الطيب صالح ...موسم الحزن والرحيل ...ماذا قالوا عنه ؟......للتوثيق

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-20-2024, 01:52 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الراحل المقيم الطيب صالح
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-19-2009, 04:46 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الطيب صالح ...موسم الحزن والرحيل ...ماذا قالوا عنه ؟......للتوثيق

    حزين انا وكل افراد الشعب السودانى واهلى فى الشمال فى كرمكول والعفاض وابودوم قشابى والخرطوم وعطبرة وبورتسودان بفقد اديب السودان الكبير الاستاذ الطيب صالح
    نفتقده اليوم ونحن فى الوطن فى مفترق طرق واكثر حوجة لارائه السديدة والواضحة المعروفة بالحرص على وحدة الوطن واهله وايقاف الحروب والشتات ..
    نفتقد اليوم الرزانة والتواضع والخبرة الاعلامية الهائلة الممزوجة بفن الادب والثقافة والاسلوب الراقى فى الكتابة ..
    نفتقدك ونحن اكثر حوجة لامثالك من اصحاب الخبرات الكبيرة ذات التقدير العالمى التى ترفع اسم الوطن فى كل مكان تحل فيه ..
    كان اسمك يغطى على بشاعة الحروب وهشاشة وضحالة الفكر السياسى السائد اليوم فى الوطن ..كان اسمك هو الوطن هو السودان الدولة ذات التاريخ والحضارة الضاربة فى عمق الزمان ..

    كان اسمك مكان احترام الجميع الذين شهدوا لك واحترموا ثقافتك وقدروها وبك وبمجهودك الذى بذلته فى كل المحافل نلنا اسمى التقدير والاحترام من كثير من الشعوب ..
    كنا نفتخر بك فى كل مكان بان لنا اديبا وكاتبا ورجلا يحمل من الخبرات الكثير ومعروف على لالنطاق العالمى ..
    لكل فرد قصة يحكيها اليوم مع اديبنا الكبير فى سنين حياته العامرة والذاخرة بانتاج ادبى وعلاقات اجتماعية راقية وحب من طرفين خال من الرياء ..
    اليوم هو يوم شكره على ما قدم وانتج وما قدم للبشرية من ادب وروايات وقصص ومقالات صحفية ودراما هادفة شكلت رايا عاما مستنيرا فى كل انحاء العالم ..
    عن اىصفة اتحدث هل اتحدث عن الطيب الاديب ام الانسان المتواضع ام الاعلامى الشهير ام الخبير الدولى ..لن استطيع مهما اوتيت ان اوفيه حقه فانا لست بقامة ادبية او اعلامية او اى شىء يقف لبعدد ماثره الحميدة تلك ولكنى اترك الامر لمن هم اكثر شانا من اولئك الذين يعرفون فضله ودوره وما قدم هنا فى هذا البوست التوثيقى ..
    ولكن فى مثل هذا اليوم لابد لى من ان احكى قصة عنه وعن احترامه للراى الاخر مهما كانت قاسية او غير صحيحة ..
    عندما كنا طلابا بمصر فى اوائل الثمانينات وكان الطيب وقتها خبيرا باليونسكو وكان ياتى للقاهرة كل عام لحضور فعاليات معرض الكتاب السنوى ..
    ذهبت اليه فى مقر اقامته لادعوه الى ندوة ادبية وثقافية ليرد على اتحاد ادباء الحكومة الذى زار القاهرة بدعوة من الاتجاه الاسلامى الذى كان يتحكم فى الاتحاد الطلابى وكان وفدهم يضم الدكتور حسن عباس صبحى والاستاذ فراج الطيب والكاتب مصطفى عوضالله بشارة ..
    واقام لهم الاتحاد ندوة فى دار الوافدين بعماد الدين وجهوا نقدا للاستاذ الطيب وقالوا فيه ما قالوا عن علاقة مزعومة للطيب بالانجليز ابتدره حسن عباس صبحى رحمه الله وحكى قصة علاقته بالطيب ومن ثم كال له اتهامات لا استطيع كتابتها اليوم والاثنان فى ذمة الله ..
    وحاولت الذهاب للمنصة للرد عليه والكلام فى الحقيقة كان حار وغيرصحيح ولكن الاخوانجى الذى كان على المنصة ويعطى فرص التعقيب حرمنى ورفض او قل تجاهلنى ..
    وبغضبى هذا ذهبت اليه لاطلب منه الحديث ضمن ندوىة خاصة ا تقيمها رابطة طلاب ابناء العفاض بمصر ليرد عليهم .. انظروا للطيب ماذا قال لى بعد ان شرحت له ما اريد وما قاله الدكتور حسن عباس صبحى ومصطفى ..
    قال لى لا لا يا ابنى هذا رايهم وهؤلاء ربما كانت هذه قناعاتهم .. وانا لن ارد واعفينى هذا راى للناس وهم من يقيموه ولست انا فانا لا ادافع عن نفسى ..والححت عليه ولكنه رفض .. وقال منهيا الحديث ما قالوه رايهم وانا احترم الراى الاخر مهما كان ..
    هذا هو الطيب اسما ومعنى ..
    ونتواصل معكم فى التعليق على ما يكتب ويقال ..
                  

02-19-2009, 04:49 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطيب صالح ...موسم الحزن والرحيل ...ماذا قالوا عنه ؟......للتوثيق (Re: الكيك)

