قيادة الحزب للسيد مبارك- وتكريس انفراده بها (باب لي غيرو بي طبلة وشمع بنسدو)، ومع أنه أجود الشعر في سوبا، فقد أضاف بعض المعاني الوحشية التي تستحق المراجعة!.
    الأثر على الجماهير
    تتالت الوفود المنددة بهذا العمل الاختراقي ومن كافة بقاع السودان. بدءا بوفد منطقة الدالي والمزموم والذي زار رئيس الحزب في اليوم السابق للمؤتمر، وأكد أن جماعة من الانسلاخيين زارت منطقتهم ودعتهم للمؤتمر، ولكنهم أحسوا –برغم التأكيد على حضور رئيس الحزب- أن المؤتمر خارج الشرعية والمؤسسية، فرفضوا تلبية الدعوة أتوا لتأكيد وقوفهم خلف الشرعية. ثم وفد الجبلين الذي حضر للمؤتمر ورفض الدخول بعد معرفة تفاصيله ثم زار القيادة لرفع تأييده. ومن ذلك الوفود التي أتت من شندي والمناقل، والزيادية، وسنار، الحصاحيصا وكل قرى الجزيرة ورفاعة (البطانة)، والمعاليا، والمسيرية، والجزيرة أبا والقرى المجاورة، وتندلتي، وكنانة وربك وكوستي. لقد حدث استنفار كبير بين عضوية الحزب أشبه بالانتفاضة، رفضا للأسلوب الانقلابي وتأييدا للمؤسسية. كما تتالت المذكرات من داخل وخارج السودان من أجهزة الحزب المختلفة: من جدة- المملكة المتحدة الأمانة العامة للحزب- الحزب ببريطانيا- مذكرة حزب الأمة بالخليج- والطائف- حزب الأمة بشرق إفريقيا- والهفوف- والرياض- وسلطنة عمان- والإمارات- ومصر- الولايات المتحدة وكندا- وولاية كارولينا بأمريكا- والطلاب في باكستان. ثم تبرأت منه الجماعة التي كانت تقود العمل المعارض بالخارج في عقد الإنقاذ الأول من قيادات الحزب في مذكرة مقدمة للسيد الصادق المهدي مبتدرة بالآية : "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله". وقد كانت المذكرة الأربعينية تعول على أن تكون قيادات العمل المعارض- بالداخل والخارج- مع الرئيس والأمين العام وقياديي الداخل الشرعية الثورية للتغيير. أما قيادات الداخل التي تصدت للعمل المعارض في عقد الإنقاذ الأول فقد عزلت في غالبيتها الساحقة المؤتمر واعتبرته دعما للأجندة الشمولية. وقد تتالت المذكرات والبيانات من مختلف مؤسسات الحزب وأجهزته في الولايات: في القضارف- والحصاحيصا- وعمال عطبرة- وحزب الأمة نهر عطبرة- والحزب والكيان بولاية نهر النيل- والضعين- وبارا- وكسلا- والدلنج- والنهود- والأبيض- الجزيرة أبا- وبابنوسة- وحلفا الجديدة- ومليط- والعالياب- العبيدية- شمال كردفان- ود الحداد- البطانة- جنوب كردفان (أبوجبيهة والرشاد وتلودي)- الطلاب حزب الأمة في جامعة كردفان- القرآن الكريم- الدلنج- غرب كردفان- وجامعة السودان بالأبيض- طلبة دارفور (جامعات زالنجي والفاشر ونيالا). ولا زالت المذكرات ترد. وكان أبلغ أثر هو إعلان بعض الولايات أنها ستتكفل بترحيل وإعاشة عضويتها المصعدة للمؤتمر العام حين عقد المؤتمر. ثم إعلان فرعية الحزب بالرياض أنها جمعت في اجتماع واحد مبلغ 78 ألف ريال سعودي من عضويتها لتمويل مؤتمر الحزب العام وهي تسعى لإكمال الرقم حتى مائة ألف ريال سعودي، في إطار الرد على مؤتمر الزور. وأعلن الكثيرون أفرادا وتنظيمات عن تبرعات غطت تكاليف المؤتمر العام لعام 2003.. أليس وعد الله حق (لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)؟. الأحزاب السياسية السودانية وقفت إلى جانب الحزب مؤازرة شرعيته ومستنكرة انقلاب سوبا. زار قيادة الحزب وفد من الحزب الاتحادي الديمقراطي، ومن القوى المعارضة: السيد غازي سليمان عن حركة جاد والسيد الحاج وراق عن حركة حق والسيد عبد العزيز دفع الله عن قوات التحالف. الصحافة السودانية وقفت بوعي وكشفت هدف المؤتمر "لتبرير المشاركة بدون ضوابط وطنية" وكان الغالبية العظمى لكتاب الأعمدة يقفون لصالح المؤسسية والشرعية في الحزب. بل لقد صدر أدب رصين شارك فيه صحافيونا الوطنيون. ومرة أخرى لم تجد هذه الجماعة دعما إلا من صحيفة الوفاق وبدرجة أقل ألوان ثم الأنباء لثقل الوزن الحكومي في توجهاتها. وسيحوي الجزء الثاني من هذا الكتاب بإذن الله المقالات الرصينة التي ساهمت في إلقاء الضوء على الأحداث داخل حزب الأمة بكل الموضوعية وكل التجرد.
                  

08-27-2012, 08:26 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الفصل الثالث
    اتفاق سوبا على ضوء مرجعيات حزب الأمة
    محل مهرا أصيل رابط حمـارا داكن لي ضل الضحى هاجر عمارا ماكن
    راسك طــش ثم حديثك اصبح لاكن في جيب السجم صاير مقامــك راكن
    في الأسبوع التالي لتجمع سوبا تم إعلان اتفاق بينهم وبين المؤتمر الوطني، جاء في الاتفاق أن "حزب الأمة" أجاز البرنامج الوطني "بالإجماع" وأن المؤتمر الوطني سيعرضه على المكتب القيادي. البيان الصحفي الذي صدر عقب الاتفاق على البرنامج كان بعنوان "بيان صحفي مشترك بين حزب الأمة وحزب المؤتمر الوطني"، خلاصة البيان هو:
    خلاصة اتفاق جماعة سوبا مع المؤتمر الوطني
    بعد نداء الوطن كون كل من حزب الأمة والمؤتمر الوطني فريقهما التفاوضي. امتدت المفاوضات على مرحلتين: الأولى من مايو 2000-فبراير 2001، والثانية من مارس 2001-يوليو 2002م. المفاوضات كانت شاقة وتطلبت التوقف للعودة للمؤسسات والتشاور مع القواعد. ساعد المفاوضات تاريخ التعاون المشترك، الروابط الفكرية والسياسية والروحية، تقدير المخاطر في عالم مضطرب وأطماع متصارعة ونظام دولي تنقصه العدالة والتعايش والسلام. محاور الاتفاق سبعة هي: المرتكزات الفكرية والثقافية- القضايا الدستورية- نظام الحكم والحكم الاتحادي- التأصيل- العلاقات الخارجية- أسس السلام العادل- آليات تنفيذ الاتفاق. توصل الطرفان إلى اتفاق شامل على "برنامج وطني" فحواه:
    1- المرتكزات الفكرية والثقافية: دولة ديمقراطية- مواطنة- الاعتراف بتعدد الأعراق والثقافات- احترام كافة الأديان والمعتقدات- الاحتكام للشريعة واجب على المجتمع المسلم- القسمة العادلة للسلطة والثروة.
    2- القضايا الدستورية: تعديل الدستور لإحداث مزيد من التامين على الحقوق والحريات- تفعيل الأوجه المسكوت عنها (حرية الصحافة- حرية تسيير المواكب..الخ)- تعديل القوانين وفقا للتعديلات الدستورية- التعديلات الدستورية تقدم للمجلس الوطني لاعتمادها- إعادة النظر في الدستور وفق متطلبات اتفاقية السلام العادل.
    3- قضايا نظام الحكم والحم الاتحادي: نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي- يكون رئاسيا- قومية مؤسسات الدولة مبنية على الكفاءة- تقسيم إداري على معايير وطنية. فكرة إعادة تقسيم الولايات تظل قيد النظر- إلغاء المحافظات ودمج المحليات في وحدات إدارية كبيرة تجري وفقها انتخابات المجالس المحلية- إنشاء مجلس تشريعي أعلى بمقاعد متساوية للولايات.
    4- التأصيل: يهتدي بمرجعية الشريعة الإسلامية وأعراف وإجماع أهل السودان ويستصحب المواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان التي قبل بها أهل السودان- مراعاة التعدد الثقافي والديني والعرقي- خصوصية الجنوب- يراعي الاتفاق الانطلاق من الشريعة الإسلامية والموروث الثقافي والعرقي واعتبارات الواقع ويتميز بروح الاجتهاد والتجديد والمعاصرة.
    5- العلاقات الخارجية: تسعى السياسة الخارجية لتحقيق المصالح والقيم المثلى والالتزام بالمبادئ السامية الواردة في المواثيق الدولية والإقليمية- عدم التدخل في شئون الآخرين الداخلية- المساهمة في إصلاح المنظومة الدولية.
    اتفق على مواصلة التشاور والتنسيق في القضايا أعلاه.
    6- آلية التنفيذ: تشكيل حكومة برنامج وطني من الطرفين- مع إمكانية مشاركة أي فصائل أخرى تنضم للاتفاق- مشاركة في كافة أجهزة ومؤسسات الدولة من القاعدة للقمة. يشكل الاتفاق نقطة انطلاق لتحقيق الوفاق الذي تشارك فيه كافة الأطراف.
    مرجعيات حزب الأمة حول الاتفاق مع النظام:
    مرجعيات الحزب التي يستند عليها في بحثه عن الحل السياسي الشامل موجودة في العديد من الأدبيات، وقد صدر مؤخرا كتاب "الحل السياسي الشامل"الذي أصدرته لجنة جمع أدبيات الحزب عن الحل السياسي الشامل والتي كونها المكتب السياسي للحزب في العام الماضي، وهي تشتمل على الأوراق التي قدمها الحزب بشأن تقرير المصير واتفاقية السلام والتحول الديمقراطي والاتفاقيات التي وقعها، كما تشتمل على مقررات أسمرا للقضايا المصيرية لعام 1995م والتي وقع عليها الحزب مع غيره من القوى المعارضة وغيرها من الأدبيات. أما فيما يخص العلاقة مع النظام، فقد كان أول إعلان مبادئ مشترك بين الحزب وبينه هو نداء الوطن الذي اعتبره الحزب نصرا لمقررات اسمرا للقضايا المصيرية أو استصحابا لها، ولا غرو أن النظام أيضا اعتبر أن نداء الوطن يحتوي على كثير من الأفكار التي جاءت في دستوره لعام 1998م، ذلك أن كثيرا من أفكار الدستور كانت مقتبسة من شعارات المعارضة . بعد التوقيع على نداء الوطن نقل الحزب ثقله القيادي نهائيا للداخل على دفعتين: الأولى في 6 أبريل 2000م والثانية في 23 نوفمبر 2000م، وواصل حواره مع النظام، ثم عرض نتائج الحوار على أجهزة الحزب أولا في فبراير 2001م، وخرج بقرارات 18 فبراير الشهيرة، ثم واصل الحوار في مرحلة ثانية واتخذ قرارا بشأنها في 8 أبريل 2002م.. مرجعيات التفاوض مع النظام إذن هي: نداء الوطن- قرارات فبراير 2001- قرار أبريل 2002م، تفاصيلها هي:
    نـــداء الوطن: وهو إعلان مبادئ لتحقيق الحل السياسي الشامل وقع بين حزب الأمة وبين حكومة السودان في 25 نوفمبر 1999م. يتكون من أربعة محاور:
    أولا: اتفاقية السلام: تتبنى أطراف النزاع وتلتزم بالمبادئ الآتية لإنهاء الحرب الأهلية وعقد اتفاقية سلام عادل تبنى على: (أ) أن تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية- (ب) لا تنال أية مجموعة وطنية امتيازا بسبب انتمائها الديني، أو الثقافي، أو الاثني- (ج) أن تراعى المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان وتكون ملزمة- (د) الاعتراف بالتعددية الدينية، والثقافية، والاثنية في السودان –(هـ)إقامة حكم البلاد على أساس فدرالي، وتوزيع السلطات بين المركز والولايات- (و) المحافظة على قومية مؤسسات الدولة المبنية على اعتبار الكفاءة المهنية معيارا أساسيا مع ايلاء اعتبار خاص للمناطق الأقل نموا- (ز) المشاركة العادلة في السلطة المركزية- (ح) المشاركة العادلة في السلطة بكافة مستوياتها واقتسام عادل للثروة- (ط) إكمال تلك الإجراءات في فترة انتقالية قدرها أربعة أعوام .. في نهايتها يستفتي جنوب السودان بحدوده لعام 1956 .. ليختار بين وحدة طوعية بسلطات لا مركزية يتفق عليها أو الانفصال- (ي) معالجة قضيتي جبال النوبة والانقسنا بما يحقق مطالبهم في القسمة العادلة للسلطة والثروة في إطار السودان الموحد.
    ثانيا: نظام الحكم: (أ) تلتزم القوى السياسية السودانية بإقامة نظام ديمقراطي، تعددي يكفل حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. (ب) النظام الديمقراطي الملائم للسودان نظام رئاسي فدرالي.. يفصل بين السلطات الدستورية، ويحدد السلطات الاتحادية والولائية. (ج) مراعاة التعددية الدينية، والثقافية في البلاد .. بما يحقق التعايش بينها .. وتضمن في المبادئ الموجهة للدستور. (د) الالتزام بالتنمية المستدامة هدفا قوميا لبناء البنية التحتية والاجتماعية، وكفالة آلية السوق الحر في توافق مع العدالة الاجتماعية المتوازنة. (هـ) النظر في كافة المظالم .. وإنصاف المظلومين.
    ثالثا: العلاقات الإقليمية والدولية:
    أ‌. تحقيق حسن الجوار الإيجابي الذي يراعي مصالح الجوار التنموية والأمنية.
    ب‌. إقامة علاقات خاصة مع دول الجوار ذات المصالح المتداخلة مع السودان بما يحقق الاستقرار الأمني والتنموي.
    ت‌. إقامة علاقات السودان الدولية على أساس التعاون الدولي ودعم الآمن والسلام الدوليين، والشرعية الدولية.
    رابعا: آليات الحل السياسي:
    أ/ المبادرة الوطنية وتشكل محور الحوار والتفاهم السوداني-السوداني. وتعمل على دفع جهود السلام والحل السياسي الشامل عبر المبادرتين "الإيقاد، والمصرية الليبية المشتركة" عبر اتفاق المبادئ أعلاه.
    ب/ العمل على إنجاح المبادرة الليبية المصرية والإسراع بعقد المؤتمر الجامع في اقرب فرصة.
    ج/ التأكيد على دعم مبادرة الإيقاد، كمبادرة من دول الجوار المعنية بالشأن السوداني، والمتأثرة به ودورها في تحقيق السلام.
    د/ ضرورة التنسيق بين المبادرتين من خلال الحوار السوداني-السوداني، وإعلان المبادئ المتفق عليه أعلاه.
    إن هذا الاتفاق يمثل تطلعات وأمال شعبنا السوداني في تحقيق السلام، والديمقراطية، والاستقرار، وإننا إذ نناشد كافة القوى السياسية لتأييد هذا الإعلان للحل السياسي الشامل. والانضمام إليه ودفعه لتحقيق الوحدة والسلام والوفاق، كما نناشد كافة الأشقاء والاصدقاء لدعم وتحقيق الوفاق الوطنى لكافة أبناء السودان.
    قرار 18 فبراير 2001م: كان نداء الوطن إعلان مبادئ للحل السياسي الشامل كما ذكرنا، وقد اعتبر الحزب إثره أن فترة المواجهة بلغة الاستئصال والاستئصال المضاد مع النظام قد انتهت، وأن الفترة الجديدة هي فترة الدفع نحو الحل السياسي المتفاوض عليه لإجراء السلام العادل والتحول الديمقراطي، وأعلن عودة قياداته للداخل لإجراء التنظيم الحزبي والتعبئة الشعبية والتحاور مع النظام، مع مواصلة المجهودات الدبلوماسية تجفيفا للتدويل الخبيث واستمطارا للحميد. أما فيما يتعلق بالتنظيم فقد أعلن الحزب في 6 أبريل 2001م حملته التنظيمية الكبرى، وفيما يتعلق بالتعبئة الشعبية فقد واصل الحزب نشاطه بندوات الأربعاء بمركزه العام، ومؤتمراته الصحفية التي بلغت تسعة في الفترة منذ مزاولة نشاطه العلني حتى الآن، وعلاقاته واتصالاته بالقوى الأخرى ومنظمات المجتمع المدني، هذا علاوة على لقاء "بين الصحافة والسياسة" الذي يتم بصورة خاصة في منزل رئيس الحزب يلتقي عبره برؤساء التحرير وكتاب الأعمدة الذين يدفعون لصالح الأجندة الوطنية.. كما اتصل نشاط الحزب الدبلوماسي على الصعيد الإقليمي العربي والإفريقي وعلى الصعيد العالمي، وكان لكل ذلك فتوحات سيسجلها له التاريخ. أما على صعيد التحاور مع النظام فقد كون الحزب فريقا تفاوضيا بقيادة السيد مبارك المهدي رئيس القطاع السياسي للتفاوض مع النظام، وقد كان رئيس الحزب عالما بكل تفاصيل التفاوض، وكان الحزب مطلقا لبعثة التفاوض حرية بحث تفاصيل الاتفاق حول توسعة نداء الوطن وتطويره. لقد ذكر السيد مبارك في برنامج "في الواجهة" بتاريخ 29 يوليو هذه الحقيقة كأنما متعجبا من موقف رئيس الحزب إزاء التفاوض، ذلك أن العقلية الدكتاتورية لا تتفهم ألا يتدخل الإنسان في كل صغيرة وكبيرة موافقا أو معارضا، فرئيس الحزب كان يتعامل مع التفاوض مع النظام بكل الجدية ويشارك في كتابة المسودات التي سلمت للطرف الآخر، حتى يصل الحوار لنهايته المنطقية ويعرض على أجهزة الحزب لأخذ الرأي بشأنها من تلك الأجهزة صاحبة القرار.. ولذلك فحينما رأت بعثة التفاوض أنها وصلت لقمة أو عتبة جديدة متطورة عن نداء الوطن يمكن التوقيع عليها، عرضت تفاصيل الاتفاق أولا على المكتب القيادي الذي عقد سلسلة اجتماعات خرجت بقرار في 14 فبراير، لم يعرض قرار المكتب القيادي على المكتب السياسي الذي ناقش أيضا الاتفاق في اجتماعات ماراثونية استمرت حتى 18 فبراير (تاريخ ميلاد الحزب في 18 فبراير 1945م).. حيث صدر قرار الحزب حول نتائج التفاوض مع النظام بالإجماع . نص القرار كان:
    لقد تداول المكتب القيادي لحزب الأمة وثائق التفاوض مع النظام عبر جلستين تحدث فيها كل الأعضاء بوضوح وموضوعية، وناقش كافة الآراء بصراحة وجدية ثم تقدم الرئيس باقتراح أجازه المجلس بالإجماع في 14 فبراير الجاري. ثم تداول نفس الأمر المكتب السياسي عبر ثلاث جلسات، وبعد تداول المكتب السياسي الأمر عدل الرئيس بعض ما جاء في قرار المجلس القيادي لأخذ مساهمات المكتب السياسي في الحسبان، وقدم الاقتراح الآتي:
    المكتب السياسي تداول الرأي حول مشروع الاتفاق المتفاهم عليه من الطرفين وقدر مجهود فريقنا المفاوض وطالب بالآتي: أولا: ضرورة إضافة التوضيحات الآتية عبر مزيد من التفاوض.
    ‌أ. المبادئ المذكورة واردة بصورة معممة ينبغي توضيحها بما ورد في الملاحق لإزالة الغموض.
    ‌ب. يوضح موضوع الدستور بأننا سوف نعيد كتابته بعد اتفاقية السلام وإن التعديلات المذكورة للمرحلة.
    ‌ج. نظام رئاسي على النمط الفرنسي.
    ‌د. الاقتصاد يذكر : القومية- الحياد- رفع المعاناة- الخدمات- الرعاية الاجتماعية.
    ‌ه. القوانين المقيدة للحريات والمراجعات تذكر.
    ‌و. استقلال الجامعات وليس الأكاديمي.
    ‌ز. موضوع المظالم لم ينص عليه كما في نداء الوطن.
    هذا النص وتعديلاته يدعى البرنامج الوطني ويوقع عليه.
    ثانيا: هنالك قضايا وطنية تعلو على المصالح الذاتية والحزبية وتوجب التضامن من أجلها هي: نبذ العنف واعتبار ذلك أساسا لحماية الحريات- تكوين آلية قومية (أحزاب ومستقلون) للتعاون والتشاور بشأن القضايا الدستورية وقضايا الحريات.. الخ والعمل لاستقطاب الرأي الوطني حول ذلك- تكوين آلية قومية لتحقيق السلام العادل وتفعيل كافة وسائل تحقيقه-.
    عهد التضامن الوطني هذا يعلن ويوثق.
    ثالثا: إقرار مبدأ المشاركة بعد استكمال الاتفاق على البرنامج الوطني والاتفاق على توقيتات وآليات التنفيذ. أن تكون المشاركة على أحد أساسين: الأول: في إطار انتخابات حرة في المستويات المختلفة بعد الاتفاق على قوانينها ونزاهتها وفيما عدا الأجهزة الانتخابية تكون المشاركة في إطار دولة الوطن. الثاني: في إطار قومي مجمع عليه.
    بعد أن قرأ الرئيس اقتراحه خاطب رئيس المكتب السياسي الدكتور آدم موسى مادبو الحاضرين، فقام الأخ الزهاوي إبراهيم مالك بتثنية الاقتراح، وأيده الحاضرون بالإجماع .
    لقد كان قرار 18 فبراير 2001م فتحا للحزب، فقد استطاع القرار أن يجعل الحزب يلتزم بمبادئه المعلنة في ذات الوقت الذي يلتزم باتفاقه الممهور مع النظام، وقد أثبت القرار وما صاحبه من مداولات داخل الأجهزة أن حزب الأمة يخطو نحو المؤسسية بخطى ثابتة. ويحق لذلك القرار أن يؤرخ له كمحطة هامة للحزب تصادفت مع يوم تسجيله كناد قبل ستة وخمسين عاما (1945م).
    قرار أبريل 2002م: لقد رأينا أن جماعة المشاركة الانخراطية قد وافقوا على قرار 18 فبراير في حينه. ولكنهم لم يرتضوا تفسير قواعد الحزب والرأي العام السوداني للقرار، وقد حاولوا التشكيك في أن القرار عمل مؤسسات كما ذكرنا آنفا وحاولوا وصمه بأنه فردي مملى من الرئيس.. وقد حاولوا تغيير القرار وخرقه عبر مذكرة مايو 2001م الأربعينية (أنظر الفصل الأول)، لاحقا أثار رئيس القطاع السياسي في مذكرته بتاريخ مارس 2002م (وقبل إكمال الجولة الثانية للمفاوضات) رأيا مفاده ضرورة مراجعة قرار فبراير 2001م، ناقشت أجهزة حزب الأمة الموضوع وتوصلت إلى القرار رقم 122، يعتبر القرار الجديد أيضا أحد مرجعيات الحزب في مسألة التفاوض مع النظام، مفاد ذلك القرار:
    "يؤكد الاجتماع جدوى قراره التاريخي بتاريخ 18 فبراير 2001م وسعة أفق القرار مع تأكيد ضبط المشاركة في أحد الإطارين المذكورين: حكومة انتقالية قومية- انتخابات حرة نزيهة.
    تداول الاجتماع الظروف المحدقة بالبلاد كافة وفرص الحل السياسي الشامل وقرر: مواصلة الحوار مع النظام بهدف الاتفاق على إصلاح دستوري وقانوني وسياسي بما يحقق التحول الديمقراطي وأسس السلام العادل بما يشكل أساسا للحل السياسي الشامل ويتطلع الحزب لإبرام هذا الاتفاق على ضوء ما يعرض عليه من تفاصيل نتيجة التفاوض.
    يدعم الحزب عمله التعبوي الشعبي ويواصل مفاوضاته مع القوى السياسية السودانية للتعاون في سبيل السلام العادل والتحول الديمقراطي ."
    تحليل اتفاق جماعة سوبا مع المؤتمر الوطني
    أولا: شرعية الاتفاق: لم يكن الفريق المفاوض إلا بعثة حزب الأمة للحكومة للتفاوض، والحكومة استطاعت أن "تقنع" البعثة ببرنامج معين لم تقبله أجهزة الحزب. أجهزة الحزب هذه ليست أمورا معرضة للعبث بحيث يمكن أن تتمدد (البعثة) سرا لتحتل (الحزب). وبافتراض أن الحكومة غير ضالعة في محاولة الاحتلال المذكورة، فإن الوارد والصحيح إجرائيا أن ترتضي الحكومة بقرار الحزب الذي عدل بعثته بفريق يمثل رأي الحزب بصدق، ثم تواصل الحوار من جديد.وفي هذه الحالة يمكن للحكومة أن تعتبر أنها كسبت البعثة الأولى إلى جانبها (تضاف إلى مكاسبها السابقة من مختلف الفصائل) ويمكنها أن تشاركها وتعقد معها ما تشاء من اتفاقات باعتبارها فئة انسلخت من حزبها وانحازت للخط الحكومي. أما اعتبار أن موافقة البعثة على الاتفاق مع النظام هي موافقة الحزب (باعتبار أن تلك البعثة كانت مبعوثة من قبل الحزب في الأصل) فهذا خطأ إجرائي أساسي، ويدل على أن مسائل الشرعية والصدقية وما إليه لا تهم. كذلك اعتبار أن الإجراءات (التحليلية) التي تمت في سوبا شرعية أو مجازة وتخول للبعثة الحديث باسم الحزب وتكون أجهزة تجيز لها ما تريد من سياسات.. لقد التف الاتفاق على مسألة الشرعية بالحديث عن أن التفاوض كان شاقا وتطلب الرجوع للمؤسسات والتشاور مع القواعد. هذه فرية عظيمة لأن المؤسسية تقتضي أن يكون الرجوع للمؤسسة لا للقواعد، وقد أقحمت هذه الجملة مصداقا لادعاءات جماعة سوبا أنها "نزلت للقواعد". في هذا تجاوز للشرعية وللمؤسسية.
    الإجراء الصحيح المتوقع من حكومة مسئولة –بافتراض أنها كحكومة مسئولة لم تكن ضالعة في سوبا 2002م- هو التحقق من صحة مزاعم البعثة من الباعث (الأجهزة الشرعية المعلومة للحزب) للقرار حول هل الاتفاق مع (حزب الأمة) أم مع حزب بعثة حزب الأمة المحلولة. وقد اعتبر حزب الأمة هذا الخطأ من ضمن الأخطاء التي نالت من مصداقية الإنقاذ من قبل. والحزب يتطلع أن تعترف الحكومة أن الذين وقعوا معهم اتفاق سوبا لم يعودوا يمثلون حزب الأمة، ولكنهم يمثلون أنفسهم وقواعدهم وبرنامجهم المختلف عن برنامج حزب الأمة. فأجهزة الحزب معلومة وكذلك خطه الفكري والسياسي وقواعده.
    ثانيا: اتفاق سوبا على ضوء مرجعيات حزب الأمة
    ولكن، وبصرف النظر عن مسألة الشرعية والقضايا الإجرائية، ما قيمة هذا الاتفاق بقياس مرجعيات حزب الأمة؟ إن فكرة "البرنامج الوطني" هي فكرة حزب الأمة وليس الفريق المفاوض الذي كان يحمل أفكار حزبه لا ينتجها، حتى صار يعتنق أفكار المؤتمر الوطني بحدة يفتقدها أهلها الأصليون "التركي ولا المتورك".. من المفترض أن يكون ذلك البرنامج تطويرا لنداء الوطن في اتجاه اتفاق يعضد الحل السياسي الشامل.. وقد أعلن أن اتفاق سوبا جاء وفقا لنداء الوطن، وأنه هو البرنامج الوطني، إن قياس ذلك البرنامج بمقاس تطلعات حزب الأمة سيسفر عنه التالي:
    بين القومية والحزبية: كان نداء الوطن اتفاقا مفتوحا للقوى السياسية قومي النظرة، وقد اختتم بالتالي: "نناشد كافة القوى السياسية لتأييد هذا الإعلان للحل السياسي الشامل. والانضمام إليه ودفعه لتحقيق الوحدة والسلام والوفاق، كما نناشد كافة الأشقاء والأصدقاء لدعم وتحقيق الوفاق الوطني لكافة أبناء السودان." وكان في نصوصه الداخلية يتحدث عن "القوى السياسية السودانية" بينما اتفاق سوبا إعلان بين حزبين يجمعهما التاريخ المشترك والروابط الفكرية والروحية والسياسية!. صحيح جاءت فقرة في الاتفاق تقول :"مع إمكانية مشاركة أي فصائل أخرى تنضم للاتفاق".. لكن هذه الجملة مقحمة على الاتفاق الذي صيغ بلغة "الحزبين"، وما جمعهما. والعجيبة أن حزب الأمة يعتبر أن ذلك "التاريخ المشترك بينه وبين جماعة المؤتمر الوطني" لم يكن مشرفا ، وليس هو السبب في رغبتنا في الاتفاق، بل التسامي على الجراح وعلى الشئون الخاصة لأجل العامة،يعبر عن ذلك كلمة الصادق المهدي التي ابتدر بها محاضرته عن "الوحدة الوطنية والثوابت القومية"، قال: "لقد وجهت لي الدعوة للمشاركة في هذه الندوة التي تأتي ضمن احتفالات "الإنقاذ" بعيدها الثالث عشر. ونحن كفصيل وجهت له الإنقاذ أسهمها بأشد صورة منذ توليها السلطة، ووجهت قبل ذلك أسهما قوضت التجربة الديمقراطية التي نذود عنها، فإن بعض الناس يتعجب من مشاركتنا في منبر كهذا" إلى أن يؤكد أن سبب تجاوز تلك الإساءات عام وليس خاصا يقول: "لأنه ليس لنا مطلب خاص، فإننا لن نترك بابا إلا ندقه، ولا منبرا إلا نعتليه مبشرين –بخير الديمقراطية- ومنذرين –بويلات الديكتاتورية- ولأجل العام يصغر الخاص بل يتلاشى."
    اتفاقية السلام: جاء في اتفاق سوبا أنه كان من ضمن محاور التفاوض أسس السلام العادل، ولكن الاتفاق خلا من إشارة لتلك الأسس مع أن اتفاقية السلام كانت أول بنود نداء الوطن، وغاب بالتالي الحديث عن تقرير المصير.. مرجعيات حزب الأمة منذ 1993م تتحدث عن أن تجاهل مطلب تقرير المصير خيانة للوطن ولوحدته التي يجب أن تبنى على أساس طوعي. وقد أكد الحزب ذلك في خطابه ردا على تقرير السناتور دانفورث مؤخرا، جاء في ذلك الخطاب الحديث عن مضار الانفصال، وعما يعنيه تقرير المصير للجنوبيين، أما فيما يتعلق بموقف القوى الشمالية تجاه تقرير المصير فقد جاء: " يجب أن تسلم الأحزاب السياسية الشمالية بالنقاط الثلاث الآتية: أن الوحدة طوعية وليست مفروضة وأن القرار بشأنها قرار جنوبي لأنهم هم المتظلمون من عدم إعطائهم حقهم في القرار عن طريق تمثيلهم غير الكافي في مؤتمر جوبا 1947م- نعم علينا أن نعرض كل الحجج القوية ضد الانفصال، وأن نخلق الظروف التي تثبت أفضلية الوحدة، وأن نقدم الحجج والبراهين التي تؤكد مساوئ الانفصال، ولكن يجب أن يمر القرار في هذا الأمر عبر الاقتراع الجنوبي- إن أية محاولة من قوى سياسية شمالية بدعم عربي للتخلي عن فكرة تقرير المصير من جانب واحد سوف تعزز التفاف الجنوبيين حولها –أي فكرة تقرير المصير- بدعم خارجي عريض، وسوف تخلق ظروفا لمواجهات أوسع. إنها سوف توسع فجوة الثقة بين الشماليين والجنوبيين وتأتي بنتائج عكسية. "
    إنصاف المظلومين:غاب عن اتفاق سوبا مسألة النظر في كافة المظالم وإنصاف المظلومين (الفقرة ثانيا-هـ). هذه النقطة بالذات أعاد التركيز عليها قرار المشاركة في 18 فبراير، فالحزب كان يفاوض للوصول لآلية للتحري والتقاضي في تجاوزات الماضي، مع إعفاء الانتهاكات الدستورية.
    الدولة القومية: حول قومية مؤسسات الدولة، غاب مفهوم إيلاء اعتبار خاص للمناطق الأقل نموا. (فقد جاء في نداء الوطن (الفقرة أولا-ح) المحافظة على قومية مؤسسات الدولة المبنية على اعتبار الكفاءة المهنية معيارا أساسيا مع إيلاء اعتبار خاص للمناطق الأقل نموا. وجاء في اتفاق سوبا الحديث عن الكفاءة بمعزل عن اعتبار المناطق الأقل نموا. هذه النقطة مهمة جدا بالنسبة لحقوق الأقليات، والتي تم تداولها في المواثيق الدولية. هذه النقطة هامة أيضا لأنها تمثل جزءا هاما من مبادئ الحزب للحل العادل، فقد جاءت في "مشروع نحو سلام عادل" منذ أغسطس 1992م ، وجاءت في مقررات أسمرا للقضايا المصيرية والتي وقعها الحزب مع الآخرين، بنص القرارات على إعادة هيكلة الدولة السودانية بصورة قومية تتجاوز التشوهات في البناء القومي في الدولة السودانية الحديثة منذ نشوئها.
    العلاقات الدولية: اللغة التي صيغت في مطلع البيان الصحفي وفي مجال العلاقات الخارجية ركزت على "وجود نظام دولي تنقصه العدالة والتعايش والسلام" ثم "تساهم السياسة الخارجية في إصلاح المنظومة الدولية".. هذه المفاهيم لم يتم ضبطها بأطر الاعتراف بالشرعية الدولية والالتزام بالمواثيق الدولية بصورة واضحة في الاتفاق.. لقد تحدث نداء الوطن عن التعاون الدولي ودعم السلام والأمن الدوليين، وتحدثت مرجعيات الحزب الفكرية كثيرا عن هذه النقطة بإسهاب.. نشدان العدالة الدولية يكون من داخل الشرعية الدولية واعترافا بها لا بالدخول في مناطحات غير منضبطة ليكون الإصلاح الدولي نفسه عبر المنظمات والمؤسسات الدولية الموجودة لا وفق نهج سوبا "الإصلاحي" والذي يكون "مؤسسة" خارج الشرعية يجري عليها إصلاحاته!.. إصلاح على نهج التكفير والهجرة!
    الدستور: أما إذا قيس الاتفاق بقرارات الحزب المرجعية، فسنرى أن كل ما طلبه الحزب من تفصيلات في المبادئ المعممة، والتعديلات الدستورية، والقوانين، ومسألة أن الدستور مؤقت لحين عقد المؤتمر الدستوري وإجراء الانتخابات..الخ.. كلها غائبة. فالتعديلات قيل أنها ستقدم للمجلس الوطني لاعتمادها (لم تذكر ما هي ولا حتمية ذلك الاعتماد)، ومسألة أن الدستور مؤقت لم يشر لها بصورة قاطعة بل فضفاضة (إعادة النظر في الدستور وفق متطلبات اتفاقية السلام)، وتضمين المواثيق العالمية لحقوق الإنسان في الدستور لم يذكر.. كل هذا خروج عن مرجعيات الحزب في مقررات أسمرا وفي نداء الوطن.
    مسألة التأصيل: مرجعيات الحزب تشدد على أن التأصيل يكون عبر عهد وطني قائم على المواطنة بحيث لا توجد تفرقة راجعة لدين أو ثقافة أو نوع أو إثنية، والتشريع تكون مصادره: الشريعة- الأديان الإبراهيمية- الأديان المحلية. والاتفاق يقصر المصادر على الشريعة والأعراف بحذف حقوق المسيحيين في التأصيل. إن الإصرار على إبراز جانب حقوق المسلمين في اتخاذهم التشريعات الإسلامية، بدون الإصرار في الجانب الآخر على تبيان حدود تلك الحقوق مدخل للفتنة، التي خرج السودانيون منها بمواثيق عديدة. حقوق المسلمين التشريعية يجب ألا تمس حريات الآخرين ولا تنتهك حقوقهم المماثلة في التأصيل، أو حقوقهم في المواطنة. كل ذلك يجب أن يكون واضحا ومقنعا، وهو ما خلا منه الاتفاق.
    المشاركة في السلطة: كل إجراء يناقض مقاصده باطل.. وكل وسيلة تعارض غايتها ضلال.. مقاصد حزب الأمة هي: تحقيق الحل السياسي الشامل بشقيه السلام العادل والتحول الديمقراطي. فإن شارك الحزب بعد انتخابات عامة حرة فإنه يظن أن قادر على تعبئة الشعب تجاه الأجندة الوطنية وجعله يعطي بصوته في الانتخابات لبرنامجه، وهو بذلك يشارك ويشرك الشعب السوداني في الحل السياسي الشامل. وإذا شارك في حكومة قومية وفق برنامج وطني لإجراء السلام العادل والتحول الديمقراطي، يكون أيضا قد خدم أهدافه بإجراء المشاركة..
    اتفاق سوبا يخلو من الحديث عن حكومة تجري تحولا ديمقراطيا. والنص على (نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي) هو حبر على ورق، لم تحدد له آلية للتنفيذ، ولا سيناريو للتحول، وهو في ذلك مثله مثل ادعاء النظام أنه فيدرالي. النظام الحالي أشد مركزية من نظام الحكم الإقليمي السابق. والاتفاق نص على حرية الصحافة، ثم كان ما كان مع صحيفة الحرية بسبب سوبا.. المشاركة الحالية لا ترتبط ببرنامج تحولي ولكنها ترتبط ببرنامج مصلحي لموقعيه. وهي بمنافاتها لمقاصدها باطلة
    مصطلحات الاتفاق: منذ أن فتح باب النظام وحزب الأمة يحرص أن يفرق بين مصطلح "الوفاق"، و"المصالحة" وبين "الحل السياسي الشامل"، باعتبار المصطلحين الأولين جربا تاريخيا وارتبطا بالانخراط في الدكتاتورية و إخلاف العهود (على التوالي)، ولكن الحكومة كانت تطلق على الحوار "الوفاق". البرنامج الذي وقعته جماعة سوبا يخرج عن لغة حزب الأمة ويلج أدبيات النظام بقوله "يشكل الاتفاق نقطة انطلاق لتحقيق الوفاق الذي تشارك فيه كافة الأطراف".
    خلاصة: ذلك الاتفاق لم يكتمل في نصوصه (باعتراف البيان الصحفي)، ومن نقاطه ما هو (قيد النظر) أو ستقدم "للمجلس الوطني" أو خاضعة لإعادة النظر، هذا في التفاصيل. وهو لا يعبر عن حزب الأمة وخطه السياسي والفكري المعروف، مهما كانت التسميات. لقد وجد من قبل حزب أمة (مسجل) ويوجد الآن حزب أمة (مشارك).. وفي الحالين فإن خط الحزب لا يحتمل تأويلا، وهو واضح وضوح الشمس حيال الدفع تجاه الأجندة الوطنية ومواجهة الأجندة الشمولية (وألاعيبها)، والأجندة الحربية والتدويلية الخبيثة.. إن الحزب مستبشر بالتطورات الأخيرة، لقد صدقت تكهنات الصادق حول "الخريف" الذي أتى بعد أن أكل من استبطئوه التيراب.. إنه بئس المنقلب!.
    لقد ظهرت أخيرا التشكيلة الوزارية الجديدة أو على حد تعبير الأستاذ محمد لطيف "تفكيك الوزارات" حيث كتب في جريدة الرأي العام تحت عنوان "مبارك الفاضل من تفكيك الدولة إلى تفكيك الوزارات"، وسيحوي الجزء الثاني بإذن الله على المقالات النيرة التي فضحت عقلية الشراكة الجديدة من ذلك مقال الأستاذة لبنى أحمد حسين في عمودها "كلام رجال" حول "خم الرماد"، ومقال الأستاذ الحاج وراق في عموده "مسارب الضي" عن كرم انعدام الثلاجة –وكلا العمودين الأخيرين في جريدة الحرية- وقد علق على تلك الاستوزارات الشاعر الشاب أحمد عبد الله سعد قائلا:
    عاهدناك ما كايسين كراسي السلطة نبقالن من الجلاس ولا العربات مكندشة نحن ونقفلولا قــــــزاز
    ولا المسكين يفتش مالو يلقى وزيرنا في تكســـاس عاهدناك عايزين عدل كـل اساسو حاجة النــاس
    عاهدناك ما يقولولــــــك اتطرطشنا ثابتين في زمن الخطوب والمحنــــة
    13 سنة وبالشينة ما ت######نــــــــــا عاهدناك كيف بنحيد بعد ما رسخنا؟
    لقد غالط الأستاذ أحمد البلال الطيب في برنامجه الشهير "في الواجهة" أن يكون هناك انحيازا رسميا لسوبا 2002م بدليل استضافته للسيد الصادق المهدي، مع أن تلك الاستضافة قابلتها حلقة للسيد مبارك المهدي، ثم زادت عليها حلقة أخرى لمستوزري سوبا 2002م، حلقة أظهرت قامة الوزراء الجدد القادمين من أرض المعسكرات.. وتجد عضوية حزب الأمة مضطرة للشرح أن تلك المجموعة لا تمثل عينة مما يعد به الحزب جماهير الشعب السوداني من مسئولين رغم أنها آتية من صفوفه.. فما كل عضو أو قيادي بالحزب مؤهل للاستوزار.. وللحزب قياداته المؤهلة والمجربة والتي تقلدت الوزارات إبان فترات الديمقراطية، أو الشابة المؤهلة لذلك.. من أهم ما أشار له السيد مبارك في حلقة مجموعة وزراء سوبا مسألة أن رئيس الحزب رفض أن يكون "مردوفا" وقد اعتبر السيد مبارك تلك المسألة "عُقَد" من السيد الصادق وحسب. والعجيبة أن خطاب السودانيين منذ حدة سؤال الروائي العالمي الطيب صالح العفوي "من هؤلاء ومن أين أتوا؟"، وحتى تأكيد البعض أنهم منا كما حاول إثباته الدكتور عبد الله بولا في مقاله "شجرة نسب الغول"، ثم إلى انتفاء الحدة والدخول في الحوار والتفاوض مع النظام، لم تدرك الجماهير السودانية في يوم من الأيام أن عربة "الإنقاذ" هي عربة البلاد الأصلية الواجب علينا اللحاق بها بعقلية "يا بني اركب معنا" فهذه هي لغة "الإنقاذ" التي كذبتها الوطنية وستكذبها الأيام كما كذبت قبلا دعاوى نوفمبر وأراجيف مايو.. هذه "العقدة" التي أشار لها مبارك المهدي هي في الحقيقة "عقيدة" فقد أكل الياء (وأذكر بهذه المناسبة القول- عن النميري حينما قال عمر بن العاص- الذي قاله صاحب المقامة الجعفرية: أكل الواو كما فعلت الطغمة المايوية بالأموال الحكومية).. نعم هي عقيدة وطنية راسخة أننا كلنا أهل هذه البلاد وما من أحد أكثر منا فيها أصالة، ولو كانت هذه عقدة فكلنا معقدون.. وعلى حد تعبير أبو القاسم عثمان قال:
    سوداننا نحن الذين نديره لا بالوكــــالـة
    نحن الذين تناثرت أشلاؤنا نروي جباله
    نحن الذين يحدث التاريخ عنا ما البسالة
    لا لن نخون تراثنا لا لن نمكن للضلالة
    لا لن يفزغ علمنا حقد تسانده الجهالـــة
    هذي بضاعتنا بها سدنا وحفتنا الجلالة
                  

