كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (3)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 11:31 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-29-2012, 04:21 PM

د. عمرو محمد عباس


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (3)

    اود تحية كل من كتب مرحبا بالكتاب وسوف اقوم بالتواصل معكم جميعا عند نهاية نشر الكتاب

    الفصل الثالث: الرؤية السودانية الاولى: المهدية

    هى طبيعة قديمة للسودانيين فى الانفتاح على كافة التجارب الاقليمية والعالمية والاستفادة منها (منذ دولة كوش، نبتة، مروى والعلاقة مع بابا روما واقتراح عثمان شيخ الدين بن الخليفة عبداللة برفع العلم الفرنسى لايقاف الغزو البريطانى المصرى كامثلة فقط وربما تجدر الاشارة هنا الى وجود بعض الاحياء فى بعض المدن باسم كوريا من تاثير الحرب الكورية...الخ) والتى قادت فى دول العالم من اسيا الى امريكا الجنوبية وعدد قليل من الدول الافريقية ودول الخليج الى تطور مذهل. طويل هذا السفر العظيم الذى تناول كافة جوانب الحياة المادية فى السودان ومثلت مطبوعة السودان فى تقارير ومدونات الذى ظهرت اول اعدادة عام 1918 وتقارير الاداريين ومجلدات التسليم والتسلم التى كانت جزءا من انشطة الخدمة المدنية وسائلا لنقل الخبرة بين الاجيال المتعاقبة، الى الحد الذى جعل البريطان يوصون كل الدول التى كانت تحت سيادتهم للاستعانة بالسودانيين فى التعليم وشئون الخدمات الاخرى. هناك عوامل تدخلت وحالت بين ان تطبع هذة التقاليد العلمية والثقافية طرائق تطور الدولة السودانية على المستوى السياسى والتنموى اذ تميزت العلاقة بين جهاز الدولة السياسى والتنفيذى بقطيعة تاريخية منذ التدخل العنيف للاحتلال التركى للسودان وما تبعها وقطيعة عقلانية بهيمنة الطوائف و الطرق الصوفية والمشائخ على الشارع السياسى منذ الاربعينات وتيار الدولة الدينية منذ التسعينات.

    لعب الدين دورا فاعلا فى المجتمع السودانى طوال تاريخة المعروف، لكن دور الدين فى السياسة ودور رجال الدين هو الذى تغير على مر عصورة. عبر مسار طويل تطور السودان تدريجيا وتلقائيا منذ دولة كوش ومروى ثم تبنى المسيحية وانشاء الممالك المسيحية الثلاث واستمرارها فى التاريخ بعد اتفاقية البقط وتسرب الاسلام كقبائل عربية اولا ثم كديانة. السمة الاساسية لبنيتة كانت الاتحاد الطوعى للقبائل المختلفة تحت حكم فيدرالى مع حريات واسعة للتدين والتحرك. عندما بدأت الاليات القبلية تضيق عن تولى تنظيم الانشطة التجارية والاقتصادية المتنوعة تحولت السلطة القبلية لنظام حكم تراتبى كضرورة لتنظيم، وحراسة و توسيع الحركة التجارية الممتدة من افريقيا الى الجزيرة العربية لمصر واوروبا وادت لنشوء السلطنة الزرقاء كسلطة اتحاد قبلى بين الفونج والعبدلاب، وسلطنة الفور وغيرهما. وفى نفس الزمن وفد عامل جديد تمثل فى الطرق الصوفية واستطاعت ان تصبح سلطة اخلاقية فوق قبلية وترفد المجتمع بروح التسامح الدينى والثقافى وقد لعبت الطرق الصوفية دورا بارزا فى التوحد القومى، اذ انها فوق قبلية وساعدت بالتالى على فتح الحدود القبلية والتجارة والتصاهر..الخ. وكانت فى معظمها ذات نزوع حجازى حيث مرقد سيد الخلق وموطن رسالتة، وبالتالى غير مكترثة بالتدخل فى شئون الدولة وان لم تنقطع عن العلاقة مع الشمال مع المؤسسة السلطانية –الازهر- وانشاء الرواق السنارى فى الازهر والذى سيزداد مع الزمن، بازدياد ارتباط الصوفية بالدولة.

    غير الحكم المركزى والتكوين الجغرافى للسودان الحديث والقسوة فى جمع الضرائب، ادخل الحكم التركى فقهاء السلاطين وهو تراث عثمانى ضارب فى القدم منذ تركيا البيزنطية وانتقالها الى تركيا الاسلامية. وبدلا من زعماء الصوفية وعلماء الدين المستغنين عن السلطة والمعتمدين فى رزقهم على عملهم وتطوع مريديهم بالعمل لهم، والذين يوصلون شكاوى الامة الى حكامها، تحولوا الى موظفين لدى الدولة الجديدة. اصبح الدين فى تفسيرة المنغلق والمحمل بتراث الدولة البيزنطية وتقاليدها جزءا من مسوغات الاحتلال التركى ومبررا لها وتدريجيا جذبت دائرة المال والنفوذ التى فرشتها السلطة كافة الاتجاهات الصوفية والشعبية. وبدلا من الخلوة والمسيد والحيران انشات الدولة نظاما مركزيا متشعبا ودقيقا للقضاء والافتاء ومحاكم شرعية ...الخ. ليس هذا فحسب ففى جانب اخر تم التضييق على المؤسسات التعليمية الصوفية (عبد الله علي ابراهيم، الصراع بين المهدي والعلماء، مركز الدراسات السودانية 1994).

    هذا هو جذر الدولة الابوية الذى ورثتة القوة الوطنية المقاومة ضد الاحتلال التركى، الثورة المهدية. فالثورة التى رضعت و شبت على الموروث الصوفى فى اقصى درجاتة – المهدية- تحولت الى المركزية المتشددة فى العقيدة ومنعت كل المذهبيات والطوائف والتفسيرات سوى مفهومها عند مؤسسها محمد احمد المهدى والمركزية المتشددة فى الدولة عند بانيها الخليفة عبد اللة التعايشى. لذلك عندما ارادت انشاء دولة الفكر الواحد والمذهب الواحد والسلطة المركزية لم تجد بغيتها فى السودان النيلى المشبع بالعلاقة الوثيقة بالسلطة وتشابكات مصالحها، فاتجهت الى هامش الدولة الرعوى للبحث عن الدعم السياسى و تكوين الدولة. وبدلا ان تكسب عناصر الطرق الصوفية والاسلام الشعبى (وكانوا جميعا من مرشدي المهدى) دفعتهم الى الانحياز الى السلطة المعادية من غردون فى الخرطوم ولاحقا الحكم الانجليزى المصرى.

    الثورة المهدية

    ولد الامام محمد احمد المهدى فى جزيرة لبب بدنقلا وتعلم القراءة والكتابة وحفظ القران الكريم وهو فى الثانية عشرة من عمره وكان والده يعمل بصناعة السفن وانتقل مع والده و اخوته الي الجزيرة ابا بولاية النيل الابيض. درس القران وعلومه علي يد عدد من المشايخ منهم الشيخ محمد شريف نور الدائم على الطريقة السمانية ثم الشيخ محمد الخير الغبشاوى على الطريقة القادرية والشيخ القرشي ود الزين على الطريقة السمانية ومن الجزيرة ابا بدأ دعوة المهدية. اذا جاء الامام مشبعا بالتراث الصوفى الذى كان مشبعا بفكرة المهدية القادمة من الفكر الشيعى ولكن بمفهوم وآلية مختلفة، وفى نفس الوقت فهى داخل المنظومة السنية واورد كثير من أئمة الحديث أحاديث نبوية بأسانيد مختلفة الصحة عن علامات المهدية وأوصاف المهدي وغيرها، وهو مطلع على التراث المتاخر مثل ابن عربى الذى وردت تعابير عديدة من كتابة الفتوحات المكية فى المنشورات. ( د.عبد اللة على ابراهيم، مرجع سابق).

    اثر رفض القبائل النيلية المستقرة والمرتبطة بالحكم التركى للدعوة اتجة المهدى غربا وبدأت دعوتة تجد استجابة من القبائل الرعوية (البقارة) والهوامش الطرفية البعيدة عن مراكز الحكم. هذة السمة ستصاحبة طوال تاريخة المعاصر فى انحصار المهدية فى مناطق دارفور وبعض اجزاء كردفان ومنطقة النيل الابيض التى شهدت اعادة توطين قبائل الغرب العربية فيها فى زمن الخليفة وجيوب صغيرة فى ارجاء البلاد بينما انتشرت الختمية، ومن ثم الاحزاب المرتبطة بها، فى شمال السودان وشرقة وبعض اجزاء كردفان وجيوب فى ارجاء الوطن.

    اورد السيد الصادق المهدى فى كتابة يسالونك عن المهدية حال السودان عشية الثورة المهدية عن اسبابها واوجزها فى فساد الحياة الدينية ولم يعد مأمولا في الطبقات القيادية المعهودة إصلاح، تسلط الحكم نهبا وسلبا وحرمانا للرعية، انتشار الظلم الاجتماعي حيث نهمت بالامتياز قلة وجدرت من الحقوق قابلية السكان وصار الحكم معزولا يطبق سياسات لا صلة لها بواقع البلاد. اما المغفور لة مكى شبيكة فقد ربطها بالمعتقد الدينى " وكان الناس يهمسون بالتطلع للخلاص على يد صاحب الزمان. المحرك الأول للثورة هي المعتقد الديني وشخصية الأمام المهدي ( مكى شبيكة : السودان والثورة المهدية، الخرطوم : دار جامعة الخرطوم للنشر، 1978 ) .

    سال د.عبد اللة على ابراهيم وقبلة هولت انة بالرغم ان الظلم والقهر وسوء الإدارة ظل لصيقا بالإدارة المصرية واحتمله السودانيون لمدة الستين عاما فلماذا اندلعت الثورة في عام 1881 م ؟ . ولماذا لم تندلع في وقت أسبق ؟ لماذا ضاق السودانيون ذرعا بذلك النظام في ذلك الوقت بالذات ؟ ولماذا انتظرت الثورة حتى منتصف القرن التاسع عشر لتنفجر. نبحث عن الاجابة فى توفر الشروط الموضوعية من الاستبداد وسوء الادارة من القوى الحاكمة، ثم السخط وتناقض مصالح فئات واسعة من الشعب مع السلطة (اهمها الشعب المرهق بالضرائب والاذلال، الادارة الاهلية الواقعة بين مطرقة المركزية الشديدة وسندان الضرائب الباهظة المطلوب جمعها، الطرق الصوفية المهمشة والطبقة التجارية المحرومة من التمدد داخليا وخارجيا). لم تكن الثورة المهدية منعزلة عن المقاومة التى ابدتها فئات متنوعة من الشعب للحكم التركى بل سبقتها تحركات متنوعة منذ هبة المك نمر الى تمرد الشيخ البدوى فى كردفان 1844 ، انتفاضة الجهادية السود فى التاكا 1865 وغيرها. لكن لم تكتمل شروط الثورة الا مع الامام محمد احمد المهدى بتوفر كافة الشروط التى تقود شعب ما الى الثورة. فكيف استطاعت الفكرة المهدية ان تقدم القيادة الملهمة والجماعة المؤمنة التى استطاعت انجاز الثورة.

    ربما واجة الامام المهدى نفس الموقف الذى ادى لقيام كافة مدارس المقاومة الاسلامية من شيعة، خوارج، صوفية وغيرها على اثر بداية الحكم الاموى. كيفية مواجهة نظام اسلامى بمقاومة اسلامية والانقلاب علية وتجاوز المجرى العام لكل الموروث السنى الرسمى. ربما كان حال الاوائل افضل حالا لانهم كانوا اقرب للخلافة الراشدة ولم تتأسس بعد المبررات الفقهية والتبريرات النصية. جاء الجواب من داخل المنظومة الصوفية فقد تتلمذ على ابرز ممثلى الطرق الصوفية خاصة السمانية التى اعطتة خريطة الطريق " قال الشيخ الطيب البشير ( السمانى): أول ما خلق الله معرفته الدالة على ذاته صفاته وأفعاله وبثها في أرواح الخلق منذ يوم: الست بربكم. والمعرفة التي قسمت على أرواح الخلق يومئذ ثلاثة أصناف:

    1.معرفة إجمالية: تكفي لأغراض عامة الناس.
    2.معرفة تفصيلية: وهي التي يدركها أهل السنة وعلماء الكلام وفيها تنزيه الله ذاتا، وصفاتا، وأفعالا. وهؤلاء يفهمون من عبارة: لا إله إلا الله معناه: لا مستغنيا عن كل ما سواه إلا الله.
    3.معرفة إلهامية: أي معرفة الخواص وهي آتية لخوص العباد بالهام الله لا بكسب منهم. والأدلة الإسلامية عليها قوله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) . وقوله: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) وهؤلاء الخواص يفهمون من عبارة "لا إله إلا الله"، ان معناها: لا فاعل في الوجود إلا الله. حتى إذا سرى في القلب هذا المعنى أيقن الشخص ان لا حي في الوجود إلا الله. ثم أدرك ان لا موجود إلا الله". (الامام الصادق المهدى: مرجع سابق ).

