|
|
ركاكة الصحافة المعارضة.. حريات نموذجا
|
أحرص على متابعة موقع صحيفة حريات الإلكترونية منذ فترة طويلة، وهي ذلك الموقع حديث النشأة نسبيا، وحرصي مكمنه ليس بحثا عن الإثارة التي تصنعها الصحيفة ولا تقليب الأخبار الواردة أصلا في صحف الخرطوم بحيث تبدو شهية التناول، إنما تأملا في "تكنيك" يجلب الأسى على واقع الصحافة المعارضة، التي تظن أن ردة الفعل تخلق الفعل الخلاق والمؤثر في تغيير نمط التفكير وتعيد ترميم البيت المخرب أصلا، وأعني السودان. سواء تعلق الأمر بحريات وقبلها الراكوبة، وحريات بدرجة أكثر فإن الصحافة بأي معيار كانت تذوب في هلام الرغبات التي تبحث عن سجل لكشف الزيف من خلال تعميق الزيف نفسه. فحريات لا تفعل شيئا سوى أنها بوق للنظام يخدمه حتى لو أن النظام نفسه لا يعي ذلك، أو لم يلتفت له.
يظن كثير من المعارضين، وهم يصطحبون فكرة المعارضة ما قبل الكلاسيكية، أن الزعيق العالي يجعل أوراق التوت تتساقط، وينسون أن القارئ في هذا الزمن بالتحديد ومع الفضائيات المفتوحة بات يصل إلى المعلومات ويقلب ويدقق ويعرف الحقائق بنفسه، شاء المعارض أم أبى. وبذلك فإن أي محاولة لجعل الفساد يصبح جميلا لن تجدي، وهو ما تفعله حريات، ساعة تلف وتدور حول مسألة معينة وهي مدركة للرأي العام وله حولها أقاويله وأعاجيبه. تعمل حريات على تجميل الفساد ساعة تمارسه هي نفسها، في إفسادها لفكرة الصحافة "الرزينة"، فأن تكون لك غاية وهدف "نبيل" وأنت تمارس العملية الصحفية، وتبحث عن الحقيقة، يجب أن تتحلى بنصفها على الأقل، لا أن تركم وترمي بالحقائق وتأخذ ما شئت من التزييف. وأبسط توضيح لذلك أن التقنية التي تستعيرها الصحيفة تقوم على الاستهانة بالعقل المستقبل، فالخبر يصاغ بطريقة الشر المستطير، لا شيء غيره. قد يكون الواقع رديء، لكن الرداءة يجب أن تقاس بالمنطق والمعقول لا بالاستخفاف واللذع الذي يقتلها فيفقدها رداءتها.
حريات تقوم على "مدرسة" يمكن تسميتها بـ "التركيز الخاطئ" وأعني أن المحرر يركز على فكرة معينة في مضمون ما يود إيراده بحيث ينسج في النهاية قصة إخبارية لا تقول الحقيقة بقدر ما تعمق الريبة لدى القارئ، لننظر مثلا إلى الصياغات "المحترمة" في وكالات الأنباء العالمية أو الصحف العالمية الكبيرة، حيث هناك احترام لذهن المتلقي، بحيث تكون الوسيلة الإعلامية تتبادل الثقة مع الذات قبل القارئ الذي بات حصيفا جدا. وما يحدث في حريات ان الموضوع رغم قوته وجدارته يتساقط بحيث يتحول في نهاية المطاف إلى مزحة أو نكتة مسلية بدلا من أن يكون أداة فاعلة للتغيير السديد أو توجيه الرأي العام بطريقة فاعلة. فعلى سبيل المثال فإن الصحيفة تستخدم صيغة تمويهية تسميها "المحلل السياسي" الذي يعلق على كل شيء، وهو ينسج تعليقه وتحليله وفق رؤية تعارضية بحتة لا تستند على الأرقام ولا المنطق بقدر ما تعزف على وتر "المزحة/التضليل"، هذا الأسلوب يستهوي بعض القراء ممن يبحثون عن المتعة، لكنه يقصي القارئ الجاد الذي يبحث عن المعلومة السديدة.
فـ "المحلل السياسي" الذي هو "كائن مستتر" هو المحرر نفسه الذي يغلف ما يريده في شكل قراءة أو تعقيب، ولو كان للصحيفة أن تستبدل ذلك بـ "رأي الصحيفة" أو "كلمة المحرر" لكان ذلك أفضل، بدلا من هذه الطريقة "البهلوانية" المكشوفة.
الأمر الثاني هو التعليقات التي تعبئ الموقع والتي لا تجد فيها تعليقا واحد يعارض الفكرة التي يسوقها المحرر، وهي تعليقات مليئة بأسلوب "المزحة" و"الاستتار" وكأنما يكتبها "المحلل السياسي" نفسه أو محرر الموقع ليوهم القارئ بأن ما يكتب هنا له صدى. هل يعقل ألا يكون هناك تعليقات ضد الفكرة المنتجة، بالطبع هي موجودة لكن يتم إرسالها إلى سلة المهملات حيث لا يتيح الموقع التعليق الفوري، ويخضع التعليقات للرقابة، وهي سياسية تتبعها مواقع كثيرة، لكننها تتطلب النزاهة.
وبهذا الأسلوب الإقصائي فإن حريات التي من المفترض أن تدافع عن "الحرية" و"حقوق الكائن البشري" كما تعنون نفسها تمارس العكس تماما، وتصبح هي سلطة موازية للنظام باسم المعارضة. إن الإعلام أو الصحافة التي ترغب في أن يكون لها دور في مسائل وطنية مستقبلية، تتعلق بقضايا حساسة ومعقدة كمسألة الحريات وحقوق الإنسان والشفافية، يجب أن تمارسها هي في الأساس قبل أن تحمل معاولها للهدم. فالثقة التي قد تكتسب في البداية من القارئ، أو "الإبهار الأول" سرعان ما ينتفي ساعة تتكشف للقارئ وهو أذكى من تصورنا، أن الأمر لا يعدو لعبة.
المخرج الذي يحرر حريات من هذه الملاحظات يتلخص في إذا ما كانت حريات "هي" في المقام الأول موقع سياسي معارض، يمارس لعبة السياسة باعتبارها في تجليات ما بعد الحداثة، قائمة على اللاأخلاق. لكن يجب فصل العملية السياسية عن الصحافة باعتبارها خط يبحث عن الحقيقة. قد يتداخلان، لكن حتى ممارسة السياسية "دون أخلاق" تستدعي التجويد والخبرة والحنكة.
|
|
 
|
|
|
|