08-27-2012, 08:30 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الفصل الرابع
    المسألة التنظيمية
    قالو الخلاف قالو الشقاق قلنــــــالا لا يهدا الطريق
    محفوف مخاطر أغلبو ولســـــــــــــة قدامك غريق
    خضر عرمان
    التنظيم هو أحد نقاط ضعف حزب الأمة الثلاث إلى جانب الإعلام والتمويل. إن المكابرة في ذلك لن نجني منها شيئا، ولا هو ديدن حزبنا الذي من قدره فتح الأرض البكر والريادة، والرائد لا يكذب أهله. والفرق بين أن تكون مدركا للقصور ولأسبابه ساع لتجاوزه، وبين أن ترضى بالواقع هو فرق في النتائج المستقبلية، لا في المعطيات الحالية.
    قال رئيس الحزب في كلمته أمام الورشة التخصصية للتنظيم المنعقدة في القاهرة قبل عامين: "التنظيم وجه من وجوه التنمية والحداثة بحيث يستعصي في المجتمعات التقليدية و يسهل في المجتمعات الحديثة. لذلك ينبغي أن نعتبر تقاعسنا التنظيمي جزءا لا يتجزأ من تخلف مجتمعنا الاقتصادي و الاجتماعي. ومثلما نتطلع للتنمية في تلك المجالات نتطلع لها في مجال التنظيم ". وأرى أن التنظيم المؤسسي بالشكل الحديث هو الذي تنطبق عليه هذه الجملة. فقد وجدت وتوجد تنظيمات محكمة ولكنها تقليدية في المجتمعات التقليدية. ولقد تطرقنا في باب الرد على حجج سوبا (الفصل السادس) للمعايير المختلفة التي تتخذها كل من الكيانات الحديثة والتقليدية، وذكرنا أن التقليدية لا تعني العشوائية بالضرورة.
    وقبل الخوض في هذه المسألة فإننا نذكر أن هذه البناءات التي نتحدث عنها في حزبنا هي خبرة سودانية والسودان لا زال يضربه التخلف. ويجب بالتالي قياسها إزاء الأداء السوداني الموازي ولا يحق لأحد مقارنتها بالتنظيمات في البلدان التي "طعنت" في الحداثة. هذا لا يعني أننا نرضى بالتقصير فقد أبنا أن الوعي بالقصور هو أول الطريق نحو العمل الجاد الذي ينشد التطور.
    يبدأ الإصلاح التنظيمي بالدراسة النقدية لتجاربنا وبالاستفادة من تجارب الآخرين: "ويلزمنا ونحن نتناول الموضوع أن نقدم دراسة ناقدة لتجربتنا التنظيمية في عهد الديمقراطية الثالثة وفي عهد المقاومة للدكتاتورية الثالثة لمعرفة الإيجابيات و البناء عليها وتحديد السلبيات و تجنبها" .
    لقد شكل التنظيم مؤخرا هاجسا للحزب بصورة أساسية، وتضاعف الأدب المتطرق للمسألة التنظيمية بين القيادات والكوادر، وهذا يعكس الاهتمام كما يعكس عمق المشكلة. والمؤسف أن جماعة سوبا –وهم مشاركون في كل الترتيبات التي اتخذها الحزب في الفترة الأخيرة- حملوا عنهم فجأة ثوب المسئولية، وصاروا يشيعون الهم الداخلي للحزب بشكل تشويهي لا يعترف بمحاولات الحل الجادة والحثيثة والتي أثمرت العديد من المحطات وإن كانت دون المأمول. إن التنمية، وأقلمة الحداثة، أمور شاقة ولا تحتاج إلى عقلية المؤامرة في حلها، لأنك إن نزعت عنك ثوب المسئولية فما أسهل أن تشير للثغرات- الفتقات التي أعجزك من قبل رتقها. إن قصة التنظيم في الحزب قصة مرة، تحكي مرارة طريق التقدم في عوالمنا التي لا زالت مكبلة بالتخلف، ولكنها أيضا قصة حلوة، تحكي حلاوة الأمل.
    لقد بنى تجمع سوبا دعايته على شيئين: الأول ما سماه بشرعية التصدي وقد رددنا على هذه الفرية آنفا- والثاني: ادعاء بطلان التنظيم الحالي استنادا على روايات مغلوطة للتاريخ الحزبي. لذلك كان لا بد من إلقاء ضوء خاص على مسألة التنظيم.
    لقد مرت البناءات التنظيمية للحزب بفترات مختلفة تأثرت فيها بالواقع الوطني في مختلف ضروبه. وإن الذي يعنينا في هذا الفصل بحث المسألة التنظيمية في الفترة الأخيرة "عهد الإنقاذ"، ولكن لا بد من إلقاء نظرة على عتبات الحزب التنظيمية، ذلك أن تجمع سوبا أورد في بيانه الختامي مقارنات سطحية لأحوال الحزب في الفترات المختلفة في محاولة منه للنيل من المجهودات الحالية، علاوة على أن السيرة التنظيمية للحزب تفيدنا في تفهم مآلات البناء التنظيمي للحزب التي نعيشها الآن. وسيتم الحديث عن التنظيم في حزب الأمة عبر بابين :
    الباب الأول: التنظيم منذ نشوء الحزب وحتى 1989م.
    والباب الثاني: التنظيم منذ 1989م وحتى الآن.
    الباب الأول: التنظيم في الفترة 1945-1989م
    تم التسجيل الحزب في 18 فبراير 1945م بعد أن أكمل كتابة دستوره وانتخب سكرتيرا عاما له، وفي عام 1949 تم انتخاب أول رئيس للحزب توفى في 1961 إبان ديكتاتورية عبود حيث كان الحزب "محلولا"، عاد نشاط الحزب العلني بعد ثورة أكتوبر الظافرة وانتخب الحزب أجهزته الجديدة. وفي الفترة من 1964 وحتى 1989م مرت بالحزب فترتين ديمقراطيتين تخللتهما ديكتاتورية مايو المرة.. ولتفهم تاريخ الحزب في تلك العهود تم تقسيم الفترة المعنية إلى ست مراحل: المرحلة الأولى: فبراير 1945- 1949م- المرحلة الثانية: 1949م- 1961م- المرحلة الثالثة: 1961- 1964م- المرحلة الرابعة: 1964-1969- المرحلة الخامسة: 1969-1986- المرحلة السادسة: 1986- 1989.. وسيتضح من تفاصيل تلك المراحل أنني لم أتخذ معيارا معينا في ذلك التقسيم المرحلي، ولكني جهدت لكي تعبر كل مرحلة عن فترة متجانسة في قيادة الحزب أو خطه السياسي سواء أكان مواجهة للديكتاتورية أو لمهام البناء الوطني والذاتي.
    المرحلة الأولى: فبراير 1945- 1949م:
    وقعت معركة كرري الشهيرة في 2 سبتمبر 1898م معلنة نهاية دولة المهدية المستقلة وبداية العهد الاستعماري الثنائي الذي واجه انتفاضات مهدوية عديدة فقمعها بوحشية وعمل على تشتيت الأنصار وكسر شوكتهم. كما واجه لاحقا انتفاضة 1924 وقمعها بفظاظة. أدت تلك المواجهات ونمو الوعي القومي عالميا إُثر إصدار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ودورد ويلسون لمبادئه الأربعة عشر وإنشاء عصبة الأمم، والخلاف حول مركز السودان ومستقبله خلال المفاوضات بين الحكومتين المصرية والبريطانية، إلى إيقاد جذوة الحركة السياسية السودانية بين الخريجين السودانيين، وتطوير فكرة نادي الخريجين الذي كان يلعب أدوارا اجتماعية وثقافية وأدبية في عشرينيات القرن العشرين، نحو إنشاء مؤتمر الخريجين بأهدافه السياسية الواضحة في 1937م. قاد المؤتمر النشاط الوطني وسط الخريجين وأثمر أهم محطات الإجماع السوداني حينها بتقديم مذكرة الخريجين في 3 أبريل 1942م.
    كان الأنصار قد تم لم شملهم من جديد وبناء تنظيماتهم الاجتماعية وإشراكهم في المناشط الاقتصادية بمجهودات السيد عبد الرحمن المهدي الذي سعى للتنسيق مع قادة مؤتمر الخريجين ورعاية نضالهم الوطني نحو الاستقلال، ولكن المؤتمر وبعد انتخاباته التي جرت في نوفمبر 1944م سيطرت عليه جماعة الأشقاء التي كانت تتأهب لإصدار قرار من المؤتمر يفسر مذكرة الخريجين بأن مطلب السودانيين القومي هو الاتحاد مع مصر تحت التاج المصري. كما برز حينها اتجاه مصري رسمي قوي بتسوية مسألة السودان بعد الحرب العالمية الثانية في مؤتمر السلام أو في مفاوضات مصرية-بريطانية. كل ذلك أدى للتعجيل بإنشاء كيان يعبر عن الرأي السوداني الاستقلالي.. وهو حزب الأمة.
    نشأ حزب الأمة كتحالف بين ثلاثة عناصر هي: الأنصار، وزعماء العشائر، ونفر من الخريجين المنادين باستقلال السودان تحت شعار: السودان للسودانيين. بدأت الاجتماعات التأسيسية للحزب في ديسمبر 1944، وتمت صياغة لوائح الحزب ودستوره وبرامجه، وانتخب السيد عبد الله خليل سكرتيرا عاما للحزب، فقام برفع دستور الحزب للسكرتير الإداري في 18 فبراير 1945م طالبا التصديق عليه والذي تم باعتباره ناد لعدم وجود قانون بشأن الأحزاب حينها.. يعتبر الحزب أول حزب سوداني لأن الجماعات الأربع (الاتحاديين، جماعة الأحرار، جماعة الأشقاء، وجماعة القوميين) التي نشأت في أكتوبر 1944م لم تنشأ كأحزاب ولم تسم نفسها كذلك كما يرد في معظم كتب التاريخ المعاصر وإنما نشأت كجماعات في إطار مؤتمر الخريجين، ولذلك لم تفتح عضويتها لكل السودانيين ولم تخاطب غير الخريجين، كما لم تطلب تصديقا لتكوينها من الجهات الرسمية .
    موقف السيد عبد الرحمن المهدي من الحزب
    سأل سرور رملي السيد عبد الرحمن المهدي عن موقعه من الحزب وعما إذا كان هو رئيسه فأجاب: "إنني جندي في الصف، ولكن الله سبحانه وتعالى وهبني من الإمكانيات ما لم يتيسر لكثير منكم، وسأهب هذه الإمكانيات وسأهب صحتي وولدي وكل ما أملك لقضية السودان".
    نص دستور حزب الأمة الذي أقر في الاجتماعات التأسيسية على أن مبدأ الحزب هو "السودان للسودانيين"، وأن غرضه هو الحصول على استقلال السودان بكامل حدوده الجغرافية مع المحافظة على الصلات الودية مع مصر وبريطانيا.. إن الطبيعة الموجزة لدستور حزب الأمة يجب ألا تخفي حقيقة مهمة ربما تكون غائبة عن الكثيرين، وهي أن الحزب وصولا إلى هدفه الأسمى وهو الاستقلال قد اتخذ المطالب الاثني عشر المنصوص عليها في مذكرة مؤتمر الخريجين في 1942 برنامجا له وسعى لتنفيذها من خلال مؤسسات التطور الدستوري التي أنشأتها الإدارة البريطانية وشارك فيها وهي: المجلس الاستشاري، و مؤتمر إدارة السودان ، والمجلس التنفيذي، والجمعية التشريعية ، ولجنة تعديل الدستور .
    تنظيم الحزب في تلك المرحلة
    لقد قلنا أن الحزب كان يتكون من المثقفين والأنصار وشيوخ الإدارة الأهلية. وقد حافظ الحزب على هذه الثلاثية في طريقة عمله. فجماعة المثقفين والتي تلقت تدريبا إداريا عاليا وكانت جزءا من خدمة مدنية منضبطة أقامت تنظيما محكما. لقد كان سكرتير عام الحزب –السيد عبد الله خليل- عقلية إدارية من الطراز الأول. وقد ساهم في بناء تنظيمات الحزب في الأقاليم ومتابعتها دوريا لتتبع انضباطها التنظيمي . ولكن كان للحزب أيضا عضوية تتبع للإدارة الأهلية عبر النظار والعمد. أما الجناح الأنصاري فقد كان يتبع تنظيما محكما يمثله تنظيم "شباب الأنصار" والذي ساهم في تكوينه عدد من الرجال عالي الهمة والانضباط على رأسهم الأمير عبد الله نقد الله . لقد كان ذلك الانضباط التنظيمي محل ملاحظة الجميع، ولكنه أيضا كان جزءا من الانضباط العام في الخدمة المدنية، وفي الأحزاب السياسية التي نشأت في كنف مؤتمر الخريجين.
    كانت الاشتراكات تمثل جزءا من مالية الحزب، ولكن الملاحظ في هذه الفترة أن التمويل الرئيسي للحزب كان من دائرة المهدي، وهي مؤسسة اقتصادية أنشأها الإمام عبد الرحمن المهدي بالتعاون مع الأنصار، وهي ليست تابعة للحزب بأي حال. ومع أن وجود الدائرة لتمويل أنشطة الحزب حينها كان يعتبر محمدة حلت إشكالية التمويل للحزب، إلا أنها شكلت عقبة للحزب فيما تلا ذلك من عهود. فالدائرة ورثها ورثة الإمام عبد الرحمن- وهؤلاء تختلف آراؤهم وميولهم السياسية ودرجة التزامهم للحزب، كما أن تلك الورثة نفسها تعرضت للمصادرة وتعرضت مشاريعها للتدهور على يد النظام المايوي. هذا كما لم تتكرر الظروف التي ساهمت في إنشائها بادئ ذي بدء كما سنتعرض لذلك بالتفصيل لاحقا. ولكنها مثلت سابقة للحزب، جعلت عضويته تتطلع أن يمولها الحزب في عملها السياسي –وليس العكس- وهذا أخر التمويل الجمعي أن يدرج في الأجندة بصورة جادة.
    المرحلة الثانية: 1949م- 1961م
    في هذه المرحلة استحدث الحزب منصب "رئيس الحزب" وكان المنصب الأول حتى ذلك الوقت هو سكرتير عام الحزب. وفي فبراير عام 1949 تم انتخاب الصديق المهدي رئيسا للحزب. هذه المرحلة حدثت فيها بعض التطورات:
    أولا: حدث خلاف حول العلاقة بين الحزب والأنصار، وحول صلاحيات الإمام داخل الحزب. وقد قدر الإمام عبد الرحمن المهدي ضرورة التمييز بين الكيانين، فأصدر بيانا بتاريخ 20/9/1950م، نصه هو:
    1- حيث أن أحداثا خلقتها بين توجيهاتي لحزب الأمة ومركزي في قيادة الأنصار دعاني أن أوقف أي تدخل بين علاقة حزب الأمة في قراراته وأعماله كحزب سياسي وعلاقته بالأنصار إلا فيما يتصل بالتأييد الشعبي للمبدأ. وإن رئاسة خليفتي (يعني الإمام الصديق) للحزب كافية الآن في اتصالاته التنفيذية به.
    2- تدفع الدائرة المعونة السنوية للأعمال.
    3- تفصل ميزانية الحزب من الدائرة وتحدد أعماله السياسية منفردا عن وكالات الأنصار في المراكز الخارجية.
    4- تلغى المذكرة الأخيرة التي تخول لي حق الرفض في قرارات الحزب لأنها هي السبب لهذه الحملة الطائشة .
    ثانيا: أدركت حكومة السودان –التي يتحكم فيها البريطانيون- أن الحزب ما قبل بمؤسساتها إلا ليتحرك من داخلها نحو الحكم الذاتي. فحاولت اختراق الحزب، وأنشأت الحزب الجمهوري الاشتراكي في ديسمبر 1951م والذي استهدف عضوية حزب الأمة، وضم له الكثير من شيوخ الإدارة الأهلية الذين كانوا منضمين لعضوية الحزب، وبعض مثقفي الحزب –هذا علاوة على المثقفين الجنوبيين وشيوخ الإدارة الأهلية في الشمال والجنوب في غالبهم. كان هذا أول اختراقات الحزب الظاهرة.
    ثالثا: نشأ خلاف داخل الحزب حول طرف الائتلاف الأفضل. وقدر سكرتير عام الحزب أن يستعين على رئيس الحزب الذي يتسلح بالأغلبية الحزبية بالقيادة العسكرية، فسلمها السلطة في17 نوفمبر 1958. في هذه الفترة حلت جميع الأحزاب بما فيها حزب الأمة، وانخرط الحزب بقيادة رئيسه في معارضة النظام. وفي مارس 1959 توفي الإمام عبد الرحمن المهدي وخلفه على إمامة الأنصار ابنه الصديق المهدي –المنتخب رئيسا للحزب- ثم في نفس الشهر وإثر حركة داخلية في قيادة القوات المسلحة، تمت تصفية العلاقة مع السكرتير العام للحزب ومن معه في حزب الأمة، وأودع السجن مع غيره من قيادات العمل السياسي المعارض في السودان، واندفع النظام في حملة محمومة ضد الحزب والأنصار وقيادتهم . لقد ساهم نظام نوفمبر في خلخلة بناء الأحزاب باستعدائه لها وحجر حركتها. وكان هذا أول التجارب الديكتاتورية الوطنية في السودان.
    المرحلة الثالثة: 1961- 1964م
    في 2 أكتوبر 1961م توفي الإمام الصديق المهدي- وعاش الحزب فترة فراغ قيادي إذ لم تسمح الظروف وحالة حل الحزب بانتخاب رئيس مكانه. وقد تم اختيار الإمام الهادي –عبر مجلس الإمام الذي عينه الإمام الصديق في فراش موته- إماما للأنصار. وكانت توجهات الإمام الهادي دعوية محضة ومختصة بكيان الأنصار. ولذلك فقد تسبب موت الإمام الصديق من الناحية السياسية في نكسة في عمل الجبهة الوطنية المتحدة التي كونها الإمام الصديق وجعل مقرها بيت الأمة (مجمع بيت المهدي عليه السلام) . وصارت مسألة غياب قيادة لحزب الأمة من ضمن أسباب تخلف المعارضة عن الإقدام الذي كانت تتميز به بقيادة الصديق.
    كان قياديو الحزب يعملون بدون تنسيق. وقد قام الصادق المهدي – والذي كان شابا دون الثلاثين حينها- بمحاولة ملء الفراغ السياسي الذي عايشه الحزب –بدون أية صفة تنظيمية في حينها- فقام بالتحرك بنشاط وسط طلبة جامعة الخرطوم واتحادات الطلبة وبعض المفكرين المعارضين للحكم القائم، لقيادة عمل سياسي معارض للحكم العسكري. ثم شرع يوجه نشاطه لمجالات معارضة سياسة الحكم العسكري نحو المديريات الجنوبية فأصدر في أبريل 1964م كتيب "مسألة جنوب السودان". وحينما بدأت أحداث الجامعة في الأربعاء 21 أكتوبر اتجه لاعتبارها نقطة انطلاق لتغيير الأوضاع، ونجحت مساعيه في توحيد جميع الاتجاهات السياسية وجمعها خلف قيادة الأنصار وحزب الأمة في بيت المهدي وفي جعل بيت المهدي مركز قيادة التحول الجديد، حدث هذا رغم وجود اتجاهات عديدة بين أفراد بيت المهدي وبعض الأنصار كانت ترى التريث والابتعاد عن الثورة. فصلى الصادق المهدي على حداثة سنه على جنازة الشهيد شرارة الثورة (أحمد القرشي طه) كما قام بكتابة ميثاق الثورة الذي وقعت عليه كل القوى السياسية . مثلت هذه البلاءات إيذانا بميلاد قيادة شابة داخل الحزب.
    المرحلة الرابعة: 1964-1969
    بعد اندلاع ثورة أكتوبر المجيدة، أعيدت الحريات وتم الشروع في إعادة تكوين حزب الأمة. فاجتمع المجلس الذي كان يسمى في أواخر عهد الحكم العسكري بمجلس الإمام (وهو مكون من السادة الإمام الهادي المهدي- عبد الله المهدي- يحي المهدي- أحمد المهدي- الصادق المهدي- عبد الله نقد الله- محمد أحمد محجوب- عبد الرحمن النور- حسن داؤد- أمين التوم- محمد عبد الرحمن نقد الله- زين العابدين حسين شريف) اجتمع ذلك المجلس وقرر أن تتكون هيئة تأسيسية للحزب وتكون من الهيئة القديمة يستبعد منها أولئك الذين تعاونوا مع الحكم العسكري ويضاف إليها من يمثل الدماء الجديدة، ومن يجعل التكوين الجديد ممثلا للواقع السياسي الجديد. اختار المجلس قائمة من 180 شخصا يكونون الهيئة التأسيسية للحزب. اختلف حول رئاسة الحزب وأمانته العامة هل تكون بتعيين الإمام أم لا، وقد حسمت الهيئة التأسيسية (الجديدة) الأمر لصالح أن تكون الرئاسة والأمانة العامة والمكتب السياسي بالانتخاب، وعدلت في مسودة الدستور أمامها ليناسب ما ذهبت إليه فاحتوى الدستور على تأكيد " تقوم أجهزة الحزب من القاعدة إلى القمة على أساس انتخابي واضح ". وقامت الهيئة التأسيسية بانتخاب الصادق المهدي رئيسا للحزب، الأمير عبد الله نقد الله أيمنا عاما، كما انتخبت المكتب السياسي للحزب، وخاطبت الإمام فأقرها على ذلك، كل ذلك في نوفمبر 1964م .
    في هذه الفترة برزت مسألة "رعاية الإمام للحزب" وصلاحيات الرعاية إلى الأجندة من جديد، وبرز التناقض لاحقا بين الحزب وحكومته بعد خوض الحزب للانتخابات وحصوله على أكثرية في البرلمان. وقد تفاقمت تلك التناقضات فأدت للانشقاق في الحزب في 1966م، وهو ما تعرضنا له في الفصل الخامس من هذا الكتاب. وفي 1968م خاض الحزب الانتخابات النيابية منشقا. ثم تم توحيد الحزب مرة أخرى في فبراير 1969م.
    وكما يتضح من دستور الحزب لتلك الفترة، فقد تقلص دور دائرة المهدي في تمويل الحزب. نص الدستور على أن مصادر مالية الحزب هي: - رسم انتساب- اشتراكات سنوية.- اكتتابات وتبرعات من أعضاء الحزب والمواطنين الآخرين- إيرادات مطبوعات الحزب- أي ربح أو استثمار لأموال الحزب ومدخراته.
    المرحلة الخامسة: 1969-1986:
    في 25 مايو 1969م استولت ثلة من صغار الضباط على السلطة مع تحالف يساري وحلت جميع الأحزاب السياسية. وكان ما كان من مواجهة الأنصار ومجزرة الجزيرة أبا وحوادث الكرمك (التي استشهد فيها الإمام وبعض صحبه في طريقهم للهجرة شرقا) عام 1970م. هبط حزب الأمة من جديد لتحت سطح الأرض. وقاد المعارضة بتكوين الجبهة الوطنية لمعارضة النظام المايوي. لم يصادر النظام ممتلكات الحزب فقط بل حتى الممتلكات الشخصية ودائرة المهدي. وقام بحملة شعواء لاغتيال شخصية الأنصار وحزب الأمة- حملة وجهت سهامها على الإمام بصورة لم ترع إلا ولا ذمة، وعلى كل الشخصيات القيادية بالحزب والكيان.
    في الفترة المايوية واجه الحزب تحديات جديدة، وزادته الفترة المايوية في جوانب كما نقصت منه في أخرى، استحدث على عمل حزب الأمة الآتي:
    أولا: العمل المعارض من الخارج- وما يستتبعه من تحالفات إقليمية، وقيود على القرار الحزبي.
    ثانيا: العمل المسلح- والهجرة بالآلاف لعضوية الحزب والكيان والتدريبات العسكرية للمهاجرين في إثيوبيا وليبيا.
    ثالثا: اختفاء الانضباط والكفاءة في الخدمة المدنية وفي كل أوجه الأداء في الدولة الحديثة. هذا التدهور صحبه تدهور في التعليم بشكل مريع. وألقى بظلاله الثقيلة على الأداء السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد، بحيث صارت البلاد من وفرة إلى مديونية متراكمة، ومن انضباط خدمي إلى تسيب يضرب به المثل.. والتجربة الحزبية جنت هذه الثمار حنظلا، وتدهورا في تنظيماتها وفي نوعية كودارها، وغياب أي تدريب سياسي حقيقي. حزب الأمة لم يكن معزولا عن تلك التأثرات.
    رابعا: قاد الحزب العمل المعارض، وجنى من ذلك شعبية وصلابة. كما صدرت عن الحزب العديد من الأدبيات التي تصب في خانة المعارضة للنظام. صب كل ذلك لصالح الحزب.
    خامسا: حينما أظهر النظام استعداده للحوار عقدت الجبهة الوطنية معه المصالحة عام 1977م. كانت الجبهة مكونة من ثلاثة فصائل: حزب الأمة- الحزب الاتحادي- والأخوان المسلمون. بعد الاتفاق على المصالحة من الجبهة مجتمعة رجع الحزب الاتحادي عن الاتفاق، وبعد عودة قيادات المعارضة للسودان اتضح للحزب أن النظام المايوي لم يكن مستعدا للوفاء بعهده فاعتبر المصالحة قد فشلت وتحول لخانة المعارضة ، أما الأخوان فقد انخرطوا في النظام حتى قبيل النهاية بأسابيع قليلة. شكلت المصالحة تجربة للحزب في عدم جدوى الاتفاق مع الشموليات بدون ضمانات حقيقية.
    سادسا: حينما أعلن النظام المايوي تشريعات سبتمبر 1983م المسماة إسلامية، قاد الحزب حملة فكرية وإعلامية عريضة في الداخل والخارج لتعرية تلك القوانين وفك ارتباطها مع الإسلام، وقد واجه قادة الحزب بسبب هذا الموقف البطش والتنكيل من جديد.. هذا الموقف جرد التجربة المايوية من الاعتراف بين غالبية مسلمي السودان، وأضاف للحزب رصيدا وطنيا كبيرا.
    سابعا: عوق النظام المايوي أية محاولة للحزب وقياداته لبناء قدرات اقتصادية ومشاريع استثمارية ذات بال. وقد ساهم هذا في جزء كبير من الثغرة التمويلية للحزب في مقبل الأيام.
    ثامنا: ومن أهم التطورات التي حدثت بعد المصالحة تكوين هيئة شئون الأنصار. لقد عرضنا كيف أن الحزب كان يتحرك في الماضي تحت ظلال الكيان أو رعاية الإمام. وكيف كانت التصورات التنظيمية أولية، وأنه كان يطور عمله السياسي نحو مزيد من التمييز بينه وبين الكيان الأنصاري منذ بيان الإمام عبد الرحمن عام 1950م، ثم الخلافات حول هذه القضية في الستينيات. في العهد الجديد صار الحزب يتحرك باستقلالية عن الكيان، فقد كون السيد الصادق المهدي هيئة شئون الأنصار في عام 1979م بالتشاور مع قيادات الأنصار، وتم التنظير أن يكون كل من الحزب والكيان مؤسسة منفصلة، ترعى الهيئة المناشط الدعوية والثقافية والاجتماعية غير السياسية يحكمها الدليل الأساسي، ويتخصص الحزب في العمل السياسي يحكمه دستوره الذي أجيز في المؤتمر العام سنة1986.
    المرحلة السادسة: 1986- 1989:
    في 6 أبريل 1985 توجت انتفاضة مارس بالنصر وانفتح عهد ديمقراطي جديد. لعب الحزب دورا أساسيا مع غيره من القوى السياسية في إسقاط النظام المايوي، وكان رئيسه هو الذي صاغ ميثاق الانتفاضة الذي أجمعت حوله القوى السياسية لإسقاط النظام. خرج الحزب في هذه الفترة برصيد نضالي مشهود، وبرصيد فكري، وحلقات فكرية جرت في الفترة إثر المصالحة وأنتجت كادرا من نوع جديد، كادر جذبه الطرح الفكري وصار يبشر به، فصار موقف الحزب في الدوائر المدنية يتحرك من سيئ إلى حسن، وفي الجامعات يتحرك من سيئ إلى أفضل حالا .
    عقد الحزب مؤتمره العام في مارس 1986م وأجاز دستوره. جاء في الدستور أن المؤتمر العام للحزب يتكون من أعضاء اللجنة المركزية، المكتب السياسي، المجلس الاستشاري، الهيئة البرلمانية، والوزراء، وممثلو لجان وأمانات الأقاليم والمديريات والمناطق والمدن والأرياف والأمانة العامة. وأن المؤتمر العام ينعقد مرة كل عامين بدعوة من رئيس الحزب، أو بدعوة من ثلثي أعضاء أو ثلثي أعضاء اللجنة المركزية .
    كان من المقدر أن يجري مؤتمر الحزب العام الثاني في الديمقراطية الثالثة عام 1988م، ولكن انهمك في مهام الحكم بصورة قللت من الالتفات للبناء الحزبي لصالح إطفاء الحرائق الوطنية. وفي اجتماع المكتب السياسي للحزب بتاريخ 13/11/1988م تم بحث مسألة المؤتمر العام الذي تأخر عن موعد انعقاده، وحدد له موعدا في 26 فبراير 1989م ثم صدرت لائحة مؤقتة للعمل بها خلال الفترة الانتقالية. تم في تلك اللائحة تفصيل أكبر للمؤتمر العام للحزب وطريقة تكوينه وواجباته وهي: انتخاب رئيس الحزب انتخابا مباشرا، انتخاب الهيئة المركزية للحزب، النظر في جدول الأعمال المقدمة له . ولكن نفس الأسباب التي منعت قيام المؤتمر العام في حينه أدت لعدم تمكنه من إجراء الانتخابات في فبراير 89 كما هو مقرر. لقد أشاعت جماعة سوبا أن تأخير عقد المؤتمر كان مقصودا- بل قال قائدهم: لم يعقد المؤتمر لأنه لم تكن هناك نية لعقده فالظروف كانت مواتية.
    هذا الاتهام لا يجوز إلقاؤه على مهندس المؤسسية في الحزب. إن روح المهدية في طورها الثالث هي المؤسسية والتحديث ومأسسة الهياكل العاملة في المجالين السياسي والدعوي، ثم مأسسة برامج التأصيل والتحديث والتعايش (عبر نداء المهتدين- نداء الإيمانيين ونداء حوار الحضارات). إذ ليس بالضرورة أن تنشأ الأحزاب على المؤسسية ولا على برامج فكرية يؤسس لها باتفاقات جامعة. وكثير من الأحزاب السودانية لم تهرق كثير جهد في الحديث عن المؤسسية والكدح نحوها كما فعل حزب الأمة بقيادة الصادق. إنه كاتب ذلك السيناريو ومخرجه الوفي، ولذلك ظل يرفض تقلد المناصب بدون انتخابات ويرفض الانفراد بالرأي حتى في كتبه التي يكتبها باسمه – ناهيك عن البرامج والأدبيات الحزبية، فإنني أشهد من موقع لصيق كيف يكون لجان مراجعة للنصوص التي تخرج باسمه يتبع توصيات تلك اللجان في غالب ما يوصون به، وانطباعي أنه ما خير بين أمرين أحدهما بيده والآخر بيد الآخرين إلا اختار ما بيد الآخرين ما لم يجيء بضد مقاصده.. إنه أبعد من يكون عن التحكم والانفراد بالرأي.. ولكن السؤال هو: هل عدم وجود النية في عقد المؤتمر العام مرجعه الخوف من منافسة له على الرئاسة؟ وممن كانت تلك المنافسة؟ إن جماعة سوبا –التي أرادت الانقلاب على شرعية الحزب- لعلمها بمبلغ رئيس الحزب في النفوس خدعت بعض الناس فأكدت حضوره. ثم خططت بادئ ذي بدء (في ورقة الزهاوي) للإبقاء على منصبه- وحتى لما ظهر تمايز الصفوف وعدم المقدرة على الخداع أكثر من ذلك أكدت في بيانها الختامي ضرورة إيجاد معالجة مناسبة له!!.. إنهم يبحثون أمر المعالجة لأنه لم يكن هناك من مغالط حوله وحول دوره وحول ريادته.. فلماذا لم ينو عقد المؤتمر؟ هل يستحي من مزيد من التأييد المؤكد؟. أم كان سينافسه حينها مبارك الذي لم تأت به أي انتخابات وما ولج الهيئة البرلمانية إلا بتزكية الصادق؟! على جماعة سوبا البحث عن حيل أخرى للتشكيك في صدق نوايا الرئيس حول مسألة المؤسسية وعقد المؤتمر العام.. إن اتهام الصادق بمثل هذه الاتهامات لا تأتي إلا من فم مريض على قول المتنبي، أو بفعل هزل الدهر على قول أبي العلاء.. حقا:
    صحيح يا أبو العـلاء، لو كان دهر هازل لتصبح جاد
    ويا أبو الطيب الفمّ المريض جحّاد
    يضوق عسل النحل محمض
    والفي قلبو حبــــة غرض تكون لي روحو قُبّة مرض
    وقالوا الزاملة هــــي النية
    الباب الثاني: التنظيم منذ 1989 وحتى الآن:
    حينما قام انقلاب يونيو 1989م لم يكن الحزب قد عقد مؤتمره الثاني في الوقت المحدد كما فصلنا أعلاه. المعارك التي كان الحزب يقودها والتي انخرطت في الهم الوطني مفصلة تفصيلا في كتاب "الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة" الذي كتبه السيد الصادق المهدي من داخل سجون الإنقاذ. لقد أشار المنسلخون لتلك الحقيقة للحديث عن أن تنظيمات الحزب وقيادته كانت قد فقدت شرعيتها. وهذا غير صحيح. فلم يناقش من داخل المؤسسات أي صوت ثقة، بل قادت تنظيمات الحزب الانتقالية العمل الحزبي والوطني ومدت شرعيتها بذلك. بعد حدوث انقلاب يونيو حلت جميع الأحزاب السودانية وانتقل الحزب مع غيره للعمل تحت الأرض من جديد، والعمل من الخارج.
    كان قادة الحزب المنتخبون من الصف الأول هم: د. عمر نور الدائم، السيد نصر الدين الهادي، السيدة سارة الفاضل، د. آدم موسى مادبو والسيد بكري عديل- لم يكن السيد مبارك من بينهم ولم يكن ذلك راجعا لصغر سنه فالسيد نصر الدين أصغر منه سنا. ولم يدخل المؤسسة القيادية للحزب نتيجة لأي من الانتخابات. السيد الصادق هو المسئول عن تزكية السيد مبارك للعمل العام. وغالبية المناصب التي نالها في حياته كانت تزكية له منه. وهو الوحيد من بين مرشحي الحزب للانتخابات العامة في 1986م الذي لم تنتخبه اللجان فقد قرر الحزب في الديمقراطية الثالثة إنهاء سياسة تصدير النواب، وفرض على اللجان في الدوائر انتخاب مرشحيهم. ولكن لجنة دائرة تندلتي (الدائرة 81) شرحت أن هناك مرشحين محليين متنافسين بصورة يصعب الاختيار بينهما بدون أن يشق الحزب وأصواته هناك وطالبت اللجنة بأن يترشح عندهم نصر الدين المهدي كحل للإشكال، فرد الحزب بأن المذكور قد تم ترشيحه في دائرة الجبلين باختيار لجان المنطقة له وموافقته على ذلك، هنا طلبت اللجنة من رئيس الحزب اقتراح مرشح مركزي لهم فاقترح ترشيح مبارك الفاضل ومن هناك دخل برلمان الحكومة الديمقراطية الثالثة .
    بعد الانقلاب كان جميع القيادات من الصف الأول قد تم اعتقالهم . ثم علمت القيادات من داخل سجن كوبر أن السيد مبارك الفاضل المهدي –وقد كان من بين قيادات الصف الثاني للحزب آنذاك كما بينا- قد نجح في التسلل سرا إلى ليبيا، وقد كان حينها عضوا بالهيئة البرلمانية بتزكية الرئيس، كما زكاه الرئيس فتقلد عدة وزارات وصار عضوا بالمكتب التنفيذي، وعضو بالمكتب السياسي للحزب . تشاور الرئيس مع القيادات من داخل السجن وقرروا إرسال تفويض مكتوب له بالقيام بالعمل الخارجي والإشراف على نشاطات الحزب التي بدأت بالخارج، وأرسل له الرئيس أختامه للاتصال بالجهات الخارجية.
    دخل الحزب بعد الانقلاب في خانة المعارضة للانقلاب العسكري. ومنذ 1989م حتى الآن واجه الحزب مراحل مختلفة باختلاف الوضع السياسي السوداني. ويمكننا تقسيم تلك الفترة لفترتين: الأولى من 1989- 2000 (التنظيم الاستثنائي)، والثانية منذ 2000م وحتى الآن (التنظيم المرحلي). في المرحلة الأولى كان للحزب تنظيمان منفصلان أحدهما داخلي والآخر خارجي. وفي التنظيم المرحلي تم تكامل وتنسيق وارتباط تام بين التنظيمين.
    التنظيم الاستثنائي: 1989-2000
    التنظيم الاستثنائي بالداخل اتخذ شكلا معينا في هذه الفترة استند على العمل السري الداخلي والتنسيق مع الخارج. أما التنظيم الخارجي فقد اختلف شكله على فترتين: الأولى من89 وحتى خروج القيادة في تهتدون في ديسمبر 1996م، والثانية في الفترة ما بين 97 وحتى 2000م.
    تنظيم الداخل: كان واضحا في بداية انقلاب الإنقاذ انه اعتبر الحزب عدوه الأول، فهيأ الحزب نفسه لسوط عذاب ما برحوا يلهبون به جلود أهله..اتخذ حزب الأمة شكلا تنظيميا اضطراريا يمارس المشاركة السياسية فيه مجلس موسع من أعضاء أجهزة الحزب الدستورية. ويقوم بالعمل التنفيذي المكتب الأول وهو مكون من عشرة مكاتب تتبعهم أجهزة عاملة سرية. هذه المكاتب استطاعت أن تعبر عن موقف الشعب السوداني ومعارضته لنظام الإنقاذ وان تدعم الصمود الشعبي في المجالات المختلفة: المجال الطالبي، والعمالي، والمهني، والنسائي، والإقليمي. تصدوا لشراسة النظام وتحملوا بطشه وكسروا هيبته وأبطلوا فاعلية أساليب القمع. رفع حزبنا شعار الجهاد المدني وهو العمل ضد النظام بكل الأساليب الممكنة ما عدا العنف .
    حقق حزبنا الآتي:
    أولا: بلورة الرفض الفكري لاطروحات النظام والدعوة للبديل الديمقراطي والسلام والتركيز على سمات الدولة البوليسية القائمة على الحزب الواحد، والأيديولوجية الواحدة، والإعلام الكاذب، والأمن المتجبر، وربطها بالدولة البوليسية كما عرفت في ممارسات موسيلنى وستالين وعزلها تماما عن الإسلام.
    ثانيا: إدارة حوار مستمر مع كل الأطراف لا سيما الجنوبية لعلاج العقبات التي تقف في وجه السلام. أثمر الحوار أساسا لعلاج مسألة الدين والدولة عن طريق إقرار حقوق أساسية دستورية للمواطن في 1991. وأثمر أساسا للتعامل مع شعار تقرير المصير الذي فرضته مستجدات على الساحة السياسية السودانية في 1993. هذه الحوارات المثمرة ساهمت في إيجاد الأسس النظرية لاتفاقية السلام.
    ثالثا: تكوين ملف حقوق الإنسان الذي سجل معاناة أهل السودان ووثقها فأعطى الحملة العالمية، ومناديب الأمم المتحدة، والوفود الزائرة، وأجهزة الإعلام العالمية، مادة قوية لكشف أساليب النظام وإدانته.
    رابعا: تزويد البعثات الدبلوماسية الموجودة في السودان بموقف الرأي الآخر وكشف أساليب النظام الماكرة لاستهبالهم وتضليلهم وتضليل حكوماتهم.
    خامسا: إدارة حوار مع النظام كانت المبادرة فيه دائما من عناصر داخل النظام أو من الوسطاء. تمت الحوارات هذه عشر مرات: 1989، 1991، 1993 (مرتان)‘ 1994 (مرتان)، 1995 (مرتان)، 1996 (مرتان). كان لهذه الحوارات عائد إيجابي: أعطتنا نافذة لداخل نظام تآمري مغلق، أكسبتنا الرأي العام المحايد لأنها كشفت تحزب النظام وتعصبه، وأرضت ضمائرنا في إعطاء الحل الأسهل والودي الفرصة الكاملة.
    سادسا: التمدد التعبوي والتنظيمي في الشارع السياسي في العاصمة والأقاليم. وفى ميادين القوى الحديثة والتقليدية بحيث صار حزب الأمة الرقم الشعبي الأول في القطاعين الحديث والتلقيدي.
    سابعا: الالتزام بالتجمع الوطني الديمقراطي. وإقامة علاقات قوية مع عناصره ثنائيا وجماعيا، مما حقق تعاونا بلغ قمته في المذكرة الشهيرة في يونيو 1996.
    لقد استطعنا عبر الجهاد المدني تدعيم موقف الرأي الآخر رغم انف النظام لا تفضلا منه كما يدعى وبلغ زخم الرأي الآخر درجة انقسم معها النظام على نفسه فأغلبية الحرس القديم في الجبهة الإسلامية القومية، وأغلبية الأقلام المفكرة وعدد كبير من كوادر الشباب القيادية وقاعدة عريضة من المنتسبين للنظام صاروا يرددون نقدا مقتبسا من اطروحات المعارضة .
    سمات التنظيم الداخلي في تلك الفترة: كان التنظيم يعمل بسرية كما ذكرنا. وأهم سمات التنظيم كان التجانس بين الأعضاء القائمين بالعمل، ولم تحدث انقسامات تذكر، اللهم إلا من انخرط في النظام أو ضاق بالتصدي له فابتعد. لقد نجح الحزب في توحيد عضويته حول خطه السياسي، وفي التعبير عن الرأي العام السوداني مما زاد شعبيته. وصار رقما متصاعدا في الجامعات والمعاهد العليا.
    تنظيم الخارج:
    التنظيم الاستثنائي بالخارج (1989- 1996م):
    قام بالخارج عمل معارض تصدى له العديدون من قيادات وكوادر الحزب. وحينما خرج مبارك المهدي التحق بذلك العمل ونال تفويض الداخل كما ذكرنا. وقد كان الدور الأكبر في تمويل مكتب الحزب الذي افتتح في القاهرة في شارع الألفي للحبيب المرحوم الفاتح سلمان. كما شارك المرحوم الفاتح في إصدار أول مجلة مستقلة تعبر عن آراء الحزب "مجلة الوحدة" بإدارة الكاتب المصري المعروف الأستاذ مصطفى بكري وتحرير الأستاذ حسن أحمد الحسن. لم يكن إيلاء مسئولية ذلك العمل للسيد مبارك المهدي بلا معارضة. فقد قامت معارضة شرسة ضد آلية التفويض نفسها وضد أحقية السيد مبارك قادها بادئ الرأي شقيقه السيد الفاضل عبد الله والسيدة آمال عكاشة والدكتور سليمان الدبيللو –وهو أول من وقع على وثيقة للتجمع بالخارج- وقد نادوا بأحقية السيد نصر الدين المهدي باعتباره عضو بالأمانة العامة المنتخبة. ولكن كوادر الحزب المتصدية للعمل تحرت من الداخل وتأكدت من تفويض مبارك للمسئولية –أكد لي السيد محمد عبد الباقي أنه لولا مكالمته مع السيدة سارة الفاضل وتأكده من صحة التفويض لما التزم شخصيا خط السيد مبارك ودافع عنه وكذلك غالبية الكوادر بالخارج- وقد وقف الملتزمون بالمؤسسية بالخارج مع توجيه المؤسسة بالداخل. وقد أكد السيد مبارك على ذلك في خطاب له لرئيس الحزب قال فيه بالحرف: "لولا دعمك الشفوي والكتابي لي لكنت تركت العمل" .. ساهم السيد مبارك المهدي في بناء عمل يقوم على الاتصالات الدبلوماسية بدول الإقليم والدول العالمية المهتمة بالشأن السوداني، وبالتحالف مع القوى السياسية المعارضة، والعمل الإعلامي والاتصال. لاحقا في 1992م التحق الدكتور عمر نور الدائم بمعارضة الخارج، وكون الأمانة العامة للحزب بالخارج. .
    الاتصالات الدبلوماسية:
    في بداية عام 1990 أثمرت اتصالات الحزب بالحكومة المصرية السماح للحزب بممارسة العمل العلني وفتح داره بالقاهرة، وفي 15 مارس 1990 أمكن أن ينظم نشاطا مع الحركة الشعبية هناك . لاحقا وفي نوفمبر 1994 عقد حزب الأمة اتفاقا مع الحكومة الإرترية وفي ديسمبر 1994م تفاهم معها في كيفية إشراك القوى السياسية كلها في اتفاق شقدوم بين الحزب والحركة.. لقد أثمرت مجهودات الحزب الدبلوماسية وتحركاته –من الداخل والخارج- بناء علاقات وطيدة بدول الإقليم والعالم. وقد عضد مجهودات الحزب في تلك الفترة الأعمال التي انهمكت فيها الإنقاذ في بداية أمرها –أمثال المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي العالمي- والتي أفلحت في تطويق العزلة على النظام.
    العمل الجماعي مع بقية الفصائل:
    لقد أعد السيد مبارك المهدي –مسئول العمل الخارجي للحزب حينها- ورقة عن دور الحزب في التجمع، جاء فيها:
    أولا: بادر حزب الأمة و قام بالدور الأساسي في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي في الخارج إذ تلقف ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي من الداخل و قام بنشره كاملا في صحيفة الشرق الأوسط و رفع راية المعارضة باسم التجمع الوطني الديمقراطي منذ أكتوبر 1989 في وقت لم تكن بقية القوى السياسية قد استجمعت أنفاسها أو كونت لها كيانات أو سمت ممثلين في الخارج.
    ثانيا: بدأ الحزب مفاوضاته مع الحركة الشعبية لتحرير السودان للانضمام للمعارضة في أول سبتمبر 1989 عندما تقاعست بقية القوى السياسية عن الالتحاق بالحوار مع الحركة الشعبية في 29 يناير 1990 نص على دخول الحركة للتجمع الوطني الديمقراطي بعد تعديل ميثاقه.
    ثالثا: في 15 مارس 1990 نظم حزب الأمة اجتماعا في القاهرة بين الحركة الشعبية وبعض المعارضين شاركت فيه بعض القيادات الاتحادية و الشيوعية تم هذا بعد أن عقد الحزب اتفاقا مع القيادة المصرية للسماح للحزب بفتح داره في القاهرة و ممارسة نشاطه السياسي بصورة علنية و تحت هذا الغطاء تم تشكيل أول هيئة رسمية للتجمع في القاهرة.
    خامسا: في يونيو 1990 قام حزب الأمة بالاتصال بقيادة الجيش السوداني في الفترة الديمقراطية لاتخاذ موقف في مواجهة استغلال الجبهة للجيش السوداني والعمل من خلال التجمع الوطني الديمقراطي ورتب الحزب الإعلان الرسمي للقيادة الشرعية في أديس أبابا في سبتمبر 1990 و تولى الأخ المرحوم الفريق أول فتحي احمد علي تمثيل الذراع العسكري في التجمع الوطني الديمقراطي إلى جانب زملائه إلى أن توفاه الله في أبريل 1997.
    سادسا: تفجرت الخلافات في الحركة الشعبية لتحرير السودان. وفي يناير 1992 وقع الدكتور على الحاج اتفاقا على منح حق تقرير المصير في فرانكفورت مع الدكتور لام أكول ممثل الجناح المنشق في الحركة الشعبية وتسارعت الأحداث في جبهة القوى الجنوبية. أخذت قضية تقرير المصير بعدا دوليا في مؤتمر واشنطن في عام 1993 . خلق هذا الوضع استقطابا حادا في وسط القوى الجنوبية مما حدا بالتيار الرئيسي في الحركة الشعبية بقيادة الدكتور جون قرنق بالدعوة لمؤتمر يعقد في هراري لكافة القوى السياسية السودانية للاتفاق على السلام ومستقبل الحكم في السودان ليتسنى للحركة الشعبية مواجهة الاستقطاب الحاد الذي تقوم به حكومة الجبهة الإسلامية في صفوف القوى الجنوبية والاستمرار في التحالف المعارض لحكومة الإنقاذ. ولكن رفض الحزب الاتحادي الديمقراطي و الحزب الشيوعي الدعوة و أصرا على تأجيل الاتفاق على قضايا المستقبل إلى ما بعد سقوط النظام على أن يقوم التحالف في التجمع على برنامج إسقاط النظام فقط.. عندها جمد حزب الأمة عضويته في لجنة التنسيق العليا للتجمع احتجاجا على رفض الاتفاق على قضايا المستقبل وعلى السلام مع الجنوبيين مما يهدد وحدة المعارضة ويضعفها أمام استقطاب الإنقاذ للحركات الجنوبية . هذا بعد أن بذل جهودا مضنية في محاولة إقناعهم دون جدوى.
    سابعا: في أبريل 1993 عقد حزب الأمة اتفاق جنتلمان مع الدكتور جون قرنق في نيروبي رعاه الأخ بونا ملوال حول علاقة الدين بالدولة في سودان المستقبل ثم دعا بقية القوى السياسية لاجتماع في نيروبي مع الحركة الشعبية تم فيه وضع اتفاق مكتوب ينظم علاقة الدين بالدولة في سودان المستقبل و يعتبر المواطنة هي الأساس للحقوق و الواجبات الدستورية في السودان و سمي الاتفاق بإعلان نيروبي.
    ثامنا: في نهاية عام 1993 مطلع 1994 بدأ حزب الأمة مفاوضات غير مباشرة مع الحركة الشعبية بواسطة الأخ بونا ملوال للتوصل إلى اتفاق سلام واتفاق حول برنامج الشكل الدستوري لحكم السودان في المستقبل وفي يوليو 1994 بدأت المفاوضات المباشرة حول مسودة الاتفاق و تواصلت في سبتمبر 1994 بنيروبي ثم ديسمبر 1994 بشقدوم بجنوب السودان حيث وقع اتفاق شقدوم التاريخي الذي اصبح أساسا اتفاق اسمرا الأولى و مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرا الثانية 1995م.
    تاسعا: في نوفمبر 1994 عقد حزب الأمة اتفاقا مع دولة إرتريا و في ديسمبر 1994 تفاهم مع القيادة الإرترية على كيفية إدخال القوى السياسية الشمالية لاتفاقية شقدوم.. وقد تم ذلك بالفعل في 27 ديسمبر 1994 باسمرا حيث وقع الاتحادي الديمقراطي على اتفاقية شقدوم تحت مسمى اتفاق اسمرا.
    عاشرا: في يناير 1995 وقع الحزب الشيوعي و القيادة الشرعية منفردين على اتفاقات مع حزب الأمة تتضمن نفس نصوص اتفاقية شقدوم.
    حادي عشر: في يونيو 1995 انعقد مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية و توصل إلى اتفاقاته المشهورة وقد كانت اتفاقية شقدوم وملحقاتها الدستورية أساسا للاتفاق.
    ثاني عشر: خرج التجمع من اسمرا بهيكل يواجه به المرحلة الجديدة تمت فيه مراعاة التوازنات في تمثيل القوى السياسية و منح زعيم الاتحادي منصبا فخريا وتولى حزب الأمة المنصب التنفيذي الأول.
    ثالث عشر: في مطلع عام 1996 تم تأسيس العمل العسكري بعد توسيعه ليشمل كل الفصائل وفي نهاية عام 1996 دفع حزب الأمة بتشكيل القيادة العسكرية المشتركة للتجمع وإسناد قيادتها للدكتور جون قرنق. و تحت إصرار حزب الأمة وقعت قيادات القوى السياسية وثيقة العمل العسكري المشترك إيذانا ببدء العمل العسكري في الجبهة الشرقية هذا بعد تراجع قيادات الحزب الاتحادي الديمقراطي و الحزب الشيوعي عن رفضهم لبدء العمليات العسكرية في شرق السودان حيث اعتبرت قيادة الاتحادي أن إنشاء المعسكرات وتدريب القوات يتم لخلق جيش بعد إسقاط النظام و اعتبر التجاني الطيب أن التحرك العسكري من الشرق يعتبر غزوا مرفوضا.
    المحرك الفكري لذلك العمل:
    لا شك أن تلك المجهودات الحثيثة التي قامت بها قيادة العمل بالخارج شكلت فتحا في العمل الجماعي السوداني وتوجته بالاتفاق على القضايا المصيرية. ولكن مجهودات الحزب بالخارج لا يمكن النظر لها بمعزل عن مدد الداخل فقد شكل الذراع الخارجي للحزب (الآلة أو الجسم) وشكل المدد الداخلي القوة المحركة أو العقل. إن تلك الاتفاقات والتحالفات الثنائية والتي أفضت للاتفاق القومي حول القضايا المصيرية كانت تبنى على أوراق ودراسات تناقشها القيادة في الداخل وترسلها للذراع الخارجي ليجعلها لحمة وسداة مفاوضاته مع الآخرين، وعلى سبيل المثال:
    إعلان نيروبي: في عقب مفاوضات أبوجا بين النظام والحركة الشعبية في عام 1992، أصدر الحزب بالداخل مذكرة "مشروع سلام عادل في السودان". احتوت تلك المذكرة على إطار ذلك الحل، من ضمن ذلك الاعتراف بالتعدد الديني والعرقي والثقافي والتشريع الديمقراطي، وضرورة أن يقوم نظام حكم يراعي حقوق الإنسان وحريات الأساسية ويتضمن في الدستور، ويراعي المواثيق الدولية . لقد كانت تلك الأفكار أساس ما دعا له الحزب وساهم في الاتفاق عليه في نيروبي، ففي 17 أبريل 1993م وقع التجمع الوطني الديمقراطي مع الحركة الشعبية والجيش الشعبي إعلان نيروبي وخلاصته أن تكون مواثيق حقوق الإنسان العالمية التي وقع عليها السودان جزءا لا يتجزأ من دستور السودان وقوانينه مستقبلا . هذا معناه أن يحظى كل مواطني السودان بحماية حقوقهم الإنسانية والدينية والسياسية .
    مسألة تقرير المصير: كانت قيادة الحزب بالداخل على اتصال مستمر وحوار مع القوى السياسية الجنوبية وفي عام 1992م تم وضع مشروع نحو سلام عادل في السودان المشار له أعلاه. وفي أوائل عام 1993م اجتمع رئيس وقيادات الحزب بالداخل مع قادة الحركة السياسية الجنوبية بالداخل في منزل السيد هلري لوقالي. وطرحوا عليهم مشروع السلام العادل. كان عدد الحاضرين 15 شخصا من قادة اتحاد الأحزاب الأفريقية السودانية USAP تناولوا التعليق على المشروع واحدا واحدا. كان خلاصة ما قالوا بالإجماع: "لقد جربنا الاتحاد مع الشمال فما حصدنا إلا الخراب. وها نحن اليوم هدف لحرب مقدسة تستعدي علينا مسلمي السودان بل مسلمي العالم. الحل في الانفصال عن طريق تقرير المصير". منذ ذلك الاجتماع بدأت القيادة الحزبية بالداخل التفكير بجدية في تقرير المصير للجنوب بعد أن وجدوا أن أصدق أصدقائهم في الجنوب قد نفرتهم الجبهة الإسلامية القومية من أية علاقة بالشمال. وأنه لا أمل لترميم العلاقة بين الشمال والجنوب إلا عن طريق قبول فكرة تقرير المصير والسعي لخلق ظروف تساهم في ترجيح كفة الوحدة لدى تقرير المصير. ثم أرسل د. عمر نور الدائم من الخارج رسالة للقيادة بالداخل يشرح كيف أن جهات أمريكية في مجلس النواب الأمريكي وفي وزارة الخارجية قد انحازت لفكرة تقرير المصير للجنوب على أساس أنها المخرج الوحيد للجنوب من محرقة الجهاد. أوضح دكتور عمر الآتي: في أكتوبر 1993م دعا رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي كل الطيف السياسي الجنوبي السوداني إلى ندوة في واشنطن حضرها الساسة وحملة السلاح من الجنوبيين وشخصيات مستقلة وجرت مناظرة حول القضية السودانية. كان مناخ الندوة مفعما بالمرارة الشديدة وصار واضحا أن الجنوبيين من ساسة، وقادة عسكريين، وأكاديميين فقدوا الثقة تماما في الشمال وعبروا عن ذلك بوضوح في خطبهم. وفي آخر المطاف اجتمع السيد جونستون رئيس لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي بالقادة السياسيين والعسكريين الجنوبيين في وزارة الخارجية الأمريكية وأصدروا بيانا وقع عليه د. جون قرنق ود. رياك مشار والسيد جونستون نفسه جاء فيه: حل القضية في أن يقرر الجنوب مصيره . صاغت القيادة بالداخل ورقة بعنوان "مسألة تقرير المصير" وتمت مناقشتها بالداخل ثم إجازتها، وهي التي أرسلت للخارج. وفي 10 نوفمبر 1993م قدم حزب الأمة تلك المذكرة لكل القوي السياسية وخلاصتها:
    ‌أ- إيقاف الحرب الأهلية الدائرة الآن فورا وإن كان المقابل المطلوب لذلك هو تقرير المصير يقبل مبدأ تقرير المصير .
    ‌ب- يمارس ذلك الحق في إطار جنوب السودان في ظل نظام شرعي في السودان .
    ‌ج- يتم تقرير المصير بعد فترة انتقال محددة.
    ‌د- يسبق تقرير المصير عقد مؤتمر دستوري يحدد النقاط المستفتي عليها ويحدد صورة السودان الموحد العادل مما يعطي الوحدة فرصة أخري .
    هذا الموقف تناولته القوي السياسية السودانية المختلفة بالبحث والتعليق وجري حوله تفاهم مبدئي بين حزب الأمة والقوي السياسية الجنوبية في داخل البلاد في 17/3/1994م. وفي خارجها فكانت هي أساس اتصالات الحزب بالقوى الجنوبية لاحقا، وحركته الدائبة لإقناع بقية القوى السياسية بقبول فكرة تقرير المصير . وعلى هذا انبنى اتفاق شقدوم بين حزب الأمة وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان في 12 ديسمبر 1994م والذي وقعه عن الحزب الدكتور عمر نور الدائم والسيد مبارك المهدي، وعن الحركة القائد سلفا كير ماديت والقائد جيمس واني ايقا . أرسل هذا الاتفاق –أي اتفاق شقدوم- كمرفق مع مذكرة بعنوان "الخطوة الأخيرة لمشوار السلام في السودان" والتي أرسلتها القيادة بالداخل (أنظر الهامش قبل الأخير) جاء في تلك المذكرة: في 12 ديسمبر 1994م وقع ممثلو حزب الأمة وممثلو الحركة الشعبية والجيش الشعبي في شقدوم بالاستوائية الاتفاق المرفق - إننا نفوض هذا الاتفاق لكل القوي السياسية السودانية لتوحيد الرأي حوله كأساس للسلام العادل في السودان. أساس نرجو أن يحظى بتأييد منظمة الوحدة الأفريقية، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومجلس الكنائس العالمي، والشعوب المجاورة لبلادنا ليصبح قاعدة قوية للسلام العادل . أدى ذلك إلى الاتفاقات مع الفصائل المختلفة التي سبق تفصيلها أعلاه.
    مقررات اسمرا للقضايا المصيرية: شرحنا كيف استطاعت القيادة في الخارج أن تتفق على تقرير المصير مع الحركة الشعبية، وكيف خاطبت بقية الفصائل واتفقت معها، وبقي رعاية الاتفاق الجماعي، فأقدمت على الاتفاق مع الحكومة الإرترية للعمل على جمع القوى السياسية السودانية على برنامج المستقبل ، وتبني المنبر الذي يقوم بذلك (وقد ذكرنا ذلك آنفا). بعد ذلك اتصل الأخوة بالخارج بالقيادة في الداخل لبحث محتوى خطاب الحزب في المنبر الجامع. أرسلت القيادة لهم بعد إجراء المشاورات اللازمة مذكرة "البيان الديمقراطي السوداني" بتاريخ 15 أبريل 1995م. كانت تلك المذكرة هي أساس اجندة الحزب التفاوضية التي استعانت بها لجنة الحزب في صياغة قرارات مؤتمر القضايا المصيرية المنعقد في يونيو 1995م، بل شكلت أهم الأفكار المتداولة فيه، وقد ظل حزب الأمة يعتبر بسببها أن قرارات اسمرا هي بنسبة 80% من صياغته وأفكاره.. تلكم الأفكار نقلتها قيادة الخارج عن قيادتها في الداخل ودافعت عنها بإخلاص!.
    يتضح مما سبق أن إنجازات الخارج كانت تنفيذية ومربوطة بالتنسيق مع المحرك الفكري للحزب في الداخل، مع وجود مساحة كبيرة للخارج في الحركة والمبادأة وعقد الاتفاقات وطرق الأبواب مستهدين بذلك المعين الفكري الثر. وعلى لسان السيد مبارك المهدي نفسه: " لقد كان لمواقف السيد الصادق المهدى الشجاعة في الداخل اكبر الأثر على نجاح هذه الجهود، كما كانت مساهماته وزملائه في الداخل الفكرية والسياسية الدور الأكبر في تسهيل مهمتنا، كما كان للتفهم الذي أبدته القيادة وعلى رأسها السيد الصادق المهدى في الداخل والمساحة الكبيرة التي وفرتها لنا في الحركة والمبادأة أثرا كبيرا في تحقيق هذه النجاحات الكبيرة التي حققناها. ".
    العمل التنفيذي المكتبي
    لقد ذكرنا دور بعض القيادات أمثال المرحوم الفاتح سلمان وحسن أحمد الحسن في تأسيس العمل بالخارج مع السيد مبارك، وقد شارك في هذا العمل العديدون مثل الدكتور صديق بولاد الذي كان يعمل بليبيا. وفي لندن شارك معه احمد عقيل والصادق فضيل حيث تم فتح مكتب الحزب في لندن، التحق بهم لاحقا الأستاذ الحارث إدريس. ثم تم الاتفاق مع الحركة في مارس 1990 بأثيوبيا وتم فتح مكتب للحزب حيث انضم إليهم الأستاذ نجيب الخير وبدأ العمل في إذاعة صوت السودان. كان هنالك العديد من الكوادر الذين عملوا في مكتب القاهرة الذي مر الحديث عنه. وأنشئ مكتب في كل من يوغندا وواشنطن وليبيا. كذلك تم تكوين عدة مكاتب في الخليج لمتابعة العلاقة مع الدولة المضيفة وشئون المغتربين خصوصا إبان حرب الخليج حيث قامت السفارات السودانية بمحاربة المعارضين محاربة شديدة. أما الربط مع الداخل فتولى هذه المهمة الأخ محمد عبد الباقي من أبي ظبي. بعد سقوط نظام منقتسو نقل العمل من أديس إلى نيروبي وتم نقل الكوادر إلى القاهرة ما عدا نجيب الخير وبشير احمد سلمان. كانت تلك المكاتب هي مصادر العمل المعلوماتي .
    وفي أكتوبر 1993م كون تنظيم الخارج مكاتب تقوم بتدوير تلك المعلومات وطباعة البيانات والتقارير وتوزيعها عبر الفاكس. ارتكز ذلك العمل على ثلاثة محاور أساسية هي:
    1- المحور الرئيسي في القاهرة ويعمل عليه عبد الله الصادق.
    2- محور واشنطن ويقوم عليه أسامة نقد الله ويختص بنقل أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتقارير متابعة لسياسة الإدارة الأمريكية بمختلف فروعها، ورصد للصحف والدوريات والنشرات الرسمية الأمريكية. زائدا المعلومات الأمنية الاستخبارية عن زيارات مسئولي النظام، وغيرها من المادة المتعلقة بالسودان.
    3- محور أديس أبابا، وكان يقوم عليه نجيب الخير وصديق بولاد. كان المكتب مسئولا من إذاعة التجمع قبل سقوط نظام منقستو. ومن ثم انتقل إلى نيروبي للتنسيق مع الحركة الشعبية وتغطية أخبار المعارك. أغلق المكتب بعد مؤتمر نيروبي في أبريل 94.
    أضيف لتلك المحاور محور رابع هو تقارير عن نشاطات اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التي يرسلها نزار عبد القادر صالح من جنيف .
    كانت تلك المكاتب تقوم بكتابة تقارير دورية عن الأوضاع الراهنة والتطورات المهمة من حيث العلاقات الدولية والتحالفات السياسية والأحداث الهامة في السودان وإقليميا ودوليا، تعرض تلك التقارير على قيادة الحزب بالخارج والتي كانت في تنقل مستمر. كانت كل التقارير تصب في مكتب واحد ثم يعاد توجيهها إلى الجهة المطلوبة. أما الاتصال بالداخل فقد كان يتم عبر قناة وحيدة كما أشرنا -الأخ محمد عبد الباقي - الذي كان يتسلم المواد ويرسلها للداخل عبر بؤر يتعامل معها ملتزما السرية لمقتضيات العمل الداخلي والظروف الأمنية المتشددة. وعندما تحول عبد الله الصادق إلى لندن في 1995م – وكان يعمل كمدير لمكتب السيد مبارك المهدي- صار المكتب الرئيسي في لندن، وكانت مهمته هي متابعة كل التقارير وتوجيهها للمصب المطلوب، بما في ذلك تبادل التقارير بين المكاتب المختلفة. وفي أواخر عام 1995م اقتحم مكتب لندن عالم الانترنيت حيث لم يكن أي من المكاتب يستخدم هذه التقنية وكان الفاكس هو الوسيلة لتبادل المعلومات، وثم توالت المكاتب في إدخال الإنترنت. وبادر بعض الأفراد أيضا باستخدام البريد الإلكتروني والتواصل مع مكتب لندن . وفي عام 1996م قام مدير مكتب لندن –عبد الله الصادق- بإنشاء صفحة حزب الأمة على الإنترنت، وكانت تلك الحادثة فتحا معلوماتيا للحزب، وشكلت أول صفحة حزبية على الإنترنت لحزب سوداني، مع أن الكثير من هذه الأحزاب تنعت حزب الأمة بالتقليدية والرجعية!.
    الوضع التنظيمي للحزب بالخارج:
    عقد الحزب في الخارج "مؤتمرين" محدودين الأول في أبريل 1992م في فندق بولمان بالقاهرة، والثاني في أبريل 1994م بالقاهرة أيضا. أهم الملاحظات على الأداء الحزبي الجماعي بالخارج أنه كان مبنيا على العمل التنفيذي والمكتبي. العمل الدبلوماسي والجماعي مع بقية الفصائل (في التجمع) يشغل بطبيعته أفرادا محدودين في القيادة. أما الأجسام الشورية والديمقراطية لتحديد السياسات ومراجعة الأداء وإشراك العضوية وما إلى ذلك فقد كان شبه غائب عن خطة العمل الخارجي. ولذلك فقد انحصر النشاط في قلة قليلة أدارت العمل بكفاءة تنفيذية. ولذلك فقد اتسم العمل بالخارج بالتشرذم بين عضوية الحزب المتزايدة بالهجرة، وبروز تيارات مناوئة للخط الذي يحمل التفويض، وتراكم المرارات بين قيادات الخارج والشكوى من التهميش ومن التحكم. تلك المرارات تطلبت لاحقا من رئيس الحزب –بعد تهتدون- الجلوس لساعات أمام القيادات التي همشت، والذين أقصاهم السيد مبارك المهدي لاختلافات الآراء.
    بدت هذه الحالة من الانقسام مثلا في خطاب رئيس الحزب لمؤتمر الحزب في أبريل 1997 قال: "الحقيقة التي لا شك فيها هي أن الاتصال بيننا وبين الاخوة في الخارج كان وثيقا ومستمرا. لقد وجدت طائفة من المشاكل والخلافات وعالجت منها ما عالجت عبر جلسات طويلة مضنية وبدأ لي أن المطلوب الآن هو اخذ علم بحقائق الموقف من كافة جوانبه ومناقشة ما يتفرع من ذلك إن لزم، على أن تكون خريطة أوضاعنا التنظيمية كالآتي:
    (1) حزب الأمة: إن أوضاع حزب الأمة التنظيمية لا يمكن علاجها علاجا نهائيا إلا في ظل الحريات وأمام المؤتمر العام الثاني للحزب. ولكن ينبغي الآن أن يكون لنا شكل للمشاركة يتكامل مع الداخل ويتكون من أعضاء أجهزة الحزب الدستورية زائدا ما يرون إضافته من عناصر لبلائها. ويسمى هذا المجلس "المجلس الموسع" ويكون للتداول والتشاور بشأن القرارات الكبيرة مع الداخل.
    تقوم أمانات تنفيذية هي: أمانة الفكر، الإعلام، المكتب الخاص، المال، العلاقات الدبلوماسية، التنسيق مع الداخل، المشاركة في التجمع الديمقراطي، المغتربون، المرأة، الفئات (طلاب، مهنيون، أطباء مهندسون، أساتذة ... الخ).هذه الأمانات يتولاها عدد من الأمناء المتفرغين لا يقل عددهم عن خمسة ولا يزيد عن سبعة ويتكون منهم المكتب الأول.
    (2) تنظيم المغتربين ويتكون من فروع منتخبة في كافة أماكن تجمعات المغتربين بموجب لائحة تنظم وحداته القاعدية وتكون مهامه هي:
    ‌أ) عمل سجل شامل للمغتربين الملتزمين واستخراج بطاقات لهم.
    ‌ب) معرفة مشاكل المغتربين والعمل على حلها.
    ‌ج) جمع تبرعات دورية من الأعضاء.
    ‌د) تمثيل قاعدة الحزب في نوادي الجاليات السودانية.
    ‌ه) المساهمة في العمل الفكري والسياسي والتعبوي للحزب عبر مكتب أمانة المغتربين."
    لم يكن ذلك الكلام للنيل من السيد مبارك المهدي فلم ينكر أحد أن العمل التنفيذي كان يدار بكفاءة، ولكننا لسنا "شركة الأمة المحدودة"، بل نحن حزب سياسي ديمقراطي، لذلك لا بد من البناء الديمقراطي، ومشاركة الكافة، والشورى، ولا بد من تحمل النقد بل مأسسة قنواته الحزبية. وللتدليل على أن تنظيمات الخارج كانت تعاني من الانقسامات أسوق إحدى الملاحظات التي قدمتها اللجنة المكلفة ببحث أمر التنظيم في يناير 2000 والتي كونت نواة الأدب التنظيمي العريض الذي تلى، وهي أن "مظاهر تماسك الحزب في الداخل أكثر مما في الخارج."
    ثم هناك الانقسامات المستمرة والتشرذم والابتعاد بين عضوية الحزب –ليس بسبب الضيق بالتصدي للديكتاتورية كما كانت الأسباب بالداخل- بل بسبب الاعتراض على طريقة "شركة الأمة المحدودة" في إدارة العمل الحزبي. ومن ذلك قصيدة الشاعر عبد الله محمد زين في ذم الطريقة التي كان يدار بها الحزب بالخارج، قال:
    حزب الأمة حكايتو حكاية
    في قاردفيل أحمد عقيل
    وفي شارع الألفي مامون شرفي!
    صحيح أن الكثير من تلك التحركات ضاقت بالإصلاح من الداخل فخرجت عن خط الحزب، وبعضها ارتمى في أحضان خارجية فكان بمثابة اختراق للحزب، ولكن كثير من التشرذم كان بسبب قصور ديمقراطي ومؤسسي في الإدارة الخارجية. لقد كان السيد مبارك يأخذ بالشبهات ولا يطيق الرأي الآخر. والغريبة أن شعار "الإصلاح" الذي يحاول السيد مبارك المهدي الآن محاربة الحزب باسمه، هو الشعار الذي رفعه ضده بعض تلك الجماعات "جماعة الإصلاح والمؤسسية" والتي انخرطت في عضويتها بعض قيادات الحزب الكبيرة، وإن رجع البعض عن خطها بعد هجرة الرئيس والسماع لهم من جديد. قاد ذلك التيار الدكتور محمد إبراهيم خليل– رئيس الجمعية التأسيسية في الديمقراطية الثالثة- وخاطب رئيس الحزب معلما إياه بأنهم أقاموا تنظيما ديمقراطيا بالخارج عقد مؤتمره التداولي في يوليو 1994م، وخرج بتوصياته. قال السيد محمد إبراهيم خليل لرئيس الحزب في ذلك الخطاب: "ولقد كان يتخذ دور الحزب في المعارضة شكلا أكثر رشدا وأكثر فعالية لو أن تمثيله كان قد تم على أساس من الشورى والديمقراطية، ولكن الذين تصدوا لتمثيل الحزب في التجمع أصروا على الانفراد بالرأي وعدم الرجوع إلى القواعد، بالرغم من المحاولات المتكررة لإقناعهم بأن الحزب يتمتع بكوادر مثقفة ومخلصة في مختلف بلاد المهجر لا مناص من إشراكها في صنع القرار السياسي. ولم يكن ثمة مبرر لذلك الإصرار سوى دعوى تفويض صادر منك. وبالرغم من إيماننا بأنه لا سبيل إلى قبول التفويض الأفقي كنهج للممارسة الحزبية، وبالرغم من علمنا بأنه نهج كنت أول المبادرين –حفظك الله ورعاك- إلى شجبه منذ عام 1965م، إلا أن الظروف المحيطة بك والتي لا شك كانت السبب في الحيلولة دون صدور بيان صريح وقاطع ينفي دعوى ذلك التفويض المزعوم، كان لها أثر بالغ في تعقيم دور الحزب في المعارضة الخارجية"..
    إننا لا نسوق هذا الجزء لندافع عن خط "الإصلاح" ذاك فقد ارتبط بملابسات وملاسنات وقف الحزب فيها إلى جانب صاحب التفويض. وقد رد رئيس الحزب على ذلك الخطاب بالتالي :
    "الحمد لله الآمر بالعدل والإحسان، والصلاة والسلام على رسوله المقتدى به في أمور الدين والدنيا، وبعد-
    الأخ الأستاذ/ محمد إبراهيم خليل
    السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، والرجاء إبلاغ تحياتي الطيبة لكافة الأخوة الذين انتدبوك لمخاطبتي في هموم الجماعة السياسية والتنظيمية. لقد درست ما جاء في خطابكم، وما ورد في توصياتكم وتدارستهما المؤسسات المعنية بالأمر باستفاضة وجدية أفضت إلى الجواب الآتي:
    أولا: نفترض أن في صيغة المخاطبة اعترافا واضحا بالشرعية التي أوجدها المؤتمر العام المنعقد في عام 1986م، وهي الشرعية التي كانت ولا زالت وسوف تظل أساسا لكل ما قد يحدث من تطورات وإصلاحات.
    ثانيا: نؤكد أن ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي اشتمل على أخطاء توجب المراجعة للتخلص منها إذا أريد لهذه الوثيقة أن تجمع الكلمة ولا تفرقها .
    ثالثا: إن في تطلع جماعة أو جماعات من زملائنا في المهجر لتكوين تنظيم مركزي ديمقراطي شامل ينتقل بالشكل التنظيمي في المهجر من شرعية الواقع والنظم المختلف عليها إلى شرعية دستورية وتنظيم شامل غير مختلف عليه رأيا صائبا.
    رابعا: إن في معاملة آرائكم كتوصيات تخاطبون بها المؤسسة السياسية الشرعية بالداخل إدراكا سليما لطبيعة العلاقة بين المؤسسة في الداخل وأنشطة المهجر وتمكينا لها للقيام بدورها في حماية وحدة الجماعة والحيلولة دون تصدعها.
    .. هذه أمور مقبولة، ولكن:
    أولا: من الناحية الإجرائية السليمة كان ينبغي أن يكون مؤتمركم بالتفاهم مع مؤسسة القيادة بالداخل للاتفاق على التدابير المطلوبة التي تجعل منه حلقة من حلقات التوحيد لا خطوة من خطوات الانقسام.
    ثانيا: من الناحية الهيكلية لا مجال لمنبر واحد أو مؤتمر واحد يضم الحزب والكيان فهما يتبعان أسسا مختلفة، وينطلقان من شرعية متباينة.
    ثالثا: إن التجمع الوطني الديمقراطي صيغة مرحلية توجبها المصلحة الوطنية، وإن لحقت العيوب بها من حيث ميثاقها أو تنظيمها فهي عيوب ممكن تصحيحها.
    رابعا: إن التعامل مع قضية الجنوب ومشروعات الحل السلمي كانت وما زالت وستظل إنشاء الله خاضعة لدراسة وقرار القيادة بالداخل . وإن وجدت ملاحظات بشأنها فلا مانع من تدارسها على ألا ينشأ غموض حول صلاحية القيادة في اتخاذ القرارات المطلوبة، ولا تكون مساءلتها في المساءل الأساسية إلا في مؤتمر الحزب العام القادم.
    خامسا: إن النهج الإسلامي الذي نتبعه هو نهج الصحوة، وهذا النهج يذكر دستورا ديمقراطيا ودولة ديمقراطية ولا يصفها بأي وصف آخر إنما يتطلع لتشريع إسلامي يراعي تحقيق تطلعات الجماعة الوطنية الإسلامية في السودان، ويراعي حقوق الجماعات الوطنية غير الإسلامية باحترام ما ورد في المواثيق الدولية من حقوق الإنسان وحقوق المواطنين. وهنالك الآن تباين واضح بين نهج الصحوة المذكور ونهج الانكفاء الذي لم ولن يستطيع التوفيق بين التطلع الإسلامي والوحدة الوطنية.
    سادسا: هنالك واقع في أوضاع الجماعة في المهجر قام تصديا للأمر في المراحل الماضية، وتعاملت معه القيادة وإن حدث في تصرف القائمين به خطأ فسوف تكون المحاسبة فيه أمام المؤتمر العام المقبل. ولا مصلحة لكياننا السياسي في تقويضه وسيتم الانتقال منه إلى الشكل المنشود عبر خطوات محكمة تفضي عن طريق إجراءات ديمقراطية للوضع المنشود.
    لذلك، وعلى ضوء الدراسة الفاحصة اتخذنا القرارات الآتية، ونرجو مخلصين تعاونكم الجاد معنا لتنفيذها صيانة لوحدة الكلمة وحماية للجماعة:
    أولا: وضع خطة لتكوين هيئة مركزية ديمقراطية للجماعة بالمهجر تستوعب نشاطهم السياسي ودورهم الوطني وتحسم الخلافات بالوسائل الديمقراطية.
    ثانيا: الخلافات بشأن الفترة التي سبقت قيام الهيئة المركزية يجري التداول بشأنها وحسابها في المؤتمر العام القادم الذي سوف يعقد في ظل الحريات الأساسية في البلاد.
    ثالثا: لا مجال للاعتراف بأية تكوينات من شأنها تكريس الخلافات وتجسيدها.
    رابعا: سوف نرسل مندوبا للاتصال بكل الأطراف في المهجر للتشاور حول تفاصيل تكوين الهيئة المركزية الديمقراطية.
    خامسا: نأمل أن توقف الأطراف المختلفة أي نشاط من شأنه إعاقة تكوين الهيئة المركزية الديمقراطية المزمع تكوينها أو شل حركة الكيان السياسي.
    سادسا: إن ظروف البلاد الحالية تقتضي اتحاد الكلمة على أساس ديمقراطي لمواجهة المهام الوطنية الديمقراطية وسد أبواب التفرقة التي تستغلها الدكتاتورية لتبرير وجودها وتمديد عمرها.
    (قل هذه سبيل أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)، (وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين).
    مقارنة مؤتمر يوليو 2002م بمؤتمر يوليو 1994م
    لقد كان ذلك في العام 1994، وبعد ثمان سنوات من تاريخ المؤتمر الذي عقدته جماعة "الإصلاح والمؤسسية" من وراء ظهر مبارك المهدي مسئول العمل الخارجي، والذي لا يحمل أية شرعية قيادية انتخابية تاريخيا، والذي اختلف على قيادته في الخارج فلجأ لأختام الداخل وتفويضاته، أعاد مبارك العملية، فعقد مؤتمرا من وراء ظهر رئاسة الحزب الشرعية بالانتخاب وبالإجماع الشعبي تحت شعار "الإصلاح والتجديد".. وإننا نسوق هذه المقارنة بين المناسبتين:
    الشعارات: الإصلاح- المؤسسية- الرجوع للقواعد- وجود كوادر مثقفة لا يستفاد منها (والأخير هو ما قاله مبارك المهدي عن وجود أفراد في أسرة المهدي مثقفين ولكن ليسوا في منظومة الحزب أو الكيان).
    إجرائيا: عقد مجمع من وراء ظهر القيادة الشرعية وبدون إخطارها (وفي سوبا إخفاء التجمع منها بقصد خوفا من رد فعلها). والفرق هنا أيضا أن مؤتمر 1994م خاطب القيادة بعد ذلك لشرح الموقف.
    التمويل: كلاهما وجدت معلومات عن تمويل خارجي لهما.
    الشرعية: نقض مؤتمر 1994م شرعية التفويض، ونقض تجمع سوبا شرعية التراضي. والفرق أن حجية 1994م أقوى فهي تستند على رفض لمسألة التفويض التي تناقض مبادئ الحزب، أما حجية 2002م فهي واهية لأن أصحابها مشاركون في التراضي.
    الوزن بمقياس المؤتمر العام 1986م: من بين جماعة يوليو 1994م كان أحد أعضاء الأمانة العامة المنتخبة لقيادة الحزب (السيد نصر الدين المهدي)، وكان رئيس الجمعية (السيد محمد إبراهيم خليل). أما جماعة يوليو 2002م فأكبر رأس فيها (السيد مبارك المهدي) لم تكن له أية شرعية قيادية في آخر مؤتمر عام للحزب.
    إذا قيس مؤتمر يوليو 1994م بمؤتمر يوليو 2002م لكان الأول أقرب للحق من الأخير. ولقد رفض السيد مبارك أسلوب مؤتمر 1994م حينها لأنه كان موجها ضده ولجأ لـ"الرئيس" والقيادة الشرعية. والآن فإنه يلجأ "للمؤتمر الوطني" ليضفي عليه شرعية. ولكنه ربما نسي أن فاتحة "المؤتمر الوطني" لا تقبل عند جماهير الحزب ولا تسوى لديهم شيئا. ومهما ظهر مبارك حينها منتقدا لأعمال جماعة "الإصلاح" تلك، فلا بد أنه استبطن إعجابا دفينا حينها بمحاولة تقليد مؤتمرهم الآن، لأن المثل الإنجليزي يقول: المحاكاة هي أبلغ درجات الإطراء.
    التنظيم الاستثنائي بالخارج 1997-1999م
    في ديسمبر 1996م هاجر رئيس الحزب مع 22 من المرافقين سرا إلى إرتريا. لقد أحدث خروج السيد الصادق المهدي في تهتدون دويا إعلاميا هائلا مما أحدث زخما سياسيا، وأعطى المعارضة الخارجية وزنا إضافيا. عقد الحزب مؤتمره الثالث بالخارج في 18 أبريل 1997 بالقاهرة وقد كان مؤتمرا محدودا أيضا. خاطبه رئيس الحزب وأمينه العام (د. عمر نور الدائم) وأمين عام التجمع حينها (السيد مبارك المهدي). وقد سبق إيرادنا لبعض كلمة رئيس الحزب التي لاحظ فيها بعض مشاكل التنظيم بالمهجر، واقترح بعض التعديلات. وطبقا لهذه الملاحظات فقد تم التحضير لاجتماعات لقيادات الحزب في أسمرا في ديسمبر 1997م، وذلك للتحضير لمؤتمر عام للحزب بالخارج يبني مؤسسات الحزب على الديمقراطية والانتخاب.
    الخطاب الذي أرسله الرئيس للدعوة لتلك الاجتماعات مفاده: "الحاجة ماسة في حزبنا لقمة سياسية في الخارج تتكامل مع الداخل في اتخاذ القرارات السياسية الهامة بشكل مؤسسي ..وقد قرر المجلس الموسع تكوين مكتب أول في الخارج لأداء هذه المهمة وكلفني أن أختار أعضاءه. وشرعت في هذه المهمة واخترت فعلا عددا من الأخوة والأخوات ولكن اعترضني أمران :
    الأول :العدد الذي حدده المجلس محدود جدا .
    الثاني :مهما توسعت في الاختيار يبقى آخرون يستحقون أن يضافوا بأية مقاييس موضوعية أستهديت بها .
    لذلك رأيت أن الحل الأمثل في هذه الحالة هو اللجوء للأسلوب الديمقراطي الذي تسمح به الظروف الاستثنائية الحالية كالآتي :-
    1- رد الأمر للمجلس الموسع لمراجعة عدد أعضاء المكتب الأول ولانتخابهم بقائمة تضم كل المرشحين واعتماد أصحاب أعلى الأصوات.
    2-تصعيد 25 عضوا من مكتب المغتربين الذين انتخبتهم القواعد وتصعيد 10 ممثلات للمرأة من مكتب المرأة لعضوية المجلس الموسع .
    3- دعوة المجلس الموسع لاجتماع للتنوير ولاتخاذ قرارات بشأن قضايا مطروحة ولانتخاب المكتب الأول في يوم الخميس 18/12/1997م في مدينة اسمرا . أرجو أن يتمكن كافة أعضاء المجلس الموسع حضور الاجتماع وسوف تصلهم قبل أسبوعين أجندة اجتماع المجلس الموسع وبالله التوفيق". أرسل هذا الخطاب لكل أعضاء المجلس الموسع والمختارين من المكتب الأول من غير أعضاء المجلس الموسع.
    وقد تمت تلك الاجتماعات بأسمرا، وتم التحضير للمؤتمر العام الرابع للحزب بالخارج بأسمرا والذي انعقد من 31 يناير وحتى 2 فبراير 1998م تحت شعار: "معا من أجل التحرير والوحدة والبناء" . ذلك المؤتمر كان يختلف في شكله ومضمونه عن تجمعات الخارج قبله، من حيث العلانية والانفتاح ، ومن حيث عضوية الحزب والكوادر القيادية التي شاركت بحيث تم التخلص من ذهنية "شركة الأمة المحدودة".
    مؤتمر الحزب الرابع بالخارج يناير-فبراير 1998م
    خاطب رئيس الحزب المؤتمر بخطاب حوى تسع محاور، ثامنها كان التنظيم، جاء فيه:
    (من كلمة رئيس الحزب أمام المؤتمر العام الرابع للحزب بالخارج في يناير/فبراير 1998م)
    تنظيم حزبنا من حيث دستوره ولوائحه يعود للمؤتمر الأول في 1986 هذا معناه أن عمره الآن اكثر من10 سنوات حدثت فيها تطورات بالغة في السودان توجب أن نعيد النظر ونراجع دستورنا ولوائحنا .
    ولكن كيف يمكن أن نفعل ذلك في غيبة مؤتمر عام ؟
    إننا في الداخل استطعنا أن نتخذ تدابير معينة مكنتنا من المشاركة الديمقراطية في اتخاذ القرار والعمل في الظروف القهرية الاستثنائية ويسرني أن أقول إن الحالة مطمئنة ولكن الموقف في الخارج مختلف للأسباب الآتية: هذا الحجم من الهجرة والاغتراب واللجوء ظاهرة جديدة لم تكن في حسبان التنظيم القديم- القيادة بالداخل مقيدة بينما توجد حرية أكبر للحركة في الخارج- حدثت نزاعات شجعتها جهات أجنبية.
    رغم هذا كله فإن حزبنا بالخارج حافظ على وجوده وأبقى الراية مرفوعة. إن للذين قاموا بهذا الدور تقديرنا والعرفان.
    أما النزاعات التي وقعت فقد كان الموقف الصحيح وما زال هو أن الانضمام إلى مسيرة الحزب تكفي نسخا للمواقف السابقة، فيما يتعلق بالشكاوي: شكاوي وتظلمات من أشخاص معينين فقد رأينا آن تقدم الشكاوي بشأنهم للجنة الأستاذ صالح فرح للتحري ورفع توصياتها للقيادة.
    إن جسمنا في الخارج مكون من الآتي: أصحاب المناصب الدستورية في الحزب، هؤلاء مستمرون حتى مؤتمرهم العام القادم- المكاتب المتفرغة- فروع الحزب في مناطق الكثافة- المغتربون- اللاجئون- المستثمرون- الدارسون- النساء- وجيش الأمة.
    إن اجتماعنا هذا يمثل هذا الجسم تمثيلا بعضه مكتسب وبعضه مصعد وبعضه مختار.
    إن هذا الجسم يمثل شيئا جديدا لم يكن في حسبان مؤتمرنا الأول لذلك أرى أن نقترح شكلا تنظيميا جديدا له، شكلا يحافظ على المواقع المكتسبة ويحقق الديمقراطية ويسمح بوجود جهاز استثنائي يتعامل مع مهام التحرير. هذا التنظيم الجديد يقتضي كتابة لوائح جديدة ويوجب الاتفاق على صيغة للتعامل مع الداخل .
    وقد جاء البيان الختامي للمؤتمر يحمل بابا للإصلاح الحزبي جاء فيه:
    قرر المؤتمر هيكلا شاملا لحزب الأمة بالخارج مكونا من رئاسة ولجنة تنفيذية وهيئة مركزية تنتخبها الكليات الآتية: المغتربون- اللاجئون- المرأة- الشباب والطلاب- جيش الأمة للتحرير- المكاتب المتفرغة.
    وأمنوا على آن حزب الأمة حزب جماهيري جامع للشرائح الوطنية ويحقق الإصلاح والتحديث وفق الموجهات الآتية: ديمقراطية تكوين قاعدة الحزب- قومية قاعدة الحزب الشعبية- تطوير الدراسات والأبحاث كرافد لبرامج الحزب- تكوين ورعاية منظمات إنسانية- الانفتاح على مؤسسات المجتمع المدني لا سيما في مجال الأبحاث والدراسات- تقوية العلاقات الثنائية مع كافة القوى السياسية السودانية لا سيما التي يساعد التعاون معها في توحيد البلاد كالحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي يساعد التحالف معها في استقرار السودان كالحزب الاتحادي الديمقراطي. كل ذلك تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي- تسجيل العضوية واستخراج البطاقات للأعضاء وإيجاد اشتراكات دورية -تدريب الكوادر- تطوير آليات العمل الاستثنائي الخاص بالمرحلة الحالية والخاص بالعمل العسكري والانتفاضة، ووضعت خطة تغيير ناجز لدعم الجيش والانتفاضة- الاهتمام بالتوعية الفكرية داخل الحزب وفي سبيل مخاطبة الآخرين- الالتزام بلوائح الحزب لتحقيق الولاء والانضباط- التصدي للانحراف والمخالفات عبر آلية محاسبة عادلة- وتطوير آلية المعلومات وحماية أمن التنظيم .
    ..هكذا تحول الشكل التنظيمي للخارج إثر المؤتمر العام الرابع لشكل أكثر ديمقراطية. جرى ذلك بدون الإساءة لأسلوب مسئول العمل الخارجي الذي شابته الشمولية، عرفانا لما بذله من جهد في وقت عصيب لم يكن يسمح بمراجعة الأداء المستمرة، وتجاوزا للسيئات بالتخطيط لإزالتها بالطرق السلمية والشورية. ولكن السيد مبارك لم يحفظ ذلك الأسلوب الحضاري الذي يتخذه الحزب، ولا النهج المتقدم الذي اتبعه معه رئيس الحزب حين اطلاعه على تجاوزه لأسلوب العمل الديمقراطي، وأكثر من ذلك حاول أن يرميه بكل التهم التي تجمعت حوله وسار بها الركبان.. رمتني بدائها وانسلت!.
    اجتماعات يونيو 99
    التقى رئيس الحزب الدكتور حسن الترابي في جنيف في مايو 1999م، فتح هذا اللقاء ملف الحل السياسي الشامل الذي فضله الحزب كوسيلة لتحقيق السلام والتحول الديمقراطي. وفي يونيو 99 دعا رئيس الحزب المكتب التنفيذي للحزب والمجلس الاستشاري. خاطب رئيس الحزب المجتمعين حول عدة مواضيع على رأسها الحل السياسي الشامل، ثم تطرق لمسألة البناء الذاتي، قائلا:
    إن بناء كياننا الذاتي يوجب تحقيق ثلاثة أشياء في المرحلة القادمة:
    1- دعم وتنشيط حزب الأمة باعتباره الوعاء الشعبي السوداني الأكبر وباعتباره رائد الحركة الفكرية والسياسية السودانية.
    2- علينا عمل الآتي: الخطاب الفكري الواسع- الإعلام المكثف- تحديد الشكل التنظيمي الجديد الذي يجمع بين الداخل والخارج ويؤهل الحزب للمرحلة القادمة- خفض الوجود الخارجي إلا المستثنى- أن يقرر المكتب التنفيذي بهذا الخصوص وأن يتشاور مع الداخل في الأمر وأن يحدد الميزانية اللازمة والمدة المطلوبة. العمل بالخارج سوف يقتصر على عمل إعلامي ودبلوماسي ومهام استثنائية.. على أن يجري التشاور مع الداخل فيما يتعلق بالظروف التي توجب انتقال القيادة السياسية العليا للداخل.
    3- دعم كافة الأجهزة الاستثنائية التي أوجبتها المرحلة الحالية.
    وأعلن أمين عام الحزب عن عدة تطورات بالعمل الحزبي كان من ضمنها إنشاء وحدة للمعلومات والإعلام الإلكتروني .