    هنا برزت احد خاصيات تحولات الصوفية فى السودان، اذ تحرك الامام المهدى مباشرة عن طريق تبنى مشروع سنى مقبول ( المهدية) كثورة وطنية على الاستبداد والظلم لتغيير المجتمعات الاسلامية وبذلك فقد قصد اسقاط كل سند ومشروعية الدولة المستبدة ( المؤسسة القائمة على الخلافة الاسلامية فى اسطنبول)، ولتجاوز مشروعية الشريعة ونظام الدولة الفقهى السنى فقد اسس مشروعية الدعوة ضد حكم مسلم على الحضرة النبوية والكرامات فى مواجهة علماء السلطة السلفيين وممثلى الحركات الصوفية. كما استند كثير من جاءوا بعد الامام المهدى ممن ادعوا انهم النبى عيسى على مفاهيم مشابهة." كان الشيخ محمد أحمد منصرفا للإصلاح الذاتي ولكن حالة " هجمت " عليه نقلته من إصلاح ذاته فقط إلى إصلاح ما حوله كذلك: اتجه من عمارة الداخل إلى عمارة الداخل والخارج، وكان الشيخ محمد أحمد شابا مشهودا له بالصدق والأمانة لذلك عندما أعلن انه المهدي المنتظر آمنت بدعوته عصبة من الناس، والتقت هذه الأحوال الذاتية بتلك الظروف الموضوعية فشقت الدعوة عنان السماء. (الامام الصادق المهدى: مرجع سابق ).

    واجة الامام المهدى صراعا مع بدء ثورتة، على النطاق العسكرى ولكن يهمنا الصراع على المستوى الفكرى والتى بدأ من اعلى المراتب باصدار السلطان عبد الحميد منشورا يكذب فية دعوة المهدى وزع وقرأ فى كافة ارجاء السلطنة العثمانية وكذلك فعل الازهر ولكننا سنتناول رسالتى السيد احمد الازهرى بن الشيخ اسماعيل الولى (شيخ الاسلام فى عموم غرب السودان) والشيخ الامين الضرير (شيخ الاسلام فى عموم شرق السودان) لانهما كانا رد الفعل المحلى المعبر عن مصالح المجموعات المرتبطة بالتركية ومؤسساتها المختلفة ولحدما عن فكر طبقة العلماء ذات المرجع السنى الاشعرى وتاريخ طويل من دول الملك العضوض. انطلق الشيخان من قبول الفكرة المهدية كجزء من الفكر السنى لكن جادلا على الخروج على ولى الامر كمسالة مبدئية ثم نظروا لنسب المهدى، صفاتة، مكان ظهورة ...الخ . الرسالتان انطلقتا من تناول قضية مركزية فى الفقة السنى وهى طاعة السلطان (خليفة المسلمين ) وان الخروج علية كفر، ثم ايراد الشواهد على شرعية الحكم القائم وعدالته في تصريف الأمور. التناول الثانى انة مع التسليم بحجية المهدية فى التراث السنى لكنهم اوردا عدم تطابق اوصاف وشروط المهدية على الامام محمد احمد المهدى. على مثل هذة الحجج ومنوالها جاء كثير من النقد رسائلا وشعرا.

    انطلق الامام المهدى فى ردة على منتقدية اولا بالجزء الاسهل بالمطابقة بالصفات الشخصية والمكانية والنسب النبوى الشريف، وان غرض المهدية هو إحياء الإسلام عن طريقة الالتزام بالكتاب والسنة. ورفع التفرق من تمذهب وتطرق، ودعوة الإمام المهدي مختلفة عن المهدية لدى الصوفية فمهدي الصوفية يقرأ اللوح المحفوظ ويقوم بدور أساسي في تدبير نظام الكون. كما ان دعوته مختلفة عن المهدية التي ينتظرها الشيعة الذين ينتظرون الإمام الثاني عشر ان يرجع فيقوم بالدور المنحدر إلي من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومما يباعد بينه وبين المفاهيم الشيعية انه جعل المكانة الثانية بعده لغير أولي قرباه.

    اما الجزء الصعب فكان ابطال دعوة الخروج على السلطان وهذا كان جوهر استدعاء المكون الصوفى فى دعوتة " هجمت على الخلافة الكبرى من الله ورسوله وأعلمني النبي باني المهدي المنتظر". " والذين يتحدثون عن معرفة ما هو آت عن طريق النصوص المنقولة والعلوم والكشف يجب ان يدركوا ان الكشف يتخلف ويثبت غيره وقد قال تعالى: ( وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) . محي الدين بن العربي: "علم المهدي كعلم الساعة، ولا يعلم الساعة إلا الله تعالى". وقال الشيخ أحمد بن إدريس: كذب في المهدي أربعة عشر نسخة من نسخ أهل الله (أي كذب ما قالوه لقصور علم الانسان). وقال: سيخرج المهدي من جهة لا يعرفونها وعلى حال ينكرونه. فان محاولة البت في أمر الدعوة المهدي بالرجوع إلى النصوص وحدها لا تجدي لانه من المعلوم ان الحديث الصحيح ينسخ الحديث الصحيح، والآيات تنسخ الآيات. (الامام الصادق المهدى: مرجع سابق ).

    اثبات المهدية بالكشف الصوفى شىء، ولكن الرجال والقبائل يهمها الواقع العيانى وهنا اتجة الامام للواقع الاجتماعى، وكان قد سبقة اليها الشيخ محمد العوام وهو أحد زعماء الثورة العرابية في مصر" نصيحة العوام للخاص والعام من أخواني أهل الإيمان والإسلام "، الذى اسقط إمامة الخليفة العثماني لانه لم يعد مطبقا للشريعة الإسلامية، ولم يعد مستقلا بسيادة دولته التي استباح حرماتها الأجانب وكذلك ولاية الخديوي في مصر فقدت شرعيتها لانها تخلت عن الشرع واستغلت شعب مصر، وظلمت الفلاح المصري، وفي نهاية الرسالة يوجه العوام نداء للمسلمين لتأييد الإمام المهدي. قال الامام فى احدى رسائلة "ان هؤلاء الترك لما بسط الله عليهم النعم ومد لهم في العمر وطول العافية ظنوا ان الملك لهم والأمر بأيديهم وخالفوا أمر الله وانبيائه ومن أمره بالاقتداء بهم وحكموا بغير ما انزل الله وغيروا شريعة سيدنا محمد وسبوا دين الله. ان الترك كانوا يسجنون رجالكم ويسحبونهم في القيود ويأسرون نساءكم وأولاكم ويقتلون النفس التي حرمها الله بغير حقها. وكل ذلك لأجل الجزية التي لم يأمر الله بها ولا رسوله. ومع ذلك لم يرحموا صغيركم، ولم يوقروا كبيركم. وكيف نسيتم هذا كله، ولم تأخذكم الغيرة في دين الله ولا في انتهاك محارمه؟".(الامام الصادق المهدى: مرجع سابق ).

    الرؤية السودانية الاولى: المهدية

    عندما نتعرض لرؤية المهدية فاننا نتعرض لها من واقع الفعل الايجابى الذى طرحتة والافكار والمناهج التى اعتمدتها ولكن يجب رؤيتها فى اطارها التاريخى وقصورها الداخلى. انتصرت المهدية من تحالف ضخم ضم بعض شيوخ الصوفية (الشيخ محمد الخير، العبيد ودبدر...الخ)، الطبقة التجارية والجلابة التى تضررت من تغول التجار الاجانب والغاء الرق والضرائب حتى موظفى الدولة والكتبة ولكن قبل هؤلاء كان الفقراء والمعدمين الذين طردوا من اراضيهم وارهقتهم الضرائب والاذلال والبطش الوحشى وعند دخولها امدرمان منتصرة كانت قد شكلت التجربة الاولى فى التحرر من الاستعمار. يمكن بلا مواربة ان نقول انة اذا كان السودان صنيعة تركية فان القومية السودانية صنيعة مهدية، ومثلت فى توجهها العام حتى وفاه قائدها الرؤية السودانية الاولى لبناء الوطن فى عصرنا الحديث. ان الملامح الفكرية فى التعامل مع المعطيات المحلية والعثور على حلول عملية لها كانت تنبىء عن عقل استراتيجى مبرز وعن رؤية صائبة تجلت فى عدة سياسات:

    اولا: رغم ان الغاء المذاهب واعتماد مذهب واحد مما اخذ على المهدية فقد كان الموقف من التراث بمجملة متطورا في ان الاتباع لا يمنع التجديد:" قال المهدي في منشور بتاريخ 1302هـ (1885م) مشيرا إلى تبرير حكم من أحكامه بان المصلحة هي التي اقتضته ذاكرا ان مراعاة المصلحة هي التي جعلت بعض الآيات تنسخ آيات أخرى. وقال ايضا الآتي: "وارفعوا حوائجكم إلى بالصدق مع الإقبال. ولا تعرضوا لي بنصوصكم وبعلومكم على المتقدمين: فلكل وقت ومقام حال. ولكل زمان وأوان رجال". وسنجد ان صدى هذا الموقف متجذرا فى التعامل المتطور لكيان الانصار وحزب الامة مع متغيرات العصر.

    ثانيا: اما التضييق على الصوفية فاننى اعتقد انة كان اجراءا مؤقتا لتوحيد البلاد تحت الحكم الجديد واذا قرأنا خطابات المهدى لزعماء الطرق الصوفية والعلماء فسنجد انها كانت تنطلق من موقع الندية والاحترام " وأشار المهدي إلى ان دعوته جمعت محاسن ما في الطرق الصوفية، وأضافت ما يلزم للعمل الإيجابي والجهاد. هذا وارد بيانه في خطابه للشيخ محمد الطيب له في حضرة: " الطريقة فيها: الذل، والانكسار، وقلة الطعام والشراب، والصبر، وزيارة السادات. فتلك سنة. والمهدية أيضا فيها سنة: الحرب، والحزم، والعزم، والتوكل، والاعتماد على الله، واتفاق القول. فهذه الاثنا عشر لم تجتمع لأحد إلا لك".

    ثالثا: تم اختيار الخليفة الاول من خارج اهل البحر - كاول واخر حاكم فى تاريخ السودان المعاصر- كانت تعبيرا عن نهج فى معالجة القضايا الاقليمية واختيار قيادات من عامة الشعب والهوامش مثل حمدان ابو عنجة، الزاكى طمل، عثمان دقنة، عبد الرحمن النجومى ومن الفور والفونج والنوبة... الخ رغم انضمام وجهاء قومهم للمهدية ولذلك نجد ان خلفاء الإمام المهدي والأمراء واصحابا الرايات يمثلون بقاع السودان المختلفة. هذه القيمة التي ذكرها الشاعر والمادح ود سعد في مدحته "خليت الحر يقول للعبد سيدي.". من جانب آخر فان الامام المهدي أضاف بعدا جديدا لمفهوم المساواة وهو المواطنة بجانب الكفاءة والشعبية لمن هم أجدر بقيادة الأمة بإعتبارها لب روح الانصاف والعدل والحق الذي ينظم التعاملات بين البشر. (عبد الله محمد قسم السيد: حسن مكي والثورة المهدية -الحلقة الثانية، http://www.sudaneseonline.com )

    رابعا: ملكية الارض، التجارة المحلية والعالمية والموقف من الاقارب وغيرها كانت تهدف لسياسة متوازنة وعادلة ضمن الظروف السائدة وكانت ترتبط بمفهوم المساواة وتتمركز حول فكرة العدالة الاجتماعية كما تشير اليها سياسة الارض فى ايام المهدية الاولى " و لا يدعي احدكم وراثة الارض عن ابائه و اجداده لياخذ عنها خراجاً و يقيم هو ساكن فيها لاجل ذلك". و قد علق د. القدال علي ذلك، صائباً، بقوله "و لم يفرض المهدي تلك السياسة علي الناس فرضاً، بل توسل اليها بالموعظة الحسنة و الموقف الاخلاقي العام". خفضت الدولة المهدية الضرائب علي الزراعة، بل واعفت الناس عنها احياناً. لقد كان ذلك فعلاً إيجابياً، سيما وانه كانت للسودانيين تجربة ضرائيبية قاسية و مميتة تحت النظام التركي ـ المصري الذي سبق المهدية. ان الملمح الاساسى لاقتصاد المهدية هو تدخل "بيت مال المسلمين" كمؤسسة دولة في النشاط الزراعي، و من منطلقٍ مختلفٍ تماماً من حيث انه "ادخل "نظام التزرعة" ، و هو نظام يقوم الناس فيه بزراعة الارض مشاركة مع بيت المال، ثم يقسم المحصول بين المنتج و بيت المال". و هنا لابد من ملاحظة ان هذا الموقف يمثل الاضافة الحقيقية، و في نفس الوقت النقطة " الفارقة" بين الدولة المهدية كدولة وطنية و دولة الاتراك كسلطة استعمارية. (صديق عبد الهادي: ثقافة الاستثمار الامريكية جانب من تاريخية علاقتها بالاقتصاد السوداني http://www.sudaneseeconomist.com)

