كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (10) والاخيرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 07:44 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-06-2012, 00:42 AM

د. عمرو محمد عباس


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (10) والاخيرة

    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل على الرابط (1)
    كتاب الرؤية : من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (1)
    ‎كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (2) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (2)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (3) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (3)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (4) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (4)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (5) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (5)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (6) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (6)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (7) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل على الرابط (7)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (8) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (8) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (8)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (9) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (9)

    الجزء الثالث

    الفصل الاول: دروس الثورات العربية

    مدخلى الى معالجة الطريق نحو رؤية ديمقراطية فاعلة ومستدامة فى السودان هو التأمل فى الثورات العربية التى اكتسحت العالم العربى فى اجزاءة الاساسية والهامشية. وهذا لم يكن اختيارا فقد عاودتنى الرغبة فى الكتابة بفعل هذة الثورات وتسربت خلال الكتابة التى استمرت اكثر من شهور فى اغناء النص. مدخلى الى هذة الثورات هو النظر للغابة وليس الاشجار، اى النظر لها من خارجها وليس من داخلها لان هذة تتيح النظرة العامة التى تعطى مجالا ارحب فى استخلاص الدروس والعبر. النظر الى الاشجار سياتى فى تناولى للسودان باعتبارى متاثرا بها واحيانا مشتركا فيها. ورغم حماسى منذ البداية مع الثورة التونسية ثم الثورة المصرية، كان فى داخلى حسابات داخلية لابد من تصفية الحساب معها واقساها التجربة السودانية ومصائر ثوراتها والمنحى الذى اخذتة الثورتين التونسية والمصرية، مما يعيد الى الذاكرة فشلها المريع الذى ترك لنا ذكريات الانهيار الكامل للسودان والوطن المقسم والمتنازع والسائر فى اللاطريق.

    احاول اختراق الحجب الكثيفة وكافة الاسباب الداخلية والاقليمية والعالمية وتداخلها وتشابكها، النظر فى المسالك التى قد تسير فيها الثورات العربية وكل ما ينتوية هذا الفصل التعرف على عناصر التغييرات الواضحة؛ مساراتها، مازقها والقضايا ذات الاولوية فى التغييرات السياسية، لانها نفس القضايا ذات الاولوية فى التغييرات السياسية المطروحة فى السودان. وللنظر بشكل موضوعى فهناك عناصر مشتركة بين ثورتى مصر وتونس وسوف يتم تناولهما معا. فى كثير من اللحظات التاريخية فى العالم وربما فى كل مكان واجة الناس اوضاعا معقدة وتجىء الحالة الليبية ضمن وضع مربك ومشوش لذلك تم تناولها بمفردها مع الاشارة الى سوريا فى متشابهاتها.

    الثورات العربية بدات فى احد الهوامش العربية فى تونس، ومع انها احدثت خلخلة شديدة فى صفوف النخب الحاكمة وجعلتها تحاول اتخاذ اجراءات متاخرة جدا فى الزمن الضائع ، لكن لم يكن فى ذهن اى من تيارات النخب الفاعلة ان التحرك القادم سيبدا فى مصر. النموذج الاسترشادى التونسى وجد الاستجابة الفورية من مصر وسرعان ما انتشرت الشرارة فى بلاد كادت ان تصبح نسيا فى التاريخ ، مغلقة بالرتاج الصدىء على كافة اطروحات الحرية والديمقراطية مثل ليبيا القذافى، اليمن وسوريا الاسد. بعد نجاح الثورة المصرية اكتسب زخم التغيير تسارعة الفعلى الذى نظن انة سيصيب كل الانظمة من شرق الخليج الى غرب المحيط الاطلسى وربما ينتقل الى افريقيا والسودان منها، هذة الكتلة البشرية التى يعتلى سدة سلطتها اسوا واخر الحكام الشموليين فى العالم.

    هذا منطق التاريخ الذى رايناة من بعد الحرب العالمية الثانية واندفاع كافة الدول الى مرحلة التحرر الوطنى. هذة المرحلة وجدت اتساعها وتسارعها بعد عبد الناصر لتشمل العالمين العربى والافريقى، لكن الاتجاة الشمولى الذى اختطتة ثورة يوليو، قيد التطور الطبيعى للتحرر الوطنى الى انظمة ديمقراطية كما حدث مبكرا فى العراق، ليبيا، سوريا، السودان لانها جاءت قبل بروز الناصرية وسيادتها فى العالم العربى. ولكن اثر مصر الناصرية جذب كافة الدول الى نموذجها الاسترشادى، فتهاوى العراق وتلاة السودان فى 1969 ثم 1985، الجزائر، ليبيا، سوريا، تونس واليمن. حتى جنوب اليمن ذهب من حرب التحرير مباشرة الى حكم الحزب الواحد دون المرور على اى محطة ديمقراطية كما كانت العادة.

    جاءت كل الانظمة (عدا الانقلاب الكلاسيكى السودانى 1958 وانقلاب قاسم فى العراق) بعد الهزيمة المدوية فى يونيو 1967، اما كانفعال ورفضا للهزيمة، او بتدبير من الناصرية الجريحة او من اثر خيبة الامل فى القوى القديمة وترددها وعجزها او كلاها معا. وعند بروزها فى ازمان الانحطاط تميل الانظمة الى الاستبداد، المحافظة والانغلاق. وهكذا تحول العالم العربى وبالتبعية جوارة الافريقى الى انواع من الديكتاتورية المستبدة والفاسدة وفاقدة الرؤية. ولان المحاكى دائما اسوا من المثال فقد عجزت حتى عن استشراف النموذج الناصرى قبل الهزيمة فى ارتياد التنمية البشرية والتصنيع الثقيل.
    اتفق مع جورج طرابيشى فى كتابة من النهضة الى الردة والتى كرسها لجلد الذات العربية المثقفة فى زمن الردة والهزيمة، اتفق معة اننى من جيل الرهانات الخاسرة ، جيل راهن على كافة الايديولوجيات من القومية، الاسلامية والاشتراكية ويراهن اليوم على الديمقراطية كمطايا للنهوض وتجاوز الفوات الحضارى. لا مندوحة اننى انتمى الى القرن العشرين، فقد تشكلت فى النصف الاخير من ذلك القرن واكتسبت معارفى و مهاراتى، وعملت فى اطار المنظمات التى حددتها معادلات ما بعد الحرب العالمية الثانية بل وشاركت فى صياغات سياسات تلك الحقبة. وان كان عملى فى دول متطورة ومنظمات عالمية قد اتاح لى التعرف واستعمال تقنيات القرن الحادى والعشرين، الا اننى سليل القرن الماضى واحد خازنى تطوراتة واحداثة والعارف بافكارة. اقول هذا لان الاحداث الجسام التى حملها عامى 2010- 2011 فصلت بشكل متعاظم بين القرنين على الاقل فى المنطقة العربية ودفعت بشكل بارز الى الصدارة الاجيال الجديدة سليلة القرن الحادى والعشرين.
    وبحكم هذا فاجد ان دورى مثل جيلى سينحصر فى محاولة فهم وتحليل وتبويب السياقات التاريخية التى اثرت للدفع باحداث التغييرات الضخمة –وفى بعض الاراء المفاجئة- فى كافة دول المنطقة. هذا التحليل الذى قد يساعد فى الوصول الى ملامح لصياغة تعبيرات من نحو الرؤية الاستراتيجية ، خريطة الطريق، معينات العمل، كتالوج الخطوات المطلوبة ونحوها مما سنفصلة عند تناولنا ما درج على تسميتها بالثورات العربية.

    النخب وثورات العرب فى القرن الحادى والعشرين

    عرف قاموس اكسفورد الانجليزي النخبة بانها اقوى صفوة اوعلية القوم من الناس في المجتمع فى نشاط او تنظيم معين. اما القواميس الفرنسية فعرفتها بانها: تضم اشخاصا وجماعات تشارك في صياغة تاريخ جماعة ما، بواسطة القوة التي يمتلكونها، او التاثير الذي يمارسونه، سواءً كان ذلك عن طريق اتخاذ القرارات، او الافكار التي يتخذونها شعارا لهم. وقد جاء في ( لسان العرب) لابن منظور، في تعريفه للنخبة انة خيارهم. وعرفت دائرة المعارف العالمية لعلوم الاجتماع : النخبة ( تصور يستعمل لوصف المعالم الاساسية للحياة الاجتماعية المنظمة. ففى كل المجتمعات سواء كانت بسيطة او شديدة التعقيد، صناعية وزراعية تتطلب سلطة، وتتطلب من يتحدث باسمها.

    النخبة مفهوم حديث ارتبط بتطوّر علم الاجتماع السياسي، ونظريّاته الحديثة. وبالتاكيد، فان هناك اختلافا باديا، في تعريفات النخبة، ودورها ووظائفها السياسيّة والاجتماعيّة، نظرا لطبيعة المدارس واتجاهاتها، و اختلاف النظم السياسيّة ومرجعيّاتها الفكريّة. وبغض النظر عن الاختلافات الصريحة، في تعريف النخبة، ودورها، في الحياة العامّة؛ فان هناك شبه اتفاق، بين الدارسين، على كون النخبة، هي الاقلية المنتخبة او المنتقاة من مجموعة اجتماعية (مجتمع او دولة او طائفة دينية او حزب سياسي) تمارس نفوذا غالبا في تلك المجموعة عادة بفضل مواهبها الفعلية او الخاصة المفترضة.

    نظريات النخبة

    اورد هنا اراء اربعة من رواد نظرية النخبة العالم جيتانو موسكا عالم السياسة الايطالى، ولفريد فريتز باريتو عالم الاجتماع والسياسة وباحث فى الاقتصاد ، وروبرت ميشيل عالم الاجتماع الالمانى و رايت ملز. ولفريد فريتز باريتو (مفكر اجتماعي واقتصادي ايطالي، عُرف اساسًا بنظرياته عن السلوك السياسي) ذهب الى ان كل المجتمعات حُكِمَتْ بوساطة فئة صغيـرة من الحكام اطلق عليها الصـفوة. ووفـقًا لمذهب باريتو، وقعت انقلابات ضد الصفوة الحاكمة باستمـرار، وكان يستبدل بهم طبقات ادنى من الشعـب، لتصـبح بدورها الصـفوة الجديدة، واطلق على هذه العمـلية دورة الصفويين. والطبقة الحاكمة ليست بحاجة الى دعم وتاييد جماهيري لانها تقتصر في حكمها على مواصفات ذاتية تتمتع بها، وهذا ما يميزها ويؤهلها لاحتكار المناصب. الرائد الثاني جيتانو موسكا عالم السياسة الايطالى يوضح ان كل نظام سياسي يتكون من وجود طبقة حاكمة، وطبقة محكومة، والاولى دائما قليلة العدد ولها دافع وهدف معين تسعى اليه وتقوم بكل الوظائف السياسية، وتحتكر السلطة، وتتمتع بكل المميزات التى تمنحها السلطة. بينما الطبقة الثانية المحكومة وهي الاكثر عددا تدار وتسير بواسطة القلة ( الاقلية المنظمة تحكم الاكثرية غير المنظمة) الا انه يؤكد على اهمية اعتماد طبقة الحاكمين على موافقة ورضى الجماهير. الرائد الثالث ميشيال روبرتو يرى ان النشاة الديمقراطية للاحزاب تتحول بمرور الزمن الى تنظيمات خاضعة الى حكم قلة من الافراد، لان التنظيم يحتاج الى اقلية منظمة، وهذه الاقلية تستحوذ على السلطة من خلال موقعها في مركز اتخاذ القرار.

    الرائد الرابع رايت ملز، عالم الاجتماع الامريكي من اعلام اليسار الجديد في امريكا في منتصف القرن العشرين، ومن خلال دراسته لمجتمع الولايات المتحدة الامريكية، فقد ربط بين النخبة وقدرتها على التحكم بموقع اتخاذ القرار، فهي نتاج للبناء المؤسساتي للدولة، وقد وجد ان مؤسسات ثلاث هي المتحكمة في امريكا وهي العسكرية والسياسية والشركات الكبرى، وهذا معناه ان النخبة تتشكل من اولئك الذين يشغلون مواقع قيادية في هذه المؤسسات. الصورة التي رسمها رايت ميلز لاوضاع الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين كانت صورة مصغرة من الاوضاع التي شهدتها جميع الطبقات الوسطى في انحاء العالم ابتداء من السبعينات. فوظائف الطبقة الوسطى اصبحت هي الوظائف الغالبة على قطاع العمل في جميع البلدان الصناعية، اذ تزايدت نسبة العالمين في قطاع الخدمات عن نسبة العاملين في القطاع الزراعي و القطاع الصناعي في الفترة من 1982 الى 1992. يذهب رايت ميلز الى ان الطبقات الوسطى سوف تستمر في الازدياد العددي، وعلى الرغم من انها لن تشكل قوة و لن تتبوأ سلطة عليا، الا انها سوف تكون عاملا كبيرا للاستقرار في التوازن العام للطبقات. (اشرف حسن منصور: بروليتاريا المكاتب : رايت ميلز والطبقة الوسطى الامريكية، الحوار المتمدن - العدد: 1791 - 2007 / 1 / 10)

    الطبقة الوسطى

    التطور المشوة الذى كان السمة الاساسية فى كافة البلدان ادى الى التوسع المتوازى فى كلتا المنطقتين، فبينما ازداد الاغنياء غنى وتمددت احيائهم، ازداد عدد العشوائيات وكبر حيزها المكانى وتاثيرها الاجتماعى. شهدت الطبقة الوسطى اتساعا فى حجمها العددى كما اعلن المعهد العربي للتخطيط الاصدار الجديد مايو 2011 من سلسلة جسر التنمية بعنوان الطبقة الوسطى في الدول العربية، الذي اعدّه الدكتور علي عبد القادر علي، ان حجم هذه الطبقة لم يضمر مع الزمن، كما لم ينخفض مستوى معيشتها، خلافا للانطباع السائد في هذا االشان. ان الطبقة الوسطى في الدول العربية تُشكل غالبية السكان وبقيت ثابتة منذ منتصف تسعينات القرن العشرين.

    اعيد الاعتبار للنقاش حول الطبقة الوسطى فى العقد الحالى خاصة عند تصاعد هيمنة النظم السياسية المستبدة والفساد مع انسداد افق الحراك الاجتماعي امام الكثير من الشرائح الاجتماعية المختلفة، مما ادي الى سيادة قيم الاحباط والياس والاحتقان فى عديد المجتمعات . ويرجع الاستاذ توفيق المديني تكون الطبقة الوسطى تاريخيا الى طور سابق لنشوء الراسمالية. كفئة بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين ارتبط تاريخها بانبثاق نظام الانتاج السلعي الحر، وبعملية التراكم البدائي للراسمال. واخذ مفهوم الطبقة الوسطى مدلولات سياسية واقتصادية واجتماعية جمة على اساس انها تشكل الغالبية الساحقة لمعظم مجتمعات دول العالم المتقدمة منها او النامية، ولما عرفت به من دينامية وطموح وامتلاكها لامكانات وقدرات متعددة، وساهمت بصورة واضحة في عمليات التغيير والتطوير في الكثير من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية حتى وصفها الباحثون باهم العلامات الايجابية للتطور والنمو. (توفيق المديني: الطبقة الوسطى العربية من الريادة الى الانهيار، الحياة - 09/03/07 )

    يرجع الاستاذ صالح سليمان عبدالعظيم فى دراسة جيدة نشاة الطبقة الوسطى العربية فى بدايات جنينية اثناء الحقبة الاستعمارية واسست وجودها واهميتها من خلال مقاومة الاستعمار والحصول على الاستقلال رغم ضالة اعداد المنتسبين لها في ظل ندرة التعليم، و نالت المكانة نفسها في ظل دولة ما بعد الاستقلال على صعيد التنمية وبناء مشروع الدولة الحديثة، خاصة وان الدولة منحت ابناء هذه الطبقة قدرا واسعا من التعليم كما اخذت موقفا سياسيا ضد الاثرياء لصالح الفقراء ومحدودي الدخل.

    ارتبطت الطبقة الوسطى في نشاتها بالدولة ماديا ومعنويا. على المستوى المادي عقدت الدولة العلمانية الاقصائية المتحولة عن الانقلابات العسكرية، ولي النعم الذي يوفر التعليم والوظيفة واشكال الرعاية الاجتماعية الاخرى، عقدا غير مكتوب مع الطبقة الوسطى تتخلى فية عن الحريات والديمقراطية وتحصل على دولة الرفاة الاجتماعى. لكن الامر لم يستمر على هذا النحو في ظل العلاقات السلطوية القائمة بين الدولة وبين ابناء الطبقة الوسطى المرتبطين بشعارات الحرية ومقاومة الاستعمار، والذين نشئوا في احضان اتجاهات ايديولوجية متباينة جمعت بين اليسار واليمين والاصالة والمعاصرة. من هنا فقد حدث الصدام المعروف في الكثير من الدول العربية بين الدولة وبين الطبقة الوسطى الصاعدة، واحال الطبقة الوسطى الى مجرد اداة انتاجية في يد الدولة، او مجرد شريحة سكانية عاملة لديها مثلها مثل غيرها من الشرائح الاجتماعية الاخرى ومجرد اداة في يد الدولة واهوائها.

    بين اهم الجوانب الجديدة التي ارتبطت بالطبقة الوسطى العربية ضعف مكانتها المجتمعية، فلم تعد تملك المكانة التي تمتعت بها سابقا بوصفها الطبقة المتعلمة القادرة على قيادة المجتمع وصناعة الافكار والتوجهات السياسية والايديولوجية على السواء. ففي ظل التدهور المادي فقد اعضاء هذه الطبقة قدرتهم على الحافظ على وضعيتهم المجتمعية، كما ان ضعف الدولة والعائدات المرتبطة بها جعلت الملايين من العاملين في مؤسساتها اقرب لحالة الفقر والعوز منها لحالة الستر والكفاية. لقد اصبحت الطبقة الوسطى واقعة بين ضغط الفئات الفقيرة والعاملة من ناحية وشراسة الطبقات الغنية والطفيلية الصاعدة من ناحية ثانية، وانسحاب الدولة وتغير ولاءاتها من ناحية ثالثة.

    ويرى الاستاذ صالح سليمان عبدالعظيم ان دور الطبقة الوسطى في عالمنا العربي مسالة هامة ومفصلية ولكى تسترد مكانتها الضائعة وان تستفيد من دعم الشرائح الاجتماعية الاخرى لها مثلما كان الحال عليه اثناء مقاومة الاستعمار والرغبة في التخلص منه عليها العودة للقيم الاخلاقية المرتبطة بها وعلى راسها الالتزام بالقضايا الوطنية ومناصرة جهاز الدولة حال قيامه بتدعيم هذه القضايا، وطرح اطر جديدة للتغيير تراعي كافة الشرائح المجتمعية الاخرى وعلى راسها الشرائح الفقيرة مع ايمان حقيقي بحقوق الانسان.( صالح سليمان عبدالعظيم: الطبقة الوسطى العربية: النشاة، التحولات، الوضع الراهن، مركز الجزيرة للدراسات، http://www.aljazeera.net )

    النخب العربية تاريخها وتطورها

    ورث عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بعض الثوابت: اولها الحرب الباردة والتى عنت الانتقال من الحرب الفعلية الى حرب العمليات الاستخباراتية السرية. وكان الغرض حرمان الكتلة الاشتراكية التى برزت بعد الحرب من التمدد الفكرى، السياسى والجغرافى عن طريق المحاصرة بانظمة معادية، الحرمان من التمدد الجغرافى، اغلاق الاسواق العالمية فى وجهها، الحرمان من التكنلوجيا....الخ. ثانيا: ايجاد احزمة من الدول المعادية حول الكتلة الاشتراكية خاصة الدول المستعمرة والحديثة الاستقلال. وتقدمت الولايات المتحد كقوى جديد تطمع لبناء امبراطوريتها الكونية وهذا استدعى تصفية الارث الاستعمارى الذى كانت على راسة اوربا.

    كانت الدول المستعمرة فى المنطقة العربية –لن نتحدث هنا عن دول الجزيرة العربية- اغلبها دولا ملكية (المغرب، ليبيا، مصر والسودان، الاردن، العراق واليمن). تشكلت فى كل هذة الدول (بالاضافة الى لبنان وسوريا) نخب ليبرالية ذات احزاب ديمقراطية وصحافة حرة فى ظل ملكية دستورية. رغم ان الانظمة اللاحقة حاولت مسح هذة الفترة من ذاكرة شعوبها، الا ان كل التراث الديمقراطى والتحديث والعصرنة كان نتاجا لتلك الفترة. فى وسط الاستقطاب العالمى الحاد ولاسباب متعددة فقد انتهى الامر بكل هذة الانظمة الى الانقلابات العسكرية واحدة تلو الاخرى حسب الاهمية الجيوسياسية لكل دولة (العراق، مصر، سوريا ، ليبيا ،اليمن والسودان) اما دول الملكية الدستورية فقد تحولت الى ملكيات مطلقة ( المغرب والاردن).
    يمكن النظر الى النخب العربية من خلال مواقف النخبة الليبرالية سواء تحت انظمة ملكية او جمهورية، تياراتها سواء القومية او الوطنية. النخبة الثانية يمكن اجمالها فى التيارات الشمولية اليسارية او الاسلامية. تم استهداف القوى الليبرالية من النخب العسكرية الصاعدة تحت شعارات العدالة الاجتماعية، مركزية القضية الفلسطينية...الخ. وتحت دعاوى حرق المراحل صفيت كافة وسائل النمو الطبيعى السياسية والاجتماعية (الانتخابات، الصحافة الحرة وحقوق التعبير...الخ) ومقايضتها لصالح نموذج موحد من التطور الاقتصادى والتحرر من بقاياالاستعمار. القوى الليبرالية التى شكلت النخبة السياسية فى عالم ما بعد الحرب كانت تعانى من تراكم تخلف تاريخى فعجزت عن تقديم بديل تاريخى يستهدف معالجة القضايا الاساسية للاوطان وغرقت فى نزاعاتها السياسية وخانت حتى مبادئها الاساسية. هذا لايعنى ابدا ان البديل – النخبة العسكرية- كان افضل. وسوف نقوم بالتعرض للنخب العلمانية الاقصائية والنخب الاسلامية الاقصائية.

    محنة النخب: النخب العلمانية الاقصائية

    النخب اليسارية ( القومى والشيوعى) كانت السائدة طوال ما بعد الحرب العالمية الثانية ، فالمزاج الشعبى فى مرحلة التحرر الوطنى تاثر بعدة معطيات اهمها انتصار الاتحاد السوفيتى على المانيا وصمودها البطولى وتاييدها المطلق لحركة الشعوب. الامانى والاحلام التى وعدت بها هذة التيارات كانت تخاطب العاطفة وكانت اجهزة دعاية الدول الاشتراكية تقدم انجازاتها فى صورة الفردوس الارضى الخالى من الفقر، البطالة، الامية والذى تتوفر فية التعليم والصحة والثقافة ( وهذا صحيح فى مجملة ولكن الذى ادى الى سقوطها لم يكن هذة كلها)، هذا بالاضافة الى التنظيم الحديدى والمحكم للاحزاب اليسارية بكافة انواعها. وكان اهم من ذلك وضوح هدفها فى الوصول الى الدولة لتغيير المجتمع، كما فصلها لينين فى الدولة والثورة. ورغم ان الوسيلة المعتمدة كانت الحراك الشعبى وخلق ازمة ثورية ومن ثم لحظة التغيير وفق شروط فصلت فى كتابات ماركسية كثيرة، فلم تصل اى احزاب يسارية للسلطة فى اغلب الاحيان عن طريق الثورات ولكن عن طريق الانقلابات .
    الذى حدث ان اليسار القومى ( احزاب البعث فى العراق وسوريا والوحدويين فى مصر، ليبيا، اليمن وسودان النميرى والجزائر و يمكن اضافة تونس بورقيبة) كان لايتورع البتة فى الانقلابات العسكرية وتسلم السلطة لاحداث التغيير المنشود. ربما تعطينا نشاة التجربة المصرية وتحولاتها النموذج الكلاسيكى الذى سيمثل المخطط النموذجى خاصة فى السودان، ليبيا واليمن.

    عند قيام انقلاب "ثورة " يوليو 1952 كان لكثير من اعضاء مجلس الثورة ارتباطات باليسار والاسلاميين وقد بدات عهدها متحالفة مع الاخوان المسلمين ثم انقلبت عليهم وحسمتهم امنيا ، وكانت الجسور مع اليسار ممدودة . ثم اتجة النظام الى بناء تنظيمة الخاص وفى المرحلة الاشتراكية استعان باليسار بعد ان فككوا تنظيمهم لبناء الاتحاد الاشتراكى. كانت هزيمة 1967 هى الايذان بسقوط المشروع القومى على مستوى العالم العربى وربما كافة الدول النامية. لكن عند تخوم العالم العربى تجاوبت النخب العسكرية فقامت عدة انقلابات ( العراق، الجزائر، سوريا، السودان وليبيا). عند رحيل الزعيم ناصر ووصول الرئيس السادات للسلطة وتوجة النخبة يمينا وللخلاص من التيارات اليسارية التى حاصرتة باطروحات تحرير الارض، اعاد السادات التحالف مع الاخوان ليصبحوا طرفا فاعلا فى المعادلة السياسية والاقتصادية المصرية. واستمر التحالف المصلحى بين نظام الرئيس مبارك و الاخوان المسلمين فقد تمت مقايضة التحكم السياسى والاقتصادى للسلطة ببعض الوجود المحسوب للاخوان للسيطرة على الشارع ومنع بزوغ اى تيارات مؤثرة ولعب دور الفزاعة الدائمة للخارج عند طرح اى قضايا من حقوق الانسان، الديمقراطية او اى ضغوط اخرى.

    النموذج الثانى الذى لم يبعد كثيرا عن النموذج المصرى سوى فى تولى احزاب يسارية موجودة على الارض ( البعث العراقى والسورى و الجبهة الاشتراكية فى الجزائر) وقد حملت هذة الاحزاب النخبة العسكرية للسلطة لتحقيق برنامج الحزب. وسعت هذة الانظمة لتدجين كل القوى اليسارية الاخرى بصفقات الوجود المستقل الشكلى والمساهمة بعدة اعضاء فى الجهاز التنفيذى والصداقة مع الكتلة الاشتراكية. اما الاحزاب التى اتت باسمها فقد كان اول ما فعلتة هذة النخبة التحرر من قيود التنظيم والوصول لصيغة الحزب الحاكم والتى عنت اخيرا الحاكم الحزب.

    تتشابة التجارب السودانية (النميرية) والليبية واليمنية كما المصرية قبلهما فى وصول النخبة العسكرية الى السلطة بدون حزب، وتكوين احزابهم بعد الوصول للسلطة. التجربة السودانية رافقها تحالف مع الاحزاب اليسارية وبينها انذاك الحزب الشيوعى السودانى، احد اكبر الاحزاب فى المنطقة. وقد نسخ النظام نفس النظام السياسى الناصرى، الاتحاد الاشتراكى، والاجهزة الامنية والصحافة وحاول تدجين الحزب الشيوعى السودانى الذى نحر لاحقا فى انقلاب فاشل 1971. تقلب النظام فى مدارات متعددة انتهت بالتحالف مع الاخوان المسلمين وبدء اول احد التجارب من تطبيق الشريعة الاسلامية 1983، التى ستصبح النموذج المفترض للنخبة الاسلامية الاقصائية وهى تتحقق فى تخومها البعيدة واقلها تاهيلا.

    انقلبت النخبة العسكرية الليبية على الملكية فى بلد قليل التجارب فى العمل الحزبى وكثير الموارد فى بداية افول المشروع القومى وتحولها لديكتاتورية النخبة العسكرية ودولة الامن وغياب كافة الحريات. ومن ثم هامت الحركة الوليدة تبحث عن مرجعية كانت قد انتهت بتحولات الرئيس السادات عن خط عبد الناصر فتحولت الى النظرية البديلة الوسيطة بين الاشتراكية والراسمالية وانتهت الى الجماهيرية. مثلت الجماهيرية التى بنيت على اطروحات الكتاب الاخضر الافكار الاشتراكية فى مرحلة تحولها لنظام مغلق و قمعى وانتهت بنظام فوضوى وشعبوى قائم على التنميط والقمع الاقصى والحرمان الكامل عن الحقوق والتعبير باى شكل الا داخل النظام.

    كل النخب العلمانية التى كانت اكثر ميلا الى اليسار طرحت العدالة الاجتماعية والتحديث والعصرنة كبديل عن الحريات المختلفة، وقد وجدت فى المجتمعات ذات الثقافة الريفية والقبلية قبولا واتجهت نحوها مباشرة ( الاصلاح الزراعى، التاميم، القطاع العام ...الخ). تمت عسكرة الحياة المدنية، السياسية والاجتماعية وتولى اعضاء التنظيمات العسكرية قيادة مؤسسات الدولة واتبعت فيها الضبط والربط المعهود فى الجيوش، تمثلت هذة المظاهر بجعل الحزب الحاكم الحزب الاوحد، والنقابات تابعة لها ومنظمات المجتمع المدنى منبثقة عنها والاعلام معبرا عن فكرها وخزينة الدولة جيبها الخاص.
    كانت الظروف العالمية فى العقود الثلاثة من الستينات الى منتصف التسعينات ملائمة لوجود واستمرار هذة الانظمة فى ظل التوازن الدولى بين قطبى الراسمالية والاشتراكية، وبراعة الانظمة فى الابتزاز واللعب على الحبلين وحرص القطبين على تمتين حلفائها ومدهم بالمعونات والتاييد الدولى. هذة ظروف كان لحقوق الانسان او الديمقراطية دائما معنيان حسب موقعك من الاعراب، وكانت الذخيرة اللغوية مليئة بتعبيرات العمالة والخيانة..الخ. مثلت اتفاقية كامب ديفيد بين النظام المصرى واسرائيل برعاية امريكية الانهيار الكامل للنخب العلمانية الاقصائية، فقد فقدت مبررات وجودها القائمة على مقايضة الحريات الديمقراطية بالدفاع عن الوطن وهزيمة المشروع الصهيونى والحفاظ على الكرامة الوطنية وتوفير سبل العيش الكريم. فحرب اكتوبر التى مثلت استعادة الكرامة القومية انتهت الى معاهدة، ولم تستطع النظم الرافضة تقديم اى بدائل ملائمة وترك بعدها الشعب الفلسطينى ليواجه مصائر محزنة من مذابح صبرا وشاتيلا وغزو لبنان والحرب اللبنانية الاهلية الطويلة.