    التنظيم المرحلي للحزب 2000-2003

    توقيع نداء الوطن: لقد كان من آثار النزاع داخل المؤتمر الوطني سعي الطرف الآخر للاتفاق مع حزب الأمة، فتم التوقيع على نداء الوطن في 26 نوفمبر 1999م في جيبوتي. أثمر هذا الاتفاق مناخا سياسيا أفضل في السودان، وأدرك الحزب أنه في مرحلة تحولية. ولمناقشة موضوع تنظيم الحزب في تلك المرحلة وما يتلوها كون الحزب لجنة لدراسة موضوع التنظيم والانتقال من الحالة الاستثنائية آنذاك.
    لجنة التنظيم وتوسعة التشاور: كونت لجنة من أعضاء الأجهزة الدستورية بالقاهرة والزائرين ومن الداخل. قدمت اللجنة تقريرها وذلك في 13 يناير 2000م. كان ذلك التقرير هو بداية المشاورات التي انتهت في أغسطس 2000 بتكوين التنظيم المرحلي للحزب. بعد رفع حيثيات الاجتماع وملخص الآراء حول تنظيم الحزب إلى الرئيس، رأى أن توسع دائرة التشاور لتشمل أكبر قدر من المشاركة لقيادات الحزب وأجهزته، وفي 16 يناير 2000 وجه رئيس الحزب خطابا داخليا لجميع الأجهزة القيادية للحزب بالداخل والخارج، اشتمل الخطاب على عدة نقاط من بينها قضية التنظيم والتي عرضت كالآتي:
    المسألة التنظيمية: إن لحزبنا الآن تنظيمات استثنائية في الداخل وفي الخارج.
    ما هو مصيرها في المرحلة القادمة؟ وما هي علاقاتها التنظيمية بالتجمع في الداخل والخارج؟
    إن على حزبنا واجب الاستعداد للقرن الجديد وللعهد الديمقراطي الجديد، فما هو برنامجنا للمرحلة المقبلة؟ وما هو الشكل التنظيمي الأمثل لحزب السودان الجماهيري الشعبي الأول؟
    لقد استكتبت عددا من القادة والكوادر رأيهم حول هذه الموضوعات ووصلتني طائفة من المقترحات.
    وأخيرا دعوت كل الأعضاء في الأجهزة القيادية في الخارج المقيمين في القاهرة، ومعهم رصفاؤهم من الزائرين للقاهرة، وأعضاء الأجهزة القيادية بالداخل الزائرين للقاهرة، وطرحت عليهم الموضوع التنظيمي فعقدوا حلقة نقاش مكثف وقدموا التوصيات المرفقة.
    لقد ناقشت معهم التوصيات في يوم الأحد 16/1/2000م ورأيت أن التوصية الأساسية مقبولة، واستحسنت توسيع التشاور فأرجو تزويدي بتعليقكم في فترة لا تتجاوز أسبوعا من وصول هذا التقرير لكم.
    في نقاشي معهم رأيت أن أضيف أهمية أن يشمل التنظيم المرحلي الشرائح الآتية كآليات تزيد من الجدوى والفاعلية لحزبنا: تمثيل للجنوبيين- تمثيل للأقباط- تمثيل مناسب للمرأة- تمثيل مناسب للشباب- إلحاق بعض كوادر هيئة شئون الأنصار بالأجهزة السياسية- إلحاق بعض كوادر جيش الأمة للتحرير بالعمل السياسي. أقٌول..
    1- هذه الآراء تتعلق بالآلية التأسيسية للحزب في المرحلة القادمة.
    2- مشروع البرنامج والتنظيم الجديد للقرن القادم بعد أن تضعهما الجهة المعنية سيقدمان لأجهزة التنظيم المرحلي وهي بدورها تقدمه للمؤتمر العام ليقرر بشأنها.
    3- هنالك مشروع هيكل جديد للفترة الانتقالية القادمة من شأنه أن يحقق الأهداف الآتية: الاستفادة من القيادات المخضرمة في مجال الرأي والتخطيط السياسي والممارسة الديمقراطية- ينقل العمل السياسي التنفيذي لجيل جديد- يستوعب الكوادر الشابة صاحبة البلاء والكفاءة- ويحقق الفعالية والنهج العلمي المؤسس.
    استجابات المكاتب المختلفة :تمت استجابة من عدة مكاتب وكوادر قيادية في واشنطن- مسقط- اليمن- الرياض وجدة بالسعودية- والحزب بالداخل.
    اجتماعات قيادات الداخل والخارج في القاهرة في فبراير 2000م
    بعد ذلك دعا الرئيس لاجتماع لقيادات الداخل والخارج في فبراير 2000م بالقاهرة. وكان أمام المجتمعين ملفا من 104 صفحة يحتوي على: مذكرة من رئيس الحزب بتاريخ 13 فبراير 2000- خريطة الحل السياسي الشامل- بتاريخ 21 أكتوبر 1999- تقرير لجنة التنظيم- بتاريخ 16 يناير 2000م- مداخلات حول التنظيم- من المكاتب المذكورة أعلاه- الميثاق المقترح للتجمع- القديم- تقرير لجنة التحضير للمؤتمر "لجنة التجمع"- تقرير لجنة التحضير للمؤتمر" لجنة الحزب"-و مشروع السيد ابيل الير المقدم للسلام- 2000.. أعطي الملف للمجتمعين قبل يومين لدراسته، ويمكن للواحد أن يتخيل كم كان ذلك شاقا. لقد شهدت هذه الاجتماعات من واقع سكرتارية الإعداد.. يعتقد بعض الناس أن العمل السياسي كالسياحة وبعضهم يمارسه كذلك، ولكنني أشهد بالجهد الذي بذله قادة حزب الأمة تلك الأيام- بل وبالاجتهاد المستمر والانشغال بالعمل الوطني: اجتماعات ومشاورات- ودراسات لا تنفض. خرجت الاجتماعات ببيان ختامي حوى كل الموضوعات التي تطرق لها الاجتماع وهي: الحل السياسي الشامل- التنظيم المرحلي- التجمع- الملف الجنوبي- التمويل.
    وفيما يتعلق بالتنظيم، فقد احتوى البيان الختامي على:
    تنظيم حزب الأمة الانتقالي إلى حين انعقاد المؤتمر العام
    لقد قادت أجهزة حزب الأمة المرحلة الماضية بكفاءة عالية. المرحلة القادمة هي مرحلة إعادة بناء تنظيم الحزب بصورة تتجاوز الشكل الداخلي والخارجي الذي أوجبته المرحلة الماضية وفرضته الظروف الداخلية وسمحت به الظروف الإقليمية السابقة.
    1- المرحلة الجديدة هي مرحلة توحيد عمل الحزب السياسي الشعبي وسوف تمتد إلى حين انعقاد المؤتمر العام.
    2- تكون مهمة اتخاذ القرار والتخطيط السياسي من مسئولية مكتب سياسي مرحلي يجري تكوينه بأعلى درجة من الديمقراطية. يبلغ عدد أعضاء هذا المكتب خمسون شخصا يتم اختيارهم كالآتي: 16 شخصا هم الأكثر بلاء في الداخل والخارج في النضال ضد الديكتاتورية رجالا ونساء- 4 تختارهم الهيئة البرلمانية المنتخبة عام 1986م- 4 تختارهن المنظمات النسوية بالداخل والخارج- 4 تختارهم منظمات الشباب والطلاب بالداخل والخارج- 5 هم رئيس وأعضاء الأمانة العامة المنتخبة 1986- 3 نقابيون (عمال- مهنيون- معلمون)- 4 مصعدون من مؤتمر المغتربين العام.- 3 تختارهم كلية الحزب الجنوبية- 1 تختاره كلية الحزب القبطية- 3 مصعدون من جيش الأمة للتحرير- 3 مصعدون من هيئة شئون الأنصار.
    3- يختار 300 من الشباب رجال ونساء يسمون دائرة العطاء والفداء، وينالون تدريبا مكثفا ليستمد منهم ذراع الحزب التنفيذي.
    4- الأمين العام وأمناء أربعة أمانات: التنظيم- الفئات- المالية والإدارة- الاتصال والتنسيق.. يكونون جهاز الحزب التنفيذي مستمدين كوادر مكاتب الأمانات والشعب من دائرة العطاء والفداء.
    5- يشرف الرئيس على دقة تكوين التنظيم المرحلي بضوابط تكفل أن يكون الأشخاص المصعدون مؤهلين للقيام بالمهام المذكورة.
    كانت تلك هي التوصيات التي خرجت بها اجتماعات فبراير الممتدة ليومين، ثم وجه الحزب بضرورة عقد ورشة للتنظيم لإلقاء مزيد من الضوء على ذلك الأمر الهام.
    ورشة التنظيم التخصصية 2 يوليو 2000م
    عقد الحزب عدة ورشات تخصصية في الفترة ما بين 2 إلى 10 يوليو 2000م. ناقشت في محور التنظيم ثلاث أوراق عمل مختلفة لتحليل ماضي ومستقبل العمل التنظيمي للحزب.وخرجت توصيات الورشة عن التنظيم بالآتي:
    لكي يقوم حزب الأمة بدوره الريادي المنوط به لتحقيق المولود المعافى ولما لحزبنا من ثقل جماهيري وإرث تاريخي وعطاء فكري وسياسي ونضالي مشهود، كان لابد أن يقوم الحزب نفسه بعملية دراسة ونقد لتقويم تجارب الماضي ووضع فلسفة تنظيمية وتحديد الرؤى المستقبلية التي تجعله قادراً على تحقيق الآمال ومواجهة تحديات الألفية الثالثة وظروف العولمة وذلك عبر ميلاد جديد للحزب بفلسفة وآليات وأطر عمل يكون فيها للشباب والمرأة دور هام ورائد في القيادة والتسيير اليومي.لذلك أكدت الورشة على أهمية التنظيم كعنصر أساسي لممارسة الديمقراطية، يتطلب من كافة القوى الوطنية أن توليه الاهتمام اللائق به تحقيقا للمشاركة الواسعة واستيعابا لكل شرائح المجتمع وخاصة الشباب والمرأة وأبناء المناطق الأقل نموا وكل عناصر ومنظمات المجتمع الفاعلة.
    وقد انتهت الورشة إلى ما يلي :
    1- لقد أمنت الورشة على أهمية القطاع التقليدي في السودان وما يسهم به في الاقتصاد السوداني والأنشطة السياسية وطالبت بمراعاة الفوارق بين هذا القطاع والقطاع الحديث بصورة تضمن إسهام القطاعين في تحقيق تطلعات شعبنا.
    2- أكدت الورشة على ضرورة جهاز قيادي منتخب وجهاز إداري متخصص وكفء يقوم على مبدأ اللامركزية الإدارية.
    3- إنشاء مدرسة كادر لتدريب وتأهيل الكوادر.
    4- قيام آلية مساءلة ومحاسبة على التجاوزات.
    5- إعداد ميثاق الحزب وصياغة إطاره الفكري المتكامل ومراجعة شعاراته وإعادة صياغتها.
    6- إنشاء أجهزة التوثيق والأرشفة والتراث القومي.
    7- إنشاء شبكات اتصال فاعلة مستفيدة من التقنية الحديثة وثورة الاتصالات لتقوم بربط كافة أجهزة وأفرع الحزب.
    8- الالتزام بالتوزيع العادل والتوازن في المناصب العليا بما يحقق الإجماع أو القبول.
    9- ضرورة تطوير وتعزيز الأجهزة الإدارية والأمنية في الحزب.
    10- قيام مؤسسات مالية واستثمارية فاعلة ومؤهلة لمعالجة مشاكل التمويل .
    11- وضع الإطار المؤسسي لورش العمل الفكرية ضمن هياكل الحزب كآليات ضرورية لدعم أجهزة اتخاذ القرار.