    الطيب صالح ومفارقاته اللندنية
    ffالطيب صالح ومفارقاته اللندنيةfff

    عبد الباري عطوان

    قبل عشر سنوات تقريباً دعيت إلى جامعة أكسفورد البريطانية العريقة للمشاركة في ندوة حول صورة العرب في الغرب، إلى جانب العديد من الأساتذة والمختصين من مختلف الجامعات الأوروبية والبريطانية، علاوة على الأمير الحسن بن طلال الذي كان حينذاك لا يزال ولياً لعهد الأردن.
    رئيس قسم الدراسات الشرقية في الجامعة واسمه ديرك هوبوود فجر قنبلة من الوزن الثقيل في الندوة، عندما قال ان الطلاب العرب يأتون إلى الجامعات البريطانية ليس من أجل الدراسة والتحصيل العلمي، وانما لمضاجعة الفتيات البريطانيات الشقراوات للانتقام من المستعمر البريطاني الذي احتل بلادهم.
    البروفسور هــــوبوود عـــزز نظريته هذه بتأليف كتاب تحت عنوان Sexual Encounters in the Middle East، فسر فيه التاريخ الشرق اوسطي من زاوية العلاقات الجنسية للشخصيات السياسية الرئيسية التي لعبت دوراً في أحداث المنطقة على مر العصور.
    قنبلة البروفسور المذكور، وتفسيره الجنسي للتاريخ أثارا جدلاً ساخناً في تلك الندوة، خاصة من جانب المشاركين العرب الذين فوجئوا بمثل هذا الطرح المهين، وتصدوا بشراسة لصاحبه، ونظرته الدونية، وميوله ذات الشبهة العنصرية الاستفزازية لمشاعرهم.
    تذكرت الأديب الكبير الطيب صالح آنذاك، وروايته العالمية الشهيرة 'موسم الهجرة إلى الشمال'، التي ترجمت إلى 65 لغة، وبطلها مصطفى سعيد الذي ذهب إلى الجامعات البريطانية لجمع الحسنيين، أي التحصيل العلمي العالي واثبات فحولته الجنسية مع نساء بريطانيا 'البضات' انتقاما لاحتلال بلاده.
    فالطيب صالح كان، بطريقة أو بأخرى، يكتب سيرة بطل روائي تشبه ربما سيرته، مع بعض البهارات الدرامية والتخييل الذي لا بدّ منه للعمل الروائي، لكنه لم يكن مسكوناً بهاجس الجنس مثل بطل روايته، فقد تزوج من أول سيدة اسكتلندية أحبها، وقد زرته في منزله في ضاحية ويمبلدون جنوب العاصمة أكثر من مرة، بصحبة صديقه الأديب والممثل والكاتب نديم صوالحة.
    اعترف أنني تأثرت كثيراً بأدب الطيب صالح، فقد كان لدي ميل لكتابة القصة القصيرة بدأ منذ دراستي الآداب قسم الصحافة في جامعة القاهرة، وواصلت كتابتها بعد انتقالي إلى لندن في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وحاولت محاكاة اسلوبه في عدد من القصص المستوحاة من الأجواء اللندنية والعواصم الأوروبية الأخرى بحكم ترحالي كصحافي، ونُشر بعضها في مجلة 'العربي' الكويتية، وبعضها الآخر في الملحق الأدبي لصحيفة 'المدينة' السعودية الذي كان يشرف عليه الأديب السوداني الراحل سباعي عثمان، ولكني توقفت لعدة أسباب أهمها ان الصورة لا يمكن ان تضاهي الأصل أو حتى تقترب منه، ولان الهم السياسي تفوق وانتصر، حتى ان المرحوم سباعي عثمان كتب مقالاً أشار فيه إلى ما وصفها بموهبة أدبية قتلتها السياسة.
    تعرفت إلى الأديب الكبير للمرة الأولى في مطلع الثمانينات، وعن طريق الصدفة المحضة، فقط كنت أعمل مديراً لتحرير مجلة 'المجلة' في عصرها الذهبي عندما كان يترأس تحريرها الصديق عثمان العمير. الزميل العمير كان في حينها معجباً بالرعيل الأول من المثقفين العرب، وخاصة الراحل أكرم صالح الذي جمعته به صداقة حميمة، فطلب من الأديب الساخر المرحوم أيضاً الزميل عوني بشير ان يسجل معه سلسلة من الحلقات حول ذكرياته، أي ذكريات أكرم صالح. ولكن عوني بشير استنكف ان يقوم بهذه المهمة مع 'معلق رياضي' وقال انه أكبر من ذلك.الزميل العمير طلب مني أن اتولى الأمر، وبالفعل سجلت ما يقرب الأربع ساعات مع أكرم صالح، كانت حافلة بكل ما هو ممتع حول ذكرياته في الجامعة الأمريكية في القاهرة، حيث بدأ دراسته ولم يكملها بسبب حرب 1948، والتحاقه باذاعة الشرق الأدنى البريطانية، ثم اضرابه مع زملائه عن العمل بسبب الغزو البريطاني لقناة السويس. أكرم صالح كان يجسد الارستقراطية الفلسطينية، وعائلته كان يضرب بها المثل في الثراء، فقد كانت تملك معظم جبل الكرمل المطل على مدينة حيفا أجمل مدن البحر المتوسط.
    أكرم صالح اضطر لقطع جلسات الحوار للعودة إلى الرياض حيث كان يعمل من أجل الاستقالة والعودة إلى لندن، وهو الذي كان يحلم ان يموت ويدفن في أرض عربية، بسبب طبيعة مزاجه الحادة، وبعض المضايقات في العمل، ولكنه لم يعد وباغتته أزمة قلبية حادة أدت إلى وفاته ودفنه في الرياض.
    اكراماً لأكرم صالح نشرنا الحلقات في مجلة 'المجلة'، وكانت من أجمل ما كتبت في حياتي، لمفارقاتها الغريبة، وفوجئت بالأديب الكبير الطيب صالح يهاتف رئيس التحرير، ويهاتفني من أجل كتابة سلسلة حلقات عن أيامه في لندن في القسم العربي لمحطة اذاعة 'بي بي سي' وصداقته مع أكرم صالح.
    الحلقات كانت من عيون الأدب، وتعكس خفة دم غير مسبوقة. وما أذكره منها، لحظة وصفه لوفاة أحد زملائه المسلمين وكان من مصر الشقيقة، واصراره في وصيته ان يدفن على الطريقة الاسلامية. المفاجأة ان معظم زملائه لم يكونوا من المتدينين، ولا يعرفون مراسم الدفن وواجبات التغسيل والتكفين والتلاوة المرافقة في الحالين، فعدد المسلمين في لندن (أواخر الخمسينات) كان محدوداً جداً، ولا توجد مساجد، وهؤلاء لا يعرفون أداء الصلوات العادية، ناهيك عن صلاة الميت. وبلغت المفارقة ذروتها عندما ذهبوا إلى المقبرة، وتساؤلهم هل يجوز دفنه مع 'الكفار' الانكليز وكيف؟ والأهم من ذلك أين يوجهون الرأس وكيف يكون الشاهد؟ وتفاصيل كثيرة عن حيرتهم وجهلهم، دوّنها بطريقة رائعة، وبأسلوب أدبي ساحر.
    اعجابنا بهذه الحلقة على وجه التحديد تبخر عندما اعترضت الرقابة في السعودية على كل هذه التفاصيل، لان المذهب الوهابي لا يقبل بثقافة القبور هذه ويعتبرها بدعة. وأصر الرقيب على حذف كل هذه المقاطع، والا لا حلقة ولا نشر. الطيب صالح من جانبه قال اما ان تنشر كلها دون حذف أو لا تنشر على الاطلاق. رئيس التحرير وقع في حرج كبير، وبعد اتصالات مع علية القوم جرى ايجاد مخرج، وهو ان تفاصيل الحكاية وقعت في لندن في بلاد 'الكفار'، ويبدو ان هذا التفسير 'غير الوهابي' انقذ الحلقة، ورئيس التحرير، وبعدها أصبح الطيب صالح كاتباً منتظماً في المجلة.
    وللتاريخ فان الرجل لم يطلب مالاً على الاطلاق، سواء مقابل الحلقات المذكورة، او كتابته للصفحة الأخيرة في المجلة بشكل اسبوعي. وعندما جرى تحديد مبلغ المكافأة الشهرية لم يساوم على الاطلاق، ولم يناقش الأمر مثل بعض الكتاب الآخرين.
    الطيب صالح كان مغرماً بأبي الطيب المتنبي، والقى محاضرة عنه في المركز الثقافي السعودي، بدعوة من الدكتور غازي القصيبي، كانت من أجمل ما سمعت في حياتي، فقد كان خفيف الظل في طرحه، ممتعاً في تحليله لشخصية الشاعر الكبير وظروفه، وكانت حسرته الوحيدة ان ابا الطيب لم يزر السودان، وقال ان عزاءه ان ناقته 'بجّاية' كانت سودانية. وأكد انه، اي المتنبي، لم يكن ينطلق من نزعة عنصرية عندما هاجم كافور الاخشيدي ووصفه بالعبد. وقال من كان سيعرف كافور هذا أساساً او يتذكره لو لم يهجه المتنبي.
    رحم الله الطيب صالح، الذي كان مثل الغالبية الساحقة من أبناء السودان، قمة في التواضع وهو المبدع الكبير، وعاش حياة بسيطة هادئة، محاطاً بمجموعة صغيرة من الأصدقاء وفي البيت نفسه، وكم كنت أتمنى لو انه حصل على جائزة نوبل في الأدب تكريماً لمسيرته، ولكنه مع ذلك يسجل له انه جدّد دم الرواية العربية وأضاف إليها نكهة لم تكن تعرفها من قبل.
    لا أعرف أين سيدفن أديبنا الكبير، ولكن ما أعرفه انه أياً كان المكان، فإنه لن يواجه المعضلة التي واجهها زميله وأصدقاؤه في أواخر الخمسينات، حيث سيلقى كل الحفاوة والتكريم، وسيتحول قبره إلى مزار للملايين من عشاق ابداعه.
    القدس 19/2/2009
                  

02-21-2009, 12:37 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطيب صالح ...موسم الحزن والرحيل ...ماذا قالوا عنه ؟......للتوثيق (Re: الكيك)

    ر
    ا









    العدد رقم: 1177 2009-02-21

    قولوا حسناً

    صرح للحب والثقافة باسم الطيب صالح

    محجوب عروة
    كُتب في: 2009-02-21


    لأنهم أحبوه بصدق كلهم كانوا هناك ... فى التاسعة من صباح أمس الجمعة إصطف الآلاف للصلاة على فقيد البلاد بل فقيد كل من التقاه أو سمع عنه أو قرأ له... إنه طيب الخصال... الطيب الصالح... ذلك الاديب عبقرى الرواية التى احدثت دويا هائلا وترجمت الى لغات حية...
    لم يكن من أصحاب السلطة ولا المال ولا الجاه، مجرد تربال عصامي كما يحلو له ان يقول عن نفسه تحول الى أحد مشاهير الرواية العربية كرمه العالم أما نحن فى السودان للاسف فلم نكرمه بين أهله واحبائه واصدقائه وتلامذته... وهذه أحد نقائصنا ... لانعرف للانسان قيمة إلا بعد مماته... كان ذلك خطأ كبيرا ... اذن آن الأوان لنكف عن ذلك الخطأ الفادح...
    لو كان الطيب صالح مصريا كما العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم وغيرهم المئات ممن اثروا المكتبة المصرية والعربية والعالمية لاقاموا له الكرنفالات والاحتفالات والتكريم الذى يستحقه أما هنا فلا نهتم بذلك إلا بعد أن نواري الثرى من نحب ... حدث ذلك للعلامة عبدالله الطيب فى اللغة والآداب ولمامون بحيري ولفتح الرحمن البشير فى الاقتصاد والاعمال ... وقليل من الرجال الأفذاذ...
    ان المغزي الحقيقي لتكريم العظماء وأهل العطاء ليس أن نزكي على الله أحدا ولكنها دعوة للشباب وللأجيال القادمة أن تسير فى طريقهم وللتاريخ ان يسجل انجازات ومآثر الامم والشعوب ... إنهم البناؤون والمؤسسون لاعمال الخير فى كافة المجالات يقومون بالاعمال الجليلة ويذهبون ربما فقراء فيستفيد منها الذين يعقبونهم...
    لعل الكثيرين لا يعلمون ان جل المكتشفين وصناع الحضارة لم يروا بأعينهم نتاج اعمالهم وكثير منهم مات وحيدا ربما لايملك ما يشترى به قوت يومه أو مأوي يقيم فيه ولكنهم ورثوا ابناءهم وأحفادهم كل شئ... وربما لا يعلم الناس اعمالهم ولكن الله يعلم كل شئ ومن المؤكد لن تذهب اعمالهم هدرا وعنده الجزاء الاوفي...
    قبل عشرة اعوام تحرك طيب الذكر المرحوم فتح الرحمن البشير لعمل احتفال بسبعينية الطيب صالح داخل السودان ولكن حالت ظروف كثيرة لعدم إكتمال ذلك... ثم عندما اعتلت صحته بسبب الفشل الكلوي قام نفر كريم بمحاولة علاجه كان على رأسهم السيد حسن تاج السر ود.حسن ابشر الطيب والبروفيسور على شمو واعضاء جمعية اصدقاء مرضى الكلى واشراف د.كمال أبو سن ولكن بسبب تدهور الحالة الصحية لم يكتمل العلاج رغم تبرع كريم من احد ابناء السودان البررة بكليته (جزاه الله خيراً) ...
    مطلوب الآن تضافر الجهود لتكريم هذا المبدع الذى رفع رأسنا عاليا بين الامم فهذا اقل ما يستحقه وندعو هنا كل اصدقاء واحباء الفقيد ان يجتمعوا فى أقرب فرصة للتدارس حول كيفية تكريمه وطباعة كتبه وبناء صرح ثقافي باسمه يكون مباءة لكل طالب ثقافة وللاجيال القادمة باذن الله..كما ندعوا المؤسسات والدولة للتبرع لهذا الصرح الثقافي الذي سيحمل اسم الفقيد الذي أحبه الجميع.
                  