    جاء الموت السريع للامام المهدى بعد عدة شهور من سقوط الخرطوم وتأسيس الدولة وتولى الخليفة عبد اللة التعايشى مقاليد الامور، وظهرت مهاراتة فى بناء الوطن وتثبيت الاستقلال وتقوية القوات المسلحة، تأسيس الجهاز الادارى للدولة الوليدة والتوثيق الدقيق لكل أوجه نشاط الدولة المهدية شاملا النشاط الحربي والإداري والمالي والخطاب الإعلامي والفكري والوعظي، لكن العقل التكتيكى للخليفة لم يكن قادرا على المضى فى تحقيق رؤية شاملة. اشتعلت المنازعات بينة وبين ابناء البحر واقارب المهدى وادت لتفتت المجتمع، وللتعامل مع هذا بدأ فى نقل القبائل الرعوية من غرب السودان الى العاصمة والمدن الكبرى وما صاحبها من مصادرة الاراضى والدخول فى حروب متتالية معظمها غير ضرورية وبعضها خاطئة استراتيجيا مثل جردة النجومى لمصر وحروب الحبشة وقد ادت الى انقطاع الناس عن الزراعة وحدوث المجاعات وتكاثر الاعداء على الدولة. اخيرا اذا كانت الكرامات والرؤية سبيل الامام المهدى وميراثة فى الدعوة المهدوية فهى خاصة بة ولاتنتقل الى الخليفة او الورثة وقد استعمل الخليفة الحضرة النبوية فى تبرير كثير من قراراتة حتى تحديد ساعة معركة كررى.
    الحركة الصوفية التى دخلت السودان كانتشار لتيار اسلامى كان لها الوجود الفاعل فى التيارات التى اصطرعت طوال القرون الهجرية الاولى، وبوجود ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية متشابهة لعبت دورا استثنائيا فى نشر الاسلام وتوحيد اطراف الامة والمشاركة الفاعلة فى تكوينات السلطة، حتى استلم احد تياراتها السلطة بصعود المهدية. سنتابع لاحقا وعن كثب دور السلطة الاستعمارية فى التعامل مع الطرق الصوفية واهتزاز موقفها من التشديد على بعضها وتشجيع اخريات الى التغير المنهجى فى الاعتماد عليها كشريك اساسى فى السيطرة على الحركات الدينية المقاومة فى اول العهد ولاحقا على احتواء تحركات الطبقة المتعلمة ضد الاستعمار.

    الفصل الرابع: الرؤية الثانية: رؤية ثورة 1924

    كانت السلطة الاستعمارية الجديدة قد درست السودان طوال عهد الاحتلال التركى والحكم المهدوى ( تقارير القنصليات الاوربية ثم لاحقا كتاب سلاطين باشا: السيف والنار فى السودان و النمساوي الاب جوزيف اهرولدر وشارلس نيوفلد وغيرهم)، فبدات اولا بتصفية كل اثار الحركة المهدوية المنظمة وتراثها وابنائها الى حد قتلهم جميعا عدا الامام الراحل عبد الرحمن المهدى الذى نجا باعجوبة. ثم بدات باستيعاب الذين خدموا الدولة المهدية فهم ينتقلون من الفكر الواحد الى نفس الفكر الواحد، اى انهم يغيرون المخدم ولان جلهم كانوا من النوع الثانى ممن قال فيهم الخليفة عبد اللة التعايشى (ود النجومى يخاف من الله ولا يخاف من الخليفة، وفلان يخاف من الخليفة ولا يخاف من الله، أما النور عنقرة فلا يخاف من الله ولا يخاف من الخليفة)، فقد انتقلوا بسهولة من راتب المهدى الى مرتب الحكومة. ومع اعادة الاعتبار للجهاز المركزى السنى الفقهى واحتواء الحركة الصوفية وتحويلها الى طائفة تراتبية ضمن جهاز الدولة تعتاش عليها وتمول من قبلها، اجهز على الموروث القادم عبر القرون من الممالك السودانية واحتمالات تطورها التى كانت محملة بها. (جمال عنقرة: شخصيات وأحداث محاولة لجمع بعض شتات تاريخنا المبعثر ... سودانايل)

    عشية الاستعمار الانجليزى المصرى

    كانت الثورة المهدية عند تحولها لدولة قد بدات فى الضعف التدريجى بفعل التناقضات الداخلية، التشدد الفكرى والانعزال الخارجى وانهيار البنى الاجتماعية والاقتصادية، وفى نفس الوقت كانت مصر قد سقطت فى قبضة المستعمر البريطانى بعد هزيمة المشروع التحررى العرابى ونفى القادة وتشريدهم واكتمال سيطرة المصالح الاقتصادية العالمية على مقدرات البلاد. ترافق هذا مع فترة التكالب على افريقيا من الدول الاوربية ورغبة المصالح الاقتصادية العالمية فى السوق السودانى ولكن توقيت قرارالغزو اتخذ لاسباب دولية فى وقف الزحف الفرنسى من الجنوب والايطالى من الشرق كما يرى البروفسير تيم نبلوك.

    على سفوح جبال كررى شمال امدرمان وفي الثانى من سبتمبر 1898م شاهد القوات المسلحة الانجليزي المصري امامه في ذلك الصباح اكبر حشد عسكري شهدته افريقيا منذ الحروب الصليبية، فيما عدا بضعة الاف يحملون البنادق كان الانصار جميعا مسلحين باسلحة بدائية من القرون الوسطى تمثلت في السيوف والحراب والفؤوس والسكاكين، وكثير منهم كان يحمل ترسا، وبعض الامراء كانوا يلبسون الدروع الحديدية . كان ثلث القوات المسلحة الذى غزا السودان ستة كتائب من المحاربين السودانيين الاشداء الذين تم تجنيدهم عبر السنوات من الرقيق الذين تم اسرهم من المناطق المختلفة فى السودان. فقد الانصار في معركة ام درمان اكثر من 15 الف وجرح 16 الف فى ساعتين بفعل الاسلحة الرشاشة الثقيلة وقذائف الهاوتزر التى استعملت لاول مرة فى الحرب ضد الفرسان والمشاة و لم ينكص اى سودانى على عقبيه رغم المجزرة و الموت المحقق. كانت خسائر كتشنر ضئيلة للغاية، فقط ثمانية واربعون قتيلا وثلاثمائة واثنان وثمانون جريحا. ان المقارنة ممتنعة في تلك المعركة، لكن جورج استيفنـز احد المراسلين الحربيين البريطانيين الذين كانوا في رفقة الحملة اوجز ما حدث ذلك الصباح شمال ام درمان : " لقد كان رجالنا رائعين، ولكن الانصار فاقوا حد الروعة، انه لاضخم واعظم واشجع جيش قاتل ضدنا ابدا. لقد قاتلوا من اجل المهدية وماتوا فداء للامبراطورية الضخمة التي اقاموها وحافظوا عليها زمنا طويلا "، كما شهد بحياد - ضابط الفرقة الشاب الليفتينانت ونستون شرشل ، الذي كان يراسل الصحف بمقالات عسكرية - بانصافه للرجال الشجعان الذين قاتلوا بشرف واستشهدوا بشرف. وقد تاثر الشاعر والكاتب الانجليزى روديارد كيبلينج ( 1865- 1936 ) بهذا الصمود ايما تاثر ونظم قصيدته الشهيرة التى اقر فيها بان السودانيون لم يهزموا وانما قهرتهم الالة. (حرب النهر لمؤلفه ونستون تشرشل ترجمة عز الدين محمود - دار الشروق بالقاهرة بعنوان تاريخ الثورة المهدية والاحتلال البريطاني للسودان).

    الاستعمار الانجليزى المصرى

    غلبة الموقف الخارجى على القرار جعل الغزو فاقدا لرؤية واضحة عن التعامل مع المعطيات التى سيفرزها الواقع فى مواجهة السلطة الجديدة لكنها كانت تملك تجارب سابقة فى التعامل مع قطر كالسودان فى الهند، نيجريا والتجربة التركية فى حكم البلاد. اول القضايا التى واجهتها السلطة الجديدة واهمها مسألة بسط الامن. واذا كانت المهدية كانت قد حسمت فكريا التصدى لاحتلال المسلم لبلادهم فقد كان هذا الغزو تدخلا سافرا من اجنبى غير مسلم فى شؤون بلادهم. المسائل الامنية كانت مرتبطة بالتراث الذى افرز المهدية، فغير المقاومة المهدية السافرة (استشهاد الخليفة بأم دبيكرات 1899م ، حركة ود حبوبة فى الجزيرة 1908 وحركة الفكى عبد اللة السحينى فى نيالا 1921 ). استدعى ظهور المهدى، والذى يقضى عليه المسيح الدجال فى التراث السنى، بدأت حركات ادعاء النبى عيسى علية السلام فى النيل الابيض، كردفان، كسلا وسنار وظلت مستمرة حتى 1921 . ايضا واجهت السلطة الجديدة حركات مقاومة من القبائل الجنوبية الكبرى وجبال النوبة.

    تصدت السلطة للمقاومة المهدوية وكذلك تحركات النبى عيسى عن طريق استعمال العنف المحدود والوساطات والاحتواء لانها ذات اساس دينى قومى من ابناء الدولة السودانية القديمة المنحدرة من تاريخ طويل فى التعامل مع تنظيمات السلطات المختلفة ووجود ارتباطات متشابكة بينها. بعكس ذلك فقد استخدمت السلطة الجديدة العنف الدموى الاقصى فى قمع انتفاضات الجنوب وجبال النوبة وجزئيا دارفور. كانت هذة الانتفاضات قبلية فى الاساس لمجموعات ذات ارتباط ضعيف بالهياكل الادارية على طوال العهود، اذ تراوحت العلاقة بين التناحر ضد حملات صيد الرقيق من مناطقها والعلاقات التجارية التبادلية. سيمثل هذا احد خصائص تعامل الدولة السودانية طوال تاريخها المعاصر حتى اليوم مع الجنوب وجبال النوبة وجزئيا دارفور بالعنف الاقصى جراء اى تمرد او خروج عن نص الدولة. (نيبلوك: مرجع سابق)

    المهمة الثانية للسلطة الجديدة كانت انشاء علاقات ثابتة مستقرة وقائمة على المنافع المتبادلة مع المجموعات الثلاث ( الادارة الاهلية، الطرق الصوفية والطبقة التجارية) وسوف يضاف اليها مجموعة المتعلمين خريجى المدارس الغربية والذين سيشكلون عاملا مهما فى المعادلة السياسية القادمة. وسنتناول هذة العلاقات واثرها فى تطور الدولة التى ادت الى نمو الدولة السودانية الوطنية وبالتالى بلورة الرؤى السودانية التى طرحت لاحقا. عندما تعاملت السلطة الاستعمارية مع السودان تدرجت من الحكم الاتقراطى المباشر فى اوائل العهد حيث تم تقسيم البلاد الى مديريات ومراكز تحت الادارة البريطانية والمصرية المباشرة وحصرت السلطات التنفيذية والقضائية (عدا القضاء الشرعى) فى ايدى المآمير. وبعودة الامن والاستقرار للبلاد وعودة السكان الى مناطقهم بدا تنظيم الهيكل الادارى عن طريق خلق وظائف العمد والنظار 1915 وحصرت مهامهم فى جمع الضرائب. استمر العمل بنظام الادارة المباشرة حتى عام 1921 . (السنى الضوى: مرجع سابق ).

    برغم شكوك السلطات الاستعمارية فى القوى الدينية بشكل عام الا انها كانت على تعامل طويل مع الطريقة الختمية وزعمائها منذ عدائها الدائم مع المهدية طوال تاريخها، وعند اتمام الغزو كانت الطريقة قريبة من السلطات ومنح السيد على الميرغنى لقب فارس الامبراطورية عام 1900 . كان الموقف عدائيا تماما من المهدية ولكن كما يشير البروفسير نبلوك فقد ساعد تصاعد حركات النبى عيسى التى انفجرت فى انحاء متعددة من البلاد المستعمر الى اعادة النظر فى المهدية ومحاولة احتوائها كمتراس ضد كل التحركات المتطرفة. شىء اخر ساعد كذلك فى تغيير الموقف من المهدية اذ احتاجت الامبراطورية البريطانية لصوت سنى فى حربها مع الامبراطورية العثمانية ابان الحرب العالمية الثانية.