    اجتماعات يوليو/ أغسطس 2000
    بعد اجتماع فبراير بأقل من شهرين عادت قيادات الحزب للداخل وعلى رأسها الأمين العام ومسئول العمل الخارجي في بداية عهد الإنقاذ. لقد كان موكب العودة الأولى مهيبا ضخما يعبر عن شعبية الحزب وتمدده، أما موكب العودة الكبرى فإنه كان يفوق الوصف. ولكن نفس الجماهير المعبأة لنصرة حزبها كانت معبأة ضد أي اتجاه للانخراط في النظام. شهدت بذلك الهتافات العفوية، وردود فعل الجمهور أثناء الخطب التي أقيمت بالمركز العام للحزب بأم درمان ساعة العودة في 6 أبريل 2000م.
    ومنذ يوم العودة الأول ظهرت اختلافات حادة بين قيادات الحزب حول تفسيرات العودة، والعلاقة مع النظام، وبدأت فترة من الطحان المستتر والذي يصل للرأي العام والصحف أحيانا بين القيادات. وظهرت اختلافات حول تكوين التنظيم المرحلي فبرزت الحاجة لعقد قمة يتم فيها تصفية الخلافات وإيضاح الخط السياسي للحزب بعد التشاور حول تفاصيله والاتفاق عليه بين القيادات. فدعت القيادة القيادات بالداخل والخارج لاجتماع قمة، لم يكن السيد مبارك المهدي راضيا بحضوره لأنه لم يكن يقدر أن مخالفيه يستحقون كل ذلك الاهتمام. وقد ضغط عليه الحزب كما فصلنا في الفصل الأول بأن القرارات ستتخذ به أو بدونه إن لم يحضر، إلى آخر ما كان.
    استمرت تلك الاجتماعات من 27 يوليو وحتى 4 أغسطس، وقد كانت سلسلة اجتماعات متواصلة مضنية شارك فيها القيادات التالية السيدات والسادة:

    1. الصادق المهدي.
    2. عمر نور الدائم.
    3. آدم موسى مادبو.
    4. بكري عديل.
    5. سارة الفاضل.
    6. نصر الدين المهدي.
    7. مبارك المهدي
    8. إبراهيم الأمين.
    9. عبد الرحمن نقد الله
    10. عبد النبي علي أحمد
    11. عبد المحمود صالح.
    12. عبد المحمود أبو
    13. عبد الرحمن الصادق
    14. صلاح جلال
    15. صديق بولاد
    16. حسن أحمد الحسن
    17. نجيب الخير عبد الوهاب.
    18. إحسان عبد الله البشير *
    19. مأمون شرفي*
    (مأمون شرفي وإحسان عبد الله لم يشتركا في الاجتماعات منذ بدايتها وإن ألحقا بها في اليوم الأخير)


    ناقش الاجتماع لليوم الأول مسألة التنظيم وكون لجنة هيكلة التنظيم برئاسة سارة الفاضل ومقررية عبد المحمود صالح وعضوية كل من عبد النبي علي أحمد- صديق موسى بولاد- وعبد المحمود أبو إبراهيم. وذلك لدراسة المقترحات المقدمة لدراسة هيكلة العمل التنفيذي لتختار الأمثل. مرجعيات اللجنة كانت: قرارات الاجتماع المشترك - القاهرة- 15 إلى 16/2/2000م- قرارات الاجتماع المشترك القاهرة 27/8/2000م. والمقترحات المقدمة لها: تصورات من كل من الحاج نقد الله- د. آدم مادبو- مبارك الفاضل- ثم ورشة العمل المنعقدة بالقاهرة- التوصيات والأوراق المقدمة حول التنظيم- المنعقدة بتاريخ 2-10/7/2000م. خرجت اللجنة بمقترحاتها التي عرضتها على الاجتماعات المستمرة للقيادات من جديد. وخرجت التوصيات والقرارات من تلك الاجتماعات التاريخية بعدة محاور فيما يخص التنظيم نوجزها فيما يلي:
    ‌أ) اعتماد قرارات الاجتماع المشترك بين القيادات المنعقد في القاهرة في فبراير 2000
    ‌ب) اعتماد المكتب السياسي الخمسيني بالتكوين الذي تم.
    ‌ج) يضاف للمكتب السياسي أعضاء بما يكفي للآتي: تمثيل الأقاليم بنسبة الأصوات في الانتخابات الأخيرة مع أخذ عدد النواب في الحسبان- تمثيل المزارعين، الرعاة والمجاهدين- يراعى سد النقص في تمثيل الشباب والمرأة- سيكون المكتب السياسي الخمسيني آلية هذه الإضافة عن طريق كليات تمثل الفئات المذكورة وتصعيد ممثليها.
    ‌د) المكتب السياسي الانتقالي هذا هو صاحب الرأي والقرار السياسي في المرحلة الانتقالية.
    ‌ه) المكتب السياسي مسؤول عن عقد مؤتمر الحزب العام وسوف يواصل مسئوليته إلى حين انعقاد ذلك المؤتمر ( التاريخ المبدئي للمؤتمر 26يناير 2000م)
    ‌و) المكتب السياسي الانتقالي هو الذي يدرس توصيات ورش العمل ويقدم مشروع برنامج الحزب الجديد، ومشروع دستور الحزب، ومشروع اللائحة التنظيمية.
    ‌ز) لصعوبة انعقاد المكتب السياسي بما يضم من أعضاء الداخل والخارج فإن النصاب القانوني لاجتماع المكتب يؤسس على الأعضاء بالداخل. الأعضاء بالخارج يشاركون عبر مؤسسة الرئاسة.
    مؤسسة الرئاسة: تضم مؤسسة الرئاسة الرئيس ونائبه الأول والثاني ومساعدين لـ: لشئون المكتب السياسي- الشئون الخاصة- الشئون القانونية- المتابعة وضبط الأداء- الشئون الخارجية- الشئون الاجتماعية- شئون سودان المهجر- شئون الحزب بالخارج- وشئون المناطق المهمشة . هؤلاء يكونون مكتبا يسمى مكتب الرئيس. هذا المكتب يكون له مقرر هو مساعد الرئيس للمتابعة وضبط الأداء. مهمة هذا المكتب هي تنسيق أعمال الرئاسة. وعلى هذا المكتب أن يضع لائحة لتوزيع الأعباء بين نائبي الرئيس وتحديد مهام المساعدين. النائب الأول يرأس الجهاز التنفيذي وتوزع اختصاصاته هو والنائب الثاني بموجب اللائحة.
    تقرر تكوين هيئة تسمى هيئة الرقابة الحزبية من أشخاص مشهود لهم بالحكمة والاعتدال مقررهم مساعد الرئيس للمتابعة وضبط الأداء وتكون مهمتهم: التصدي لأية انحرافات فكرية أو سياسية أو تنظيمية وتمنحهم اللائحة الانتقالية سلطات تبدأ من لفت النظر- العتاب- إلى المحاسبة وتجميد العضوية حتى التوصية بالعزل.
    كلف النائب الثاني للرئيس بوضع اللائحة التنظيمية الانتقالية لإجازتها بواسطة المكتب السياسي.
    المؤسسة التنفيذية: تتكون المؤسسة التنفيذية من تسعة قطاعات على رأس كل واحد رئيس للقطاع تتبع لها أربعون أمانة بيانها: قطاع التنظيم - القطاع السياسي- قطاع الاتصال والتنسيق والعمل الجماعي- قطاع الفئات- قطاع المالية والإدارة- قطاع المرأة- قطاع الشباب- قطاع الجنوب- قطاع تنمية الموارد البشرية- قطاع العلاقات الخارجية- وقطاع الدراسات والبحوث
    رؤساء القطاعات يكونون المكتب التنفيذي ويختارون مقررا. يتبع لرؤساء القطاعات أربعون أمانة على رأس كل منها أمين يشغلهم الشباب من كوادر الحزب رجالا ونساء.
    المجلس القيادي: يتكون المجلس القيادي من الرئيس ونائبيه ومساعديه ورؤساء القطاعات ورئيس ومقرر المكتب السياسي. المجلس القيادي يرأسه الرئيس أو النائب الأول ويختار مقررا وناطقا باسم الحزب.
    رابعا: تناول الاجتماع تسكين الهيكل بما يشمل مؤسسة الرئاسة، والمكتب التنفيذي، والأمانات، وعين الأشخاص المنوط بهم أداء هذه المهام.
    وتقرر أن يتولى هؤلاء عمل حزب الأمة حتى انعقاد المؤتمر لحشد الطاقات من اجل التعبئة والتحضير للمؤتمر العام.
    خامسا: يتم تكوين مكتب مؤقت بالخارج يسمى مكتب الرئيس بالخارج أعضاؤه هم أعضاء المكتب السياسي بالخارج وقياديون مختارون. هذا المكتب يشارك عبر الرئيس في قرارات المكتب السياسي للحزب.
    عن اجتماعات أغسطس: جماعة سوبا تستخف باجتماعات أغسطس، والذي يستمع لرواية السيد مبارك التي بثها تلفزيون السودان عن اجتماع حضره أربعة عشر شخصا، "قعدوا سنتين، غلبهم يعملوا ليهم تنظيم" يحيك في صدره أن هذه الجماعة التقت لمدة ساعتين فبحثت بسرعة أمورا هامة ولم تصل لشيء. الحقيقة أن الاجتماعات التي استمرت من 27 يوليو وحتى 4 أغسطس انعقدت لمدة تسعة أيام حسوما، كانت اجتماعات متواصلة لـ17 من قيادات الحزب بالداخل والخارج، ثم خرجت بما خرجت به، ولا يضير ذلك الاجتماع أو يقلل من أهميته أن من بين من شارك فيه من لم يكن راض به منذ البداية، ولا راض عن الجلوس مع منافسيه في الحزب، فعدم الرضا عن تصفية الخلافات داخل الاجتماعات معناه أن اللغة المفضلة لصاحب هذا الموقف هي الإقصاء والقصف. وهي اللغة التي تعامل بها من قبل السيد مبارك مع أهل الحكومة في أول أمره فلم يكن يرضى عن الأحاديث حول اللقاءات بهم، أو أهل التجمع في منتصف أمره فكان يردد أنهم قوم لا تنفع معهم إلا سياسة الدهس بالأحذية، أو أهل حزب الأمة في آخر أمره الذي ذاع، فأراد قبرنا أحياء ونحن أقدر منه على قبر الآخرين إن أردنا!.
    المهم.. لأهمية ما توصلت له تلك الاجتماعات فقد خرج منشور عنها من رئيس الحزب بتاريخ 5 أغسطس، ولأهمية ذلك المنشور في تبيان خارطة الحزب التنظيمية فإننا نورده بنصه الكامل وهو:
    منشور البيان السياسي لمرحلة التحول (أغسطس 2000م):
    الأحزاب هي قنوات العمل الديمقراطي. هي التي تنظم المشاركة، وهي التي تبلور الإرادة الشعبية، وهي تمثل القاعدة السياسية في الحكم أو المعارضة، وبرامجها وقياداتها هي التي تتيح للرأي العام الخيارات، وهي التي تحقق الإنجازات السياسية وتتحمل المساءلة عن الإخفاقات.
    الانتماء السياسي يقوم على واحد من ثلاثة أسس. أساس موروث وهنا يكون الانتماء لكيان ديني أو قبلي. وأساس أيديولوجي وهنا يكون الانتماء لأيديولوجية تنادي بها جماعة، وأساس طبقي وهنا تكون المصلحة الطبقية هي محور الانتماء.
    في البلدان المتقدمة يغلب على الأحزاب السياسية أن تمثل انتماءا أيديولوجيا أو طبقيا.
    ولكن في بلدان العالم الثالث يغلب الانتماء على أساس الموروث.
    في السودان تكونت الأحزاب السياسية كأوعية تحالف بين الخريجين وهم يمثلون قطاعا حديثا للانتماء الأيديولوجي والطبقي وبين قوى دينية وقبلية تميل للانتماء الوراثي.
    الأحزاب السياسية الكبيرة في السودان حافظت على طابعها التحالفي هذا، وفي حالة حزبنا تنامت العوامل الحديثة من فكر ومصلحة وتكاملت مع الموروث النافع.
    لقد كان تاريخ حزبنا الحديث عبارة عن محطات تقدم باسم الآفاق الجديدة، والإصلاح والتجديد، ونهج الصحوة. تطور الحزب مستقطبا القوى الحديثة دون قفز على الواقع الاجتماعي ضاربا جذوره في التكوين الديني والقبلي للبلاد، وتأكدت فاعلية الحزب لأنه عبر العهود الدكتاتورية الثلاثة والعهود الديمقراطية الثلاثة كان الرقم الأول في معارضة الديكتاتوريين كما كان الرقم الأول في السجلات الانتخابية كلها. وبالنسبة لمواجهة نظام "الإنقاذ" فإن حزبنا كان المتصدي الأول له فكريا ووقع عليه النصيب الأوفر من البطش وساهم بالنصيب الأكبر في إسقاط أجندة النظام الأيديولوجية.
    وحزبنا الآن يقود المرحلة الجديدة. مرحلة العمل السياسي والشعبي المنظم للحوار والضغط من أجل تحقيق الحل السياسي الشامل فإن تحقق عبر الحوار فهذا في مصلحة البلاد لأن استمرار المواجهة حتى النهاية مع الشروخ الحالية في النظام وفي المعارضة سوف يدفع بالبلاد إلى الصوملة.
    وإن استحال الحل السياسي الشامل المتفاوض عليه فإن على حزبنا تنظيم الضغط السياسي والشعبي والدبلوماسي حتى تتحقق الأجندة الوطنية وبذلك تتحقق تطلعات شعبنا المشروعة.
    وفي أثناء التحول من مرحلة استئصال الآخر الذي تورط فيه النظام والاستئصال المضاد الذي اضطرت إليه المعارضة إلى مرحلة تبني النظام لبعض أطروحات المعارضة مثل قبول المواطنة أساسا للحقوق الدستورية، وقبول الوحدة الطوعية عبر تقرير المصير، وقبول التعددية السياسية وفتح باب الحوار عبر الملتقى الجامع كآلية للحل السياسي الشامل.
    أثناء هذا التحول وقعت أحداث تاريخية أهمها:
    ‌أ) انقسام الحزب الحاكم وبالتالي النظام الحاكم حول قضايا عديدة من بينها سرعة وطبيعة التحول إلى وضع جديد.
    ‌ب) انقسام المعارضة -ويجسدها التجمع الوطني الديمقراطي- حول مبدأ الحل السياسي الشامل وسرعته وآلياته.
    ‌ج) تجاوز العمل السياسي الذي كانت تحكمه السرية في الداخل والعسكرية في الخارج إلى التنظيم والتعبئة بالداخل كواجب للمرحلة. هذا الخط تبناه حزب الأمة ولكن رفضته أحزاب أخرى.
    المسرح السياسي السوداني كله صار يتسم بالانتقالية والبين بينية والمخاض.
    في هذا المناخ واصل حز ب الأمة إقتحاماته الفكرية والسياسية ولكن هيكله التنظيمي لم يستطع القفز بالسرعة اللازمة لتحمل صدمات الاقتحام.
    إن لحزب الأمة تنظيما أسسه مؤتمر عام 1986م. هذا يمثل الهيكل الدستوري للحزب. هذا الهيكل جمدته أجهزة القهر منذ يونيو 1989م. وفي هذا الأثناء اتخذت قوى الحزب أجهزة استثنائية تصدت لمواجهة النظام في الداخل والخارج.
    ومنذ فبراير 2000م قرر اجتماع مشترك بين قيادات الحزب بالداخل والخارج أن يقيم هيكلا انتقاليا صدر به بيان في 15-16 فبراير 2000م، ولكن هذا التنظيم لم يكتمل بعد ليعبر عن أسس المشاركة والمؤسسية في هذه المرحلة.
    الهيكل لم يكتمل. ولكن الأحداث لا تنتظر فنشأ اختلاف اجتهادي بين التركيز على التفاوض وإيجاد الحل السياسي وبين التركيز على رأب صدع العمل الجماعي وترميم شروخ التجمع الوطني الديمقراطي كشرط يسبق التفاوض من اجل الحل السياسي الشامل.
    الاختلافات الاجتهادية هذه واكبتها اختلافات حول الهياكل التنظيمية وأساس الشرعية والمؤسسية في هذه المرحلة الانتقالية وأججتها توترات مرحلة المخاض، فبدا أن في حزب الأمة شرخا مستعصيا.
    بدأ التصدي لهذا الإشكال عن طريق ورشة العمل الفكرية التي نظمها الحزب في القاهرة في 2/7/2000م لإثراء النقاش وتحديد الخيارات.
    كان حزب الأمة قد نظم ورشة عمل في سبتمبر 1999م بحثت باستفاضة مسألة الحل السياسي الشامل وساهمت دراساتها في إثراء رؤية الحزب للحل السياسي الشامل وساهمت توصياتها في تحديد الموقف التفاوضي للحزب الذي أصدرته في مذكرة بتاريخ 21/10/1999م وزعناها على القوى الفكرية والسياسية السودانية في حينها.
    أما الورشة الفكرية الأخيرة بتاريخ 2/7/2000 فقد قدمت دراسات في خمسة موضوعات يعنينا منها في هذا المنشور الدراسات والآراء والتوصيات التي قدمتها الورشة في مجال تنظيم الحزب وفي مجال العمل الجماعي.
    انطلاقاً من الموقف التفاوضي الوارد في مذكرة 21/10/1999 وقرارات الاجتماع المشترك لقيادات الحزب بالداخل والخارج في فبراير 2000، وتوصيات الورشة الأخيرة بتاريخ 2/7/2000 في موضوعي التنظيم والعمل الجماعي، كتبت مذكرة للاخوة بالداخل بتاريخ 7/7/2000.
    هذه المذكرة مكونة من 4 محاور: محور الحل السياسي الشامل- محور العمل الجماعي - محور الهيكل التنظيمي الانتقالي- ومحور تسكين الأشخاص والكوادر في الهيكل.
    أرسلت المذكرة لدكتور عمر نور الدائم الأمين العام للحزب فدرسها وأدخل فيها ما بدا له من تعديلات وعرضها على المكتب القيادي بالداخل فدرسها وأدخل بعض التعديلات وأجازها بتاريخ 17/7/2000 .ولكن ظهرت خلافات حول الهيكل التنظيمي المرحلي وحول التسكين.
    وعرضت المذكرة على اجتماع للقيادات بالخارج الموجودة في القاهرة فرأوا إدخال بعض التعديلات في اجتماعهم بتاريخ 25/7/2000.
    هامش الحرية الصحافية المتوافر بالداخل، واهتمام الإعلام العربي الدولي بالقضايا السودانية ،فتحا مجالاً واسعاً لمتابعة ما يدور في حزب الأمة بصورة جعلت كثيراً من الحادبين مشفقين على عافية الحزب،وأطلقت خيال الشامتين فظنوا بنا الظنون سيما والساحة السياسية السودانية مليئة بأخبار الانشقاقات الحزبية حتى يكاد يكون الانشقاق هو القاعدة لا الاستثناء.
    لا أحد ينكر أن حالة المخاض التي تعيشها البلاد، وحالة التأهب التي يستعد لها الحزب ساهما في إبراز أربعة إشكالات تناولها الناس وتعددت حولها القراءات.
    الإشكال الأول: أن حزبنا قد اتجه نحو الحل السياسي الشامل كاتجاه استراتيجي. كما أعلن الحزب أسس ذلك الحل وأعلن تطلعه لمشاركة كافة القوى السياسية السودانية فيه. كما تطلع لآلية الملتقى الجامع للتفاوض بشأن الحل. ولكن ما العمل إذا تقاعست القوى السياسية الأخرى عن المشاركة في الحل السياسي الشامل؟ وكيف نضمن شفافية التفاوض ونحقق مقاصده؟
    الإشكال الثاني: حزبنا مؤمن بالعمل الجماعي لتحقيق الأهداف الوطنية. هذا ما دفعه لتكوين الجبهة الاستقلالية لتحقيق استقلال السودان. وتكوين الجبهة القومية المتحدة لمعارضة الدكتاتورية الأولى ( 58-1964م). وتكوين الجبهة الوطنية لمعارضة الديكتاتورية الثانية (69-1985م)، وتكوين التجمع الوطني الديمقراطي لمعارضة ومقاومة الديكتاتورية الثالثة.
    ولكن تعثر عمل التجمع الوطني الديمقراطي حتى أصبح عائقا للعمل الجماعي بالفعل مع أنه ماعون العمل الجماعي بالشكل. وللحزب أطروحة محددة لإصلاح وتوسيع تفعيل التجمع. وللحزب موقفين مختلفين من التجمع بالداخل والتجمع بالخارج، فكيف يتصرف إذا لم تراع فصائل التجمع الأخرى هذه المواقف؟
    اختلفت الاجتهادات في الإجابة على هذه الأسئلة.
    الإشكال الثالث: قامت شرعية الحزب السياسية والتنظيمية على الشرعية التي أسسها المؤتمر العام في 1986م. ولكن بعض المؤسسات الدستورية التي أسسها المؤتمر أخفقت مما أجبر مؤسسات اتخاذ القرار في الحزب أن تنادي بتعديلها.
    ثم جاء انقلاب 30/6/89 وعطل النشاط السياسي بموجب الأمر الدستوري رقم 2. وفي ظروف القهر اضطرت القيادة للعمل السياسي السري ولنقل جزء هام من نشاط المعارضة والمقاومة للخارج. السرية والعمل الخارجي أوجبا إقامة أجهزة استثنائية للعمل السياسي.
    بالإضافة لهذين الاعتبارين فإن انقضاء أحد عشر عاما على النظام الديمقراطي أدى لظهور قوى اجتماعية جديدة وأجيال جديدة، فماذا ينبغي عمله لاستيعابها ولتأكيد حيوية الحزب ومرونته للتعامل مع المستجدات؟
    في هذه المجالات الثلاثة تنوعت الاجتهادات. فماذا نحن فاعلون لاعتماد شرعية تراعي هذه الحقائق وتستجيب لهذه التطلعات؟
    الإشكال الرابع: ما هو الهيكل التنظيمي الأمثل لحزبنا في الفترة الحالية حتى قيام المؤتمر العام؟
    إن لحزبنا إيجابيات معلومة هي: القيادة المجددة، والفكر الواضح، والقاعدة الجماهيرية المعطاءة. وفي حزبنا نقاط ضعف هي: التنظيم والتمويل والإعلام.
    فما هو الهيكل التنظيمي الانتقالي الأمثل الذي يناسب المرحلة الانتقالية،ويدعم نقاط القوة ،ويعالج نقاط الضعف ويؤسس شرعية تراعي الواقع وتستجيب للتطلعات المشروعة ؟ للتصدي الموضوعي الشفاف لهذه الإشكالات وجهت الدعوة لـ17 من قيادات الحزب بالداخل والخارج لاجتماع مشترك في الفترة 27 يوليوإلى4 أغسطس.لم يتخلف عن الدعوة أحد ولا عن مواعيدها.
    في هذا الاجتماع تناول الحاضرون الأجندة بالإحاطة والجدية والصراحة والشفافية التامة .لم يكن اجتماع مجاملات أو مساومات أو تمويهات للحقائق. لقد قررنا أن تكون كافة القرارات بالتراضي والإجماع مراعاة لظروف المرحلة وبعد التداول اتخذت القرارات التي نشرت في البيان الختامي بالإجماع.
    هنالك 7 مسائل رأيت بيانها في هذا المنشور.
    أولاً:المكتب السياسي الانتقالي هذا مكون من 50 شخص 33 من الداخل و17 من الخارج وقد تم اختيارهم عبر كليات ولجان. هذا العدد هو الذي قرره اجتماع فبراير 2000 المشترك. ولكننا نعترف أن تكوينه الحالي تنقصه المكونات الآتية:
    • تمثيل الأقاليم عبر كليات لتصعيد ممثلين للأقاليم بما في ذلك الجنوب.
    • تمثيل لبقية أعضاء المكتب السياسي القديم مثلما مثلت الهيئة البرلمانية، بما في ذلك الأقباط.
    • تمثيل لأصحاب العمل.تمثيل للمزارعين، والرعاة، والمجاهدين.
    • سد النقص في تمثيل الشباب والمرأة.
    وكان أمامنا خياران: الأول أن نرجئ تنفيذ تنظيماتنا حتى نكمل هذا النقص. والثاني: أن نعتمد المكتب السياسي كما تم تكوينه بعد اجتماع فبراير 2000م. وأن نعتمد المكتب الخمسيني نفسه آلية لتحديد كليات تصعيد الفئات المذكورة.
    وبعد تداول رأينا أن نعتمد الرأي الثاني، على أن أشرح للمعنيين من شرائح الحزب أساس هذا الإجراء وجدواه، فنحن محتاجون لملء الفراغ، وكلما تأخر تكوين المكتب السياسي استمر الفراغ، كما أن المكتب السياسي الخمسيني آلية أفضل من الاجتماعات التمهيدية التي عقدناها.
    منذ إعلان تكوين المكتب السياسي الخمسيني في فبراير 2000م وصلتنا كمية كبيرة من الاستئنافات. الاستئنافات المعقولة أخذناها في الحسبان، ورأينا أن يكون المكتب الخمسيني نفسه آلية تنفيذها فأرجو أن يطمئن الجميع على أن آراءهم لم تهمل وإنما سوف يستجاب للمعقول منها عبر آلية محددة وبأسرع وقت ممكن لأن زيادة عضوية المكتب السياسي بالضوابط المنصوص عنها هنا ستكون أجندة المكتب الأولى
    ثانيا: لقد مزجنا بين القيادات المنتخبة في مؤتمر 1986م والقيادات التي أبرزها النضال. صحيح أن العمل انتقل ثقله للداخل وصحيح أن عددا من القيادات التي أبرزها النضال لم تقرر العودة للبلاد بعد ولكن حتى وهي بالخارج سوف يتم تكوين مكتب يسمى مكتب الرئيس بالخارج سوف يضم هؤلاء المناضلين ويكفل مشاركتهم في القرارات السياسية وفي كافة الأنشطة التي لا تستوجب العودة للوطن. ولكن القيادات التي أفرزها النضال وعادت للداخل استوعبت في الهيكل الانتقالي.
    ثالثا: فيما يتعلق بتكامل الأجيال فإن هيكلنا الانتقالي قد أو جد صيغة معقولة هي: جيل التجربة والحنكة من قيادات الحزب استوعب تماما في مؤسسة الرئاسة.
    الجيل الذي يليه من الكهول الذين هم بين الشيوخ والشباب استوعبوا في المكتب التنفيذي.
    والجيل الذي يليه من الشباب رجالا ونساء استوعبوا في الأمانات.
    مساعدو الرئيس سوف يكونون كل حسب اختصاصه مجالس متخصصة تستوعب عددا كبيرا في المجالات المختلفة. كذلك سوف يكون رؤساء القطاعات لجانا للمشاركة في القطاع، كذلك سوف تتسع القطاعات للمشاركة.
    كل الأحزاب السياسية في كل العالم تعاني من مسألة تناوب الأجيال وإذا نظرنا للأحزاب في العالمين العربي والإفريقي لرأينا درجة العجز في التعامل مع هذه المسألة. لذلك لا يحدث تغيير لصالح الأجيال الجديدة إلا عبر الثورات والانتفاضات.
    في حزب الأمة استطعنا أن نحقق انتقالا راديكاليا من جيل لجيل في ثورة أكتوبر 1964م. وعبر نضالنا ضد الديكتاتورية الحالية برزت قيادات شابة كثيرة لذلك وضعنا تصورا تدرجيا يخلق تكاملا بين الأجيال. هذا أمكن تحقيقه بالتراضي وهو إنجاز كبير. لكن يمكن للانتخاب في المؤتمر العام القادم أن يحقق طفرة أخرى على طريق تناوب الأجيال.
    كل قيادات الحزب متفهمة لهذه المعاني ومتجاوبة معها لذلك يرجى أن تتم الإصلاحات المقصودة بطيب خاطر.
    رابعا: هيئة شئون الأنصار كما هو معلوم هيئة ذات تخصص في الدعوة والإرشاد والتربية والنشاط الروحي والاجتماعي والثقافي والمأمول أن يتسع نشاطها ليشمل كافة الأنشطة باستثناء التنافس من أجل السلطة السياسية.
    لقد استطاعت هيئة شئون الأنصار أن تحقق تناوبا رائعا بين الأجيال كما استطاعت أن تمثل ضمير الشعب في ظروف حظر النشاط السياسي.
    هيئة شئون الأنصار سوف تواصل نشاطها الذي يحكمه الدليل الأساسي وسوف تتجه لعقد مؤتمرها العام لتكملة مؤسساتها المنصوص عليها في الدليل الأساسي بأسلوب ديمقراطي. وسوف يكون لأفراد مختارين من هيئة شئون الأنصار مشاركة في مؤسسات حزب الأمة السياسية، وسوف أضع لائحة واضحة تحدد صلاحيات وأنشطة الهيئة بصورة تمكن الحزب من القيام بمسئولياته كاملة فالحزب للأنصار ولغير الأنصار، وللمسلمين وغير المسلمين من أهل السودان، بينما الهيئة منبر دعوي تربوي لأنصار الله.
    خامسا: جيش الأمة للتحرير يمثل ذراعنا العسكري وقد انتظم فيه شباب اختاروا طريق التضحية بالمال والنفس فهم في كياننا سيوف النصر وقد أبلوا بلاء حسنا. إننا سوف نتفق مع النظام -في ظل ترتيبات الحل السياسي الشامل- بما يمكن استيعابهم في الدور الذي يناسب تضحياتهم. وسوف يجري اختيار من لديهم استعداد وتأهيل للعمل السياسي لاستيعابهم في مواقع مناسبة. ولكن إلى حين تجاوز المرحلة الحالية فإن جيش الأمة للتحرير كيان منضبط خاضع لقيادته وللوائحه.
    هنالك تشويش حدث نتيجة لعودة فريق جيش الأمة الاضطرارية من إثيوبيا، وانتهى هذا الحدث المؤسف واختار بعض هؤلاء الأبناء الخروج على الانضباط والانخراط في أجهزة الحزب والكيان الأخرى وهذا حقهم وسيعاملون حسب اختيارهم.
    وهنالك دعايات سالبة حول ما حدث بعد عودة المجاهدين على إثر المصالحة الوطنية في عام 1977م.. هؤلاء المهاجرين خرجوا مضحين واستطاع الكيان أن يفعل هجرتهم وأن ينقل الحال من مجرد وجود خارجي إلى عمل حاسم ساهم في تحقيق بعض أهداف الشعب السوداني، فالمصالحة نفسها لم تكن ممكنة إذا لم تكن انتفاضة 2 يوليو 1976م. والمصالحة هي التي فتحت الطريق لانتفاضة رجب/ أبريل 1985م.
    صحيح أن المهاجرين العائدين لم يجدوا ما كان ينتظره بعضهم من مكانة. ولكن ليس صحيحا أنهم أهملوا وللتاريخ سوف نبين بوضوح تام ومفصل ما عمل لهم. لأن بعض المغرضين حاول أن يستغل هذا الموضوع ليشوه موقف الكيان.
    ومهما كان الذي حدث لهم فإنهم رجال أدوا للكيان وللوطن خدمة جليلة فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
    ولكن الهجرة الماضية لم نكون فيها جيشا بصورة انضباطية، بل كانوا مهاجرين مقاتلين بروح فدائية.
    تجربة جيش الأمة للتحرير هي الأولى في تاريخنا الحديث، والمرجو أن نستفيد من تجربة الماضي ونضمن لجيش الأمة للتحرير إذا سارت الأمور سيرا طبيعيا المستقبل الذي يستحقونه.
    سادسا: التنظيم الجديد يبدأ بإعلان قائمة المكتب السياسي الخمسيني والمطلوب أن يسارع المكتب بعقد اجتماعه الأول فورا ليتولى مسئولياته السياسية وسيتولى مساءلة المجلس القيادي والإشراف على التحضير للمؤتمر العام، وعليه أن يقدم للمؤتمر العام مشروع البرنامج الجديد، ومشروع الدستور واللوائح الجديدة.
    المكتب السياسي الخمسيني سوف يشرع فورا في توسيع عضويته بالكيفية المحددة.
    مكتب الرئيس بالخارج وأعضاؤه هم أعضاء المكتب السياسي بالخارج وقياديون بالخارج سوف يوالي نشاطه مع الرئيس.
    وبما أن 17 من أعضاء المكتب السياسي الخمسيني بالخارج فإن مشاركتهم في مداولات المكتب السياسي سوف تتم عن طريق الرئيس ومكتب الرئيس. هذا وسيكون النصاب القانوني للمكتب السياسي بالداخل 27 عضوا.
    وعلى المجلس القيادي أن يجتمع فورا بعد اجتماع المكتب السياسي ويقوم بوضع لوائحه.
    بعد قرارات اجتماع القاهرة المشترك المنتهي 4 أغسطس تعتبر كل الأجهزة الاستثنائية محلولة لتقوم مقامها الأجهزة التي حددها الهيكل الجديد.
    من المؤسسات التي كونها الهيكل الجديد هيئة الرقابة برئاسة مساعد الرئيس لشئون الضبط والمتابعة السيد صلاح عبد السلام وخمسة أعضاء، واجب هذه الهيئة: مراقبة الأداء لمنع التجاوزات الفكرية والسياسية والتنظيمية وصلاحياتهم لفت النظر، والمساءلة، والتوبيخ، والتوصية بالعزل.
    مكتب الرئيس بالداخل يربط مؤسسة الرئاسة. والمكتب التنفيذي يربط العمل التنفيذي، والمجلس القيادي يربط كل أنشطة الحزب. وهيئة الرقابة تتصدى لأية تجاوزات لاحتوائها.
    سوف تصدر لائحة تنظيمية عامة لضبط وربط كافة أجهزة الحزب وسوف توجب اللائحة أداء قسم للالتزام بمبادئ الحزب وأسس الشرعية الانتقالية فيه.
    سابعا: على المكتب السياسي أن يبحث بالسرعة المطلوبة موضوع مؤتمر الحزب العام ويوجه الهيكل الجديد حسب الاختصاص للقيام بالتحضير للمؤتمر العام ليعقد في الموعد المحدد 26/1/2000م.
    ختاما كما ترون فإن ما أقدمنا عليه من إجراءات ليست عفوية ولا فردية ولكنها مرت عبر ورشات عمل فكرية، واجتماعات لأجهزة الداخل، واجتماعات لأجهزة الخارج، واجتماعين مشتركين بين الداخل والخارج. وشارك فيها من الأفراد والقادة ما يمكن بحق أن يعتبر ممثلا لكل التنوع الموجود داخل حزبنا. هذا القدر من المشاركة والتداول لا يوجد في بلادنا الآن ولا في منطقتنا.. إنه الأوسع والأكثر شفافية.
    لذلك أوجه نداء واضحا لكافة جماهير حزبنا الوفية الواعية القوية قفل باب الجدل والالتفاف حول الهيكل الجديد والشرعية التي يمثلها والعمل الجاد لعقد مؤتمر الحزب العام.
    المؤتمر العام هو الذي سوف يخاطب المستجدات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وهو الذي سوف يجسد تطلعات بلادنا للإصلاح والتجديد، وسوف يؤهل حزبنا لقيادة العمل السياسي في مطلع القرن الجديد. هلموا إلى العمل الحزبي الجاد والعمل الوطني المسئول وهما في جوهرهما وجهان لعملة واحدة. وعلى الله قصد السبيل.- (انتهى المنشور السياسي لمرحلة التحول.)
    العودة- تفلحون نوفمبر 2000م
    بعد شهور ثلاثة من تلك الاجتماعات التاريخية عاد رئيس الحزب لداخل البلاد، وكانت المشاورات قد استكلمت لبناء التنظيم المرحلي، وتم انتخاب العضوية وتصعيدها للمكتب السياسي من الكليات المعنية، بعد أن تم التوسع في المكتب السياسي في الكليات المعنية، وفي مراعاة الاتزان في تكوينه، فبلغ أعضاؤه 107.
    وكان من المتوقع أن يطور اتفاق (نداء الوطن) بشكل يسمح لأعضاء جيش الأمة الذوبان في الجيش السوداني.
    وكان من المتوقع للحزب أن يعقد مؤتمره العام بتاريخ 26 يناير 2001م (لم يكن ذلك التاريخ منزلا كالوحي بل ورد في توصيات أغسطس كتاريخ مبدئي).
    وكان من المتوقع للحزب أن يعود بسياراته وممتلكاته من إرتريا ولكن الحكومة الإرترية التي لم تكن راضية عن العودة حجزت سيارات الحزب بما قيمته 2.5 مليون دولار.
    وكان من المتوقع للحزب بعد توقيع نداء الوطن أن تعيد له الحكومة ممتلكاته المصادرة بما قيمته 4.5 مليون دولار. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. فقد أعادت الحكومة جزءا أقل من ربع قيمة المصادرات. بل لقد لعبت جماعة سوبا دورا كبيرا في ذلك، فقد زينت للحكومة أن الحزب ضعيف لا داعي لتقويته بتلك الأموال كوسيلة للضغط عليه حتى يرضى بالمشاركة التي يرفضها بعض قيادييه تعنتا وعدم واقعية حسب رأيهم.
    لا يوجد ثبات لا يقبل المناقشة في مسائل المعاملات حيث ينفتح باب مراعاة المستجدات. والمستجدات بعد العودة أن مالية الحزب المتوقعة لم يتحصل عليها والمالية ضرورة لقيام المؤتمر. فهل الضرر الأكبر في تأجيل المؤتمر حتى يتم تدبير تمويل المؤتمر (وقد حدد موعده الجديد وبدأت تباشيره والسايقة واصلة)، أم الضرر الأكبر في حل الأجهزة التي بذل في تكوينها كل ذلك الجهد الفكري والتشاوري والتجميعي، لصالح أجهزة قائمة على انتقاءات فردية وقراءات إقصائية (كما نظرت المذكرة الأربعينية) أو أجهزة "مكلفتة" دعي لها بانتقائية وروعي فيها السرية، وخرجت عن رأي الجماعة وانتهكت الشرعية (كما فعل تجمع سوبا)؟.. ورد في المنشور التنظيمي الذي صدر في أوائل يوليو 2002م: " هذا التكوين مرحلي اتفق على استمراره إلى حين انعقاد المؤتمر العام في 26 يناير 2001م ومعلوم ضمنا أنه إذا لم يعقد المؤتمر في ذلك التاريخ فإن التنظيم سوف يستمر لأن البديل لذلك هو خلق فراغ تنظيمي والقاعدة الذهبية دائما: ارتكاب أخف الضررين."
    خلاصة:
    هذه هي قصة التنظيم في حزب الأمة، والتي رصدنا الحوار الذي دار حولها والجهد ومحاولات تجميع الرأي. إن اجتماعات أغسطس 2000 التي يهزأ بها الانسلاخيون ولم يكونوا يرغبون في حضورها كانت قفزة من قفزات الكدح الحزبي نحو التنظيم المرحلي، والتنظيم المرحلي هو الهيكل المرتجى منه التحضير للمؤتمر العام (قمة ذلك الكدح التنظيمي الحثيث) . وكعادة جماعة سوبا فيما يتعلق بالأرقام فهي تتضاعف إذا كانت في مصلحتهم وتتلاشى إذا لم تكن، فقد تحول عدد القياديين المشاركين فيها من 17 إلى 14. ومهما يكن، فإن أهمية تلك الاجتماعات لم تكن بعدد القيادات التي شاركت فيها، بل في كونها آلية شورية لحسم الخلاف بين القيادات واختلاف التفسيرات داخل الحزب، حتى يستطيع الوصول لمؤتمره العام. ولقد تعرضنا في الفصل الأول من هذا الكتاب للخلافات التي أثارتها جماعة سوبا حول التنظيمات، وإلى تكوين لجنة تقييم وضبط الأداء وتقريرها ومناقشته داخل الأجهزة القيادية للحزب. وتعرضنا أيضا للقرار 122 الذي أصدره المكتب السياسي ومحتواه التنظيمي، وتحديده لتاريخ 26 يناير 2003 كموعد لعقد المؤتمر العام للحزب.
    لقد كثر انتقاد ثلة المشاركة الانخراطية للتنظيم المرحلي، وإشاعة الأكاذيب حول جوهر ذلك التنظيم. فقد رموه بالتعيين مع أنه كان بالتصعيد والانتخاب ثم التراضي وكلها آليات ديمقراطية شورية، وقللوا من عدد القيادات المجتمعين كما ذكرنا، ومن وزن الآراء المشاركة فيه فالتنظيم المرحلي هو نتاج أعمال لجان ومراسلات مطولة وورش عمل وسلسلة اجتماعات تاريخية –كما بينا. ومهما قيل عن انتهاء الفترة المحددة لهذا التنظيم، فإنه لا يمكن الانقلاب عليه في الوقت الذي تحدد فيه التاريخ الجديد للمؤتمر العام –26 يناير 2003م- بل وبعد أن بدأت الولايات تقدم برامجها لإجراء مؤتمراتها القاعدية بتمويل ذاتي، وكان فاتحة ذلك عمليا قيام المؤتمر القاعدي بمحلية "الحوش"، ولاية الجزيرة بتاريخ 9 يونيو 2002م، ثم محلية المناقل في يوليو 2002م. ورب ضارة نافعة، فما قامت به جماعة سوبا قد استنفر جماهير الحزب بصورة لا توصف. وكان نتاج هذا الاستنفار أن مشكلة تمويل المؤتمر العام قد حلت، بالتبرعات، والالتزامات بالتمويل الذاتي.
    المؤتمر العام المزمع في 26 يناير 2003م:
    كانت رئاسة لجنة إعداد تصور المؤتمر العام ومقرريتها بيد جماعة سوبا كما ذكرنا- فأحاديثهم عن المؤتمر لا يمكن أخذها على وجه برئ من قصد إبطاء السير فيه لصالح تجمعاتهم الخاصة. أما ما قاله السيد مبارك المهدي في برنامج في الواجهة بتاريخ 29 يوليو فلا يمكن أخذه إلا على محمل الافتراء، قال: "إذا كان عايز مؤتمر عام كان يقول لينا كنا مولناه له".. فهل لم يكن يحضر الاجتماعات؟ أو لم يكن له علم بخطة المؤتمر؟ ألم تسرب جماعته للصحف أوراق تحدثت عن تمويل الحزب وتمويل المؤتمر وقد كانت سرية؟.. ولنترك ذلك جانبا، المهم الآن أن الخطي قد تسارعت بعد أن خلصت تلك الجماعة الحزب من تعويقاتها، وصدر في 23 يوليو 2002م المنشور التنظيمي للمؤتمر العام للحزب المزمع في 26 يناير 2003م. أهم سمات خطة المؤتمر العام هي:
    يعقد المؤتمر العام السادس للحزب تحت راية (السلام-الديمقراطية-التنمية). أجازت أجهزة الحزب تصور لجنة المؤتمر العام وكونت لجنة عليا للمؤتمر العام للحزب على أن يعقد في أو قبل 26 يناير 2003م. وأقرت المنشور التنظيمي الأساسي والمنشورات رقم 2 و3 للتنظيم. وجاء في المنشور التنظيمي من ملامح المؤتمر الآتي:
    • لقد اعتمدت اللجنة العليا للمؤتمر العام علي قرارات أجهزة الحزب في تحديد عضوية المؤتمر العام، والتي تحتوي على: أعضاء -أجهزة الحزب المركزية لفترة الشرعية الدستورية(1986)- أعضاء أجهزة الحزب الإنتقالية الحالية- أعضاء المكتب التنفيذي لهيئة شئون الأنصار- ممثلي المحليات، علي أن يتم التصعيد وفق ثقل الحزب وتمثيل المرأة 20%، والشباب 10%، والفئات 5%- ممثلي الطلاب ما يعادل 5% من جملة المصعدين (100) شخص ثم ممثلي سودان المهجر ما يعادل 5% من جملة المصعدين (100) شخص.
    • تقوم لجان الحزب التمهيدية المعتمدة في كافة المحليات بالإشراف علي مؤتمرات القواعد (أحياء، قرى، وفرقان). وفق أسس مبينة في المنشور، وتقوم إجراءات ومهام المؤتمرات القاعدية علي اعتماد العضوية، الانتخاب، التأكد من سداد الرسوم، والتصعيد.. ثم رفع مقترحات اللجان وتقديم تقارير بسير عمليات التصعيد والانتخاب.
    • تعقد المحليات وفق أسس وإجراءات تشمل التصعيد وفق كثافة العضوية المسجلة بمعدل شخص لكل 25 عضو، ترفع اللجنة التمهيدية المشرفة على مؤتمر المحلية تقريرا وافيا حدد المنشور محتوياته. كما حدد المنشور آلية اختيار سكرتارية مؤتمر المحلية، ومهام المؤتمر، والحد الأدنى للتمثيل في المؤتمر العام.
    • يتم عقد ورشات عمل متخصصة وبرامجية في مجالات: السيادة والتأصيل- التنمية والاقتصاد- الخدمات- الأمن والدفاع- الخدمة المدنية- نظام الحكم- الرياضة والأدب والفنون- الشئون الاجتماعية- العلاقات الخارجية. هذا وقد ابتدأت هذه الورشات بورشة الأمن والدفاع التي عقدت بالمركز العام للحزب في أغسطس 2002م، ووضعت الخطة لبرمجة عقد البقية.
    • يتم عقد ورشات عمل تأسيسية وهيكلية مهمتها وضع هيكل جديد للحزب يستوعب المهام الجديدة للحزب تطويرا للحزب كآلة تنمية وآلة للخدمات الاجتماعية ومدرسة فكرية بالإضافة للمهام الحزبية المعروفة. وذلك علي النحو التالي: التنظيم- الشباب- الطلاب - تنمية المرأة- الفئات- وسودان المهجر.
    • تقوم مؤتمرات قطاعية لفئات الحزب المختلفة بغرض تنظيم وتحديد برامجها وتكملة تمثيلها في المؤتمر العام. والفعاليات هي: التنظيم- المرأة- الشباب- الطلاب- الفئات المهنية- سودان المهجر.
    والآن
    هذه هي رواية سوبا لمؤتمرها الاستثنائي: تنادى تجمع سوبا سرا في أسبوعين، ولم تكن أعداد الدعوة منضبطة بنسب مدروسة للتمثيل بل محددة (بمواعين الضيافة في البلاد)، ولأن مواعين الضيافة لغة تخضع لتطايب النفوس فقد أتى العدد ضعف الدعوة، وبرغم ذلك استوعبت المواعين!. لقد عملت جماعة سوبا بكفاءة عالية في أسبوعين للدعوة السرية ولطبع الأوراق (منها ورقة قدمت قبل عام) فقد كتب كل من القادة السبعة ورقة لم تكن نتاج ورشة عمل ولا أي تشاور مسبق، ولم يتح للمؤتمرين نقاش كل الأوراق. وقد حل تجمع سوبا أجهزة حزب الأمة ولكيلا يحدث (انقلاب ثاني) وضع هيكلا متعجلا محل تلك الأجهزة..
    وهذا هو تصور الحزب لمؤتمره العام: حصر وتسجيل العضوية- مؤتمرات قاعدية- مؤتمرات قطاعية – ورش عمل متخصصة وبرامجية- ورش عمل تأسيسية وهيكلية- لجان سكرتارية- منشورات تنظيمية.. مثل هذا البرنامج لا يمكن التنادي له في أسبوعين وما ينبغي له..
    … وبضدها تتبين الأشياء!.
                  