    العامل الاخر المهم فى نظرى هو غزو القوات المسلحة السوفيتى لافغانستان في 25 ديسمبر 1979 حتى انسحاب كافّة قواته بشكل رسمي من افغانستان في 15 فبراير 1989. فقد كان المثال لسوفيتى الذى اتكأت علية النخب العلمانية الاقصائية ذات النموذج الاشتراكى القائمة على مقايضة العدالة الاجتماعية مقابل مصادرة الحريات الديمقراطية. كان لهذا الغزو اثران مهمان على المنطقة: فهى اولا نسفت مصداقية الدول الاشتراكية فى دعاويها الاساسية من عدم التدخل فى شئون الدول الاخرى؛ وثانيهما انها وضعت الاساس المتين لبداية ما اطلق علية الصحوة الاسلامية. كان رد الفعل الدولي قويا ومررت الجمعية العامة للامم المتحدة وبشكل متكرر قرارات تعارض الاحتلال السوفييتي. شهدت هذة الفترة تحمس كافة الانظمة فى المنطقة لدعم الجهاد الافغانى وقيام منظمات المجتمع المدنى الاسلامية المختلفة وبداية مشاركة المحاربين العرب والمسلمين فى الحرب الافغانية.

    بقوة شوكة هذة التنظيمات وتاثيراتها على المجتمعات وعلو صوت تيار الدولة الدينية بدات المواجهة مع النخب العلمانية الاقصائية فى السلطة وشهدت الثمانينات والتسعينات اقصى درجات العنف الاسلامى المسلح فى كافة دول المنطقة ( احداث حمص وحماة 1982، جهيمان العتيبي 1979 فى مكة المكرمة..الخ) وانتهت باغتيال الرئيس المصري محمد انور السادات خلال عرض عسكري اقيم في 6 اكتوبر 1981"حادث المنصة". تزامن هذا مع ضعضعة اطروحات اليسار بشكل عام والشيوعى بشكل خاص بفعل التآكل من جراء تحالفاتها مع النخب العلمانية الاقصائية والتى صادرت جميع شعاراتها لصالحها، والتراجع الهائل فى قدرات وامكانيات الكتلة الاشتراكية وفقرها سياسيا واقتصاديا وفقدانها المصداقية الفكرية والاخلاقية حتى انتهت بالانهيار الكبير لحائط برلين في 9 نوفمبر 1989( حائط برلين كان جدارا طويلا يفصل شطري برلين الشرقي والغربي والمناطق المحيطة في المانيا الشرقية. كان الغرض منه منع الهاربين من المانيا الشرقية الى برلين الغربية – ما دخل التاريخ بانهم صوتوا بارجلهم - و بدا بناءه في 13 اغسطس 1961 وجرى تحصينه على مدار السنين).

    لم تكن النخب الاسلامية الاقصائية قادرة على مجابهة الانظمة او تغييرها بالعنف، لذلك استمرت هذة الانظمة وبالرغم من انتهاء صلاحيتها السياسية والاجتماعية بفضل تطورها عبر عشرات السنين الى انظمة قمع وفساد واستبداد. فالانظمة التى بدات باحلام وطموحات ضخمة والتى مثل رجالاتها المصداقية الاخلاقية والمالية فى اوائل عهدهم تطورت نظمهم عبر تاثيرات عوامل داخلية - السلطة المطلقة وغياب المحاسبة والرقابة والتاييد الشعبى الجارف- وعوامل خارجية -الاحتكارات العالمية، العولمة واستهداف النمو الوطنى فى المنطقة- بدأت من راسمالية الدولة (سيطرة القطاع العام والتخطيط المركزى ومحاولات التصنيع الثقيل) الى راسمالية بيرقراطية لتنتهى الى الفساد الكامل والفوضى ما عرف بالراسمالية الطفيلية واقتصاد الدولة الفاسدة والسمسرة والعمولات المخيف مما تكشف فيما بعد نجاح الثورات العربية ( ليس من نوايا هذة المقالات ان تتعرض للتحورات الاقتصادية التى شهدتها المنطقة، لكن هناك كثير من الكتاب الذين تصدوا لهذة المهمة الجليلة من كتاب ومراكز دراسات وتتواجد على الانترنت)

    يمكن تحميل بعض مآلات النخبة العسكرية للمثقفين الوطنيين، فعند قيام الانقلابات وتسلمها السلطة اتجهت لهذة النخب تبحث عن الاغطية الفكرية والسياسية لما اتفقوا على تسميتها بالثورة. ولم تتاخر هذة النخب بل تدافعت مديرة ظهرها فى اغلب الاحيان لتاريخها "النضالى" او الديمقراطى، الى التكالب والتدافع الى القادة الجدد. ولا مراء ان افتقادهم الى رؤية مستقبلية وعدم القدرة على العمل الجماعى وبناء التوافقات جعلها تعتمد على مواهب العلاقات العامة. وتطول قوائم هولاء الذين عبر عنهم المغفور لة الرائد زين العابدين محمد احمد عبد القادر احد قادة انقلاب مايو 1969 فى السودان الذى قال انهم بعد الانقلاب جمعوا عددا من المثقفين والخبراء والسياسيين ذوي التجربة، قاصدين ان يكونوا هم القادة والانقلابيين الحماة، وكانت الكوكبة المختارة تضم صفوة الناس من العلماء ممن كانوا يكنون لهم التقدير والاجلال. ولكنهم فوجئوا ببعض من كانوا يقدرونهم يقفون لهم ويتسارعون الخطى لكي يفسحوا للقادة المجال و يكيلون المدح والثناء على قدراتهم ما كان الانقلابيين يعلمون انه ليس صحيحا وانه ليس فيهم. هؤلاء تواجدوا حول كل الزعامات ورؤساء الاحزاب وكرروا سيرة المتنبى حول سيف الدولة الحمدانى او كافور..الخ. (محمود محمد قلندر: سنوات النميرى، مركز عبد الكريم ميرغنى، امدرمان ، 2005)

    اود ان اختم هذا الجزء بان النخب العلمانية الاقصائية كانت اسيرة واقعها ونشاتها وتطورها ومضت فى سيرورة لم تكن تتحكم فى اغلب احداثها. ان الظروف التى اتت بهولاء لم تكن من صنعهم لكنهم تفاعلوا مع احداث وفراغات سياسية فامتطوا السلطة وكان هناك دائما اطراف اليسار والاسلاميون محرضان اساسيان على سلوك النخبة العسكرية فى مصادرة كافة الحريات ومسيرتها الطويلة فى القمع والعنف الاقصى. ومن الخلل ان نحمل النخبة العسكرية كل الذنب وهى التى جاءت من اكثر مؤسسات الدول تنظيما وحداثة وتطورا وهى تتصدى للعمل الوطنى بعد الفشل المزرى للنخبة الليبرالية من الاباء المؤسسين وانصرافهم الى الصراع الانتخابى كنهاية وليس من اجل الدفع بالتنمية والحريات. وتاريخنا ملىء بنماذج سيئة من غياب الديمقراطية داخل الاحزاب وبنائها على ابنية طائفية وقبلية وجهوية مما سنتناولة فى الجزء المعنون بمحنة النخب الليبرالية لاحقا.

    محنة النخب: نخب تيار الدولة الدينية الاقصائية

    تبنى الاخوان المسلمين المصريين عند نشوئهم الاسلام فى عمومياتة والعداء للاحزاب خاصة اليسارية والليبرالية. طرحت الحركة نظرية الحاكمية للة حينا والاسلام هو الحل احيانا اخرى والتى تقود الى تطبيق الشريعة الاسلامية كشعار وهي تعني فيما تعني: ” ان الجماعة الاسلامية لا تريد الحكم لنفسها ، مثل بقية الاحزاب والتنظيمات الاخرى وانما تريد الحكم لله. والهدف بطبيعة الحال، هو ان يقارن المواطن البسيط ، بين حكم الله وحكم البشر، فيختار حكم الله، ويؤيد الجماعة الاسلامية، التي تزعم انها سوف تطبقه عليه ، متى ما وصلت الى السلطة” ( عمر القراى، دستور ولاية الخرطوم، مكيدة سياسية، مقالات فى جريدة الصحافة).

    مع تعرض الاخوان المسلمون فى مصر للقمع والحل والتصفيات وخفوت صوتهم بعد اغتيال الشيخ حسن البنا رحمه الله ، برز احد كوادر الاخوان المسلمين الباكستانيين (ابو الاعلى المودودى) وفى ظروف نشوء باكستان كانسلاخ عن الهند ومحاولة عزلها عن التاثير الهندى صاغ المودودى الحاكمية كمصدر للسلطة. الحاكمية هى تكفير النظام القائم وتكفير حكامة والخروج علية وقتالة. وتبنى ابو الاعلي المودودي نموذج الدولة الشمولية التي يؤسسها افراد او جماعات ملتزمة بقيم الاسلام. تبنى المغفور لة سيد قطب فى كتاب معالم فى الطريق مفاهيم ابو الاعلى المودودى فى ظروف تضييق سياسى وقمع (كان هذا الكتاب من مقررات المدارس الثانوية فى السودان فى الستينات). وتوصلت كتاباتة الى تقسيم العالم الى اسلام وجاهلية ولاسبيل الى التعايش، ان مجتمع الاسلام هو مجتمع العدل والحاكمية فية للة. ويرى المغفور لة سيد قطب ان هذا الامر تقوم بة الصفوة المؤمنة ولكنها فرض عين على كل مسلم و سلاحها الانقلاب على الطبقة الحاكمة.

    لعبت النخب الاسلامية الاقصائية بمختلف اسمائها ادوارا متباينة طوال العقود المنصرمة منذ انقلاب 1952. فقد كانت فى عقود النزوع اليسارى فى كافة ارجاء المعمورة اثناء مرحلة التحرر الوطنى وما بعدة تمثل قصب السبق فى التصدى للتيارات اليسارية وتتبنى اقتصاد السوق. جعلها هذا حليفا استراتيجيا للغرب وتم دعمها سواء بشكل مباشر او عن طريق اقتصاديات النفط ودولة وكذلك تدجينها ونزع اى شبهات عن اى مفاهيم للعدل الاجتماعى. عند تفكك المنظومة الاشتراكية "واضمحلالها" فى منتصف التسعينات. وعند احتياج الغرب لعدو استراتيجى جديد لحفظ التفاف جماهير بلادها بخلق عدو خارجى يهدد الرفاهية واسلوب الحياة بدا خلق العدو الاسلامى، ما اسمى صراع الحضارات. اكمتلت تهيئة وتكوين هذا العدو فى خضم "الجهاد الاسلامى" ضد الغزو السوفيتى لافغانستان وذلك بحشد المقاتلين من كافة ارجاء العالم الاسلامى عامة والعالم العربى خاصة ونشطت اجهزة الاستخبارات المختلفة فى التدريب وزرع العملاء ووضع الاجندة ...الخ.

    تكشف هذا العدو سافرا منذ بداية التسعينات وصولا الى غزوة منهاتن فى 11 سبتمبر 2001 وما تبعها من غزو افغاستان والعراق. لعبت الانظمة السياسية بقوى تيار الدولة الدينية فى معادلاتها وعلاقاتها مع العالم الخارجى فقد فتحت لها المجال الاجتماعى (بعد انسحابها من الخدمات التعليمية والصحية) لتتمدد فيها وتغبش رؤية الجماهير وتربكها بدفع الصراعات الجانبية حول الشريعة وطرح الشعارات العامة والغامضة لتصرفها عن النضال الاجتماعى والسياسى وتغرقها فى جدليات المذهبية والطائفية والهوية مما ساد فى الساحة فى العقدين الاخيرين. وفى نفس الوقت حاصرتها السلطة سياسيا واعلاميا بهجمات امنية مكثفة وحرصت على منعها من الانفتاح على القوى الاخرى وعرقلت تطورها الداخلى بزرع الفتن والانقسامات.

    ظهرت التجليات العملية للاساس النظرى الحاكمية للة – الاساس النظرى لكافة منظمات الاخوان المسلمين بعد الستينات- فى اضعف مفاصل العالم العربى والاسلامى فى الباكستان ( عهد الجنرال ضياء الحق الذى اطاحت بة ثورة ديمقراطية)، السودان (تطبيق الشريعة الاسلامية عهد الجنرال النميرى الذى اطاحت بة ثورة ديمقراطية) متشابهة مع الثورة الشيوعية التى تنبأ لها مؤسسيها ماركس وانجلز ان تحدث فى الدول الاكثر راسمالية ولكنها حدثت فى اقلها نموا فى روسيا. اما التجليات الكاملة فقد وضحت فى ولاية الامام الفقية الايرانية كمثال على الدولة الاسلامية فى تجليها الشيعى. وفى اطارها السنى فقد ظهرت فى تخوم العالم الاسلامى فى دولة الطالبان فى افغانستان، والتخوم العربية فى دولة الانقاذ الوطنى فى السودان.
    اذن الحاكمية للة لم تستطع ان تصل الى السلطة، الا عبر تحولات نخبة عسكرية وجدت فى تطبيق ما اسمتة بقوانين الشريعة الاسلامية المسيجة بالعتاد الامنى معبرا للاستمرار (باكستان الجنرال ضياء الحق وسودان الجنرال النميرى ونظام الانقاذ)، وذلك بالانقلاب على انظمة ديمقراطية. وكسلفها، الانظمة الديمقراطية، جاءت عاجزة عن تقديم اى برنامج حيوى للنهوض الوطنى او رؤية للتطور السياسى او الاجتماعى. وانتهت دولة الطالبان فى افغانستان الى متحف للقرون الوسطى وسيطرة النخبة العسكرية الفقهية القمعية وادخلت المنطقة فى دوامة التدخلات الاجنبية. كما انتهت ثورة الانقاذ الوطنى فى السودان الى سيطرة النخبة العسكرية بعد انقلابها على الحزب وتفكيكة الى تفكيك الوطن الى دولتين والمسبحة تكر.

    ان الحركات الاسلامية فى الواقع هى انعكاس موضوعى للسلطة التى كانت تعارضها وحملت كافة موبقاتها ومن الطلائع التى رفضت الارتكان الى تفسيرات الحركات خرجت كل الانشقاقات التى تبنت العنف المسلح والتكفير والاقصاء الشامل، وتبنت نفس المفاهيم المبسطة والافكار العمومية والغياب التام لاى برامج فى تعاملها مع عالم معقد. منعت هذة الافكار المشوشة انخراط اغلب الطبقة الوسطى الفقيرة وقوى الارياف ومعدمى المدن فى اى تحركات جماهيرية وحفظتها فى ثلاجة التخلف و السلبية لتصبح ميدان الصراع بين السلطة والحركات الاسلامية للمساومة فى اوقات الانتخابات.

    لنكون دقيقين فى رصدنا لدور الاسلاميون لابد ان نشير انهم ايضا ضحايا الظروف المحلية والاقليمية والهرج القومى والديماجوجية. كل هذة المنظمات عانت كما عانى الاخرون من ضغوط ولكن السؤال الجوهرى هو حول اذا كانت هناك شروط موضوعية لوجود هذة المنظمات، ومن خطل القول ان لا نظن ذلك والحركات الاسلامية تتواجد فى جميع الدول الاسلامية وفى المنطقة وتجاوز عمرها اكثر من نصف قرن، لنستطيع ان نستشرف اضمحلالها فى اشكالها القديمة و تطورها الى صيغ جديدة ومحتوى مختلف اذا ارادت مواصلة ان يكون لها دور. القضية البارزة التى ينبغى التساؤل حولها هى لماذا لم تتطور الحركات الاسلامية فى اتجاة ديمقراطى كما فعلت مثيلتها فى الدول المسيحية عبر طريق طويل و احتفظت ببنائها الفقهى والمغلق والغير ديمقراطى.

    كما سقطت دعاوى النخب العلمانية الاقصائية فمصير الاساسات النظرية للنخب الاسلامية الاقصائية هى الاهتراء والتلاشى والتحول الى نسخة كربونية من سلطة سالفتها. ان غياب الشعارات الاسلامية عن ثورات المنطقة العربية ليس بعامل الصدفة او تخطيطا مؤامراتيا من احد لكنها تعكس انصراف الجماهير الفاعلة والحية عن مفاهيم فقة الضرورة ومخالفة الفعل للقول والذرائعية. كما ان اختيار التجمعات الشعبية ليوم الجمعة لة دلالات نزوع هذة الجماهير لانتزاع الدين من يد السلطة الاشعرية التاريخية والنى وظفتة الانظمة لحياكة دين على مقاسها لتبرير الفساد والاستبداد، وايضا من قوى تيار الدولة الدينية التى ادخلت الدين فى الحياة السياسية لاحتكار كلاهما. ارادات التكتلات انتزاع الدين كطاقة ملهمة فى حياتها واستلهام الفضائل النبيلة وتحكيمها فى حياتها اليومية.

    ان الحركات الاسلامية على حافة لابد لها ان تختار بين مصير عديد من الدول الاسلامية الاسيوية ودول الاتحاد السوفيتى السابق الاسلامية والتى استطاعت الخروج من حكم النخب العلمانية الاقصائية ووراثة النخب الاسلامية الاقصائية وتواصل بمشقة ولكن بثقة الطريق الديمقراطى والتنمية المفيدة. وتمثل التجربة التركية التى نهضت من طريق شاق وملىء بالالغام من الخلافة الاسلامية وافرازاتها الطويلة والسيطرة الكاملة للنخب العلمانية الاقصائية والتغريب القسرى للمجتمع، وقدرة الحركة الاسلامية فى التطور الداخلى واستطاعتها تجديد خطابها الداخلى والخارجى لتطرح نموذجا شبيها بتطور الاحزاب الديمقراطية المسيحية فى الغرب. ان النموذج التركى ليس خيرا كلة ولكنها محاولة جديرة بالدراسة والاستفادة .

    محنة النخب: النخب الليبرالية

    سال حبر كثير حول نشوء وتطور هذة النخب وتمتلىء المكتبة العربية والعالمية من كافة التيارات اليسارية والاسلامية والمناصرين لسلطات النخبة العسكرية الحاكمة مما يصرفنا عن اى محاولة عن رصدها التاريخى فهذا جهد قد توفر لة علماء التاريخ والعلوم السياسية. ارتكزت دعاوى النخبة العسكرية فى الانقلاب على الانظمة الديمقراطية على "تفشى الرشوة والوساطة والمحسوبية والخيانة والغدر. ولم تختلف هذة عن دعاوى انقلاب يونيو 1989 المستند على النخبة الاسلامية الاقصائية " التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى اوجه الحياة ، وقد كان من ابرز صوره فشل الاحزاب السياسية في قيادة الامة لتحقيق ادني تطلعاتها في صون الارض والعيش الكريم والاستقرار السياسي ... ديمقراطية مزيفة ومؤسسات الحكم الرسمية دستورية فاشلة، شراء الذمم والتهريج السياسي ... تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية وفشلت كل السياسات الرعناء في ايقاف التدهور ناهيك عن تحقيق اي قدر من التنمية مما زاد حدة التضخم وارتفعت الاسعار بصورة لم يسبق لها مثيل واستحال علي المواطن الحصول علي ضرورياتهم اما لانعدامها او ارتفاع الاسعارها مما جعل الكثير من ابناء الوطن يعيشون علي حافة المجاعة وقد ادي التدهور الاقتصادي الي خراب المؤسسات العامة وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية وتعطيل الانتاج. " (من البيان رقم واحد الذي القاه العميد عمر حسن احمد البشير صبيحة الجمعة الثلاثون من يونيو 1989م .(

    الظروف التاريخية لتطور الاحزاب الليبرالية فى طول العالم وعرضة، جعلت قيادة هذة الاحزاب تتشكل من تحالف الاقطاعيين والراسمالية الناشئة والمتعلمين، كان هذا صحيحا فى كل مكان ولكن لضعف الراسمالية ونقص تاهيل المتعلمين، كان دور الاقطاع اكثر بروزا فى العالم العربى. ما اصاب النخبة الليبرالية فى مقتل كان انشغالها بقضايا الحريات والدستور وفعلها القليل فى مجالات الخدمات. ان الجماهير والمواطنين العاديين لا ياكلون الديمقراطية ول ايشربون الدستور ويمرضون ولا تكفيهم حرية الاعلام. الناس تحتاج بجانب هذا الى التعليم لابنائهم والعلاج ووسائل الرزق الشريف والكريم، وقد عبر عن هذا الرئيس كلينتون فى مناظرتة الشهيرة مع جورج بوش الاب " انة الاقتصاد يا غبى". وتورد جملة هذة الحاجيات تحت شعار العدالة الاجتماعية. ان من اكبر الاخطاء ان نظن ان استقرار الديمقراطيات العالمية يكمن فى نظامها السياسى والبرلمانى فقط، لكن فى الخدمات العامة التى توفرها الدولة وتحرص عليها. بريطانيا مستقرة لان لديها نظام صحى يوفر العلاج لكل مواطن، ومقعدا للدراسة لكل طفل وفرصة عمل او دعم اجتماعى لكل مواطن، ما يمكن اجمالة فى توفير الخدمات لدافع الضرائب.

    دولة الفساد والاستبداد العربية ومالاتها

    تناول ابن خلدون اطوار تطور الدولة: الاول طور الظفر بالبغية، الثاني طور الاستبداد على قومه و الانفراد دونهم بالملك، الثالث طور الفراغ و الدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر اليه من تحصيل المال و تخليد الاثار، الرابع طور القنوع و المسالمة والطور الخامس طور الاسراف والتبذير (مقدمة ابن خلدون). كما سطر فيها عبد الرحمن الكواكبي (1855-1903) فى كتابة طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد والذى جاء فية: فوجدتُ افكار سراة القوم في مصر كما هي في سائر الشّرق خائضةٌ عباب البحث في المسالة الكبرى، اعني المسالة الاجتماعية في الشّرق عمومًا وفي المسلمين خصوصًا، انما هم كسائر الباحثين، كلّ ٌ يذهب مذهبًا في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء. وحيثُ اني قد تمحّص عندي ان اصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي ودواؤه دفعه بالشّورى الدّستورية. وقد استقرَّ فكري على ذلك ـ كما ان لكُلّ نبا مستقرًاـ بعد بحث ثلاثين عامًا.

    من بين تطور النخب العلمانية والاسلامية الاقصائية فى الاطوار الخمسة للدولة وايصالها الى طور الاسراف و التبذير وركونها الى اس الداء: الاستبداد السّياسي فى الحكم وعجزها عن تقديم بديل مقبول ورؤيوى. فليس الغرض من هذا الفصل التعرض الى تحليل شامل للثورات العربية فهذا غير ممكن معلوماتيا لان الثورات تتشكل وهى فى طريق التحولات كما هو مستحيل علميا لان هذا مجال متعدد المجالات وسوف تحتاج الى مراكز كبرى لدراستها بعد ان تصل الى مرحلة التوازن السياسى والاجتماعى والفكرى.

    الموقف العربى الرسمى

    مثلما كان الحدث التونسى مفاجئا وصادما للغرب كان كذلك بشكل اقسى فى الجهاز العربى الرسمى. كان هذا الجهاز انتقل من الشجب والادانة والتاييد الى البحث عن ادوار اخرى فى المجال الاقتصادى والاجتماعى. رغم نجاحات قليلة فى مجال القوانين والملف الامنى الذى حققت فية النجاح الاكبر فقد فقدت تاثيرها على حياة المواطنين التى تدعى تمثيلهم. فشلت الجامعة فشلا ذريعا حتى ان امينها العام نعاها علنا. من صمت قاتل فى تونس كانت زيارة الامين العام عمرو موسى الى ميدان التحرير تعبيرا عن عجز كامل وفقدان لبوصلة التوجة الجماعى. الجامعة العربية المنوط بها بذل الجهد فى تخفيف الاحتقانات الداخلية واستعمال اليات التواصل مع كافة الاطراف ومحاولة تقريب وجهات النظر، وقفت امام الحشود عاجزة عن فهم مقدمات، اسباب ونتائج الثورات العربية. هذا الصمت العربى تقدم فجاءة ودعم الثورة الليبية واتخذ احد اخطر قراراتة المعاصرة فى اعطاء الشرعية للتدخل الاجنبى.

    مؤسسات الغرب ودولة

    جاءت الثورات العربية فى ذروة المشاعر السلبية ان لم نقل العدائية للغرب، خاصة امريكا. فسنوات الانحياز الكامل لاسرائيل والوضع الماساوى الذى وجد الشعب الفلسطينى نفسة فية، خاصة بعد اتفاقية اوسلو وما رافقها، والحروب الاسرائيلية فى لبنان والامريكية فى العراق وافغانستان. خف التوتر والعداء قليلا بوصول الرئيس اوباما الى سدة الحكم، خاصة بعد خطاب القاهرة وزياراتة المتكررة لدول عربية واسلامية والموقف المتوازن قليلا فى بداية العهد. اخذت الاحداث تونس ومصر الغرب بمؤسساتة ودولة ومراكز ابحاثة ومحللية الاستراتيجيين على حين غرة وتباينت ردود الفعل واللهاث وراة الاحداث التى تسارعت.

    قامت الاستراتيجية الغربية بشكل عام على المحافظة على الاستقرار فى هذا الجزء من العالم بواسطة عمليتين متداخلتين.
    التحالف الوثيق مع انظمة الامر الواقع سواء ملكية وراثية او انظمة النخب العلمانية او الاسلامية الاقصائية المتحولة عن انقلابات عسكرية وذلك لضمان امدادات النفط والغاز والمواد الاولية مع التدخل المباشر على نطاق محدود ومحاولة لجم انفلاتات الانظمة عن طريق الضغوط السياسية والحقوقية. العملية الثانية الدعم المتواصل والغير محدود لاسرائيل اقتصاديا، سياسيا والترويج لها كواحة للديمقراطية فى الشرق الاوسط . مع تردى العالم العربى وفقدانة كافة جوانب قوتة ونمو قوى عديدة معادية وعنيفة من اجنحة تيار الدولة الدينية المختلفة، رفعت القوى الغربية تدخلها المباشر فى المنطقة العربية بدأ من العراق، السودان، الصومال ولبنان سواء مباشرا او بشكل غير مباشر او عن طريق استعمال الامم المتحدة.

    تغيير الانظمة العربية بواسطة الثورات العربية كان ضربة قاصمة لهذة الاستراتيجية، فهى تزيل الانظمة الحليفة المعروفة لديهم والتى تعتمد بشكل او باخر على استمرارها على الدعم الغربى. صعود قوى جديدة ديمقراطية وغير معروفة مع احتمالات صعود تيار الدولة الدينية فى بعض البلاد الى مراكز صناعة القرار تحدى مطروح على بساط البحث منذ فترة طويلة. على الجانب الاخر فان مصير اسرائيل اصبح يكتنفة الغموض والشكوك ، فالقوى الثائرة ليست هى الانظمة المغلقة الفاسدة ولكنها فى الطريق الى صنع ديمقراطية ربما تكون اكثر جذرية وحقيقية من اسرائيل التى تحولت فى اواخر عهدها اكثر انغلاقا ويمينية وعنصرية ولاحقت تهم الفساد والرشاوى والجرائم اغلب قادتها مما دعا برئيس الكنيست الاسبق ابراهام بورغ، وصف الامور التي الت اليها اسرائيل بانها تحولت الى دولة مستوطنين يحكمها "زمرة فاسدين". (تورط الرئيس السابق موشيه كتساف بتهم اغتصاب وتحرشات جنسية وتمت ادانته بالاجماع، ملفات الفساد التي تورط فيها اولمرت واتهامه بالفساد والاختلاس، استجواب رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين ناتنياهو وزوجته بتهم فساد وسرقة الاموال العامة، استجواب رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق ايهود باراك بفضيحة التمويل الخارجي لحملته الانتخابية لرئاسة الوزراء العام 1999، توجيه تهم بالتحرش الجنسي لوزير العدل الاسبق حاييم رامون خلال حرب تموز/يوليو 2006، ادانة رئيس لجنة الخارجية والامن البرلملنية السابق تساحي هنغبي وتوجيه تهم فساد وكسب غير مشروع، - ادانة وزير المالية الاسبق ابراهام هيرشزون والحكم عليه بالسجن الفعلي 5.5 سنوات، الجنرال يواف غالانت، تهم لوزير الخارجية الاسرائيلي افيغدور ليبرمان بتهم تبيض اموال) . الغرب الذى واجة صعود النمور الاسيوية ونشوء مجموعة (BRICS ) الصين، روسيا، البرازيل، الهند وجنوب افريقيا وفرضها التعامل الندى وكذلك صعود جمهوريات الموز السابقة فى امريكيا اللاتينية واجبارها الغرب على اعادة التوازنات فى العلاقات الدولية، يواجة الان التحدى القبل الاخير فى العالم العربى الذى يشق طريقة الى فرض تعامل جديد (الاخيره افريقيا).