02-19-2009, 04:52 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطيب صالح ...موسم الحزن والرحيل ...ماذا قالوا عنه ؟......للتوثيق (Re: الكيك)

    وفاة الاديب السوداني الكبير الطيب صالح في لندن: صاحب رائعة 'موسم الهجرة الى الشمال' يرحل جنوبا!
    ffوفاة الاديب السوداني الكبير الطيب صالح في لندن: صاحب رائعة 'موسم الهجرة الى الشمال' يرحل جنوبا!fff
    19/2/2009

    لندن 'القدس العربي':

    ريادية الطيب صالح (1929 ـ 2009) الكاتب والاديب السوداني في حقل الرواية العربية مجمع عليها. فهو الكاتب الذي اكد موقعه في سجل الخلود العربي والعالمي عبر رائعته 'موسم الهجرة للشمال' (1966)، الرواية التي ظهرت مثل القنبلة في ستينات القرن الماضي وكأنها عصارة كل العصارات، مساحة للتفكر والتفكير ونهاية لعصر كتب فيه الرجل العربي علاقته مع الغرب وانتهت شهوته بالمواجهة بعنف ارتكبه بطله مصطفى سعيد، وظلت الرواية مع مرور قرب نصف قرن على صدورها نصا مفتوحا على كل البدايات والنهايات، فهي في رؤية منها رحلة معاكسة لبطل جوزيف كونراد 'قلب الظلمات' وهي في اطار منها صورة عن رواية المقاومة والتمرد على الغرب وهي نص ما بعد كولونيالي.
    لكن الرواية جعلت من الطيب صالح الصوت المهم في جيل ما بعد المداميك التي رصفها نجيب محفوظ للرواية العربية واسسها كجنس ادبي مقبول ينافس الشعر بل احيانا يتجاوزه ويتفوق عليه. الطيب صالح اكد في روايته على بعد الغموض الخلاق والضبابية الشفافة كما يرى حليم بركات وهو ما يصنع الرواية وجاذبيتها لدى القارئ العربي والعالمي حيث ترجمت اعماله الى 34 لغة عالمية.
    وأهمية الطيب صالح الذي رحل عن عالمنا صباح امس انه عبر عن تجليات الثقافة السودانية وقيمها والتقاليد القروية، خاصة قرية ود حامد التي تحاول الصمود امام التقدم والتغيير. وفي كل اعماله 'عرس الزين' و'بندر شاه' التي يخلط فيها صالح بين العربية المعاصرة الفصيحة واللهجة السودانية ظل حريصا على تأكيد ولائه لثقافته السودانية الشمالية والوان الحياة فيها، وكان قادرا على استيعابها واستعادتها في اكثر من اطار وطريقة، فهو وان عرف لدى القارئ العربي بروايته 'موسم الهجرة' الا انه كان كاتبا للقصة القصيرة فمجموعته القصصية 'دومة ود حامد' صدرت عام 1960.
    ولكن ريادية الطيب صالح توقفت عند روايته الاولى او رواياته الاولى التي لم يقدم بعدها جديدا، ذلك انه قدم للرواية العربية معلما من معالمها وشخصيتها الاشكالية مصطفى سعيد التي عاشت الى جانب شخصيات الرواية العربية مثل احمد عبدالجواد وسعيد مهران ابني نجيب محفوظ. وفي سنواته الاخيرة انخرط صالح في كتابة المقالة الادبية التي ابدع فيها واظهر اهتمامه وثقافته المتجذرة في الثقافة العربية الكلاسيكية وحبه للمتنبي والشنفرى وشعراء الصعلكة. وكتب في زاوية اسبوعية في مجلة عربية عن مشاهداته في العالم ورحلاته التي غطت اقاليم العالم العربي والآسيوي، وقبل عامين صدرت في مجموعة من ستة اجزاء تقدم رؤى الكاتب ومواقفه من الاماكن والمدن والشخصيات. وتذكرنا المقالات في بعدها بالطيب الصالح المثقف العارف بثقافته العربية والمطلع على الثقافة، الغربية ففيها حاول بطله السباحة ضد تيار النيل في تدفقه ورحلته عبر السنين. في مقالاته ومساجلاته الادبية كان الطيب صالح قادرا على استحضار اللحظة السودانية بتنوعها والقها وقصصها وحكاياتها فهو في احيان كان يشبه عبدالله الطيب في كلاسيكيته واقترابه من القديم، وكان قريبا احيانا من محمد سعيد العباسي الشاعر الفرح المرح المحب للحياة والقريب من مدرسة التجديد الكلاسيكية، وفي احيان اخرى كان يقترب في معرفته بالعالم من الدبلوماسي والمثقف المبرز جمال محمد احمد وكلها اسماء سودانية صنعت زمنا جميلا في الثقافة العربية. كان الطيب صالح في نزوعه نحو العالم وانحيازه لانفتاح النص على العالم في القلب سودانيا وكم كنا نتمنى لو كتب كثيرا عن هذا السودان الذي كان صديقه الشاعر المبرز صلاح احمد ابراهيم يصارع في تعريفه وجدل صورته. لكن الطيب صالح لم يبخل علينا في فتح 'الحقيبة' السودانية واستكشاف اجوائها الغنائية. لكن الملمح الاخر والذي يجب ان لا يغطي على هوسنا في تأكيد عالمية الطيب الصالح كروائي هي تلك النزعة الصوفية والتيار الصوفي الذي يغلف كتاباته والتي جاءت نتاجا لعلاقة السودان بالصوفية وطرقها وشعائرها التي لا تزال بارزة في التدين عند السودانيين في الداخل والخارج. في كتاب صدر بعد صدور روايته بقليل وصفت نخبة من الكتاب العرب صالح بانه عبقري الرواية العربية وموسم الهجرة للشمال كانت مشروعا ناجزا لهذه العبقرية ولانها مشروع مكتمل ظل القارئ العربي وعلى وهم ينتظر عملا اخر على نفس السيرة والاطار ولكن الاعمال الناجزة تظهر مرة واحدة وما يكتبه الكاتب هو في النهاية يظل على حوافها، وربما كانت قصة الطيب صالح هي رحلة رائعة في اطار مشروعه الكبير. مع انه مشروع كبير الا ان روايته منعت في بلده السودان نظرا لمشاهدها الجنسية وظلت ممنوعة في عدد من الدول العربية فيما كانت جامعة بيرزيت اول جامعة عربية تقرها على الطلاب. ولد كاتبنا في قرية كرمكول شمالي السودان عام 1929 ثم انتقل الى الخرطوم حيث التحق بالجامعة التي لم يتم دراسته فيها. غادر السودان الى بريطانيا عام 1952، وعمل في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) حيث شغل منصب مدير قسم الدراما. عمل ايضا في وزارة الاعلام القطرية في الدوحة ثم تولى منصبا في مقر اليونيسكو في باريس. كان يعاني منذ فترة من فشل كلوي ودخل غيبوبة قبل وفاته. تزوج من سيدة انكليزية وله منها ثلاث بنات.