08-27-2012, 08:32 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الفصل الخامس
    مرجعية الستينيات والتسعينيات
    يخلّط بين قمر وقّاد
    وأب قرشين
    عشان اشتركو في الدوران
    يقول تومين
    لقد بينا في هذا الكتاب سلسلة الأعمال التي قامت بها الجماعة المنسلخة عن الحزب. بقي إلقاء ضوء على المنطق الذي حكمها في تصرفاتها تلك لتبيان مدى خطل قراءتها للواقع السياسي عامة وللبناء الداخلي لحزب الأمة. لقد تحركت هذه الجماعة في رأيي وحسب ما يبدو من تصريحاتها عبر قراءتها لموقفين تاريخيين هما: الأول خاص بالحزب وهو الانشقاق الذي حدث في الستينيات. والثاني: حدث داخل حزب آخر هو المؤتمر الوطني وقد حدث عام 1999-2000.
    ضلال التشبه بانشقاق 1966 داخل الحزب:
    أولا ما هي حقيقة الانشقاق في الستينيات؟
    عانى حزب الأمة تاريخيا ومنذ إنشائه في 1945 من ثلاثة مشاكل في صفوفه أدت إلى تفرقة بين العضوية. اثنان منهما كانا اختراقا من جهات أجنبية: الأولى في 1951م مع تكوين الحزب الاشتراكي الجمهوري، الذي لم يكن -على حد تعبير الدكتور الفاتح عبد الله عبد السلام- لم يكن جمهوريا ولا اشتراكيا ولكنه كان نوع من محاولة البريطانيين "تأديب" حزب الأمة على ما رأوه الخروج عن الطوع والمطالبة بالحكم الذاتي . أما الاختراق الثاني فقد كان في عام 1957 بدعم مصري تحت اسم حزب التحرر الوطني الذي سماه بعض منسوبيه "حزب الأمة الحق" . أما الإشكال الثالث فقد كان في الستينيات ووجد بوادره إبان الاختلافات داخل الحزب حول درجة التصدي لنظام عبود . بعد قيام ثورة أكتوبر 1964، أقام حزب الأمة هيئة تأسيسية مكونة من الهيئة القديمة يستبعد منها من اشترك في تدبير انقلاب نوفمبر 1958م ومن تعاون مع النظام العسكري ويضاف إليها من يمثل الدماء الجديدة وما يجعل التكوين ممثلا للواقع. اجتمعت تلك الهيئة في نوفمبر 1964م لانتخاب رئيس الحزب وأمينه العام والمكتب السياسي، وفي منصب الرئاسة ترشح السيد الصادق المهدي ينافسه السيد محمد أحمد محجوب، ونسبة لدور السيد الصادق في ثورة أكتوبر فقد فاز بأغلبية ساحقة بالرئاسة، وانتخبت الهيئة التأسيسية أيضا الأمير عبد الله نقد الله أمينا عاما للحزب، وانتخبت المكتب السياسي، وبارك خطواتها الإمام. ثم خاض الحزب انتخابات عام 1965 حيث فاز بأكثرية المقاعد وكون حكومة ائتلافية وانتخب السيد محمد أحمد محجوب رئيسا للوزراء عنه.. أول محطات التصعيد للخلاف الذي حدث في الستينيات كان وقوع اختلاف بين رئيس الوزراء، وبين طاقم الوزراء الحاكم معه ، ثم خلافه مع الهيئة البرلمانية لحزب الأمة. كونت الهيئة البرلمانية للحزب لجنة برئاسة السيد أمين التوم لبحث أداء الحكومة واتصلت اللجنة برئيس الوزراء وحققت في الأمر ثم كتبت تقريرا بمثابة إدانة قاطعة لرئيس الوزراء. ولكن رئيس الوزراء بدلا من التفاهم مع الهيئة التي انتخبته، رد بأنه غير مسئول أمام الهيئة بل أنه مسئول فقط أمام الإمام الذي عينه وهو الذي يحاسبه، وصار يرفع شعار "سقوط محجوب سقوط الإمام" . وحتى تلك اللحظة لم يكن رئيس الحزب (الصادق المهدي) ولا الإمام (الهادي المهدي) طرفين في النزاع داخل الأجهزة. ولكن رئيس الحزب تدخل مؤيدا الهيئة البرلمانية في حقها في محاسبة رئيس الوزراء، وحق الحزب في متابعة أداء حكومته والتنسيق بين أجهزته وبينها. والإمام وافق على أن الهيئة البرلمانية وأجهزة الحزب القيادية لا تملك الحق في محاسبة رئيس الحكومة، فوقع استقطاب حول هذه القضية في الحزب أدى للانشقاق في عام 1966م . انشقت الهيئة البرلمانية للحزب إلى ثلث وثلثين. وقف الثلثان مع أجهزة الحزب وحقها في مساءلة حكومتها بينما وقف الثلث يؤيد خط أحقية الإمام وحده في ذلك. وقد صوت الثلثان ضد حكومة رئيس الوزراء داخل البرلمان فأسقطت وتم انتخاب حكومة جديدة أتت بائتلاف جديد وانتخبت الصادق المهدي رئيسا للوزراء.
    ثانيا ما هي حقيقة ما حدث في سوبا يوليو 2002م:
    حزب الأمة يخوض منذ عام 1989م حربا وجودية وتحررية. وقيادة الحزب تقوم على شرعية البلاء والانتخاب. قيادة الحزب هي التي قادت المواجهة للنظام ثم الحوار معه، وكان موقفها في الحالين صائبا ومزكيا لها ولصحة مواقفها. كما قادت تكوين نظام مرحلي للحزب في مرحلة العلنية بعد تجاوز المرحلة الاستثنائية. سياسات الحزب ونظمه المرحلية كلاهما تأسس على إجماع قيادات الحزب بلا استثناء بما فيهم جوقة سوبا. هذه الجوقة شاركت في كل القرارات التنظيمية والسياسية التأسيسية. ابتداء بمؤتمرات الحزب بالخارج، واجتماعاته التاريخية في فبراير وأغسطس 2000 –آلية التراضي- وحتى قرار 18 فبراير الذي أجمعوا حوله مع الآخرين. إن مقترحات تلك الفئة قد نوقشت بصراحة ووضوح –على عكس ما يدعون- ولو كان عندهم حججا أخرى فإنه لم يكمم أفواههم أحد- لقد رفع رئيس الحزب اللوائح عن الاجتماعات حتى يدلي كل بدلوه- والتزم الصمت حتى لا يتأثر أحد بكاريزميته. ثم قرر الحزب بالإجماع تلك القرارات. ثم وفي مرحلة لاحقة بدا لتلك الجماعة أن تلك القرارات لم تفسر كما تبتغي أو أنها أقل مما ترتضي، فرأت أن تلوي ذراع الحزب لإحداث سياسات وتنظيمات إقصائية لإبعاد من لا ترغب فيهم، وسيادة الخط السياسي الذي تراه "حميرا أشربي ولا أكسر قريناتك". أما حزب الأمة فقد أصر على موقفه المتمسك بقراءته السياسية المبدئية لأطر الاتفاق مع النظام، والمتمسك بالمؤسسية وقراراتها ولسان حاله يقول لجماعة سوبا 2002م قول الشاعر العربي:
    وإن كنت تبغي للظلامة مركبا ذلولا فإني ليس عندي بعيرها
    لقد رفعت هذه الفئة بين ما رفعت شعار "الإصلاح والتجديد" كلمة حق أريد بها باطل المشاركة بغير قيود. لقد كان واضحا أن الإصلاح والتجديد في الحزب سيتم عبر المؤتمر العام وورش العمل. ولجنة المؤتمر العام كان رئيسها (أحمد بابكر نهار) ومقررتها (أميرة أبو طويلة) من الفئة المنسلخة.. تلك الفئة لم تكن أبدا مهمشة بل كانت ممثلة بأكبر من حجمها الذي اتضح الآن.
    عندما همت هذه الفئة الاعتداء على الشرعية عقدت جمعية مباغتة خارج إطار الشرعية التي تستمد وجودها منها، ودعت الناس على أساس عشوائي "مكلفت" في أسبوعين دون أية من ضوابط المؤتمرات المعهودة. كما برز تماما أن الاجتماع تحت حضانة المؤتمر الوطني وبإمكانيات خارجية.
    مقارنة بين الحدثين: إن القراءة المتعمقة والعارفة بأسباب الانشقاق وظروفه ومآلاته في الستينيات، ثم العالمة بمسببات وإجراءات الاختراق الحالي تظهر التالي:
    - في الستينيات لم يكن الانشقاق بخروج بعض الناس وتكوين حزب جديد على غرار ما حدث في الحزب الاشتراكي أو التحرر الوطني أو كما فعلت جماعة سوبا، بل أن الهيئة البرلمانية انشقت إلى قسمين من داخل البرلمان. صحيح أن شعار الإصلاح الحزبي كان قد رفع منذ مؤتمر أبا في أغسطس 1964م وإبان حكم عبود ولكنه لم يكن سبب الانشقاق فقد اجتمع كل المؤتمرين على ذلك الشعار. لاحقا - وبعد حدوث الخلاف الذي أججه السيد محمد أحمد محجوب وبعض الذين أخفقوا في انتخابات المكتب السياسي والذين شاركوا في نظام عبود وأبعدهم التنظيم الجديد - لاحقا خاض الجناح الذي يقوده رئيس الحزب الانتخابات ببرنامج "إصلاح وتجديد"، والجناح الآخر من الحزب لم يكن يستند على شرعية انتخاب الهيئة التأسيسية بل على الولاء للإمام. وكان ذلك الشعار يهدف إلى اتخاذ المؤسسية والمؤتمرات وسائل لفك الإسار التقليدي عن حزب نشأ مجددا ولم يدع إلى الانقلاب على المؤسسات. والسيد الصادق المهدي كان قد انتخب رئيسا للحزب عبر مؤسساته. الخلاف إذن لم يكن بين أجهزة الحزب، وإن كان اتخذ شكل خلاف بين الحزب والكيان. أما المؤتمر الحالي فقد كان تزويرا باسم الحزب. والرئيس سمع به من تقارير سرية تسربت عن الجماعة المنظمة للمؤتمر (الرئيس وصلته تقارير عن تحركاتهم وحتى أرقام السيارات التي يستخدمونها للدعوة له ولكنه فضل مراقبة تصرفاتهم حتى نهايتها بدل الأخذ بالشبهات، وقد اعتقدوا أن صمته ذلك جهل منه بما يدور). وقد دعا تجمع سوبا للانقلاب على المؤسسة، وإقامة بنيان من الرمال مكانها.. "نبني فتهدمها الرياح"، وهذا هو مصير هذا التكوين الهش.
    - في الستينيات لم يكن الحزب في حالة كفاح ضد الدكتاتورية أو استنفار لتحقيق التحول الديمقراطي مصادرة أمواله ومكبل إعلاميا كما هو الحال الآن. أما الآن فالحزب في حالة مواجهة لعدة أجندات. وهو مستهدف من أصحاب الأجندة الشمولية، كما هو مستعدى من قبل أصحاب الأجندة الحربية. هذه النقطة مهمة، ففي تاريخ الحزب تكررت مثل هذه الخطوات في عهد مايو عدة مرات، وفي عهد الإنقاذ عدة مرات أيضا، بلاعبين مختلفين كل مرة (كما استهدف كيان الأنصار عدة مرات أيضا) والذين كانوا يرفعون الشعارات المختلفة داخل الحزب أو داخل الهيئة كانوا في كل مرة يتلاعبون بشعارات الإصلاح، ويصل لمغزى ذلك التلاعب كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
    - لقد كان الحزب حين تفجر الخلاف حاكما لا ملاحقا كما بينا، ولكنه تفجر لسببين: الأول ضرورة أن يوجد تنسيق بين رئاسة الحكومة وبين الهيئة البرلمانية والحزب الذي تحكم باسمه، فقد لوحظ غياب تام للتنسيق وتضارب بين موقف الحزب وبين طاقمه الحاكم، بل لقد رفض رئيس الحكومة الانصياع لهيئته البرلمانية ورفض اعتبار الأجهزة الحزبية. هذا التناقض بين الحزب وبين حكومته فاقمه السبب الثاني وهو: غياب إطار يؤسس العلاقة بين الحزب وبين كيان الأنصار وقيادته –أي الإمام. فقد مرت العلاقة بين الحزب والكيان بعدة محطات برزت فيها ضرورة ضبط العلاقة بصورة مؤسسية، وقد كان البيان الصادر من الإمام عبد الرحمن المهدي عام 1950م هو أحد المرجعيات لضرورة الفصل بين الكيانين وتحديد صلاحيات الإمام، ولكن ذلك البيان لم يطور في شكل دستور أو وثيقة تحكم العلاقة، وظلت تلك العلاقة عرضة لاختلاف التفسيرات. ولقد استغل الغاضبون من تكوينات الحزب وأجهزته المشار لهم آنفا على رأسهم السيد محمد أحمد محجوب- هذه الضبابية كوسيلة لمواجهة الضغط من أجهزة الحزب عليه لضرورة تنسيقه معها وانقياده للقرارات الحزبية. وكلا السببين: ضبط العلاقة بين الحزب وحكومته، وضبط العلاقة بين الحزب والكيان الأنصاري نابعين من تناقضات ذاتية في البناء الحزبي. والآن لا يوجد التناقض الأول ببساطة لأن الحزب ليس حاكما، أما فيما يتعلق بالعلاقة بين الحزب والهيئة فقد تكونت لجنة عام 2001م من قيادات في الحزب وفي الهيئة لضبط العلاقة والتمييز بين الحزب والهيئة بصورة مؤسسية. التناقض الذي حدث داخل الحزب لا يتعلق بأمور ذاتية فالدعوة للإصلاح والتجديد تنتظم كل القيادات والكوادر ولا يوجد قيادي واحد –محافظ- يدعو لاستمرارية الحزب بشكله الحالي، والدعوة للإصلاح تم الاتفاق والتنظير لها أن تكون عبر مؤتمر الحزب العام وكونت لجنة له –رئاستها بيد أحد أفراد الجماعة المنسلخة وكذلك مقرريتها. بل لقد ظلت قيادة الانسلاخ تقول أن الحزب لن يعقد مؤتمره العام –وبيدها رئاسة ومقررية لجنة إعداد تصور المؤتمر. ثم أنها لم تعقد تجمعها إلا بعد أن سارت المسيرة وابتدأت المؤتمرات القاعدية بمؤتمر محلية الحوش بتاريخ 9 يونيو 2002م، تلاها مؤتمر المناقل في 10 يوليو 2002م.. نعم لقد بدأت القطرة أول الغيث، لكن المنسلخين تجاهلوها وسارعوا بمؤتمرهم "المكلفت" فقد صارت المسألة سبقين "سبق أول لاستباق أي اتفاق بين الحكومة وقرنق تسقط إثره قسمة الكيكة، وسبق ثاني لاستباق عقد المؤتمر العام للحزب وسقوط كل دعاوي الإصلاح بشرعية ثورية تبرر الحديث عن المشاركة من خارج الأجهزة، لقد أدركت جماعة سوبا أن المؤتمر العام سيقبر كل ادعاءاتهم ويلحق بشعاراتهم البوار".. إن التناقض داخل الحزب الآن تم حول مدى العلاقة مع النظام، فالجماعة المنسلخة ترى الخير كل الخير في المشاركة بأسرع فرصة لأنها تتيح للحزب البناء الذاتي وخدمة جماهيره وبناء إمبراطوريته الاقتصادية ثم المشاركة في صياغة مستقبل البلاد. الغالبية العظمى من قيادات الحزب وجماهيره لا ترى هذه الرؤية، وقد سبق إيرادنا للردود المنطقية على هذه الادعاءات. التناقض الأخير هو بسبب العلاقة مع طرف "خارجي" وقد انحازت فيه الجماعة للطرف الخارجي، تماما كما حدث بالنسبة للحزب الجمهوري الاشتراكي في أوائل الخمسينيات، حيث رأت الحكومة البريطانية أن خط الحزب نحو الاستقلال يضر بمصالحها، فصنعت الحزب الذي استقطب من عضوية حزب الأمة من يخدم خطها، ويعتبر هذا اختراقا للحزب، لا انشقاقا بسبب تناقضات ذاتية. ولقد سبق ذكرنا لأن محاولات الاختراق تمت أيضا في عهد مايو وفي عهد "الإنقاذ" مرتين غير هذه الأخيرة، وغالبا ما كان الاختراق يتم عبر أشخاص عرفوا بانتمائهم للحزب أو للكيان، ولكن الاختراق هذه المرة كان بإمكانيات اكبر وبتخطيط أكبر قدرة على الخداع والتمويه.
    - إن شعارات الإصلاح والتجديد شعارات تجد قبولا عند غالبية قاعدة حزب الأمة فقد انبنى على عقلية تدعو للتجديد. وحينما جرى الاختلاف في الستينيات فإن ثلثي الهيئة البرلمانية وقفت إلى جانب شعارات "الإصلاح". وبعد إجراء انتخابات عام 1968م حاز جناح الإمام على ثلاثين مقعدا وجناح الصادق على ستة وثلاثين مقعدا، بينما فاز ستة من المرشحين الذين أعلنوا أنهم حزب الأمة بدون تمييز موقفهم من الانشقاق . مما يدل على أن الشعارات المرفوعة كانت نابعة من اختلافات داخلية وتناقضات ذاتية. والآن فإن القواعد قد أدركت أن الشعارات التي ترفعها جماعة سوبا 2002م زائفة وناتجة عن اختراق لمصالح الشمولية، فعزلتها وكذلك أغلب القيادات.
    - الانشقاق في الستينيات لم يكن نتيجة مؤامرة على الحزب (ورئيسه) من الكيان ولا هو مؤامرة على الكيان (وإمامه) من الحزب، وأبلغ دليل على ذلك أنه لما حدث الخلاف الموضوعي حول سلطة الحزب على الحكومة ومدى صلاحيات الإمام داخل الحزب، لم يكن أي طرف يعرف من سيقف معه أم مع الطرف الآخر، فقد كان تحديد الموقف من الانشقاق راجع للأفراد أهل الشأن والذين كانت تحركهم مواقفهم الأيديولوجية وولاءاتهم المختلفة التقليدية والفكرية والمصلحية. ولم يدرك أي من الطرفين حجم التأييد الشعبي له في المناطق المختلفة إلا بعد إجراء انتخابات عام 1968م. هذه الضبابية في الموقف الشعبي كان سببها أن الانشقاق لم يكن مقصد أحد دعا له أو خطط. رئيس الحزب –مثلا- مع أن جناحه نال في مجمله أصوات أكثر من تلك التي نالها جناح الإمام، وعدد مقاعد أكبر من مقاعد جناح الإمام، إلا أن عدم المعرفة المسبقة أو الدعاية المسبقة تسبب في ترشيحه في دائرة غالبية عضويتها اتبعت جناح الإمام فلم يفز بها –دائرة الجبلين، واضطر الحزب لترشيحه في دائرة أخرى. الموقف في انسلاخ سوبا مختلف، فالدعوة للتجمع أتت لجهات محددة وبصورة سرية، فالجماعة طافت البقاع وزرعت لنفسها بعض الحشائش هنا وهناك، ثم حجبت "غابات الأمة" عن الاجتماع، لأنها تدرك مسبقا أن الغابات لن ترضى باتباع الحشائش.
    - لأن الخلاف في الستينيات كان بأسباب موضوعية ذاتية فقد أمكن تداركه في الوقت المناسب وإجراء التوحيد بعد تعديل تصورات العلاقة بين الحزب وحكومته، والعلاقة بين الحزب وكيان الأنصار. أما الآن فقد كانت جماهير الحزب حتى وقت قريب تظن الأمر اختلافا في وجهات النظر وظنه البعض ضيقا بسبب بطء خطوات الإصلاح، وكان بعضهم يسعى لرأب الصدع ولإسراع الخطى في حسم الخلافات. ولكن تجمع سوبا كشف الدافع الحقيقي لكل تلك الزوبعة الفنجانية في الماضي، وهو المشاركة في السلطة بدون شروط، ولذلك فقد وقفت قاعدة الحزب بصورة ماردة مع حزبها تلعق أحزان فقدان بعض قياداتها الذين أحسنوا البلاء في الماضي. التعامل الآن ليس مع اختلاف في وجهات النظر بل مع الخروج على الشرعية لصالح الآخرين ولمصالح ذاتية للمنسلخين. وبالرغم من ذلك فالحزب لم يغلق في وجوه المنسلخين الباب.. والطريق ما زال ممهدا للتوبة عن ذلك الإجراء الانسلاخي، واللحاق بالشرعية في مؤتمر 2003م، والمشاركون في سوبا لم يفقدوا عضوية الحزب ولكنهم فقدوا –بعدوانهم على الشرعية- مناصبهم السياسية والتنفيذية.
    ضلال التشبه بانقسام المؤتمر الوطني: لقد أوردنا حين حديثنا في الفصل الأول عن المذكرة الأربعينية، مدى فتنة السيد مبارك بتجربة الانشقاق في المؤتمر الوطني، واعتبار ما يقوم به تكرارا لما قامت به جماعة العشرة في تخلصها من قيادتها "التاريخية" لصالح "التجديد" باعتباره سنة الكون!. فقد قامت جماعة العشرة بتقديم مذكرتها الشهيرة للأمين العام للمؤتمر الوطني حينها. ثم كان ما كان من حشد الأمين للتأييد في مؤتمر 6 أكتوبر 1999م، ثم قرارات 4 رمضان، وإجراءات صفر، والانقسام في المؤتمر الوطني. إننا نجري المقارنة التالية بين الملابسات والظروف التي صاحبت كل من مذكرة العشرة والمذكرة الأربعينية، ثم نجري مقارنة بين ما تبعهما من فرقة:
    مقارنة بين انقسام المؤتمر الوطني وانسلاخ حزب الأمة: لقد شكا العشرة الذين قدموا المذكرة من غياب الشورى داخل المؤتمر وتحكم الأمين العام. ووجود صراع على السلطة استخدم فيه الأمين العام مؤتمر الحزب العام بتاريخ 6 أكتوبر 1999م لصالحه بالحشود الولائية واللوبيات بين المؤتمرين، كما استخدم المجلس الوطني في الصراع.. استخدم خصوم الأمين العام الدولة وأقصوه بأجهزتها، فوقع الانقسام. وحينها اتخذ المؤتمر الشعبي التفاهم مع الحركة الشعبية والجيش الشعبي –حامل السلاح- كوسيلة في الصراع، مما اعتبره النظام مبررا لاتخاذ مواقف أمنية ضد المؤتمر الشعبي.
    لقد ذكرنا أن ذلك الانشقاق كان بسبب انعدام الديمقراطية داخل المؤتمر، والجماعة التي قدرت أنها مغبونة لجأت لأسلوب الضغط ثم للسلطة لحسم "غباينها". كما كان في ذلك الانشقاق عامل تناقض ذاتي في ضرورة ضبط العلاقة بين الحزب وحكومته. لقد استفاد خصوم الشعبي في المؤتمر الوطني من الانشقاق جزئيا لأن قيادة الشعبي قد نجحت في عقد الإنقاذ الأول في جذب عداوة الرأي العام السوداني باعتبارها مهندسة الانقلاب، وتكوين مشاكل مع دول الجوار ومع الأسرة الدولية في فترة المؤتمر الشعبي الإسلامي والعربي العالمي. ولكن ليس صحيحا أن ذلك الانشقاق عاد بكل الخير على القائمين به حتى يصير مثالا للاقتداء، والمراسلات بين الدكتورين غازي والترابي مؤخرا تؤيد أن الجماعة بدأت تستشعر سلبيات الانقلاب على القيادة الحزبية. ومهما يكن من أمر، فهو لم يكن لصالح تجديد القيادات أو الانتقال من الشيوخ للشباب كما تكرر ذلك الجماعة المنسلخة، ولقد اعترف الدكتور غازي صلاح الدين صراحة في خطابه للشيخ الترابي أن المؤتمر الوطني فقد قاعدته الشبابية والطلابية والنسائية بعد الانشقاق. هذا الانقسام الذي حدث في صفوف أخوة الأمس –بحيث فشلت في التوسط بينهم كل القوى والشخصيات الصديقة، وشمتت بهم الأعداء، وأذاعت سرهم وجعلتهم يتلمسون مساقط بعضهم الآخر- هذا الاقتداء بئس الاقتداء للأسباب الآتية: الاختلاف لم يبحث ويحسم ديمقراطيا بل حسم بأجهزة السلطة وتعطيل أجهزة الحزب- الحسم عن طريق السلطة لم يكن شافيا مما أدى لانقسام شامل- الانقسام نفسه لم يحسم التأزم لأن المؤتمر الوطني ما زال يعاني من آثار الاختلاف- محاولة حسم الخلاف عن طرق أجهزة الدولة أدت لإدخال عوامل أخرى في الصراع، وهي عوامل ما زالت تشكل هاجسا لا يهدأ.. هل هذا السيناريو المنفر قدوة لأحد؟.. اللهم إلا المتنبي بعد أن يئس من سيف الدولة أمير دولة بني حمدان فخرج عن دولته مخذولا وأنشد يقول:
    كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
    والمتنبي في حالة "تمني المنايا" قصد كافورا الإخشيدي "بالفسطاط" يقول "ومن قصد البحر استقل السواقيا!"، وما كانت نهايته إلا "منايا في منايا" حيث هرب من مصر مخذولا خذلانا أشد، وعلم أين البحر وأين الجفاف والظمأ.. فهل هي حالة "جماعة سوبا" في برمهم بأخوتهم داخل الحزب وارتمائهم في "فسطاطهم" الجديد؟.
    ولنتساءل ما هو الموقف الذي أدى للمذكرة الأربعينية؟:
    - السيد مبارك وجماعته ينظرون لكثير من قيادات الحزب وكوادره بصورة إقصائية ولا يرون مكانا لهم بينهم، ويعتقدون بضرورة إجراء حملات ثورية وقد دعوا لشرعية ثورية، وهم يعتقدون أن رئيس الحزب بجماهيريته قادر على القيام بهذا الإجراء الجراحي، لذلك رأوا مخاطبته والضغط عليه لذلك.
    - ونسبة لهذا المزاج الإقصائي فهذه الجماعة لا تعترف بالأجهزة التي تجمعهم مع الآخرين.
    - هذه الجماعة تشكو من أنها متيقنة تماما من أن ثوابت الإنقاذ صارت ثوابت وطنية، ولكن الحزب به "حالمين" يظنون أن الإنقاذ يمكن أن تصل معهم لاتفاق أفضل مما تحصلوا عليه بالحوار، اتفاق يكون فيه تحول ديمقراطي وغير ذلك من الأحلام. والشخص الوحيد القادر على إقناع الجماهير بأن هذه مجرد أحلام هو الرئيس، ويجب الضغط عليه أيضا، ومن خارج الأجهزة ليستجيب.
    - السيد مبارك ينظر لدوره الحزبي والقيادي بتضخيم كبير. صحيح أن الكوادر ونسبة كبيرة من القواعد يدركون للسيد مبارك دوره في المعارضة الخارجية ويقدرون نضاله، ولكن ذلك لا يتناسب مع الدور الخرافي الذي ينسبه لنفسه. ولذلك فلا بد أن يضغط لإعطائه الحجم الذي يرى أنه يستحقه في القيادة وأن يكون ذلك كمنحة من الرئيس لا من الأجهزة التي يكفر بها.
    - والسيد مبارك من ضمن تضخيمه لدوره يضخم أيضا قدراته، ويظن أنه الوحيد في حزب الأمة القادر على حساب السياسة حسابا دقيقا. رئيس الحزب في رأيه يتحرك بأكاديمية ولا يعي أساليب السياسة ويغرق في مثاليته ولا يعلم كيف تؤكل الكتف.. هذا الرئيس له مقدرات معينة جماهيرية وتعبوية ينبغي أن يضعها في خدمة سياسة السيد مبارك المحسوبة.. وبذلك ينبغي الضغط عليه.
    - ورئيس الحزب هذا تقاعس عن الدفع نحو المشاركة (مما يعني أنه لا يرغبها).. هذه مشكلة كبيرة فلولا ذلك لخرج القرار في صالح المشاركة، إنه يحمل مفاتيح الجماهير، ولكنه متقاعس! عن المشاركة!.
    - والسيد مبارك بناء على قراءات خاطئة للتاريخ جاهلة بسيره يعتقد أن السيد الصادق قد مكن لنفسه داخل الحزب والكيان عبر الانشقاق في الستينيات بحيث "احتل" المكان الثاني كتعويض عن تراجعه. وهو يريد أن يضغط أيضا الآن ليحتل المكان الثاني.. كأن الحزب إقطاعية للسيد الصادق يسترضي بها الآخرين.. وكأن مشوار المؤسسية الذي يجعل الفصل في المناصب للجماهير لم يتم السير فيه. لقد بينا آنفا أن زعامة السيد الصادق للحزب لم تكن محل تنازع فقد فاز بانتخابات رئاسة الحزب بأغلبية ساحقة، وأنه لم ينازع الإمام في منصبه بالكيان، فقد أورد الفاتح عبد السلام أن البعض من قيادات الحزب والكيان كانوا يرون الصادق هو الأنسب للإمامة، ولكنه قال "إنصافا للصادق فإنه لم يذكر أبدا تلك المسألة كأحد عوامل خلافه مع عمه الإمام الهادي" . ولكن السيد مبارك يستبطن عقلية "حجز المقاعد" بأسلوب بعيد عن نهج الحزب. إن مقام السيد الصادق في الحزب والكيان مبني على مواقف لو خالفها هو نفسه لانقلبت عليه جماهير الحزب كما قال بلسانه في إحدى لقاءات "بين الصحافة والسياسة" وقد قال شاعر الحزب مصداقا لذلك مخاطبا رئيس الحزب:
    صفنا ديمة ثابت ونحن شادين أزرك وإن قصّرت في سوداننا ما بنعذرك!
    الشاهد.. يمكنني أن أكتب مليون جملة من الجمل التي يفكر بها أهل سوبا: نرجسية مفرطة! (بتضخيم الذات). ودكتاتورية عجيبة! (تفرض على الرئيس آراء ورؤى معينة) وإقصائية لا حد لها!! (ترى إزاحة كل من لا يعجبهم). قال لي أحد الأحباب أنه استفسر السيد مبارك حول تصريحاته الشهيرة، فقال له: "قلت للصادق، يا أخي المسألة دي حساباتها كدة وكدة وكدة، وأنا أشطر منك".. وهذه الجملة تفسر لماذا كل هذا الغضب، فالسيد مبارك يعتقد بحق أن مقدراته في السياسة وفي قراءتها وفي تحليلها هي الأكبر من جميع زملائه بدون فرز، وليست هذه هي الجناية، إنما المشكلة أن تعتقد أن على الجميع أيضا اعتناق هذا الرأي، والأكثر من ذلك، أن يعاقبوا على عدم اعتناقهم إياه، أولا بمذكرة استعلائية المنطق، وثانيا بهجمة صحافية لا ترعى إلا ولا ذمة، ثم أخيرا بمحاولة حلهم وقبرهم أحياء في سوبا!!. وكل تلك الأفاعيل أظهرت أن السيد مبارك وباعه في السياسة يقارن بالشيخ جعفر الذي قيل فيه: "وسفنجة جاءت لشرب بحر، وشمعة ضاءت لشمس ظهر، والشيخ جعفر في مجال الفكر.. ثلاثة مضحكة لعمري!
    لم يرض المتنبي لأن سيف الدولة لم يقدره كما يستحق في ظنه، ولم يرض السيد مبارك لأن حزب الأمة لم يعطه قياده كما ينبغي في رأيه.. ولأنه كان في حالة تمني المنايا، فقد أشار -السيد مبارك - في "كافوريته" لحزب المؤتمر الوطني وتجربته بفتون شديد في لقائه الصحفي المعلوم..أما كان المثل الأفضل له أن يشير للأحزاب الديمقراطية أمثال حزب المحافظين في بريطانيا، وللنقلات الحضارية أمثال ما حدث مع حزب المؤتمر في جنوب إفريقيا؟ إن الإصلاح والتجديد في تلك الكيانات أتى بصور ديمقراطية وبتماسك في الجسم السياسي المعني.. وغاية حزب الأمة أن يخط مسيرته على نهج الديمقراطية لا نهج الاستئصال.
    حساب الانسلاخيين: لقد بينا أن مثال انقسام المؤتمر الوطني ليس نموذجا يحتذي بأي حال، ولو استطاع أهله تفاديه لما تمنوه، ثم بينا اختلاف الظروف والملابسات في الحالين، ولكن الأهم أن قياس انقسام المؤتمر الوطني بانسلاخ حزب الأمة سيخرج الجماعة المنسلخة بحساب خاسر:
    إن جوقة سوبا لم تعاني من تهميش ولا تحكم، بل لقد كانت ممثلة ومشاركة في شئون الحزب بأكبر من حجمها. لقد حاولت تلك الجوقة إقصاء الآخرين باسم الشرعية من قبل، فقد كان السيد مبارك أثناء إدارة العمل من الخارج يعتبر الشرعية مرادفة للانفراد وإقصاء الآخرين. وقد حاولوا إقصاء الآخرين إبان اجتماعات فبراير ثم أغسطس 2000، ثم فيما أسموه "الشرعية الثورية" في مذكرتهم الأربعينية، حيث كان التنظير لإقصاء جميع قيادات الحزب ما عدا رئيسه والأمين العام لصالح جوقتهم. وقد حاول الحزب الحفاظ على تماسكه الداخلي والاحتفاظ بهم ما أمكن حتى المؤتمر العام الذي يبني الشرعية الجديدة المتفق عليها، ولم يتحرك الحزب ضدهم ويعزلهم عن مناصبهم حتى اعتدوا على الشرعية وحلوا الحزب بدون وجه حق. بل لقد مد لهم الحزب مدا رغم التجاوزات وحاول البناء على الإيجابي من تحركاتهم مهما صبت في قالب عدائي- أبرز دليل على ذلك لقاء مبارك قرنق بلندن يوم الأحد 3 مارس 2002 والذي تم من وراء ظهر المؤسسة وبالتنسيق مع النظام، مع هذا التجاوز الظاهر لم يلتفت الحزب للناحية الإجرائية وبنى على إيجابية اللقاء بالحركة. كما أن حزب الأمة ملتزم بالجهاد المدني ونبذ العنف وعدم التحالف مع القوى التي تحمل السلاح. وهو حزب صديق لدول الجوار وله صورة إيجابية في الأسرة الدولية من حيث تمثيل الشرعية ومراعاة حقوق الإنسان، فلن يربح من يبتعد عنه في هذه المجالات بل يخسر (وقد حدث فعلا في لقائهم بالحكومة المصرية الوارد ذكره في الخاتمة).
    محصلة المقارنة هي: جماعة المؤتمر الوطني استفادت من الانشقاق بالقضاء على التناقض بين الحزب والحكومة نهائيا لصالح الحكومة بسلطة الدولة، واستفادت من التخلص من لغة تصدير التشدد الإسلامي بعلاقات دبلوماسية أفضل - وأشباه هذه الفائدة سيجنيها حزب الأمة لأن السيد مبارك وجماعته سمموا العمل الحزبي وجعلوا الاجتماعات أماكن للمبارزة بدلا عن التداول الحر، والاستقطاب بدلا عن التعاون، إن الارتياح في وسط صفوف الحزب الآن مرده إلى أن المناخ الذي كانت تشيعه تلك الجماعة داخل الحزب خرج من خانة التنافس لخانة الإقصاء- والسيد مبارك هو الأكثر عداوة وتطرفا في الخصومة للآخرين خارج الحزب بشكل لم يحتمل فيه اختلاف الآراء أو تنسيق العمل من قبل. لقد كان العمل المضاد لحزب الأمة في مؤتمر هيئة قيادة التجمع الشهير في مارس 2000 في إرتريا والذي خرج إثره حزب الأمة من التجمع، كان ذلك العمل المقصود الأول منه هو أمين عام التجمع حينها (السيد مبارك المهدي) فقد ضاق به زملاؤه وضاقوا بانفراده بالرأي واستخفافه بالآخرين، ولكن الحزب رأى أن تلك الأمور ما كان يجب أن تبلغ ما بلغته من زملائنا في التجمع لأن الشأن العام أبدى من الخاص، واعتبر أن ذلك العمل العدائي لم يراع دور حزب الأمة ولا دور السيد مبارك في التجمع، هذا علاوة على أن الأخوة في التجمع كانوا يصمون آذانهم على المستجدات، فقرر الحزب الانسحاب.
    وفي الرأي العام السوداني أفلح السيد مبارك في اصطياد الانتقادات ولم يشغل نفسه بما يتداوله الشارع يوما في عماء سياسي بالغ، بل لم يرعو أن يربط اسمه واسم حركته "الإصلاحية" بصحف ارتبطت في المخيلة السودانية بالطلاح. ولذلك، فقد انهال التعاطف الآن على الحزب من جميع القوى السياسية الداخلية بل والدبلوماسية.. وأذكر أنه في لقاء اجتماعي مطلع هذا العام جلست إلى جوار العم مبارك وتبادلنا وجهات النظر حول أسلوب القيادة في حزب الأمة وقضية المشاركة، فتطرقت لأهمية الرأي العام داخل الحزب وخارجه وكيف أنه لا يهضم مسألة المشاركة في سلطة "الإنقاذ"، قال لي السيد مبارك حينها: كم توزع أكثر الجرائد توزيعا عشرة ألف نسخة؟ ومن يقرأها؟ إنهم شريحة محدودة لم ترض عنا يوما ولن ترضى ولا يجب أن نشغل أنفسنا بهؤلاء.. وقد تعجبت لهذا المنطق ولا زلت، إن السيد مبارك صار يتبع الأسلوب الشمولي في طرح وجمع البشر. الأسلوب الشمولي ينكر أن يكون القادة في المجتمع يمثلون قواعدهم، وينكر أن تكون الصفوة المثقفة لها أي علاقة بنبض الشارع.. والأسلوب الشمولي يستسهل التعامل مع الرأي العام الذي تعكسه الصحافة باختزاله إلى أعداد المواطنين الذين يتابعون الصحف ويتأثرون بالتالي بما يدور على صفحاتها. ولكن هذا الأسلوب ينسى تماما الحقائق الآتية: أن مصائر الشعوب لا تسطره الجماهير (الصامتة) التي يتحدثون عنها بل القلة المتحدثة التي تحمل الهم وتعبر عنه. وأن أي عملية تستهدف التغيير بالوسائل السلمية أو حتى الثورية لا يمكن أن تمر بدون إشراك فعال لهذه القلة (المتحدثة) التي تقود الرأي العام، وهذا ما يجعل حزب الأمة يعتبر أنه يكتب التاريخ من موقع الجماهير (المتحدثة) لا موقع الوزارات التي تخصم من ميزانيات الشعب أكثر مما تتقلده من مهام، شهد بذلك الأستاذ تاج السر شبو أن تصريحات حزب الأمة وتعليقاته التي تقود الرأي تفوق كل القوى المعارضة. الشاهد أن هذا الأسلوب "الكمي" في تقييم جهات الفعل يغيب عليه أيضا أن أية مفاوضات ستجري ستكون تحت سيطرة السلطة الرابعة (الإعلام) الذي يكون حاضرا حتى ولو غيبت شخوصه، فالمفاوضون أنفسهم يهابون تلك السلطة الآمرة الناهية، وحقيقة أخيرة أن الصحافة برغم تخلفها البائن فهي أكثر الجوانب السودانية تقدما، وهي تفوق غالب الأحزاب (في الحكومة والمعارضة) في تعبيرها عن جماهير السودانيين بمختلف مشاربهم من خلال هامش الحرية المتاح ورغم القيود.
    وقد كان من خسائر جماعة المؤتمر الوطني –حسب اعترافاتهم السرية التي أذيعت- تناقص قاعدتهم خاصة عند الشباب والطلاب والمرأة. كما كان من خسائرهم افتقادهم لرمزهم الكاريزمي الأول، ولبعض الثقل الفكري، مع وجود كوادر فكرية مؤهلة وقفت مع المؤتمر الوطني، وهذه هي خسائر ثلة سوبا مضخمة إذ يقفون في صحراء فكرية لا واحة لها وخواء مميت، تشهد بذلك أوراقهم المقدمة، وكلماتهم التي ذبحوا فيها العربية ذبحا كما ذبحوا العقل والمنطق، مما يدل على ذلك السقوط الفكري والتنظيري المريع، وهم لم يخفوا ذلك إذ قالوا: لا تنظير بل تطوير- وقد ساق لهم ذلك الشعار السخرية، فعلى حد تعبير الأستاذ الحاج وراق –الأمين العام لحركة حق والمدير العام لصحيفة الحرية- في عموده "مسارب الضي" والذي كتبه بعنوان "مباركُ الوقوع" إثر أحداث سوبا أن التطوير نفسه يحتاج إلى تنظير وأن الشيء الوحيد الذي لا يحتاج لتنظير هو "الهبر" الذي يحتاج فقط لتبرير!. وفي الفصل السادس من هذا الكتاب (الرد على حجج سوبا) نتطرق لضرورة التنظير للكيانات السياسية بشيء من التفصيل.
    أما بالنسبة للفقد البشري، فإن كل من استطاعت استمالتهم الجماعة هم من القيادات والكوادر الوسيطة، أما القاعدة فوقفت بصلابتها المعهودة عازلة لهذه الجماعة. والجماعة المنسلخة من حزب الأمة فقدت قياداتها الشرعية بقوة أجهزة الحزب وصلابة موقفه..
    إن حسابات الجماعة المنسلخة إذا قيست بتجربة المؤتمر الوطني فستنتج عن خسائر جماعة المؤتمر الوطني (ناقصا فوائده)، مضافا إليها استدرار السخط الشعبي. والربح الوحيد هو المشاركة في السلطة مع جماعة أخرى لم تطق المشاركة من قبل مع أحد، اللهم إلا بعض القيادات الحزبية التي انبتت عن أحزابها الأصل وأطروحاتها الفكرية!. لقد قال قائلهم: "نشارك بل نشارك بل نشارك دون جهجهة ######رية".. وإني أخاف أن تجر لهم تلك المشاركة "الجهجهة" كما جرت لهم "السخرية".. بعد أن أهرقوا عليها تواريخ النضال والزمالة دما مسترخصا..
    حسابات حزب الأمة: أما حزب الأمة فإنه فقد بعض قياداته الذين أبلوا في الماضي- وهو فقد أليم مهما قلت أعداده، ولكن الحزب متعود على ذلك الفقدان مع الاختراقات المستمرة إبان الديكتاتوريات والتي يتعرض لها بحسبانه الرقم الشعبي الأول. والحزب سيؤثر على صورته سلبا أن يخرج من داخله قيادات يجعلون همهم الإساءة له ولتنظيماته ولسياساته ولقياداته كما درجت الجماعة المنسلخة ووظفت لذلك صحفا ساندتها فلم تدخر ذخرا في نشر الأكاذيب وتمويه الحقائق وإشاعة الشائعات ونثر المغالطات حول كل صغيرة أو كبيرة في الحزب. بل وبعض أفراد الجماعة المنسلخة أخذ من وسائل الأوتقراطيين في الخوض في الأمور الشخصية واستهداف اغتيال شخصية المخالفين فلم يراعو إلا ولا ذمة، وذلك في مجالسهم الخاصة، وشائعاتهم المسربة، وعلى حد تعبير الحبيبة رشا عوض فإن "مجالس الغيبة والنميمة المذكورة هي جزء أصيل من المشروع الإصلاحي التجديدي المزعوم" . هذا النهج مع أنه يحط من الممارسة السياسية ويشيع الفاحشة بين الذين آمنوا، إلا أنه لا يدل إلا على قول المسيح عليه السلام "كل إناء بما فيه ينضح". ولذلك فهو يخصم من صاحبه ويضيف لغريمه. لقد حاولت كل الأوتقراطيات نزال حزبنا باغتيال الشخصية فما أفلحت وأفلحنا، وخسرت وربحنا، هكذا قال الإمام المهدي عليه السلام: "المنن في طي المحن والمزايا في طي البلايا"، وقال: "ناري هذه أوقدها الله وأعدائي حولها كالفراش، كلما اقتربوا منها أحرقوا بها وصار أمري فاشي".. إنه ليسؤنا أن يذهب أخوة الأمس مذهبا يمس عهدنا الذي تعاهدناه، وقضيتنا التي تآزرنا من أجلها ولكنك لا تهدي من أحببت.
    وحزب الأمة –الذي كان يعول كثيرا على تطوير نداء الوطن نحو إطار يسمح بالحل السلمي والتحول الديمقراطي الحقيقي- أصاب حواره مع النظام نكسة جراء ضبابية الموقف الحكومي تجاه الاتفاق مع الحزب. وأورد هنا نصا شفاهي الأصل صدر عن السيد الصادق المهدي في تعقيبه على ندوة الأربعاء بتاريخ 14 أغسطس 2002م حول هذا الموضوع، قال: " لقد ساهمت تجربة النظام معنا في حزب الأمة في توسيع فجوة الثقة. لقد أرسلنا لهم موفدين للتفاوض معهم نيابة عن حزب الأمة، فاختاروا اعتبار الموفدين هم حزب الأمة وأن يتفقوا معهم، هذا الإجراء يجعلنا لا نقبل التفاوض معهم إلا بحضرة شهود.. إننا نقول بوضوح تام: أنهم يمكن أن يتفقوا مع من شاءوا ما شاءوا من الاتفاقات، ويمكن أن يطلقوا عليهم ما شاءوا من الأسماء: مجموعة الإصلاح- حزب الأمة الحق- حزب التحرير- أمل السودان.. فلا حجر على الأسماء، ولكن خطل وخطأ ومرفوض أن يعتبروهم حزب الأمة لأن حزب الأمة ليس شيئا هلاميا غير معروف. وللحزب مؤتمرات تأسيسية آخرها المؤتمر العام سنة 1986م، وله مبادئ وقيادة منتخبة وله كفاح ونضال وله تمثيل في الهيئة البرلمانية.. أي محاولة لاعتبار هذه المجموعة المنسلخة من حزب الأمة أنها هي حزب الأمة مغالطة للأعراف السياسية ومخالفة للقانون الذي أصدره النظام نفسه. لأن النظام الآن –حسب طلبنا- اعترف بالقوى السياسية التي كانت ممثلة في الجمعية التأسيسية، وهذه القوى معلوم من الذي يمثلها الآن، ففي الوقت الذي جرت فيه انتخابات الجمعية التأسيسية جرى مؤتمر الحزب العام وانتخبت رئاسة الحزب وأمانته العامة وأجهزته، هذه الأجهزة معلوم أين تقف الآن.. نحن لا مانع لدينا أن تضم الحكومة من أرادت وأن تعطيه ما شاءت من الألقاب والمواقع وتصفه بما أحبت من النعوت، لكن المهم ألا يكون هذا باسم حزب الأمة لأنهم إذا فعلوا ذلك يكون هذا تدليس وتطفيف و(ويل للمطففين) ولا مانع لدينا أن يضموهم حذوك النعل بالنعل- وقع الحافر بالحافر- الحجل بالرجل (حسب الفلكلور السوداني)، وأن يدقوا لهم الطبول وينذروا لهم النذور ويحرقوا لهم البخور.. هذا كله لا يعكر صفونا ولا يعكر من إيجابية موقفنا لأننا نضع الهدف الأساسي خدمة السودان ومصلحته، فلن تعكر مزاجنا هذه الطبول! بل إننا نتوقع شكوى متبادلة من هذا "الحجل" بالذات وهذه "الرجل" بالذات، سيشكو كل منهما من ضيم شديد. نحن أعرف بالحجل الذي مشى لهم بشوكه وسمه "حجل صعب جدا"!! على كل حال "بخيت عليهم":
    لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره
    بالنسبة لنا نحن ما حاولوه وما فعلوه في صفوفنا نشكرهم عليه وإن كان الإنسان لا يشكر على عمل خارج نواياه، نشكرهم لأنهم فعلوا لنا ما نسميه الضارة النافعة. ففي السلطة من يريد أن يثبت أن الأحزاب ضعيفة ومفككة ولا تصلح وأن الديمقراطية نفسها لا تصلح وهذا أسلوب غير مباشر لإبطال الديمقراطية كبديل. ونحن نقول أن هذا منطق غير صحيح ومهزوم وهو تحد لنا لنثبت أننا نستطيع أن نرد على هذه المحاولات وأن نحمي صفوفنا وأن نبرز تكوينا سياسيا ديمقراطيا محكما جامعا قويا خاليا من الأوشاب التي غادرته. إخواننا في النظام أمام طريقين: طريق النهج القومي الذي يرقى لمستويات دولية ويستصحب روح العصر وتطلعات الشعب السوداني وفي هذا يستطيعون أن يلعبوا عبر ماشاكوس دورا قوميا تاريخيا، أو أن يحاولوا خلق مخلوق مشوه ناقص ملفوظ شعبيا ودوليا بتفويت الفرصة على أنفسهم..
    أمامك فاختر أي نهجيك تنهج طريقان شتى مستقيم وأعوج!"
    فالحزب إذن ماض في مخاطبته للنظام وغيره من قوى المعارضة والقوى الإقليمية والدولية المعنية بمسألة السلام والتحول الديمقراطي السوداني، لا تعكر جهوده لتحقيق الأجندة الوطنية هذه التصرفات..
    أما فيما يتعلق بقاعدة حزب الأمة، فإنه لم يهزها كثيرا وجود اختلافات وجهات النظر داخل الحزب مهما علا صوتها وخرج لأجهزة الإعلام، بل عدته أمرا طبيعيا في تمثيل الرأي والرأي الآخر. لكنها تحركت بحماسة منقطعة النظير لإدانة الهجوم على الشرعية وظاهرة الاختراق ومحاولة فرض وصاية على حزب الأمة. هذا هو الذي أثار جماهير حزب الأمة في ما يشبه انتفاضة ترفض الاختراق. لقد تتالت الوفود –رغم الخريف وطوارئ الزراعة- والحماس يكاد يرفعها عن الأرض رفعا.. وانشغل حداتنا في أهزوجات الحماسة ورفع الروح المعنوية، إنه موكب الأعرج الذي يحمله الأعمى، والمبتعد الذي يسن سيفه الصدئ، والمتباطئ الذي يمد ساقه.. إنه نفير تدافعت أجزاؤه للذود عن مؤسسية الحزب وشرعيته. بعضهم حزين لفقد أخوة أعزاء يبدءون بالآية "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"، وبعضهم استفزه الدعم الحكومي للاختراق، وبعضهم يريد تجديد عهده للقيادة، وكلهم يعزمون على إكمال البناء الحزبي في يناير 2003م. قال شاعرنا إبان زيارة وفد الحزب لمنطقته في الشمالية:
    كان النيــل غرف بالكوب عليه يأسر مثلا ينطبق فيــــــــــــك للحكيم وبفسر
    إن أجهزة الحزب الشرعية جنت وسوف تجني خيرا كثيرا وتماسكا عظيما من هذه الانتفاضة. كما أن جماهير الشعب السوداني وقياداته الفكرية والسياسية هبت لمؤازرة حزب الأمة في الصراع بين الديمقراطية التي تمثلها مطالب الحزب، والشمولية التي ترفض تلك المطالب.
    صحيح أن سيناريو إخراج انسلاخ سوبا قد أخذ كثيرا من سيناريو انقسام المؤتمر الوطني، ولكن هذا لا يعني بحال أنه تكرار له، قال المتنبي في رائعته عن "شعب بوان":
    وقد يتشابه الوصفان جدا وموصوفاهما متباعدان
    خلاصة إن السيد مبارك ومجموعته لا يكررون تجربة حزب الأمة في الستينيات، ولا تجربة المؤتمر الوطني في التسعينيات.. إنهم يكررون تجارب الانخراط السياسي التي مر بها من قبل مستوزرو الأحزاب في العهود الديكتاتورية. وبالنسبة لتواريخ الخلاف في حزب الأمة، فإنهم لا يرجعون لتاريخ الانشقاق في الستينيات، بل إلى تاريخ الحزب الاشتراكي وحزب التحرر الوطني "الأمة الحق" في الخمسينيات.