    ثورة 1924

    قادت تطورات الحركات المعادية للاستعمار عالميا والثورة المصرية عام 1919 ومن ثم اعلان استقلال مصر 1922 الى تاثيرات عارمة على المستوى الوطنى المصرى من شريك فى الغزو الى دعوة للاستقلال تحت شعار وحدة وادى النيل. انتقل هذا الى المصريين العاملين فى السودان وخاصة القوات المسلحة والى المتعلمين السودانيين فضلا عن المناقشات السياسية واطلاعهم على الجرائد العربية والاجنبية . وفاقم من الامر داخليا سفر الولاء و هى وثيقة قدمها اعيان السودان و على رأسهم السيد عبد الرحمن المهدي و الهندي و الميرغني، وهو طلب قدمه اعيان السودان يعلنون فيه ولاءهم للانجليز و يطالبون الانجليز بالانفراد بحكم السودان. وقد القى هذا باثرة على مجمل الحياة السودانية وقاد الى ثورة 1924 السودانية والتى ادت لتغييرات عميقة فى علاقة الاستعمار بكافة المجموعات المؤثرة على الفضاء السياسى السودانى والتى ستشكل وتفسر طبيعة التطورات المستقبلية المؤثرة فى حياتنا حتى اللحظة. القى هذا بثقلة على مشاعر السودانيين، خاصة حركتة المتعلمة والضباط والجنود فانتشرت التنظيمات والاندية الاجتماعية والتى شكلت ستارا للتحركات السياسية.

    تقدم على عبد اللطيف في خريف العام 1922م بمذكرة مشهورة الى جريدة حضارة السودان ( كان يملكها السادة الثلاثة على الميرغني، عبد الرحمن المهدي ويوسف الهندي) بما يعرف "مطالب الامة السودانية" لكن رئيس التحرير تردد في نشر هذا المقال، ولكن المخابرات الانجليزية استطاعت ان تضع يدها على هذا المقال " فماذا قالت مطالب الأمة السودانية؟ أشار فيه إلى الذين خططوا، ووقعوا على عرائض الولاء للحكم البريطاني من الزعماء والأعيان المشار إليهم انفاً، ووصفهم بانهم لا يمثلون إلا انفسهم. وذكر ان الأمة السودانية ان كانت في حاجة إلى من يرشدهم لنيل الاستقلال، فان من حقها ان تختار بنفسها المرشد الذي تريد سواء أكانت مصر أم بريطانيا. كما احتج على إثقال الحكومة لكاهل السودانيين بالضرائب، وعلى عدم انصافها لسكان المديريات، لاسيما أهل الجزيرة، الذي انتزعت أرضهم لمشروع الجزيرة، وسلمتها للشركات البريطانية وعلى احتكار السكر، وقلة الوظائف الممتازة، واحتكارها من قبل الانجليز، وحرمان أهل البلاد المتعلمين الأكفاء منها، وعلى نقص وقصور التعليم في كلية غردون، والمدارس الأخرى، وطالب بمزيد من التعليم، انهاء احتكار الحكومة لتجارة السكر وإلحاق السودانيين بوظائف عالية في سلك الخدمة المدنية. وقدم الملازم على عبد اللطيف الى المحكمة وكانت المحاكمة الشهيرة حيث سأله القاضي عن قبيلته: قال لا يهمني ان كنت منتمياً لهذه القبيلة أو تلك فكلنا سودانيون، نعمل يداً واحدة من أجل تحرير بلادنا من سيطرتكم فتمت محاكمة علي عبداللطيف بتجريده من الرتبة العسكرية والسجن لمدة عام. سواء كانا معا فى جمعية الاتحاد السودانى عام 1921 او جمعية القبائل السودانية المتحدة 1921 فقد التقى الملازم على عبد اللطيف ( من جهة والده ينتمي الى النوبة الميري بجنوب كردفان ومن جهة والدته تنتمي الى دينكا قوقريال) وعبيد حاج الامين ( سليل اسرة الهاشماب العريقة بادرمان)، واشتركا معا فى تأسيس جمعية اللواء الابيض عام 1924.

    لا توجد كتابات كثيرة او تفصيلية عن افكار اللواء الابيض وتعرض تاريخها لكثير من التشوية و الخلط ولكن هناك وثائق تنسب الى الزعيمين ومختصر مقالة عبد اللطيف "مطالب الامة السودانية". ان تعاملنا مع هذا الشح الشديد فى المعلومات كرؤية هو الصياغات العامة والمدلولات الفكرية التى تعكسها بعض الذى تيسر. وهكذا نجد اننا لابد ان نبحث عن رؤية ثوره 1924 فى تكوينها وخطابها وبرنامجها . ان ماهو هام فى هذة الرؤية ليس ما كانتة – فهى فى النهاية كانت رؤية فى طور التشكيل- ولكن فى الاضافة الفكرية، البرنامجية والعملية التى قدمتها مما كان يمكن ان تسترشد بة النخب القادمة فى صياغة رؤاها، والذى للاسف فانة لم يحدث واكثر من ذلك فانة سار فى الاتجاة المعاكس تماما. لقد كانت هذة الثورة مفصلية فى تحولات عديدة وسياسات استعمارية اختلفت بشكل جذرى. ولم يكن غريبا ان يعيد الاستاذ ياسر عرمان الاعتبار لهذة الثورة وعدها أولى حركات السودان الجديد (ياسر عرمان : فى ذكرى معركة النهر الثانية، صدى الاحداث السودانية، http://www.sadaalahdas.com ).

    تكوين ثورة 1924

    مثلت ثورة 1924 صعود الطبقة الوسطى قبل انفتاحها على التيارات الفكرية المختلفة التى تنوعت فى العقود اللاحقة. قامت الطبقة الوسطى بدور بالغ الأهمية فى النضال السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى فى مختلف الأقطار العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وكان لها دورها المشهود فى التصدى لقوات الاحتلال الأجنبى، وفى جهود التحديث والسعى من أجل الديمقراطية وتطوير الثقافة الوطنية وخرجت من صفوفها كل التيارات الفكرية والقوى السياسية المعاصرة: قومية وليبرالية وإسلامية واشتراكية. (عبد الغفار شكر: الطبقة الوسطى والمستقبل العربى، http://www.ahewar.org) .
    كونت جمعية اللواء الأبيض خارج النطاق القبلي ولم تكن ريفية وبدوية، ولم تعتمد على الزراع والرعاة، كما كانت تفعل الجمعيات وحركات المقاومة السابقة، بل كانت ذات جذور سياسية حضرية، وركزت على المدن الكبرى واعتمدت في قيادتها وعضويتها على الطبقة الناشئة المدنية، نتيجة للمتغيرات التي حدثت في الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسة في السودان عقب الاحتلال البريطاني – المصري للسودان، ونمو الروح القومي والوطني في المدن. وكما اوضحت الينا فازادينى فقد ضمت هذة مختلف فئات المجتمع فبجانب القوة الاساسية من الكتبة أي موظفي الحكومة والقوات المسلحة أي الجنود والضباط، فان عضويتها انتشرت وسط مختلف الفئات الاجتماعية ، وقد نظمت الجمعية من جهة جمعية للعمال ، ومن جهة أخرى جمعية للتجار أو اتحاد تجاري.

    وقد نجحت جمعية اللواء الأبيض في تجنيد الكثير من الحرفيين السودانيين من الخياطين والنجارين، والإسكافيين إلى جانب الخريجين والمعلمين والكتبة ونواب المآمير السودانيين بل والعاطلين عن العمل. وقد لعبت أغلب هذه العناصر دورا بارزا في المظاهرات التي نظمتها الحركة، وان كان بمساهمة كبيرة من الفئات الشعبية من الحرفيين وفقراء المدن حتى انها حاولت كسب قيادات قبلية لصفها. كان للنوبة دورهم الفاعل في ثورة 1924م حيث اشتركت في ذلك كتيبة النوبة والتي كانت معزولة على أساس إثني من الكتائب العسكرية الأخرى ومركزها خارج مدينة شندي، وذلك بقصد عزل النوبة من تيار الإسلام والعروبة حتى فاجأهم النوبة بتيار القومية السودانية العارم في 1924م. ( د. حامد البشير إبراهيم: القس فيليب عباس غبوش ذكريات ومذاكرات، سودانيزاونلاين). (Elena Vezzadini, University of Bergen, processes of social changes and the rise of nationalism in the Sudan , -http://www.sudaneseonline.com)

    ان قائدي الثورة كانا معاديين بشكل قاطع للقبلية وتقسيم السودانيين على اساس عرقي او قبلي او عنصري، وقد تجلي هذا النزوع بشكل واضح في انه ضمت طائفة واسعة من قوس قزح الاثني والجهوي في السودان، فمن ضمن 111 عضوا في الحركة تم رصد اصولهم القبلية كان هناك تمثيل ل20 قبيلة سودانية. ان الحركة قد ضمت الكثير من ابناء الوسط والشمال او ما نسميه بالقبائل المستعربة، كما ضمت العناصر التي سمتها الدكتورة يوشيكو كوريتا بالزنوج المنبتين قبليا، اي العناصر الزنجية المدينية – مثل علي عبد اللطيف نفسه، كما نجد فيها تمثيلا كبيرا للقبائل الزنجية من الجنوب وغرب السودان (البرنو، الدينكا، النوبة، النوير، الفور ) وخصوصا في قطاعها العسكري .كما ضمت الحركة اعداد من المولدين (أي ابناء الزيجات السودانية التركية و السودانية – المصرية) والاقباط. (يوشيكو كوريتا:علي عبد اللطيف وثورة 1924- بحث في مصادر الثورة السودانية- مركز الدراسات السودانية، القاهرة،1997)

    خطاب ثورة 1924

    تطور التنظيم فى سنوات 1918 من تكوين اندية الخريجين التى ارتادها اعضاء الجمعية الى جمعية القبائل السودانية المتحدة 1921 الى جمعية الاتحاد السوداني والذى اختلفت معها جمعية اللواء الابيض اذ انها كانت ترى انها حركة قومية" كان سليمان كشة ، محرر جريدة مرآة السودان ورئيس جمعية الاتحاد السوداني يخاطب جموع الحاضرين دائماً بـايها الشعب العربي الكريم وكان الملازم أول علي عبد اللطيف يرى ان الشعب السوداني أحقّ بالمخاطبة لان السودان نسيج يشكل العرب جزء منه فقط. استعملت جمعية اللواء الابيض تعبير الامة السودانية بمعنى الشعب السودانى لاول مرة وأدخلتها قاموسنا السياسى كمفهوم يدل على تعددية تشمل الجميع.

    وكانت الجمعية ذات مواقف واضحة ضد القيادات الطائفية والدينية والقبلية المتعاونة مع الانجليز وقتها. وفي ذلك قال عبيد حاج الامين في معرض نقده لسياسة الانجليز في استغلال السكان ومحاولة التفريق بين مصر والسودان (مما يؤسف له ان الانجليز استغلوا زعماء البلاد لتحقيق ذلك الغرض) – أما شعراء الجمعية فقد كانوا اكثر اقداما حيث قال قائلهم ( الا يا هند قولي او اجيزي / رجال الشرع اصبحوا كالمعيز/ الا ليت اللحى كانت حشيشا / لتعلفها خيول الانجليز) - ويذكر فتحي الضو انه قيل ان على عبد اللطيف كان يضع هذه الابيات في صدر غرفته بحيث يطالعها الداخل بوضوح (عادل عبد العاطى: علي عبد اللطيف وجذور الليبرالية السودانية http://www.sudaneseonline.com )

    برنامج ثورة 1924

    تاثر المثقفون السودانيون بكافة التيارات التى كانت يمور بها العالم العربى والاسلامى من فكرة البعث الاسلامى التى بشر بها جمال الدين الافغانى وتحمس لها تلميذهِ محمد عبده والتى شدد فيها على الانتماء الى جامعة اسلامية تحت قيادة خليفة قوى يوحد المسلمين ويقود الشرق لهزيمة القوى الغربية ويخلق أمة مسلمة قوية مثل الامة الاسلامية التى سيطرت على العالم فى العهود الماضية المجيدة . أما التوجه الثانى فقد كان عروبياً إسلامياً حاول اعطاء الرابطة الاسلامية بعداً عروبياً اعلى نبرة من النبرة الاسلامية فى محاولة للمزاوجة بين المفهوم الدينى والمفهوم الحديث للامة . وجعل ذلك التوجه الرابطة العربية اقوى من الرابطة الاسلامية بل جعل الرابطة العربية ضرورية ولازمة لوجود الرابطة الاسلامية التى ما كانت لتوجد أساساً دون العرب. كانت مثل هذه الافكار رائجة فى اواسط المعلمين السودانيين وهى التى تاثر بها الشبان من امثال توفيق صالح جبريل أو سليمان كشة الذين كانا من اكثر الشبان حماساً لهذا الاتجاه، وهما اللذان افسحا بحماسهما دونما وعى المجال لاتجاه ثالث حينما دخلوا نتيجة حماسهم فى مواجهة مع عناصر من امثال على عبداللطيف قبيل احداث 1924م. الاتجاه الثالث هو الذى تناول ولاول مرة قضية الامة من وجهة نظر (قومية) كما اسمتها الباحثة اليابنية يوشيكا كوريتا وقد ظهر هذا الاتجاه لاول مرة بصورة جنينية فى كتابات حمزة الملك طمبل، وهو من معاصرى توفيق صالح جبريل وسليمان كشة، الا ان خطابه الشعرى والنقدى كان يختلف تماماً. اهم مساهمات طمبل انه اول من استخدم كلمة ( السودانى) صفة وهُوية لسكان السودان، وذلك فى مولفه ( الادب السودانى وما ينبغى ان يكون عليه). (د. خالد حسين الكد: الأفندية ومفهوم القومية فى الثلاثين سنة التى أعقبت الفتح فى السودان 1898-1928 ،المكونات والمؤثرات http://www.alwatansudan.com ) .