    بغداد

    كتب الطيب صالح في شؤون أدبية عديدة من بينها: أدب الرحلة. هنا لقطة رحلية له عن بغداد:
    حين قدمت على بغداد كانوا قد عينوا عبدالحسين زويلف لتوهم مديراً لجهاز تعليم الكبار ومكافحة الأمية. كنت فرحاً بتلك الرحلة، أن مكتب اليونسكو الإقليمي في عمان، الذي يرأسه الدكتور محمد إبراهيم كاظم، قد جنّدني في هذه المعركة. أن أكون أمياً بين الأميين، يا له من شرف عظيم. وقد اتضح لي بالفعل خلال هذه الرحلة، كم أنا جاهل. زرت سبع دول عربية، من العراق إلى المغرب، وفي كل بلد كنت أكتشف أشياء جديدة. لقد طوفت هذا العالم المتنوع الجميل عدة مرّات من قبل، وظننت أني أعرفه، ولكنني اكتشفت هذه المرة، أنني لم أعرفه حقاً لأنني لم أنظر إليه من قبل، من هذه الزاوية، زاوية الأميين. أكثر من مئة مليون أمي في العالم العربي! معنى ذلك أنك لن تستطيع أن تصنع تنمية، ولا أن تقيم حاضراً ولا مستقبلاً. لن تستطيع أن تحقق شيئاً من هذه الأحلام الجميلة التي تعنّ لهؤلاء الناس الأكابر. وإذا صدّقنا شعار منظمة اليونسكو، وهو حق (بما أن الحرب تنشأ في عقول البشر، فلا بد من إقامة حصون السلام في عقول البشر) فمعنى ذلك أنك لن تستطيع إقامة أي من هذه الحصون، إلا إذا فتحت كل هذه العيون المغمضة.
    كانت بغداد جميلة كعهدها، بل كانت أجمل. كان سوق (المربد) عامراً وتبارى الخطباء والشعراء وألقى محمد الفيتوري قصيدته العصماء (لم يتركوا لك ما تقول). تنفس الناس الصعداء، ودفنوا موتاهم وجففوا دموعهم. الحزن دائماً قريب من السطح في طبع العراقيين الأريحي، ولكنهم تناسوه وأخذوا ينظرون إلى المستقبل بثقة من قاوم وصمد، ودفع الثمن. ينظر حوله ويرى ماذا تهدم وماذا ظل واقفاً. ماذا ضاع وماذا بقي. وكان من بين ما تهدم جهاز مكافحة الأميّة.
    توقفت الحملة خلال سنوات الحرب، وبدأت الأميّة تزحف من جديد، حتى وصلت الآن إلى 15% من عدد السكان حسب تقديراتنا. إلا أن عبدالحسين زويلف كان واثقاً أنهم يستطيعون القضاء عليها بسهولة، وقد صدقته، فقد كانت وراءهم تجربة عظيمة، والحملة التي قاموا بها، أصبحت مضرب المثل في المجتمع الدولي.
    استقبلني بابتسامته الودود ووجهه الطيب، ورافقني طوال إقامتي، وكان سعيداً متفائلاً. لا غرو فقد خاض المعركة من قبل، مساعداً لطه يس إسماعيل، الذي كان رئيساً للجهاز التنفيذي. استمرت الحملة سبع سنوات منذ عام 78. لاحقوا الأميين في كل مكان، في الأهواز حيث يعيش الناس في جزر في الماء في مضارب البدو. في قرى السواد بين النهرين. قضوا على الأمية قضاء تاماً. وكما تتحول أحداث الحروب إلى أساطير، تحولت تفاصيل حملة مكافحة الأميّة، إلى أسطورة مثيرة في خيال عبدالحسين زويلف. قصدت الكويت بعد بغداد، وهنالك لقيت عبدالعزيز النجدي، مدير جهاز تعليم الكبار ومكافحة الأمية في وزارة التربية. رجل آخر من هؤلاء الرجال الصالحين. مثل أخيه في بغداد تماماً. كأنه هو. وقد اكتشفت خلال تلك الرحلة أن كل الرجال والنساء العاملين في ميدان مكافحة الأمية في العالم العربي، هم من طينة واحدة. الطيبة ودماثة الخلق وحب الخير والإيمان العميق بقيمة الإنسان.
    بعض المهن والحرف تفعل هذا الأثر في أصحابها. الأطباء، على وجوههم شيء ما، كأنهم يعرفون سراً لا يعرفه بقية الناس، ربما لكثرة ما رأوا من تقلبات الحياة والموت. وهؤلاء يرون معجزات تحدث أمام أعينهم يوماً بعد يوم، هذه الكتل البشرية البكماء، مثل الحجارة قبل أن تصنع منها التماثيل، فجأة تنطق وترى. الرجل في السبعين، والمرأة في الستين، بعد أمد من الظلام، تنحلّ لهم الرموز، وتنفكّ ألغاز الحروف. ك.. ت.. ب.. /كتب/ ع.. ر.. ف.. /عرف/.
    نظرت مع عبدالعزيز النجدي في فصول محو الأمية إلى وجوه الأميين، رجالاً ونساء، فجأة تشعّ بالحياة حين يقرأون ويكتبون، ترى على وجوههم فرحاً مشوباً بالدهشة، كمن يخرج دفعة واحدة من الظلام إلى النور. ما الذي جاء بهذا الرجل الطاعن في السن؟ وهذه المرأة ماذا يجديها أن تتعلم الآن؟ إنها تلك الرغبة المتأصلة في الإنسان أن يعرف ويدرك ويتواصل بطريقة أفضل مع الآخرين، إلا أن معظم الناس الذين يقبلون على فصول محو الأمية تحدوهم أيضاً رغبات مُلحّة لتحسين أوضاعهم المعيشية.
    وجدت في الكويت جهازاً ضخماً لمكافحة الأمية، وهو أحسن جهاز رأيته في البلاد التي زرتها. كان معدّاً إعداداً عالياً، وفيه كفاءات ممتازة في ميادين البحوث التربوية والبحوث المتعلقة بمكافحة الأمية، من الكويتيين وغيرهم.
    تركت الكويت قاصداً صنعاء، وقد حرمني ضيق الوقت أن أعرّج على دار كريمة وأسلّم على ساكنها الكريم، الأستاذ عبدالعزيز حسين. كان رئيسنا طوال أربع سنوات في لجنة التخطيط الشامل للثقافة العربية التي كونتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بدعم مالي من دولة الكويت. اجتمعنا في الكويت وفي تونس وفي صنعاء. وكنا نزداد مع مرور الأيام تقديراً وحباً لرئيسنا الفاضل. كانت زمرة طيبة من بلاد عربية شتى وحين انصرفت الأعوام وفرغنا من عملنا، شعرنا بحزن عظيم، فقد طابت لنا الصحبة، وطاب لنا العمل برئاسة ذلك الإنسان الفذ. ومهما يكن فإن تقرير اللجنة، وهو من عدة مجلدات، وقد ترجم إلى الإنكليزية والفرنسية، سوف يظل أثراً جليلاً في ميدان العمل الثقافي العربي، ومأثرة لا تنسى لدولة الكويت.
    غذّت بي الطائرة نحو صنعاء. هنالك سوف ألقى محمد المضواحي، سوف يكون مثل صاحبيه العراقي والكويتي. وسوف أجد صديقي عبدالعزيز المقالح. وسوف أزور (حجة) وأرى العيون اليمانية تضيء بالذكاء من ثنايا البراقع. في العالم العربي عالم الأميين، على الأقل، عالم واحد.
    qad
    القدس العربى
                  

02-19-2009, 04:59 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطيب صالح ...موسم الحزن والرحيل ...ماذا قالوا عنه ؟......للتوثيق (Re: الكيك)

    لطيب صالح روائي العودة إلى الجذور غاب عن 80 عاماً في لندن عاصمة منفاه
    <
    >كتب عبده وازن الحياة - 19/02/09//


    هل يمكن أن تصنع رواية واحدة من صاحبها «أسطورة» مثلما فعلت «موسم الهجرة الى الشمال» من الطيب صالح «أسطورة» الأدب العربي الحديث؟ هذا الروائي السوداني الذي رحل فجر الثلثاء الماضي في لندن عن ثمانين عاماً، لم يستطع طوال حياته أن يتخلّص من سطوة هذه الرواية التي جلبت له من الشهرة ما جلبت من المتاعب، كما عبّر مرّة. ظل الطيب صالح أسير «موسم الهجرة الى الشمال»، فوسمت به مثلما وسم بها، مع أنه كتب روايات أخرى لا تقل فرادة عنها، ومنها مثلاً «عرس الزين» و «بندرشاه» وسواهما.