                  

08-27-2012, 08:34 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    الفصل السادس
    حجج سوبا والرد عليها
    ساقت جماعة سوبا –منذ أول حلقاتها التآمرية على الحزب وحتى الحلقة الأخيرة- العديد من الحجج لتبرير الانسلاخ، وهي لم تدع "كرتا" يمكن استخدامه أو إعادة تفسيره حسب منطقها إلا طرقته، ولذلك سيكون الرد على كل تلك الحجج والمبررات غير ممكنا، ولكننا نتناول هنا أهم حجج سوبا، وهي: تطوير لا تنظير- الدعوة للإصلاح- الدعوة للتجديد بحزب الأمة- عدم فاعلية الحزب في ظل سياسته الحالية. والحجة هنا هي دخول دائرة الفعل- لا قداسة في السياسة- عجز الحزب المالي -المشاركة لخدمة الجماهير- الطعن في أجهزة المحاسبة- التحرك القومي- إمامة الأنصار- ودكتاتورية رئيس الحزب وأسريته.
    الحجة الأولى: تطوير لا تنظير
    سبق وأشرنا إلى تعرض الأستاذ الحاج وراق في عموده "مسارب الضي" لهذا الشعار بالاستهجان، وما ساقه من أن التطوير لا يتم بلا تنظير، فمن محامد "سوبا" أنها أتحفت الشارع السياسي السوداني بأدب رصين رصع صفحات الجرائد أمثال الأيام والصحافة والحرية والرأي العام، أدب سبر غور سوبا، صدق الصادق من قبل حين قال أن الشعب السوداني حصيف لا تمر عليه الألاعيب، فهو متخصص في "سلخ جلد النملة" في السياسة. اللهم أضفها لميزان حسنات أهل سوبا، إنا لنكره تتالي سيئاتهم.
    أحاديث الانسلاخيين في هذا الصدد لا تنفك تركز على البعد "العملي" في العملية السياسية وتحط من أهمية الجانب "النظري" فالناس لا تأكل فكرا! هذا بعض ما جرى على ألسنتهم،عكس هذه المقولة هو ما جرى على لسان السيد المسيح "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"!. وقال قائلهم: أن السيد الصادق قد كفانا فكرا يكفي لمدة عشرين عاما. ثم جاءت هتافات المؤتمر "تطوير لا تنظير". ولخطورة هذا الشعار فإننا نفرد له النقاش التالي:
    لماذا الفكر؟
    الفكر ليس عبثا ولا ترفا. إن أية عملية تستهدف النهوض لا يمكن أن تمر إلا عبر عملية فكرية مضنية، وبالنسبة لحزب الأمة فيمكننا الحديث عن ضرورة التنظير للآتي:
    - لابتداع النهضة: فالنهضة السياسية والتنموية والاقتصادية والتكنولوجية تحتاج إلى نهضة ثقافية تؤدي إليها. لقد حدث ذلك في الغرب فالحداثة هي نتاج ثورات ثقافية وسياسية وعلمية متزامنة. بعض الناس في عالم الجنوب يرون أن الثورة الثقافية والتنوير الذي حدث في الغرب كاف لتغطية أرجاء المعمورة، وما على الآخرين إلا الاستفادة من التجربة الغربية ونقلها بحذافيرها. بدأت هذه النحلة مع الإمبراطوريات الاستعمارية التي عضدت حملاتها الشرسة على المستضعفين وبررتها برسالة الرجل الأبيض الحضارية، فغزت تلك الشعوب عسكريا و ثقافيا. وبعد انحسار الاستعمار وعقود من محاولات السير في ركاب مثال الرجل الأبيض اتضح خطل تلك الأطروحة التبريرية. وصارت المحافل العالمية –بدءا بتقرير لجنة الجنوب في أوائل التسعينيات، وتقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية في نوفمبر 1995 بعنوان التنوع البشري الخلاق- صارت تلك المحافل تؤكد أن التنمية (والتطوير) بصورة لا تراعي الثقافة حماقة كبرى، تؤدي إلى فشل خطط التنمية، وإلى خيانة الإرث وفقدان (روح) المجتمع، التنمية خارج الإطار الثقافي صار ينظر لها على أنها نمو بلا روح (فهي كورم الغريق) . لقد أكد "التنوع البشري الخلاق" أن لكل مجتمع طريقه الفريد للنهضة. هذا الطريق يعتمد على مقدرة المجتمع المعني على الخلق والإبداعية والزراعة في الأرض البكر: في الفكر- في السياسة- في التنمية- في الفن..الخ. هذا الخلق وتلك الإبداعية تنبعان من رؤية فكرية عميقة واعية بمعطيات بيئتها (الفكرية والتاريخية والطبيعية والسياسية) رؤية بمثابة النور. أية محاولة للسير على غير هدي ذلك النور إدلاج يورد صاحبه للمساقط والزلل. وبالتالي، لا يمكن أن يتم تطوير بلا تنظير.
    - وللسودان: كبلد ناقص التكوين القومي، يعاني مشاكل وحدوية وتنموية ويعاني من تعثر بناء الدولة الحديثة بالتالي في ظل تنوع طبوغرافي (اختلاف في البيئات والموارد والمشاكل) وديمغرافي (ديني وإثني وثقافي) وتاريخي في أرجائه المختلفة ألهب الخلافات بين أبنائه. في هذه التركيبة تبرز تعقيدات سبيل النهضة، والحاجة للإبداعية الفكرية المنيرة. القالب الغربي مشدود للبيئة التي فيها نبت. والتصورات المحلية بعضها يرجع للمثال الإسلامي التقليدي الذي أفرزه واقع تاريخي –بل وبيئي - معين فسر المجتهدون حينها النصوص عليه، في ذلك الواقع العدائي بين المسلمين وبين غيرهم تم إسقاط أية قيمة دينية للأديان الأخرى، وتم تقسيم الدنيا إلى دار حرب ودار سلام، هذا النموذج سيكون بابا للفتنة الدينية العالمية التي يخسر فيها الإسلام الدين ويخسر فيها المسلمون البشر، وتسقط فيها إمكانية الدولة القومية السودانية. بعض التصورات الوطنية تتعلق بمفاهيم قبلية للعزة وللفخر، وتواريخ قبلية بنيت على الغارات والرهبة بالقوة وكلها لا تصلح أساسا للتعايش ولا للتكوين القومي. إن في الإسلام مجال عريض لاجتهادات تقبل بقيمة دينية للآخرين، وفي الثقافات المحلية تواريخ للتعايش والتسامح.. ولكن الوصول للصيغة التي تستنطق الأصول لصالح الدولة القومية، وتمتص عبر الجذور غذاء ينمي ثمرتنا الوطنية شيء لا يأتي بصورة تلقائية بل يحتاج لعمل مضن وفق تخطيط سليم وتنظير مستنير.
    - ثنائيات يلعب الحزب في توفيقها دورا: أيضا في السودان ثنائيات بين الشمال والجنوب، وبين سودان النيل وسودان الغرب، وبين القطاع التقليدي والقطاع الحديث.. ثنائيات يستطيع حزب الأمة وفق خطة فكرية واعية بتلك المعطيات أن يخرج بصيغة تحفظ التوازن القومي لأنه الأكثر تأهيلا لذلك . وهذا كله لا يتم إلا عبر اجتهاد فكري مضن وعميق.
    - وبالنسبة للمهدية: حزب الأمة الذي يستند على قاعدة غالبها من الأنصار يواجه تحديات جمة أول خطوات مواجهتها فكرة نيرة. إذا لم يفلح الحزب في التعامل مع بعده الأنصاري بصورة تميز بينه وبين الكيان الأنصاري في المؤسسات وفي التمويل وفي أسس الولاء يدخل في متاهات وجودية. وإذا لم يفلح الحزب في التعامل مع الإرث المهدوي بصورة تجعله يستصحب كل النقلات الفكرية والعملية الهامة في المهدية (التجدد المستمر- التأصيل الديني والقومي في ذات الآن "أي السودنة"- الاستنفار والعزم والحزم "في مقابل التسيب والسبهللية"- استبدال مفاهيم العزة القبلية بالكفاءة- إرث المحبة والخطاب المنضبط أخلاقيا الظاهر في رسائل الإمام المهدي"، ثم يستصحب النقلة الفكرية والسياسية في المهدية في طورها الثاني (من الأحادية للتعددية والتعايش والتسامح- ومن الانعزالية للانفتاح على العصر الحديث)، إذا لم يستصحب الحزب تلك الجذور ويصبها في قالب حديث مؤسسي فإنه يخون إرثه أو يبدد عصره.. هذه نقلة تبدأ بالفكر كما ذكرنا.
    - وبالنسبة للإسلام: حزب الأمة حزب سياسي سوداني غالبيته من المسلمين، والمسلمون في كافة أقطارهم لم يصلوا للصيغة المثلى للنهضة التي لا تخون إرثهم وتخرجهم من خانة الاستلاب أو تعصمهم من خانة التحجر وإعطاء ظهورهم للواقع. لم تحسم بعد ثنائية الأصل والعصر بين المسلمين حول مسائل: المعرفة- الدولة- الاقتصاد- التنمية- المرأة- حقوق الإنسان- العولمة.. وغيرها من القضايا التي تطرح نفسها بإلحاح العصر وتصطدم بقوة الأصل. لا مجال لبيع أي منهما لصالح الآخر، وهناك مجال لتعدد الاجتهادات حولهما.. إن الوصول لمعادلة فكرية تبين طريق النهضة في هذه الجوانب وغيرها على أساس لا يخون الإرث ولا يصم إذنه عن العصر، ضروري لولادة النهضة نفسها.
    التنظير للكيانات السياسية هو بمثابة الشمس للنبات، لا تستغني عنها إلا نباتات الظل، وتلك تعيش تحت رحمة نباتات أخرى ولا تشق أبدا عنان السماء. شعار سوبا "تطوير لا تنظير" شعار خاطئ وواهم، ومن الأحرى أن يقال: تطوير مع التنظير. هذا على صعيد رفع الشعار. ولكننا في نقدنا لأسلوب جماعة سوبا نرى أن ما يقومون به –ربما بسبب غياب التنظير- هو في حقيقته "تقبير" إذا تبعه الحزب لكان مصيره الفناء.
    الحجة الثانية: الإصلاح
    لقد تعرضنا في فصول سابقة عرضا لمسألة الإصلاح والتجديد التي لوح بها مبارك المهدي في تصريحاته. ثم انعقد مؤتمر سوبا المزعوم تحت هذا الشعار. ومن الطبيعي أن الشعار يحتوي على مفهومين مختلفين، ولذلك فسيتم تناولهما بصورة منفصلة برغم أنهما كانا يساقان بارتباط لازم:
    الإصلاح لدى الكيانات السياسية يعني التقويم: في المنهج (التكتيكات المتبعة)، وفي البرنامج (الاستراتيجيات المرسومة)، وفي أسس العضوية، ومعايير التصعيد، والآلية أو الأجهزة (التنظيمات والهياكل والمؤسسات). وللإصلاح أو التقويم نفسه وسائل وآليات.
    وقبل الحديث عن مفهوم الإصلاح بصورة مفصلة ومناقشة ذلك فيما يخص حزب الأمة، أرى أن نحاول التفكر في معايير الكيانات السياسية في عوالمنا، وكيف يتم الإصلاح وفق تلك المعايير؟
    معايير الكيانات السياسية
    الكيانات السياسية نوعان: تقليدية وحديثة. هذا التصنيف لا يوجد في بلدان عالم الجنوب بشكل قاطع، فالكيانات المسماة تقليدية استصحبت بعض مظاهر الحداثة، والكيانات المسماة حديثة استصحبت بعض المظاهر التقليدية. ويمكننا وضع المعايير التالية للأسس التقليدية والأسس الحديثة للكيانات السياسية:
    المعيار الأساس التقليدي الأساس الحديث
    1- الالتحاق بالكيان (العضوية) الولاءات الأولية (القبيلة- الطائفة (بالمولد)- الجهة- المذهب الديني بالمولد..الخ) الاقتناع بالبرنامج المقدم على أساس أيديولوجي أو مصلحي (طبقي)
    2- شرعية القيادة وراثية (لزعيم القبيلة- شيخ الطائفة..الخ)- أو عبر مجلس شورى مكون اتباعا لتقاليد معروفة. شرعية انتخابية تتبع أسس نيابية ديمقراطية بالتصعيد والنسب المنضبطة.
    3- البرنامج عبارة عن توجيهات أو اجتهادات الزعيم أو الشيخ..الخ، وقد يستصحب ذلك شكل شوري قائم على تقاليد قبلية أو أسرية متعارف عليها. يصاغ البرنامج عبر آليات علمية مدروسة (ورش العمل- السمنارات- الاجتماعات القيادية..الخ) أسس المشاركة في منتديات صياغة البرامج تتم على أسس التصعيد والكفاءة. يعرض البرنامج على المجلس النيابي المعني (الجمعية العمومية- المؤتمر العام..الخ) ويجاز على أسس ديمقراطية.
    4- المنهج (التكتيكات والسياسات) يعتمد المنهج على الاجتهاد الفردي فيما عدا الأشياء التي يتدخل فيها (الزعيم، الشيخ..الخ) موجها لاتخاذ موقف معين. المنابر المعنية تصوغ ديمقراطيا الاتفاق حول التكتيكات والسياسات المختلفة، وتتفق مثلا على الاتحاد حول موقف معين- توزيع الأدوار بين القيادات– حرية الحركة والتصرف في إطار الاستراتيجية المقرة..الخ
    5- الأجهزة (التنظيمات) تختلف باختلاف القالب التقليدي للكيان، ففي الطوائف الصوفية مثلا يكون لكل شيخ شيوخ طائفة مشيخات تابعة من تلامذته وأتباعه. وقد أثبت الطيب محمد الطيب أن المسيد (كمؤسسة تقليدية تعليمية) فيها تقسيم للعمل وتنظيم محكم يشرف عليه الشيخ. التقليدية لا تعني الفوضى ولكن أسس التنظيم فيها تختلف عن الأسس المتبعة في الكيانات الحديثة. التنظيمات والأجهزة في الكيانات الحديثة تكون بصورة مؤسسية. والمؤسسات تجعل تقسيم العمل يتم بناء على الكفاءة، واتباعا لخطط مدروسة في وسائل العمل وغاياته وفي تمويله عبر مناشط اقتصادية مضبوطة بإدارة مالية مدروسة.
    6- معايير التصعيد بالنسبة للزعامة يعمل النسب في كثير من الكيانات التقليدية كأهم العوامل للتصعيد، ولكن هذا لا يعني انعدام اعتبار الكفاءة ولو كانت بدرجة أقل.. تقاس الكفاءة هنا على أسس تقليدية عرفية متبعة، مثلا لدى القبائل المحاربة يكون التصعيد للقيادة على أسس البلاء القتالي وأسس المنعة القبلية..الخ. عند المشيخات والطوائف يتم التصعيد لمراقي الطريقة على أسس معلومة (الكرامة- العلم- الصبر على العبادة..الخ). وهنالك بعض القبائل الأفريقية التي تمارس الديمقراطية بصورة تقليدية بحيث تكون مجالس تقليدية للتشاور وتتخذ الاقتراع وسيلة للتصعيد. يتم التصعيد على أسس خاصة بالعضو، وأخرى خاصة بالمؤسسة: -الأساس الخاصة بالعضو هو الكفاءة - معايير الكفاءة هنا عديدة ومتداخلة يتم في البرنامج التنظير لها ولأولوياتها في درج التصعيد، منها: البلاء والتصدي- التفتح الذهني- الإخلاص- التزام البرنامج- المثابرة- الأسبقية- المقدرة على العمل في فريق..الخ.
    يكون لكل عضو ملف تنظيمي يحوي المعلومات عنه وعن تاريخيه التنظيمي وأوجه قوته ونقاط ضعفه. يستفاد من تلك الملفات لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وعلى هذه الأسس يتم التصعيد.
    الأساس الخاص بالمؤسسة يركز على توازن التمثيل في قيادة المؤسسة لكل مكونات العضوية النوعية والإثنية والدينية..الخ، ويحرص على أن يكون المصعدون مقبولين نسبيا لدى العضوية. ويمكن للمؤسسات أن تستخدم أساليب الانتخاب- الاستبيانات وغيرها للاختيار بين المؤهلين.
    بالطبع لم يتم تتبع كل المعايير التي تتخذها الكيانات السياسية في تكويناتها وآلياتها وبرامجها، ولكن المهم فيما سقناه أعلاه أن تجري تفرقة بين الأسس التقليدية (التي يتوارثها الناس أبا عن جد نقلا بالتوجيه أو الممارسة) وبين الأسس المستحدثة (التي تغير في التقاليد بما يوافق العصر)، والأسس الحديثة (المؤسسية المدروسة التي نشأت مصاحبة للحداثة في الغرب). بهذا المفهوم فإن التقليدية لا تعني العشوائية أو انعدام المعايير، لكنها تعني وجود معايير نابعة من الثقافات المحلية ومتداولة عبر الأجيال استنادا على التقليد وحده وبدون تحديثه أو استصحاب الحداثة.
    وكما تحدث حزبنا عن "الديمقراطية المستدامة" باعتبارها مفهوم يتم عبره أقلمة الديمقراطية في البيئة السودانية، فإننا يجب أن نتحدث عن مفهوم "المؤسسية المستدامة" باعتبارها التنظيم الذي يبتكر المعادلات التي تستند على النهج العملي المدروس، وتستصحب نقاط القوة في التقاليد التنظيمية الموروثة، وتطورها.
    مفهومان للإصلاح الحزبي
    الإصلاح الحزبي في أحد جوانبه هو وضع حد للعشوائية في البرنامج (مثلا هناك كيانات تغير خطابها الاستراتيجي بدون اتساق- هذه عشوائية) والعشوائية في المنهج (بحيث لا يوجد موجه للتكتيكات المتبعة) والعشوائية في الأجهزة (بحيث ينعدم تقسيم العمل والتنظيم والأسس المحددة للتمويل..الخ) والعشوائية في معايير التصعيد (بحيث يتم على أسس غير موضوعية ولا متفق عليها). الإصلاح في هذا الجانب هو التخلص من العشوائية في كل صورها.
    والإصلاح الحزبي في جانب آخر هو نشدان لمثال أفضل في جميع المعايير المتبعة: في العضوية (بحيث تكون مفتوحة قوميا وتسهم في التكون القومي لا في عرقلته) وفي معايير القيادة (بحيث تكون مفتوحة للجميع على أساس الانتخاب الديمقراطي لا الوراثي أو الجهوي أو الديني أو النوعي)، وفي البرنامج (بحيث يعضد الوحدة الوطنية ويتجنب إثارة الفتن الدينية أو الإثنية أو النوعية) وفي المنهج والتكتيكات (بحيث تتبع المثابرة والصدق وتبتعد عن المناورة وتبتعد عن التناقض مع البرنامج الاستراتيجي ومع الضمير الشعبي، ولا تتناقض مع فضائل الأخلاق على النهج الميكافيللي) وفي معايير التصعيد (بحيث يتم ترتيبها بصورة تجعل المقدرات (القوي) مصحوبة بالالتزام والصدقية )الأمين(، ولا تسقط الشعبية فعلى حد تعبير الإمام المهدي: "من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين". الإصلاح في هذا الجانب هو مراجعة الأسس والبرامج والآليات بصورة تعضد التكوين القومي والوحدة الوطنية، وتبتعد عن المعايير التي تؤجج الفتن الدينية والجهوية والنوعية، وتلتزم فضائل الأخلاق مبتعدة عن المناورات والميكافيللية.
    آليات الإصلاح
    وجزء لا يتجزأ من عملية الإصلاح السياسي وسائل وآليات الإصلاح نفسه. فهناك أدب سياسي غزير حول هذه المسألة، وقد شاعت في زمان ما مقولة "المستبد العادل" والتي عانى منها الشرق وثبت خطلها. فالإصلاح يجب أن يكون بصورة ديمقراطية وعبر الشرعية الديمقراطية ذاتها. وفي دساتير الدول والأحزاب آليات للإصلاح عبر الجهات التشريعية والتنفيذية المختلفة، وآليات لسحب الثقة من الأجهزة عديمة الكفاءة. وفي دستور حزب الأمة تعقد الجمعية العمومية –آلية الإصلاح- بدعوة الرئيس أو ثلثي الأعضاء، وهذا الأخير ما يمكن أن يطلق عليه المؤتمر الاستثنائي. لكن أن تأتي جماعة لا تمثل إلا أشخاص حاضريها (وهم حوالي 0.01% من عضوية حزب الأمة عامة وحوالي 22% من قياداته)، وتدعو لاجتماعها سرا فذلك شبيه بالانقلاب على الديمقراطية تآمريا تحت شعار الإصلاح أو الإنقاذ وقد بان خطله.
    طيف الكيانات السياسية السودانية بين التقليد والحداثة
    إذا نظرنا للكيانات السياسية السودانية لوجدناها جميعها تنطوي على سمات تقليدية، وسمات حديثة، وسمات مستحدثة، وسمات عشوائية. فالقبلية مثلا كسمة تقليدية في المجتمع توجد آثارها بدرجات متفاوتة في كل الكيانات السياسية السودانية بلا فرز، وكذلك الجهوية، ووراثة الولاءات السياسية حتى لدى الأحزاب العقائدية فهي تكون أسر تتوارث الشيوعية أو الإخوانية وغيرهما. ولا يوجد حزب سياسي سوداني معروف لا يتخذ برنامجا مطبوعا يعلن عن أنه استراتيجيته في العمل السياسي، وهذه سمة حديثة. والكثير من الكيانات السياسية تتخذ من أساليب الاتصال والفن التقليدية وسائل لنشر أفكارها غير التقليدية وهي أمور مستحدثة. وكذلك لا يخلو حزب سياسي سوداني من سمات يتم فيها التصعيد والتمويل والتصريحات والتكتيكات بشكل لم ترسمه الجماعة بدقة أو غير متفق عليه، وهذا هو سبب الانقسامات المتكررة لأسباب داخلية راجعة للعشوائية في التعامل مع الخلاف، والعشوائية في التصرف بين القيادات الحزبية. فما هو نصيب حزب الأمة؟.
    الإصلاح في حزب الأمة
    حزب الأمة حزب خليط في تكوينه فبعض الناس ينتمون له على أسس تقليدية قبلية أو أنصارية والبعض الآخر يجذبهم البرنامج الذي يطرحه الحزب، النوع الأول من أنواع العضوية تغلب على عضوية الريف، والنوع الثاني توجد أكثر بين عضوية المدن وخريجي وطلاب مؤسسات التعليم العالي. والإصلاح المطلوب في هذا الصدد ألا يحجر شخص من العضوية أو يقلل من شأنه استنادا على الأسس التقليدية، مع إعطاء تلك الأسس نصيبها من الاعتبار في تخطيط أجهزة الحزب. والأداء الذي اتخذته جماعة سوبا هنا هو خطوة للوراء، وللتدليل على ذلك أسوق ما استصحبه أحد المنتمين لتلك الجماعة (وكان من بين عضوية أمانة الإعلام التي كانت أحد أذرعة جماعة سوبا 2002م داخل الحزب) وهو خالد عبد الرحمن –الشهير بخالد تكس- لقد كتب المذكور في جريدة الحرية يعيب على أحد الشابات بالحزب تقلدها منصبا تنفيذيا لأن أهلها لا يتعدون دائرة بحري وأم درمان .
    والسقوط الأكبر في مقياس الإصلاح هو ما يتعلق بمعايير القيادة. فقد أذاعت جماعة سوبا عبر لقاء أخبار العرب الشهير، وعبر الخطاب الممهور بأحرف الذي سبقت إشارتنا له، وفي بيان أصدره السيد مبارك المهدي إلى من سماهم "أحبابنا الأوفياء" ووزع على المصلين في الجمعة بتاريخ 11 يناير 2002م، في كل تلك المناسبات قامت الجماعة المنسلخة بيد كبيرها بالتنظير لأسس لقيادة كيان الأنصار تستند على الوراثة، فمرة هو يدعو لأن يكون الإمام الابن الأكبر للإمام عبد الرحمن، وتارة يدعو لدور أكبر لأبناء أسرة المهدي (هكذا وبدون شرط أن يكونوا قد أبلوا بلاء حسنا أو أن الناس قدموهم للقيادة)، ثم يتردد أنه يدعو لإعادة مجلس الإمامة –وهو مجلس كونه الإمام الصديق ليصرف شئون الأنصار ريثما يختار الأنصار إمامهم شوريا- يدعو لذلك على أن يكون تكوين المجلس وراثيا لأفراده الخمسة من أسرة المهدي –متجاهلا أن ذلك المجلس وسع في أواخر عهد عبود وضم ستة من كبار الأنصار من خارج الأسرة.. وغير مدرك لأن الزمان قد تجاوز تلك الفترة التي كان فيها للأسرة القدح المعلى في الحزب والكيان، وذلك بفعل التطور في المنهج وفي البرنامج. إن الذي يريد أن يصل للمراكز القيادية في الحزب اليوم من أفراد الأسرة عليه أن يثبت نفسه، وأن يتحمل تساؤلات كثيرة حول مؤهلاته، وضجة بالحق وبالباطل فالطريق لهؤلاء صار مليئا بالأشواك.. ولقد انقضى الزمان الذي كانت فيه أماكن أفراد الأسرة محجوزة لو أرادوا، والملاحقات تتبعهم لو صدوا، وكل ذلك بفضل حملات الصادق التنويرية.. إننا الآن نواجه أكثر من الآخرين بالسؤال: ما هو عطاؤك؟.
    الإصلاح في المنهج
    قلنا أن الإصلاح في المنهج قد ينشد تجاوز العشوائية في المنهج وتجاوز تضارب التكتيكات، وأيضا يكون باتخاذ تكتيكات لا تتناقض مع البرنامج، ولا تتناقض مع فضائل الأخلاق ولا تتخذ نهجا ميكافيليا. وفي هذا الصدد فقد كنا تحدثنا عن مذكرة رئيس الحزب ردا على ما ساقه الانخراطيون حول الاستراتيجية والتكتيك مستشهدا بمقولة العز بن عبد السلام: "كل إجراء يناقض مقاصده باطل ". وهذا هو عينه ما تعرض له الدكتور صالح عبد القادر وهو يناقش مسألة البعد الفكري (الاستراتيجي المقصدي) تجاه الإجرائي (التكتيكي اليومي) فقال في معرض مناقشته للمذكرة الأربعينية: "إن واضعي المذكرة أجهدوا أنفسهم وعقولهم في اتجاه تأسيس علاقة ضرورية بين الإصلاح الداخلي والإصلاح الخارجي- المشاركة في السلطة- لكنهم تنكبوا الطريق فإذا كان التجديد الشبابي والمؤسسي لا يرتبط بتجديدات على مستوى الفكر".." يعني ذلك أن المشاركة منتزعة عن الإطار الفكري للحزب، وأنها تدور في إطار المصالح الخاصة وخدمة أهداف أخرى لا علاقة لها بالحزب ولا بقضايا الوطن"، إلى أن يقول عن المذكرة أنها تشير إلى احتمالين: "إما أن المشاركة في السلطة لم تبحث في إطارها الفكري الحزبي لأن واضعيها لم يدر بخلدهم أنها في الأصل قضية فكرية، أو أن واضعيها انسلخوا فكريا عن الحزب، و يتساءل: "فهل يريد السيد مبارك المهدي نسخ بلاء الصادق الفكري ومن ثم بعث الأصولية في الحزب تحت دعاوى التجديد الشبابي المؤسسي أم أن السياسة عنده ممارسة عشوائية وليست براجماتية كما قد يتبادر للذهن من التشبث بالمشاركة.. لأن ممارسة السياسة دون مرجعية فكرية واضحة المعالم والمقولات والمفاهيم تسكن حزبه القطاعي الإنشطاري مع أحزاب الزينة".." وإذا كانت المشاركة لا تستحق إطارا فكريا تدور حوله ويدور حولها فلتشارك كل الأحزاب الإنقاذ خدمة لجماهيرها" .
    وهذا يظهر الأداء السلبي فيما يخص إصلاح أسلوب العمل (التكتيكات) والذي يتبع نظرية "الغاية تبرر الواسطة". لقد سبقت إشارتنا لمسألة الخداع الذي صاحب تجمع سوبا، ونشير إلى الآتي مما يثبت أن هذا المنهج المختل يحكم جماعة سوبا:
    سياسة تمويه الحقائق
    وهذا نهج أصيل في سوبا أصالة المشاركة بدون شروطها. ويمكن أن أسوق فقط بعض الأمثلة التي تدل على أن هذه الجماعة لا تتحرى الصدق أبدا:
    - في منتصف التسعينيات، قبض على شخص مسلح داخل مسجد الهجرة يصلي بين الناس في الصلاة الحاشدة يوم الجمعة وكان مسلحا، وشاع أنه كان ينوي اغتيال السيد الصادق المهدي، ولما سئل السيد الصادق من ذلك قال أنه من جماعة الأمن وربما أتى للتجسس لكنه لم يكن ينوي إصابتي بأذى. حينها ثارت ثائرة السيد مبارك –وكان يقود المواجهة للنظام من الخارج- في أن هذا أسلوب عقيم في السياسة وأنهم كانوا سينتفعون من الرواية الأولى وأن الصادق كان يجب عليه أن يؤكد ذلك للعالم بدلا عن نفيه. إنهم لا يخفون الحقائق فقط، إنهم يستاؤن من الصادقين!
    - وحينما قصفت الحكومة الأمريكية مصنع الشفاء أيد المسألة رغم وقوف حزبه ضد هذا الأسلوب بل لقد قال رئيس الحزب "رب غارة نافعة" فتلك الضربة قد نفعت النظام وأعطته فرصة أن يتجاوز الضغط الشعبي والمظاهرات المطلبية المتفجرة حينها. هذا الموقف يدل على عدم المبدئية واتباع الربح السياسي المباشر. ولكنه يدل أيضا على التدليس، لقد قال السيد مبارك حينها أنه من مول الأمريكان بالمعلومات، وأظهرت التحريات التي أجراها الأمريكان لاحقا أن تلك المعلومات لم تكن صحيحة..
    - وفي مقابلة مبارك في برنامج "في الواجهة" بعد مؤتمر سوبا 2002م والذي أشرت له من قبل، فإن السيد مبارك أراد النيل من السيد الصادق واتهامه بالسعي للكسب الذاتي فأطلق حديثا عابرا عن أن قرار فبراير هو قرار شخصي لم تناقشه الأجهزة وأن الصادق كتب في القرار مسألة "النظام الرئاسي الفرنسي" مع أن هذا ليس رأي الحزب ولم يناقش، فقط ليجد لنفسه مكانا بخلق منصب رئاسة الوزارة.. وبالطبع فإن أي متابع للأحداث يعرف أن السيد الصادق عرضت له رئاسة الوزارة في الإنقاذ مرات عددا، وأنه ظل يقول أنه لن يتقلد أي منصب –ولا حتى إمامة الأنصار التي تدفع نحوها الملايين- لا يتقلد أي منصب بدون انتخاب.. وهذه الفرية ليست فقط كبيرة في حق رجل هذا شأنه، بل كبيرة من قيادي في حزب أن ينكر مبادئ حزبه أو يتنكر لها.. فقد ظل الحزب مهتما بمسألة النظام الأفضل للسودان وصفته وترددت الوصفة الفرنسية في أدبياته، مثلا، جاء في باب "الهيكل الدستوري" في ورقة إصلاح التجمع الوطني الآتي: " لم يعد هنالك شك في أن النظام الدستوري البرلماني يعرض الديمقراطية لخطر عدم الاستقرار. هذه هي القراءة الصحيحة لأزمة الحكم أثناء العهود الديمقراطية في السودان. وهى القراءة الصحيحة لأزمة الحكم في أكبر البلاد الديمقراطية في العالم - الهند الآن. لذلك ينبغي أن نختار النظام الرئاسي الدستوري اللا مركزي على النمط الفرنسي لتحقيق أعلى درجات المشاركة في السلطة التنفيذية لدواعي تحقيق الوحدة الوطنية على أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في المرحلة الانتقالية الأولى بواسطة المجلس التشريعي الانتقالي. " هذا تدليس على الحزب وعلى رئيسه وعلى مبادئه المعلنة والتي يدافع عنها لأجل استقرار البلاد.
    - وبعد أن انسلخت جماعة سوبا في يوليو 2002م ورفعوا شعار الإصلاح الحزبي والتجديد، لم يجدوا بدا من سرقة مجهودات الحزب الذي تبرأوا من دكتاتوريته وشيخوخته وعدم فاعليته وحلوا أجهزته، فنقلوا نقلا من صفحته بالإنترنت لصفحتهم ليس المادة فحسب بل حتى التصميمات والتعريفات المبدئية وما إليه. حتى أن رئيس وحدة المعلومات المشرفة على صفحة الحزب الأصلية (عبد الله الصادق) أصدر بيانا يدين هذا السلوك ويحذر من تبعاته جاء فيه: "يشكل هذا العمل تعديا سافرا على حقوق الطبع، وعلى حقوق الأسبقية، وعلى ملكيتنا الفكرية للتصميم الذي بذلت فيه الوحدة جهدا عزيزا، وعلى ملكيتنا للمادة وطريقة عرضها.. إننا ندين هذا المسلك الشاذ والذي يدل على الإفلاس، والتعدي، ويناقض دعوات التجديد والإصلاح التي رفعها أولئك النفر، أما كان الأجدى أن يبدءوا بابتداع تصميامتهم التجديدية بدلا عن العيش عالة على أفكار وإنتاج الجماعة التي خرجوا عنها، وكيف يكون الإصلاح عبر الخروقات التي يعاقب عليها القانون؟. إننا نعلم الرأي العام بهذا السلوك لتمليكه الحقائق ولإطلاعه على محتوى "الإصلاح" الذي قصدته هذه الجماعة" جاء هذا في بيان بتاريخ 24 يوليو 2002م. وهذه ليست دلائل الكذب إنما الدلائل أن جماعة سوبا ردت على بيان الوحدة المذكور ببيان نشر على صفحات (الوفاق)، وقع على البيان مدير مكتب رئيس المكتب القيادي الانتقالي الفيدرالي لحزب الأمة (مبارك المهدي). ومع أن البيان كان مقتضب الصياغة إلا أنني أحصيت فيه اثنتي عشرة نقطة تحتوي على خطأ أو تضليل أو تمويه أو سهو أو تعمية أو تدليس.. وهي:
    الأولى: ذكر البيان أن اسم الجهة المشرفة على ركن الأمة كانت شعبة المعلومات. والجهة اسمها وحدة المعلومات والإعلام الإلكتروني.
    الثانية: ذكر البيان أن بيان الوحدة بإمضاء رئيس الشعبة، والصحيح أن الإمضاء كان باسم (عبد الله الصادق عبد الله الفاضل المهدي) وصفته رئيس الوحدة كانت تحت الإمضاء للتعريف. هذا التحاشي عن ذكر الاسم للتعمية على حقيقة جهة البيان!.
    الثالثة: ذكر أن الركن أنشأه مدير مكتب السيد مبارك في 1996، والتعمية هي أن المدير حينها كان هو عبد الله صاحب البيان الذي يرد عليه!.
    الرابعة: ذكر أن (شعبة المعلومات) أنشأها السيد مبارك. والسيد مبارك يعلم أن إنشاء الوحدة لم يتم عبره. فقد خاطبته في رسالة بتاريخ 13 مايو 1999م أخبره بما تم بيننا في الخارج لتكوين الوحدة قائلة: " في مطلع هذا الشهر أجريت اتصالا بالأخ عبد الله الصادق لأعلم ما هي مهمة هذه الشبكة المرصودة وتحت أي مسمى تعمل، ولما رد بأنه لا توجد وثيقة تأسيسية لكيان معلوماتي تتبع له هذه الشبكة اقترحت أن نحولها لمؤسسة وأن نكتب ورقة تأسيسية للوحدة نناقشها فيما بيننا ونرفعها لقيادة الحزب لتنظر بشأنها.. كتبت الورقة في 9 مايو وعممت على المجموعة وأعطيت لهم مهلة أسبوع لاكتمال الاتفاق بشأنها لتكون جاهزة لترفع للجهاز القيادي. وأرجو أن تثمر هذه الخطوة تأسيسا لوحدة تغطي عجزنا المعلوماتي وتصلح من شأننا الإعلامي والتنظيمي بتأثير غير مباشر". خاطبته لا لأخذ رأيه أو لأنه أنشأ الوحدة أو لأخذ مباركته، ولكن لأسأله أن يساعدنا في تكوين ذراع للوحدة بالداخل بتوفير أجهزة واشتراك بالإنترنت باعتبار أنه ساعدنا في وحدة الداخل التي أنشأت في عام 1992م.. ولم يأتني رد من السيد مبارك رغم وعده بالمساعدة.. الشاهد، إن مراسلات تلك الوحدة منذ أول خطاب وردود الأحباب جميعا بحوزتي ولا مكان للمغالطة بأن السيد مبارك كان وراء إنشاء الوحدة فقد أخبرناه بتفاصيل ما تم (للعلم) ولمساعدتنا في أمر الداخل، ولكننا خاطبنا المسئول عن العمل الحزبي بالخارج عارضين عليه الفكرة ليتبناها وهو الدكتور عمر نور الدائم الأمين العام للحزب. وقد وصلتني رسالة منه عن طريق الحبيب عبد الله الصادق بالبريد الإلكتروني في 12 مايو 1999م جاء فيها:" كنت أتحدث مع عمى عمر بالتلفون وطلب منى إبلاغك الرسالة الآتية: المجهود الذي بذلتيه مقدر وسيجد منا إنشاء الله كل تقدير ودفع إلى الأمام، بارك الله فيك وكثر من أمثالك "..وهكذا فقد تبنى الدكتور عمر أمر الوحدة التي بعد أن صغنا ورقتها التأسيسية (بإجراء ثلاثة تصويتات على مقترح الورقة التأسيسية الذي كنت صغته أول الأمر- وجميع التصويتات بحوزتي أيضا) بعد ذلك قدمنا له الورقة التأسيسية لوحدة المعلومات والإعلام الإلكتروني (إعداد جماعي)، فأقر إنشاءها. السيد مبارك لم يعمل شيئا في هذا الأمر.
    الخامسة: ذكر أن إنشاءها كان عام 1998. والصحيح أن الوحدة تمت المداولات بشأنها في أول مايو وأجيزت في 1 يونيو 1999م إبان اجتماعات المكتب التنفيذي والاستشاري بالخارج.
    السادسة: ذكر أنه عين مدير مكتبه رئيسا على الوحدة، والصحيح أن رئاسة الوحدة كانت بالانتخاب، حيث اقترحت في الورقة التأسيسية أن يتم انتخاب الرئيس ووافق الأعضاء على ذلك، واقترحت أن يكون الرئيس عبد الله الصادق تقديرا لدوره الكبير في العمل المعلوماتي والإلكتروني، وقد انتخب بالإجماع. ولم يكن للسيد مبارك أي يد في ذلك.
    السابعة: ذكر أن الوحدة حلت في اجتماعات أغسطس 2000م. واجتماعات يوليو/ أغسطس لم تتطرق لأمر الوحدة التي كانت تعمل باستقلالية عن أجهزة الحزب عبر: صفحة الأمة (التي أعيد تصميمها في 2002م)- والشبكة الإلكترونية "أخبار الأمة"- وشبكة مكاتب الأمة، ثم أضفنا لها شبكة قيادات سودان المهجر والتي وإن ساهمت الوحدة في إنشائها إلا أنها تتبع لقطاع سودان المهجر.
    الثامنة: قال أن اجتماعات أغسطس ألحقت الوحدة بأمانة الإعلام التابعة للقطاع السياسي، وهذه من أعجب الادعاءات التي لا تنبغي لمسئول كبير كالسيد مبارك فلو كان يظن الوحدة تعمل تحته لكان من ضمن مسئولياته فكها من إسار (الأسرية) الذي رماها به هو ومسار في برنامج "حديث الساعة". والذي يرد على هذه الأكذوبة، أن الوحدة بعد أن علمت بتكوين لجنة تقويم الأداء رأت أن تخاطب اللجنة لتبحث أمر تنسيقها مع بقية أجهزة الحزب، فخاطبتها بتاريخ 14 فبراير 2002م، وطبقا لذلك فقد خرجت توصيات اللجنة بضم الوحدة كأمانة للمعلومات في قطاع الدراسات والبحوث (وليس القطاع السياسي وأمانة الإعلام). فهل لم يطلع جماعة سوبا على تقرير السيد نقد الله بعد؟.
    التاسعة: أن رباح الصادق تشرف على صفحة الأمة وتتحكم فيها. والحقيقة أن المشرف على الصفحة هو عبد الله الصادق (المدير السابق لمكتب مبارك) ولكن الوحدة الحالية عمل جماعي فهو يستكتبني في بعض الأشياء التاريخية والتعريفية ويستفيد مما يراه. هذه الكذبة للتمويه وحتى تدلف جماعة سوبا لتهم الأسرية، وغيرها من مكونات خطابها المفضوح.
    العاشرة: أنهم نقلوا موقع الحزب بسبب تحكمي عليه، والحقيقة أنهم نقلوه كأمر طبيعي بعد أن انسلخوا بحزبهم و(حشروا مع من أحبوا في المؤتمر الوطني).. فالغريب ليس إنشاءهم لموقع جديد، إنما المستغرب هو "قرصنة أفكار ومجهودات الآخرين وبحوثاتهم في تاريخ الحزب وفي مادته الفكرية"، أم أن الشيء من معدنه لا يستغرب!.
    حادي عشر: أن كل المادة في الموقع من أرشيف مبارك المهدي، والحقيقة أن أرشيف مبارك المهدي الفكري المتعلق بالحزب جله كتابات السيد الصادق المهدي.. وهذا جيد لأن محاولاتهم الأخيرة في التفكير المستقل أفرزت التهافت الذي أشرنا له في الفصل الثاني. ونحن لا نأخذ عليهم التمسح بتلك الكتابات، ولو طلبوها منا لما عزت عليهم، ولكنا نتعجب في قرصنة التصميم الفني (وهو الذي استغرق الوحدة شهورا طويلة عطلت فيها الصفحة حتى خرجت مؤخرا بهذا التصميم الذي أغراهم للسطو)، والنبذة التعريفية للحزب ولتاريخه (وهذه أيضا جهد الوحدة الفكري الخاص الذي أغرق القائمين عليه بين المراجع والكتب) وتصميم تقسيمات الموقع.. إنهم قوم ينشدون "التجديد- والإصلاح- والمؤسسية" فما بالهم يقتاتون على مجهودات أولئك الذين أرهقهم ترهلهم من قبل؟.
    ثاني عشر: وصفني البيان بأنني مديرة مكتب السيد الصادق المهدي. والحقيقة أن مدير مكتب السيد الصادق المهدي هو السيد إبراهيم علي إبراهيم وذلك منذ عام 1962. لاحقا وفي 1991م التحقت بالعمل في مكتب السيد الصادق الخاص وواصلت عملي الإضافي فيه بعد أن عملت كمهندسة في شركة "سالنتوت المحدودة" لمدة ثلاث سنوات ثم تفرغت بعدها للعمل بالمكتب الخاص للسيد الصادق المهدي، ولحقته في القاهرة، وبعد تفلحون كونا المكتب على أساس مؤسسي وصرت أحمل لقب سكرتيرة المعلومات والدراسات لمكتب السيد الصادق المهدي. ولكن هذا التدليس سببه محاولتهم الإشارة لما سموه "الأسرية" والتي رددت عليها في مكان آخر من هذا الكتاب.
    ..في بيان لا يصل إلى نصف الصفحة توجد "دستة" أخطاء بعضها مقصود والآخر سببه عدم الدقة.. أليس هذا رقما قياسيا يستحق "الإشادة" في تمويه الحقائق؟!
    هذا فقط على سبيل المثال، فخطاب هؤلاء القوم غير المنضبط بالحقائق، وتصرفاتهم غير المبدئية لا حدود لها. يكفي فقط لإثبات ذلك تتبع أقوالهم المنشورة في الصحف ومقارنتها عبر الأيام..
    العشوائية مقابل الإصلاح
    وتصرفات هذه الجماعة تتسم بالعشوائية المفرطة، يدل على ذلك تجمعهم بالتنادي في أمر يقاس نجاحه بمدى انضباطه.
    ثم تحول خطاب كبيرهم من العلمانية القحة (حينما كان مفتونا بجماعة قرنق) والعداء المفرط للنظام حينها، إلى الإسلامية المتنطعة (وهو في جبة الإنقاذ الآن). هذه عشوائية في البرنامج. والعجيبة أن السيد مبارك رمى بهذه الخاصية (التذبذبية ورفع الشعارات لأغراض) رمى بها الحركة الشعبية، فقال في برنامج حوار الساعة: "أما فيما يتعلق بالحركة وحديث السيد الصادق عنها، الحركة طبعا ترفع شعارات في غياب البرنامج، شعارات لديها بريق: سودان جديد، ديمقراطية، ليبرالية، التخلص من القوى التقليدية، القوى الحديثة هذه شعارات الحركة وجزء من الشعارات التي رفعتها والنماذج التي اتبعتها يهدف إلى خط استئصالي ، في أدبيات الحركة نجد الكثير من ذلك اذكر خطاب د. جون قرنق في Pan African Congress في كمبالا في 1992م حوى كثير من الجوانب الاستئصالية للآخر على عكس ما ظلت ترفع الحركة به من شعارات حول التعددية الاثنية والعرقية. لا شك أن الحركة تغير أطروحتها حسب الظروف وتستثمر عدالة القضية نفسها في حشد التأييد. ". فهل يكرر السيد مبارك المهدي خطى صديقه، أهو إعجاب دفين؟.
    والعشوائية تظهر أيضا في الأوراق المقدمة التي لا هي عمل مدروس ولا تجميع لرؤى عبر ورش عمل، ولا هي تحتوي على خطط عمل، قال عن "مؤتمر" سوبا السيد مبارك بالحرف: " هذا المؤتمر لم يكن وليد تخطيط لزمن طويل- وهو كما التأم هنا أقرب إلى الخيال"!، وقال: "تنادينا في أسبوعين وجاء العدد ضعف ما نتوقع"! ولكنه: علمي ومدروس، وخرج بتوصيات!. وهذه هي العشوائية بعينها.
    الحجة الثالثة :التجديد الحزبي
    التجديد قد يعني مواكبة العصر واستصحاب منجزات الحداثة، سواء أكان ذلك في معايير العضوية أم الأجهزة أم التصعيد إلى آخر القائمة. والتجديد قد يعني تجديد ثياب الأجهزة وهياكلها، وذلك عبر وسائل تقليدية (فمثلا عند الشلك كان الرث يقتل إذا وصل سنا معينة عجز معها عن أداء مهام القبيلة وينصب مكانه آخر شابا) أو عبر وسائل حديثة، باتباع آلية انتخابات دورية لتجديد القيادات- وقد يعني تجديدا في البرامج باستصحاب المستجدات (فمثلا برنامج الاستئصال الذي كانت المعارضة ترد به على استئصال النظام للرأي الآخر يحتاج لتجديد بعد أن أظهر النظام لغة مختلفة)، والتجديد قد يكون في مفاهيم (مثلا التجديد في مفهوم الحزب من وسيلة للسلطة لوسيلة للتنمية المجتمعية، أو في مفهوم المعارضة..الخ).. نتعرض هنا لبعض جوانب التجديد في حزب الأمة ونصيب جماعة سوبا ومخططها الأول من مسألة التجديد.
    التجديد داخل الحزب:
    التجديد والتطور سنة طبيعية واجتماعية وهو ضرورة لبقاء أية مؤسسة أو تنظيم. فالتنظيم الذي لا يتجدد ويتكيف مع المستجدات مصيره الانقراض. حزب الأمة اليوم أكثر الأحزاب السودانية تجديدا يشهد على ذلك تمدده وازدياد شعبيته إذ لو كان جامدا لتآكلت شعبيته. ويتمثل التجديد في الأفكار والمفاهيم كما يشمل الأساليب والوسائل والأشخاص. وسنعرض هنا لبعض أوجه التجديد في الحزب:
    1- التجديد الفكري : أتخذ الحزب من تنظيم ورشات العمل والمؤتمرات وحلقات النقاش وسيلة لتفريخ الأفكار الجديدة التي دأب الحزب على تزويد الساحة السياسية بها وربما لهذا السبب جاء نقد السيد مبارك للحزب بأن نشاطه أكاديمي.
    2- التجديد في مفهوم الحزب السياسي:
    يقدم حزب الأمة نموذجا فريدا بتبنيه لمفهوم جديد للحزب السياسي تتوسع فيه وظائفه واهتماماته لتشمل الاهتمام بكافة قضايا المجتمع والمساهمة في التنوير والتثقيف والأنشطة الاجتماعية والاهتمام بالقطاعات الحديثة وقضاياها مثل الشباب والمرأة وقطاعات الرياضة والفنون وغيرها وبالمجتمع المدني ومنظماته من صحافة ومنظمات طوعيه وغيرها. إن النظرة التقليدية للحزب هي تلك التي تعتبره محض وسيلة للسلطة إن أدركها فهو ناجح وإلا فهو فاشل.
    3- التجديد في مفهوم المعارضة:-
    التقليدية في مفهوم المعارضة تقوم على سعي المعارضة للنيل من الحكومة بأية وسيلة وتصيد أخطائها وعرقلة عملها دون النظر إلى أية ثوابت وطنية أو حزبية. حزب الأمة يقدم الآن نموذجا للمعارضة البناءة الملتزمة بالمبادئ وقد اكتسب الحزب بهذا النموذج مصداقية عالية لدى المجتمع الدولي والإقليمي ولدى القوى السياسية السودانية ولدى المواطن السوداني مكنته من زحزحة الشمولية والاستئصال والأجندة الحربية نحو مربعه.
    4- التجديد في الأشخاص:
    علي صعيد الأجيال: يشكل الشباب نسبة عالية في مؤسسات الحزب القيادية: المكتب القيادي ثلثه من الشباب بالتعريف المتعارف عليه. وثلثاه من الشباب إذا اعتبرنا تعريف السيد مبارك الذي يحشر نفسه في زمرتهم. المكتب السياسي أغلبيته من الشباب.
    5- على صعيد رئاسة الحزب:
    أحب أن أؤكد هنا أن هذه القضية ليست شخصية تتعلق بمقارنة رئيس الحزب بالآخرين. إذ لو أردنا الخوض في هذا لقلنا على سبيل المثال:
    ‌أ- من حيث الأداء البدني: حيث يقاس الأداء بساعات العمل والقدرة على التحرك.. الخ بهذا المقياس رئيس حزب الأمة الآن أكثر شبابا من كل القيادات في الحزب.
    ‌ب- كذلك من حيث الأداء الذهني: كتابة وتفكيرا ومتابعة للمستجدات..الخ.
    ‌ج- من حيث التواصل مع العصر: رئيس الحزب هو أكثر قيادات الحزب تواصلا مع العصر: الأجيال الشابة- القطاعات الحديثة: الرياضة- الفنون- منتديات الفكر- منظمات المجتمع المدني..الخ.
    ‌د- إن ما يأخذه البعض على السيد الصادق هو سيره في التجديد بخطى أسرع مما يحتمله الواقع الاجتماعي والفكري والسياسي السوداني، بل وبأكثر مما يحتمله بعض زملائه السياسيين في الحزب.
    6- وإذا سلمنا جدلا بالحاجة إلى تجديد القيادة في حزب الأمة: ما هي الآلية ومن هو البديل؟ أما الآلية فلا توجد آلية خلاف المؤتمر العام الذي يخضع فيه الجميع للتنافس ليختار الناخب رئيس الحزب. أما البديل فهو الذي ينال ثقة الناخب.
    7- نموذج المؤتمر الوطني في التجديد:
    ‌أ) حزب المؤتمر الوطني ليس من منظمات المجتمع المدني فهو حزب حكومي لم يقم على القدرات الشعبية وهو بهذا يختلف عن حزب الأمة.
    ‌ب) التجديد المزعوم في المؤتمر الوطني تم بإجراءات فوقية ونتج عنه انقسام في الحزب وهذا ليس نموذجا يحتذي.
    ‌ج) حينما انقسم المؤتمر الوطني اتجه معظم الشباب والطلاب والمرأة إلى المؤتمر الشعبي وضم المؤتمر الوطني قادة من الجيل الأول.
    ‌د) الأهم من كل هذا أن حزب المؤتمر قبل انقسامه غابت عنه الشورى وحرية تداول الآراء مما أسفر عنه ذلك التذمر بينما حزب الأمة يخضع لمؤسسية ودرجة عالية من التشاور استثقلها السيد مبارك لأنها حالت دونه ودون تنفيذ رؤيته الداعية للمشاركة في السلطة.
    8) يتضح جليا مما سبق أن كلمة التجديد إن هي إلا شعار يرفعه السيد مبارك لتحقيق أهداف خاصة وليس أدل على ذلك من أنه بينما يطالب بالتجديد في حزب الأمة يدعو لأن تقوم إمامة الأنصار على الوراثة وهذا أساس ممعن في التقليدية. وحتى في الوراثة يقوم الأمر عنده على الترابية العمرية أي أن يكون الإمام الأكبر سنا بغض النظر عن مؤهلاته ومواقفه ورضا الناس به .
    الحجة الرابعة: عدم فاعلية الحزب:
    طفقت جماعة الاختراق الأخير تتحدث عن الالتحاق بالحكومة للمشاركة في تكوين المصير الوطني وإلا صار الحزب بلا فاعلية سياسية واكتفى بالتعليق على الأحداث. بنت هذه الحجة على أن الوسطاء لا يعترفون إلا بالحركة الشعبية والحكومة مما ظهر لدى الإيقاد وفي تقرير السناتور دانفورث. رفض حزب الأمة هذا المنطق وكانت الحجة أن الفاعلية السياسية لا تتوقف على المشاركة في السلطة ولا حتى التعاون مع النظام في القضايا القومية يتوقف على المشاركة في السلطة التنفيذية، وحزب الأمة دون المشاركة في السلطة التنفيذية حقق فاعلية سياسية داخلية وخارجية لها وزنها.ففي الداخل شرع حزب الأمة في بناء تنظيماته، وقام بطواف محدود في الأقاليم واندفع في تعبئة فكرية وسياسية، وشعبية جعلت الأجندة الوطنية على كل لسان وحاصرت أصحاب الأجندات الشمولية والحربية وجعلت المساحة السياسية التي تنبذ الشمولية وتنبذ العنف هي المساحة الأوسع في المسرح السياسي السوداني. وفي الخارج كان حزب الأمة الأكثر صلة بدولتي المبادرة المشتركة، وخاطب البعد الأفريقي بإلحاح. فتحركت نيجيريا بثقلها لصالح الحل السياسي الشامل في السودان. وواصل الحزب اتصالاته بالاتحاد الأوربي الذي صار يهتم كثيرا بالحل السياسي الشامل لا سيما التحول الديمقراطي.كما قاد حزبنا الحملة ضد التوجهات الأمريكية على عهد الرئيس السابق كلنتون حتى اتجهت السياسة الأمريكية نحو دعم الحل السياسي الشامل وعدلت سياسة الدعم لفصيل سوداني واحد.
    وطرق الحزب الأمم المتحدة للقيام بدور سياسي في السودان.كما تبنى فكرة منبر ديمقراطي أفريقي ومنبر ديمقراطي عربي وهي برامج واعدة.
    أما مواقف الوسطاء فهي لا تستطيع إغفال الواقع السياسي فكلهم ما عدا مبادرة الإيقاد يشركون القوى السياسية الأخرى بما فيها حزب الأمة في اتصالاتهم. وكل وساطاتهم تتطلع لوضع دستوري جديد في السودان على نحو ما نص عليه قرار حزب الأمة في 18 فبراير 2001م:
    • مبادئ الإيقاد الستة تنص على الاتفاق على سودان موحد ديمقراطي كافل للمساواة والعدالة بين المواطنين أو بالعدم منح الجنوبيين حق تقرير المصير.
    • والنقاط التسع التي قدمتها دولتا المبادرة المشتركة في يونيو 2001 تكاد تتطابق مع بنود قرار حزب الأمة لا سيما النقاط الثلاثة الآتية:
    • ضمان مبدأ الديمقراطية التعددية، استقلال القضاء، الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكفالة حرية التعبير والتنظيم وفقا للقانون.
    • كفالة الحريات الأساسية، وضمان حقوق ممارستها، والالتزام برعاية حقوق الإنسان كافة وفقا للمواثيق الدولية المعتمدة والقيم السائدة في المجتمع.
    • كفالة الدستور والقانون للتعددية وللحريات المدنية والسياسية وحقوق الإنسان، ولوحدة السودان، أرضا وشعبا، وتشكيل حكومة انتقالية تمثل فيها كافة القوى السياسية، وتتولى تنفيذ كافة بنود الاتفاق السياسي، وتنظيم انعقاد مؤتمر قومي لمراجعة الدستور، وتحديد موعد وترتيبات الانتخابات العامة القادمة وفقا لما يتم الاتفاق عليه في المؤتمر الدستوري.
    • أما تقرير السيد دانفورث فصحيح أنه اهتم بضرورة الاتفاق بين الحكومة والجيش الشعبي باعتبارهما متقاتلين بالسلاح. ولكنه كان واضحا في أهمية مشاركة الآخرين وضرورة ميلاد وضع دستوري جديد في البلاد. ورد في التقرير النصان الآتيان:
     " علمت بوجود ستة تنظيمات قبلية سياسية في الجنوب على الأقل. وفي الشمال توجد أحوال مماثلة إذ يوجد عدد من الأحزاب السياسية الدينية، والجماعات العرقية، والجهوية، وجماعات المجتمع المدني، بالإضافة لوجود جيش مسيس والحكومة الحالية. من الأهمية بمكان أن يكفل لهذه الجماعات حق إبداء الرأي وحق المشاركة في القرارات المتعلقة بالسلام ومستقبل السودان السياسي".
     المطلوب للاتفاق ضمانات داخلية وخارجية .. " الضمانات الداخلية تكمن في دستور مؤيد شعبيا ينص علي الحقوق المذكورة ويقننها ..
    يقول الغالي بشأن تهمة السيد مبارك لحزب الأمة بأنه غير فاعل الآتي:
    1-نفترض هنا أن السيد مبارك يتفق معنا على فاعلية حزب الأمة منذ انقلاب يونيو وحتى عودته للداخل لذلك لن أتعرض لمنجزات حزب الأمة في تلك الفترة وسأركز على فترة ما بعد العودة.
    1- قام الحزب بعد عودته للداخل بتعبئة سياسية وتنظيمية وشعبية أثمرت الآتي:
    أ- تحولت القوى المعارضة الأخرى وسلكت نهج حزب الأمة في تبني أولوية الحل السياسي الشامل عبر التفاوض واتجهت للداخل بنفس لغة الأجندة الوطنية.
    ب- تزحزح النظام عن مواقفه الفكرية والسياسية نحو الأجندة الوطنية والتي انتهت بقبول النظام لنقاط المذكرة المشتركة التسع.
    ج- على الصعيد الإقليمي: قدمت دولتا المبادرة المشتركة مذكرة تحوي تسع نقاط وهي تشكل تقريبا تبنيا لأفكار حزب الأمة وشروطه الواردة في قرار 18 فبراير بخصوص المشاركة في السلطة.
    د- كذلك ساهم الحزب في تعديل الموقف الأفريقي-لا سيما النيجيري- من الانحياز للجيش الشعبي إلى موقف أكثر اعتدالا بهدف الإسهام في حل الأزمة السودانية.
    هـ - كذلك ساهم -على الصعيد الدولي- في تعديل الموقف الأمريكي من الانحياز التام للجيش الشعبي إلى موقف أكثر اتزانا.
    2- يبدو أن السبب في عدم رؤية السيد مبارك لهذه المنجزات هو انشغاله بقضية المشاركة في الحكم الحالي لا الاشتراك فيه بعد ضمان تحوله للمربع الثالث حسب قرار الأجهزة في فبراير 2001م ويبدو أن قرار المؤسسة وأجهزتها هو الذي جعله يضيق صدرا ولا ينطلق لسانا فجاء بما جاء به.
    3- لا أود الخوض فيما زعمه السيد مبارك عن نشاط قطاعه وخمول القطاعات الأخرى فمحل ذلك أجهزة الحزب لا سيما المكتب التنفيذي.
    فاعلية الحزب خارج السلطة
    إن دور حزب الأمة تاريخيا لم يرتبط أبدا بأن أحدا اعترف به لأنه كان ينزع الاعتراف بحضوره ومقدرته على تحريك الرأي العام نحو رؤاه. لقد تعرض لشعارات الجماعة المنسلخة ومنها: "المؤتمر الاستثنائي أخرجنا من محطة تنتظرون" للدكتور الفاتح محمد سعيد- أو "الانتقال من وضع لا مشاركة ولا معارضة" أو أن الحزب صار في منزلة بين المنزلتين..الخ. تعرض لها الأستاذ شبو قائلا: "فالذين يتحدثون عن منزلة بين المنزلتين رمادية وضبابية يكابدون حزب الأمة ويدفعونه تجاه السلطة".. إلى أن قال: "كما أننا ظللنا ننقب عن الطرف الآخر للمعارضة وهو التجمع وأحزابه.. أين هي معارضتهم بأنواعها عسكرية وانتفاضة محمية ومسلحة ومظاهراتية واحتجاجية..الخ حتى يمكن مقارنتها بمعارضة حزب الأمة المسماة بين المنزلتين. فالواقع يقول إنه لا يوجد شيء معارض معلوم للسودانيين يمكن معارضته غير التصريحات وأسماء الفصائل، فمقابل تصريح واحد معارض للتجمع "بكل أحزابه" تقابله عشرة تصريحات وتعليقات معارضة ومقتضبة وذكية لحزب الأمة المعارض بين المنزلتين" !
    اتصالات الحزب الدبلوماسية في مرحلته الأولى (1945- وحتى الاستقلال)
    الإمام عبد الرحمن –صاحب القدر المعلى في فكرة تكوين الحزب- لم يكن يحظ بأي اعتراف في البداية ولا حتى اعتراف بصفة والده.. كان يلتقي بالوفود ويحرك المثقفين ويسافر لإيصال رأيه وحكومة السودان من رأيه في برم. ولكن ذلك لم يوقفه من التحرك بفاعلية، وقد كان لا يفوت فرصة للالتقاء بالمسئولين في حكومة السودان أو الزائرين من البريطانيين أو المصريين أو الأمريكان. وقد قام بعدة رحلات –على صعوبة السفر آنذاك- أهمها على الصعيد الدبلوماسي أربعة:
    الأولى: عام 1919م ضمن وفد أعيان السودان الذي توجه للندن لتهنئة الملك جورج الخامس بالانتصار في الحرب العالمية الأولى. في تلك الرحلة لم يكن هناك اعتراف به حتى بين القادة الروحيين بالصورة التي تمت لاحقا. لكنه انتهز تلك الفرصة لتأكيد أنه لا ولن يلتزم الجهاد القتالي، فأهدى سيف المهدية للملك جورج الخامس رمزا لذلك. كانت تلك الرمزية تؤكد أنه سيستخدم الجهاد المدني وسيلة للمطالبة بحقوق الشعب السوداني.
    الثانية:عام 1937، وذلك عقب إعلان نصوص اتفاقية 1936 (إيدن- النحاس). كتب الإمام عبد الرحمن عن تلك الزيارة قائلا: انزعج حاكم عام السودان من سفري فسألني إن كنت أمانع في أن يصحبني أحد كبار موظفي الحكومتين المتعاقدتين فسألته عن من يرشح لهذه المهمة فذكر لي اسم صمويل عطية فوافقت" .. لم يكن حزب الأمة قد تكون بعد فرافق الإمام جمع من أفراد أسرته. في تلك الزيارة أوصل الإمام عبد الرحمن رأيه ورأي الجمهور الذي يؤيده حول تلك الاتفاقية وحول مسألة رفاهية السودان.
    الثالثة: نوفمبر 1946م إثر توقيع بروتوكول صدقي- بيفن وتعليق صدقي- رئيس الوزارة المصرية حينها- الشهير: "أتيتكم بالسيادة على السودان" انزعج الإمام وسافر للقاهرة ثم للندن، وكان يرافقه السيد محمد الخليفة شريف والدكتور بشير محمد صالح. حيث اجتمع الإمام بالمستر أتلي رئيس الوزارة البريطانية حينها في لندن. وحرص على إيصال رأي الشعب السوداني –أو قطاع عريض فيه- حول ادعاءات السيادة المصرية على السودان بحق الفتح. تلك التحركات لم تذهب هدرا بل شكلت العائق الرئيسي لضم السودان للتاج المصري، بالضغط المتواصل على البريطانيين والاتصالات بالمصريين.