    برغم الغبار الكثيف الذى يثار حول علاقة الجمعية ومصر ومناداتها بتقرير المصير " تكونت جمعية اللواء الأبيض واتخذت شعارها علما ابيضا علي ركن منه العلم المصري وكان من قادة الحركة عبيد حاج الأمين، وصالح عبد القادر، وآخرون. وكان هدفها تحقيق وحدة وادي النيل تحت التاج المصري. لقد كانت حركة 1924م امتداد للحركة الوطنية المصرية وهي الأب الشرعي للفكرة الاتحادية في السودان". (الامام الصادق المهدى: رسالة الاستقلال ، http://www.umma.org ). الا ان كثير من الكتابات قد نفت هذا التماهى " ويبدو ان حق تقرير المصير قد كان هو الهم الاول لقادة الثورة، وليس أي اتحاد مع مصر، حيث يقول تقرير لجنة ايوارات التي كلفت بالتحقيق في احداث الثورة التالي " ان المقال الذي ادين علي عبد اللطيف بكتابته لم ترد به كلمة واحدة لصالح مصر، بل ذهب الى الدعوة لقيام حكومة للسودان بواسطة السودانيين وانهاء الحكم الاجنبي ". ويقول الدكتور جعفر محمد علي بخيت فيما يتعلق بنداءات جمعية اللواء الابيض لجماهير الشعب السوداني بل وحتى للمصريين (انها لم تكن تأبه كثيرا بالوحدة السياسية لوادي النيل، اذ انصرف اهتمامها الى مظالم السودانيين المحلية في مواجهة البريطانيين ). بل ان احدا من الد اعداء الجمعية حسين شريف تحول الى مواقفها مع الزمن وبرأها عمليا من تهمة العمل للمصريين والذي كتب لصحيفة التايمز اللندنية مقالة بعنوان "نداء الى الشعب الانجليزي الحر" خلص فيه الى ان حركة اللواء الابيض في جوهرها سودانية وان كانت تبدو مصرية في الظاهر". (عادل عبد العاطى: مرجع سابق ).

    طرحت الجمعية فى منشور ناصح مخلص أمين ً الذي ورد في مؤلف حسن نجيلة : ملامح من المجتمع السوداني، الجزء الأول، نقاطأ برنامجيه للحركة غير وحدة وادي النيل وسقوط الاستعمار مثل مقاومة مصادرة أراضي المزارعين في الجزيرة رفض احتكار الحكومة لسلعة السكر ومقاومة انفراد المبشرين المسيحيين بالتعليم في الجنوب ( عبد العاطى، مرجع سابق). لبس هذا فحسب فبرنامجها استطاع حشد مظاهرات كان عدد المشاركين في بعضها يفوق الالف شخص، كمظاهرة بورتسودان في 27 يوليو 1924. وتقول الباحثة الايطالية ايلينا فيزاديني انه من تتبع وثائق المخابرات البريطانية يمكن رصد 800 محرض كانوا يعملون لصالح الثورة ، وان فروع الجمعية قد انتشرت كالهشيم في جميع انحاء السودان، من الخرطوم الى مدني ومن الفاشر الى بورتسودان ومن حلفا الى واو، وان نشاطها قد شمل كل المديريات، باستثناء مديرية كسلا.

    لماذا فشلت ثورة 1924

    استطاعت جمعية اللواء الابيض فى وقت وجيز من احداث تحول نوعي فى شكل ومضمون مقاومة المستعمر من المحتوى الطائفى والدينى المحض والشكل الحربى الى شكل ومضمون مدنى سلمى من مظاهرات واضرابات وصولا الى العنف المسلح " تقرير المخابرات الشهري – السودان، رقم التقرير 538 ،مايو 1924م ، جمعية اللواء الأبيض: جمعية باسم اللواء الأبيض جرى تكوينها منذ عدة سنوات ولكن لم تكن لها أهمية حتى وقعت تحت التأثير المصري منذ فبراير 1924م. رئيس الجمعية علي عبد اللطيف (دينكاوي) كان ضابطاً بالقوات المسلحة المصري وأحيل للتقاعد في عام 1922م. سجن بتهمة الاثارة وقادت الصحف المصرية حملة تأييد لقضيته حتى اكتشفت انه غير مؤيد لمصر... جمعية اللواء الأبيض تحت السيطرة الكاملة لعلي عبد اللطيف مكونة من خلايا كل خلية من 10 أفراد مستقلة عن الخلايا الأخرى. التجنيد للجمعية يتم بعد قراءة الأهداف ويحلف العضو على المصحف للعمل على تحقيقها وصيانتها. فروع الجمعية بكل من: مدني، مكوار، الأبيض ، الفاشر وشندي. (عميد «م» محمد الفاتح عبد الملك ، تاريخ الأجهزة الأمنية في السودان حتى أبريل 1985م ، http://www.alwatansudan.com ) .

    كانت الشروط الموضوعية ملائمة بشكل كبير لنهوض الثورة فعكس الثورة المهدية التى كان عليها تبرير عصيانها ضد نظام خليفة المسلمين من داخل المحتوى الدينى نفسة، واجهت ثورة 1924 استعمارا انجليزيا واضحا فلم تكن فى حاجة لتبرير مطالبها من موقف دينى. لم يكن السودان بعيدا عن التيارات التحررية فى العالم والادب العالمى المتصل بها (كان احد قادة الثورة شيوعيا)، وكان الثوار منفتحين عليها بواسطة الجرائد المصرية والعالمي والنقاش الذى إبتدأ قبيل الحرب وأثناءها ولمدة طويلة بعدها عن الأمم وحق المصير. (د. خالد حسين الكد: مرجع سابق ) . على جبهة الاعداء فرغم ان الحكومة المصرية شاركت سياسيا، بجندها وتحملت القدر الاكبر من النفقات، فقد تغير هذا الموقف بضغط ثورة 1919، العبء المالى المتزايد على الخزينة المصرية ومحاصرة الانجليز للدور المصرى وجعلة هامشيا. بالاضافة الى ذلك فقد تعاطف الشعب المصرى والقوات المصرية العاملة فى السودان مع ثوار 1924 " تقرير المخابرات الشهري – السودان، رقم التقرير 538 ،مايو 1924م..... يدعم علي عبد اللطيف مجموعة من الضباط المصريين والمسؤولين الذين يمدونه بالمال من الأحزاب الوطنية المصرية ويزودونه بالنصائح والتعليمات (عميد «م» محمد الفاتح عبد الملك، مرجع سابق ).

    ذاتيا فقد توفرت للحركة قيادة كارزمية من بطل قومى يوحد ورائة المجموعات الافريقية السودانية وشخصيات بارزة من المجموعات العربية والسودانية مثل عبيد حاج الامين (سليل عائلة الهاشماب)، حسين شريف، على صالح المطبعجى، صالح عبد القادر، محمد المهدي الخليفة (أبن الخليفة التعايشى)، ملازم على دينار، محمد الامين ابو القاسم (ابن الشيخ ابوالقاسم هاشم). وتشكل الجناح العسكرى بقيادة الضباط عبد الفضيل الماظ، على البنا، سيد فرح، حسين فضل المولى ثابت عبد الرحيم، سليمان محمد، عبد اللة خليل وغيرهم). كما ان جمعية اللواء الابيض استطاعت فى وقت وجيز ان تبنى تحالفا عريضا من قطاعات مختلفة من الشعب باسم الامة السودانية واستطاعت ان تمد وجودها فى اغلب مدن السودان، كما استطاعت جذب ممثلين لقبائل متعددة عربية وافريقية حتى قيادات قبلية مثل المك ناصر مك الجموعية. اذا توفرت معظم الشروط الموضوعية والذاتية للثورة الا انها عانت من اخطاء استراتيجية قاصمة فى علم الثورة.

    اولا: تعتمد نظرية الثورة على كسب او على الاقل تحييد الجزء الاكبر من الاعداء ويمكن ان نرى بوضوح ان موقف القوات المسلحة المصرى والتزامها الحياد – والذى عدتة الجمعية انذاك خيانة باعتبار انهم كانوا يتوقعون منها الانحياز- كان مكسبا كبيرا للثورة. بالرغم من التقدير والاعجاب الشديد بالبطولة والتضحية التى ابدتها تلك الكوكبة من فرسان السودان، الا ان التفاوت الكبير فى توازن القوى انذاك كانت تستدعى اظهار القوة والتفاوض لا استعمالها فى معركة اخيرة ونهائية، هذا اذا اخذنا فى الاعتبار ان معظم القوات المسلحة السودانى كان من السودانيين الذين كانت شعارات القومية السودانية تمسهم فى الصميم.

    ثانيا: المشكلة الاكبر كان الموقف من كسب او على الاقل تحييد الجزء الاكبر من الحلفاء المحتملين، فالطريق الى انتصار الثورة كان طويلا ويستدعى دراسة المصالح التى تحرك كافة الفئات ( ما يسمى فى علوم التخطيط تحليل اصحاب المصلحة) . كانت مصالح واضحة تربط بعض الفئات مع النظام الجديد، فقد بدأت الادارة فى تكريس سلطة كبار المزارعين والاستثمار فى المشاريع المروية ومشاريع الزراعة الآلية فى النيل الابيض ثم فى الجزيرة بواسطة قوانين الاراضى التى اصدرتها الادارة البريطانية. وشجعت طبقة التجار الذين يهيمنون على معظم النشاطات الاقتصادية والتى مكنتهم الادارة الاستعمارية - رغم احتكارها المؤسسات المالية والاستثمارات الاساسية – من السيطرة على التجارة المحلية والمساهمة فى حركة الصادر والوارد، وقد خلق لهم ذلك قوة اقتصادية عظيمة ودوراً مواثراً .عندما جاء الحكم البريطاني عمل على تهميش وتفكيك الروابط القبلية وسحب السلطات من زعماء القبائل. كان لكل هؤلاء ممثلين عنهم فى جمعية اللواء الابيض ، سواء اعضاء او مناصرين وقد كان من الممكن ان يكونوا جسرا لكسبهم او تحييدهم لكى لا تتيح للاستعمار استعمالهم فى التحريض ضدهم.

    ثالثا: كان من المهم للثوار التفرقة بين التناقضات الاساسية (الاستعمار) والتناقضات الثانوية (ارتباطات المصالح مع المستعمر والمواقف الثقافية) . لقد اتخذ الثوار مواقف حادة من هذة الفئات بدلا من ان يرسلوا لهم رسائل تطمين وخلق علاقة عملية من مراعاة المصالح المستقبلية. " 35 من الشخصيات السودانية المؤثرة و على رأسهم السيد عبد الرحمن المهدي و الهندي و الميرغني يدينون الحركة ... فقد تحدثوا عن الغبار الذي يثيره ابناء الأمة (يقصدون ابناء الجواري). و هذا الغبار أثر على الحياة الاجتماعية و التجارية. و ان أمة يقودها ابناء الامة امثال علي عبد اللطيف لأمة ########ة . في تلك الوثيقة كان اسم بابكر بدري الخامس و العشرين. و شملت الوثيقة عمد و تجار و نظار. كما شملت السيد الثري صالح جبريل . و الذي كان يسكن في منزل ضخم عرف بالقلعة . و كان ابنائه توفيق و شقيقه من مؤسسي حركة 1924. ( شوقي بدري: أعظم ابطال السودان كانوا من النوبة ،http://www.sudaneseonline.com ). لم تنس الفئات التى حكمت السودان على مر العصور هذة الرؤية البارزة فقد تركت الزعمين على عبد اللطيف وعبيد حاج الامين حتى استشهدا فى ظروف سيئة، واطلقت اسم الزبير باشا على اهم شوارعها ومستشفى النهر على مكان استشهاد البطل الماظ.