    وعندما اصدر صالح هذه الرواية العام 1966 في بيروت لم يكن يتراءى له أنه سيسبق المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون في نظرية «صدام الحضارات»، فالرواية كانت سبّاقة فعلاً الى رسم حال هذا الصراع عبر بطلها «مصطفى سعيد» وموقفه، هو ابن العالم الثالث، من الغرب المتقدّم. وكان صالح أشدّ جرأة من الروائيين العرب الذين كتبوا في هذا الحقل قبله ومنهم توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق» وسهيل إدريس في «الحيّ اللاتيني». فالبطل السوداني كان يدرك في الرواية أن الغرب لم يحمل الى الشرق حضارته فقط بل الاستعمار أيضاً. أما حنينه الى الشمال فبدا فيه من الحقد والضغينة مقدار ما فيه من الحبّ والتسامح.

    عاش الطيب صالح حياة صاخبة، روائياً وسياسياً، في السودان وبعض الدول العربية كما في أوروبا ولا سيما في بريطانيا. ومكث طوال هذا العمر المديد مشدوداً الى السودان الذي لم يفارق مخيلته ولا وجدانه على رغم ترحاله و «منفاه» الطويل الاختياري. وظل على علاقة وطيدة، وبما طرأ عليه من تحوّلات، في السياسة والاجتماع. ومعروف عنه موقفه السلبي من نظام «الانقاذ» الذي تبوّأ السلطة عبر انقلاب حزيران (يونيو) 1989، وراجت عنه مقولته الشهيرة «من أين جاء هؤلاء؟» التي تبنّاها حينذاك مثقفون سودانيون كثر. وعمدت السلطة السودانية الى منع أعماله من التدريس في جامعة الخرطوم. لكنّ الكاتب المعارض ما لبث أن لبى دعوة النظام للعودة العام 2005 فعاد ليشارك في مهرجان «الخرطوم عاصمة للثقافة العربية» وليكون «نجم» هذا المهرجان. ولكنْ سرعان ما ارتفعت أصوات تعارض زيارته وتنتقد مواقفه من قضية دارفور والحركات المسلحة وسواهما. وقد حلا للبعض ان يقارن بينه وبين المتنبي، شاعره الأثير، في علاقته بالسلطة. وهو كان فعلاً من عشاق المتنبي، يحفظ شعره غيباً ويردده في المجالس، ووضع عنه كتاباً سمّاه «في صحبة المتنبي».

    كان الطيب صالح هو الابرز والأشهر عربياً بين أدباء السودان، وان كان أدبه الروائي والقصصي بمثابة الجسر بين الداخل السوداني والخارج العربي والعالمي، فهو لم يدَّع يوماً انفصاله عن الأدب السوداني، ولا انقطاعه عن الهموم السودانية على اختلافها. وقد كتب «موسم الهجرة الى الشمال» في لندن حيث كان يقيم بدءاً من العام 1953. وعندما نشرت هذه الرواية في بيروت العام 1966 كانت بمثابة الحدث الروائي الذي كان منتظراً، لكنه عوض أن يأتي من القاهرة أو بغداد أو بيروت جاء من السودان. استطاع الطيب صالح في هذه الرواية الفريدة أن يقدم مشروعاً روائياً جديداً يحمل الكثير من علامات التحديث، شكلاً وتقنية وأحداثاً وشخصيات، علاوة على القضية الإشكالية التي حملتها الرواية وهي الصراع بين الشرق والغرب أو بين الجنوب والشمال من خلال علاقة مأسوية بين مصطفى سعيد و «زوجته» البريطانية. ومنذ أن صدرت الرواية أصبح اسم هذا البطل (مصطفى سعيد) في شهرة بعض أبطال نجيب محفوظ لا سيما أحمد عبد الجواد في «الثلاثية».

    وإن بدت «موسم الهجرة الى الشمال» ذروة أعمال الطيب صالح، وأكثرها شهرة ورواجاً، فإن أعماله الأخرى، الروائية والقصصية لا تخلو من الخصوصية، سواء في لغتها السردية أم في تقنياتها وأشكالها. ومن تلك الأعمال رواية «عرس الزين» التي ترصد أسطورة الشخص القروي الغريب الأطوار الذي يدعى «الزين» في علاقته بالفتاة «نعمة»، وكذلك رواية «بندر شاه» في جزئيها: «ضو البيت» و «مريود». وتمثل هذه الرواية الصدام البيئي والحضاري بين القديم والحديث. ومن أعماله القصصية البديعة «دومة ود حامد» وهي تدور حول الصراع بين الحكومة وأهل قرية «ود حامد» التي تقع على الضفة الشرقية من النيل، فالحكومة تريد تحديث القرية واقتلاع شجرة الدوم التي هي رمز القرية والأهل يصرون على تقاليدهم المتوارثة. وهذه القرية السودانية «ود حامد» تحضر كثيراً في نصوص الطيب صالح رمزاً لعالم الطفولة والبراءة المتجذر في شمال السودان.

    رحل الطيب صالح وكان في نيته أن يكتب سيرته، لكن ظروفه لم تساعده فاكتفى بنشر كتاب عنوانه «منسي: إنسان نادر على طريقته»، ومن خلاله تتبدّى بعض معالم تلك السيرة الحافلة بالأحداث والوقائع الطريفة.
    ----------------------------------------------


    الروائي الطالع من المشافهة
    <
    >محمد علي فرحات الحياة - 19/02/09//


    لا أدري صلة يوسف الخال بالطيب صالح التي دفعت الأخير ليرسل أولى كتاباته للنشر في مجلة «أدب» التي أصدر منها الخال أعداداً محدودة قبل ان تحتجب مع شقيقتها مجلة «شعر» آخر 1962. ظهر الطيب صالح في قصته القصيرة «سيداتي سادتي» باعتباره الراوي/ المخاطب من ميكروفون الإذاعة، وهو كان يعمل مذيعاً في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي». بعد ذلك بفترة قليلة قدّم الطيب صالح مفاجأته الكتابية الكبرى، من بيروت أيضاً، وهي رواية «موسم الهجرة الى الشمال» التي نشرها توفيق صايغ في مجلته «حوار» فاستدعت زيادة استثنائية في صفحات العدد الذي نُشرت فيه.

    منذ البدء برزت خصوصية السرد لدى الطيب صالح: لغة عربية متحركة تتخطى الجمل الطويلة البطيئة للنص التراثي، كأنها تشبعت منه قبل ان تسمح لنفسها بتجاوزه. وتقترن لغته بوعي للسرد الإنكليزي القائم على الوضوح والدقة، فلا يستغرقه شطح الإنشاء الذي ألحق الأذى بسرديات كتّاب عرب تأثروا بالأدب الفرنسي.

    ولا بد من نقطة ثالثة لنكمل تصورنا لسرد الطيب صالح، هي ولع الرجل ومهارته بالمشافهة، فهو متحدث ممتاز لا تمل من مجالسته، وفي حديثه معرفة وحكاية، مع شفافية وميل الى الطرافة لا يخطئه السامع.

    ممثل الشخصية السودانية الذكية الوادعة الكريمة التي تتمسك بحرية اكتسبتها من خليط الغابة والصحراء، على ما ذهب التشكيليون السودانيون ونقّادهم الأقربون. لذلك اعتبر الطيب صالح «الكاتب القومي للشعب السوداني» بحسب رجاء النقاش، ولذلك ايضاً أطلق الطيب صرخته في وجه حكم الإنقاذ الذي عمل ويعمل على تقويض الشخصية السودانية: «من أين أتى هؤلاء؟». صرخة هي الكلام السياسي الأول والأخير للروائي السوداني الأشهر عربياً وعالمياً، مدفوعاً، هو الذي أعلن غير مرة بعده عن السياسة، بانحيازه الى الشعب السوداني المفطور على الحرية.

    وتلقى الطيب صالح «تحية» نظام الإنقاذ بمنع توزيع «موسم الهجرة الى الشمال» في السودان: كيف يمنع كتاب في بلد يقرب العالم منه. إنها «عبقرية» العسكر المتأسلمين. يخططون لزيادة الأعداء ويطردون الأصدقاء المحبين.

    التقيت الطيب صالح أول وصولي الى لندن في مطلع 1990 وكانت دعوته هي الأولى التي لبيتها في العاصمة البريطانية، ثم رافقته مرات الى أصيلة المغربية حيث بدا في اكتماله سابحاً عند المحيط، متلقياً هواءه البارد بصدر عفيّ. ولا أستطيع تعداد لقاءاتنا في غير بلد عربي وفي مناسبات إعلامية، أبرزها في تلفزيون MBC حين كان الفضائية العربية الأولى والوحيدة.

    ولا أعدّ... لأننا أصبحنا جارين في «رينز بارك»- جنوب لندن، وهناك المشهد اليومي للطيب صالح يمارس المشي ملبياً طلب الطبيب.