    تعامل الغرب مع الثورة التونسية اولا بدهشة وتوجس، ثم عندما تطورت الاحداث انقلب التعامل الى الدعم الرسمى للدولة التونسية وتعامل حذر مع الثوار ثم مع الهروب المدوى للرئيس السابق بن على كانت الدول الغربية قد قبلت الوضع الراهن على امل ان تستطيع ان تحلل الوضع وتضع تصورات وخيارات كما تفعل مراكز الابحاث الاستراتيجية. لم تعط الثورات المراكز فرصة التقاط الانفاس، فاذا كانت احداث تونس مفاجئة، فتونس بشكل عام لم يكن لها دور مؤثر فى صناعة الحاضر السياسى العربى وكانت منعزلة نوعا ما فى تشكيل الوعى العربى القومى والصراعات المحتدمة منذ سنوات طويلة فى ارجاء العالم العربية. جاءت تونس من مكان ناء فى هامش الوطن العربى السياسى بلا مقدمات الى وجدانة واصبحت شعاراتها هى التى سيتم تبنيها فى كافة التحركات اللاحقة. شعار الشعب يريد اسقاط النظام اصبح هو الثيمة الاساسية فى الثورات اللاحقة ولكن الديناميكية والفاعلية والاستمرارية التى صاحبت هذة الثورة هى التى كانت محيرة وملغزة للخارج.

    الحدث جاء هذة المرة من مركز العمل العربى، مطبخ السياسات العربية واكثرها تاثيرا وسطوة وقوة، مصر التى كانت واسطة العقد فى كافة التفاهمات، التربيطات، الحلحلات والترتيبات بين الداخل العربى والخارج. هنا ضربت الحيرة راس كافة المحللين الاستراتيجيين، المعلقين والكتاب فى مراكز قائد العالم امريكا والحليف الملحق اسرائيل. جاءت الخطوات تجاة الثورة المصرية اكثر عجزا، ارباكا وتشويشا من الموقف تجاة الثورة التونسية ولكن تسارعت التحركات من عواصم الغرب لتاخذ موقفا متوازنا وسريعا منها والثورات تتفجر وحالهم
    وقد غدوت الى الحانوت يتبعني *** شاو مشل شلول شلشل شول

    لابد من الاشارة هنا الى وضع الرئيس اوباما، فالرجل جاء باطروحة التغيير وكان اهم عناصرها ان العالم يحتاج الى تغيير لغة القوة المطلقة والحاسمة لامريكا فى فرض وجهة نظرها، هذا قاد الى تحالف ضخم لمواجهة اليمين المحافظ والمجمع الصناعى العسكرى واللوبى الصهيونى واستطاع هزيمتهم جميعا. ولكن هؤلاء استطاعوا قلب الطاولة علية من خلال تغيير معادلة مجلسى النواب والشيوخ وافشال كافة اطروحاتة الداخلية فى محاولة تعديل منظومة العدالة الاجتماعية المفقودة فى المجتمع الامريكى ( كان حوالى 17% لا يتمتعون باى تامين صحى فى نظام ينفق حوالى 16% من ميزانيته العامة على الصحة. وقد استطاعت ادارة باراك اوباما تحقيق انتصار تشريعي، وتاريخي بتبني مجلس النواب مشروع قانون اصلاحِ الرعاية الصحية واقرة مجلسُ النواب باغلبية طفيفة)

    لكن لان الرئيس جزء من المنظومة فقد استجاب بالطريقة الكلاسيكية للحملات المسعورة التى استعرت ضدة وجعلتة يتخذ مواقف متشددة فى دعم اسرائيل وقضايا اخرى خاصة الاقتصادية جعلت الذين اوصلوة الى الحكم يسحبون تاييدهم فتراجعت شعبيتة الى ادنى حد فى الداخل والخارج. فى منتصف الطريق استطاع اوباما تعديل مواقفة من الثورة العربية. موقف فرنسا ( دور برنارد هنرى ليفى اليهودى، الاتحاد من اجل المتوسط، الصفقات الفاشلة والصراع فى افريقيا وتدنى موقف ساركوزى الانتخابى ومناجم اليورانيوم فى تشاد ومالى) وبريطانيا كان ملحقا بالموقف المريكى بل كان الموقف الفرنسى فى تونس مغردا خارج السرب اما بريطانيا فكانت خارج المسرح فى تونس ومصر. وستحاول هاتان الدولتان التى تترنحان فى مواقع القمة ان يبحثا عن دور ويلعبا دورا محوريا فى الثورات اللاحقة كما سنراة واضحا فى ليبيا وسوريا لاحقا.
    الانظمة العربية

    يجمع بين كل هذة الانظمة انها منتجات انقلابات قومية سادت فى العالم العربى بعد الثورة المصرية فى عام 1952 (الذى هو فى حقيقة الامر انقلاب ولكن تعارف الناس عليها بانها ثورة لانها غيرت النظام المصرى من النظام الملكى الى نظام جمهورى) والتى تعاقب عليها الرئيس عبد الناصر، الرئيس السادات ومن ثم الرئيس حسنى مبارك والذى شغل السلطة منذ 14 اكتوبر 1981 حتى تنحية بعد ثورة شعبية ضدة فى 11 فبراير 2011. زين العابدين بن علي، رئيس الجمهورية التونسية منذ 7 نوفمبر 1987 الى 14 يناير 2011، وهو الرئيس الثاني لتونس منذ استقلالها عن فرنسا عام 1956 بعد الحبيب بورقيبة. معمر القذافي جاء الى السلطة في ليبيا عام 1969 في انقلاب ابيض قام به من كانوا يعرفون بالضباط الاحرار الذين انهوا الملكية واطاحوا بالملك محمد ادريس السنوسي فيما اطلق عليه لاحقا ثورة الفاتح من سبتمبر. بشار حافظ الاسد استلم الرئاسة في عام 2000 وابن الرئيس السابق حافظ الاسد والذى جاء الى السلطة 1969. علي عبد الله صالح الرئيس الاول والحالي للجمهورية اليمنية منذ قيام الوحدة بعام 1990. وكان قبلها رئيس الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي) منذ 1978. عمر حسن احمد البشير الذى جاء الى السلطة بانقلاب الانقاذ فى 1989. وكان لهذة الانظمة على اختلاف تاريخ نشوئها و تطورها والافكار التى تطرحها، منهجا متشابها عند سقوطها نسخا كربونية من بعضها الى درجة ان تعاملها مع هذة التحركات والخطاب السياسى وتدرجها فى استعمال اجهزة الامن، كان متطابقا بشكل كامل.

    الرئيس المؤسسة

    فى خضم التحولات التى تواترت على مدار السنوات، برز نموذج استرشادى واحد وهو تماهى الدولة والرئيس - والذى يعطينا الكاتب الكولومبى الراحل جابرئيل جارسيا ماركيز فى روايه خريف البطريرك الصورة الكاريكاتورية لكيف يبدو الديكتاتور. فالرئيس الثائر والذى غير النظام السابق لة تحت دعاوى كانت تستجيب للتطلعات المشروعة والامال والاحلام التى تبلورت من خضم المظالم التاريخية للشعوب وفشل النخب الليبرالية المشوهة بالاغطية الطائفية وعجزها عن صياغة مشروع وطنى ورؤية سياسية واضحة وملهمة والمزج بين الحريات والديمقراطية و قضايا التهميش والفقر وسبل التنمية ( كما تبلور فى النمور الاسيوية فى عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية ودول امريكا الجنوبية بعد خروجها من اسر الديكتاتوريات العسكرية). ينتهى بة الحال ويهتف وهو في ذروة خريفه: "عاش انا.. يموت ضحاياه". لكنه في النهاية يجد نفسه وجها لوجه مع الموت، وينتهي زمن الابديّة الذي كان يظنه.

    انتهى الامر بالرئيس المؤسسة الى التحول الى الرئيس العائلة، من تونس واسرة عقيلة الرئيس الى التوريث فى مصر، ابناء القذافى وبنتة واصهارة الى اليمن حيث اكتملت صورة الرئيس العائلة (نشرت حركة "3 فبراير" الشبابية في اليمن قائمة ب 36 اسما من ابناء واقارب الرئيس فى مناصب عليا - قائد الحرس الجمهوري والقوات الخاص، اركان حرب الامن المركزي، قائد الحرس الخاص، وكيل جهاز الامن القومي، قائد الفرقة الاولى مدرع قائد المنطقة الشمالية الغربية، قائد القوات الجوية وقائد اللواء السادس طيران..الخ) وعائلة واخوان الرئيس فى السودان.

    الشعب يريد اسقاط النظام

    عندما خرج الشعب التونسى - على اثر اقدام محمد البوعزيزي يوم الجمعة 17 ديسمبر عام 2010م باضرام النار في نفسه امام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجا على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى اراد تقديمها في حق الشرطية فادية حمدي التي صفعته امام الملا وقالت له: Degage اي ارحل (فاصبحت هذه الكلمة شعار الثورة للاطاحة بالرئيس وكذلك شعار الثورات العربية المتلاحقة)- كان يخرج على نمط من الانظمة القادمة من التوازنات الدولية فيما بعد الحرب العالمية الثانية .

    الثورة المصرية فى عام 1952 كانت النموذج الاسترشادى الذى سارت على هدية اغلب الدول التى عرفت باسم دول عدم الانحياز فى محاولة الدول المستقلة حديثا للخروج من دائرة الاستقطاب الحادة ومقاومة النفوذ الامبريالى. وتبنت معظم الدول فى افريقيا واسيا وامريكا الجنوبية طريق الانقلابات العسكرية. النموذج الاسترشادى المصرى كان عبارة عن تسلم مجموعة ضباط شباب – انذاك- على السلطة، فى اغلب الاحيان بدون اراقة قطرة دم بدون ان يمتلكوا اى رؤية او برنامج ولكن حشدا من الشعارات الفضفاضة والميول القريبة من المزاج الشعبى والاتكاء احيانا على القوى الشعبية وتنظيماتها سواء من اليسار او الاخوان المسلمين.

    ايضا فرض النموذج الاسترشادى المصرى مستقبل تطور هذة الانظمة وذلك مما افرزتة فيما سمى ازمة مارس 1954. فلم تكن هذة الازمة مجرد صراع علي السلطة بين اللواء محمد نجيب واعضاء مجلس قيادة الثورة بل كانت الازمة اكثر عمقا، كانت صراعا بين اتجاهين مختلفين اتجاه يطالب بالديمقراطية والحياة النيابية السليمة تطبيقا للمبدا السادس للثورة (اقامة حياة ديمقراطية سليمة)، وكان الاتجاه الاخر يصر علي تكريس الحكم الفردي والغاء الاحزاب وفرض الرقابة علي الصحف، وانتهى بصياغة دولة الزعيم الواحد والحزب الواحد، النموذج الذى ىساد حتى الثورات العربية. فماذا كان المعنى بالنظام حين خرجت الجموع مطالبة باسقاطة فى تونس، مصر، اليمن، ليبيا وسوريا والحبل على الجرار.

    انظمة القرن العشرين الجمهورية العربية تحولت عبر تطور بطىء ومعقد الى مؤسسات تتمحور حول المؤسس – اى الرئيس – وتراجعت الى ماسمى جملكية ( جمهورية –ملكية) والنزوع الى التوريث وتبلورت الى ما يمكن اجمالها فى ثلاثة مؤسسات: اولا: مؤسسة الرئاسة وتشمل نظام الحكم، الدستور، الاحزاب والبرلمانات والاعلام، ثانيا: المؤسسة الامنية وتشمل الامن والشرطة والقوات المسلحة وثالثا: مؤسسة الفساد.

    اولا: مؤسسة الرئاسة

    تطورت هذة المؤسسة على مر الزمن فى مختلف الدول سواء الستينية فى مصر، الاربعينية فى ليبيا وسوريا، الثلاثينية مثل اليمن او العشرينية فى تونس والسودان ويمكن ان نضيف انها قد استفادت من بعضها فى هذا. قامت هذة المؤسسة على المؤسس ويمكن بدون اى مبالغة ان نقول ان مجمل الدولة تعمل كموظف عند الرئيس. ان السلطات التى يكفلها نظام الحكم والدستور للرئيس غير محدودة بشكل لم يسبق فى التاريخ، اقوى واكثر كفاءة وبطشا من الاباطرة والملك العضوض الاموى والعباسى.
    وتنص كل الدساتير فى كل هذة الدول على ان رئيس الجمهورية هو راس الدولة ويعمل بموجب تفويض مباشر من الشعب و يتم انتخابة او استفتائة حتى الموت او انقلاب اخر ويتولى السلطة التنفيذية ويشارك في السلطة التشريعية. مسئول عن صون الدستور واستقلال الوطن وهو يعين رئيس الوزراء كما له حق عزله او قبول استقالته متى ما راى ذلك وكذلك الوزراء. ورئيس الجمهورية هو القائد الاعلى لقوات الشعب المسلحة وقوات الامن وهو الرئيس الاعلى لجميع اجهزة الخدمة العامة. وكذلك يعين رئيس الجمهورية ويعزل رئيس وقضاة المحكمة العليا وقضاة الاستئناف وقضاة المحاكم الاخرى.

    فى كل هذة الدول ديمقراطية يتشدق بها الحاكم واعلامة يحكمها التنظيم الحاكم وهو حزب الرئيس. وسواء جاءت الى السلطة عن طريق الانقلاب (تونس، سوريا، السودان) او شكلت بعد الانقلاب ( مصر، اليمن وليبيا) فهى خادم مطيع لكل اشارات الرئيس. لتحسين هذا الديكور فهو يبدا عادة بمنع الاحزاب ثم عندما تفرض الظروف العالمية فلابد من ايجاد احزاب حول التنظيم الحاكم، وهى اما احزاب موجودة من احزاب اليسار او الاخوان المسلمين (اى الاحزاب ذات الفكر الشمولى) او احزاب يقوم بايجادها من امثال المنابر المصرية او التوالى السودانية ويستثنى منها اى احزاب ليبرالية بشكل حاسم وعنيف.
    هذة الاحزاب مسموح لها بحركة محسوبة سواء فى المجال الاجتماعى او الوصول للبرلمان والغرض النهائى هو تفريغ الشحنات السياسية وارضاء الخارج. ومن الامور التى تدعو للدهشة والاستغراب وبل للحيرة اصرار هذة الانظمة على تنظيم الانتخابات والتهليل لها ثم تزويرها باشكال فاضحة. واذا كانت الدول الديمقراطية العريقة لايحقق فيها اى حزب النسب الغير معقولة من امثال 90% فى انتخابات برلمانية، فكل الذى حدث ان هذة الانظمة استبدلت استفتاء 99% بانتخابات عجيبة (حاز احرز حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا - حزب الطيب اردوغان- والذى ظل فى الحكم منذ عام 2002 وقام بنقلة نوعية فى الحياة التركية خاصة فى الحياة الاقتصادية اذ ارتفع الدخل الفردي السنوي الى 11 الف دولار للفرد الواحد، بينما لم يكن يتعدَّى 3300 دولار عند وصول الحزب الحاكم الى السلطة. حاز فى الانتخابات الاخيرة عام 2011 على حوالى 50% من الممثلين) http://www.assakina.com/

    يلعب الاعلام الدور الرئيسى فى هذة المؤسسة، ففى كل هذة الانظمة تم صناعة قاعدة اعلامية جديدة بالكامل فى شكل صحف جديدة او تحويل ما هو موجود الى توابع للرئيس (ما يسمى بالصحف القومية). واذا نظرنا لاعداد الصحف قبل هذة العهود نجدها تقلصت من عشرات فى كل الدول الى اثنين او ثلاث عبارة عن نشرات تدنت هذة الى اقل من خمس صحف غير مقرؤة . القنوات التليفزيونية الحكومية او القنوات التى تكون الدولة الشريك الخفى ليس لديها من هم سوى التغنى بامجاد الرئيس ولى الحقائق والتركيز على اولويات السطة. وربما اكبر كارثة تتمثل فى ربط الدولة فى اذهان الاجيال المتتابعة بالرئيس والانتشار العشوائى لصور الشخص الواحد فى كافة ارجاء الدولة واطلاق اسم الزعيم على الشوارع، المدارس، الحدائق والميادين. (بلغ عدد الصحف والمجلات الليبية التى صدرت خلال العهد الملكي (21) صحيفة ومجلة يومية واسبوعية وفصلية ، منها اثنتان حكوميتان هما " طرابلس الغرب " و " برقة الجديدة " ، واربعة مملوكة من قبل هيئات اعتبارية ، امّا البقية فهي مملوكة ملكية خاصّة http://www.libyanfsl.com.

    ثانيا: المؤسسة الامنية

    تعتبر هذة المؤسسة (تشمل الامن والشرطة والقوات المسلحة والمليشيات) الحاكم الفعلى فى دولنا وقد ظهر انها لاتلتزم باى قوانين وليس عليها اى رقابة من اى جهة. وهى بلا ضوابط مهنية سواء ادعى النظام انة اسلامى او يسارى. فكلها تعتمد التعذيب والتجسس الغير اخلاقى والابتزاز والتشهير والتهديد بهتك الاعراض والاغتصاب. ورغم الاسماء الرنانة والطنانة من امن الدولة، الامن الوطنى، المركزى، قوات الشعب المسلحة، الشعب المسلح، الحرس الجمهورى، حرس الحدود، الحرس البلدى او الوطنى او الثورى والجامعى وحرس المنشات وغيرها. اتفقت كل الانظمة فى تحولها لتنتهى الى الدولة الامنية التى تعمل جميعها فى حماية الرئيس ونظامة وتصفية حساباتة وليس خدمة الشعب الذى يقوم الصرف عليها. وجميعها تفرغت من مهامها الاساسية من حماية الشعب من الجريمة المنظمة، التخريب وتعدى القوى الخارجية الى حماية النظام من الشعب.

    لتفعل ذلك بكفاءة فقد تولت، بدلا من احزاب الانظمة الكرتونية والاعلام الموجة والصحف المسنسرة جيدا، حل كافة القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية التى تطفو الى سطح الاحداث، وتدخلت فى شقوق الحياة فهى التى توافق على كافة الموظفيين العموميين بدا من رئيس الوزراء، تسيطر على من يمثلون العاملين فى قيادة النقابات واتحادات الطلاب، تدفع بالفنانين الى الشهرة وتمنع الافلام وتحذف المقالات وتتحكم فى الحياة الاقتصادية بشكل كامل. فهى فى كافة زنقات حياة المواطن اليومية وهو امام خيارات اما ان يصمت ويسير بجانب الحائط او يقدم الرشاوى حسب وضع المرتشى او يقدم معلومات على اقرب الناس الية او ينتهى بة الامر فى الاقبية السرية او بيوت الاشباح او وراء الشمس ليعذب او احيانا يقتل. اى باختصار الاجهزة الامنية تفتش بين الرجل وزوجتة وقميص النوم او تدخل بين بصلة المواطن وقشرتة.

    ثالثا: مؤسسة الفساد

    كشف تقرير العام 2009 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية ان الدول التي دمرتها الحروب والصراعات هي الدول التي تعاني من نقص في الشفافية وتفشي الفساد ،وقد حلت الصومال في المرتبة الاخيرة (الدولة رقم 180) على قائمة الدول الاكثر شفافية وكان مجموع نقاطها 1.1 على عشرة ،السودان تعادل مع العراق 1.5 نقاط وتشاركا في الرقم 176 من 180 دولة وهما معا في المرتبة الرابعة قبل الاخيرة. واشارت هذه الارقام الى ان البلاد التي تتمتع باستقرار سياسي ومؤسسات عامة تعمل بصلابة هي البلدان التي تسود فيها الشفافية ويقل فيها الفساد. وقالت المنظمة في بيان "حين تضعف او تغيب المؤسسات الاساسية، يخرج الفساد عن السيطرة وتغذي سرقة الموارد العامة غياب الامن والفلتان من العقاب . وكانت مجموعة دول العشرين قد تعهدت بمكافحة الفساد عبر بنية تنظيمية جديدة، لان الفساد خطر يهدد الاقتصاد المستقبلي.

    هذة هى المؤسسة الفعلية فى الدولة العربية والتى تحرك كل تصرفات النظام وتضبط ايقاعة. والفساد نوعان المحلى وهذا النوع يشكل جزءا اقل من حركة الفساد ويستعمل فى التمييز الايجابى بين البطانة المؤيدة وشراء الذمم والصرف على اجهزة الامن والمليشيات والصرف البذخى على اجهزة الدولة واحتفالاتها. وقد جاء هذا المال من خروج الدولة بالكامل وتنصلها من مسئولياتها فى الخدمات. فبعد ان ورثت انظمة ما بعد الاستقلال الوطنى انفاق 8-10% من الدخل القومى على كل من الصحة والتعليم وقيام الدولة بتوفير الطرق والمياة والكهرباء والامن. انتهت الانظمة بتخصيص اقل من 2% من الدخل القومى على كل من الصحة والتعليم واصبحت كل خدمات الطرق والمياة والكهرباء والامن يدفعها المواطن بالكامل وباكثر من تكلفتها لتورد لمؤسسة الفساد.

    الفساد موجود فى كل المجتمعات والدول والمجموعات وهو ظاهرة انسانية مرتبطة بذات وجود البشر فى الارض، فغير الفاسدين هم الملائكة. لكن من الخطا ان نقبل بذرائع الانظمة التى تريد تحميل الفساد للافراد – وان كان لهم دور ويستحقون المحاسبة- الذين غالبا جاءوا للسلطة وفى مخيالهم نظافة اليد ورومانسية عفة ابوذر الغفارى والمثقف الاشتراكى المناضل، وان ننسى البناء المؤسسي الدافع والمشجع. كافة الدول لاتخلو من الفساد لكن الفرق ان من لدية الرقابة والبرلمان والقضاء المستقل قادر على التمكن من كشف معظمة والحفاظ على الفساد فى حدة الادنى. المؤسسات الغير خاضعة للرقابة والتابعة للحزب الحاكم من برلمان وقضاء وامن وغياب المحاسبة وانعدام الشفافية هى المواد الاولية للفساد الذى سيطر على حكومات النخب العلمانية والاسلامية الاقصائية. لذلك تعجز كل المحاولات -واصدق ان بعضها حسن النية- التى تتخذ من اعفاء البعض حين تفوح الرائحة او انشاء مؤسسات محاربة الفساد فى ان تحقق اى نتيجة، فالعلة فى النظام نفسة.

    النوع الثانى وهو الخارجى هو الاضخم والذى ادى لتراكم الارقام المذهلة فى حسابات الرؤساء وعلى جداول ديون هذة الدول. لنوضح هذا النوع نعرج قليلا على احد اهم الكتب التى تناولت هذا النوع . مذكرات قاتل اقتصادي ماجور هو عنوان لكتاب لمؤلف اميركي (جون بيركنز) (Economic Hit Man). و كان على قائمة الكتب الاكثر مبيعا في الولايات المتحدة. يغطي الكتاب تجربة عمل المؤلف كمستشار اقتصادي رفيع في مؤسسة اميركية خاصة، كانت ذراعا للاستخبارات الاميركية، يظهر وبوضوح كيف كانت تتم المفاوضات بين الشركات الخاصة من جهة وبين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بشكل يتيح لتلك الشركات تمرير بعض التوصيات حول مشروعات البنية التحتية وكيف كانت تتبنى المؤسسات الدولية تلك التوصيات وتقوم بعد ذلك بتمرير القروض. هذة القروض كانت البيضة الذهبية التى توفر العمولات الضخمة والتى تذهب فورا الى الحسابات الخاصة لمؤسسة الفساد.

    عمل جون بيركنز ضمن وكالة الامن القومى وكانت وظيفتة تشجيع و دفع قادة العالم بان تعمل من اجل المصالح التجارية الامريكية. و في نهاية المطاف ايقاعهم في فخ شبكة من الديون حتى يمكن الضغط عليهم لتلبية الرغبات السياسية و الاقتصادية و حتى العسكرية، و بالمقابل يتم دعم وضعهم السياسي. بلغت الديون الخارجية لمصر عام 2010: 34.7 مليار دولار، ديون السودان الخارجية عام 2009 نحو 31.9 مليار دولار، وتونس 2010 تناهز 10 مليار دولار. لا احد فى هذة البلاد يدرى اين ذهبت هذة المليارات، كيف صرفت واين حساباتها.

    تظهر اثار هذا الفساد الخارجى فى انصراف كل الحكومات العسكرية الى الاستثمار فى البنية التحتية من طرق، كبارى، سدود، الابراج...الخ ، ويمكن ملاحظة هذا اذا امعنا النظر فى انجازات نظام مايو او الانقاذ والتى تضيف لها استخراج البترول والتى تعتمد على الاستثمار او الديون الخارجية وهى باب العمولات. اما الاستثمار فيما يسمى الاقتصاد الحقيقى ( الزراعة، الرعى والصناعة) فهى بعيدة عن هموم دولة العسكر.

    قوى تيار الدولة الدينية

    بدأ تيار تيار الدولة الدينية في أواخر العشرينيات من القرن الماضي ووراءها خلفية إسلامية ظاهرة. ويرى الاستاذ محمد حسنين هيكل ان التجديد الحديث في الفكر الإسلامي قام به الشيخ محمد عبده و لكن التنظيم الإسلامي المستجد قام به الأستاذ حسن البنا. ولم يحدث ان التقي فكر محمد عبده مع تنظيم’ حسن البنا’, ولو حدث لكان للإخوان المسلمين الان شان آخر يفوق ما تطورت إليه التنظيمات الإسلامية في تركيا مثلا. ان الإخوان حين حاولوا ان يثبتوا انفسهم طرفا لابد ان يحسب له حساب فعلوا ذلك بقوة التنظيم السري اختصارا للطرق، وذلك أدخلهم في غياهب العنف. عندما جاءت ثورة 1952 تكرر الصدام بين الإخوان وبين السلطة، وكانت هذه المرة سلطة العسكر وتعرض الإخوان لمحن قاسية. عندما عاد الإخوان المسلمون بعد غيبة طويلة في أواسط عهد مبارك إلي الساحة، وكانوا محظورين رسميا، نشيطين فعليا، فقد تعلموا درسا ملخصه: تعلمنا ألا نصطدم مع سلطة الدولة لان وسائلها أقوي منا بكثير. ثم انهم راحوا في الانتظار والتربص، ينقسمون علي انفسهم، ويخرج منهم الفوج بعد الفوج من الجماعة الإسلامية إلي الجهاد إلي طالبان إلي القاعدة إلي جماعات أخري شطحت بها السبل، فإذا هي تظهر في حكاية الجهاد الإسلامي في أفغانستان، القاعدة وفي قاعدة السودان واليمن وغيرها (هيكل للأهرام : إجراء الانتخابات بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة سيعيد انتاج الماضي، الجزء الثاني من الحوار، جريدة الاهرام، 20 سبتمبر, 2011 الحديث بتصرف محدود) .

    كان الدور المرسوم لهذة القوى ان تلعب دور الفزاعة باعتبارها البديل الجاهز لوراثة هذة الانظمة الباطشة والفاسدة. وقد تكيفت هذة القوى مع هذا الدور المعد لها فلعبت دورا تخريبيا فى منع اى نهوض جماهيرى واتقنت عقد الصفقات. يفسر هذا كثيرا من مواقف التردد والعجز الذى واجهتة هذة القوى عند انطلاق الثورات. وقد ادى هذا لارتباك عارم وهزة استراتيجية لدى الغرب فى موقفها من هذة التحركات كما بدا جليا فى التعامل السلبى والبطىء وبل المعادى فى تونس ومصر. اما فى ليبيا فقد قاد هذا الى سلوك متخبط من قرارات حاسمة سريعة ( قرارى مجلس الامن رقم 1970 و1973 ) وتحرك عسكرى كبير وضخم الى التردد امام ما طرح فى الساحة عن تواجد القاعدة والجماعة الاسلامية الليبية المقاتلة وكذلك اليمن وما تمتلىء بة الساحة من منظمات اسلامية متشددة.

    عدم وصول الثورات العربية الى التغيير الحاسم ووصول طلائعها المنظمة وافتقادها للقيادة والرؤية ووصولها الى الحالة السودانية 1985 (تغيير النظام ووصول بعض اجزاء النظام القديم الى قيادة النظام الجديد: السيد محمد فؤاد المبزع رئيس مجلس النواب التونسى منذ 14 اكتوبر 1997. والمجلس العسكرى الانتقالى فى مصر)، وقد لاحظ كثير من المراقبين وجود تقارب بين السلطات الجديدة وتيار الدولة الدينية حذو النعل بالنعل من الحالة السودانية 1985. هذة القوى القديمة بطبعها محافظة ولا تعرف غير التغيير المتدرج – اى لا تغيير – وفى العمل السياسى لا تعرف غير المناورات والمؤامرات وافضل السبل لشراء الذمم. ثم ان الديمقراطية هى حقك فى الحديث فقط ولاتتجاوزة لاى فعل، والتعبير من خلال الاجهزة التى تتحكم فيها ودولة القانون هى قوانينها وما عدا ذلك فهو اختراقات ثقافية وعلمانية وهلم جرا. واخيرا فان هذة المجتمعات هى سليلة قرون من السيطرة الابوية واعتبار قادتنا مستودع الحكمة والمعرفة.