    رابعا: سوف نلاحظ منذ ثورة 1924 احدى الخصائص الملازمة للثورات السودانية وهى قصر نفسها الشديد، فالثورة التى بنيت فى عدة اعوام واستطاعت الحشد، والتوعية والتمدد فى اطراف الوطن، خاصة المدنية، اثناء اعوام 1921-1924 سرعان ما تراجعت اثر تلقيها الضربات الموجعة، لقد قادت ثورة 1919 المصرية الى قيام حزب الوفد واستمرار الدفع الثورى حتى استقلال مصر فى 1922- وان كان شكليا . يرجع كثير من المحللين هذة الظاهرة الى ضعف الطبقة الوسطى وفقدانها العلاقات الشعبية (صفوية) والاثار الثقافية السالبة من العلاقات العشائرية التى تتدخل فى هذة المراحل الحرجة وتحاول حماية ابنائها من العسف المتوقع وسوف نناقش كل هذة الاسباب وغيرها عند نقاش الثورات السودانية واستخلاص دروسها كلها.
    وقد لاحظ المغفور لة محمد ابراهيم نقد صمت ثورة 1924 عن اثارة مشكلة الرق فى السودان برغم ان فترة 1918-1924 كانت فترة حرجة فرضت على ادارة الحكم الثنائى رفع مسألة الرق فى السودان الى اعلى الصفحة فى اسبقيات جدول اعمالها ، كما لاحظ ايضا صمت مؤتمر الخريجين عنها. ومع ان الكاتب لم يجب عن هذا التساؤل المشروع، الا امما ربما نجد الاجابة فى مذكرة السادة ( المهدى، المرغنى والهندى) الى مدير المخابرات عام 1925 فى موضوع الرق فى السودان والذى اعترضوا فيها على سياسة الدولة فى التحرير التدريجى للارقاء. (محمد ابراهيم نقد: علاقات الرق فى المجتمع السودانى، عزة للنشر والتوزيع، الخرطوم، السودان، 2003)

    سودان مابعد ثورة 1924

    اذا كان السودان الجغرافى والتاريخى رهنا بالاستعمار التركى المصرى فان السودان المعاصر هو نتيجة مباشرة لما اتخذ من سياسات اقتصادية، اجتماعية وثقافية عقب ثورة 1924. ويرجع ذلك ان الغزو الاستعمارى الانجليزى المصرى لم يكن يستند الى خطة استراتيجية شاملة عند التفكير فية بل ان كثير من القرارات الهامة تم اتخاذها فى حينها وبفعل عوامل غير محسوبة. وقد لعب الافراد الذين كانوا على احتكاك بالمشهد السودانى ادوارا متفاوتة فى اتخاذ سياسات هامة ومفصلية بناء على خبراتهم التى اكتسبوها من تعاملهم مع المعطيات واشهرهم سير ريجالند ونجت باشا (مدير مكتب المخابرات السودانية في القاهرة في 1883 ،الذى وقع على عاتقه جمع المعلومات والحرب النفسية على النظام المهدوى. دبَّر هروب الاب أوهرولدر ورودلف سلاطين من اسرالخليفة بالجمال عبر الصحراء النوبية، 1895م، ثم تولى مدير الاستخبارات العسكرية في القوات المسلحة المصري، حاكماً للسودان بعد كتشنر (1898ـ1916) ثم قنصلاً عاماً لبريطانيا في مصر)، سلاطين ( حاكم دارفور ابان الحكم التركى، ظل اسيرا لدى الخليفة وهرب وتولى في سنة 1900م مفتشا عاما للسودان، وكان من مسئولياته إقليم دارفور) وهارولد ماكمايكل السكرتير الإداري خلال الفترة (1926-1934).

    كانت السياسات التى اتخذت بعد ثورة 1924 فى كثير منها متابعة لسياسات كانت متبعة ولكن بتردد اوتحفظات من مراكز صنع القرار المختلفة، وكانت هناك سياسات اتخذت فورا وطبقت بحسم شديد وكانت جميعها مرتبطة بالامن وهى المتعلقة بالتصدى للثورة وقوات دفاع السودان والموقف مع مصر، التغييرات فى نظم الحكم والادارة والقبلية. ثم تبعتها سياسات طويلة الامد، احتاجت لتغييرات هيكلية وقوانين فى الموقف من الطرق الصوفية، الاقتصاد السودانى، الجنوب والطبقة المتعلمة الناهضة. وسوف نتناول كل منها ببعض التفصيل لانها كما ذكرنا سابقا وضعت الاساس الموضوعى لكل الرؤى اللاحقة والفئات التى حملتها ( خاصة الاحزاب والنخب) واثرت بشكل كبير حتى على سلوكيات مؤسسات الحكومة والافراد.

    التصدى للثورة

    لم تجزع قوى المستعمر وحدها من ثورة 1924 ولكن ارتعدت فرائص كل الفئات القادمة من تاريخ السودان القديم والتى هزت الثورة مسلماتها بلاهوادة، الادارات القبلية، زعماء الطوائف، كبار ملك الاراضى والتجار وتجار الرقيق. عند تصديها للثورة واجهها المستعمر بعنف حاسم وشرس – عكس المتبع مع ثورات الشمال – ولكنها لم تندفع الى هذا الموقف الا بعد ان اعدت المسرح اعلاميا وقادت حرب نفسية شرسة كان ابطالها القيادات الطائفية والقبلية ووجهاء البلاد وعلماء الدين " كتبت جريدة الحضارة بعد مظاهرة 23 يونيو التي نظمتها جمعية اللواء الابيض: أهينت البلاد لما تظاهر أصغر وأوضع رجالها دون ان يكون لهم مركز في المجتمع بانهم المتصدون والمعبرون عن راي الامة...... ان الشعب ينقسم الى قبائل وبطون وعشائر، ولكل منها رئيس أو زعيم أو شيخ، وهولا هم أصحاب الحق في الحديث عن البلاد......من هو على عبد اللطيف الذي أصبح مشهوراً حديثاً والى أي قبيلة ينتسب؟" ( يوشيكو كوريتا: مرجع سابق).

    واجهت القوات الاستعمارية تمرد القوة السودانية بقيادة البطل عبد الفضيل الماظ يوم الجمعة 28/نوفمبر /1924م بقوة كبيرة وصاعقة عبر إستخدام المدفعية وهدم مبانى المستشفى فوقه وإستشهد القائد عبدالفضيل الماظ سليمان عيسي فوق مدفعه (المكسيم) وتمت ابادة جميع القوة وبعدها تمت إعدامات بري الشهيرة للقادة الشجعان الذين شاركوا فى معركة النهر ثابت عبدالرحيم وسليمان محمد وحسن فضل المولى. بعد ذلك تم نفي خمسة من قادة الجمعية إلى واو وهم علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين الذي زأر في وجه محاكمته قائلاً لا: (انكم تستطيعون ان تحاكموني ولكنكم لن تستطيعوا الحكم عليّ، فان هذا للشعب وللتاريخ !) وعلي البنا ومحمد المهدي الخليفة واخرون. إستشهد عبيد حاج الامين فى سجن واوعام 1932م اما الزعيم على عبداللطيف فقد تنقل بين سجون السودان ثم نفى لمصر ومات سجيناً ووحيداً فى اكتوبر 1948م بالقاهرة. وخلد هذة البطولة نشيد المغفور لة الفنان محمد وردى.
    ونغني لك يا وطني كما غنى الخليل مثلما غنت مهيرة تلهم الفرسان جيل بعد جيل
    ونغني لحريق المك في قلب الدخيل للصلابة حينما استشهد في مدفعه عبد الفضيل

    الموقف من مصر وقوات دفاع السودان

    بدأ من عام 1822م بدأ تجنيد السودانيين وخاصة من قبائل جنوب السودان وجبال النوبة في القوات المسلحة المصري، واستعرب هؤلاء واعتنقوا الدين الإسلامي، ورويدا رويدا انقطعت صلتهم عبر الاجيال بأصولهم القبلية في جبال النوبة وجنوب السودان، وشاركوا في حروب محمد علي وورثته من بعده في البلقان والمكسيك ومختلف الأصقاع. كان ثلث القوات المسلحة الذى غزا السودان ستة كتائب من المحاربين السودانيين الاشداء الذين تم تجنيدهم عبر السنوات من الرقيق الذين تم اسرهم من المناطق المختلفة فى السودان. الماظ عيسى والد عبد الفضيل كان واحدا من هولاء الذين شاركوا في كرري 1899م في تحطيم نظام المهدي الذي لم يكن بالنسبة لعقيدتهم العسكرية والسياسية سوى تمرد وخروج على شرعية الحكومة في القاهرة وسلطان خليفة المسلمين في الاستانة. هذا القوات المسلحة الغازى هو الذى استمر فى حفظ الامن الداخلى واغتيال الخليفة و ضم دارفور وحماية الحدود حسب الاتفاقية حتى نهاية الحرب العالمية الاولى عام 1918 . واكب تطورعسكر السودان تطور الرؤية السودانية وتقلباتها، هذا التلاقى و التداخل والتاثير بين الحركة السياسية و القوات المسلحة السودانى سيظل سمة تلازم فضاء الحياة السياسية السودانية منذاك ولاحقا.

    كجزء من شروع الحكومة الاستعمارية بعد 1924 فى العمل على تغيير كل المعطيات التى قادت اليها، وفى مقدمتها الطبقة التى شجعتها ابتداء و حظيت بالتعليم الحديث اصبحت عدوها اللدود الذى يجب ان ترصد حركاتة وتقلم اظافرة حفظا للاستقرار السياسى، خاصة القوات المسلحة، فقد كانت خطواتها السريع اولا فصل القوات المسلحة عن اى صلة بالقوات المسلحة المصرى وتغيير نظام التجنيد. اسرع المستعمر لانشاء قوة دفاع السودان 1925 كنسخة محلية من القوات المسلحة البريطانى ولتدين بالولاء والطاعة لحاكم عام السودان وعزلها عن التجمعات المدنية سواء بابعادها جغرافيا او تمييزها ومتابعتها الدقيقة الصارمة وتكون ضباطها فى الاغلب من ابناء وزعماء القبائل والعشائر والطوائف الدينية و تجنيد الجنود من الارقاء السابقين وابناء الهوامش. اى تم خلق جيش محترف اى ان تبرع فيما انشات من اجلها (حفظ الامن وحماية الحدود) وكما تفعل كافة المؤسسات المناظرة. (عصام ميرغنى طة: القوات المسلحة السودانى والسياسة، مركز الدراسات السودانية ، القاهرة، 2002 )

    التغييرات فى نظم الحكم والادارة والقبلية

    لاسباب متعددة من اهمها تقليل النفقات المعتمدة اساسا على الخزينة المصرية والتنازل السياسى المطلوب محليا لاستيعاب الافكار التحررية التى سادت العالم انذاك، لكن اهم من كل هذا فان تداعيات ثورة 1924 كانت هى العامل الحاسم فى تسريع اتخاذ القرار. فالاتجاة العام للاعتماد على الطبقة المستنيرة والمدنية باعتبارها الاقرب فكريا، وفى ظل التخوف من الطرق الصوفية واعتبار الادارات القبلية كمستودع محتمل للثورات الدينية، اصطدم بنمو الشعور الوطنى نحو تصعيد الشعور المعادى للاستعمار. " انشئت كلية تدريب المعلمين والقضاة بام درمان في عام 1900م، ومدرسة الصناعة بام درمان، وافتتحت كلية غردون التذكارية عام 1902م، والمدرسة الحربية (مدرسة الخرطوم الحربية) عام 1905م، وافتتحت مدرسة كتشنر الطبية عام 1924م. وكان المعهد العلمي بام درمان قد انشئ على غرار الأزهر عام 1912م، وعُين الشيخ أبوالقاسم أحمد هاشم (1856م– 1934م شيخاً له" تغير هذا المدخل بشكل جذرى خاصة بعد ان اثبتت الطرق الصوفية و الادارات القبلية ولائهما الكامل مع السلطات الاستعمارية.

    لم تكن التجربة من فراغ ولكن كانت هناك تجارب مماثلة فى نيجيريا، الهند وتنجانيقا وهى محاولة لاقامة حكم مدنى محافظ بديلا عن النظام الابوى القبلى السائد انذاك. الاتجاة العام كان تخويل بعض السلطات القضائية، الادارية والمالية وقد تطورت هذة السلطات حسب المناطق وبالتجربة العملية الى جمع الضرائب لتقوية نظام الادارة الاهلية من نظار، عمد ومشايخ، حفظ الامن والسيطرة على المجتمعات. هذة السياسات ستؤدى فى تطورها الى تقوية الادارة الاهلية، خلق كيانات كبيرة (النظارات)، النفوذ الاقتصادى المتعاظم من الاراضى، القطعان وجزء من الضرائب. انعكست القبلية على المستوى الثقافى فى تقوية الروابط العائلية والقبلية على المفهوم القومى، التعصب لابناء القبيلة حتى فى مجالات الخدمة العامة بغض النظر عن الكفاءة. تثير القبلية الروح الحربية والثآر ومفاهيم المليشيات وعدم التعاون هذا فضلا عن سيادة التقاليد والعادات الاجتماعية الضارة باعتبارها مرتبطة بالتاريخ الثقافى للقبيلة. (السنى الضوى: مرجع سابق ).