    الرابعة: كانت من سبتمبر- أكتوبر 1952م وذلك إثر قيام ثورة يوليو المصرية، لإجراء مباحثات مع المسئولين البريطانيين لاستعجال التصديق بدستور الحكم الذاتي للسودان. وكان بصحبته وفد من حزب الأمة مكون من السيدين عبد الرحمن علي طه ود.عبد الحليم محمد، ود. مأمون حسين شريف (بصفته طبيبه الخاص). قابل في تلك الزيارة المستر إيدن وزير الخارجية والمستر تشرشل رئيس الوزارة والمستر أتلي زعيم المعارضة حينها، وغيرهم من أعضاء البرلمان البريطاني .
    لم يكن الإمام عبد الرحمن ولا قادة حزب الأمة ينتظرون أن يسألهم أحد عن رأيهم "فللحرية باب يدقه الأحرار" لا ينتظرون الإشارة من صاحب إشارة، هم أصحابها، فما ضاع حق وراءه مطالب. والمتابع لتقارير مسئولي حكومة السودان، وتقارير المخابرات التي أفرج عنها، يجد كيف استطاع الإمام عبد الرحمن واستطاع حزب الأمة أن يكون محط اهتمام تلك الجهات بدون أن يرفع سيفا للمواجهة، وبدون أن يلتحق بالوزارات ودوائر الحكم.. واستطاع أن يقيم الدنيا ويقعدها ولا يترك من مجال لتجاهل رأيه ولا رأي حزب الأمة، وتلك هي الفاعلية عبر التعايش، والتي جعلت مؤرخا مثل الدكتور حسن أحمد إبراهيم القادم من بيئة معادية للأنصار يلج حلقات البحث لإثبات عمالة السيد عبد الرحمن المهدي فيخرج بأنه "أعظم شخصية سودانية في القرن العشرين" . هذه الشخصية العظيمة لم تحتقب وزارة ولم تتقلد منصبا رسميا من قبل. كما أنها لم تتخذ المعارضة بشكلها المفهوم من مواجهة أو مصادمة مسلحة.
    هذه من أهم دروس حزب الأمة "المثابرة والإصرار"، فإذا كان الشأن قوميا فإننا لا ننتظر أحدا. وإذا كان هذا هو ديدنا منذ ما يزيد عن نصف قرن، واجهنا به الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، هل ننحني لقلة من أبناء شعبنا بعضهم يريد أن يفرض علينا حكما شموليا بغير رضانا، وبعضهم يريد أن تستمر الحرب التي يجني منها سياسيا واقتصاديا؟..ثم نقول لن نفلح إلا أن نلتحق بالأوائل (كما صنعت جماعة سوبا الآن) أو نسير في ركاب الأواخر (كما كان يرى كبير تلك الجماعة في سحيق أيامه).. اللهم لا.! إن التحركات الدبلوماسية الواسعة التي يقوم بها الحزب وقيادته الآن، والمذكرات، والمحاضرات، والجولات الدولية والإقليمية، والخطب المنبرية، والمؤتمرات الصحفية، والمقابلات مع الشخصيات الوطنية ومع الباحثين.. كل ذلك هو دق على باب الحرية ودق على باب الحق الذي هكذا لن يضيع. إنها الفاعلية التي لا يراها أولئك الذين يظنون الفاعلية تقاس فحسب بالحقب الوزارية أو الألقاب الرسمية، أو الجلوس في موائد الحوار في ماشاكوس أو أبوجا أو غيرها.. إن الذين يجلسون في تلك الموائد يساهمون في صياغة الواقع السياسي، ولكنهم ليسوا أحرارا مائة بالمائة، بل تقيدهم التدخلات الدولية والإقليمية التي ترعى تفاوضهم، ويقيدهم الرأي العام: في الشارع السياسي السوداني- وفي الصحافة- بل وفي أسرهم، وكل هؤلاء (الجهات الدولية والإقليمية، والجهات الداخلية المذكورة) يتعاطون اليوم –بدرجات متفاوتة- من أطروحات حزب الأمة!.
    حرك حزب الأمة الرأي العام من قبل نحو مواقف كثيرة تصدى لها بالمثابرة منها:
    • فكرة استقلال السودان تحت شعار: السودان للسودانيين.
    • فكرة التعامل مع النزاع الجنوبي على أساس الحل السياسي عبر الحوار.
    • أفكار حل مسألة الدين والدولة في 1992.
    • استصحاب مطلب تقرير المصير بين القوى الشمالية 1993.
    • رفض التشويه الإسلامي الأول في 1983، وتعريته إسلاميا.
    • مواجهة التشويه الإسلامي الثاني الذي جاء به نظام الإنقاذ، وصياغة الموجهات الفكرية لذلك. وتحديد الأسس والضوابط للمشروع الإسلامي.
    • أطروحة الديمقراطية المستدامة التي تخرج من الخطاب السطحي في نقد "النظم المتعاقبة" لتفهم الواقع الثقافي المختلف، وضرورة الأقلمة للديمقراطية بما ينظم ممارسة الحريات الأساسية، ويضبط القوات المسلحة، ويحقق التوازن في ظل الديمقراطية.
    • التدخل لدى الأطراف الدولية مؤخرا ومخاطبتها بضرورة الربط بين السلام والتحول الديمقراطي.
    • الدعوة للميثاق القومي وكتابته إبان ثورة أكتوبر 64، وأبريل 85، والحزب الآن يقود الدعوة لميثاق للتحول الديمقراطي المنشود.
    هذه الأفكار والمجهودات قام بها الحزب من خارج دائرة الحكم وأتت أكلها في كل حين، وخطت بصمته في التاريخ الوطني. إن الفاعلية لا تقاس بعدد الوزارات التي يتقلدها الحزب في الدولة. فكم من وزراء لا يستوزرون ومستشارون لا يستشارون، وهذا هو مصير المنخرطين بغير الضوابط القومية والانتخابية دون أدنى شك.
    حقيقة الفاعلية عبر المشاركة
    لقد قبل الحزب إبان الحرب الاستقلالية الدخول في مؤسسات الحكم التي أقيمت حينها، للعمل من داخلها –رغم صلاحياتها المحدودة- للدفع نحو الحكم الذاتي للسودان. في تلك الخطة كان الحزب يضمر أن يحارب من داخل صفوف الحكم الموجود ويقوده بلغته التي يعرفها "المؤسسية". أما في العهد الحالي فالمؤسسات لا تعني الكثير، إن الخلاف داخل أعضاء الحزب الحاكم أنفسهم تم فيه تجاوز الأجهزة واستخدام السلطة، فما بالكم لو جاء الخلاف "الحقيقي حول التحول الديمقراطي وقسمة السلطة وما إلى ذلك" من الأغراب الذين إنما أتوا الإنقاذ بعد أن كلوا من مواجهتها –كما هو منطق سوبا أن الحزب عاجز وفقير..الخ- إن هؤلاء لن يكون لهم موقع أفضل من موقع الأخوة القدامى، إنهم قد "استبطئوا الخريف فأكلوا التيراب" على حد قول رئيس الحزب في اللقاء الشبابي الطلابي بتاريخ 23 يوليو 2002م بالمركز العام للحزب، أو هم يبحثون عن المطر في وقت الجفاف وكما قال الشاعر:
    الذبح الحلال فاتوهو دارو الجيــــــفة
    كايسين للمطر في عز يباسا وصيفا!
    هذا "النفس القصير" أشار له أيضا الشاعر المكي مصطفى بـ"غراق الحجرة" أو الغرق قرب الشاطئ "القيف" في قصيدته "أنا أنصاري" التي كتبها إثر حادثة سوبا، قال:
    أنا ما بسوي غراق الحجــرة وما بثنينـــي الزمن الطوّل
    زادي الراتب اصبح أمســـي من المولى النجدة بتوصل
    وبكرة تزول الظلمة الحالكــة وفجر العز في الكون يتهلل
    إن الذي ستحققه جماعة سوبا من المشاركة ليس الفاعلية، إنها الاندراج في برنامج حزب آخر، بشروط ذلك الحزب، ولصالحه، مقابل مناصب إذا أعطيت فلعائد مادي، لا لتأثير سياسي، وما خلت قبلهم الجماعات المنخرطة.
    الحجة الخامسة: لا قداسة في السياسة:
    شاع هذا الشعار عقب الانشقاقات الأولى في حزب الوطني الاتحادي (وهو تجمع للتيارات الاتحادية تم توحيدها في 1953م)، حيث انشق إلى حزبين: حزب الشعب الديمقراطي تحت رعاية السيد علي الميرغني، والحزب الوطني الاتحادي بقيادة السيد إسماعيل الأزهري عقب نيل الاستقلال. وفكرة الشعار مبنية على سيادة الاتجاهات العلمانية آنذاك (فكأنما القداسة تشير للدين) وهي تناهض المنهج السياسي لدى حزب الشعب الديمقراطي المتمركز حول الطائفة الختمية، فتلك الطائفة تحتوي على تصور شائع بين الطرق الصوفية أن البركة تورث من الشيخ لذريته، وتحتوي على أدب التطرق الذي يركز على إعطاء الشيخ مكانة عليا في الدين والدنيا (والشعار بهذا المفهوم يرفض هذه السلطة الدينية). وبذلك فقد شكل رفضا لمفاهيم الانقياد الأعمى بدون مناقشة لزعيم الطائفة، وابتعادا بالسياسة عن دوائر الدين. ومهما يكن من تفسير هذا الشعار وأسباب بروزه في صراع الخمسينيات، فإن محاولة سحبه على مسألة الاختراق الأخير في حزب الأمة تجعلنا نثير النقاط التالية:
    أولا: تاريخيا، فإن كيان الأنصار الذي يشكل أكبر تيارات الحزب لم يتحدث في مبدأه عن وراثة البركة لأبناء المهدي. قال المهدي عن أبنائه الذين سألته زوجته لمن يدعهم بعد موته وهو يتمنى الالتحاق بربه فقال لها: "من كان صالحا فإن الله يتولى الصالحين، ومن كان طالحا فلا حاجة لي به" ، وحينما تحدث عن الشخص المؤهل للقيادة لم يذكر نسبا ولا حسبا فقال: "من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين". وقد كان على رأس أجهزة حزب الأمة حين الانشقاق ابن الإمام الصديق المهدي –الصادق- والفريق الذي لم يرض بقرارات الحزب وانشق مؤيدا حق الإمام وحده في محاسبة رئيس الوزراء كان على رأسه الإمام نفسه. فالمسألة ليست مسألة وراثة بركة، ولكن ذلك الفريق كان يرى أن بيعة الإمام تلزم طاعته في كل أمر. أما جناح أجهزة الحزب بقيادة رئيسه فقد كان يرى أن تقيد العلاقة بين الإمام وبين الحزب وفقا لبيان الإمام عبد الرحمن الصادر في عام 1950م (الوارد في الفصل الرابع: المسألة التنظيمية). هذه الخلافات ربما نظر لها على أنها تتعلق بالعلاقة بين المؤسسة الدينية (الإمامة) والسياسية (الحزب)، ولكنها لم تذهب إلى نفي العلاقة بينهما بل إلى ضبطها. أما بالنظر إلى مقولة (لا قداسة في السياسة) على أنها انتفاء للعلاقة بين الدين والدولة –أي العلمانية- فإن للحزب ولرئيسه عشرات الأدبيات التي تؤكد أن هذا مستحيل.
    ثانيا: السيد الصادق المهدي هو عراب المؤسسية الحديثة في الحزب وفي الكيان الأنصاري. وهو الذي يقف بصلابة أمام كل ادعاءات الوراثة للبركة أو للقيادة في كيان الأنصار وحزب الأمة، فقد نفض عن الأصل الفكري المهدوي الزاهي غبارا تسرب إليه من تقاليد المجتمع السوداني (وهو في قبائله وفي طرقه الصوفية يستند على ذهنية الوراثة للقيادة في الغالب) وقد كان بعض ذلك الغبار علق على الأداء الحزبي في بعض أوجهه. إن الملايين من الأنصار ما فتئوا يدعونه في المناسبات المختلفة أن يقبل مبايعتهم له كإمام، وهو يصر ألا ينصب أحد إماما إلا بالصورة التي تحفظ للكيان مستقبلا مؤسسيا وتقيه شر التلقائية والعشوائية وذهنية الوراثة الشائعة. ومن أهم سمات المشروع المؤسس الذي دعا له مع هيئة شئون الأنصار ألا تتقيد القيادة بالحسب أو النسب بل بالعطاء والبلاء والأهلية وقبول الأنصار (الشعبية). جاء في صحيفة الإمامة الصادرة عن هيئة شئون الأنصار الآتي: (الهيئة حسب ذلك الدليل –الإشارة للدليل الأساسي لهيئة شئون الأنصار- مؤسسة ديمقراطية لها بنىً قاعدية وقيادية، والمناصب القيادية فيها تنال عبر التصعيد والانتخاب. والإمام هو قائد كيان الأنصار، ويتم ترشيحه بواسطة مجلس يسمى مجلس الحل والعقد، ويراعى عند ترشيحه البلاء والالتزام بالدين الإسلامي والكفاءة العلمية والاجتهاد في سبيل دعوته ورفع شأن الأحباب، ويكون ممن تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين، ومن أعلى الناس همة وأوفاهم ذمة. يبايع الإمام أولا بواسطة مجلس الشورى ثم المؤتمر العام، ويسعى عقب ذلك للحصول على البيعة من الجمعية العمومية للأنصار في مناطقهم كلها، ويصير ملزما بالعمل بالكتاب والسنة والجهاد والاجتهاد ونهج الشورى. تشمل مسئولية الإمام تقديم القيادة الدينية والروحية والقدوة الحسنة، والعمل على تحقيق أهداف هيئة شئون الأنصار، والعمل على رعاية الأنصار، وتقديم الفتاوى والنصح في أمور الدين والدنيا، علاوة على المشاركة في تكوين مجالس الهيئة) . ولكيلا يتم الخلط بين عمل الهيئة والحزب كما حدث تاريخيا فقد أنشئت لجنة من الجسمين تبحث أمر التمييز وقد أصدرت بعد بحث امتد أشهرا مسودة لصحيفة التمييز بين الهيئة والحزب، هذه الصحيفة رفعت للمكتب السياسي للحزب، ولمجلس الحل والعقد في الهيئة لبحثها وإجازتها بعد إجراء التعديلات أو الملاحظات التي يرونها. كل ذلك لتكون العلاقة بين الحزب والهيئة مؤسسة ومنضبطة. بهذا يكون العمل الدعوي والأنصاري مقيدا بالديمقراطية وبأسس موضوعية للقيادة لا تتحدث عن وراثة البركة أو القداسة. كما يتم التمييز بين الحزب والهيئة بصورة مؤسسية.
    ثالثا: وفي المقابل فإن السيد مبارك المهدي، مع أنه لم يعمل يوما في صفوف هيئة شئون الأنصار ولم يتقلد منصبا ولا أظهر رغبة في العمل الدعوي أو الفكري الذي تقوده الهيئة –وإن كان يكتفي بتأييده لعملها وتقديره لها في الفترة قبل الأخيرة التي انقلب فيها عليها- فإنه أعطى لنفسه حق التدخل في شئون الهيئة وقيادتها بحق الوراثة (فهو أيضا ابن المهدي!). وبعد أن ظل سائرا لربع قرن في ركاب التصور المذكور أعلاه خرج لنا بتصور جديد أن الإمامة تكون بالوراثة في أسرة المهدي -للأكبر سنا- وهو تصور يستصحب فلسفة توريث البركة الشائعة في تراث الطرق الصوفية وقد انقلبت عليها المهدية. وهو المفهوم الذي ثار عليه الأزهري من قبل بالشعار المذكور.
    رابعا: حزب الأمة في أدبياته يحمل فكرا مستنيرا من ناحية علاقة الدين بالدولة ويؤكد أن مفهوم الدولة في الإسلام مدني، ولكنها تستنير بهدي الشريعة وفق مواثيق تحدد الحقوق والواجبات وتعقد الرضا بين أهل البلاد –على نهج صحيفة المدينة. وحزب الأمة يعترض أن يشار في الدستور إلى أن الحاكمية لله –كما في دستور 98 الحالي- باعتبار الحاكمية لله مفهوم متعلق بالربوبية والربوبية لله فهم انطولوجي متعلق بطبيعة الأشياءـ أما السيادة الوطنية فمفهوم سياسي متعلق بشعب معين، وبإقليم معين. هذا الفهم المتعلق بالسيادة كحقيقة دستورية مبدأ ينبغي الاعتراف به واحترامه كأساس من أسس الوحدة الوطنية. هذا المفهوم يؤكد أن الثيوقراطية مفهوم غير إسلامي بالفهم الصحيح للنصوص الإسلامية. وقد ظل الحزب يؤكد أن الدستور الحالي يحتاج لتعديلات كثيرة حتى تمكن المشاركة في إطار قومي أو انتخابي يقود للتحول الديمقراطي يعقد مؤتمرا دستوريا يصيغ فيه دستور البلاد. ولكن الجماعة المنسلخة سعت للمشاركة في هذا النظام برغم مفاهيم –الحاكمية وما تقود له من ثيوقراطية ومن قداسة في السياسة.
    خامسا: جماهير سوبا التي هتفت "لا قداسة في السياسة" لم ترفض جملة سيقت في الأدبيات الموجودة في الجاكيت (الأصفر أو الأخضر أو الأحمر) الذي به الأوراق المقدمة. تلك هي الجملة الواردة في كلمة اللجنة المنظمة ثم في ورقة التنظيم تحت راية الإصلاح والتجديد (الزهاوي): " واعملوا جميعا بأن من يعمل في السياسة اليوم بجد وإخلاص وصدق ونكران ذات: نبي أو شهيد أو بطل.. فكونوا ما تشاؤن، كونوا ما تشاؤن!." أليست هذه قداسة؟ ومن هو النبي بين جماعة سوبا؟ تأتي الإجابة سريعا في كلمة النعمة البشير (عن الإقليم الأوسط) والذي شارك من قبل في الإنقاذ ثم هرع لسوبا ليقول للأخ مبارك الفاضل: لا دعوة بلا رسول.. إننا معك في دعوة الحق التي لامست مشاعرنا. ثم يقول: "دة المعنى للرسالات وللرسل، الأخ مبارك، أنت رسول هذه الدعوة"! أليست هذه "قداسة في السياسة"؟ بل هو لعب مستقبح بالمقدسات، وحشر لها في السياسة، وأكثرها دنيوية، تلك المتعلقة باجتماع يحلل اقتسام السلطة بلا مبدأ. إن النبي الذي تقدمه لنا سوبا هو "نبي المشاركة برسالة الفاعلية وخدمة الجماهير عبر الاستوزار".
    سادسا: في نهاية المداولات في سوبا أتت الجماعة بـ"فكي" ليتلو عليهم الدعوات. فأطال فيها متوسلا بـ"سيدي أحمد التيجاني". ولا ينكر أحد أن المؤمن يتعبد بالدعاء الصالح وينير به مدلج أيامه. ولكن الدعاء الذي تم لم يشمل جميع المذاهب والأديان السودانية –حتى لا يكون هناك تفرقة دينية في حزب الأمة- والأدهى والأمر أنه انحرف عن دعاء غالبية جماهير الحزب- الأنصار- ومن سنة الإمام المهدي ألا يتوسل بأحد لله، ولم يذكر نفسه في الراتب إلا كعبد حقير يحتاج رحمة مولاه، نشدانا للتوحيد. وبمقاس السياسة فهذا الدعاء فيه تفرقة دينية لم ترع ليس فقط حقوق الأقليات بل وحقوق الأغلبية الأنصارية- وبمقاس الدين فبه طعن في التوحيد. وهو حشر أعرج للقداسة في منتديات السياسة.. إننا نقول لجماعة سوبا: لا تتلاعبوا بالمقدسات لأجل الدنيويات!.
    ونقول لهم لا أحد في حزب الأمة المعلوم يخلط القداسة بالسياسة، ولا يخلط البشريات بالمقدسات أصلا حتى في الدين، والعهد الذي اتخذه الأنصار مؤخرا مع السيد الصادق المهدي نص على "الطاعة المبصرة فيما يرضي الله ورسوله" باعتبار أنه لا قداسة لقائد ديني فمع أن الدين مقدس لكن الاجتهادات البشرية فيه قابلة للصواب وللخطأ في ذات الآن.
    سابعا: ربما عنى جماعة سوبا بالقداسة أن الناس يتعاملون مع السيد الصادق بشيء من الهيبة والاحترام، وفي هذا خلط بين "القداسة" وبين "التقدير. فيمكن للشخص عبر نزاهته واحترامه للآخرين وتعاليه عن السفاسف ونكرانه لذاته أن يفرض على الآخرين نهجا لا يتعاملون به في العادة مع بعضهم البعض. لقد كتب الصادق من قبل في كتاب "الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة" أنه يتعامل مع الآخرين كالمعتذر عن نعم حباه الله بها، والنتيجة لهذا الأسلوب أن الناس غالبا ما تعطيه أكثر (من النعم المعتذر عنها في الأصل)، فهو حتى على الصعيد الخاص والشخصي لا يأمر أحدا أمرا مباشرا، ولا يطلب حتى كوب ماء.. ولكن الجميع ممن حوله يقضون وقتهم يفكرون ماذا يريد؟ ويلزمون أنفسهم بطاعة أوامر لم ولن تصدر.. هذا النهج مخلوط بنفرة شديدة من التقديس ، فلا يسمح لأحد بتقبيل كفه مهما كلفه الأمر من جذب وشد، ولا يستجيب لأي من طلبات "التبرك" وغيرها من سمات القداسة.. إن ما يحشره وجود الصادق في ملفات السياسة هو التقدير والاحترام برغم تواضعه الجم، ولا يستاء من ذلك إلا من قصرت خطاه أن يجد هذا النوع من الاعتبار. ولا يسيء لهذا إلا متبع للحكمة التالية:
    الماك لاحقو قلبـك حدثـــك لي جدعو
    بي حجرا كبير لبعا يجيب لي صدعو
    تبقى محلو يا رب طول نهارك تدعو
    أو يمكن يقع ويحمّـــد اسمــــك ودعو
    الحجة السادسة: مسألة العجز المالي للحزب:
    فجر السيد مبارك مسألة العجز المالي للحزب في لقائه الصحفي المذكور، مع أنه يعلم بما خاضه الحزب ويخوضه من جهاد طويل، وانشغال صميم بقضايا البلاد فهو المتصدي الأول للبناء إبان العهود الديمقراطية، وهو المواجه الأول إبان الديكتاتوريات مما لم يمهله للتصدي لقضايا البناء الذاتي، أما البنى الاقتصادية فقد أعاقته كل النظم الشمولية –وهي التي تربعت على ثلاثة أرباع زمن السودان المستقل- من تكوين أية قاعدة اقتصادية قوية وصادرت ممتلكاته، وعملت بكل قواها على شل حركة أفراده المالية. وبالرغم من ذلك فالحزب يتحرك بقدرات وإمكانيات مقدرة مكنت نشاطه من التمدد فصار داره نقطة إشعاع سياسي: ينور ويقود الرأي العام بالندوات والمحاضرات وإحياء المناسبات الوطنية. واستمرت حملة الحزب التنظيمية في العاصمة والأقاليم كما ساهمت تلك القدرات والإمكانيات مع وضوح الرؤية وصدق البرنامج، في جعله الرقم السياسي الأول الآن. لم يقف الحد عند الحديث عن "عجز مالي" بل ذهب البيان الختامي لسوبا أن ذلك كان لانشغال الحزب بالصراع على السلطة..هكذا!، وقد كرر مبارك هذا المعنى في عرضه لورقته، مع أنه من أكثر الناس حديثا عن أن الأحزاب ليست جمعيات خيرية، إنها للحكم، فأي صراع عن السلطة يقصد مبارك، صراع يفقر الإنسان ويفت ساعده متنقلا بين السجون والمنافي، ويجعله يأبى الانخراط في الديكتاتوريات؟.. إنه الصراع من أجل الديمقراطية: وجهة الحكماء ووصية الآباء، كما وصى الصديق، أول رئيس منتخب لحزب الأمة. ولكن حجة السيد مبارك –وهو لجلج فيها- أن السياسة هي فن الممكن وأن الحكم هو الخدمات والمعايش والأمن، ولكن "إن ارتباط فن الممكن بالأحوال الأمنية والمعيشية للمواطن يعني أن المواطن لا يحتاج لسواهما، أما المبادئ السياسية والأفكار الثقافية، والانتماء الفكري والسياسي فلا تشكل ولو جزءا يسيرا من حاجيات ومثل وقيم الإنسان". وأضيف، بل فن الممكن هذا ربما نسي التجربة المرة لنا مع الديكتاتوريات والتي أظهرت أنه مهما سيق عن الاستقرار والتنمية والشعارات التي ترفعها، فهي الأكثر خيبة في تحقيق الحلم الوطني، والأشد خطرا على الوجود القومي السوداني الموحد، بل وعلى التنمية والاقتصاد ومعايش الإنسان السوداني.
    مالية الحزب
    نعم هذه الحجة "المشاركة لبناء المالية الحزبية" بائسة، ولكننا يجب أن نتعرض لقضية عجز حزب الأمة ماليا بشيء من التفصيل وبصرف النظر عن "المبادئ" التي لا تسوى عند سوبا شيئا فهي لا تؤكل!.. لقد تعرضنا من قبل لمسألة مالية الحزب وكيف أنها نشأت عالة على دائرة المهدي في مبدأ أمرها، وأن ذلك ساهم في إيجاد عقلية "التكية"، وفاقم من ذلك محاربة الدكتاتوريات التي تربعت على كرسي السلطة أكثر من ثلاثة أرباع فترة الحكم الوطني للحزب ولمحاولاته تكوين قوة اقتصادية. لقد أشار جماعة سوبا لهذه النقطة مبررين الثغرة المالية بضعف القيادة وعجزها، وقد انفعل شاعر بشير عثمان بهذه الإساءات فقال: ما هماك كتير كان تعدم التعريفــــــة
    يا نسل الكرام نفسك عزيزة شريفــة
    وقال: قسما كان نساوم ونقبل الدولار
    السما ينتكي ويلينن الحجــــــار
    وقال المكي مصطفى في نفس المعنى:
    صابر صبر أيوب القـــــدوة ما بتبــــاع في السوق اتدلل
    الأرزاق من الله الواهــــــب والمقسومة من الله بتحصل
    ولكن الوضع ليس بالسوء الذي صورته جماعة سوبا، وقد رد على ادعاءاتهم السيد رئيس الحزب قائلا في الورقة التي قدمها للمكتب القيادي كتعليق على مذكرة رئيس القطاع السياسي بتاريخ 23 مارس 2002م، وقد كان في تلك الورقة أرقام وتفاصيل سرية وبالرغم من ذلك سربها أهل سوبا لأبواقهم فتناولتها بألسنة حداد، قال رئيس الحزب:
    "لقد حققنا فتوحات عملية كثيرة ولا يجوز أن يكون ضعف إمكانياتنا المادية سببا في تغيير مواقفنا الاستراتيجية.
    إذا كان حزبنا يحظى بتأييد الملايين فهذا يعني أنه لا يمكن أن يكون فقيرا. هناك إمكانيات ولكن أولويات صرفها خاطئة. أقول هذا واستدل بالآتي:
    - قمنا برحلات للنيل الأبيض والنيل الأزرق والجزيرة والشمالية وصرفنا بعض المال في هذا الطواف ولكنني أعتقد أن ما صرفناه لا يزيد عن ثلث ما صرف فعلا! سألت د. عمر كم تقدر نسبة ما صرفنا بصفتك المسئول عن العمل التنفيذي؟ رد د. عمر قائلا: ما صرفناه لا يتجاوز الربع!!. إذا قلنا للناس سنزوركم يستعدون ويصرفون عشرات الملايين. ولكن إذا طالبناهم بتبرع للحزب لا يستجيبون.. القيم الاجتماعية والثقافية تقليدية. لكن المال موجود.
    - نحن نصرف مبالغ كبيرة شهريا، واشترينا 7 سيارات في هذا العام. ولكن نصيب الإدارة المالية في الحزب شهريا هو نصيب الأسد. علينا أن نراجع أولويات الصرف.
    لعل الحزب باعتماده على مجهوداتي تكاسل في مهام العمل على توفير المال. يجب أن نعمل على استنفار الطاقات المتاحة وأن نغير أولويات الصرف، وأن نعتمد أكثر وأكثر على الجهد الذاتي. لقد اتضح أن النظام لن يرد لنا أموالنا كما كنا نتوقع ربما لأنه يشترط مشاركتنا؟ أي لأسباب سياسية. كذلك الحال مع أموالنا في إرتريا وتقدر 2,5 مليون دولار. لعل النظام هناك أرادنا أن نستمر كرتا في يده فبدخولنا حرمناه من ذلك وحرمنا من مالنا.
    علينا أن نراجع المسألة المالية للاعتماد على الذات ولاستنفار الإمكانات ولإعطاء أولوية لتمويل الأنشطة على حساب تمويل الإعاشة والإدارة". انتهى كلام رئيس الحزب.
    هذا معناه أن المسألة تعود بشكل كبير للذهنية في العمل التي ترجع لمفهوم "التكية" التي أشرنا لها قبلا، هذا من ناحية، من ناحية أخرى سيادة مفاهيم تقليدية في الصرف.. إننا بهذه الذهنية لن نضبط أداءنا المالي، ولن ننتقل لمؤسسة حديثة ذاتية التمويل. ولكن السيد مبارك وجماعة سوبا يريدوننا أن نعود لتلك الفترة –التي أنجزت ما وعدت من استقلال السودان واستنفزت أساليبها في العمل مشروعيتها وتغيرت متطلبات المرحلة. فهم يتحدثون أن يشترك الحزب في بناء كوادره ماديا ويتولى رغد عيشهم، والحزب يعمل لرفاهية البلاد عامة ولخلق الفرص التي تتيح لكل الشباب العيش الكريم وفق مجهوداتهم وعملهم. وهذا يقود للحديث عن الحجة السابعة: المشاركة لخدمة الجماهير.
    الحجة: السابعة المشاركة لخدمة الجماهير:
    لا مكان لحزب يقوم على ذهنية المنفعة للكوادر اليوم، والذي صنعته الجبهة الإسلامية من قبل ثم المؤتمر الوطني لا يمكن الإشارة له لاتباعه، فجماهيرنا أضعاف أضعاف أولئك مما يجعل الخطة مستحيلة التنفيذ إلا في إطار محدود ، ومبدئيتنا تمنعنا أن نخلق إقطاعيات حزبية تنهض بحالة كادرنا الاقتصادية دون الآخرين، قال أبو العلاء:
    فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا
    وكما قال الغالي: تبريرات السيد مبارك للمشاركة في السلطة بحجة فقر الحزب وقواعده تشي بنية مبيتة لاستغلال نفوذ السلطة على أحسن الفروض لخدمة قطاع معين من السودانيين. وهذا ما يتعارض مع نهج الحزب القومي ومع القومية التي ادعاها السيد مبارك.
    ولكن، إن ادعاءات جماعة سوبا أن المشاركة لحل مشاكل جماعتنا تصوير زائف مثلما هو قبيح. زائف لأن الحكومة لو كانت تستطيع حل مشاكل جماهير بالملايين كما هي جماهير حزبنا لما أرادت توسيع المشاركة في السلطة لاجتذاب سند جماهيري عبر رموز وأشخاص بدلا عن أن يكون عبر خدمات وتطوير، فمن السهل استمالة أشخاص ولكن من الصعب تطوير بلد وإرضاء جماهير عبر خدمات حقيقية. وقبيح لأن حزبنا لم ينح في يوم ما للحديث عن فائدته بمعزل عن الفائدة الوطنية، ولا الحديث عن جماهيره بمعزل عن الشعب السوداني الذي يعاني في جميع بقاعه. وحتى في الفترة التكوينية الأولى التي كانت تعتمد على فيض الدائرة، فإن السودان يشهد أن الإمام عبد الرحمن لم يكن يقصر عطاؤه على جماهير الأنصار.. لقد عمت أياديه حتى على أكثر الناس عداوة له.
    يقول الدكتور صالح: "هذا التفكير المصلحي الضيق الذي يتعامى ويتجاهل ما يعانيه غالبية السودانيين من متاعب اقتصادية لا يمكن أن يسهم في حلحلة المشاكل الوطنية المتأزمة التي لا يمكن علاجها من خلال نظرة جزئية تحقق مصالح القاعدة الاجتماعية الحزبية وحدها. فالمشاركة في السلطة منذ الآن وصاعدا تعني إلقاء مزيد من الهموم وتعقيدا للمشاكل الحياتية على بقية الشعب السوداني. وهي نظرة جزئية ضعيفة تستند إلى تعريف علمي تخطاه الزمن والتطور العلمي وهو أن أهم أهداف الحزب السياسي هو تحقيق مصالح قاعدته الاجتماعية، ولأننا لا ننظر حولنا وإلى برامج الأحزاب الديمقراطية الكبرى في الغرب ونظرتها الكلية لمجتمعاتها بتنفيذ برامج تحقق الرفاهية للغالبية لا القاعدة الاجتماعية الحزبية وحدها، فقد كان هذا المبرر للمشاركة ضعيفا وتقليديا. وهذا يعني أن برنامج هذا الحزب المتوالي لن يتضمن حلولا علمية للقضايا القومية وإن وضعت تلك القضايا كشعارات من أجل الكسب السياسي" .
    الحجة الثامنة: قرار لجنة الرقابة واعتراضات السيد مبارك:
    تحدث السيد مبارك المهدي إثر قرار التجميد الذي أصدرته في حقه لجنة الرقابة وضبط الأداء، منكرا أن يسائله من هو أدنى منه في السلم القيادي.. ولكن:
    1- هيئة الرقابة تم التراضي عليها في القاهرة بحضور السيد مبارك.
    2- لوائح هذه الهيئة مجازة.
    3- لم يحتج السيد مبارك على هذه الهيئة لمدة عام من تكوينها.
    4- لم يحتج عليها حينما أصدرت عقوباتها على بعض القياديين. إذا كان يبغي الإصلاح الحزبي والحق والعدل كان الأولى الجهر بذلك قبل أن تمسه شخصيا.
    5- الاحتجاج بأنه لا يجوز أن يحاسب عضو في درجة تنظيمية أقل احتجاج غريب للآتي:
    I) الهيئة شخصية اعتبارية يخضع لها الجميع بغض النظر عن مراكزهم مقارنة بمراكز أعضاء الهيئة.
    II) إذا سلمنا جدلا بأن العضو لا يعاقبه إلا من هو أكبر منه تنظيميا فإن هذا يفتح الباب لأمور منها استثناء القيادات من الخضوع للمساءلة أو ترك المساءلة في يد رئيس الحزب وهذا عين ما لا يريده السيد مبارك.
    الحقيقة إن الهيئة هيئة مستقلة وأن مبدأ المحاسبة يجب أن يقر وهذا يستدعي بالضرورة أن يكون قادة الحزب عرضه للمساءلة من قبل اللجنة التي ستضم بالضرورة من هم دونهم في سلم التدرج التنظيمي .
    لقد درج جماعة سوبا الحديث عن اللجنة وفكرة الضبط باعتبارها ديكتاتورية، ثم سودوا صحيفتهم الحليفة وأي منفذ آخر بالحديث عن ديكتاتورية الحزب، وديكتاتورية الرئيس، وانفراده وأسرته بالقرار.. إلى آخر ما يسوقون. والمتتبع لمسيرة الحزب منذ كانت يدرك أنه لم يمر بالنهج الدكتاتوري، أو الوصائي من أحد حتى الإمام المؤسس. أما السيد الصادق فهو ابن الديمقراطية البار في الحزب وفي البلاد. وما يؤخذ عليه –بل ما أخذه عليه بمرارة شديدة السيد مبارك ومجموعته- أنه سمح للشورى والديمقراطية أن تأخذ مجراها، ولم يستخدم كاريزميته في الحزب ليدفع الناس دفعا نحو المشاركة في السلطة (هكذا يظنون الناس في يد فرد!). والسيد مبارك معروف بأسلوبه الإقصائي الاستئصالي (بدليل المذكرة- والأحاديث الصحفية- وورقته الأخيرة في سوبا)، وبدليل عمله بالخارج الذي كان أمثولة في الانفراد بالرأي. وقد كان ظاهرا منذ أمد أن السيد مبارك لم يعد يعجبه الحزب ومن فيه من "حالمين وتقليديين" ويحب من هم في المؤتمر الوطني، ولم يعد يعجبه خط الحزب الفكري والمنهجي، وعاد مفتونا بخط "الإنقاذ" والمشاركة معها. وقام بجولات سرية وعلنية واجتماعات جانبية، وتجاوزات كان آخرها تجمع سوبا الذي دعا له تآمريا.
    إننا إذا شبهنا ما حدث بتحركات داخل فرق كروية متنافسة، لكانت شبيهة بأن يدعو اللعيبة الذين طالت هزائمهم داخل الميدان (وفي غياب لجنة التحكيم)، وبصورة سرية من بقية الفرق، لماتش في منتصف الليل، ثم يصوبون الأهداف على مرمى خصومهم، ويخرجون معلنين الانتصار!.. فريق لا يستحق المشاركة في الدوري، ولا يستحق أصلا أن يكون، مهما وجد فيه من لعيبة مهرة، ببساطة لأنهم لا يحتوون على روح رياضية ولا يفهمون أصول اللعب، والكرة رياضة ولعب!.. شخص كان ذلك نهجه، وذلك مآله كان سيفصل من الحزب منذ زمن بعيد، لو كان الحزب يستطيع إجراء قرارات من خارج الأجهزة وبدون المشاورات اللازمة!. ولو لم يكن الحزب ديمقراطيا!.
    الحجة التاسعة: التحرك القومي:
    حينما خرج السيد مبارك على حزب الأمة بدأ يقول أنه قومي وأن القميص الحزبي بدأ يضيق عليه فما هي حقيقة هذا الشعار؟ قال الغالي:
    "..حزب الأمة حزب قومي التوجه منذ نشأته ولهذا جاء اسمه يحمل هذا المعنى في طياته. وقد حرص الحزب على التحرك القومي ما استطاع لذلك سبيلا في كل محكات السياسة السودانية، فعل ذلك إبان معركة الاستقلال فكان شعاره "السودان للسودانيين" هو محل إجماع الأمة كلها صبيحة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في ديسمبر 1955م، وفعله إبان خوض ثورة أكتوبر فخط ميثاق أكتوبر الذي اتفقت حوله كل القوى السياسية السودانية المعارضة بيراع قيادته، نفس الشيء حدث في ثورة رجب/ أبريل. وشارك في صياغة ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي في أكتوبر 1989م، وفي فعالياته إبان وجوده داخل التجمع. وحتى حينما جمد الحزب عضويته في التجمع كان دائب السعي للاجتماع مع جميع الفصائل المعارضة ومع الحكومة لتمرير خط قومي يخدم المصلحة الوطنية.
    هذا النهج القومي خط يلتزمه الحزب ويلزم به أفراده ويشجعهم عليه ولكن ذلك يجب أن يكون من داخل خطوط الحزب وبالتنسيق بين أجهزته المختلفة. فلا يحق لأحد قادته أن يتحدث عن قوميته كفرد خارج حدود الحزب المرسومة. لقد قابلتنا من قبل –كحزب أمة- مسألة التحرك بمعزل عن التجمع الوطني الديمقراطي لأننا استبطأنا تحركه. ولكننا انضباطا بوجودنا داخل التجمع لم نقم بأية اتصالات جانبية إلا بعد أن ناقشنا المسألة في اجتماعات هيئة قيادة التجمع واحتفظنا للفصائل بحق التحرك المنفرد ثم عرض النتائج على التجمع. كان هذا في إطار تجمع هو لفصائل مختلفة ببرامج وهياكل وتاريخيات وأولويات مختلفة، فكيف يكون الحال لقيادات داخل حزب واحد؟ . إن ادعاء التزام خط قومي بدون التنسيق مع أجهزة الحزب المختلفة هو الفوضى بعينها.
    إن من سمات القومية أن يتجاوز الناس النظرة للقضايا بمنظار المكسب الحزبي بغض النظر عن المصلحة القومية وأن تعمل الأحزاب كل حزب حسب رؤيته للمصلحة الوطنية العامة وأن يكون تكوينها وبرامجها قومية لا تحتكرها فئة و لا تعزل أحدا. وبهذه المعايير فان حزب الأمة هو الحزب القومي الأول وهو الذي يربط شمال السودان بجنوبه وغربه بوسطه وشماله وشرقه.أما مواقفه فلم أر فيها أي موقف يمكن أن يوصف بالحزبية الضيقة،وعليه فان العمل تحت مظلة هذا الحزب لا يمكن أن تنفي صفة القومية والوطنية عن أي شخص وإذا كان هناك من يرى ذلك فهذه وجهة نظر مشروعة ولكن تترتب عليها نتيجة منطقية وهي أن يبارح ذلك الشخص الحزب ويسلك طريقاً آخر يحقق له القومية.إن الصفة التي ادعاها السيد مبارك لا تخول له أن يحبس المعلومات التي يتحصل عليها من موقعه كقيادي في الحزب عن الحزب الذي قدمه لذلك الموقع .ونقطة أخرى تدحض هذه الدعوى بالقومية وهي إصراره على المشاركة الثنائية في مقابل حرص الحزب على الحل الشامل الذي لا يعزل أحداً ".
    والآن وقد بارح السيد مبارك وجماعته (القوميون العاملون على خدمة جماهيرهم!) فإننا رأينا كيف ظهر عمق تلك القومية في برنامجهم الموقع (في الفصل الثالث) ومن ذلك تغيير لغة الاتفاق بدلا أن تكون تنازلا من حزب مبطوش به لأجل المصلحة العامة والقومية، لصالح اتفاق بين حزبين جمعت بينهما التواريخ والمبادئ المشتركة، والتي لم تجمع بالضرورة بقية السودانيين!.. وكان أول إرهاصات القومية فتح قائد الانسلاخ النار على كل الجبهات داخل حزب الأمة وفي حزب العدالة مضافا إلى جبهته الأصلية (الحزب الاتحادي الديمقراطي).. ولكن المهزلة الكبرى في هذه "القومية" أن السيد مبارك بالذات من قيادات حزب الأمة التي لم تفلح في جذب قلوب عامة السودانيين فلم "يصفق" له أحد من قبل خارج حزبه، بل داخل حزبه كان يتحرك في حزب داخلي يحمده بينما الآخرون منه في ضيق. وقد دهشت ذات يوم من مبلغ "القومية" تلك والتي يدلل عليها ليس فحسب أقاويل الشخص المعني بل وأقاويل بقية "القوم" المعنيين أيضا، وذلك في أحد حلقات "بين الصحافة والسياسة" حيث حكى السيد الصادق كيف أن السيد مبارك نال كل مناصبه تزكية منه حتى انتخابه في دائرة تندلتي كان بترشيحه بعد أن طلبت منه لجنة الدائرة مرشحا مركزيا.. حينما فرغ السيد الصادق من تبيان "تاريخية قيادية" السيد مبارك.. ولأول مرة في ذلك المنبر ولآخر مرة فيه صفق الصحفيون الحاضرون بانتشاء، فكأنما السيد الصادق كان يطربهم بحديثه ذاك وليس فقط يوضح .. هذه الحادثة تظهر مدى مكانة المذكور في قلوب قادة الرأي السوداني على مختلف مشاربهم.. إنها ردهم على "قومية" السيد مبارك، بل أكثر من ذلك هي ردهم على مشاعر متبادلة أشرت لها آنفا في عدم اعترافه بهذه الآلاف قليلة الكم التي تهرق المداد على الصحف!.
    الحجة العاشرة: رؤى حول إمامة الأنصار:
    لم يتقلد السيد مبارك منصبا داخل هيئة شئون الأنصار، ولكنه كان مؤيدا لكل خطوات الهيئة الداعية لانتخاب الإمام منذ تكوينها في 1979م، لم يعرف له موقف مخالف لذلك. بل إنه كان دائم الحمد للهيئة ولقيادتها ولنشاطاتها. والمعركة التي خاضتها الهيئة لتثبت أطروحتها بانتخاب الإمام، وبعدم اعترافها بالنسب أو الحسب أساسا للإمامة معروفة، ومعارضة السيد مبارك لكل مدعي الإمامة داخل بيت المهدي بحجة الوراثة أيضا معلومة، فلماذا غير موقفه من موضوع الإمامة وأنكر مواقف هيئة شئون الأنصار جملة وتفصيلا؟
    إن الزج بموضوع إمامة الأنصار هو ابتزاز يفتقد للمثل والمبادئ التي يجب أن تسنده، ويشكل اعتداء على كيان حمل راية العمل الأنصاري لمدة ثلث قرن وقام به لمدة ثلث قرن وقام به بكفاءة عالية بل كان ضمير الشعب السوداني الوطني أيام الشمولية الصماء. هذا الكيان متطلع للإمامة على أسس مرجعية مذكورة أدناه.. إن سعي هيئة شئون الأنصار لتأسيس الإمامة على الانتخاب لا تسانده المرجعيات الأنصارية فحسب، بل تتحقق به مصلحة الأنصار في اللحاق بالعصر، كما تسد به ثغرات الاختلاف الفردي بين الأشخاص إذا كانت الوراثة هي المرجع المتبع، وتقي شر الفلتات التي يمكن أن تحدث للكيان وتمزقه شذر مذر.
    وبصرف النظر عن أهلية السيد أحمد المهدي –مرشح السيد مبارك للإمامة-وقد كان حتى عهد قريب أجهر وأوسع الناس طعنا فيها- بصرف النظر عن ذلك فإن للإمامة مرجعية لا تسمح لأشخاص، يرجى منهم عدم الاستخفاف بأمرها، التعامل معها كأنها كروت للضغط أو ميادين للنزال السياسي أو على أقل الفروض كأنها مزاجات خاصة.
    في مقابلته الصحفية، وفي الخطاب الممهور بأحرف من طرف جماعته، وفي الحملة الصحفية، وفي بيان "أحبابنا الأوفياء" الذي وزع في صلاة الجمعة بمسجد الهجرة في يناير 2002م، وفي جميع حلقات الهجوم الاختراقي على حزب الأمة سيقت مسألة إمامة الأنصار، وتصورات السيد مبارك لها القائمة على التوريث، قال عبد الرحمن الغالي:
    1- زج السيد مبارك بهذه القضية في صراعه داخل حزب الأمة واستخدمها استخداما سياسيا. فطوال الفترة الطويلة الماضية لم نسمع منه إلا تأييدا للخط الذي تسير فيه هيئة شئون الأنصار بضرورة اختيار إمام الأنصار بالشورى ورضا الأنصار.
    2- هذه القضية قد يطول شرحها ولكني أوجزها هنا في الآتي:
    ‌أ) القيادة في الإسلام ضرورة وهي تقوم على شروط أهمها كفاءة وأهلية الشخص المختار ورضا الناس به.
    ‌ب) الإمام المهدي تجاوز- قبل 120 سنة- المفاهيم الوراثية واعتمد على مفهوم الكفاءة ورضا الناس وعلى ذلك الأساس اختار خلفاءه من خارج أسرته.
    ‌ج) الإمام عبد الرحمن قيادته للأنصار مكتسبة واجه في سبيل إثباتها عقبات أهمها: بطش وتضييق المستعمر عليه ######ط السودانيين نتيجة للمرارات التي خلفتها فترة الدولة المهدية ومقاييس الأنصار الحازمة ومطالبتهم له بالسير على نفس نهج والده الإمام إضافة إلى أن أبناء المهدي لم يكن لهم وضع خاص في فترة المهدية.
    ‌د) وقد تغلب الإمام عبد الرحمن على تلك العقبات والتف حوله الأنصار وطرح نفسه قائدا بايعه الأنصار طوعا لذلك سمى بيعته بيعة الرضا.
    ‌ه) الإمام الصديق حينما حضرته الوفاة أوصى بتكوين مجلس شورى خماسي برئاسة السيد عبد الله الفاضل وقال: (يرعى هذا المجلس شئوننا الدينية والسياسية بكلمة موحدة حتى تنقضي الظروف الحالية في البلاد وعندما تلتفتوا لأمر اختيار الخليفة الذي يكون إماما يكون ذلك عن طريق الشورى بقرار الأنصار). وقد اختار المجلس الإمام الهادي.
    ‌و) إذا أخذنا الاعتبار التقليدي: فإن السيد الصادق حسب الاتفاق المبرم في 1969 بين الإمام الهادي والسيد الصادق عند توحيد الحزب هو المسئول عن قيادة كيان الأنصار.
    ‌ز) وإذا أخذنا اعتبار التصدي لمسئولية الكيان وحكم الأمر الواقع فقد كان هو المتصدي لهذه المسئولية.
    ‌ح) وإذا أخذنا اعتبار الشعبية والقبول فقد تجمع ملايين الأنصار لمبايعته ورفض ذلك حدث ذلك في الجزيرة أبا شوال 1400هـ حينما قدم له الأنصار عهدا ثم في امدرمان وحدث ذلك قبل ثلاثة أعوام في كل أنحاء السودان.
    ومع كل هذا فإن السيد الصادق يريد أن يضع أساسا يصلح لكل زمان وهو أن يتم اختيار الإمام بالانتخاب حسبما يتماشى مع روح ما فعله المهدي وما أوصى به الإمام الصديق ومع روح العصر .
    هذا هو تصور الهيئة ومرجعياته، فما هو موقف السيد مبارك؟ وكيف يتسق موقفه المعلن مع دعوات التجديد والإصلاح.. بل كيف يتسق مع تاريخه الراضي بالهيئة الحامد لها؟.. وكيف بالله تحمل جماعة سوبا شعارات السيد مبارك حول الإمامة وشعار الهجرة إلى المستقبل في ذات الآن؟
    الحجة الحادية عشر: دكتاتورية الرئيس وأسرية الحزب
    أما بشأن أن رئيس الحزب دكتاتور فهذا ما يناقض المعروف عنه ولا يحتاج لنقض، ولو كان كذلك لما صبر على زعيم سوبا مع ما ظهر من أنه اتخذ ثغرة لاختراق الحزب لصالح النظام منذ أمد ليس بقريب، فقد كان يتابع التقارير كلها التي تجيء بتفصيل عما يقوله للمسئولين في النظام ضد الحزب ويحرضهم عليه، والتقارير تجيء عن جولاته الإقليمية وما يقوله فيها وعن ندوته في كوستي قليلة الحضور التي هاجم فيها قيادات الحزب وتنظيمه بأظهر ما يكون، وعن تكوينه لحزب مواز.. لكن النهج الديمقراطي كان يمنعه أن يتخذ أي إجراء لا يكون عبر المؤسسة وبموافقة الأجهزة.. وأخيرا كان صبر جماعة سوبا أقل من صبر السيد الصادق عليهم فأراحوه من عناء الجراحة، وعلى حد تعبير محمد المكي إبراهيم "ولذلك يقول البعض أن ما جري حقيقة هو أن دما فاسدا أراد الخروج فتركه المهدى يخرج موفراً على نفسه أجرة الحجامة." والغريبة أن جماعة سوبا تعتبر مجرد إدلاء الرئيس برأي دكتاتورية لأنه يملك كاريزمة ويقنع الناس بسهولة، وهذا فهم عجيب، فكيف يظن أحدا أن الديمقراطية هي أن يصمت شخص بينما يتحدث الآخرون. والعجيبة أيضا أنهم مثلا استاؤا من صمته إبان مناقشات مسألة المشاركة وأنه لم يقف بثقله الفكري وقدرته على الإقناع إلى جانبهم!! وعدت هذه أيضا ديكتاتورية فكيف لا يؤازر خطهم الصحيح بكل ما يملك!. وإذا كانت الواحدة لتتبع أحاديث السيد مبارك تأكيدا لديمقراطية زعيمه ومؤسسية الحزب لحصلت على أدب غزير، يكفي كمثل قوله في جريدة الوطن الكويتية بتاريخ 2/8/1991م الآتي: "السيد الصادق المهدي صحيح هو زعيم الأنصار ورئيس حزب الأمة وله وزنه في الساحة السياسية السودانية ولكنه يتعامل في إطار مؤسسات ديمقراطية للحزب وبالتالي هو خاضع تلقائيا لرأي المؤسسات".
    والسيد مبارك يتحدث عن أسرة السيد الصادق المهدي وتسلطها على أجهزة الحزب، مع أنه يدرك تماما أنه لم يصعد أحد من هؤلاء بغير بلاء يؤهله لذلك (جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا)، فالسيد الصادق ليس "مستجد" سياسة اليوم لقد ولج ميادينها كمسئول في الحزب وانتخب رئيسا له ثم كمسئول في الحكم رئيسا للوزراء مرتين.. ومنذ الستينيات، والشعب والحزب يراكم معرفته له، يعرف مبدئيته، وموضوعيته، وتعاليه عن سفاسف الأمور، وذمته المالية، وصدقه ومثاليته التي طالما تضجر منها السيد مبارك. هذه التهم معلوم الرد عليها ويوزعها أصحاب الفم المريض من باب "سيد الرايحة يفتش خشم البقرة" فهم يجربون كل حيلة وكل تيلة يمكن أن تقال أو يتم التفكير فيها، وقد انضم السيد مبارك لهؤلاء بدرجة تفوق في بحثه الأخير عن حيلة للمشاركة الانخراطية. وقد كان السيد الصادق سئل من قبل عام 1992م عن رده إذا وجهت له هذه التهم فقال: ": لقد كان علي قمة حزب الأمة مكتب سياسي منتخب وهيئة برلمانية منتخبة .. ولم أتدخل في ترشيح الذين انتخبوا في الحالتين. وأقول لك أن هذه الأجهزة كانت تجتمع بانتظام وتناقش وتقرر ووقائع هذه المداولات ووقائع الأجهزة المتفرغة مثل اللجنة التنفيذية موجودة في مكان ما. وأقول قولاً واحداً أن أي موضوع سياسي أو تشريعي أو تنفيذي نوقش واتخذ قرار ديمقراطي بشأنه. والتهمة التي كانت توجه لي في هذا الصدد أنني كنت ديمقراطياً أكثر من اللزوم في ظروف بلادنا المتخلفة. وإنني بطبعي أكرم الناس واحترم الرأي الآخر في كل مجال، واتهامي بالدكتاتورية من باب : ومن يك ذا فم مر مريض، أو (الما بريدك في الضلمة يحدر ليك) وأنا أفهمها علي أساس أنها زفرات كراهية لا يخلو أحد من الناس منها، ويعوضني الناس قصادها آيات ثقة وحب خشيت ومازلت أن تكون لي فتنة. أما بخصوص أقاربي فإنني قد عينت عشرات الناس في الوظائف الدستورية المختلفة من وزراء مركزيين ووزراء ووزراء دولة، وحكام أقاليم ووزراء إقليميين .. الخ. ولم يكن من أقاربي في هذا العدد الضخم إلا اثنان هما مبارك ورشيدة. ". ولا أود الخوض فيما قيل ويقال عن السيد مبارك، لأنني كنت أحسب ذلك ظلما، ولأن هذه الأساليب الرخيصة لا تشبه نهجنا الذي يعلو على المهاترات.
    وكمثال للوي يد الحقائق الذي تتخذه هذه المجموعة أشير لتهمة وجهت إلى من قبل هذه المجموعة وهي تحكمي بصفحة الحزب بالإنترنت في إطار الأسرية (صدر بيان من مكتب السيد مبارك بهذا المفهوم، وقد سبقت إشارتي لهذا البيان وفضح الأكاذيب حوله تحت عنوان: سياسة تمويه الحقائق). فقد تعاملت مع السيد مبارك في الآونة الأخيرة عدة مرات. لم ألمس في أحد تلك المرات أنه يستنكر عملي بمكتب السيد الصادق أو يعتبر ذلك نوعا من الأسرية، وأسوق الشواهد التالية:
    أولا: عندما تشاورنا لإنشاء وحدة معلومات الخارج وخططنا ورقتنا التأسيسية(لم ينشئها السيد مبارك كما كان الادعاء)، خاطبت السيد مبارك بخطاب في 13 مايو 1999م –مشار له آنفا- وأعلمته بما قمنا به وناشدته –بناء على تجربتي في سرعة استجابته السابقة- ليساعدنا في وحدة الداخل. وقد أثنى السيد مبارك كثيرا على ما قمت به من عمل وقال لي : "مجهود كويس، بس كنتي تذكري أن كل ذلك الجهد –يقصد المكاتب التي أنشأت بالخارج- كان بيدي"..ووعد بالاستجابة، وهو ما لم يحدث. في تلك الفترة جمعتني بالسيد مبارك عدة تعاملات وجلسات كان ما يظهره عبرها حيال عملي إيجابي جدا.
    ثانيا: إثر عودتنا في تفلحون، كان السيد مبارك كثيرا ما يمر على السيد الصادق خاصة أثناء الجولة الأولى للتفاوض مع النظام، ويزورنا أحيانا في المكتب إذا كان يريد كتابا أو ورقة، وكان كل ما مر –صباحا أو مساء-يجدني في المكتب ويعلق لي قائلا: هل ذهب الآخرون وتركوك؟ هكذا الناس في السودان يتركون المجتهد وحده.. والحقيقة أن كل موظفي مكتب السيد الصادق مجتهدون ولكن عملي ربما كان أكثر ارتباطا بالمكتب في تلك الأيام.. وهذه الرواية تؤكد أنه لم يكن يعتقد أنني أعمل في هذا الموقع بصفتي الأسرية.
    ثالثا: حينما كون السيد مبارك مجلسا لقطاعه السياسي ليرسم السياسات، أعلن أنه اختار له خيرة عضوية الحزب، ومهما يكن من أمر صحة هذا الادعاء، فقد اختارني السيد مبارك مع تلك "الكوكبة" المكونة من ثلاثين عضوا.. صحيح أنني لم أستطع الاستمرار في المجلس لعدة أسباب خاصة بظروفي وبالمجلس نفسه، ولكن هذا الاختيار يؤكد أنه لم يكن يعتقد أن كل مؤهلاتي أسرية والعجيبة أن السيد مبارك اختار أيضا في مجلس القطاع السياسي أخي المهندس صديق الصادق. فكان في المجلس ذي العضوية المحدودة اثنان من ذرية السيد الصادق.. هل كان ذلك اعترافا من السيد مبارك حينها بأهلية أبناء وبنات السيد الصادق وسط زملائهم في الحزب، أم أنه كان محاولات للتماشي مع الأسرية؟.. ولكلا الإجابتين توابع تنفي حق السيد مبارك في الضجر مما يسميه الأسرية.
    إنني لا أود التدليل بما سقته هنا على أهليتي وما ينبغي لي، ولكنني أدلل على أن السيد مبارك لا يرعوي عن لي يد ما ظهر من معتقداته هو نفسه لأجل مصلحته في النيل من السيد الصادق ورميه بالأسرية.. ويسير في ركبه بقية أهل سوبا حذوك النعل بالنعل، فلو دخل جحر ضب خرب لولجوه، وقد فعلوا في سوبا!.
    إن اتهامات "أسرية السيد الصادق" هذه تأتي ضمن اختلاف القول الذي تنتهجه جماعة سوبا 2002م، فقد أتى حين من الدهر على قيادات تلك الجماعة كانت الأكثر دفاعا عن موضوعية رئيس الحزب وأحقية أفراد أسرته لتولي المناصب التي تولوها. وبيدي الآن ورقة مطولة من الحبيب أحمد يوسف (قربين) يذكر فيها هذا الاختلاف الواضح في تصريحات تلك الجماعة والتي كانت السبب الرئيسي لإعراضه عن أفرادها بعد أن كان لهم من المقربين. يورد الحبيب أحمد يوسف عدة مشاهد تؤكد هذه الحقيقة، منها:
    المشهد الأول: يورد أنه كان مرة في المركز العام للحزب بأم درمان في مكتب قطاع الشباب والطلاب، وقد كان رئيسه حينها الأستاذ الفاضل آدم أحد قياديي سوبا 2002م، يقول قربين أن بعض الناس ذكر مسألة الأسرية، وأن الفاضل آدم تصدى لهم قائلا إنه لم ينل أحد من أسرة السيد الصادق منصبا إلا استحقه بنضاله، وذكر أن صديق كان معهم في معسكر الجزيرة أبا وهو في مرحلة المتوسط وقد كان مؤذن المعسكر، وأن مريم كانت منظمة منذ أيام الدراسة الجامعية في جامعة الخرطوم وقد كانت ضمن قائمة الطلاب الأنصار التي خاضوا بها الانتخابات عام 1982/1983، وقال أن عبد الرحمن الصادق بقيادته لتهتدون فحسب إذا وجدت عدالة فإنه يستحق أعلى الرتب بالجيش، وقال عن عبد الرحمن الغالي (صهر السيد الصادق) أنه منذ دراسته الجامعية كان طالبا أنصاريا منظما في جامعة الخرطوم.
    المشهد الثاني: يورد تكرارا للمشهد مع الأستاذ آدم إبراهيم وهو أيضا من قيادات سوبا 2002م، والذي قال أنه كان يدافع عن عبد الرحمن الغالي، ويقول أنه أنصاري حزب الأمة بالميلاد ولم يحد، وعما يورده البعض من أنه رفض أن يعلق جريدة "صوت الأمة" على لوحة الحزب –إبان فترة الديمقراطية- قال بأنه كان يقوم بذلك لرفضه لمضمون الجريدة وليس لأنه غير حزب أمة.. وهذه النقطة بالذات أثارها بعض خصوم المذكور من أنه لم يكن ملتزم بالحزب وأدبياته فكان بدلا من عرض جريدة "صوت الأمة" على لوحة الحزب بالجامعة يعرض جريدة "الشماشة".. وهي مسألة تدل على شيء من آفة الفهم لمن يثيرها في رأيي، فكيف يقوم شخص غير حزب أمة بالتسلط على لوحة الحزب وتعليق مادة ونفي أخرى.. ومهما قيل عن صحة الموقف فهو يدل على أنه لم يكن مجرد طالب منظم بالحزب بل له صفة تجعله يتحكم في نوع المادة المعروضة باسم الحزب!.. علاوة على أن الكثيرين كانوا يعتقدون أن صوت الأمة لم تكن دائما قائمة بعملها الإعلامي على ما يرام، وربما خدمت جريدة الشماشة خط الحزب أكثر منها في بعض الأحايين.
    وقد أورد الحبيب قربين ذينك المشهدين ومشهد ثالث يحمل ذات المضمون على سبيل المثال لا الحصر.. ولو أردنا تتبع ورصد اختلاف القول حول مسألة أسرية الحزب عند جماعة سوبا 2002م لفرغ مدانا قبل فراغنا منه.
    الشاهد، أنني قد تعرضت لهذه التهم بالتفصيل من قبل مداخلة مقالات وردت على صفحات الصحف، وفي كل مرة كان يقال لي دعي الرد يكون بقلم الآخرين. وقد ووجهت بهجمة شرسة من العديدين من قبل جراء خوضي في هذه وغيرها لتركيز الاتهام بالأسرية، ولكني لم ولن أتراجع عن موقفي في سن قلمي متى ما عن لي ذلك، ولن أتبع نصيحة البعض باتخاذ أسماء وهمية أو مستعارة، فنحن نواجه بهذه التهم أصمتنا أم نطقنا، والدليل الأكبر على عدم الأسرية لصاحب اللب هو خوضك المعارك وتصديك مبادأة، ذلك يثبت وجودك أعلى المناصب أو بعيدا عنها.. أما من يرون التصدي دليلا على الأسرية ففي بعد عن الحق كبير!. والأسرية تقال عن نيل الشخص لمكانة أو منصب بسبب حسبه أو نسبه وبدون عطاء يذكر، وعكسها هو بذل أهل الحسب والنسب للعطاء وبدون مناصب تذكر، وعندي أدلة على هذه كثر ذكرتها في مناسبات مختلفة، مستنكرة ما يود البعض عمله من أن يكون النسب عاملا على تعويق مسيرة الشخص التنظيمية وبخسه أشياءه.. وقد ارتضيت أن يكون اسمي عائقا لي في مراقي الحزب ذلك أن الترقي على العتبات ليس صيدي الذي أطلب، ولكنه سيكون بعيدا ارتضاء الصمت كي يتحدث الآخرون، أو الابتعاد، أو أي مما ينصح به البعض لتلافي اتهام الأسرية.. إنك لا تتبع ذوي الأمراض الفهمية والأغراض النفسية إذا كان لك عقل ولسان.. وستذهب اتهاماتهم تلك زبدا جفاء، ويمكث مداد خط بالحق، وما ينفع الناس.
                  