    لذلك فان القوى القديمة تتجة الى القوى التى عرفتها طوال تاريخة واستانستها ، وتوجد فى سجلاتة وعقدوا معهم الصفقات المتنوعة واخترقوهم بالمال والسلطة والنفوذ. واشبة العلاقة بينهما اقرب لما اصطلح على تسميتة بمتلازمة استوكهلم (متلازمة استوكهلم مصطلح يطلق على الحالة النفسية التي تصيب الفرد عندما يتعاطف او يتعاون مع عدوه او من اساء اليه بشكل من الاشكال، او يظهر بعض علامات الولاء له مثل ان يتعاطف المخطوف مع المُختَطِف واطلق على هذه الحالة اسم "متلازمة ستوكهولم" نسبة الى حادثة حدثت في ستوكهولم في السويد حيث سطا مجموعة من اللصوص على بنك هناك في عام 1973، و اتخذوا بعضا من موظفي البنك رهائن لمدة ستة ايام، خلال تلك الفترة بدا الرهائن يرتبطون عاطفيا مع الجناة، و قاموا بالدفاع عنهم بعد اطلاق سراحهم ).

    ثورات العرب فى القرن الحادى والعشرين

    التعريف المبسط للثورة هي التغيير المفاجئ السريع بعيد الاثر في الكيان الاجتماعي لتحطيم استمرار الاحوال القائمة في المجتمع وذلك باعادة تنظيم وبناء النظام الاجتماعي بناءً جذريا، او بالمفهوم الدارج او الشعبي فهو الانتفاض ضد الحكم الظالم . كما قد تعني الثورة في معنى اخر التطور الايجابي كما هو متعارف عليه في مجال التكنولوجيا و العلوم التطبيقة حيث يستخدم مصطلح ( ثورة) كما في الاشارة الى ثورة المعلومات و التكنولوجيا .يطلق مصطلح ثورة اجمالا على كل التحركات السياسية والاجتماعية التى انتشرت فى ارجاء العالم العربى وطرحت مسالة تغيير النظام بدا من تونس، مصر، اليمن، ليبيا وانتهاءا بسوريا. وقد تنبهت التحركات الجماهيرية السودانية مبكرا فى عام 1985 لعدم اكتمال ثورتها واطلقت عليها اسم االانتفاضة بديلا عن الثورة.

    يمكن ان نؤرخ لبداية الثورة البرجوازية (او التغيير الليبرالى) بدا من عام 1688 فى بريطانيا حيث وضعت بعض الضوابط الدستورية على الملكية ( ما يسمى حاليا الدعوة الى الملكية الدستورية كما فى البحرين، الاردن والمغرب) وقد كان من الفلاسفة الذين وضعوا المبادىء الاساسية الفيلسوف الانكليزي جون لوك 1632-1704 والذى قامت اطروحتة على ان السلطة المحدودة بالقانون ورضا الرعية هو البديل الافضل للفوضى والطغيان. لذلك فانة يعتبر الثورة ظاهرة اجتماعية طبيعية ومنسجمة مع السير العام للمجتمع الانساني ومع تطور التاريخ وهي تحدث عادة اذا توفرت الشروط الخاصة لحدوثها فهي عمل مشروع بحق للشعب بل يجب عليه ان يقوم به للقضاء على الحكومة التي لاتمثله والتي انحرفت عن الطريق السوي في الحكم. ان مهام الحكومة في نظر جون لوك هي خدمة للشعب ورفع مستواه المعنوي والمادي والحفاظ على ارواح الشعب وممتلكاته وحقوقه.

    اكتملت الثورة البرجوازية بقيام الثورة الفرنسية سنة 1789 م وطرحت ثلاث شعارات: الحرية، والاخاء والمساواة وتم اسقاط الملكية واعلان الجمهورية (طرحت الثورات العربية: تغيير حرية عدالة اجتماعية ). ودعا الفيلسوف الالماني هيجل 1770-1830 الى اعتبار هذة الدولة الجديدة التجسيد المطلق للمثل والاخلاق وغاية تجلى الروح فى التاريخ. بالتالى راى ان الثورة ظاهرة اجتماعية شاذة ومنافية للسير العام للمجتمع الانساني وهي شيء غير طبيعي لا يحدث الا في الحالات الشاذة والنادرة. وقد توصل توماس هوبز 1588-1679 في انكلترا وجان جاك روسو 1712-1788 في فرنسا ان التغييرات يجب ان تؤدى الى عقد اجتماعي بين الافراد والدولة وهذا امتداد لما حدث من اجتماع الناس بمحض ارادتهم وتعاقدهم على انشاء الدولة لغرض قيامها بالمحافظة على حقوقهم المكتسبة وفي مقدمتها حق التملك وعلى هذا الاساس يصبح لافراد الشعب حقوق على الدولة والتزامات.

    اما كارل ماركس 1818-1883 فقد كان البناء الفكرى لنظريتة يقوم على تغيير العالم لذلك اعتبر الثورة هي القانون العام لسير الطبيعة والمجتمع وهي الوسيلة الوحيدة لحل مشكلاته ولاسيما الجانب الاقتصادي الذي يستند عليه وينبثق عنه نظام المجتمع في الوجوه الاخرى السياسية والاجتماعية والاخلاقية والفلسفية وغيرها. ويعتبر ماركس الدولة- والحكومة التي هي جهازها الفعال- والتي نشات من التطور الطبقى بعد مرحلة المشاعية البدائية بفعل قوى جديدة تظهر نتاجا لعلاقات انتاج فتنتج اقليات طبقية مستغلة بكسر الغين لحماية مصالحها الاقتصادية على حساب اكثرية الشعب المحروم وتنشىء المؤسسات الحكومية مثل الشرطة والمحاكم والسجون للمحافظة على الوضع القائم المبني على الاستغلال وكبح جماح الفئة المحرومة ومنع مطالبتها بحقوقها المشروعة اقتصاديا وسياسيا.

    طور لينين افكار ماركس وانجلز حول الثورة وصاغ مفاهيما محددة حول الازمة الثورية والتى تعمل بفعل عوامل موضوعية
    تتمثل بعجز الطبقة السائدة عن الاحتفاظ بالسلطة، ووصول سخط الجماهير عليها الى ذروته ورفضها الاستمرار تحت حكم الطبقة السائدة وتتحول الازمة الثورية الى لحظة ثورية عند توفر العامل الذاتي (الجماهير الرافضة المستعدة للحراك والقيادة ). ومن ثم وفيما ينسد الطريق ينفسح المجال الجديد على انقاض القديم. وعند لينين تنتقل الدولة الى مرحلة انتقالية، اى دولة الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا (ما اطلق علية الثورة الوطنية الديمقراطية) ومن ثم الانتقال للطورين الاسفل والاعلى من المجتمع الشيوعي.

    قوى الميادين والساحات

    كيف ننظر لوصف التحركات السياسية والاجتماعية فى الدول العربية ؟ للدخول فى هذا الجدل نود ان نبدأها من تطور التحركات السياسية المختلفة فى مختلف الدول. فى كل هذة التحركات تقابلنا هذة الشعارات: الشعب يريد اسقاط النظام، الديمقراطية، الدستور، جهاز الامن، الاعلام و الفساد بترتيبات واولويات مختلفة. وعلى الجانب الاخر شاعت هذة التوصيفات: المخربين، العملاء، القلة، الحفنة، الثلة، الجزيرة الحقيرة، زنقة زنقة، زعزعة الاستقرار، تقسيم الدولة، الاستعمار، الامبريالية واشاعة الفوضى الخلاقة ومعجم كامل من هذة اللغة.

    فمن هذة القوى التى التقت فى شوارع المدن العربية جميعها وشكلت كتلا مليونية اعتصمت فى الميادين والساحات بالوان فى غالبها الحمراء والبيضاء والسوداء وخلقت عالمها الاعلامى، الثقافى، اللغوى والشعورى فى مواجهة السلطة باعلامها وصحفها، شرطتها، امنها المركزى، كتائب امنها واخيرا القوات المسلحة.

    برغم الفروق بين التحركات السياسية والاجتماعية فى عديد الدول العربية والتى انفجرت في ديسمبر 2010 في تونس ثم امتدت الى مصر،اليمن، ليبيا وسوريا، فان الاسباب العامة وطريقة التحركات والتواصل بين المجاميع ودور القنوات الفضائية عابرة الدول (مثل الجزيرة، العربية، الحرة وروسيا اليوم..الخ) وغلبة الشباب وافتقادها الى مايسمى العامل الذاتى اى القيادة سواء الحزبية او المنظمة كانت متشابهة بشكل كبير. كما تشابه بشكل كبير وملفت للنظر ردود فعل الانظمة الحاكمة سواء فى اوصافها للمحتجين والدول والقنوات الفضائية، خطابات الزعيم المتدرجة من التهديد فالتنازلات والتراجع ومن ثم الهروب او التنحى او القتال ونشر الموت والخراب فى البلاد. لنحاول الوصول لصورة حول الاسباب المباشرة المحتملة فاننا سوف نستعرض اللمحات العامة للذين تقاطروا الشوارع، الميادين والساحات.

    منذ التغيير السياسى الكبير الذى حدث فى مصر فى الخمسينات وضعت اجندة هذا الجزء من العالم الممتد من اسيا الى افريقيا والذى افرز النظام السياسى النموذجى، تحكم شرائح الطبقة الوسطى او ما يسمى البرجوازية الصغيرة، من خريجى المدارس والجامعات المدنية والعسكرية خلال الفترة الاستعمارية على مقاليد الحكم وبناء الدولة الحديثة. وقد تخلت، نتيجة ظروف تاريخية متعددة، الطبقات العربية الوسطى عن حرياتها السياسية فى مقابل مكاسب وانجازات التنمية. من خلال هذة الانظمة بدا نشوء الراسمالية المحلية المتحالفة والمتداخلة مع الراسمالية العالمية. ولاسباب عديدة بعضها تاريخى واخرى بنيوي وثالثة لاثار العولمة لن نخوض فيها هنا ولكن نتيجة هذا النمو كان ان جرى الانتقال من ما عرف براسمالية الدولة ( القطاع العام) في البلدان شبه الاشتراكية والدول النفطية، الى اقتصادات منفتحة وخاصة تبلورت فيها راسمالية غير انتاجية اطلق علي الجزء الاكبر منه احيانا الراسمالية الكمبرادورية ( تعمل فى العقارات، التوكيلات التجارية والخدمات والمصارف) او الاسم الاكثر شيوعا الراسمالية الطفيلية. هذا النوع من الراسمالية يعتبر مفاهيم التنمية والتطوير المتوازن هراءا وقيودا وتشغيل العمالة لدية يعنى اقل الاعداد واستغلالها للحد الاقصى، البيئة مكان لضخ الملوثات، واعادة تدوير الارباح تعنى حسابات سويسرا والمضاربة بالعملة ورفع اسعار الاراضى. وهكذا تحولت المدن الكبرى وغالبا العاصمة مستقرا لاغلب الصناعات الخفيفة والخدمات والمنتجعات والمساكن الفاخرة والمولات واهملت الصناعات الانتاجية وهجرت الصناعات التحويلية وحولت الاراضى الزراعية الى مناطق سكنية وهجرت الزراعة من السلع الاستراتيجية الى اللبن والبيض والزهور وتحول صغار الموظفين والعمال وصغار المزارعين الى معدمين تراكموا فى المناطق العشوائية فى احزمة حول المدن.

    ابناء الفقراء والطبقة الوسطى الذين فتحت امامهم فرص التعليم فى كافة المجالات فى مرحلة راسمالية الدولة وتوفر وتوسع التعليم المجانى واحيانا المدعوم، ادت لتوسع قاعدة هذة الشريحة واتيح لها العمل فى المجال الحكومى المسيطر والصناعات الثقيلة والمتوسطة. وفى العقود الثلاثة الاخيرة ساهمت هجرة كثير من هذة الفئات الى الدول العربية النفطية الى مزيد من اتساعها، لكن فى نفس الوقت ساهمت التشوهات الهيكلية فى النمو الاقتصادى الى تهاوى كثير منهم الى درك الفقر والبطالة. وبحسب تقرير للبنك الدولي فان 44 مليون شخص في الشرق الاوسط ممن كانوا ينتمون سابقا للطبقة الوسطى اصبحوا على حافة البؤس، ولم يكن باستطاعتهم توفير المال اللازم لاطعام اسرهم ( يمكن بشكل عام ان نقول هنا ان اكثر من 30% على الاقل تحت خط الفقر فى تونس، مصر، اليمن، الجزائر اى اقل من اثنين دولار فى اليوم. اما فى السودان فقد بين التقرير السنوي الاول للتنمية البشرية في السودان 2011 نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر بـ 46,5% يقل دخلهم عن 113,8 جنيها،اى اقل من دولارين فى اليوم ). وساهم خروج الدولة من توفير الرعاية الصحية والتعليم والمواصلات والتحكم فى الاسعار الى مزيد من البؤس. القوى التى خرجت الى الشوارع والميادين هى سليلة هذة الطبقة والتى جردت من كافة قواها الحية من الاحزاب ووسائل التعبير وحوصرت فى رزقها وقمعت طموحاتها، فلم تجد سوى الانفجار وحمل احلامها فى حياة كريمة وتوزيع عادل وشفاف للثروة.

    هذة الطبقة الوسطى – كما اشار عبد الغفار شكر- خرجت من صفوفها كل التيارات الفكرية والقوى السياسية المعاصرة: قومية وليبرالية واسلامية واشتراكية. ويفسر هذا التناقض فى مواقفها وادوارها فى طبيعة تكوينها من اخلاط شتى وتنوع مصالح الفئات المكونة لها، مما حدا ببعض الباحثين تسميتها بالطبقة الوسطى او تفضيلهم ان يطلق عليها تعبير الفئات الوسطى، لان الطبقة فى التعريف العلمى هى مجموعة الافراد الذين يربطهم ببقية المجتمع نوع من علاقات الانتاج: ملكية وسائل الانتاج، او العمل عليها لمن يملكون قدرتهم على العمل. (الطبقة الوسطى والمستقبل العربى http://www.ahewar.org ).

    تشكلت الانظمة الحاكمة من رحم هذة الفئات بانقلابات عسكرية وكونت احزابها الحاكمة (التجمع الدستوري الديموقراطي فى تونس واسس في 1988 على انقاض حزب الدستور الجديد الذي قاد البلاد الى الاستقلال برئاسة الحبيب بورقيبة، الحزب الوطني الديموقراطي كان الحزب الحاكم في مصر انشأة الرئيس انور السادات في عام 1978 بعد حل الاتحاد الاشتراكي العربي، حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم في اليمن وحزب البعث العربى الاشتراكى فى سوريا واللجان الثورية فى ليبيا والمؤتر الوطنى على انقاض الجبهة الاسلامية القومية فى السودان ).

    كانت احزاب المعارضة تتكون دائما من الاحزاب اليسارية والاخوان المسلمين وغابت الاحزاب الليبرالية او تكاد من المسرح فقد تم استهداف الليبرالية فكريا من اليسار بكافة اشكالة والاسلاميين وعرضوها كممثل للقوى الاستعمارية وعميلة للامبريالية، وطرحت الجهتان مفاهيم ديمقراطية مخالفة وغير ديمقراطية. وعندما استولت على الانظمة فقد بدات فى تجفيف منابع هذا التيار الفكرى ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وعقدت المحاكمات فى كل البلدان لرموز النظام وتلويث سمعتهم ومطاردتهم واعتقالهم.

    الذين تقاطروا على الشوارع والميادين كانوا مثل الضباط الصغار الذين خرجوا من قبل ليغيروا وجوة بلادنا، فهم شباب فى اغلبهم لم ينتموا لاحزاب بشكل متواصل وجيوشهم تتكون من الذين يعانون البطالة والمحبطين سياسيا واجتماعيا والذين اغلقت فى وجوههم النوافذ الى المستقبل. ولانهم ابناء المرحلة العالمية الحالية فقد حددوا اهدافهم بوضوح فى رحيل الانظمة وتفكيكها بالكامل واجتثاث الفساد وتغيير الانظمة الى ما استقر فى القاموس اليومى فى الحوارات السياسية فى ارجاء الكون وحوتة الوثائق العالمية للمنظمات والجمعيات العالمية من قبيل الدستور الديمقراطى، حكم القانون، حرية التعبير والتنظيم والاعلام واستقلال القضاء

    الفزاعات

    الفزاعة تعبير شاع فى الفضاء السياسى بعد تفجر الثورات العربية وعند التمهيد لها. تعنى الفزاعة خيال الماتة (دمية على شكل انسان مصنوعة من القش المخبا في ثياب وتستخدم عادة لاخافة الطيور فى الحقول)، وعنى المصطلح كما يرى د . محمد يحي على قيام بعض الحكومات او الانظمة بالتلويح امام شعوبها او امام القوى والدول الخارجية بامكانية دخول قوى وتيارات سياسية داخلية الى الحكم محلها على طريقة تهدد مصالح تلك القوى الكبرى او تنذر بالخطر فيما يفترض على مصالح الشعوب والقوى الاجتماعية والسكانية الاخرى داخل البلد او حتى على كيان البلد ذاته. و للروائى الليبى ابراهيم الكوني استعمال اخر للفزاعة فهى في الواحة تاريخ يتناقله الرواة واهل الفصول فيقولون ان ساحر الاغراب عندما نزل الواحة قادما من المجهول تنكر في مسوخ اخرى. قامت دعائم الفزاعات على عدة محاور: الفتنة، البديل الاسلامى، الطائفية والقبلية وتعتمد اهمية كل محور على ظروف كل دولة. وسنتناول كل محور بالتفصيل.

    اولا : الفتنة

    تؤسس الانظمة على ان البديل لها هو الفتنة، فالانظمة هى حافظة النظام وحارسة مصالح الخارج بشكل عام، وتلعب الاشارة الى امن اسرائيل خاصة فى المنطقة العربية التى يمثل امنها احد هموم الغرب فى رسم استراتجياتة وموقفة من الانظمة. الفتنة لها مسببات عدة فى مصطلحات الانظمة فهى تستند مباشرة الى التجارب المريرة – للغرب- مع التغييرات فى العصر الحديث واهمها مالات الثورة الايرانية ووصول حماس للسلطة فى حماس وغيرها وهى اشارة الى فقدان البدائل للخبرة المتوفرة فى شئون الحكم والاقتصاد والاتجاهات المغامرة المتوقعة. فالنخب العلمانية والاسلامية الاقصائية بعد ان حنت ظهرها للريح بشدة وانبطحت هيأت دولة الفساد التى لائمت مصالح الشركات العابرة للقارات ومثلت الحصن الامين لهذة المصالح. ورغم ان اساس كثير من الثورات تجد مرجعيتها فى الاطروحات المولدة اساسا من العالم المدنى الديمقراطى واسسها الثابتة من الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان وحرية التعبير فقد فوجئت كافة التيارات ومراكز البحث والاستراتيجيات والدول والمنظمات وقوى المجتمع المدنى العالمية بهذة الثورات ولم تستطع تتبع نشاتها، تطورها، اساليبها وتكتيكاتها ووسائل تنظيمها. كلهم وجدوا انفسهم فى مواجهة شباب الثورات تجهل تماما هذة القوى، فهى لم ترها قط فى الفضاء السياسى سابقا وليسوا هم المسجلون فى تقارير المخبرين والاجهزة المختلفة، ولم تدرسهم معاهد الدراسات والابحاث وبالتالى لا تعرف ردود افعالهم وليس هناك جهة للتفاوض معها او اغرائها او شرائها بالمال.

    ادى هذا لارتباك شديد فى الدول التى تعرضت للثورات- والتى تنتظر دورها- فقد بدا كافة الرؤساء فى معايشة حالة المواقف وتعرضوا لكافة مراحل الصدمة ( فى علم النفس تقسم مراحل مواجهة الصدمات الى خمسة مراحل هى :الانكار، الغضب، المفاوضة، الاكتئاب والتقبل). وقد راينا كيف انهم جميعا استهلكوا الوقت فى الحالة المتطرفة من الية التكيف النفسي التي تسمى الانكار فانكروا ان يحدث لهم بما حدث لمن حدث قبلهم ، بديلا عن التصدى ومحاولة تقديم اصلاح حقيقى . نفس الارتباك والتشتت دفعت امريكا وبريطانيا وفرنسا من التاييد لبن على ومبارك الى الانتقال لموقف الارتباك المعاكس فى حالة الثورة الليبية.

    ثانيا: البديل الاسلامى

    هذة الفزاعة تم بنائها بتواصل عبر السنوات عن طريق الصفقة التاريخية التى تم عقدها بين انظمة النخب العلمانية الاقصائية والحركة الاسلامية فى كل هذة الدول للعب هذا الدور مقابل مكاسب سياسية واجتماعية محدودة، اما الدول المحكومة من النخب الاسلامية الاقصائية فهى تقدم نفسها كممثل لاسلام معتدل ضد اسلام متطرف يتمثل فى اقصى حالاتة فى تنظيمات القاعدة، الحوثيين، الشيعة المتحالفة مع ايران ومثيلاتها. وكان هذا البناء ابتدرة الرئيس السادات الذى اعاد التيارات الاسلامية وسمح لها بالنمو والترعرع والتغلغل فى النقابات الطلابية وغض النظر عن استعمال العنف ضد اليسار المصرى، وفتح لها ابواب الانتشار الجماهيرى والتى سترتد علية لاحقا لاغتيالة.

    لقيت التيارات الاسلامية الزخم الفكرى والتنظيمى حينما قرر الرئيس المصري الراحل انور السادات اقرار الدستور الدائم واضاف المادة الثانية من دستور عام 1971 والتى تقرأ الاسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. وكان دستور 1923 يعالج مسائل الحقوق فى مواد عديدة اهمها المادة ثلاثة " المصريون لدى القانون سواء. وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الاصل او اللغة او الدين. واليهم وحدهم يعهد بالوظائف العامة مدنية كانت او عسكرية ولا يولي الاجانب هذه الوظائف الا في احوال استثنائية يعينها القانون. والمادة الثانية عشر "حرية الاعتقاد مطلقة" والمادة الثالثة عشر "تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الاديان والعقائد طبقا للعادات المرعية في الديار المصرية على ان لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الاداب." اخذ تطور الدستور منحى مشابها فى السودان وان سار الشوط لاخرة، كما فصلنا فى الفصل الخاص بالدستور.

    ثالثا: الطائفية

    برغم التجانس النسبى فى اغلب البلدان العربية ثقافيا واجتماعيا و دينيا (عدا مصر، لبنان والسودان) فقد استعملت الطائفية بشكل واسع خاصة فى ازمنة الديكتاتوريات. طوال عصر الزعيم عبد الناصر لم تقع فى مصر اى فتن طائفية ولكن الامور تغيرت فيما بعد حيث بدات احداث الفتنة الطائفية تتكرر بدءا من حادث الخانكة عام 1972 . ربما يمكن ان نؤرخ لغزو الطائفية فى المنطقة ببداية تولى الرئيس الراحل السادات للسلطة والتى اكتمل نارها بزيت المادة الثانية من دستور عام 1971. وطورت لعبة الطائفية فى عصر الرئيس مبارك الى اقصاة حتى ادت الى انقسام حقيقى بين اطراف الامة المصرية. وكان استعمال هذة الطائفية كفزاعة مبنيا على ان النظام الحالى هو ضامن الاستقرار ضدها، خاصة للاقباط. اما السودان، فرغم ان الحرب الاهلية بدأت مباشرة بعد استقلال السودان عام 1956، الا ان نظام الانقاذ الوطنى حول الحرب الى حرب دينية (مجلس الكنائس العالمي اجرى احصاءا عام 1986، اشار فيها الى ان نحو 31% من الجنوبيين هم من المسلمين، وقرابة 48% من المسيحيين، والبقية تتوزع بين الارواحيين واللادينيين، واصحاب الديانات الافريقية الاخرى)، ادت فى النهاية الى انقسام السودان. يمثل العراق ولبنان نموذجا مختلفا من طائفية دينية ( سنة وشيعة ) وطوائف مسيحية وطوائف عرقية (عرب واكراد فى العراق)، كما هناك النموذج الاخر فى شيعة اغلبية تحت الحكم السنى فى البحرين، والاغلبية السنية فى الكويت. وتذخر دول المغرب بوجود اقليات امازيغية كبيرة منتهكة الحقوق فى وسط عربى. تمثل فى مجملها قنابل موقوتة فى انتظار المقدمات الموضوعية من التهميش واللامساواة والفرز على الهوية.

    رابعا: القبلية

    جاءت الثورة الليبية بمفاجاتان من العيار الثقيل، اولهما حدوثها وقد فقد الجميع اى احتمال لنشوبها بعد اثنان واربعون عاما، اما المفاجاة الاكثر غرابة فكانت اخراج فزاعة القبلية من مكامنها العميقة وانفاقها التاريخية. وكان المراقبين ينتظرونها فى اليمن حيث لازالت القبلية فاعلة وذات دور اجتماعى وسياسى موضوعى. ولمن يعرف ليبيا فان اكثر من 60% من مجموع السكان يعيشون فى طرابلس، بنغازى ومصراتة وفعلت وسائل المواصلات والتعليم وانتشار المصانع والمؤسسات الحديثة فى تذويب العلاقات القبلية وجعلها من اشباح الماضى. ويبدو هذا جليا فى الانتشار الكبير لكافة القبائل الليبية على طول المدن الليبية وقراها. حتى اخرجها العقيد من الجب وجعلها احد محاور التحام الجماهير بقائد الثورة وشعارات الملتحمين فى باب العزيزية.

    برغم ان اول ما طرحتة النخبة العلمانية الاقصائية هى التبلور القومى والانصهار الوطنى، الا ان القبلية كانت من ضمن الفزاعات المستعملة. القبلية فى العالم العربى سابقة على التكوينات الطائفية والدينية والدول ونشات القبلية كنوع من التنظيم الاجتماعى لمجموعة معينة من البشر الذين تواجدوا فى مكان واحد لمواجة قضاياهم الحياتية والخلافات القانونية والتعامل مع التهديدات الامنية مع القبائل الاخرى. وقد لعبت المؤسسات الحديثة - المدارس، اماكن العمل المأجور، وسائل المواصلات والاتصالات، اجهزة الامن، القضاء، الاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني كالنقابات والجمعيات ومراكز الدراسات..الخ- دورا فى اضعافها بتولى هذة المؤسسات كافة المهام التى كانت توفرها القبيلة لافرادها. ورغم اضمحلال القبيلة تحت عجلات التقدم فقد ظلت الثقافة القبلية سائدة فى السلوك فى الابوية، الاقصاء، الدوام حتى الموت و التراتبية.

    ارتبط استدعاء القبلية فى المجال السياسى فى المنطقة بالنخب العلمانية الاقصائية، فمع استيلاء العسكر على السلطة ضمن تنظيم مدنى حديث وعند تصفية الحسابات بين الزملاء السابقين (عادة الضباط الاحرار وتنويعاتها) لظهور القائد المنتظر، لجأت اما الى الانقلابات الداخلية (عبد الناصر على محمد نجيب مثالا) او استدعاء التكوين القبلى وابرز امثلتها اعتماد الرئيس الراحل صدام حسين على اهل تكريت والسنة عموما واعتماد العقيد القذافى على قبيلة القذاذفة وحلفائها والرئيس على عبد اللة صالح على قبائل حاشد وال الاحمر والانقاذ على ايديولوجيا العروبواسلامية ومالت جميعها الى الاعتماد على اهل الثقة فى ادارة شئون البلاد.

    ليبيا تطرق الباب: مدخل شخصى

    عملت فى ليبيا فى فترتين من حياتى اتاحت لى الاقتراب من الشعب الليبى فى مختلف مستوياتة فى كل فترة. مثلت ليبيا احد المنافذ الاستراتيجية التى اتيحت لمئات الالاف من السودانيين منذ منتصف السبعينات لكسب العيش الشريف فى كافة انحاء ليبيا. كواحد من المشردين السودانيين بعد انقلاب الانقاذ 1989 حملتنى المنافى الى مصراتة حيث عملت بها لمدة عام ونصف فى كلية التقنية الطبية. كانت اول ملاحظة لى، اننى عندما ركبت الطائرة الى طرابلس مصاحبا لصديقى عبد اللة عثمان رئيس قسم الاشعة بالكلية، انة جاء محملا بامتعة كثيرة مع عائلتة والتى لاتتماشى مع التقليد السودانى للمغتربين الذين ياتون محملين بالامتعة ويعودون بامتعة قليلة، خاصة ان عبد اللة كان عائدا للعمل من اجازتة. لم يطل عجبى فقد كانت ليبيا تعيش انذاك اسوا حالاتها فقد خلت حوانيتها من كافة الاشياء واللحوم والا######## والملابس توزع عن طريق الجمعيات التعاونية. الارفف خالية والسيارات قديمة ومتهالكة وملابس السكان رخيصة الثمن ومتدنية النوعية. وعرفت بعدها ان الدولة تحولت الى ما يشبة الدولة الاشتراكية حيث تسيطر الدولة على كل شىء، ورغم ان مصراتة كانت معروفة بانها مركز التجار والاعمال تاريخيا فقد كانت لاتوحى بذلك. الحياة الاجتماعية كانت تحت امرة الحزب الحاكم واجهزة امنة، فلا صحافة او اعلام او حريات من اى نوع والليبيون، الذين يتحدثون فى كل شىء عدا حياتهم او سياستهم او نظامهم، غير موجودون الا فى مسيرات التاييد والبرقيات للقائد فى كل المناسبات الخاصة والعامة. حضرت ايضا بداية الحصار والحظر الجوى المرتبط بلوكربى. كان الوضع مقيتا وكئيبا وخانقا لدرجة اننى لم اجد سوى ان اصوت ضد النظام باقدامى وافر هاربا الى منافى اخرى.