    رد الفعل تجاة الحركة القومية بعد ثورة 1924

    حقيقة ان ثورة 1924 قادها نوع مختلف من السودانيين تتخذ المدن الحديثة مهداً لها، مرتبطة بشكل ما بمصر وجاء قادتها من أوساط المتعلمين الذين علمتهم الادارة الجديدة واستخدمتهم فى الوظائف الدنيا فى سلك الادارة واهم من ذلك كلة انها فى معظمها تكونت من الفئات الدنيا من المجتمع المحلى....بشكل رئيسى من ابناء الرقيق السابقين. بعد ان اتخذت الحكومة جملة اجراءات على المدى القصير، بدات تعيد النظر فى سياساتها وتوجهاتها بشكل استراتيجى فتمت صياغة حزمة من السياسات نحو تشكيل الفضاء السياسى المستقبلى. وقد قسمت الباحثة يوشيكو كوريتا في كتابها المرحلة اللاحقة الى مرحلتين: الاولى 1925م – 1937م وشملت قيام الجمعيات الأدبية " جمعية الأبروفين – جمعية مدرسة الهاشماب – الجمعية الأدبية بواد مدني – جمعية الأشقاء" و اندية الخريجين المنتشرة في أقاليم السودان المختلفة. المرحلة الثانية 1938 – 1945م قيام مؤتمر الخريجين العام 1938م وقيام الأحزاب السياسية 1943-1945م . سنتناول هذة السياسات تحت عناوين: التنمية الاستعمارية فى السودان، الفئات التجارية، الموقف من الكيانات الدينية، دور الافندية وافاق تطورهم و العلاقة بين الشمال والجنوب. ( يوشيكو كوريتا: مرجع سابق).

    التنمية الاستعمارية فى السودان

    عالجت السلطة الاستعمارية قضايا النمو الاقتصادى لتحويل السودان الى مصدر لخامات رخيصة مطلوبة للصناعة الاوربية، فتح الاسواق المحلية للصناعات الاوربية وتكوين الطبقة التى ستقوم بهذة المهام. انحصرت اهم هذة القضايا فى تحرير القوى العاملة لتكون حرة للعمل المأجور، تحرير ملكية الارض، جوانب التنمية الاستعمارية ومجالاتها. نفذت السلطات الاستعمارية القرارات العالمية التى اتخذت بخصوص الغاء نظام الرق وتجارة الرقيق عالميا، لكن تم تنفيذ هذا القرار بشكل تدريجى عن طريق حزمة من الاجراءات من التحرير الذاتى، منع التجارة فى الرقيق وتجفيف مصادرها و تطوير الاقتصاد لاستيعاب الأفراد للعمل باجر حسب قوانين عمل تنظمها. على اثر الغزو اصدرت الحكومة عدة قرارات بخصوص ملكية الارض كانت تهدف فى نتائجها على اعادة ملكية الحكومة على جميع الاراضى الغير المأهولة، تقييد بيع الأراضي وعلى ان يكون التصرف في الأراضي من خلال وثائق معتمدة وجاء قانون تسوية الأراضي وتسجيلها عام 1925، ليحدد معايير تسوية وتسجيل الأراضي كذلك لاحقا قانون ملكية الأراضي الذي منح الحاكم العام السلطة للحصول على أي مساحة للاستخدام العام وذلك بنزع ملكيتها. تمت تهيئة البيئة المناسبة لتحويل السودان الى دولة منتجة للخام فطورت زراعة القطن فى مشروع الجزيرة، والقاش وطوكر،النيل الأبيض، جبال النوبا ومنطقة الزاندى بجنوب السودان ومشاريع الطلمبات فى النيل الابيض، الازرق والشمالية . وقامت الى جانبها صناعات مساعدة من المحالج، تحكمت فى تجارة القطن، الصمغ ولاحقا الذرة والسمسم والمواشى، شبكة من البنوك الأجنبية والشركات الاجنية والمختلطة. لكى يلعب الاقتصاد السودانى دورة لمد بريطانيا باحتياجاتها من المواد الخام الزراعية وتشكيل سوقاً لمنتوجاتها من السلع المصنعة تم اكمال مد خطوط السكك الحديدية من حلفا حتى الخرطوم ومن ميناء بورتسودان في البحر الأحمر حتى مناطق الانتاج الزراعي في الشرق والجزيرة وكردفان.

    ترتب على نمط التنمية التي فرضها المستعمر ان تخلفت الصناعة، وتم إجهاض أي محاولة من جانب الرأسمالية السودانية الناشئة لاقامة صناعة وطنية، وذلك لان المستعمر كان يريد السودان سوقا لتصريف منتجاته الصناعية وذلك بتخفيض الضرائب الجمركية وفى عام 1956 م كان القطاع الزراعي يساهم بحوالي 61% من الناتج الإجمالي ويعتمد عليه أكثر من 85% من السكان، و قطاع الخدمات يساهم بحوالي 35% من الناتج الإجمالي (مؤسسات التجارة والنقل والتوزيع والخدمات الأخرى ) أما القطاع الصناعي، فقد كان ضعيفاً يساهم بأقل من 1% في الناتج المحلي ويستوعب أقل من نصف في المائة من القوى العاملة (محمد علي جادين: تطور القطاع الخاص في السودان، بدون تاريخ)

    هذا النمط من التطور هو الذى سيعطى التنمية السودانية السمات التى ستميزها لاحقا وهى اولا: انحصارها فى السودان الشمالى والوسط ( ماسمى مثلث حمدى) سواء فى الخدمات، تراكم عوائد انتاج المناطق الاخرى؛ ثانيا:اعتمادها على العمالة اليدوية الرخيصة من باقى القطر؛ ثالثا: ظاهرة الثنائية الاقتصادية اى النمط الأقتصادي الحديث والمتطور نسبياً والمربوط بشكل مباشر بالسوق الرأسمالي (ماسمى القطاع الحديث) ونمط التقليدى الهش والمتخلف (ماسمى القطاع التقليدى) ورابعا: عوائد الاستثمار فى خارج المثلث لا تعود الى مناطقها ولكن يعاد تشغيلها اما فى عواصم مثلث حمدى او فى الخارج (الزراعة الالية فى جنوب كردفان، القضارف والثروة الحيوانية فى دارفور....الخ) تاركة هذة المناطق متخلفة وباقل القليل من الخدمات.

    الفئات التجارية

    الطبقة التجارية التى جاءت من اعماق التاريخ السحيق والمنخرطة فى تجارة الذهب والرقيق والابنوس وريش النعام وغيرها، وكانت محددا لقيام واضمحلال التنظيمات الحاكمة، تطورت فى العصر الوسيط لتكون تابعة للحكام والسلاطين ومصدر ثروتها الاساسية من الضرائب والمكوس. ساهمت بطموحها فى توسيع التجارة الخارجية، خاصة تجارة الرقيق، وحرية الحركة فى اضعاف السلطنات. كون ابناء القبائل الشمالية (الجلابة) الذين انتشروا فى كل اطراف السودان القديم معظم افرادها (مثال الزبير باشا رحمة وابناءة). تطورت هذة الطبقة وتشعبت ارتباطاتها وتنوعت اصناف تجارتها فى التركية السابقة ولكنها وقعت تحت مطرقة الضرائب الفادحة وسندان غلبة التجار الاجانب مما دفع اطراف عديدة منها لتأييد الثورة المهدية واطراف منها لتاييد الحكم التركى. برغم اتساع الاسواق الداخلية فى المهدية الا ان اضطراب الاحوال والحروبات الاهلية وعدم الاستقرار وانغلاق معظم الاسواق الخارجية اثر على نموها. اثر الغزو الاستعمارى الجديد على هذة الفئة من مناحى مختلفة، فقد ادى استباب الامن وعودة النشاط الزراعى والرعوى، تخفيض الضرائب وانفتاح السودان للخارج الى الدفع بهذة الفئة فى بادىء الامر، لكن مع تطور سيطرة التجار الاجانب و التضييق على هذة الفئات فى انحاء القطر المختلفة دفع بمجموعات كثيرة منها الى الانخراط فى ثورة 1924.

    ترافق تغيير السياسات من احتواء القيادات القبلية والطائفية بالإضافة إلى كبار التجار والأعيان بمساعدتها على تطوير نشاطاتها الاقتصادية عن طريق المنح والتسهيلات وغيرها بعد ان تأكد ولاؤها خلال ثورة 1924. ولكن السياسات التى مست الفئات التجارية حصرت دورها في نشاطات التجارة الداخلية وبعض الصادرات ولترتبط بحركة ونشاط الشركات الأجنبية المسيطرة في الخرطوم وامدرمان وبذلك تحولت إلى وسيط للسوق الرأسمالية العالمية. كانت شركات الاستيراد والتصدير ترتبط بعدد كبير من الوكلاء المحليين في كافة مناطق البلاد- وفي تجارة الصادرات كان المجال مفتوحاً للتجار المحليين: فقد كان مجال تصدير الماشية تحت سيطرة التجار المحليين بالكامل- ومن جهة أخرى كانت الشركات الأجنبية تقوم في بعض الأحيان بترك عمليات شراء المحاصيل لوكلاء محليين. ومن خلال هذا النشاط تمكنت الفئات التجارية من تنمية قدراتها المالية والفنية وتوسيع علاقاتها بالشركات الأجنبية في السوق العالمية. ايضا تمكن بعض أصحاب المشاريع الكبيرة من دخول هذا المجال. وكانوا من كبار المنتجين المرتبطين بنشاط تجاري وزراعي وصناعي واسع (دائرة المهدي، أبو العلا، عبد المنعم وعثمان صالح). وهذا النشاط المتنوع ساعدهم في الصعود والتداخل مع الفئات والشركات الأجنبية. وبجانب النشاط التجاري اتجهت بعض الفئات إلى مجالات العقارات والمقاولات والنقل والمواصلات وغيرها. ولعب التجار، بحكم وعيهم واحتكاكهم بفئات الأفندية والعالم الخارجي دوراً مشهوداً في الحركة الوطنية الحديثة، منذ بداياتها. يمكن التمييز بين مجموعات صغار التجار المرتبطة بالطبقة الوسطى، ومجموعات كبار التجار التي تشكل أهم فئات الطبقة الرأسمالية (البرجوازية) النامية في البلاد، بحكم سيطرتها على مجالات أساسية في النشاط الاقتصادي في إطار النظام الكولونيالي القائم وقتها.

    بحكم ظروف نشأتها فقد تحددت سمات الرأسمالية التجارية الأساسية في ارتباطها بالسوق الرأسمالية العالمية، عناصرها الأساسية تاتى من وسط الارستقراطية الطائفية والقبلية وتتميز بالتفكك والضعف الاقتصادي والاجتماعي وذلك نتيجة لتطورها في ظروف الهيمنة الاستعمارية وتعدد وتنوع جذورها الاجتماعية وموقعها الهامشي بين الشركات الأجنبية والقوى المهيمنة التقليدية. ومع تعدد مجالات نشاطها، كان النشاط التجاري هو الغالب في حركتها والمصدر الأساسي للثروات التي تراكمت في أيديها خلال فترة الحكم الثنائي. ارتبط نموها بعلاقاتها مع الطرق الصوفية عند تحولها الى طوائف دينية واصبحت ممثلة فى الاحزاب الليبرالية الطائفية. هذة الخاصية ستكون احد اسباب عدم استقرار الحكومات وعدم تمكن اى من الاحزاب فى الحصول على الاغلبية اللازمة. وسنتابع لاحقا تطور هذة الطبقة منذ الاستعمار الانجليزى المصرى وتحولاتها النوعية الى سيادة الراسمال الطفيلى على قيادتها. (محمد علي جادين: تطور مرجع سابق)

    الموقف من الكيانات الدينية

    للظروف التى اوردناها سابقا فقد تدرجت العلاقة مع الطرق الصوفية من العداء السافر والتصفية للمهدية والتضييق على باقى الطرق باشكال مختلفة، الى تبين الحاجة اليها فى تحييد واحتواء التحركات الدينية المقاومة، تأييد وايجاد غطاء دينى للحلفاء فى الحرب العالمية الثانية والولاء الذى ابدتة ابان ثورة 1924 ولعبها الدور الحاسم فى افشال دعاويها. لقد توصل الكثيرين من البحاثة الاجانب والسودانيين، كما سوف نتابع عند تناولنا الاحزاب الليبرالية والطائفية لاحقا، ان نمو وتطور المهدية، الختمية والهندية كانت نتيجة مباشرة لدعم ومساندة الدولة، لاسباب مختلفة فى سنوات مختلفة، وانها لم تكن قادرة على الاستمرار فى النمو والتطور دون المحافظة على علاقات وطيدة مع الدولة ومؤسساتها وفى نفس الوقت مع كافة فئات المجتمع. وكان هناك وعى من الجانبين باستمرارية هذة العلاقة واعتمدت على مرونة الطرفين فى المحافظة عليها، كما استفادت منها الدولة فى ايجاد الغطاء الشرعى لوجودها وفى نفس الوقت اضعافها بنشر روح التنافس بينها. (تيم نبلوك، مرجع سابق)