    الحياة
                  

02-19-2009, 05:05 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطيب صالح ...موسم الحزن والرحيل ...ماذا قالوا عنه ؟......للتوثيق (Re: الكيك)


    تراجيديا العلاقة بين الشرق والغرب
    <
    >فخري صالح الحياة - 19/02/09//


    على قلة ما أنجز الطيب صالح (1929ـ 2009) من روايات إلا أنه ظل علامة أساسية في المنجز الروائي العربي طوال ما يزيد على نصف قرن، وذلك منذ ظهرت روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» على صفحات مجلة حوار بتقديم من يوسف إدريس، ثم ظهرت الرواية في طبعتها الأولى عام 1967. لكن ما أصدره الروائي السوداني الراحل عنا يوم أمس لم يتعد الأعمال الروائية الأربعة: عرس الزين (1966)، موسم الهجرة إلى الشمال (1967)، بندر شاه وقد صدرت في جزأين: ضوء البيت (1971)، ومريود (1977).

    ومع ذلك فإن هذا العدد المحدود من الروايات قد بوأ الطيب صالح مكانة رفيعة في تاريخ الكتابة الروائية العربية المعاصرة، ولفت الانتباه إليه بوصفه واحداً من روائيين قلة طوروا النوع الروائي في القرن العشرين، وفتحوه على أسئلة وجودية مصيرية على رأسها سؤال الهوية العربية - الأفريقية وسؤال العلاقة المصيرية المعقدة مع الغرب. ويمكن النظر إلى روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» كتجسيد جمالي لتجربة المستعمر والمستعمرَ في فترة كانت فيها الإمبراطورية البريطانية تغادر آسيا وأفريقيا. كان الطيب صالح في تلك الرواية يقدم قراءة سردية ما بعد كولونيالية مبكرة للشرخ الذي أحدثته تجربة الاستعمار في أرواح الذين وقع عليهم الاستعمار في أفريقيا والعالم العربي، كما كانت روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» مختبراً للأفكار النمطية التي نشرها الاستشراق الغربي وعزز حضورها في الأوساط الأكاديمية، وكذلك في أذهان العامة من مواطني الدول الغربية.

    وبسبب تماس «موسم الهجرة إلى الشمال» مع تلك الأسئلة المعقدة المتصلة بتجارب الشعوب المستعمرة ومستقبل العلاقات بين كتلتين حضاريتين (شرق وغرب، جنوب وشمال) أثارت هذه الرواية الكثير من الجدل والأسئلة وظلت هدفاً للتحليل والتساؤل حول الرسالة التي تحملها وطبيعة العلاقة بين بنيتها الروائية ومحمول هذه البنية. مثلها مثل رواية جيمس جويس يوليسيز استطاعت «موسم الهجرة...» أن تثير عدداً كبيراً من التحليلات والقراءات الانطباعية والدراسات والنصوص السابرة المتفحصة والأسئلة التي تدور حول علاقة بنية الرواية بخطابها، وصوت الراوي بما يروي عنه، إلى أن تجمع لدينا تراث نقدي ضخم متصل بهذه الرواية المثيرة للجدل أكثر من غيرها من الروايات العربية التي كتبت خلال نصف القرن الماضي.

    لكن أهمية «موسم الهجرة...» لا تقتصر على موضوعها، والأفكار التي تثيرها، والرؤى الحضارية التي تقدمها في ثنايا سردها، بل إنها تكمن في ترتيب أحداث قصتها، حيث يقلب الطيب صالح صفحات الحكاية بطريقة تخلق توتراً مدهشاً في العلاقة بين الراوي ومصطفى سعيد، أولاً، وبين ما يرويه الراوي والمتلقي ثانياً. وفي هذه البؤرة من التوتر، والرغبة في معرفة الحكاية، تتكشف للراوي والقارئ معاً تراجيديا مصطفى سعيد وحياته السابقة التي تلقي بظلها القاتم على أيامه الأخيرة التي فضل أن يعيشها في تلك القرية النائية من قرى السودان. لكن ما يثير الانتباه بالفعل هو أن الراوي نفسه يعمل على تقطيع الحكاية إلى أجزاء يمررها إلى القارئ بطريقة تجعل الأخير أسيراً للراوي وكيفية نظرته إلى عناصر الحكاية. ها هنا يعمل الكاتب على تقطيع الحكاية مرتين: مرة بحيث يعيها الراوي، ومرة ثانية إذ يجعل الراوي يقوم بتقطيعها وروايتها للقارئ.

    هناك إذاً طبقتان للحكاية في «موسم الهجرة...»: الطبقة الأولى هي تلك التي تتشكل في وعي الراوي، والطبقة الثانية هي التي تتشكل في وعي القارئ. ويتيح هذا النوع من التوزيع، وتصفية مادة الحكاية، لخيال القارئ أن يلعب دوراً فاعلاً في إعادة ترتيب شذرات الحكاية. إن قارئ الطيب صالح يشكل معه معنى النص، بل إنه يشترك معه في تحديد معنى الرسالة التي تتصفى من خلال راوٍ منحاز ضد الغرب منذ الصفحة الأولى في الرواية. لا نستطيع في هذا السياق أن نقول إن الكاتب مختبئ خلف الراوي، وإن هناك تطابقاً بين وجهة نظر الكاتب ووجهة نظر الراوي. هناك منشور يصفي الحكاية من خلال صوت الراوي من دون أن يكون هناك تطابق في وجهات النظر الثلاث المتمثلة في وجهة نظر مصطفى سعيد ووجهة نظر الراوي، وأخيراً وجهة نظر الكاتب. وتبدو وجهة نظر مصطفى سعيد، على رغم مرورها بمصفاة الراوي، بارزة مهيمنة تتمثل في نزعة جبرية للرد على غزو الغرب الاستعماري للشرق بصورة مواربة.

    إن نظرة مصطفى سعيد إلى طبيعة العلاقة مع الغرب تبدو محكومة بالتجربة الاستعمارية برمتها، رغم أن الرواية لا تهتم كثيراً بإيراد هذا النوع من التفاصيل المتعلقة بالتجربة.

    على حافات هذه الرواية الكبيرة المدهشة تقيم أعمال الطيب صالح الأخرى. ولا يعني هذا الكلام انتقاصاً من روايات الكاتب السوداني الكبير؛ بل إن ما أقصده هو أن «عرس الزين»، و«ضو البيت» و«مريود» هي استعادات لسؤال الهوية والمكان والبيئة الشعبية السودانية والعالم البكر الذي لم تلوثه الحضارة الغربية التي عبرت فوق جسد العالم الأفريقي، ما يمثل ترياقاً لعقابيل تجربة الاستعمار التي كتبتها «موسم الهجرة...» بصورة مواربة. ومن هنا تبدو هذه الروايات وكأنها تمثل العنصر الموازي الذي يقيم ثنائية ضدية مع «موسم الهجرة إلى الشمال».

    ---------------------------------------------------


    «عطيل» العربي المتحرر من أسر اللون
    <
    >علي بدر الحياة - 19/02/09//


    أعاد الطيب صالح الاعتبار لـ «عطيل»، لا في النصية الشكسبيرية كدراما كلاسيكية متوترة، إنما كعلاقة مضطربة ومهددة، كتراجيديا تبرز فجأة من النصية الاستعمارية، ومن وجودها المتجدد والحيوي في التاريخ السياسي والاجتماعي للصراع بين أفريقيا وأوروبا، وهكذا يدفع الطيب صالح رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» لتكون الخطاب النقيض للمفهوم الشكسبيري حول قضايا العرق والدم، ولتتحول هذه الميتا-دراما إلى نوع من العلاقة الغامضة بين أسود من المستعمرة وشقراء من المتربول، وبفضل سلسلة من الاضطرابات السيا-سايكولوجية، تصل الرواية إلى الذروة، القتل، انتفاء النص الشكسبيري، نقص تراتب الأنساق العرقية، قانون العيب، الخيانة، ومن ثم نهاية النص الشكسبيري الذي قام أصلاً في مأسسة مشكلة هذه الثنائية الثقافية والحضارية، بل لتتلاشى هذه الدراما الكونية تحت هاجس العلاقة النقضية بين عطيل وديزدمونة، وتتحول من دراما متوترة إلى محاولة ثقافية لاستدعاء التراث الغربي ومن ثم الاحتياز عليه وتمثيله، لقد أخرج الطيب صالح «عطيل» الأسود المحبوس في لونه الماحق، إلى التجربة المعيشة.

    ولا بد من إعادة الاعتبار إلى جوزيف كونراد، وإلى أحداث روايته الطاحنة «قلب الظلام»، لا في تصوير هذا التضاد الظاهر في علاقات القوة بين المستعمر والمستعمر، إنما في تصوير التهديد الناجم عن تمثيل الآخر، بصفته نقيضاً للذات المركزية الغربية ومركزية اللوغوس الغربي، بل عمد الطيب صالح إلى تجاوز علاقات التمثيل من مجرد انعكاس للممارسات الكولونيالية إلى اشتباك جسدي، بل حرر العلاقة التاريخية بين النقيضين: غرب/شرق، أفريقيا/أوروبا، شمال/جنوب، إلى علاقة قائمة في الهاجس الإنساني، وهذا الأمر أكثر تعقيداً من فكرة كونراد بكثير، على رغم ألمعية رواية كونراد واستثنائيتها في التاريخ الإنساني، لأن صالح ذهب مباشرة نحو العلاقات الجنسية المتوترة، وقد حول بذلك العلاقة التاريخية من علاقة سياسية ظاهرة إلى فحولة قاهرة وأنوثة مقهورة.