    عدت الى ليبيا مرة اخرى عام 2009 ممثلا مقيما لمنظمة الصحة العالمية (اى سفيرا لها) حتى مايو 2011 . كان كثيرا من التغيير قد حدث فى خلال العقدين فقد شهدت طرابلس تطورا ملحوظا فى كافة مناحى حياتها الاجتماعية والاقتصادية. الحوانيت ملاى بكل السلع وقامت بنايات جميلة قليلة ومجمعات وفنادق. انعكس هذا ايضا على توزيع الثروة على افراد الشعب والذى شهد تحسنا بسيطا. باختصار كان يبدو الوضع مدينة العدالة الاجتماعية المثالية، فغالبية الشعب يسكن فى مساكن من عادية الى متوسطة، وتركب سيارات الطبقة الوسطى واغلبها الكورية والصينية وبعضهم يذهبون للعلاج فى مصر او تونس او الاردن وقليلون الى اوربا. اثار هذا من الاسئلة اكثر من الاجوبة، فلا مؤشرات على مصير المليارات العديدة المتراكمة من مصادر الثروة المعروفة. رغم ذلك كان من المدهش ان الصورة العامة للمتجول فى انحاء ليبيا ان يفاجأ بغياب مظاهر الثروة الاستفزازية او الباذخة، فلا قصور ضخمة، او سيارات فارهة او طائرات خاصة مملوكة للافراد ا ويخوت وللامانة حتى العقيد يتميز بهذة البساطة. وبدت لى ليبيا، لمثلى، الذى جال فى مراكز الثروة فى الخليج، دولة الطبقة الوسطى والفقيرة بامتياز.

    فى الاعلام -على الاقل فى جرائد ماسمى بليبيا الغد، كانت هناك اصوات تعلو مطالبة بالاصلاح وضد الفساد وسمعت مفردات مثل حرية الاعلام، حقوق الانسان، الديمقراطية وان كان خافتا وعلى مستوى نخبة قليلة. اما الليبيون الذين انفتحوا على العالم وراوا الفضائيات والانترنت وشاركوا بنشاط فى التواصل الاجتماعى، فقد رايتهم ممتلئين غضبا ورفضا واستياءا ولكن لم يكن هناك مايدل ان هناك شيئا ما فى الافق.

    ليبيا العقيد القذافى

    برغم موقعها الجيوبولوتيكى الاستراتيجى الهام فى المتوسط واتصالها الافريقى، وثرائها الكبير من النفط والغاز وثروات اخرى، برزت ليبيا فجاءة من المجهول اثتاء حرب يونيو 1967 حيث اشار لها عبد الناصر واتهم بتحرك طائرات من قاعدة هويلس وكانت اضخم قاعدة امريكية في خارج امريكا (الان مطار معيتيقة الدولي) ونتيجة لذلك دخلت دائرة الاهتمام العربى – خاصة فى شرقة. وتزايد الاهتمام بها بعد انقلاب 1969 بقيادة العقيد القذافى ومجموعة الضباط الوحدويين المتأثرين بالناصرية فى احدى مراحل انحدارها. برحيل الزعيم عبد الناصر فى سبتمبر 1970 فقدت الثورة الليبية المرجعية الاساسية وبانقلاب النظام المصرى بقيادة الراحل السادات عن منهج الناصرية والسودان بقيادة الراحل نميرى بدا وكأن القادة الليبيون ممثلون شرعيين لشبح الناصرية، الامر الذى سيستمر لاربعين عاما.

    يمكن بلا جدال ان نقول ان قسما كبيرا من الشعب الليبى لم يكن باى حال من الاحوال راضيا بمصيرة او قابلا بحكم القذافى – لجانا ثورية، كتابا اخضرا، ومنهج واسلوب الحكم وفسادا ينخر كافة مسارب الحياة الليبية. لم تكن الاربعون عاما وينيف طاعة واستكانة للحكم فقد توالت التحركات من داخل وخارج النظام احيانا فى اوائل العهد واواخرة وانشقاقات داخلية ونزاعات وتمرد مدن سواء بشكل عنيف او بطريقة سلمية. وادت المواقف السياسية المتعجلة والمتهورة والغير محسوبة الى احتكاكات كبيرة مع دول عديدة بدآ من السودان، مصر، وتونس وحرب تشاد وضد العالم بشكل عام فيما عرف بقضية لوكربى واشياء اخرى.

    عشية الثورة الليبية

    اذا فاجئت الثورة التونسية - الجار الغربى لليبيا والتى يقصدونها فى عطلاتهم، علاجهم وتسوقهم ولهم فيها مصاهرات وعلاقات تجارية وثقافية ممتدة فى الزمن - كل العالم واخذتة على حين غرة فقد ذهلت ليبيا من الحدث ولزمت صمتا اشبة بصمت القبور. بعد مضى حوالى الاسبوعين وفى محاولة لفك الحصار عن بن على اعلن العقيد القذافى فتح ابواب ليبيا للتونسين لاغراض العمل للمتطلعين منهم لحياة افضل، لكن الثوار التونسيين كان عينهم على التغيير الكامل والشامل لحاضرهم ومستقبلهم. فاجأ العقيد شعبة ذات ليلة بخطاب تعليقا على الثورة التونسية فهزآها وحقرها ومدح بن على الهارب الى جدة. كان هذا الخطاب شعورا من القيادة الليبية باقتراب لحظة مماثلة والعمل الاستباقى لمواجهتها.

    لم تمر سوى ايام الا وقد انفجرت الثورة المصرية - مصر هى المقصد الاول للليبين سواء دراستهم، عطلاتهم واماكن زواجهم وكانت حتى للنظام المرجعية الرئيسية ومصدر سلامها الجمهورى ( نشيد اللة اكبر) والنظام المصرى مدخل ليبيا للسياسة الدولية واكثر من ذلك فالمصريون هم عصب الاقتصاد الليبى ( يقدر عددهم انذاك بين المليون ونصف الى المليونين). منذ الايام الاولى التقط العقيد – الذى يعانى شبابة من قضايا شبيهة للمشاكل التى طرحت فى الايام الاولى للمظاهرات المصرية، فنسب البطالة عالية (تتراوح التقديرات من 20-36%) ويعانون من مشاكل سكن مزمنة وقاسية اثرت على مجمل حياتهم الاجتماعية. التقط العقيد القذافى شعار السكن وحاول ان يستبق بطرح حل لمشكلة الاسكان على الطريقة الجماهيرية، فاعلن فى خطاب مفاجىء ان يقوم الشباب بالهجوم على المنازل الخالية ويحتلها ( ما يسمى بالليبية النقز) كما فعل فى السبعينات.

    كانت ليبيا التى خاطبها العقيد مختلفة عما كان يعرفة ، فقد تمت اعادة توزيع الثروة فتراكمت عند الراسمالية البرقراطية التى نمت خلال العقود الاربع وتكونت من كبار السياسين وقادة اجهزة الامن ورجال الدولة المسئولين على اختيار وتوزيع منفذى البرامج الانشائية العملاقة وتوزيع المنازل والمتاجر...الخ. شكلت هذة الشريحة ثقبا اسودا كبيرا تسربت منة المليارات. هذة الطبقة السياسية والاقتصادية هى التى تمتلك المنازل الخالية وتستثمر فى العقار لتوظف فوائض فسادها الكبير. فقطعت الطريق على العقيد واوقفت الشباب الذين حاولوا النقز عن طريق الاجهزة الامنية التى تدين لهم بالولاء. تراجعت السلطة وطرحت بديلا بانشاء مؤسسة اسكانية بقيمة 24 مليار لاسكان الشباب ودعتهم لتسجيل اسمائهم فى الكشوفات. هذا السيناريو ايضا واجة الفشل فقد سئم الشباب تسجيل اسمائهم فى قوائم العمل، السيارات، الاسكان وغيرها والتى لم تتحقق ابدا.

    انتصار المصريين فى تنحية مبارك كان ايذانا ببداية النهاية لنظام العقيد، فالشارع الليبيى كان قد وصل لازمة ثورية وكان شبابهم على اهبة الاستعداد لتقليد نظرائهم التوانسة والمصاروة. بدات الدعوات لاسقاط النظام عن طريق تظاهرات سلمية وكافة الحزم الثورية المجربة تنتشر فى الفيس بوك الليبيى والمواقع وحددت 17 نوفمبر2011 ليكون يوم الغضب الليبي ( فى ذكرى تظاهرات 17 فبراير 2006 التى قتل فيها تسعة اشخاص على الاقل وجرح 55 بعد ان حاول متظاهرون اقتحام القنصلية الايطالية في بنغازي ضمن الاحتجاجات على الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد)

    الثورة الليبية على الابواب

    صحى الليبيون صباح الاربعاء 17 فبراير 2011 وتناولوا القهوة والشاى الاخضر وبعضهم تناولوا افطارهم كالعادة فى كل صباح، لكن كان ذلك الصباح فاصلا بين عهد واخر والليبيون لن يظلوا بعدها كما كانوا وليبيا على ابواب التغيير. تجولوا كعادتهم بين قنوات الفضائيات فراءوا ما اذهلهم، فشوارع طبرق ، البيضا، درنة، المرج وبنغازى كلها تنتظمها مظاهرات اسقاط النظام، وراءوا شبابا يحطمون العجل المقدس للنظام – الكتاب الاخضر- الذى وضع فى التماثيل واللافتات والنصب التذكارية وكل مكان يمكن ان تصل الية العين فى كافة ارجاء ليبيا. هوت النصب التذكارية وارتفع بدلا من العلم الاخضر، علم غاب لمدة عقود حتى ان معظم الليبين لم يروة طوال حياتهم ما سمى علم الاستقلال. كان ذلك للمراقب من الخارج صادما ومفاجئا وكذلك لقطاعات كبيرة من الليبين والنظام. لم تقتصر التحركات على الشرق الليبى فقط ولكن خرجت مظاهرات متفرقة فى مدن عدة بما فيها طرابلس.

    استحق الشباب الذين خرجوا الى شوارع المدن الليبية- طبرق و درنة و البيضا و بنغازي و اجدابيا و الزنتان و مصراته و نالوت و زوارة و الزاوية وغيرها - انجازهم بكل جدارة واستحقاق ودفعوا من اجلة النفس والروح، ثوار يطالبون بالحرية، الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحكم القانون في مواجهة نظام اراد لها ان تبدا من الصحراء لتطهير ليبيا شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة وفرد فرد من الدنس والارجاس.

    سنوات عديدة من الاثنان والاربعين عاما من الثورة الليبية، عاشها الشعب الليبى وهو يمتلىء غضبا ويراكم ملفات التجاوزات ويراقب مقدراتة المادية تهدر فى الجيش الجمهورى الايرلندى، غزوة يوليو السودانية 1976 وحروب تشاد....الخ. امين القومية العربية عمل فى زمن اخر مختلف للوصول الى تراث عبد الناصر وكان هذا زمنا قد اختفى . توفرت فى الحالة الليبية عناصر متعددة فى وصول الحدث الثورى الى هذة النتيجة وجاءت الثورات العربية ووجدت الشعب الليبى فى ازمة ثورية حقيقية مع فقدان القيادة وفى انتظار اللحظة الثورية .

    لم تتاخر هذة اللحظة فقد انتقلت من حادث عرضى جاء من قضية ما يطلق علية مذبحة سجن ابو سليم كما فى الثورات العربية الى التظاهر ثم الثورة. كالشبح من الماضى، جاءت مذبحة ارتكبت بدم بارد ضد سجناء فى سجن ابو سليم ( نورد هنا رواية الرابطة الليبية لحقوق الانسان ان المجزرة تمت بين جدرانه يومي 29/28 يونيو 1996 والتى فقد خلالها مئات سجناء الراي والضمير قدّر عددهم بما لا يقل عن 1200 شهيدا. تبع ذلك اعلام خجول وسري فى سنة 2007 لبعض الاسر، كل على حده . اخيرا فى سنة 2009 توسع الاتصال حيث عرض عليهم اغلاق ملف الضحايا نهائيا وذلك مقابل دفع تعويض مادى). جاء هذا الحادث انذاك فى وقت تصاعد فية العنف من جماعات تيار الدولة الدينية فى كافة البلاد العربية من الجزائر غربا مرورا بتونس، مصر والجزيرة العربية، خاصة بعد حرب العراق الاولى والحصار الخانق علية والحشد الذى مارسة تيار الدولة الدينية. جاء هذا متزامنا مع انشاء المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي في الخرطوم كتنظيم عالمى يضم الحركة الاسلامية وتولى امانته الدكتور حسن الترابى عام 1991 من تحالف الاسلاميين، القوميين وبعض الماركسيين والطموح الامبراطورى لمد النظام الاسلامى السنى الى كافة الدول الاسلامية. هذا الجو الذى حدثت فية هذة الاحداث مرت بلا توترات مثيرة للنظام فقد كان الكل انذاك يريدونهم سجناء او حتى قتلى والقذافى لم يكن استثناءا.

    كجزء من عملية التعافى الوطنى الذى تزعمها سيف الاسلام القذافى ضمن ما عرف ببرنامج ليبيا الغد، تمت تسوية مسالة سجناء سجن ابو سليم مع اهالى هؤلاء الضحايا اولا اعترافا بالحدث نفسة بعد انكار دائم والثانية تمت تسويات مالية لبعضهم ولكن ذهب بعض الاهالى الى المحاكم كجزء من العملية السياسية. لم يكن المحامي الليبي فتحي تربل يتوقع بانه سيكون السبب في تفجير الثورة الشعبية في ليبيا، عندما اعتقل يوم 15 فبراير 2011 عند حوالي الساعة الثالثة والنصف ظهرا. لكنه كان على يقين بان اهالي الضحايا لن يتخلوا عنه، وكان يتوقع ان يتنادوا لتنظيم مسيرات واعتصامات، للمطالبة بالافراج عنه. كما لم يتوقع ان جماهير مدينة بنغازي ستلتحق بعائلات ضحايا سجن ابو سليم، وستتحول المظاهرات السلمية الى مواجهات واسعة تطالب باسقاط النظام. انطلقت المظاهرة بعد اعتقال المحامي فتحي تربل، وكان ناشطون ليبيون قد دعوا على شبكة الانترنت الدعوة لتظاهرات يوم 17 فبراير 2011. حدث تجاوب وفي بداية المظاهرات ردد المتظاهرون شعارات للمطالبة بمزيد من الحريات والحقوق، غير ان سقف مطالبهم ارتفع لاحقا الى المطالبة باسقاط النظام، وذلك في اعقاب القسوة التي قابلت بها الشرطة المتظاهرين .

    قتل شخصان واصيب اربعة عشر شخصا في الاشتباكات التي شهدتها مدينة بنغازي يوم الثلاثاء، واستخدمت قوات الامن القنابل المسيلة للدموع، ومدافع المياه والرصاص الحي لتفريق المتظاهرين. استمر قمع الاحتجاجات ضد المتظاهرين في مدن ليبية اخرى شملت طبرق، البيضا، درنة، المرج فى الشرق الليبى ومدن اخرى فى في جميع انحاء البلاد الغرب الليبى وسقوط مزيد من القتلى،.. باتساع رقعة المظاهرات الى عدة مدن ووصولها الى طرابلس سقطت مدينة بنغازي والشرق الليبى تحت سيطرة المحتجين يوم 19 فبراير 2011 . بدا مسؤولون ليبيون يستقيلون احتجاجا على مواجهة الاحتجاجات السلمية بالقمع والعنف من ممثل ليبيا فى الامم المتحدة عبد الرحمن شلقم ، وزير العدل مصطفى عبد الجليل، والمغفور لة وزير الداخلية اللواء الركن عبد الفتاح يونس. 

    عندما واجهت حكومة طرابلس الجماهير فى بنغازى وقتلت شخصين كانت تمارس عملا عاديا وروتينيا بالنسبة لها، خبر عادى فى الانباء ربما يجىء وربما لا فى شريط اخبارى. فهؤلاء هم الليبيون الذين عرفتهم وخبرتهم وتضمهم اراشيف الامن الداخلى والخارجى وما بينهما. كل سكناتهم درستها، فحصتها، محصتها وحللتها وهناك رجال مهمين جالسين فى مكاتب فاخرة وكبيرة ومخفية عليهم كتابة تقرير صغير عنها يضم الى التقارير الضخمة التى تحويها قاعدة البيانات المتخمة فى اقراص الكمبيوتر وداخل خزانات كبيرة. فهم هنا ليسوا سوى ارقام لايملكون اى وجوة او اسماء.

    يوم 27/2/2011 قرر مجلس الامن فرض عقوبات على النظام الليبي تشمل حظرا على سفر العقيد معمر القذافي واعضاء عائلته والمقربين منه بالاضافة الى تجميد ارصدتهم. واحالة القذافي واعوانه الى الجنائية الدولية. وتم فى يوم 1/3/2011 تشكيل المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي يتولى ادارة شؤون المناطق "المحررة" بما في ذلك الاتصال بالدول الاجنبية والادارة العسكرية للمعارك ووزير العدل السابق مصطفى عبد الجليل يتراس “المجلس الوطني الانتقالي”. وفى يوم 17/3/2011 اصدر مجلس الامن الدولي قرار رقم 1973 بفرض حظر جوي علي ليبيا ، واباحة استخدام القوة لحماية المدنيين من هجمات القوات التابعة للقذافي ، وامتنعت خمسة دول عن التصويت علي القرار هي روسيا والصين و المانيا والهند والبرازيل. وبدات الثورة الليبية تاخذ منحى اخر.

    الحالة الليبية

    لمحاولة الوصول لفهم عميق للتحولات التى جعلت منها حالة تثير كثيرا من التشويش والارتباك وسط الجماهير العربية، ففى جانب فهذة الجماهير تساند الثورة الليبية كجزء من الحركة الشعبية الطامحة لتغيير واسقاط الانظمة وفى نفس الوقت ترى اعداء العالم العربى، الذين تربت على التوجس والشك فى نواياهم ولديها تجربة تاريخية طويلة من الاستعمار والمعايير المزدوجة، تحشد اساطيلها وقواتها الرهيبة فى تحقيق هذة الثورة. هذا الموقف صعب على البلع والاقناع ويطرح سؤالا مربكا ومبهما: كيف يستقيم ان نؤيد الثورة الليبية وفى نفس الوقت نشجع العدوان الخارجى الغير منزة عن الغرض لازالة طاغية ليبيا.

    تحولات الثورة الليبية

    كان المشهد الماثل امامنا، الذين تعودنا علية طوال اكثر من شهرين من متابعة الثورة التونسية والمصرية واليمنية التى كانت قد بدات لتوها، فى كافة القنوات الفضائية والانترنت والصحف وقعدات الونسة والتليفونات المحلية والدولية، ان ليبيا فى طريقها لثورة كلاسيكية على الطراز العربى من ثورة سلمية يقف النظام عاجزا فى النهاية امامها وتحدث ترتببات ومن ثم يتم تغيير النظام. هذا كان توقع اغلب الناس وحتى الليبين. كان من راى، وانا قريب من الحدث فى طرابلس ممثلا لمنظمة الصحة العالمية، ان هناك سيناريوهان محتملان لانجاز ثورة. اولهما الطريقة التونسية او المصرية او السودانية فى القرن الماضى وهى خروج الجماهير الى الشارع حاملة شعار اسقاط النظام وتغييرة بالكامل، تؤدى لمواجهات مع الشرطة، ثم مع الامن وبعدها تتدخل القوات المسلحة لمنع تطورها الى درجة عنيفة او حرب اهلية وفوضى. يسمح هذا السيناريو – المتكرر فى التاريخ القديم والحديث- بتواجد النظام القديم بعد التخلص من رموزة البارزين من المؤسسات. يتم التغيير ببطء وبتنازلات تدريجية مرتبطة بمدى قوة وتوسع الشارع السياسى وتوحدة وضغطة على المؤسسات القديمة خاصة القوات المسلحة والشرطة. فى كل الثورات تم حل اجهزة الامن التى مثلت فى كافة الانظمة خروجا شديد على النص ومثلت حتى ضغطا على النظام القديم وافرادة خاصة من تمتع بالاستقامة منهم .

    عندما تعامل الغرب مع الثورات العربية كان هناك وضوح استراتيجى وهى محاولة حصر عملية التغيير على راس النظام وبعض رموزة والحفاظ على البنية الاساسية للنظام السياسى لفترة انتقالية نحو الديمقراطية ريثما تتم دراسة الوضع بشكل مفصل وملء الفراغات المعلوماتية ووضع توجهات عملية. تم كل هذا باتفاق بين هذة القوى والطبقة السياسية الحاكمة وانتهى بهروب الرئيس بن على ومجىء السيد الغنوشى رئيس الوزراء لدولة الثورة، وحدث شىء مشابة فى مسار الثورة المصرية وما نجح فى تونس تمت تجربتة فى مصر. هذا السيناريو السلمى فى ليبيا كان سيؤدى فى حال نجاحة الى ازالة النظام باكملة، فخلافا لتونس ومصر التى تتمتع بقدر معقول من النظام المؤسسى العريق الموروث من قرون طويلة وفترات استعمارية تم الحفاظ عليها وكذلك عدم وجود تنظيم ايديولوجى حاكم، بنيت الاجهزة الامنية فى هذين البلدين من جهاز شبة عسكرى على التراث البيرقراطى وليس لدية عقيدة ايديولوجية تنتظم افرادة وولائهم للنظام قائم على السلطات التى منحت لهم وعلى الميزات التى اغدقها النظام عليهم وفى ظل فساد الدولة فقد مثلت السلطة المطلقة التى تمتعوا بها مدخلا لتحسين حياتهم اكثر مما تسمح بة امكانيات او الدرجات الوظيفية التى يشغلونها. وبالعكس فان الانظمة الليبية والسورية والسودانية جاءت تعبيرا عن ايديولجية، البعث فى سوريا، القومية العربية فى ليبيا وتيار الدولة الدينية فى السودان. اجهزة الامن فى هذة الدول هى فى حقيقة الامر نشأت على افكار ونظريات الحزب الحاكم ولذا فهى تشكل اساس الحماية.

    النموذج الاخر كانت التجربة الرومانية حيث يقوم الحاكم باستعمال العنف المفرط وعدد قتلى مبالغ فية ( 64,000 فى الحالة الرومانية). النظام الجماهيرى الليبي كان اقرب للنظم الاشتراكية التى حطمت جهاز الدولة القديم و بدلت مؤسساتة وبنى النظام على الايدلوجيا وبالتالى فاجهزة الامن هى اقرب لمليشيا حزبية ولذا فهو اكثر التزاما وتنظيما ووحدة. عندما يواجة الامن المآدلج الجماهير فهى بالنسية له ليسوا معارضين، بل اعداء الثورة، القائد والحزب ويجعلهم هذا اقل حساسية تجاة العنف لان افعالهم مبررة تماما ضمن منظومتهم القيمية. ادى هذا الى ان القوات المسلحة التى رفضت اطلاق النار على المظاهرات فى تونس ومصر هى التى ستقوم باطلاق النار فى سوريا وليبيا. وكنت ارى ان السيناريو الليبى سيكون اقرب لهذا من السيناريو التونسى والمصرى.

    هذا كان يؤذن، فى حالة ليبيا، ان ترث الثورة دولة ضعيفة فى العمل المؤسسى وبالتالى بدا المستقبل غامضا. الاخطر ان هذة الثورة المنتصرة فى بلد ثرى وقادر والمهتدية بالثورة التونسية والمصرية، عند التحامها مع هاتين الدولتين سوف تمثل مجموعة سكانية كبرى فى المنطقة وتستعيد تاثيرها السياسى. هذة الثورات الثلاث واذا اضيفت اليها ثورات اليمن وسوريا والمنتظر فى دول اخر بالتاثير تمثل خطرا استراتيجيا لعلاقة الغرب معها وخطرا ماثلا لاسرائيل فى طموحاتها الاقليمية والافريقية، اذا لم تكن فى وجودها ذاتة. مع التحركات والانشقاقات والعنف الذى استعمل- والامر عادى حتى ذلك التاريخ- حدث تطوران مهمان جعلا من الحالة الليبية فريدة من نوعها:

    اولا: برغم ان الثورة بدات سلمية وطرحت فى ادبياتها انها لن تستجيب لاى عنف فقد اتخذ الموقف من القوات المسلحة وانحيازها منحى مختلفا، فعند تدخل القوات المسلحة التونسى والمصرى سارعت الحماهير بتحييدة ودعتة لحمايتها وعدم الانجرار الى المشاركة السياسية. كان هذا اصلا فى الثورة، فالانظمة هى انقلابات عسكرية متحولة الى انظمة شمولية، فهى جاءت لارجاع القوات المسلحة الحاكم الى ثكناتة. الذى حدث فى الشرق الليبيى جاء مختلفا تماما فقد ردت الجماهير على العنف ليس بسلمية سلمية ولكن طلبوا من العسكر المنشق الانتظام معهم ومن ثم اقتحموا القواعد العسكرية ومراكز الكتائب. وراينا لاول مرة جماهير شعبية تدخل قواعد الصواريخ وتعتلى الدبابات وتبدأ فى التسلح. فاقم من هذا التوجة انشقاق قادة عسكريين مرموقين وتصدى قادة مدنيين من اركان النظام الليبى الى الثوار وتحويل الثورة الوليدة التى لم تحقق سوى جزءا يسيرا من اجندتها الى دولة. ادت الاحداث والتى حلت على الليبين كالهول العظيم والصدمة الغاشمة الى توجة الناس الى هوياتهم الجهوية والعشائرية وهذا شىء طبيعى عند انغلاق وانسداد الافق القومى والوطنى، والتى وظفها النظام واستغلها بذكاء بالغ.

    ثانيا: حدثت انشقاقات هامة فى النظام من اوائل الايام من رموز كبرى مما اعطى الثورة دفعة كبيرة وبعدا وطنيا حاسما ( الملاحظ ان اغلب المنشقين عن النظام كانوا من المنطقة الشرقية – وكان هناك ممثلين من المنطقة الغربية والجنوبية ولكن تم عدم الكشف عنهم لدواع امنية- اما الليبين فى الخارج فهم من كافة ارجاء ليبيا). قاد هذا لتطور نوعى اخر لم يلاحظ فى كافة الثورات الا وهو دخول تعبير الاراضى المحررة. وسرعان ماكونت حكومة انتقالية لادارة المناطق المحررة ويطمح للاعتراف بة كممثل شرعى ووحيد للشعب الليبي. القى هذا بكاهلة على الثورة، كما حولت تعامل النظام معها الى حرب شاملة. وواجة الثوار الذين خرجوا فى مدن الغرب انفسهم فى مواجهة الة قتل وتدمير جسدى ومعنوى. تحولت ليبيا لساحة حرب وكان هذا ناتج الحرمان الطويل لليبين من ممارسة العمل الحزبى او الحياة النيابية وممارسة ولو شبة ديمقراطية وخنق الاعلام وغياب المؤسسات والغياب الكامل والمتواصل لاى حوار بين اطراف المجتمع او بين الشعب وقيادتة.

    ماحدث عقب ذلك تاريخ معروف من احتجاجات تحولت إلى ثورة مسلحة تسعى للإطاحة بمعمر القذافي الذي قرر القتال حتى اللحظة الأخيرة. وبعد أن أتم المعارضون سيطرتهم على الشرق الليبي أعلنوا فيه قيام الجمهورية الليبية بقيادة المجلس الوطني الانتقالي، وفي 20 اغسطس 2011 انتفضت العاصمة الليبية طرابلس وقد افلح شباب العاصمة بإسقاط العاصمة و دخل الثوار إلى العاصمة طرابلس بالاحتفال وقام الثوار بالسيطرة على كافة معاقل القذافي وقتل الأخير في سرت بحلول يوم 20 أكتوبر 2011.

    لم تكن الثورة الليبية مجرد ثورة شعب فقد تشعبت وشهدت تدخلا من قوى عالمية واقليمية عديدة سوف تتضح معالمها فى مستقبل الايام. لقد انتصرت ارادة الشعب الليبى وحقق هدفة بازالة نظام فاشى، قاس، مستبد وفاسد لكن ليبيا تنتقل من جهادها الاصغر من درب مؤلم اثر على كل عائلة وفرد ليبى الى الجهاد الاكبر من درب المعافاة فى ظل ظروف عالية التعقيد و تدخلات لاعبين عديدين، الى بناء ليبيا جديدة تليق بشعب ذكى، طموح وقدم التضحيات الجسام.

    نظام الانقاذ والثورات العربية

    هناك نكتة كانت متداولة فى الاوساط الليبية تبرر عدم الاستقرار الذى واكب النظام الليبى طوال سنوات حكمة خاصة التغييرات الدرامية فى البنيات والهياكل الادارية والسياسية والقوانين المالية وما اليها. تقول النكتة ان الزعيم الليبى يضع الشعب (الجرذان) فى داخل جوال وعندما يستقر كل جرذ فى ركنة يهز الجوال. ربما هذة النكتة تعكس بشكل كبير حال الشعب السودانى، فمنذ قيامها والانقاذ تعتمد اسلوب المفاجئات والتغييرات المتعددة والمتنوعة (استوردت الانقاذ من نظرية العقيد نظام اللجان الشعبية فى الاحياء والتى تسيطر على كل النشاط السياسى والاجتماعى وكذلك نظام المؤتمرات وبل اسمت حزبها المؤتمر الوطنى ومعارضتها المؤتمر الشعبى). ان حياة هذا النظام الآيل للزوال هى حلقات من التوترات والمحادثات والاتفاقيات والقلق الدائم. من متابعتى لاحوال السودان خلال العشرين عاما عاش النظام ازمة وجود دائمة
    انعكست على التصريحات العنترية التى هى سمتة الواضحة.