08-27-2012, 08:37 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    خاتمة
    يــا قاصد الخراب شوفلك غرابا جزّو
    والجبل الأصم شفتو الهبوب بتــهزو؟
    محمد صالح سليمان- الحديبة
    لقد أوهم المنسلخون السلطة أن أغلبية حزب الأمة معهم وهو ما ظهر زيفه، كما أوهموا الذين ساروا معهم أن الحكومة ومصر وأمريكا في جيبهم، ولكن لم يحضر تجمعهم ولا سفير واحد مع أنهم وجهوا دعوات فاخرة لكل السفارات بالخرطوم. ليس ذلك فحسب، بل لقد نشرت جريدة البيان الإماراتية بتاريخ 31 يوليو 2002م بعنوان "القاهرة تنصح مجموعة الفاضل بإنهاء الانشقاق" الآتي: "تحطمت آمال مجموعة مبارك عبد الله الفاضل المنشق من حزب الأمة المعارض الذي يتزعمه الصادق المهدي، رئيس الوزراء السابق، في تسويق انشقاقها من الحزب عالميا، بعد أن نصحت القاهرة، التي تعتبر مفتاح القوى السياسية السودانية نحو العالم، المنشقين بالعودة إلى صفوف الحزب من جديد والعمل على تماسكه ووحدته باعتبار أن وحدة القوى والتنظيمات الشمالية وتماسكها خلال الفترة الحالية ضرورة ملحة تضمن وحدة التراب السوداني".
    كما أوهم المنسلخون الناس أن المشاركة هي للفاعلية وصنع القرار – وقد بينا فاعلية الحزب بدون المشاركة. ورفعوا شعارات الإصلاح والتجديد والمؤسسية، شعارات حق أريد بها باطل كما أثبتنا. وكالوا على الحزب الاتهامات في تنظيماته وفي قيادته وفي دوره الوطني بعد أن أبى الانقياد كالأعمى وراءهم، وقد بينا الحقائق في كل تلك التهم.. وبالرغم من ذلك فإن ما ناله الحزب جراء ذلك هو مزيد من التألق:
    وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتــــــــــــــــاح لها لســان حسود
    لــولا اشتعال النار فيما جاورت ما كـــان يعرف طيب عرف العود
    والآن..
    ربما عن لأحد السؤال: لماذا لم يتحرك الحزب لاحتواء هذه الجماعة المخربة قبل الآن، ولماذا صبر عليها حتى تهاوت كالأوراق اليابسة، رغم ما قامت به من تخريب من قبل، ورغم اتضاح سوء نيتها منذ زمن بعيد؟. هذا السؤال ظل يتكرر في الصحف ولدى بعض عضوية الحزب، ولدى العامة، وهو له منطقه ومشروعيته، ولكن التبريرات الموضوعية التي أدت لهذا المد هي:
    أولا: النهج الديمقراطي: حزب الأمة حزب ديمقراطي، والجماعة المنسلخة ممثلة في أجهزته. مثل هذه المؤسسات لا يمكن التعامل فيها بالمشرط، ويجب أن تناقش فيها كل خطوات الإقصاء بصورة تقبلها المؤسسة وتجيزها. لقد كون الحزب لتفادي مثل هذه الزلات بين قياداته لجنة لضبط الأداء، ولكن العمل الحزبي السوداني لم يستطع هضم آلية الضبط بعد، مما جعل معظم تحركات اللجنة تثير ضجة لدى الرأي العام. علاوة على ذلك، فإن اللجنة وإن كانت لها صلاحيات لبحث الأعمال الخارجة عن المؤسسة لم تكن لها آلية للتحري والإثبات. وبالرغم من ذلك فقد تحرك بعض القياديين والكوادر في عملية للتحري ولتوثيق تجاوزات تلك المجموعة. تلك العملية كانت تسير ببطء تتطلبه الدقة والأمانة في تتبع تجاوزات الجماعة المذكورة، وإثباتها لدى آلية المحاسبة المعتمدة.
    ثانيا: البيان بالعمل: كان من المفيد إتاحة فرصة للجماعة لعرض أفكارها داخل الحزب وخارجه، لقياس مدى صدقية ادعاءاتها. لقد ادعت الجماعة أنها تمثل أغلبية القيادة والقاعدة، ورفعت شعارات للتجديد واعتبرت مبارك ألفين صادق الستينيات.. كل تلك الادعاءات كان لا بد لها أن تصل حتى "ميسها" ليقتنع الناس داخل الحزب وخارجه بالمبررات الحقيقية لكل تلك الضجة، ألا وهي الانخراط في السلطة القائمة، بلا أي محتوى فكري أو وطني أو إصلاحي.
    ثالثا: الرأي العام: إن الرأي العام دوما ما يتعاطف مع الفرق المستضعفة. صحيح أن السيد مبارك لا يجد تعاطفا داخل الرأي العام السوداني عموما، ولكن استعجال البطش به وبمجموعته ربما جر له تعاطف غير موضوعي. لذلك كان من المناسب أن يمد له حتى يظهر جليا للرأي العام السوداني أبعاد أطروحاته "التجديدية" و"المشاركية"، وحتى ينجلي عمق صيحاته تلك، فيدرج مع سابقيه من الأحياء والأموات الذين لم يصبروا على مرارة النضال وفرطوا في المبدأ من أجل المنفعة.
    لقد أطلقنا في مقدمة هذا الكتاب وعدا بإصدار جزء ثان من الكتاب يحمل الأدب الرصين الذي نشر حول تجمع سوبا في الصحف الوطنية، والخطابات والمذكرات التي أتت من شتى بقاع البلاد ومن كل جهات العالم حول ذلك التجمع، ونحن على ذلك الوعد نعمل أن يتحقق قريبا.
    إن تجمع سوبا لن يضير الحزب شيئا- بل لقد تسبب في التخلص من جماعة لم ترض بقرارات الحزب الديمقراطية المؤسسية فانقلبت عليها- إن السند الحكومي قوى أو ضعف لتلك الجماعة لن يؤثر على صلابة عضوية الحزب وموقفها تجاه أجهزتها القيادية- ولكن الحزب سيسعى بكل ما أوتي من قوة في البناء الذاتي- وفي مساندة اتفاقية السلام عبر دعم بروتوكول ماشاكوس وغيره من مجهودات الحلول السلمية أكانت عبر المبادرة المشتركة أم المجهودات الداخلية المختلفة والتي تسعى للاتفاق حول ميثاق قومي لحل سلمي لمشاكل البلاد تشترك فيه كل القوى والمنظمات السياسية بما فيها الحكومة.
    إن حزب الأمة يسير في طريقه لا يعبأ بعراقيل هنا وهناك، يسأله البعض عن جماعة فصمت عروة الجماعة وانخرطت في "الإنقاذ"، فيردد "مدحة" شادي الحزب والكيان المجيد "زين العابدين أحمد عبد القادر" ويقول:
    المولى الحنين.. ندعوك يا سلام
    عام ألفين واتنين.. يبقى عام سلام
    في ناس طبالين..
    وفي ناس مطبلين..
    ماشين طين في طين .. داخلين في ظلام
    الدروس المستفادة
    الدرس الأول: الحاجة للإبداع: لقد تسلمت رسالة من الأخ محمد دقة وقد وقع على حلقة من الكتاب، فأرسل لي عبر البريد الإلكتروني يقول: "إن المثال الحالي (الانسلاخ) لا يحتاج إلى اجتهاد كبير في الرد على حججه وأهدافه وأفكاره (إن وجدت). النقطة التي اعتبرها على قدر عال من الأهمية لابد من التقديم لها بالتالي : الأفعال يمكن تقسيمها إلى فعل سلب وفعل إيجاب على اعتبار انهما الاثنين ردود أفعال(فعل ورد فعل عبارة تعنى بالضرورة أن الأفعال مترابطة وغير منتهية أي هي حلقات و بالضرورة أن يؤثر الفعل على الأقل في اتجاهين) والفعل السلب هو الذي ينبني على تحديد خيارات فرضت مسبقاً أما الفعل الإيجاب هو أشبه بالخلق أي بمعنى إضافة خيار للموجود بفعل الظرف المعين أو فتح باب جديد.. الشيء الذي كان واضحاً لي (عن بعد) أن الأجسام المادية- الهياكل التنظيمية- التي تم تكوينها –بالحزب- تنقصها أفعال الإيجاب لتواكب خط الحزب ولكن هذا الانسلاخ هو خير دليل ليس فقط لبرهان أن القدرة على إنتاج فعل الإيجاب مفقودة حتى على مستوى قيادات بل أنها غير قادرة على تلقيها والدليل على ذلك أن ما كانت تبشر به هو السبب الأساسي لانسلاخها ( ذكر مبارك الفاضل في مرة أن الحزب لا دخل الحكومة ولا بقى في المعارضة لتبرير انسلاخه) أي انه لم يستطع تحمل الدفاع عن فعل الإيجاب الذي كان واضحا انه مقتنع به والمهم هنا انه يعتبر أن الاختيار بين الموجود أصلا مبرر كاف لنعت أي محاولة لأي جديد بالسلبية. ولكن السؤال الذي يجب أن يفتح حوله الحوار، ما هو السبيل لكادر له القدرة على فعل الإيجاب أي اعتبار الخط العام للحزب كمحرض لفعل الإيجاب في مجاله؟..
    لقد أوردت هذه الأسطر من الرسالة المذكورة لأنها تقودنا للحديث عن أول درس نخرج به من حادثة الانسلاخ، وهو أنه لو كان صادقا في مبرراته فالدرس المستفاد من ذلك (الصدق) هو السقوط في مقياس الإبداعية.. إن مقام الإبداعية في بناء الشعوب مقام عال، وضرورة دعم الإبداعية في جميع مجالات الحياة ملحة: السياسية – الاجتماعية- الفنية- التكنولوجية.. الخ. إن الفشل في تقبل الحديث عن طريق جديد (خارج عن الحكومة والمعارضة) هو فشل في لفظ التقليد، وفشل في مقياس الإبداعية.. رسالة دقة تقودنا لهذه النتيجة. وهو ناتج عن فشل في تفهم أطروحة "الطريق الثالث" وليس عن إشكالية في الأطروحة نفسها، رحم الله أبا الطيب المتنبي القائل:
    وكم من عائب قولا صحيحا وآفتــه من الفهم السقيم
    ولكن تأخذ الألبـــاب منـــــه على قدر القرائـح والفهوم
    الدرس الثاني: ربط الوسائل بالغايات: إن الدرس الأول المشار له يجدي في حديثنا عن جماعة "تصدق" في مبرراتها، فماذا إذا لم تكن كذلك؟ وماذا إذا كانت تلك الجماعة تظهر مبررا وتخفي آخرا؟ هل يمكن أن تنجح هذه الخطة؟ وللرد على هذا السؤال فإنني استحضر ما نشر في صحيفة الشرق الأوسط هذا الشهر –أغسطس 2002م- من أن الجبهة الإسلامية القومية تعترف بذنبيها التاريخيين: المشاركة في الحكم المايوي الأوتقراطي- والقيام بانقلاب يونيو 1989م، وتطلب الغفران.. هذه التصريحات تؤكد أن ذلك الدرس –التفرقة بين الوسائل والغايات- قد مر على الحركة السياسية السودانية وأن نهايته ندم وطلب للغفران. هذا الدرس مر كثيرا على آخرين في حزب الأمة وغيره من الأحزاب السياسية الشعبية والعقائدية ومن المستقلين الذين لم تخل منهم قائمة من قوائم الحكومات الأوتقراطية، منهم من وعى الدرس وعبر عن تجربته مثل مذكرات السيد مرتضى أحمد إبراهيم "مذكرات وزير سابق" ومنهم من أخذته العزة بالإثم. هذا يعني أن الوسيلة يجب أن تكون من قبيل الغاية، وهو ما يقود "لاتفاق القول".. لقد كان السيد مبارك المهدي في زمان مضى من الملتزمين بخط الحزب المنافحين عنه، الرافضين للخروج عن خط الحزب ومبادئه. وفي 2 أغسطس 1991م أجرى السيد فتحي الضو حوارا معه في صحيفة الوطن الكويتية وسأله عن المخالفين الذين انضموا للإنقاذ فقال: "أي عنصر خالف هذا التوجه يكون موقفه شخصيا خاضعا للسقوط من المسيرة وهذا ما حدث لبعض الأفراد وذلك شيء طبيعي في أي مؤسسة هناك من يضعف ولا يستطيع تحمل ظروف النضال وله قابلية في الاستجابة للإغراءات وبالتالي تنتهي صلتهم بالتنظيم ". هذا على صعيد الأفراد، فما هو الموقف من الجماعات التي تخرج عن الجماعة وتدعي الشرعية؟ لقد أشرنا في معرض حديثنا عن التنظيم بالخارج للجماعات التي نظمت نفسها في خطوط خارجة عن التنظيم بقيادة السيد مبارك –والذي كان يستند لتفويض القيادة بالداخل- فماذا قال عن أولئك السيد مبارك؟ قال:" لم تكن هذه المسيرة الطويلة بدون عقبات أو مشاكل أو تحديات، فكانت أول هذه المشاكل على المستوى التنظيمي قيام جماعات كان على رأسها للأسف قيادات في الحزب تارة باسم جماعة الإصلاح، وتارة أخرى باسم القيادة الجماعية، لم يكن لديها هدف غير التشويش على الحزب وعرقلة المسيرة لمصالح وطموحات شخصية -قصيرة النظر- قدم فيها أصحابها مصالحهم الشخصية ونزواتهم على المصلحة الوطنية، لقد خرجت هذه الجماعات على خط الحزب" إلى أن قال: " أما من وقف من القيادات ضد خط الحزب وخرج عليه علنا، وعمل على تعويق المسيرة في هذا المنعطف الخطير من تاريخ بلادنا وتاريخ مسيرتنا السياسية .. فلابد من أن يُسال ويُحاسب حتى نستن سنة حميدة تُؤسس لنا تنظيما سويا معافى في المستقبل. ".. لقد كان يذم الاستجابة للطموحات الشخصية والإغراءات المادية والخروج عن الجماعة وما إليه.. ولكنه الآن يسقط في نفس الخانة التي سقط فيها أولئك الضائقون ذرعا بمسيرة استرجاع الديمقراطية وقسوتها أو طول مدتها. ولهذا فقد بدا الآن كأنه لم يكن ما كانه بالأمس، وقد عبر عن حسرة هذا الموقف ببلاغته المعهودة الشاعر محمد المكي إبراهيم فقال عن حادثة سوبا 2002م: "ولذلك يقول البعض أن ما جري حقيقة هو أن دما فاسدا أراد الخروج فتركه المهدى يخرج موفراً على نفسه أجرة الحجامة. وعلى ما في هذا التعبير من القسوة فإنه قريب للواقع . ووجه القسوة فيه أن الرجال القائمين على الإنشقاق لم يأتوا من بيوتهم وإنما عادوا من المنافي. وبعضهم جاء من جبهات القتال وليس بينهم من لم يضح بماله أو بعياله أو بمستقبله في سبيل الديمقراطية وخروجهم على المهدى لا يجردهم من تواريخهم كمناضلين ورجال ذوي شمم وأباء وفرسان مهدويين على بندقية الديمقراطية . ولكنه ظلم السياسة الشنيع أن لا تعبا بسالف ولا سابقة ولا يهمها إلا الحاضر وتلك شيمة فيها أصيلة . وإذا أراد المرء أن يسلم من أذاها فإن أمامه طريقة وحيدة هي الاعتزال. فلو أن هذا النفر من الأماثل اعتزل العمل السياسي بهدوء ومضي يحتطب ليكسب قوته وقوت عياله لما كان عليهم من تثريب، ولكنهم غيروا جلودهم السياسية وهاجموا القلعة التي كانوا ضمن المدافعين عنها، فصار عليهم أن يتوقعوا الأذى السياسي من الملايين التي لازالت تؤمن بالصادق المهدى كزعيم تاريخي مؤهل تأهيلا رفيعا لقيادة السودان نحو القرن الحادي والعشرين ." الملايين التي عبر عنها من قبل شاعر المؤتمر حين قال بمناسبة تخليد ذكرى الإمام الصديق بمؤتمر الخريجين:
    يا صـــــــــادق السودان إنك لم تـــــزل أمـــلا ترجيــــــــــه البلاد دوامــــــا
    هذي بلادك صــــــــورة مهــــزوزة أضحت يحيـــــر شكلها الرسامـا
    ولأنت قائـــــدها ومنقــــــذ شعبــــها إن جن ليل النائبــــات ظلامـــــــا
    سر في طريـــقك إن شعبك مؤمــــن بك قائـــــــــــدا ومعلمـــــا قوامــا
    ما زال يأمل في الخلاص على يدي بطل كمثلك صادقــــــــا مقدامــــا
    الشاهد، إن درس الفشل في ربط الوسائل بالغايات مرتبط بدرس "اتفاق القول" وهو ما ذكرته المهدية من ضمن ما أضافت للتراث الصوفي فيها .. ففك الارتباط بين الوسائل والغايات هو أول باب "لاختلاف القول".. هذا الدرس من أهم دروس الأديان، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد الذي يمهله الخالق لعباده حتى أجلهم وبعثهم، فلا يلتفت إليه إلا طالب الآخرة، بل إنه أيضا مرتبط بالحياة الدنيا ولدى المشتغلين بالسياسة بكسب مباشر لا يقاس بالدنانير، ولكن يقاس بما يرتبط في مخيلة رجل الشارع العادي عن ساسته وصدقيتهم.. ولا يزدري ذلك من يكون حزبه ديمقراطي التكوين والتوجه.. هذا الدرس ربما يفوت على الكثيرين ممن يرون السياسة لعبة قذرة ويحبون لعبها على تلك الأصول.
    الدرس الثالث: الوعي التاريخي: إن ثقافتنا المشتملة على كل تجاربنا الحياتية ترفد من التاريخ الكثير من الأقوال والأحداث والأفكار على سبيل العظة.. إن القراءة الواعية للتاريخ تجنب الوقوع في المساقط.. لا يغير شخص الحقيقة بالأقاويل والشائعات، وهي من أساليب سوبا 2002م المفضلة كما بينا، فحتى لو نجحت في إقناع البعض بها فإنك لن تقنع التاريخ، ولن تغير بهذه الطريقة مجراه كما تريد.. يجب أن تنبني خطواتنا على قراءة عميقة فعلا للتاريخ والحاضر.. إن سقوط سوبا 2002م دليل فاجع على ما يمكن أن تؤدي له القراءات المتعجلة أو الفطيرة للتراث –سواء كان المهدوي أو الحزبي- والقراءة العرجاء للتاريخ- في الستينات أو الحديث جدا في التسعينيات،. والدرس التاريخي الذي ينبغي أن تتلقاه جماهير حزب الأمة مما أشاعوه حول الانشقاق الحزبي في الستينيات، هو ضرورة التوثيق ونشر المعلومة عن كل الخطوات حتى لا يتم التشويش في فترة لاحقة.
    صحيح أن العماء التاريخي كان أحد أسباب السقوط، ولكن عضده أيضا عماء جماهيري ظهر في خطل الاعتقاد الفطير أنك بتكرار بعض التهم والأقاويل الزور تغير من الحقيقة، وهي أساليب أتقنتها النظم الشمولية القديمة والحديثة فلم تجن منها كسبا.. هذا درس أضافت سوبا 2002م له مثلا حيا، فهم ينعقون من ناحية وقلوب أهل السودان وعقولها تعي الحديث المقصود من ناحية، وهم لم يجهدوا كثيرا في جعل مقاصدهم أقل سفورا.. إن حزب الأمة لو أنفق ما في الأرض كي يقنع جماهيره أن جماعة سوبا خرجت عن الجماعة ولحنت قولها وبدلت جلدها لما استطاعوا إقناعهم بمثل ما أقنعتهم اللقطات التي بثت من تجمع سوبا عبر أجهزة الإعلام الرسمية. ولو أنفق ما في الأرض لما استطاع أن يوصل القارئ السوداني لمرحلة الغثيان من هذه الجماعة، كمثل ما فعل تصريح الدكتور علي حسن تاج الدين عشية انضمامه لهم حين قال: "جذبني بريق السلطة"!، ولا حين حاول تبرير حديثه ذلك بقوله: كنت أمزح!!.. هذه دروس مجانية في الساحة السياسية السودانية عامة ولحزب الأمة وجماهيره خاصة.
    الدرس الرابع: ديمقراطية كافة الحلقات: لقد كان لأسلوب التفويض في العمل الخارجي مبررات أمنية معينة. ولكن الثمن الذي دفعه الحزب بتكوين جسم لا يبالي بالتشاور والتكوين الديمقراطي ويستند بشكل أساسي على التفويض هو إصابته بضررين بالغين: الأول أنه سمح لذلك الجسم بالتمدد بدون الضوابط الديمقراطية والشكل المؤسسي، والتعامل بمشرط الإقصاء مع مخالفيه، والثاني أنه شكل مدرسة سيئة لمن قاموا عليه فلم يستطع مسئول العمل الخارجي اتباع المؤسسية واحترام الديمقراطية حتى بعد عودته للداخل.. والرأي عندي أن ذلك كان أحد الأخطاء التي يجب أن يتعلم الحزب منها درسا مفيدا: أن قضية الديمقراطية والمؤسسية لا تتجزأ ولا يجب أن تخضع لعقلية الطوارئ. لقد خاطب أحد قيادات الحزب بتندلتي رئيس الحزب لائما إياه في أنه رشح لهم السيد مبارك المهدي إبان الديمقراطية فكان منه ما كان باسمهم، وقد اعتذر السيد الصادق في خطابه لجماهير تندلتي في سبتمبر 2002م. ولكن الاعتذار الأكبر هو حق للكوادر الصلبة التي وقفت مع السيد مبارك بالخارج باعتباره حامي المؤسسية وقدمت كل عطائها وجهادها تحت رئاسته فجنى أعمالهم ثمارا تغذى عليها اسمه ولمع، وها هو يتحدث باسم النضال من الخارج وكأنه كان فارسه الوحيد!. لقد حاولت قيادة الحزب بالداخل في مرحلة ما تدارك لا مؤسسية الجسم القائم بالخارج كما أوردنا في رد رئيس الحزب على جماعة الإصلاح والمؤسسية، ولكن ذلك لم يتم تنفيذه إلا بعد خروج الرئيس في تهتدون. صحيح تم تدارك المؤسسة بالخارج، ولكن لم يمكن لأحد تدارك ما ألقي في ذهن السيد مبارك عن أساليب العمل الحزبي الديمقراطي، وعن المؤسسية!.
    الدرس الخامس التربية التنظيمية: وضرورة أن يكون الكادر الحزبي معد بصورة يمثل فيها فكر الحزب ومبادئه فلا يكون عرضة للاختراق الفكري والسياسي بهذه الصورة وفي أعلى المستويات. لقد جاء الخطاب الفكري في سوبا مسخا شائها مقتاتا على فتات أفكار الشمولية. مما يدل على سوء التربية التنظيمية مهما كانت الأسباب التي ذكرنا من مواجهة الديكتاتوريات وأعباء التصدي والملاحقات وغيرها. إنه لا يجدي حديثنا عن تربية ديمقراطية وأقلمة وغيرها من الشعارات إذا كانت بعض الأوعية التي تحمل هذه الشعارات لا تعي حقيقة ما تحتويه، ويمكن أن يخرج منها قيادي من قمة الهرم يكشف كل هذا الخواء الفكري.. قيل في ذلك:
    بلحك ناشف السوســـة بتخـش تضـارى وإن كانت رطب فســـدت تعادي الجارة
    خلي صفوفك المرصوصة ما خرخــارة لا يجيك اليخرقك لا جبــــان يتـــــوارى
    كثيرون يدركون مدى الجهد الذي تبذله قيادة الحزب في هذا الصدد، ووجود قيادات واعية ومطلعة وصلدة، وآلاف الكوادر الذين يهضمون فكر الحزب ويخرجونه ثمرات تتكشف في إبداعاتهم وفي سكناتهم.. ولكن خروج جماعة سوبا يجب أن يجعلنا ندق أجراس الخطر.. فكيف يصل من ذلك شأنه الفكري والمبدئي إلى ما كان وصل إليه؟!.. أم كما يقول بعض أهلنا "الإنسان بخلق مرتين"!.. أو ما جاء في الحديث عن الرسول  " إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ " .
    .. وندعو أن يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على طريق الحق، وجنبنا اتباع الهوى، وارفع هذه البلاد وانفعها بالثابتين على العهد.. آمين.

    المحتويات
    الموضوع رقم الصفحة
    إهداء
    تصدير بقلم الأستاذ محمد عبد السيد 4
    مقدمة المؤلفة 5
    الفصل الأول: مسلسل الاختراق: الحلقات الأولى 8
    ردود الفعل على قرار المشاركة 18 فبراير 2001م 9
    المذكرة الأربعينية مايو 2001م 10
    الحملة الصحفية ديسمبر 2001م 11
    مذكرة رئيس القطاع السياسي مارس 2002م 13
    لجنة تقويم الأداء ومراجعة قرار المشاركة 15
    الفصل الثاني: الحلقة الأخيرة.. تجمع سوبا. 17
    من الناحية التنظيمية 19
    من الناحية اللوجستية 20
    أدبيات سوبا 20
    كلمة اللجنة المنظمة 20
    ورقة مبارك المهدي 20
    ورقة نجيب الخير 25
    ورقة قضايا البيئة 26
    ورقة البترول 26
    ورقة الزهاوي 26
    ورقة الخدمات 26
    ورقة الهيكل التنظيمي 26
    البيان الختامي 26
    شعارات "المؤتمر" 29
    الشعر في "المؤتمر" 30
    الأثر على الجماهير 33
    الفصل الثالث: اتفاق سوبا وتحليله على ضوء مرجعيات حزب الأمة. 34
    خلاصة اتفاق سوبا 2002م مع المؤتمر الوطني 35
    مرجعيات حزب الأمة حول الاتفاق مع النظام 35
    نداء الوطن 35
    قرار 18 فبراير 2001م 36
    قرار 8 أبريل 2002م 37
    تحليل الاتفاق 37
    الفصل الرابع: المسألة التنظيمية. 40
    الباب الأول: التنظيم من 1945-1989م 41
    الباب الثاني: التنظيم منذ 1989 وحتى الآن 45
    التنظيم الاستثنائي (1989-2000) 45
    تنظيم الداخل 45
    تنظيم الخارج 46
    التنظيم الاستثنائي بالخارج 89-97 46
    التنظيم الاستثنائي بالخارج 1997-2000 51
    التنظيم المرحلي (2000-2003) 53
    لجنة التنظيم وتوسعة التشاور 53
    اجتماعات الداخل والخارج في فبراير 2000م 53
    ورشة التنظيم التخصصية 2 يوليو 2000م 54
    اجتماعات يوليو أغسطس 2000م 54
    منشور البيان السياسي لمرحلة التحول 56
    العودة تفلحون نوفمبر 2000م 59
    المؤتمر العام المزمع في يناير 2003م 59
    الفصل الخامس: مرجعية الستينيات والتسعينيات 61
    ضلال التشبه بانشقاق 1966م 63
    ضلال التشبه بانقسام المؤتمر الوطني 65
    حساب الانسلاخيين 66
    حسابات حزب الأمة 67
    الفصل السادس: حجج سوبا 2002م والرد عليها: 69
    الحجة الأولى: تطوير لا تنظير. 71
    الحجة الثانية: الإصلاح 72
    الحجة الثالثة: التجديد الحزبي 76
    الحجة الرابعة: عدم فاعلية الحزب 77
    الحجة الخامسة: لا قداسة في السياسة 80
    الحجة السادسة: العجز المالي للحزب 81
    الحجة السابعة: المشاركة لخدمة الجماهير 82
    الحجة الثامنة: قرار لجنة الرقابة واحتجاجات السيد مبارك 82
    الحجة التاسعة: التحرك القومي 83
    الحجة العاشرة: رؤى حول إمامة الأنصار 84
    الحجة الحادية عشرة: ديكتاتورية الرئيس وأسريته 84
    خاتمة 87
    الدروس المستفادة 87
    المحتويات 90
    مراجع الكتاب 92
                  

08-27-2012, 08:41 PM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    بالمناسبة هذا الكتابة في نسخته القديمة ويتوقع في الايام القليلة القادمة ان يصدر الكتابة في نسخته الجديدة بعد الاضافات الضافية والمهمة التي تمت اضافتها للكتابة
                  

08-28-2012, 07:19 AM

عمر عبد الله فضل المولى
<aعمر عبد الله فضل المولى
تاريخ التسجيل: 04-13-2009
مجموع المشاركات: 12113

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)

    التحية للمهندسة والكتابة الحبيبة رباح الصادق المهدي لهذا السفر القيم
                  

08-28-2012, 08:10 AM

ahmed haneen
<aahmed haneen
تاريخ التسجيل: 11-20-2003
مجموع المشاركات: 7982

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حتى لا ننسى.. الاختــراق والانســلاخ في حــزب الأمــة القـــومي (Re: عمر عبد الله فضل المولى)


    انت يا الفالح كل مرة امشي جيب كلام رباح ..

    وصاحبك داك يجيب كلام مريم ...

    عالم رمم ....


    اختراق بتاع فنيلتك...

    وعبدالرحمن مساعد رئاسي..

    وبشري ضابط امن ...

    هو في اختراق اكتر من كدا .. يا بائس(عشان ما تجي تستخدم يا بائس دي)
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de