    ويجب الوقوف أمام «موسم الهجرة إلى الشمال» وموقعها في الدراسات ما بعد الكولونيالية، والدراسات الثقافية، وأدب المنفى والهجرة، وقراءات بوليطيقيا الجسد في الدراسات الحديثة، وبعث أسطورة كاليبان بصفته الآخر الذي يجب السيطرة عليه باسم المدنية، والذي يطرح في شكل ثابت ثنائية الفوضى والنظام، والخطاب الناتج من تأكيد علاقة تفوق اللون مع احتمالات العصيان وتبديد السلطة. وليظهر على نحو محفوف بالمخاطر أثر الرق الممسوح والمختلط الخاص بهذا التاريخ الكرنفالي، والفصل الزائف والمتوحش الذي يؤكده فرانز فانون بين القصبة المظلمة والحقيرة وبين المدينة الأوروبية المضاءة، والإحساس بالنشاز الكياني والأنطولوجي والقيمي للبشر.

    أخيراً هذا هو الطيب صالح، السوداني، العربي، الكوني، سافر كثيراً، وعمل طويلاً، وكتب الروايات، والقصص، وأدب الرحلات، وعمل مذيعاً، ومستشاراً ثقافياً، ثم مات بعيداً من بلاده، بعد أن منعت روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» في بلاده بضعة أعوام


    --------------------------------------------------------

    الروائي السوداني الطيب صالح يرحل في صقيع «الشمال»
    <
    >الخرطوم - عصام أبو القاسم الحياة - 19/02/09//


    فجعت الساحة الأدبية السودانية والعربية فجر أول من أمس برحيل «عبقري» الرواية العربية، صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال» و «عرس الزين» و «مريود» و «ضو البيت» و «بندر شاه» الروائي والقاص الطيب صالح والذي ولد في قرية «كرمكول» في مركز مروي (شمال السودان) عام 1929 وتوفي في العاصمة البريطانية بعد صراع مع المرض.

    أمضى الطيب صالح طفولته في قريته قبل أن ينتقل إلى مدينة بورسودان حيث درس المرحلة الوسطى وجاء الى الخرطوم آخر أربعينات القرن الماضي حيث درس بمدرستي «وادي سيدنا» و «حنتوب» المرحلة الثانوية والتحق من بعد بجامعة الخرطوم لدراسة العلوم الطبيعية، وعمل مدرساً في مدرسة «الشيخ رضا» وفي «بخت الرضا» قبل ان يكمل دراسته للطب.

    هاجر صالح إلى انكلترا في العام 1953 حيث واصل دراسته، لكنه تخصص في «الشؤون الدولية» وعمل لاحقاً بالقسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، حيث اشتغل رئيساً لقسم الدراما وفي ذات العام (1953) كتب أول نص قصصي وهو «نخلة على جدول» وأذيع عبر الـ «بي سي سي»، وأعقبه بـ «دومة ود حامد» العمل الذي نُشر للمرة الأولى في العام 1960 بمجلة «أصوات» المتخصصة في الثقافة بلندن، وقد قام محرر المجلة المستشرق ديفيد جونسون بترجمتها.

    وما لبث ان استقال الطيب صالح من «بي بي سي» وعاد إلى السودان وعمل لفترة بالإذاعة السودانية حيث اشتهر بسرده لسيرة ابن هشام في برنامج «سيرة ابن هشام» وبتقديم مقابلات مع رواد سودانيين في الأدب والفن. هاجر إلى دولة قطر وعمل مديراً لوزارة الإعلام، كما عمل بعد ذلك مستشاراً إقليمياً للإعلام بمنظمة اليونسكو في باريس، وممثلاً للمنظمة في الخليج العربي.

    قدم الراحل الطيب صالح العديد من المؤلفات للمكتبة العربية مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» و«عرس الزين» و«مريود» و«ضو البيت» و«دومة ود حامد» و«منسى: إنسان نادر على طريقته».. ورحل قبل ان ينشر الجزء الثالث من «بندر شاه» والذي وسمه بـ «جبر الدار». وقد اُنتخبت روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» في العديد من الجامعات كمصدر للمعرفة البحثية المتعلقة بدراسات ما بعد الاستعمار وكانت وكالات أنباء أوردت اختيار هذه الرواية كواحدة من أفضل مئة رواية في تاريخ الإنسانية في العام 2002.

    وكان الراحل حاز في آذار (مارس) 2007 جائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية كما منح في العام 2002 جائزة محمد زفزاف للرواية في المغرب.

    دُرست أعمال الطيب صالح في العديد من الجامعات كما ألهمت العديد من كتّاب الدراما. فروايته «عرس الزين» حُوّلت إلى عمل درامي بالاسم نفسه من إخراج الكويتي خالد الصديق وعرض بمهرجان (كان) نحو 1974 إضافة إلى عمله «دومة ود حامد» والذي أحرزت به الإذاعة السودانية في العام 2003 الجائزة الذهبية للمسلسل الإذاعي بمهرجان القاهرة الدولي للإذاعة والتلفزيون كما قام سعد يوسف عبيد بإخراج ذات العمل للمسرح.

    وكان الطيب صالح دعا الى تحويل محفل تكريمي أقامته مجموعة من محبيه لاسمه الى مسابقة للإبداع الروائي في السودان، وتبنى مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بامدرمان في العام 2003 اطلاق (مسابقة الطيب صالح للإبداع الروائي) بعد وضع المبلغ (20) ألف دولار الذي جمع للتكريم في شكل وديعة في أحد المصارف، وليستفاد من أرباحها كجائزة لأفضل رواية يتم اختيارها سنوياً، بهدف تفعيل حركة الرواية السودانية وفي مطلع هذا العام اطلق المركز مسابقة (الطيب صالح للقصة القصيرة) كما شارك مع مجموعة من المؤسسات الثقافية في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي في ترشيح الراحل لجائزة نوبل.

    عرف الطيب صالح بانشغاله اللافت بقضايا الأدب العربي القديم وقدم في هذا الباب رؤى ونظرات على قدر عال من الجدة والفرادة، وقد خصّ أبو الطيب المتنبي بجهد أكبر وبرأيه «ان من يحب اللغة العربية عليه أن يحب المتنبي»، كما اشتغل الراحل بالكتابة الصحافية حيث شارك بمجلة «المجلة» العربية الصادرة في لندن في كتابة زاوية راتبة وسمها بـ «نحو أفق بعيد» مناقشاً قضايا وهموم الكتابة بأجناسها المختلفة رواية، قصة، شعر، نثر.


                  

02-19-2009, 05:02 AM

عبدالله الشقليني
<aعبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الرحيل المُر (Re: الكيك)

    في رحيــل الطيب صــالح ]

    وكنا أمس في نادي السودان بأبو ظبي .. وقيلت كلمات طيبات في حقه ، ونعد أن نُقيم
    مأدُبة أحزاننا وأحزان الوطن تأبيناً له ..
    حتى نشفى من الحزن المتواتر
                  

02-19-2009, 05:32 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: عبدالله الشقليني)
                  

02-19-2009, 05:36 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    مريود شعبه وأمته ... بقلم:

    محمد المكي إبراهيم

    الأربعاء, 18 فبراير 2009 21:15



    [email protected]