    كان النظام قد رتب امورة على النظام العربى بل واصبح جزءا مسليا فى الركود العربى من ازماتة المتتالية والمركبة واصبح مغتربية ومهاجرية ولاجئية احد حقائق الحياة العالمية، التى دخلها من بابة الاوسع المحكمة الجنائية الدولية. وكغيرة من الانظمة فقد اعتاش على الاسلوب المعتاد فى ادارة سياستة الداخلية انة ضحية المؤامرة العالمية و المعايير المزدوجة. كان السودانيون مستغرقين فى متابعة الاستفتاء وكافة القنوات قد اعدت برامجها الحافلة وكان يبدو ان السودان سيحتل الصفحات الاولى ونشرات الاخبار للشهور القادمة حتى انفصال الجنوب. هذا السيناريو انقطع بحدة وقد دخلت الثورة التونسية فى مراحلها الاخيرة. ولم يكن ما يحدث فى تونس مهما لاجهزة النظام ولكن ما حدث فى مصر كان المفاجئة القاتلة.

    لزم النظام صمت القبور مما كان يحدث فى الجار الشمالى مصر وقد عبر عنها ببراعة الكاتب عثمان ميرغني" فعندما كانت الثورة المصرية على اشدها في يناير الماضي، فرض النظام السوداني تعتيما كاملا على اخبارها وكانها تحدث في كوكب اخر وليس في بلد تجمعه حدود مشتركة وتاريخ طويل مع السودان. كان الناس يتابعون ما يجري عبر الفضائيات ووسائل الاعلام العربية والاجنبية، لان الاعلام السوداني فرض عليه ستار لحجب الرؤية عما يدور من احداث الثورة التي كان العالم كله يتابع مجرياتها. ( الشرق الاوسط: الربيع العربي والصيف السوداني 8 ايار (مايو) 2011 ). عكست تصريحات قادة الانقاذ القليلة، كما اشار الكاتب عثمان ميرغني قلقا دفينا من احتمال انتقال العدوى، حتى وان حاول اركان النظام المكابرة ونفي تاثرهم بما يدور حولهم. عندما خرج شباب سودانيين في مظاهرات احتجاج تطالب بالتغيير، مستلهمين ما يدور في جارهم الشمالي، انقض عليهم النظام بعنف شديد مستخدما الته الامنية التي قواها وعززها على مدى اكثر من 21 عاما في السلطة، لحماية نفسه ضد اي ثورات شعبية او محاولات انقلابية.

    بدا التفاعل مع الحدث فى شكل تصريحات نقلا عن مسئولين مختلفين من اعلان الرئيس عمر البشير عدم نيته الترشح لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء فترته الحالية ، وربيع عبدالعاطي " ان هذه الخطوة تاتي ضمن مجموعة من الاصلاحات التي ترمي الى وضع البلاد على المسار الديمقراطي"، واخرى المهندس عبدالمنعم السني امين امانة الشباب بحزب "المؤتمر الوطني" الحاكم في السودان، ان الرئيس عمر البشير لن يترشح لدورة رئاسية جديدة، وانه سيرشح شخصا اخر بنهاية دورته الحالية. ، مضيفا ان خطتهم لا تستهدف شخص الرئيس، ولكنها تستهدف ان كل من يتجاوز سن الستين من المفترض ان يكون في موقع التشريع والتخطيط. واضاف اخر نافيا ان تكون هذه المطالب والرؤى ذات علاقة بما يحدث في العالم العربي من تطورات. وفي السياق نفسه، كشف د. محمد عبدالله شيخ ادريس امين الاتصال التنظيمي بالمؤتمر الوطني ولاية الخرطوم، واوضح انه يجب ان تكون للحزب موارده وامكانياته الخاصة به، فيما تخصص موارد الدولة لخدمة المواطن؟؟ وقال "ان المبادرة شددت على الا يبقى رئيس الحزب لاكثر من دورتين بالولاية او على مستوى المركز، والا يشغل العضو وظيفة تنظيمية لاكثر من دورتين، بجانب الا يشغل شخص تجاوز الستين عاما منصبا بالحزب او الدولة".

    جاء التصريح الثانى- كالعادة- من الدكتور نافع علي نافع، مستشار الرئيس واحد رموز تيار الصقور في النظام والذى وصفة د. عبدالوهاب الافندي "الرجل الاول في الحزب شخصا حظه من القدرات السياسية يقترب من الصفر، بل لا يتمتع بذاكرة تجعله يجتر الاساطير التي ابتدعها بالامس، عندما وصف قوى المعارضة بـاحزاب السفارات والتبعية، وقال انهم واهمون اذا ظنوا ان الثورات في الدول العربية ستغير من ضعفهم وتجيء بهم الى السلطة. بل ان نافع، اضاف ما يمكن اعتبارة نكتة اذ اعتبر ان السودان في ظل نظامه الحالي هو الذي الهم شعوب المنطقة التي تحركت لانها عرفت العزة التي يعيشها اهل السودان برفضهم الخنوع. (د. عبدالوهاب الافندي مقالة عن الانفصال والعنف وازمة السياسة السودانية.. http://www.sudaneseonline.com)

    جاء التصريحان الاخران من د. مصطفى عثمان اسماعيل مستشار رئيس الجمهورية ) الذى اثبت نجاعة سعاة العلاقات العامة الذين يؤدون صلاة المغرب مع الرئيس، ويغشون نائبة الاول لشاى المساء ثم يتناولون طعام العشاء مع الامين العام حسب راى المحبوب عبد السلام، الحركة الاسلامية دائرة الضوء، خيوط الظلام تاملات في العشرية الاولي لعهد الانقاذ، دار مدارك، 2009 صفحة 412 ). احدهما معبرا عن حالة الذهول من هروب بن على ( مستحيل ان يهرب البشير ويترك شعبه. ثورة تونس نتيحة للفساد والقمع والارهاب والمحسوبية وهى اسباب لا تتوافر فى السودان. نتحدى ان يثبت اى بنك فى العالم بان لديه حسابا للبشير او احد اقربائه- نقلا عن جريدة الشرق http://www.sudaneseonline.com ). التصريح الثانى، وهو من اغرب التحليلات السياسية، جاء فى لقاء مطول فى جريدة الاهرام اليومية السودانية يوم 27 مايو 2011 ويعكس الارتباك الكامل الذى وجدت السلطة نفسها فية " الشعب السوداني لديه تجارب في الديمقراطية والليبرالية، وجرت انتخابات عديدة، ولديه تجربة في الثورات الشعبية في ثورتي اكتوبر وابريل، ولديه تجارب في الانقلابات، ولدينا حركة اسلامية حديثة، هذه التجارب جعلت الحكم الحالي ياخذ بعملية الاصلاح في عام 98 فقد اقر دستورا للتعددية السياسية، ورد الامر للشعب مرة اخرى، وعادت كل القيادات من الخارج، واسست احزابا وتمارس نشاطها السياسي داخل البلاد، ووقعنا اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية..، اذن نحن بدانا الاصلاح منذ وقت مبكر، في مصر وتونس كانت القيادات بعيدة كل البعد عن القاعدة العريضة، اما في السودان فنجد ان الرئيس البشير يعيش وسط الناس يشاركهم افراحهم واحزانهم، والحزب غير منقطع عن قواعده، ولذلك لا يمكن ان نقارن الاوضاع في السودان مع مصر وتونس. حتى هنا يمكن اعتبار حديثة تحليلا سياسيا مقبولا، لكن المدهش ان صاحب تصريح ان السودانين " كانوا شحاذين قبل الانقاذ" اردف قائلا: هذه الثورات تخرج عادة من المساجد يوم الجمعة، لكي تؤكد هويتها، فلم تخرج السبت او الاحد، والمساجد في السودان لا تدخلها المعارضة، بل يدخلها الحزب الحاكم، اما معظم قيادات المعارضة فهي ابعد ما تكون عن المساجد. (حوار صباح موسى بالقاهرة، الاهرام اليوم، 06-02-2011 07:35 AM، http://www.sudaneseonline.com )

    سوف نتطرق هنا لبعض الاراء التى وردت فى التعليقات على كتابات الكاتب عثمان ميرغني "عبدالقادر باكاش بورتسودان، «فرنسا ميتروبولتان ) اصبت عين الحقيقة يا استاذ عثمان السودان قابل للانفجار في اية لحظة فالقوي الشعبية واصحاب الضمائر الحية موجودون وجاهزون لتغيير النظام وشبابنا وقود الثورة جاهزون كذلك فقط السواد الاعظم من الشعب والقوي الحزبية من غير الانقاذيين يرون ان التغيير قبل يوليو مدعاة لمزيد من المشكلات لذا ستتاخر الثورة الي ما بعد اعلان قيام دولة الجنوب ثم هناك سبب اخر في تأخر ثورة شباب السودان هو في تقديري هشاشة القوي السياسية المعارضة للنظام الحالي فاغلب هذه الاحزاب لها تجارب حكم فاشلة ويخشي الشعب لو قلب الحكم وسلمها السلطة ان تُضيّع الزمن في صراعات عديمة الجدوي لكن في كل الاحوال تغيير النظام الحالي قادم لا محالة لان استمراريته تعني اتساع مطالب الاقاليم بالانفصال عن حكم الخرطوم ولن يتبقي حينها خيار اخر امام الشعب السوداني الا ان يتحول الي شعوب متحاربة ومتنافرة وكسيحة الارادة ومشلولة القدرات اذن لا مجال الا ان ينتفض الشعب السوداني قبل وقوع فاس الانفصال علي راس الوطن ( الشرق الاوسط: الربيع العربي والصيف السوداني 8 ايار (مايو) 2011 ).

    لخص السيد زروق بسيوني الذى علق على الكاتب عثمان ميرغني " الاسباب الموضوعية لثورة شعبية او سمها كما نحب نحن السودانيون (االانتفاضة) قد اكتملت (ما يسمى الازمة الثورية –تفسير الكاتب) ..واهم هذه الاسباب على الاطلاق هي الضائقة المعيشية ، دعك من الاسباب السياسية الاخرى والاجتماعية فقط امام هذه االانتفاضة توافر الاسباب الذاتية للمواطن السوداني (مايسمى اللحظة الثورية–تفسير الكاتب) والذي هو الان في مرحلة (الحيرة والتردد) حيرته في النهج الكسيح الذي يسير عليه قادته التقليديين في طريق الاطاحة بهذا النظام فمنهم من يوادد ويماري لاجل احداث اصلاحات جذرية داخل النظام لتجنب الثورة الشعبية (ويا دار ما دخلك شر) ومنهم من هو حائر حيرة الخائف من مالات تمسك النظام باحاديته الاقصائية وما يترتب على ذلك من قوة رد فعل مدمرة من قبل الجماهير الجائعة والمتعطشة للتغيير. وما بين الاسباب الموضوعية والاسباب الذاتية يبقى الامل في احداث تحول ديمقراطي حقيقي سلمي يجنب البلاد والعباد شر مآلات الثورة الليبية والسورية.. فهل يستجيب قدر الانقاذ لصوت الشعب الساعي للحرية ام سيتخندق النظام محميا بقوته الامنية وكتائبه الاستراتيجية التي لن تحميه من غضبة الجماهير اذا حانت لحظة التغيير وهي قريبة باذن الله تعالى. ( الشرق الاوسط: الربيع العربي والصيف السوداني 8 ايار (مايو) 2011 ).

    الفصل الاخير: رؤية سودان المستقبل

    فشل الرؤية السودانية

    عالجنا فشل الرؤى المتعددة فى السودان فى كامل الكتاب بدأ من الرؤية السودانية الاولى: المهدية والتى جاء فشلها القاصم – اذا حيدنا العامل الخارجى الهام - فى المركزية المتشددة فى العقيدة ومنع كل المذهبيات والطوائف والتفسيرات سوى مفهومها عند مؤسسها محمد احمد المهدى والمركزية المتشددة فى الدولة عند بانيها الخليفة عبد اللة التعايشى، المنازعات بينة وبين ابناء البحر ما صاحبها من مصادرة اراضى والدخول فى حروب متتالية معظمها غير ضرورية وبعضها خاطئة استراتيجيا. ثورة 1924 عانت رغم توفر معظم الشروط الموضوعية والذاتية للثورة من اخطاء استراتيجية قاصمة فى علم الثورة: عدم القدرة عن الفصل بين التناقضات الاساسية (الاستعمار) والتناقضات الثانوية (ارتباطات المصالح مع المستعمر والمواقف الثقافية) و احدى الخصائص الملازمة للثورات السودانية وهى قصر نفسها الشديد، فالثورة التى بنيت فى عدة اعوام واستطاعت الحشد، والتوعية والتمدد فى اطراف الوطن، خاصة المدنية، اثناء اعوام 1921-1924 سرعان ما تراجعت اثر تلقيها الضربات الموجعة.

    رؤية الرواد التى امتدت زمانا طويلا (1956-1969) وتناولنا فشلها فى مكنونات الشعار الغامض لاتعمير بل تحرير وما واجهتة من ازمات: اولا: أزمة الهوية: الهوية السودانية وتجذر المفهوم العروبواسلاموى فيها وتداخلات السياسى والدينى؛ ثانيا: أزمة الشرعية: السلوكيات الغير ديمقراطية من اقصاء الخصوم؛ الموقف من القوات المسلحة؛ ثالثا: أزمة المشاركة:الدساتير الديمقراطية المؤقتة والعسكرية الدائمة الرائحة؛ رابعا:أزمة التوزيع: الرؤية الاقتصادية الاجتماعية وقضايا التنمية والخدمات؛ وخامسا: أزمة الاندماج و التغلغل.

    فشل رؤية تيار الدولة الدينية لخصة الشيخ الجليل .د.الطيب زين العابدين يتحدث بشان الحركة الاسلامية نفسها التي حكموا باسمها" فقد فقدت طهارتها الثورية، وكسدت شعاراتها الاسلامية حتى ليستحي المرء من ترديدها امام الناس، وحلت اجهزتها المنتخبة من قبل قيادتها، وانشقت صفوفها بسبب الصراع العاري على السلطة .... واستولت قلة قليلة من الافراد المتنفذين من كهول الحركة الاسلامية بنفوذ السلطة على مقاليد الدولة وشؤون الحزب الحاكم الذي اصبح خاويا على عروشه وعلى الحركة الاسلامية المجمدة. واصبحت معظم كوادر الحركة الاسلامية الفاعلة موظفة للدولة او منتفعة منها بصورة او اخرى، ومن ثم تلزم الصمت حيال كل الاخطاء المرتكبة في حق الجماعة او البلد. وتلك لعمري نهاية محزنة مؤلمة لحركة اسلامية واعدة كانت تتقدم بخطى قوية ثابتة في ظل النظام الديمقراطي التعددي على هشاشته.... ولعل الغرور والتعجل للسلطة والاستعانة بالعسكر الذين ما دخلوا باب السياسة الا افسدوها وافسدوا معها مؤسستهم العسكرية العريقة، كانت تلك هي الاسباب من وراء ذلك الفشل الذريع في ادارة شؤون البلاد. ولولا اني عشت بين اولئك القوم اكثر من ثلاثة عقود لصدقت ما يقوله اهل اليسار ان الحركة الاسلامية ما رفعت شعارات الاسلام السياسية الا بقصد استغلالها لتحقيق مارب مادية دنيوية شخصية وحزبية لا صلة لها بالدين ". (ا.د.الطيب زين العابدين، الشيخ الغنوشي يعزف لحن الحرية والديمقراطية http://www.sudaneseonline.com

    ملامح رؤية سودانية

    ليس من مهمات هذا الكتاب ان يطرح رؤية، فالرؤية الوطنية كما اسلفت قبلا، هى نتاج حوارات وتفاهمات وحلول وسط بين قوى اجتماعية مختلفة ذات رؤى مختلفة. ولكن يمكن ان نحاول هنا ان نستخرج بعض الدروس المستفادة من كافة الرؤى التى طرحت فى السودان ومن تحليل فشلها نحاول الوصول لمؤشرات تنير لنا الطريق الى المستقبل. عندما وضعت ماليزيا رؤية 2020 كانت تخاطب قضايا مشابهة لقضايانا – وان اختلفت كثيرا فى مسيرتها التى بدات تقريبا معنا. المجتمع الماليزى يتكون من ثلاثة عرقيات مختلفة تماما: المالى وهم مسلمون ويمثلون حوالى 60% والصينيون والهنود. ووضعت نصب عينها انها بحلول عام 2020: ستصل لمجتمع موحد مشبع بقيم واخلاق عالية. يعيشون فى مجتمع ديمقراطي ، ليبراليى ومتسامح، يوفر الرعاية، عادل اقتصاديا ومتقدم ورخى، و اقتصاد قادر على المنافسة، ديناميكيى، قوى ومرن. وحددت انها للوصول الى هذة الرؤية ستعالج تسع تحديات رئيسية. انشاء دولة موحدة، خلق مجتمع متحرر نفسيا وآمن، تعزيز وتطوير مجتمع ديمقراطي ناضج ، إقامة مجتمع أخلاقي قوي في القيم الدينية والروحية، مجتمع ليبرالي ومتسامح للماليزيين من كافة الألوان والمذاهب أحرار في ممارسة واعتناق هذه العادات والثقافات والمعتقدات الدينية ، إقامة مجتمع العلم والتقدم، إقامة مجتمع الرعاية بالكامل، ورعاية الثقافة، والنظام الاجتماعي في المجتمع، ضمان وجود مجتمع عادل اقتصاديا وتحرير ارتباط التخلف الاقتصادي مع العرق او المكان واخيرا إقامة مجتمع مزدهر، مع اقتصاد قادر على المنافسة تماما، ودينامية وقوية ومرنة. ان قضايانا لاتختلف عن هذة التحديات وسوف نفصل فى اجزائها.

    معالجة ازمات عدم الاستقرار

    كما يرى لوسيان باي فان التنمية السياسية هي " جانب من عملية التغيير الاجتماعي المتعددة الجوانب ". وتقوم على ثلاثة مقومات رئيسية هي أولا: المساواة أمام القوانين، الفرص وإمكانيات المشاركة في صنع القرار. ثانيا: القدرة: هي قدرة النظام وأبنيته المختلفة بالقيام بمهامها، وقدرتها على تحويل المدخلات إلى مخرجات تلبي حاجات المجتمع. ثالثا: التميز والتخصص: أي قيام كل بنية في النظام بوظائف محددة ومتخصصة، مع تفاعلها وتعاونها مع بعضها البعض.

    اولا: المساواة أمام القوانين (الفرص وإمكانيات المشاركة في صنع القرار)

    ان اهم عناصر هذة المقومات هى فى استعادة التيار الرئيسى. كما تناولنا فى الفصل الاول فان البلاد الديمقراطية التى استقر بها الحال وتطلعت الى المستقبل ودفرت فية مليا استطاعت ان تحافظ على غلبة التيار الرئيسى فى الحكم والمعارضة. ويتنوع التيار الرئيسى فى الدول حسب تجاربها التاريخية من التيارات المحافظة، الليبرالية، الاشتراكية وغيرها ومن التيارات المسيحية الى الاسلامية والهندوسية. لكن سمتها العامة هى محافظتها على قواعد اللعبة الديمقراطية والهياكل المؤسسية وشروط العقد الاجتماعى. السودان مقبل على فرصة استعادة التيار الرئيسى بعد انكشاف حال تيار الدولة الدينية واقتناع احزاب الطائفية الليبرالية والامام الصادق المهدى فى رفع غطاء الثقل الجماهيرى عن حزب الاخوان المسلمين والذى كان سبب تسيدها، لتعود هذة الاحزاب لحجمها الطبيعى لوبيات على اليمين واليسار. ان التيار الرئيسى لايعنى بالضرورة حزبى الامة والاتحادى ولا يستبعدهما ولكن هناك احتمالات ان تشكل، تحالفات احزاب جهوية، تيارات ليبرالية، اشتراكية او اسلامية، احزابا تمثل الكتل الجديدة دورا مهما فى مستقبل العمل السياسى فى الوطن.
    يترافق مع هذا التململ الضخم والحركية المفرطة التى تمور بها الاحزاب الطائفية الليبرالية نفسها من شبابها وقياداتها الجديدة التى افرزها الصراع الدامى الطويل مع الانقاذ. لقد اخذت هذة التحركات عديد الاشكال من الانشقاقات المتوالية، سواء من العناصر الانتهازية التى التحقت بالنظام او جماعات خارج الحزب ومعارضة لة او تكوين الحركات المسلحة فى دارفور، النيل الازرق، جنوب كردفان او الالتحاق بها وهجر الاحزاب. لكن اغلب هذة المجموعات ظلت داخل احزابها تقارع بالحجة، التكتل، المذكرات، البيانات وغيرها. لن تتوقف هذة التحركات الا بالوصول الى ما صار توجها عاما فى الحياة السياسية العربية وهى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.

    قضايا الدستور

    ان مسألة الدستور هى الحاسمة فى اى رؤية ففيها تضمن كافة الحقوق التى تستهدفها الرؤية. لقد اعطتنا الثورات العربية مدخلا موضوعيا لصياغة دستور البلاد من تمازج الحرفية والتوافق وتمثيل طوائف الامة. ان لجنة المائة المختارين ديمقراطيا من كافة طوائف الشعب وفق توافق عام مدخل ممتاز للخروج من حجوة الدساتير. الصمت عن القضايا الجوهرية فى الدستور ادى بنا الى التعرجات الحادة والمؤلمة وعدم الاستقرار. لقد توصلت معظم القوى الفاعلة فى الحياة السياسية فى مؤتمر القضايا المصيرية وذلك في الفترة من 15 الى 23 يونيو 1995 بمدينة اسمرا عاصمة دولة اريتريا حول الدين والسياسة في السودان ونصت على ان تشكل كل المبادئ والمعايير المعنية بحقوق الانسان والمضمنة في المواثيق والعهود الاقليمية والدولية لحقوق الانسان جزءا لا يتجزا من دستور السودان واي قانون او مرسوم او قرار او اجراء مخالف لذلك يعتبر باطلا وغير دستوري. يكفل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيسا على حق المواطنة واحترام المعتقدات والتقاليد وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين او العرق او الجنس او الثقافة ويبطل اي قانون يصدر مخالفا لذلك ويعتبر غير دستوري. لا يجوز لاي حزب سياسي ان يؤسس على اساس ديني. تعترف الدولة وتحترم تعدد الاديان وكريم المعتقدات وتلزم نفسها بالعمـل على تحقيق التعايش والتفاعل السلمي والمسـاواة والتسامح بين الاديان وكريم المعتقدات وتسمح بحرية الدعوة السلمية للاديان وتمنع الاكراه او اي فعل او اجراء يحرض على اثارة النعرات الدينية والكراهية العنصرية في اي مكان او موقع في السودان. الالتزام بصيانة كرامة المرأة السودانية ويؤكد على دورها فى الحركة الوطنية السودانية، ويعترف لها بالحقوق والواجبات المضمنة في المواثيق والعهود الدولية بما لا يتعارض مع الاديان. تؤسس البرامج الاعلامية والتعليمية والثقافية القوميــة على الالتزام بمواثيق وعهود حقوق الانسان الاقليمية والدولية.

    قضايا الهوية

    عندما عالجت الرؤى السابقة قضية الهوية تناولتها من مداخل خاطئة تماما. اغلب هذة المعالجات انطلقت من مفهوم بسيط يقول ان غالب اهل السودان مسلمون (عندما كان السودان يضم الجنوب) ومختلط العرقيات وان الغالبية تريد حكم الشرع. ننطلق من ان الدين ليس هوية ولكنة احد مكوناتها الرئيسية وان ليس معنى ان الدين واحد فهو صنو الوحدة. هذا ثابت منذ حرب الجمل فرغم ان المتصارعين هم فى اغلب قادتهم من قريش وعرب والمسلمون الاوائل ولكنهم قتل منهم الالاف. التمايز فى السودان يشمل الدين، العرق، الجهة، اللغة والثقافة. لقد وصلنا بعد مرارات عنيفة للحقيقة البسيطة ان اى رؤية تحاول ان تتجاوز هذا التمايزات مكتوب عليها الفشل. فاذا انطلقنا من ان الجنوب مسيحى لذلك فان بترة يعنى توحد السودان، كما توهم دعاة الدولة الدينية، دحضة الشهيد بولاد مبكرا قبل الانفصال ويدحضة ان كافة التكوينات الطائفية الدينية منها (الامة والاتحادى) او غيرهم من المسلمين فى جنوب كردفان، النيل الازرق ودارفور حملوا السلاح ضد دعاة الدولة الدينية ويقاتلونهم. ان جوهر ازمة الهوية تنجم من رفع شأن اى تمايز لانة عمليا يؤدى الى عدم المساواة امام القانون. ان معالجة ازمة الهوية لها ابعاد سياسية تتمثل فى دستور مدنى ديمقراطى كما ابرزت الثورات العربية، بتراجع تيار النهضة تحت قيادة الشيخ راشد الغنوشى وقراءتة الصائبة بالعودة الى التيار الرئيسى واضطرار دعاة الدولة الدينية المصرية الى التراجع عن تكرار تجربة الانقاذ تحت ضغط القوى المدنية. كما لها محتويات اقتصادية- اجتماعية فى العدالة الاجتماعية بكافة ابعادها وسنتناولها لاحقا.

    اذا طرحنا شعارات التغيير فى الحرية، الاخوة والعدالة وتناولناها سابقا، فاننا هنا سنتناول العدالة لان، فى وطننا، لا يطرح شعار العدالة الاجتماعية لحل قضايا الخلل بين الافراد (شعار الحد الادنى والاقصى للاجور)، لكنها اعمق من ذلك لانها تشمل مجموعات سكانية، جهاتا و اقاليما بحالها. لن نبدأ باختراع العجلة مرة اخرى فقد سبقتنا دول عديدة فى تشكيل رؤاها وهناك قصص نجاح متعددة ندرسها وناخذ المفيد منها لرؤيتنا. ان احزاب التيار الاساسى لابد ان تتفق وتضع هذا المبدأ الهام فى الدستور لانه مفتاح نجاح بناء الوطن.

    استقلال القضاء

    فى كافة العهود العسكرية واجة الالاف من ابناء الشعب محاكما استثنائية مثل تجربة محاكم الطوارئ التي كان قد أنشأها النميري عقب صدور قوانين سبتمبر 1983 ، محاكم الطوارئ العسكرية (فى زمن حظر التجول) التي إنتظمت كل مدن الإقليم الرئيسية فى بداية الانقاذ وغيرها. في السابق كان القضاء هو الذي يشرف على سير القضايا منذ لحظة فتح البلاغ وحتى مرحلة تقديمها للمحاكمة، وبتلك الصفة كان القضاء مؤتمناً على ضمان صحة وسلامة الإجراءات بما في ذلك قيامه بتقييم البينات التي يقرر بعدها ما إذا كانت كافية لتقديم المتهمين للمحاكمة من عدمه، وبمجيئ الإنقاذ لم يعد للقضاء سُلطان على الدعوى العمومية، حيث تتولى ذلك السلطة التنفيذية (الشرطة والنيابة)، فهي التي تقوم بتقديم المتهمين للمحاكمة وفق فهمها وتفسيرها لنصوص القانون. واجب القضاء أن يقوم بتوفير العدالة في كل الأحوال بما يدعو للإطمئنان على حياده ونزاهته مهما كانت نوع الجريمة ، فمهمة القضاء تنحصر في تطبيق القانون على الوجه الصحيح. يستوجب أن يقف القضاء على مسافة واحدة من الحكومة التي تمثل الإتهام ومن المتهمين الذين يقوم بمحاكمتهم، وهذه القواعد في مجملها يختصرها الفقه القانوني في عبارة واحدة هي: "إستقلال القضاء". (سيف الدولة حمدنا الله: حينما يتشارك القضاء وندى القلعة الفكرة، موقع الراكوبة، 28 ابريل 2012 ).

    قضايا نظام الحكم والحكم الادارى

    عندما تستولى القوات المسلحة على السلطة تعتمد دستورها الدائم وتفرض النظام الرئاسى او الجمهورى، كما تقوم المراحل الديمقراطية باعادة الدستور المؤقت 1956 وكذلك باعادة النظام البرلمانى ومجلس السيادة. لم يتوقف العائدون بالديمقراطية لمراجعة نظام حكمهم، واظنهم لا يحملونة اى جريرة، فهذا موروث وستمنستر الذى اغرموا به. مرة واحدة جرت محاولة لاعادة النظر فى الستينات ولكنها بدلا من ان تخضغ لنقاش جاد وواسع كانت جزءا من مناورات الاستئصال الحزبية. يدور نقاش كبير فى دول الثورات العربية حول هذة القضية، خاصة مصر. لقد تواضعت البشرية على ثلاثة انظمة اساسية للحكم الديمقراطى التعددى: النظام البرلمانى بتنويعاتة، النظام الرئاسى بتنويعاتة والنظام المختلط. ان لكل نظام محاسنة وعيوبة وتوجد عشرات التطبيقات لكل نظام ، لانعيد اختراع العجلة، لكن اعادة فتح هذا الملف ضرورى لنتوصل الى النظام الافضل لظرف بلادنا. ان الفكرة الاساسية فى تأييدى للنظام الجمهورى هى التجربة التاريخية، فمعظم الدول التى تتبنى النظام البرلمانى تعانى من مشكلات عويصة من عدم الاستقرار " أن النظام البرلمانى طرح إيطاليا وإسبانيا واليونان أرضا، مضيفا أن النظام البرلمانى دمر النظام السياسى العراقى والفلسطينى، وبالتالى النظام البرلمانى بمصر قد يؤدى إلى كارثة. كما ان معظم الدول التى تبنت مشاريع نهضة اوطانها درجت على اختيار النظام الجمهورى. (احمد المسلمانى (صحفى ومقدم برنامج مصرى) ، لقاء مع برنامج آخر النهار على قناة النهار الفضائية المصرية 24 ابريل 2012).