    انشأ الحاكم العام عام 1902م، مجلساً للعلماء الذي أُطلق عليه اسم "لجنة العلماء" لتقليص نفوذ قادة الطرق الصوفية وتقوية جانب المدرسة الفقهية المنافسة، من خلال تركيز فكر سني معارض للصوفية وداعم لمركز علماء الفقه والسنة كغطاء ديني للسلطة البريطانية من ناحية ولموازنة نفوذ الفكر الصوفي من ناحية أخرى ومهد لانشاء المعهد العلمي، ومن ثم انشئ المعهد العلمي بام درمان على غرار الأزهر عام 1912م، وعُين الشيخ أبوالقاسم أحمد هاشم (1856م– 1934م) شيخاً له وبجانب الهدف المباشر لتأهيل عدد من العلماء السودانيين وزيادة فرص التعليم الديني، فان الغرض من انشاء المعهد كان إيجاد البديل في السودان للأزهر الشريف يتوجه إليه السودانيون بدلاً من السفر إلى مصر ( في العلاقة بين المستعمر البريطاني و"الأفندي، سطور من كتاب : 'العيش مع الإستعمار' للباحثة الأميركية هيزر شاركلي، ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي http://www.sudaneseonline.com )

    دور الافندية وافاق تطوره
    م
    نقصد بطبقة الافندية الموظفين السودانيين للتمييز بينهم وبين الموظفين البريطانيين . ويشكل الموظفون السودانيون مجموع الشبان الذين علمتهم الادارة الجديدة فى مدارسها التى انشأتها على نمط معين ثم إستخدمتهم فى الوظائف الدنيا فى سلك الادارة الاستعمارية. عند دخول الحكم الثنائى حيز الوجود، وكبقية الامور الاخرى فقد افتقدت الرؤية الواضحة وبدلا من ان تنتهج المثال البريطانى فى التعليم فقد نهجت على ماخلفته الادارة التركية من عملية تعليمية. كان التعليم التركى فى السودان فى البداية مربوطا بمصر عن طريق تشجيع الاعيان وزعماء العشائر لارسال أبنائهم إلى مصر للدراسة فى مدارسها ومعاهدها الحديثة وفى رواق الازهر. وبعدها بانشاء مؤسسات تعليمية فى القطر تنتهج نهج التعليم المصرى وكان تلامذة تلك المدراس من أبناء الشيوخ والاعيان من سكان دنقلا ، الخرطوم ، سنار والتاكا. تم فتحت خمس مدارس فى المديريات المختلفة- بربر والابيض ودنقلا وكسلا- بدلاً من جلب التلاميذ من المديريات إلى الخرطوم. لقد كان نتاج هذه السياسة التعليمية مجموعة من الشَبان شديدى الارتباط بمصر والمتاثرين إلى درجة بعيدة بالثقافة المصرية . ( الكد، مرجع سابق)

    كانت الحاجة للخدمة فى الوظائف الدنيا فى دولاب الحكومة هى الدافع لانشاء المدارس واستعملت اللغة العربية وكان المدرسون مصريون أو من يتحدثون العربية. " شهدت فترة الحكم الثنائي الانجليزي/ المصري قيام مؤسسات التعليم الحديث. لقد أوضح سير جيمس كري، أول مدير للتعليم في السودان، ان الهدف من المؤسسات التعليمية هو تعليم الحرف وشئ من المعرفة يمكن الأهالي من التعرف على أغراض الحكومة ونظام الإدارة وتدريب بعضهم لكي يتمكنوا من شغل الوظائف الصغيرة التي تحتاج إلى ان يملأها السودانيون" النُّخْبَةُ السودانية: عبدالله الفكي البشير، المزاج الصَّفْوي والصِّرَاع العقيم (3) ، سودانايل). بعد ثورة 1924 وبعد التخلص من الشريك المصرى كان لابد من تغيير استراتيجيات جديدة للتعليم. لم تتغير الاهداف النهائية للعملية التعليمية ولكن شملت التغييرات:

    اولا: تهميش دور التعليم، من اغلاق الكلية الحربية، ضم المعارف إلى مصلحة الخدمات الصحية والبيطرية في عام 1927م، التركيز على ابناء الزعماء والعشائر ومجموعة من الإجراءات التعسفية والسياسات الصارمة. برغم ان كلية غردون انتهجت النهج البريطاني في التعليم منذ افتتاحها، وكانت لغة التعليم هي اللغة الانجليزية، وفرضت الكلية اشياء كثيرة من شانها ترسيخ النمط الانجليزي ونشر الثقافة الانجليزية. ولكنها لم تنجح حتي عام 1924م عن احداث اثرها المرجو علي السواد الاعظم من الافندية وذلك لاسباب كثيرة في مقدمتها ان تلاميذ كلية غردون يدخلونها وقد تلقوا تعليمهم الابتدائي والاوسط علي النهج المصري وقد تشربوا بالثقافة المصرية والمشاعر الموالية لمصر ووحدة وادي النيل. وتكون معرفتهم حتي ذلك الوقت باللغة الانجليزية محدودة جدا. ولكن رغم ذلك بدأ الاثر البريطاني في النمو لا سيما بعد احداث 1924م وما اعقبها من اجراءات لمحو الاثر المصري. وبدا اثر الثقافة الانجلبزية وما تحتويه من افكار جديدة ومبادئ ليبرالية واشتراكية يجد طريقه الي الافندية عبر الكتب والمجلات والمطبوعات الانجليزية التي صار الحصول عليها بتدبير الإدارة البريطانية اكثر يسرا من رصيفاتها المصرية. ليس هذا فحسب فقد تم مراجعة كافة انظمة التعليم، وبذلت جهود كبيرة جهود لتغيير محتواها وادخال انماط المناهج القائمة على التفكير العلمى والتحليلى بدأ من المدارس الاولية .

    ثانيا: ادى فشل ثورة 1924 الى فترة قنوط ويأس عارم وسط المتعلمين. رسم المغفور لة الدكتور خالد الكد صورة قلمية رائعة " الفترة التي اعقبت الاحداث فترة تأمل عكف فيها الافندية علي البحث والتحصيل، وابتعدوا طوعا وكرها عن النشاط العام. وتقوقعوا علي انفسهم في حلقات صغيرة للقراءة والمناقشات، وقد نمت هذه الحلقات الي جمعيات أدبية ساد فيها في البداية شئ من الترف الفكري والروح النخبوية حلقت بهم في سماوات التجريد المتعالي علي واقع الصراع السياسي والاجتماعي . ولكنهم اجبروا في نهاية المطاف علي الهبوط الي ارض الواقع لمناقشة القضايا الملحة وفق ما اكتسبوه من معرفة خلال قراءاتهم المكثفة في التراث العربي الاسلامي وفي الثقافة الغربية المعاصرة. وقد كان في مقدمة هذه القضايا قضايا الهوية والذاتية والدولة القومية. رغم ان نقاش تلك القضايا داخل تلك الجمعيات لاسيما جمعية ابي روف (نسبة الي حي ابي روف بامدرمان) وجمعية الموردة نسبة الي حي الموردة بامدرمان والذي تسكنه بجانب آخرين جماعة من فرع الهاشماب من قبيلة الجعليين والتى صارت تعرف لاحقا بمجموعة "الفجر" ( وهي المجلة التي ذاع صيتها في الثلاثينات). لم يخرج الموضوع في بادئ الامر عن إطار التيارين التقليديين الا انه اكتسب ابعادا جديدة أكثر تشعبا وتعقيدا.

    ثالثا: شق زخم ثورة 1924 طريقة ببطء داخل تجمعات المثقفين، وقد برزت بصورة جادة في الثلاثينات في الصراع بين الابروفيين واولاد الموردة. ورغم ان الابروفيين حاولوا اعطاء الصراع طابعا فكريا وسياسيا وحاولوا تصوير خلافهم مع مجموعة اولاد الموردة وكانه صراع بين التيار الوطني العروبي الاسلامي المتوجه نحو مصر العربية الاسلامية وبين التيار غير الوطني المنحاز الي الانجليز. ولكن تطورات الامور والصراع داخل جمعية الموردة نفسها والتي جعل اسمها يتغير من (أولاد الموردة ) الي (أولاد الهاشماب) ثم الي (جماعة الفجر) يؤكد هذا الاتجاه، اذ اتسعت الشقة بين (أولاد الموردة) محمد عشري الصديق واخرون وبين (أولاد الهاشماب) محمد احمد محجوب وعبد الحليم محمد واحمد يوسف هاشم على اساس الانتماء العرقى. وقد ظهر هذا جليا عند صدور العدد الثالث من مجلة النهضة بتاريخ 18 اكتوبر 1931م، وعلي غلافه صورة كبيرة للزبير باشا ود رحمة وخصت كلمة التحرير "للمغفور له في جنات الخلد" الزبير باشا ود رحمة وبه نبذة عن حياته وسيرته في بحر الغزال واشادة بما قام به من اعمال جليلة في الجنوب وما حمله معه من هدايا الي الخديوي حين ذهب الي مصر ومن بينها الفا من الجنود السودانيين. كان (أولاد الموردة)، متابعة لما طرحتة ثورة 1924، يتوقون صادقين لقومية "سودانية" تستوعب أولاد القبائل والرقيق علي حد سواء، وعبروا عن ذلك في رفق ولطف فرضته عليهم ظروفهم الاجتماعية والعربية ورفضه " اولاد القبائل" بشتي الوسائل القاسية والناعمة. ولعل اخطرها جميعا هو محاولة انكار وتجاوز هذه الفوارق الاجتماعية العرقية. ( د. خالد الكد، مرجع سابق)

    ليست هذة الفترة هامشية فى تاريخنا المباشر لكنها كانت الاتون العظيم التى ستتبلور فية كافة الرؤى السودانية المستقبلية ولعب الاستعمار دور المشجع حينا فى بعضها والمثبط فى اخرى حسب الاوضاع العالمية والمحلية. سوف نتابع كيف ان كثير من الملامح الاساسية للمثقفين ارتبطت بهذة الفترة. فقد انتبهت القوى الطائفية لهذة القوى الصاعدة فى مجرى التاريخ السودانى واثرها الواضح فى تنامى الوعى وقدرتها على تحريك شوارع المدن الجديد، فعملت على جذبها الى مواقع فكرها، والذين رغم انهم اثروا بشكل ايجابى فى التكوينات الحزبية المستقبلية لكنهم وبفضل السياسات الصبورة والاصرار من جانب قادة القوى الطائفية انتهوا بالتسليم لها. عدة مظاهر لاحقت هذة الفئة مثلها فى هذا مثل الطبقة التجارية السودانية: ظاهرة التشرذم، فقدان القدرة الواعية على التفرقة بين تناقضاتها الاساسية والثانوية، تغليب الشخصى والعشائرى والذى قاد نهاية الى عجزها البائن فى الانفكاك من تاثيرات ثقافة التخلف السائدة وتجاوزها رغم تحليقها المستمر في سماوات التجريد المتعالي.

    ويشخص محمد عثمان مكي اشكالات النخبة المتوارثة " درجنا على تنمية روح الانعزال والتعالي على القضايا اليومية عند علمائنا منذ المراحل الأولية للدراسة، حيث نعتبر الطالب المجتهد هو المتفرغ تماماً لدراسته، والعاطل عن أي قدرات أخرى، والمتعالي على كل الهموم والاهتمامات خارج إطار مواد الدراسة، هذا التعالي الأجوف وجد مبرراً له في الطبيعة السلبية في الحركة الوطنية منذ نشأتها، حيث اتسمت بخاصية سلبية هي الاتكالية وانعدام القدرة – او حتى الرغبة – في تفهم ودراسة قضايا الواقع السوداني. داخلياً اعتمدت الحركة الوطنية على الجماهير الجاهزة التي لا تحتاج الي توعية وطرح مطالب محددة تحتاج الي بحث ودراسة ( جماهير الطوائف الدينية ) وخارجياً اعتمدت على مساندة قوى الاستعمار نفسها ( الجمعية التشريعية والتاج المصري) . إذاً لم تكن هناك أي ضرورة للمثقف الباحث والدارس لقضايا وطنه والداعم لمطالب حركة التحرر (خواطر فلسفية: محمد عثمان مكي العجيل، الطبعة الاولى، بدون تاريخ)

    الشمال والجنوب

    لعب ونجت باشا دورا مؤثرا فى التاريخ السالف و الحاضر الذي تشكل بعده، ومازال يتشكل حتى الان. فونجت باشا هو الذي وضع اللبنات الأولى لكل التدابير التي اتخذتها الإدارات البريطانية اللاحقة للفصل بين الشمال والجنوب، وحذت حكوماتنا نفس المنهج بالاضافة الى نقض الوعود. هذا تأريخ طويل تم تناولة مرارا وتكرارا تلك التي أدت في خاتمة المطاف إلى الدفع بالنخبة الجنوبية إلى حمل السلاح وإشعال الحرب بين الشمال والجنوب حتى توقيع اتفاق نيفاشا الآخير والانفصال.
                  

07-29-2012, 09:33 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (3) (Re: د. عمرو محمد عباس)

    متابعين بإهتمام يا د. عمرو
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de