    لقد كانت انظمة اللامركزية سواء تطبيقها المايوى (الحكم الاقليمى) او الانقاذ (الفيدرالية) مجرد ضحك على الدقون. فهى انظمة صممت لتثبيت انظمة الحكم بتصدير المشاكل والمسئوليات، مركزة المال والصلاحيات، ضخ الاموال للمركز وترضية المؤيدين بوظائف غير منتجة. كافة اقاليم السودان الخمس (الشمالى، الشرقى، الجزيرة، دارفور وكردفان) لديها اقتصادات حقيقية وثروات متنوعة، المشكلة انها تخرج من الاقاليم فى شكل مواد خام (بترول، ماشية، حبوب...الخ) ولايعاد استثمارها فى الاقاليم المعنية بل تظهر فى جسور العاصمة و المبانى الزجاجية المرتفعة. يحتاج السودان لنظام لامركزى حقيقى والتجارب الناجحة من فيدرالية او حتى كونفدرالية (سويسرا) متوفرة للدراسة والوصول لافضلها، نظام ادارى رشيق وكفوء وفعال.

    ثانيا:: التميز والتخصص ( أي قيام كل بنية في النظام بوظائف محددة ومتخصصة، مع تفاعلها وتعاونها مع بعضها البعض).
    لقد عمت الفوضى فى حياتنا السياسية والاجتماعية من اختلاط الادوار والتداخل بين المؤسسات فى قيامها بوظائفها. لقد اصبح من الطبيعى ان يلتحق الطالب بالكلية الحربية واحلامة ليس ان يصير وزيرا للدفاع ولكن ان يصبح رئيسا للجمهورية وهذا نمط من السلوك سائد فى مجتمعاتنا حيث الطريق المختصر هو اقصر طرق الوصول (تتداخل فيها الوساطة القبلية، الجهوية، الحزبية واشياء كثر). لاتعنى الشهادات، الكفاءة، الخبرات والمهارات اى شىء فى ان يشغل اى شخص اى موقع حتى عندما يعين شخص ما فى اعقد الوظائف ليس هناك اى تأهيل مؤسسى. سوف نتناول هنا دور القوات المسلحة والاجهزة الامنية، دور الاحزاب، منظمات المجتمع المدنى والخدمة المدنية.

    القوات المسلحة والاجهزة الامنية

    منذ 30 يونيو 1989 كان الهدف تجفيف القوات المسلحة. وفى طول العقدين الماضيين حاول نظام الانقاذ تحويل جيش السودان الى جيش الاسلام السياسى، ربما نجحوا فى بعض هذا ولكن ابناء الشعب السودانى يخضعون لكل القوانين الاجتماعية ويعايشون العسف الذى يقاسية اهاليهم. لقد غيرت الأنقاذ من بنية القوات المسلحة وحاولت جعلة جيشها الخاص، لكنها دائما بفكرها الاحادى تعتقد أن البشر جامدون ومسيرون ولا تتعلم من دروس التاريخ القريب حيث أنقلبت الجيوش على حكامها. القوات المسلحة كانت فى داخلها كافة متنوعات الدولة السودانية وكافة التيارات السياسية تحول عبر مسير طويل وخاصة عند مجئ الانقاذ الي الحكم فى 1989 ، حيث بدات بتصفية القوات المسلحة من كل الضباط الذين لا ينتمون للجبهة الاسلامية، واحالت للصالح العام معظم القيادات العسكرية وحجرت دخول الكلية الحربية حكراً على ابناء الاسلاميين. فى الطريق تخلصت من ابناء الجنوب واستمر الحال حتى مفاصلة 1999 حيث تم تنظيف القوات المسلحة ايضاً من كل الضباط والجنود الموالين للمؤتمر الشعبى. وتلا ذلك تصفية ابناء دارفور بعد تمردات الاقليم وابناء البجة والنوبة والانقسنا.

    كجزء من التراث الطويل للممالك السودانية، استمرت المليشيات المسلحة فى التواجد فى الحياة الاجتماعية السودانية. ومع تقوية السلطة فى البلاد تقهقرت هذة التكوينات المسلحة الى حدها الاقصى. وقد مثل الانصار حالة نموذجية فى التطور من التكوينات الجهادية العنيفة منذ اعادة تاسيس المهدوية الجديدة تمت الاستعانة بها فى احداث مارس فى الخمسينات واحداث المولد فى الستينات. لكن مع مؤسسة الحزب وكيان الانصار تراجع هذا التوجة ليظهر فى حشد الانصار فى ليبيا فى السبعينات واقل فى حشدهم فى اريتريا فى التسعينات. تمت اعادة الحياة لهذا التوجة بواسطة اللواء فضل اللة برمة ناصر بتسليح مليشيات المراحيل لتقف ضد احتمالات توغل الحركة الشعبية لكردفان ودارفور. عندما جاءت الانقاذ وكانت تستشعر ان القوات المسلحة السودانية معادية لخطها السياسى لجأت الى تنظيف القوات المسلحة من المخالفين لها وفى نفس الوقت خلق جيش مواز هى قوات الدفاع الشعبى.

    عندما هتف ثوار اكتوبر ان يرجع القوات المسلحة لثكناتة، كان هذا لان القوات المسلحة كانت قد استدعيت للحكم ولكن كان ذلك الخطأ بعينة. فالتجربة كانت تستدعى مراجعة جيش السودان، ولانعنى هنا بالاصلاحات الفنية التى فصل فيها الكتاب العسكريون. الانقلابات اسبابها سياسية ولكن تنفيذها تقنى وتتعلق بظروف تقود الى التمرد العسكرى فى المجال التقنى. ظلت القوات المسلحة على حالها الذى تركة الاستعمار ولم تعالج الثغرات التى تتسرب منها الافكار الانقلابية ووسائل تجميع الانصار والتحرك الميدانى. تركت معالجة العقيدة القتالية لجزء مهم من تكوين الدولة مسلح معرض لاختراقات حزبية واقليمية ودولية. ترك الهيكل التنظيمى الذى يركز السلطة فى يد المنظومة العسكرية، واخرجت ميزانيتة من النقاش العام وترك وزير الدفاع المدنى بلا اى عمق معرفى حقيقى بما يجرى فى داخل هذا الجهاز. لم يتم اخضاع المؤسسات الامنية والعسكرية لاى تغييرات هيكلية وتنظيمية وتمويلية تحد من تدخلها فى الحياة السياسية ومن امكانيات تحركها - الملاحظ ان كافة المؤسسات الموروثة من الزمن الاستعمارى حافظت على بنيتها- وهذا ليس سيئا فى حد ذاتة ولكن مع التحديث المطلوب والذى يبلغ احيانا التغيير الكامل. ويقدم القوات المسلحة السودانى حالة نموذجية على ثبات الحال فهو رغم اقتلاعة من السلطة بثورتين ظل كما هو فى هياكلة، تراتبيتة، تنظيمة، توزيعاتة بل وحتى تواجده الجغرافى فى المدن الكبرى والاهم من ذلك فى ردود فعلة تجاة التمردات المتوقعة. لقد توغلت القوات المسلحة السودانى فى بحور السياسة الى درجة انها دفعت كل التنظيمات الحزبية الى المجال العسكرى، خاصة فى اعوام 1995-2005 . فما هى عناصر الرؤية السودانية التى هناك اتفاق كبير حولها من عديد الذين كتبوا عن الحياة السياسية فيما بعد الاستقلال.

    اولا: ان البداية لابد ان تكون بمراجعة تاريخ ومستقبل المؤسسة العسكرية والاجهزة الامنية، بقصد التعمق فى الاسباب الذى قادتنا الى هذا المصير وذلك عن طريق حوار ونقاش شفاف ومنظم وحقيقى يشارك فية كافة الاطراف بما فيها الضباط والجنود وتلمس متطلبات ومشاكل وقضايا هذة المؤسسة والوصول لاتفاقات حول الاطارات الاخلاقية، القانونية، الادارية، التقنية والبحثية. مهام القوات المسلحة بموجب قوانينة القديمة او قانون القوات المسلحة لسنة 1999 او 2007 تنحصر فى حماية سيادة البلاد والدفاع عن النظام الدستوري والزود عنه، تأمين سلامـة البلاد والدفاع عنها فى مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية. المشكلة ان القوات المسلحة تقوم بمهام اخرى فى النزاعات الداخلية. هذة قضية تحتاج الى دراسة وبحث حول كيفية التعامل مع هذة النزاعات والقتال الاهلى. جزء من المعالجة ينطلق من تكوين القوات المسلحة نفسة والذى يعكس بجلاء هيمنة جزء قليل من العناصر الشمالية والوسط على قطاع الضباط وتكوين العدد الاكبر من الجنود من المناطق المهمشة. هذا لم يعد ممكنا، محتملا او قادرا على التبرير. القوات المسلحة السودانى مؤسسة قومية ويجب ان يحدث فيها تمثيل متوازن لكل العرقيات والجهويات.

    ثانيا: معالجة المليشيات، المجوعات المسلحة والحركات المسلحة قضايا كبرى تنتظر المراجعة والدراسة المتأنية للاسباب التى قادت لقيامها سواء الموضوعى منها والحزبى وايجاد الحلول لدواعيها لان قضاياها ليست كلها مصطنعة ولكن جزء من حرب الموارد ومسائل حياة او موت.

    ثالثا: معظم الجيوش العصرية فى الدول الديمقراطية للدول المتقدمة والتى تسير فى طريق التقدم حولت القوات المسلحة من نظام الاحتراف الكامل لكافة افرادة الى جيش محدود العدد مبنى على التكنلوجيا والتقنية الحديثة ونظام الاحتياط عند الحوجة على نسق الجيوش ، ومسئول عن حماية ترابة ودستورة ويمنع اشتغالة باى سياسة او العمل المدنى او الخدمى. ان دخول القوات المسلحة السودانية ( والشرطة والامن) فى الانشطة الاقتصادية فريد فى دولنا العربية وهى ضارة بانضباطها وحيادها.

    رابعا: ربما اكثر من القوات المسلحة السودانى فان الشرطة تحتاج لمراجعة شاملة بدأ من اوضاعها المعيشية، كفاءتها التقنية، ظروف عملها، تدريبها وعلاقتها بالشعب وقوانينها واحترامه لحقوق الانسان لاسترداد الثقة المفقودة و تنظيفها من الفساد والالتزام بالسلوك والتعامل الراقى وارجاعها من الدور العقابى والامنى والتجسسى الى دورها الخدمى والحمائى.

    خامسا: تحول دور اجهزة الامن الوطنى من دورها فى جمع المعلومات من المهددات الخارجية (المهددات الداخلية من المفترض ان تباشرها المباحث الجنائية التابعة للشرطة) الى تسيير دولاب الدولة نفسها فهى التى تراقب الصحف وتوقفها وتعطلها، تعتقل المواطنين بلا قواعد او مسائلة قضائية وبدون ابداء الاسباب، يمنع من السفر...ألخ. حلت جميع الثورات العربية هذا الجهاز وانشأت بديلا لة. لقد جربنا هذا ما بعد الانتفاضة ولم تنجح التجربة. ان مدخلنا فى اعادة التاسيس تكمن فى النظر الى هذة المؤسسات كانظمة وليس الافراد. ان الاصلاح المؤسسى فى كافة قطاعات الدولة هى فى القوانين، الصلاحيات، المسئولية (النزاهة والاستقامة) والمحاسبة وليس فى حسن الافراد او سوئهم.

    دور الاحزاب

    الأحزاب السياسية تعد من أهم ركائز النظام السياسي تؤدي مجموعة من الوظائف الأساسية فهي توفر أمكانية المشاركة السياسية والتعبير عن الرأي وتجميع المصالح وتعبئتها، وأداة من أدوات التجنيد السياسي، وتساهم بإسباغ الشرعية على نظام الحكم ، فواقع الحال يشير إلى أن استقرار النظم السياسية في بلدان العالم وخصوصاً لدى البلدان النامية يعتمد إلى حد كبير على قوة أحزابها وتكون العلاقة بينهما علاقة تبادلية، فقوة النظام الحزبي واستقراره يؤدي إلى استقرار النظام السياسي والعكس بالعكس.

    ان اختلاط الاحزاب بالطوائف الدينية، خاصة الختمية والانصار و انصار السنة، جعل الحابل يختلط بالنابل. هذا الاختلاط جزء كبير منة ارتبط بحجر الديمقراطية على الاحزاب مما اضطرها للجوء لطوائفها لممارسة السياسة تحت عباءة الدين. ان مجال الطوائف الدينية هو العمل الدعوى (العدل والاحسان) وهناك الكثير مما يحتاجة المجتمع فى هذا المجال. ان الغالبية العظمى من الدعاة فى منابرهم يوم الجمعة يشنون الهجوم العنيف على تردى اخلاقنا، قيمنا وسلوكنا المختل لكنهم عندما يعالجون هذا يدخلون على السياسة كل حسب جامعة.هناك جوامع الانصار، الختمية، السلفية، المؤتمر الوطنى، المؤتمر الشعبى، الادارسة، البرهانية وهلماجرا وكلها تتعاطى العمل السياسى. لكل هذة الطوائف دور – تخلو من المترددين لانها لاتقدم لهم ما يشفى غليلهم- يمكن ان تمارس فيها طقوسها المعينة من العبادة، الاحتفالات، التجويد...الخ. لابد من فصل الطوائف عن السياسة واعادتها الى دورها الاعظم. لقد سار حزب الامة فى هذا الطريق ونرى انة مع تحول ديمقراطى حقيقى سوف يتحقق بشكل سلس.

    منظمات المجتمع المدنى

    تبنى البنك الدولي تعريفاً للمجتمع المدني أعده عدد من المراكز البحثية الرائدة: "يشير مصطلح المجتمع المدني إلى المجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجودٌ في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية. ومن ثم يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى مجموعة عريضة من المنظمات، تضم: الجماعات المجتمعية المحلية، والمنظمات غير الحكومية ، والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، ومؤسسات العمل الخيري"( http://web.worldbank.org )

    شهدت سنوات العقد المنصرم توسعاً مذهلاً في حجم ونطاق وقدرات المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم، مدعوماً بعملية العولمة واتساع نطاق نظم الحكم الديمقراطية، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والتكامل الاقتصادي. أصبحت منظمات المجتمع المدني أيضاً جهات مهمة لتقديم الخدمات الاجتماعية وتنفيذ برامج التنمية الأخرى كمكمّل للعمل الحكومي . كما اتضح تأثير منظمات المجتمع المدني في تشكيل السياسات العامة على مستوى العالم خلال العقدين الماضيين. إن قطاع المجتمع المدني لا يبرز فقط كجهة فاعلة واضحة على المستوى المجتمعي في أجزاء كثيرة من العالم، لكنه يتسم كذلك بتنوع ثري في طبيعته وتركيبته. ولهذا السبب، تتفاوت تعريفات المجتمع المدني بدرجة كبيرة استناداً إلى اختلاف النماذج التصورية والأصول التاريخية والسياق القطري العام.

    ثالثا: القدرة: (قدرة النظام وأبنيته المختلفة بالقيام بمهامها، وقدرتها على تحويل المدخلات إلى مخرجات تلبي حاجات المجتمع).

    نبدا من ان السودان يمتلك البنية الاساسية اللازمة لتقليل اثر الفساد المالى والادارى الى الحدود الدنيا. لقد واصل ديوان المراجع العام (القومى) عملة عبر السنوات واستطاع رغم الحكم المستبد ان يواصل تقاريرة السنوية التى ترصد الكثير من التجاوزات. هذا تقليد عريق ومستمر فى السودان منذ عقود طويلة. الرؤية تعالج الفساد بانواعة الفساد السياسي ، الإداري و الوظيفي، المالي والأخلاقي، وفى هذا لانعيد انتاج العجلة فهناك تراث ضخم فى هذا المجال. لقد اكملت الامم المتحدة اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد والتى تشتمل على الصياغات العامة التى تساعد الدول فى وضع برامجها المبنية على الخبرة العالمية المتوفرة، وتتوفر مكتبات كاملة فى هذا الشأن.
    البرنامج الاقتصادى الاجتماعى

    لقد ترددت جميع الاحزاب على هذا المصطلح، كل بلغتها ومعناها، فى مرحلة ما من تطورها ولكن اغلبها تنصل منها وسار فى اودية التنكر والابتعاد حتى وضعت على اجندة الوطن بحدة بلغت حد حمل السلاح. تشمل قضايا البرناج الاقتصادى الاجتماعى التنمية والخدمات العامة، التعدد الثقافى وتوزيع الثروة. احد اهم اهداف التنمية الاقتصادية الاجتماعية هو اعتماد العدالة الاجتماعية كمدخل فى معالجة الفوارق الكبيرة بين مختلف فئات الدخل، وبين المجتمعات الريفية والحضرية وحتى المناطق داخل الدولة. هذة هى التى قادت الى الحروب الجهوية المستمرة، ادت لانفصال الجنوب وعدم الاستقرار (Planning Commission, Government of India: India Vision 2020, New Delhi, DECEMBER, 2002 (

    اولا: نبدا من الاساسيات ونوقف طوفان الرأسمالية الطفيلية المستشرى، المدخل هو تعديل السياسات النقدية والتمويلية والضرائبية. لقد خطت الدول جميعا، حتى الولايات المتحدة فى تطبيق الحزم القانونية، التمويلية، التمييز الايجابى لبعض الانشطة وغيرها للحد من هذا النشاط الى الحدود المقبولة فى بنية اقتصاد راسمالى. هذا ليس صعبا اذا وصلنا جميعا لفهم مشترك من كافة الفئات ذات المصلحة من الاحزاب، قوى المجتمع المدنى، القطاعات العاملة فى المجالات المختلفة وخاصة الراسمالية بكافة انواعها، المبدأ ان هؤلاء جميعا شركاء اساسين فى التنمية ولابد ان يشاركوا فى اتخاذ القرار بشكل شفاف وليس تحت التربيزة.

    ثانيا: نعيد النظر بشكل موضوعى عن دور القطاع العام فى الاقتصاد فى ظل الظروف الراهنة، في نمط الاستثمار في البنية التحتية للدولة كشريك نشط وقادر على إحداث التغييرات التشريعية والإدارية المطلوبة و دور الدولة كميسر فعال للتعويض عن قصور آليات السوق في تقديم السلع العامة ( نعنى بها فى السودان التعليم العام، الصحة، الرى، مياة الشرب وغيرها) .

    ثالثا: العنصر الاساسى فى التنمية الاقتصادية هى انها استراتيجية شاملة لتحقيق الأمن الغذائي الوطني وهو شرط ضروري لرفع انتاجية القوى العاملة في السودان إلى مستويات دولية.الهدف الاول تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وبعد ذلك، من خلال تزايد المخزون الفائض من الحبوب الغذائية يوجة للتصدير وخلق فرص عمل جديدة والنمو الاقتصادي. هذا التوجة في جوهره يقوم على المعرفة والابحاث. لا يمكن حل مشكلة النقص المزمن فى الغذاء ببساطة عن طريق الزيادة في انتاج الغذاء أو تراكم أكبر مخزون احتياطي الغذاء، اصلاح نظام التوزيع او برامج العمل المستهدفة التغذية كلها تخفف من المشكلة مؤقتا. ولكن في المدى الطويل، فان الحل هو ضمان فرص العمل لجميع المواطنين بحيث يكتسبون القوة الشرائية لتلبية احتياجاتهم الغذائية.

    ثالثا: الخدمة المدنية: ورث السودان خدمة مدنية ذات كفاءة فى اداء متطلبات المستعمر وكما حدث لكل القطاعات فقد تم المحافظة عليها فى نفس اطارها برغم اختلاف نظام الحكم ومفاهيمة. حتى اكتوبر سارت الخدمة المدنية تنجز ما هو مطلوب فى بلد ذو مجال مدنى محدود. فى اكتوبر حدثت اول محاولة للتعامل مع الخدمة المدنية وارتكب مايسمى الصحيح سياسيا ولكن المخطئة تقنيا. فبدلا من أن تنظر للخدمة المدنية كنظام وتدخل علية الاصلاحات المطلوبة، تبنت الافكار التقليدية عن الفساد الفردى وطرحت التطهير. حتى هذة لم تعالجها من خلال قوانين الخدمة المدنية واحترام المؤسسية وبذلك بذرت المبرر الاخلاقى والسياسى لما سيشكل اخطر واسرع وسائل تدهور الدولة السودانية. لعلة من نافلة القول أن التوسع فيما سمى قوائم الصالح العام والتى مارسها الحكم العسكرى الثانى ووصل بها الأنقاذ الى حد الاحلال الكامل للخدمة المدنية من اعضائة وبمن صدق لا بمن سبق. ادى هذا على مر السنين الى التدهور فى الاداء والكفاءة والتسيب والفساد والرشوة.

    فى التصدى لقضايا الخدمة المدنية السودانية نحتاج للاصلاح المؤسسى الذى ذكرناة سابقا، لكن هذا وحدة لن يكفى فى خدمة تعرضت لتشوية طويل. يفترض التعامل مع تطوير الخدمة المدنية أن نبدا بالنظرة الكلية، فمشاكل الخدمة المدنية تبدا من الاستقرار السياسى والرضا العام عن الدولة، الاحساس بالمواطنة المتساوية، توفر الحقوق والحريات الاساسية خاصة حرية العمل النقابى والاعلام والتعليم ومناهجة. لانعيد اختراع العجلة فى اصلاح الخدمة المدنية ، فهى من اكثر المجالات التى بها تجارب اقليمية وعالمية مجربة. ولكن اول ما نحتاج تعديل قوانينها لتتماشى مع الاسلوب الديمقراطى فى ادارة شئون البلاد ومن ثم ايجاد التوازن بين مجالات اربع ضمان وجود عدد كاف من الموظفين على جميع المستويات (النوعيات المطلوبة، عدالة التعيين، التوزيع المناسب..الخ)، تحديد الكفاءة والمهارة المطلوبة لكل مهنة ( اطار وطنى للكفاءة والمهارة، وسائل دعم الكفاءة وخطط التطوير...الخ)، توفير أنظمة الدعم المطلوبة كل حسب مجالة ( المعلومات، الدعم اللوجستى، التخطيط... الخ) وخلق بيئة عمل مواتية ( توفر السياسات والاجراءات، المعايير الوطنية، المتابعة الداعمة، الكرامة والكينونة، الحوافز المادية وغير المادية وأنماط تحمل مسئولية القرارات).

    رابعا: الخدمات التعليمية: قضايا التعليم لاتنفصل عن الازمة السياسية للوطن وحلولها مرتبطة بالحل الشامل تنطلق فى مجملها من النظر الى التعليم كرافعة للتقدم والتنمية وازالة التشوهات المناطقية و الجهوية. التعليم الذى اهمل طوال العقود من الانظمة جمعاء فى عهود الحكم العسكرى والديمقراطي. ان اهمية التعليم ليس ترفا ومجرد حق ولكنة بوابة الدخول لسودان المستقبل اذا شئنا ان نبنى الوطن. ان الدول التى وضعت نفسها فى مسار التقدم وضعت نصب عينها تطوير التعليم (كوريا، الهند، البرازيل……الخ ) مما فسرها واوضحها الدكتور منصور خالد فى عدد من كتبة ومقالاتة ايما توضيح. ان المدخل لاى اصلاح فى التعليم يبدأ من التزام الدولة بمسئولياتها الاجتماعية ورفع مساهمة الدولة لتبلغ 15 بالمائة من الميزانية السنوية للدولة. (حدث التغيير الكبير في التعليم السوداني والخدمات الصحية عندما كان عبد الرحمن علي طه وزير المعارف و علي بدري وزيرا للصحه و صار التعليم و الصحه يساويان خمسه و عشرين في المائه من ميزانيه الدوله ). ان المسئولية تعنى التزام الدولة بتوفير تعليم مجانى اساسى بكافة مستلزماتة. ان هذا يستدعى اعادة النظر فى السلم التعليمى، واود هنا ان اسطر بوضوح اننى مع النظام القديم المبنى على نظام الاربعة سنوات ولكننى لست متحيزا ضد اى نظام. يستدعى هذا ايضا اعادة النظر فى الخارطة التعليمية واعادة توظيفها بناء على حاجة سوق العمل والاحتياجات مبنية على مؤشرات النمو ووتائر التنمية. . التعليم هو رافعة اثراء التعدد وادخال المجتمعات المتنوعة عن طريق وضع لغاتها وثقافاتها واغانيها و احترامها فى العملية التعليمية. كافة الاعراق فى سودان المستقبل لها صوت يكفلة الدستور وتسن لة القوانين والسياسات والخطط.

    كانت المناهج التعليمية مرتعا خصبا لكافة الانظمة الحكم العسكرى لفرض تصوراتها الشائهة على العقول الصغيرة والتشويش والخلط حتى اصبح هناك تناقض مربك بين ما يمارسة الصغار فى منازلهم وبين ما يدرسونة فى الفصل الدراسى. ان بداية ترسيخ المفاهيم الديمقراطية وتحويلها من شعارات واناشيد واغانى الى سلوك ناظم لحركة المجتمع هو ادخال هذة المفاهيم عن طريق تحويلها الى مواد فى المناهج الدراسية على كل المستويات. ان هذا التحول الى التعليم من اجل التنمية هو تحول كامل للتعليم وللمسئولية الاجتماعية ويقودنا الى التخلص من الخصخصة الشائهة التى حدثت فى مجال التعليم والتى قادها الطفيليون وحولوا التعليم الى مجال لتراكم الثروة وغسيل الادمغة ونشر الفكر الاقصائى. ان من اول واجبات اصلاح التعليم هو فصل التمويل عن العملية التعليمية وتحديد المناهج الموضوعة بواسطة وزارة التربية والتحكم فى التسعيرة وغيرها

    مدخلنا الى هذة القضية الخروج من اسار اعادة هيكلة الاقتصاديات ووصفات البنك الدولي حول تكلفة الخدمات الاجتماعية وان تعود الخدمات الاساسية التعليم والصحة جزءا من المسئولية الاجتماعية للدولة ورفع المخصصات الى 15% من الناتج الاجمالى القومى لكل منهما، وهذا سهل اذا توقفنا عن الحرب الاهلية واعدنا ميزانية الدفاع والامن الى على الاكثر 15-20%. سال حبر كثير حول التعليم وعقدت المؤتمرات وورش العمل ولكن يرتبط كل ذلك بالالتزام السياسى المفقود فى ظل الاوضاع السائدة. قضايا التعليم واضحة ومباشرة يحسها كل مواطن وتحتاج لعقد سياسى ملتزم ضمن عملية التحول الديمقراطى بتطوير كافة مكونات العملية التعليمية من المعلمين (الاعداد، التدريب المستمر، تحسين الاجور وتوفير معينات التدريس) والمنهج ( مناهج قائمة على حل المشاكل، مشاركة المعلمين والخبراء، التوسع فى التعليم الفنى والزراعى والتقنى التدريب، ادخال التقنيات الحديثة فى العملية التعليمية المراجعة والتحديث) والطلاب (التعليم المجانى فى التعليم ما قبل الجامعى، توفير الادراج والكراسى والكتب) والبيئة المدرسية ( النماذج المعتمدة فى مبانى المدرسة، الانشطة خارج المنهج، ديمقراطية العمل الطلابى فى المراحل الثانوية وحرية التعبير).

    تناول د. احمد ابراهيم ابوشوك بشكل مبدع العناوين الرئيسية لاصلاح التعليم العالي " ضرورة تعزيز الحرية الاكاديمية في الجامعات السودانية، وتحديث نظمها الادارية، ومدها بكفاءات مهنية مدربة، وترسيخ الشفافية في اجراءات التعيينات والترقيات، واصلاح مقارها الحالية والخدمات المصاحبة لها، وتوفير الدعم المالي اللازم للبحث العلمي والطلبة النابهين. ويتبع هذه الخطوات الاجرائية ترقية اكاديمية في تصميم المناهج الدراسية، ترافقها ادارة جودة شاملة ومستدامة، يراعي في تطبيقها مرتكزات الهوية السودانية والمعايير القياسية المستخدمة على الصعيد الدولي في ضبط الجودة الخدمية وتجويد العطاء المهني ومخرجاته البشرية في الجامعات". (د. احمد ابراهيم ابوشوك: التعليم العالي في السودان: الثورة والواقع؟ www.sacdo.com) . وعلى نفس المنوال ” وعلى ذلك فان اي حديث عن التحديث والتنمية والديمقراطية لن يجد ما لم نبدا باصلاح جذري لنظام التعليم العام والعالي وعلى اسس علمانية بحيث تشق المؤسسات التعليمية طريقها مستقلة وبمنهج يهدف لخلق عقول حرة تملك القدرة على الابداع والابتكار والتفرد. ودون ذلك سنبقى في اسفل قائمة الامم المنغلقة والمنكفئة على ذاتها.” (جريدة الايام : قراءة في واقع التعليم العالي..هل يعمل لاعداد قادة المستقبل؟ العدد رقم: الاربعاء العدد 9170 2008-07-29).

    خامسا: الخدمات الصحية: مثل انسحاب الدولة من الخدمات الصحية مبكرا بداية التدهور المستمر فى حياة المجتمعات فقد انتشرت الامراض التى كانت قد اختفت او لم تكن اصلا موجودة فى كافة انحاء الوطن الى حد ان مرضا كالملاريا التى اصبحت من التاريخ فى معظم دول العالم، يمثل اكثر من ثلث اسباب الوفيات وصار السودان متحفا لكل الامراض التى وجدت فى العالم عدا ما يسمى مرض شاقس الذى لايوجد الا فى امريكا الجنوبية. مدخلنا الى الخدمات الصحية ان نعود الى دولة الرفاة الاجتماعى فى خطى افضل واعدل واكثرها كفاءة وهو النظام الصحى الوطنى فى تطبيقاتها الحالية والمبنية على الرعاية الصحية الاولية واللامركزية الحقيقية ورفع قدرات العاملين. نظام مجانى يعتمد على الضرائب فى التمويل ويخصص لة 15% بالمائة من ميزانية الدولة السنوية. يقوم النظام الصحى على طبيب الاسرة فى المدن والمجتمعات الكبرى والاشكال المبتكرة فى القرى والفرقان، مما ابدعت فية العقول السودانية. كل هذة تتولاها المجالس المحلية والبلديات اشرافا وتمويلا حسب ميزانيات حقيقية وليست ورقية.

    المهمات والواجبات و الاولويات تمت دراستها مرارا وتكرارا من منظمة الصحة العالمية والمنظمات الاخرى العاملة فى الصحة ولكنها لم تمثل اولوية فى اجندة النظام منذ اليوم الاول ووضعت فوق الارفف. لقد نشطت الوزارة فى مجالات عدة ولكن كل جهودها تضيع لانها محكومة بنظام شمولى وسياسات رزق اليوم باليوم واسس الاختيار الحزبية وعدم الانصاف فى الترقيات وتجريد العاملين من منظماتهم النقابية الديمقراطية. المشاكل والتحديات التى تواجة الصحة ليست وقفا علينا والحلول لاتحتاج لاعادة اختراع العجلة ولكن لقيادة تجىء نتاج الاختيار العادل والشفاف واعادة الحياة للتقاليد المحترمة والمصداقية والنزاهة. يحتاج العاملين الصحيين الى الرعاية والعناية والمدخل الرئيسى يبدا باعادة النظر واصلاح التعليم الطبى والصحى وانهاء الفصل القسرى بين انتاج الكليات الصحية والخدمة والتى ادت لكثير من الاختلالات الهيكلية والوظيفية والكفاءة.

    الاعلام

    الديمقراطية لاتحتاج لوزارة اعلام تطبل وتزمر، اعلامها هو الاصوات المتعددة لاعراقة ولاحزابة، منظماتة المدنية وتنظيماتة ويوفر لها الدعم والمساندة من الدولة. اجهزة الاعلام من تلفزيون واذاعة التابعة للدولة لابد ان تكون مستقلة بالكامل تتبع البرلمان الذى هو صوت الشعب وتجيز لها الميزانية وتضع لها السياسة العامة لخدمة ما ينص علية الدستور. السياسة التحريرية يضعها العاملين الذين يختارون بعناية وشفافية وعدالة كغيرهم من العاملين بالدولة. الصحف الحزبية والخاصة هى ادوات تساهم فى الوعى وبناء الامة وليست ابواقا لمالكيها وتحتاج لفصل التمويل عن التحرير.

    البيئة فى السودان

    قامت مؤسسة الامم المتحدة للبيئة باكبر واشمل تقييم للبيئة فى السودان عام 2005 ونشرتة. وقد خلص التقرير الى ايراد الاسباب التى تؤدى الى التهور البيئى فى السودان. اول هذة الاسباب العلاقة المتبادلة بين البيئة ومشاكلها من جهة والصراعات التي عاشها السودان في تاريخه الحديث من جهة أخرى. ويشير التقرير إلى ان ان البيئة كانت ولا تزال سبباً للنزاع في السودان... فالتنافس على احتياطيات النفط والغاز والمياه والخشب وقضايا استخدام الأراضي الزراعية، كانت أسباباً قوية في إثارة النزاع هناك وإدامته لفترة طويلة، خصوصاً التنافس على المراعي والأراضي الزراعية الواقعة في مناطق «السفانا» القليلة الأمطار في ولايتي كردفان ودارفور. وكذلك يلاحظ التقرير انه كلما زادت ندرة المواد الطبيعية تهيأت الظروف لنزاع عنيف، إذ تتضافر عوامل البيئة مع الخصوصية العرقية والتركيبة السياسية والاهتمامات الاقتصادية، لتشكّل عوامل توتر دائم في السودان. ويعتبر التقرير التصحر المشكلة البيئية الرئيسية فى السودان، حيث أدى الى تدهور التربة و المراعى وانخفاض الانتاجية الزراعيه وإزالة الغابات ونقص الغذاء وحطب الوقود و إفقار المجتمعات الريفية و الصراعات الاهليه و الهجرة العاليه من الريف الي الحضر وتهديد التنوع البيولوجي. التصحر أيضاً يرتبط بشكل وثيق بالفقر. فالفقراء يشكلون أحياناً دون قصد منهم عوامل لتدمير الغابات، حيث يهاجرون إلى غاباتٍ كانت في السابق نقية أصلية، ويزيلونها بحثاً عن أراضٍ لزراعة الأغذية. لكن التصحر يؤدي غالباً إلى زيادة حدة الفقر. طرحت الدراسة بعض التوصيات التى تساعد على اعادة التوازن البيئى، واغلبها مرتبط بتحسينات فى الحوكمة واتخاذ القرارات الرشيدة. http://www.unep.org/sudan)

    البعثة المشتركة لتحديد احتياجات السودان

    عندما تم توقيع اتفاق السلام الشامل فى نيفاشا بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان فى يناير 2005 ، بدات لاول مرة فى تاريخ السودان المعاصر اضخم عملية اعادة تقييم لكل السياسات، التنظيم الهيكلى والتوجهات الاجتماعية والاقتصادية وذلك عن طريق البعثة المشتركة لتحديد احتياجات السودان خلال الفترة الممتدة من ابريل 2004 وحتى فبراير 2005. الوثائق الضافية الثلاثة المعنونة "البعثة المشتركة لتحديد احتباجات السودان" اعدتها الامم المتحدة والبنك الدولى تحت اشراف الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان ونشرتها فى 18 مارس 2005 (شاركت فيها 17 منظمة من الامم المتحدة، 10 مانحين، وعديد من السودانيين فى الداخل والخارج). وتصدت الوثائق لوضع اطار للسلام المستدام، التنمية والقضاء على الفقر مدعومة بالجهود والموارد المحلية وشركاء التنمية العالميين لمعالجة الاسباب الهيكلية للنزاعات والتخلف. وشملت الوثائق النظر فى ثمان موضوعات: التطوير المؤسسى واجراء اصلاحات شاملة في الحكم ، سيادة القانون، السياسات الاقتصادية، القطاعات الانتاجية، الخدمات الاجتماعية الاساسية، البنيات التحتية، كسب العيش والحماية الاجتماعية والمعلومات والاعلام. كما شملت القطاعات المتداخلة: البيئة، مرض نقص المناعة والايدز، النزاعات، حقوق الانسان والجندر.

    ربما اعتبر بشكل شخصى - لاننى شاركت فى كافة المسودات الاولية التى كانت اساسا لوثائق البعثة المشتركة لتحديد احتياجات السودان فى قطاع الصحة وشاركت فى كتابتها فى افغانستان، العراق وشمال وجنوب السودان اثناء عملى مع منظمة الصحة العالمية، المكتب الاقليمى لشرق المتوسط – ان الجهد المبذول فى هذة الوثائق كان ضخما، متوازنا وواقعيا ومستجيبا فى غالبة لطموحات الشعوب ومحافظا على روح العدالة الاجتماعية. استطاعت هذة الوثائق ان تقدم لنا خلاصة تجارب العديد من المع العقول الدولية والاقليمية والوطنية البارزة وتصيغ لنا برامجا للخروج من المازق التاريخية فى تنظيم الدولة ومجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية. الجزء الاساسى لهذة الوثائق وان كان يركز على الجهود والموارد المحلية لانجاز الخيارات والتدخلات المتاحة الا ان طبيعة هذة المنظمات التابعة للامم المتحدة وتكوينها وتطورها التاريخى فى زمن العولمة ومفردات التمويل والبناء الهيكلى والتاريخى تميل لجلب التمويل الخارجى من الدول المانحة، الممولين وشركاء التنمية العالميين . اما البنك الدولى فهو فى نهاية الامر بنك لة توجهات فكرية محددة انشا لاغراض معينة فيما بعد الحرب العالمية الثانىة تحت ظل توازن قوى محددة. اما المنظمات الغير حكومية التى هى الصلة بين التمويل والتنفيذ وتعتمد اعتمادا كليا عليها فهى ايضا تفرض التوجة نحو التمويل الخارجى.

    ان اعتراضى الاساسى ليس على هذة المنظمات فلها دور هام وعلمى تقوم بة وقد عملت فى منظمة الصحة العالمية وهى بيت خبرة عالمى لمساعدة الدول، خاصة الدول النامية. وتؤسس مفاهيمها على دعم الجهد المحلى وبناء قدراتها وتطوير امكانياتها وكذلك المنظمات الاخرى المشابهة. اعتراضى الاساسى بعد تجربة اكثر من ثلاثون عاما فى العمل الصحى ان طريق الدول المانحة، الممولين وشركاء التنمية العالميين لايوصل الى تنمية حقيقية ويورث الدول الاعتماد على خبرات لم تبن من خلال عملية تطوير موضوعية، مستجيبة للتحديات وحلول من خلال التجربة وتبادل الخبرات. ويفرض احيانا تبنى مشروعات مصممة لمصالح التمويل اكثر من الاحتياج الحقيقى. يوفر تمويل الدول المانحة ايضا دخلا غير حقيقى للافراد وقطاعات معينة من المجتمع تؤثر سلبا على باقى المجتمع. وقد راى السودانيون ان التواجد الكثيف للامم المتحدة والمنظمات الغير حكومية فى الخرطوم ادى لارتفاع اسعار ايجارات المساكن والاراضى وتبذير العملة الصعبة على سلع استهلاكية مخصصة لهؤلاء والسودانيين العاملين فيها ويؤثر هذا باشكال مباشرة وغير مباشرة على جميع قطاعات الشعب ويترافق هذا مع افقار متزايد وسط الشعب.علاقتنا مع هذة المنظمات يجب ان تكون لطلب العون الفنى المحدد وليس تنفيذ البرامج او قيادتها والحلول مكان الدولة الوطنية.

    عندما نقترب من الاعتماد على الذات فى تطوير السودان، نتفق مع لناكل مما نزرع ونلبس مما نصنع ونبعدها عن المفهوم الشعارى العشوائى التى طرحت بة. اول اعتراضاتى ان هذا الشعار لم يكن مبنيا على رؤية واضحة مركزها البشر وتقوية قدراتة المجتمعية ولكن مقدمة لتجميع الاموال العامة لصالح الحزب الحاكم. عملية الاعتماد على الذات كانت ممكنة قبلا بواسطة العنف السلطوى والحكم الفردى الشمولى وقد انجزت كثير من الدول هذة العملية (الاتحاد السوفيتى، الصين، اغلب دول اسيا..الخ) تحت شروط توفرت فى هذة الدول منها توفر قيادة كارزمية قادرة على التاثير على اغلب قطاعات الشعب واقناعة بالمقايضة التاريخية بين توفير العيش الكريم ثمنا للتخلى عن الحرية السياسية. هذة القيادة لها ميزات محددة اهمها القدرة على التواصل مع الجماهير، نمط حياة بسيطة وعادية ومعدلات فساد متدنية، ملائمة الظروف الدولية انذاك – منذ الحرب العالمية الاولى حتى نهاية الكتلة السوفياتية.

    هذا لم يعد مجديا ولكن الاعتماد على الذات فى تطوير السودان يحتاج لوفاق مجتمعى كامل، وضوح فى الرؤية، توفر التوعية بكل تفاصيل هذة العملية ودور كل فئة من الشعب فيها. هذة عملية اشبة باعادة هندسة المجتمع السودانى والتغيير السلوكى الكامل على قواعد الشفافية، الحكم الراشد واوسع الحوارات حولها. لقد تم فى اتفاقية السلام الشامل الاعتراف بان اجزاء كبيرة من السودان منعزلة ومتخلفة، مع حد ادنى للغاية من الخدمات الاساسية والبنية التحتية فى مناطق واسعة من السودان. هذة حقيقة مرة ولكنها المدخل للاصلاح متزامنة مع اصلاح سياسى شامل. من حظ السودان ان هناك تقييما كاملا لكل القطاعات الاساسية فى السودان عن طريق البعثة المشتركة لتقييم احتياجات السودان عام 2005 ، واذا ازلنا منها السياسات الاقتصادية المضرة للبنك الدولى خاصة حول الخدمات والحياة المعيشية، وحدثنا من الاحصائيات وحسبنا مقدار الضرر الذى سببتة الانقاذ منذاك فاننا سوف نجد امامنا برنامجا مفصلا لم ينفذ منها الا القليل.

    بدات كتابة هذا الكتاب بعد اندلاع الثورة الليبية فى مارس 2011 فى مدينة طرابلس و انتهى العمل فية فى مدينة امدرمان فى نهاية مارس 2012

    قبل الوداع

    استميح الذين قد يتابعون هذة الحلقات الملرهقة لاننى لم استطع وضعها فى سلسلة كما اقترح على الاخ الفاضل ابراهيم فضل اللة لاننى ببساطة لا اعرف كبف والمنبر لايعطينى فرصم ان اسال الا مرة واحدة فى اليوم الواحد واعتقد ان هذا قلة خبرة ايضا بتكنيك التكنلوجيا

    ربما ينال هذا العمل حظة من احتذاب بعض القراء - وهناك الاخوة الاعزاء عادل عبد العاطى، صلاح البندر ونادوس وابراهيم- ممن علقوا مبدئبا على الحلقات الاولى. لقد حاولت جهدى ان اقدم هذا الجهد المتواضع كملخص لتجربة حياتى العلمية والعملية، لاننى وكما اشرت سابقا لا استطيع ان اقدم اكثر من ذلك لوطن اعطانا الكثير فى حياتنا لعلها تكون ذات فائدة لجيل الشباب الطامح لسودان افضل واسعد مما ورثناهم اياة.

    اود ايضا ان اطلب مساعدة احد القراء الافاضل ان يرشدنى عن كيفية انزال الكتاب كاملا فى سودانيزاونلاينز -حوش الاستاذ بكرى الذى اهداة لنا باريحية وتحمل متاعبنا جميعها- فى صيغة البى دى اف لكة يتوفر الكتاب كاملا فى بوست لم يرغب فى انزالة والاحتفاظ بنسخة ورقية.على بريدى الالكترونى [email protected]

    اعتذر ايضا عن اختيارى وقتا ربما يكون غير مناسبا فى توقيتة، اذ ان السودانيون منهمكون فى اصلاح ما افسدتة الرؤى الفاشلة وربما للمرة الثانية قد اتهم ان انت فى شنو والحسانية فى شنو.

    اخيرا: اضفت مساهمة بسيطة عن البديل الديمقراطى ليست جزءا من الكتاب ولكن نتيجة لة.

    مساهمة

    قراءة هادئة فى وثيقة البديل الديمقراطي: البرنامج- الاعلان الدستوري

    سوف اتعرض للوثيقة التى اراها قد جاءت تتويجا لتطور الفكر السياسى السودانى من خلال تجاربة المريرة والفاشلة فى انتهاج رؤية اقصائية، مركزية عنصرية ادت الى كوارث عديدة من الحروب الطويلة والنزاعات وعدم الاستقرار. ليس همى هنا مناقشة الترتيبات الانتقالية وتفاصيل الاتفاقات، فهذة قمين ان يحسمها االصراع بين الدولة الفاسدة المستبدة والثورة السودانية. تماشيا مع منهج كتاب الرؤية فاننى سوف اتعرض للقضايا المفصلية التى سوف تحدد الرؤية لسودان المستقبل:
    اولا: دستور السودان: ثانيا: الخدمات: ثالثا: كيفية الوصول للرؤية السودانية وآلياتها.

    اولا: دستور السودان

    جاء فى الوثيقة المقترحة تحت هذا البند وما يتعلق بها:

    خلال الفترة الانتقالية المحددة تعقد الحكومة القومية المؤتمر الدستوري الذي يضع إطار الدستور الدائم ويحدد كيفية صياغته وطريقة اجازته. الالتزام بالمبادىْ والقيم التالية في كتابة دستور البلاد الدائم :-

    الدولة السودانية دولة مدنية ديمقراطية تتأسس علي المساواة بين المواطنين وتؤكد ان الشعب هو مصدر السلطات وتعتبر ان المواطنة هي اساس الحقوق والواجبات ويتضمن الـدستور وثيقة لحقوق الانسان تتأسس علي المبادىْ والقيم الواردة في المواثيق والاتفاقيات والعهود الاقليمية والدولية التي صادق ويصادق عليها السودان .

    عقد المؤتمر القومي الدستوري للاتفاق حول مبادي الدستور الدائم،علي ان تتعاهـد وتلتزم القوي الموقعة علي الميثاق بدستور مدني ديمقراطي، يكفل حقوق الانسان وفق المواثيق والمعايير الدولية، ولا تخضع فيـه حقوق الانسان وحقوق المناطق الاكثـر تخلفا لمعيار الاغلبية والاقلية.

    حددت الوثيقة فى الاعلان الدستوري الانتقالي الآليات التى ستتبع لانجاز هذة المهمة وكيفية الوصول اليها فى فقرة كاملة: تتولى الحكومه الإشراف على عقد المؤتمر الدستوري عبر لجنة تحضيرية ولجنة فنية تابعة لها قبل وقت كافى ودعوه ممثلي القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني و الشخصيات والشرائح المجتمعية والعسكرية المختلفة للمشاركه في المؤتمر الذي يقوم بتشريح أزمة الوطن ويقدم الحلول الجذرية لها ومن ثم وتأسيساً علي ذلك يتولي المؤتمر الدستوري وضع الإطار العام للدستور الدائم ويختار من يتولي صياغته ويحدد طريقة إجازته.

    لقد وضعت المبادىء والاليات بشكل واضح وموضوعى ولخصت بشكل فعال كل ما اختزنتة السياسة السودانية من تجارب وما افرزتة الثورات المعاصرة من خبرات سوف تناى بنا عن الدخول فى التوترات التى سادتها وعدم اعادة اختراع العجلة. لقد تناولت موضوع الدستور مطولا فى فصل سابق وكيفية توصلت القوى الرئيسية السودانية الى مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية. لقد شهد السودان من قبل محاولات الوصول لدستور دائم عبر نفس الآلية المقترحة وكانت فى كل مرة تتوصل غير مدنى وغير ديمقراطى وكانت هى المدخل لباب الالام فى السودان. سوف احاول ان اضع بعض التقاط فى هذا الطرح.

    لقد استطاعت وثيقة الازهر للحريات ان تستبطن علاقة الاديان، خاصة العلاقة بين المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية السمحاء ومنظومة الحريّات الأساسية التي أجمعت عليها المواثيق الدّولية، وأسفرت عنها التجربة الحضارية ، تأصيلًا لأسُسِها، وتأكيدًا لثوابتها، وتحديدًا لشروطها التي تحمى حركة التطور وتفتح آفاق المستقبل. وهي حرية العقيدة وحرية الرأي والتعبير، وحرية البحث العلمي، وحرية الإبداع الأدبي والفني، على أساس ثابت من رعاية مقاصد الشريعة الغراء، وإدراك روح التشريع الدستوري الحديث، ومقتضيات التقدم المعرفي الإنساني، بما يجعل من الطاقة الرّوحية للأمّة وقودا للنهضة، وحافزًا للتقدم، وسبيلًا للرُّقىّ المادي والمعنويّ، في جهد موصول يتسق فيه الخطاب الثقافي الرشيد مع الخطاب الديني المستنير. ان القراءة المتانية لتاريخنا توضح بجلاء ان الاتفاقات التى لاتحسم هذة العلاقة التى اوضحتها وثيقة الازهر بجلاء قنبلة موقوتة سوف تنفجر لاحفا ولابد ان نتفق حولها منذ البداية على ضوء هذة الوثيقة التاريخية التى اعطت قراءة بارعة من التجديد والاجتهاد الفقهى.

    لقد جاءت الاشارة بشكل مقتضب حول الآليات فى احدى اخطر قضايا الخلاف السياسى السودانى. لقد اقترحت الوثيقة ان تتولى الحكومه الإشراف على عقد المؤتمر الدستوري عبر لجنة تحضيرية ولجنة فنية تابعة الذي يقوم بتشريح أزمة الوطن ويقدم الحلول الجذرية لها ومن ثم وتأسيساً علي ذلك يتولي المؤتمر الدستوري وضع الإطار العام للدستور الدائم ويختار من يتولي صياغته ويحدد طريقة إجازته. ان هناك تجارب قديمة ومعاصرة حول هذة الاليات:

    اولا: كافة تجارب العالم، التى اتبعت هذا الطريق، انجزت دستورها عبر لجنة تاسيسة مستقلة تضم كافة اطياف الشعب من عدد محدد وتحدد بدقة الذين سيشاركون فى هذة اللجنة وكيفية تواصلها مع كافة احزاب، منظمات وتنظيمات افراد الشعب السودانى. المؤتمر الدستورى المقترح بلا اى مواصفات روشتة للخلافات والتفسيرات المختلفة وقد تجاوزها الزمن. ولابد من الاشارة فى الاعلان الدستوري الانتقالي المقترح الى الوقت التقريبى للتوصل للدستور الدائم.

    ثانيا: يمكن بعد ذلك ان ترفع هذة المقترحات لمؤتمر دستورى جامع بعد الاتفاق على ماذا يعنى المؤتمر الدستورى، من هم اعضائة، مهامة، صلاحياتة..الخ او التنوجة مباشرة لاستفتاء على الدستور.

    توصيات وبرامج مفصلة للفترة الانتقالية

    جاء فى وثيقة البديل الديمقراطى الاتى: تنظيم مؤتمرات قومية تخصصية تضم القوي السياسية والمجتمع المدني والخبـراء والمتخصصين حول الدستور الدائم ونظام ادارة الحكم والاقتصاد والتعليم والصـحة والثقافة والبيئة ...الخ والخروج منها بتوصيات وبرامج مفصلة للفترة الانتقالية، واجراء احصاء سكاني مهني وشامل كأساس للتنمية والخدمات ولاجراء انتخابات نزيهة وعادلة.

    الوثيقة حددت مسبقا فى البرنامج آلية التوصل لدستور دائم ونظام ادارة الحكم، ناقشناها سابقا. المقصود هنا مؤتمرات قطاعية تخصصية لوضع البرامج الانتقالية للخروج من الازمة الشاملة التى انحدرت اليها البلاد. هذا اجراءت وبرامج مؤقتة وعاجلة وهامة. هناك الكثير من التصورات والوثائق التى اصدرت سواء فى متن البعثة المشتركة لتحديد احتياجات السودان، منظمات الامم المتحدة المتخصصة وغيرها. هذا الجزء مرحلى وانتقالى واكثرة موجود فى الوثائق المتوفرة.

    البعثة المشتركة لتحديد احتياجات السودان

    عندما تم توقيع اتفاق السلام الشامل فى نيفاشا بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان فى يناير 2005 ، بدات لاول مرة فى تاريخ السودان المعاصر اضخم عملية اعادة تقييم لكل السياسات، التنظيم الهيكلى والتوجهات الاجتماعية والاقتصادية وذلك عن طريق البعثة المشتركة لتحديد احتياجات السودان خلال الفترة الممتدة من ابريل 2004 وحتى فبراير 2005. الوثائق الضافية الثلاثة المعنونة "البعثة المشتركة لتحديد احتباجات السودان" اعدتها الامم المتحدة والبنك الدولى تحت اشراف الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان ونشرتها فى 18 مارس 2005 (شاركت فيها 17 منظمة من الامم المتحدة، 10 مانحين، وعديد من السودانيين فى الداخل والخارج). وتصدت الوثائق لوضع اطار للسلام المستدام، التنمية والقضاء على الفقر مدعومة بالجهود والموارد المحلية وشركاء التنمية العالميين لمعالجة الاسباب الهيكلية للنزاعات والتخلف. وشملت الوثائق النظر فى ثمان موضوعات: التطوير المؤسسى واجراء اصلاحات شاملة في الحكم ، سيادة القانون، السياسات الاقتصادية، القطاعات الانتاجية، الخدمات الاجتماعية الاساسية، البنيات التحتية، كسب العيش والحماية الاجتماعية والمعلومات والاعلام. كما شملت القطاعات المتداخلة: البيئة، مرض نقص المناعة والايدز، النزاعات، حقوق الانسان والجندر. ان الجهد المبذول فى هذة الوثائق كان ضخما، متوازنا وواقعيا ومستجيبا فى غالبة لطموحات الشعوب ومحافظا على روح العدالة الاجتماعية. استطاعت هذة الوثائق ان تقدم لنا خلاصة تجارب العديد من المع العقول الدولية والاقليمية والوطنية البارزة وتصيغ لنا برامجا للخروج من المازق التاريخية فى تنظيم الدولة ومجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

    ثانيا: الخدمات

    جاء فى وثيقة البديل الديمقراطى الاتى: جاء فى وثيقة البديل الديمقراطى الاتى: انشاء مجلس قومي للتربية والتعليم يعمل علي ترقية التعليم، وتنقية محتواه من التزييف، وربطه بالتراث الوطني وخطط التنمية والتطور الانسانـي ويعمل علـي ادخال مادة حقوق الانسان والثقافات السودانية المتعددة في المناهج.

    لقد تناولت الوثيقة التعليم فقط من البضائع العامة Public Goods وهى الخدمات الصحية، التعليمية والمياة ( يطلق على الخدمات الصحية والتعليمة واضيف اليها فى السودان المياة اسم البضائع العامة وهى الخدمات التى يجب ان تتوفر فى اى دولة لمجموع السكان). هذا هو المجال اللذى تعرض للتخريب الاقصى فى الحكم العسكرى الثاني والثالث، فاحيانا كاستجابة للروشتة الضارة للبنك الدولى وشبيهاتة من دعاة الخصخصة وخروج الدولة من الخدمات. ان بداية المسألة هى فى دخول الدولة فى معطف الراسمالية الطفيلية وخروج الدولة من التمويل. من المهم اعادة النظر فى تمكين المجتمعات ودورها فى رسم سياسات الخدمات التى تقدم لها والتخطيط لها.

    ان اى رؤية للسودان لابد ان تشير بوضوح للبضائع العامة على قدر المساواة لانها محددات مسئولية الدولة تجاة مواطنيها، ويسبب غيابها الافقار والعجز. مدخلنا الى هذة القضية الخروج من اسار اعادة هيكلة الاقتصاديات ووصفات البنك الدولي حول تكلفة الخدمات الاجتماعية وان تعود الخدمات الاساسية التعليم والصحة جزءا من المسئولية الاجتماعية للدولة ورفع المخصصات الى 15% من الناتج الاجمالى القومى لكل منهما. قضايا التعليم واضحة ومباشرة يحسها كل مواطن وتحتاج لعقد سياسى ملتزم ضمن عملية التحول الديمقراطى.

    ثالثا: كيفية الوصول للرؤية السودانية وآلياتها

    لقد ناقشت فى كتاب الرؤية مكامن فشل الرؤى السودانية التى حكمت السودان وكيفية انها قادتنا الى هذا الوضع الراهن. ان المرحلة الانتقالية هى المكان والزمان المناسب للاتفاق حول رؤية صائبة للوطن. من المهم الاتفاق على رؤية موحدة تقودنا الى سودان المستقبل وتنبع منه البرامج التى يمكن تحقيقها فى المراحل المختلفة.

    الرؤية ليست عملا تقوم بة مؤتمرات قومية متخصصة، قد يفلح هذا فى توصيات وبرامج مفصلة للفترة الانتقالية، لكن المطلوب الرؤية العامة. فى هذا الخصوص اقترح الاتى:

    اولا: تكوين لجنة من خبراء فى المجالات المختلفة، الاحزاب، المنظمات والتنظيمات تكون مهمتها وضع الرؤية العامة لسودان المستقبل - مثلا رؤية السودان 2025-تدعمها دراسات متنوعة موجودة او تجرى. نستعين فى هذة بالتجارب الناجحة فى ماليزيا والهند ودعوة الخبراء الذين ساهموا فى وضعها. الرؤية هى اتفاق بين كافة اطياف الوطن وترى جميعا نفسها فيها.


    ثانيا: الرؤية ليست وثيقة من الخبراء او برامج الاحزاب وان كانت تشملها، لكن تتاح لها كافة وسائل النقاش العام عن طريق الاعلام، الصحف، المواقع الالكترونية، الندوات الجماهيرية العامة والقطاعية، جلسات الاستماع، المخاطبات الجماهيرية، الملصقات، المسرح والسينما وغيرها.

    (عدل بواسطة د. عمرو محمد عباس on 08-06-2012, 00:44 AM)

                  

08-06-2012, 11:12 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (10) والاخيرة (Re: د. عمرو محمد عباس)

    شكرا د. عمرو على الجهد الكبير
    الرجاء ارسال كامل الكتاب - لو امكن على بريدي الالكتروني -
    [email protected]

    حتى استطيع المساهمة بالتعليق عن الكتاب كاملا
    - رغم تسهيل القراءة في حلقات كما نشرتها الا انه من الصعب التعليق عليها وذلك لتوزعها في 10 حلقات -
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de