    "الريد" تصريف سوداني لللفظة "يريد " التي تفيد في أصلها القاموسي الرغبة في شيء أو شخص أو الحاجة إليه وطلب قربه أو حيازته بشكل من الإشكال. ولكن الاشتقاق السوداني ينصرف إلى معنى آخر هو معنى الود والمحبة فإذا قلت عن الطفل انك تريده أو عن الفتاة انك تريدها فانك تعبر عن محبتك لكليهما ولا تقصد انك تريد أن يكون ذلك الطفل ابنك أو تلك الفتاة بنتك أو حبيبتك. وفي الأدب الشعبي القديم احتلت الريدة ( ورديفتها "الغي" ) محل ما نسميه الآن بالحب أو الغرام أو الهيام ولكن ظهور مفردة "الحب" ومشتقاتها في أدب التخاطب الحديث قلل من استخدامات الريد فأصبح قاصرا على العلاقات داخل العائلة وعلى العلاقات مع الأشياء وعلى إحساس الود نحو أناس مبجلين . فالريدة تعبير جائز للإعراب عن عاطفتنا نحو أطفال العائلة وقراباتها وفي زماننا هذا لا يقول العاشق لحبيبته "بريدك" إلا على سبيل الهزل والدعابة وإنما يقول لها بطريقة السينما "أحبك".ويبدو أننا أصبحنا أكثر تفطنا إلى محمولات الكلمة التي تعبر عن الرغبة في الحيازة، وتفاديا لسوء الفهم انحصرت استخدامات الكلمة في شبكة أضيق من العلاقات ولم تعد مستخدمة في وصف الولع والهيام.
    التقط أديبنا الأكبر-الطيب صالح- تلك المفردة وأطلقها اسما لبطله ومن ثم عنوانا لروايته فكأنه أعطاها حياة جديدة إذ سرعان ما أصبحت اسما للمحلات والبقالات واللواري والشاحنات كما أصبحت اسما معتمدا لمجلة أطفال ترأس تحريرها واحدة من ألمع الأقلام النسائية في بلادنا( بخيتة أمين) . وليس بين الأدباء السودانيين من يقترب من ذلك النجاح الداوي سوى التجاني يوسف بشير ومحمد عبد الحي وذلك أن اسم "إشراقه" الذي اختاره التجاني عنوانا لديوانه أصبح علما على كل أنواع المحلات والحافلات كما صار اسما نسائيا عريقا بلغ من عراقته أن بعض حاملاته أصبحن في عداد الحبوبات. ومن جهة أخرى حققت نجاحا مماثلا تسمية الشاعر محمد عبد الحي لإحدى قصائده باسم "السمندل يغني" فقد سمي على السمندل الكثير من محلات الموضة وشركات النقل والترحيل. وفي حين أتت تلك التسميات من قواميس العربية وكتبها القديمة جاءت "مريود" من صميم اللهجة السودانية الدارجة وسياقاتها المعهودة .والواقع إن في ذلك نوعا من الفأل فأديبنا الطيب صالح هو نفسه من أجدر الناس بالريدة وصفة المريود فقد انحازت إليه قلوب السودانيين (إنسا وجنا وشعبا وحكومة) وقلوب العرب العاربة وغير العاربة وقلوب الكثير من أبناء آدميتنا الخواجات. وفي كل تلك الفصائل تأخذ ريدة الطيب صالح شكلا متقدما من أشكال التعصب والتفضيل على المتقدمين والمتأخرين ففي إحدى جامعات نيويورك اكتشفت عظمة الطيب صالح أستاذة للأدب الأفريقي هي كونستانس بيركلي وهي آية من آيات اللطف والرقة ولا زالت تلهج بذكر الطيب حتى ذهبت إلى التقاعد وبدت عليها بعض سمات التقدم في العمر ومنها التكرار والإعادة ولاشك أنها سعيدة بتكرار اسمه الميمون فهي سيدة أمريكية افريقية الأصل ويسعدها أن يكون من بني قارتها الأم من هو في مثل عبقرية الطيب وتفوقه الفكري . ثم هنالك البروفسور قودوين الذي روى حكايته صديق الطيب الأستاذ الفاتح إبراهيم فقد أسبغ الرجل على الطيب من الأوصاف ما ظل يضن به بعض مواطنيه وبني جلدته.
    يتميز الطيب صالح بتواضع طبيعي جذب إليه القلوب وليس ذلك تواضع الرجل محدود المعرفة الذي لا يحسن الخروج من مجالات الأدب إلى مجالات العلم والتفكير المنطقي الدقيق فواقع الحال أن له نظرات في السياسة والاجتماع حيرت بدقتها أفهام المتخصصين .وفي "أصيلة" التي شهدتها معه تحدث في جلسة عن أزمات العالم العربي فاتني حضورها للأسف ولكنني صحبته عقيب تلك الجلسة في جولة على المدينة وكان الناس يستوقفونه أينما مضى ليأخذوا صورة له أو صورة معه ويشيدون بما قاله بالأمس حتى ارتفعت حرارة فضولي فسألته :ماذا قلت في ليلة الأمس وأي كلام بهرت به كل هذه الأسماع فكان رده الساخر
    - كلام أيه ... دا كلام ترابلة ساي.
    ولا عجب أن يتحدث الطيب بدقة علمية فهو نفسه من دارسي العلم وقد بدأ حياته الدراسية بكلية العلوم بجامعة الخرطوم حتى أدركته "حرفة الأدب" فأحسن فيها وتقدم على كل متقدم.
    وفي نفس تلك المناسبة في نفس تلك المدينة كان السامر ينعقد ولا ينفض إلا في الهزيع الأخير وكانت حلقة الطيب صالح هي دائما الأكثر حضورا وقاصدا وذلك رغم أن الطيب لم يكن يحتكر فرص الحديث وإنما يتيحها لسواه أدبا منه وتواضعا. وفي مثل تلك المجالس لا يأبه النادل لأحد غيره ولو كان ممن يرتدون العقال دليلا على الوفرة والنعمة فيتقدم إلى الطيب دون غيره بفاتورة المشروبات – ليس مشروباته الشخصية وإنما مشروبات الحلقة من مبتداها إلى منتهاها. واترك لكم أن تقولوا إذا كان ذلك ثمنا معقولا للإعجاب والمعجبين.
    ولقد وفقني الله إلى بيت من عيون الشعر العربي القديم كتبه شاعره قبل أكثر من ألف عام ولكنه بنظري كتبه في الطيب صالح وكرمه الفياض وذلك حيث يقول:
    أبو زينب قاصر فقره على نفسه ومشيع غناه
    أي أنه يكتم حالة فقره عن الناس ولا يطلع عليه أحدا سوى ذاته(لاحظ ولا حتى أهله من زوج وولد) ولكنه يشيع في العالمين انه واسع الجاه عريض الثراء.ولا يريد الشاعر أن ممدوحه (وهو الطيب دون شك) يشيع في الناس أمر غناه على سبيل الدعاية والتكذب ولكنه يتركهم يتوسمون فيه الغنى فلا يصدهم ولا يخيب أملهم باطلاعهم على حقيقة حاله. وأزعم أن المقصود بهذا المدح هو الأديب السوداني الطيب صالح خاصة وان له ابنة اسمها زينب ومن حقه أن يتكني باسمها فهو حقا وصدقا أبو زينب المخفي فقره والمشيع غناه.
    * *
    الطيب الآن مريض كما تعلمون وهو مرض لا مناسبة له ولا موقع له من الإعراب فقد أفسد علينا بهجتنا بأديبنا الأكبر وبما دأب على تحقيقه لنا ولبلادنا من أشكال المجد والنجاح وهو يملأ الإسماع ويشغل الدنيا عن نفسها..إن مرضه أكثر من فاجعة شخصية لكونه فاجعة قومية وهو ما يجعلنا نعود إلى تعزية النفس ومخادعتها بنسبة ذلك المرض إلى العين والحسد وحقد الكائدين وهو ما تؤكده تلك الترنيمة الحزينة التي علمنيها صديقي الشاعر الحردلو في زمان قديم:
    الوكيل الشالتو العين/الوقع بين الصندلين / يا موحمد/ دا بلودو وين
    شالتو العين ولكن سوف نستعيده من براثنها بقدرة الله

                  

02-19-2009, 05:39 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    تركنا الطيب صالح شجرة السودان ...

    بقلم: محمد زكريا السقال- برلين
    الأربعاء, 18 فبراير 2009 21:18


    [email protected]


    الخبر الذي جاء برحيل القامة الروائية العربية الطيب صالح ، خبر تتحدد مأساته وكارثيته بالكثير من المعاني ، أولها أن نفقد في هذا العام الكثير من النخب العربية ورواد النهضة والتنوير ، من رحيل المفكر والباحث المناضل محمود أمين العالم الذي أغنى وأثرى المكتبة والفكر العربي بأبحاثه ومؤلفاته ، إلى رحيل عبد العظيم أنيس الذي وسع من دائرة الجهد والبحث في الفكر العربي ، واليوم نفقد شجرة الرواية العربية ، الطيب صالح ، وتعبير شجرة أجده من الصفات التي تلبس الطيب الذي أينع وأثمر في سياق المشروع التنموي التنويري الحلم ، المشروع الحلم لأنه لم يتحقق ، والطيب صالح واحد ممن كرسوا جهدهم وعملهم لهذه النهضة التي سترفع من سوية الأنسان كقيمة عليا تنشد الحرية والعدالة والهواء النظيف بمعنى الحياة التي تنموا لتنتج وتبدع وتعمر وتبني لتشكل الحضارة وتشيد ثقافة الحياة ، أخفق المشروع وأصبحت كل القيم التي انتمى إليها الطيب قضايا خاسرة ، انقلبت الأوضاع وفرت أحلامنا وهربت الأماني ، لم يعد في مجتمعاتنا روابط وامن واستقرار ، هجمت الردة محمية ومسلحة ، مزقت قرى الأوطان ، ،وضاعت عروة التماسك الأجتماعي ولم يعد لمساحة الوطن حدود لتعدد الحواجز ، نفرت اللغة واستوحشت ، لتنقلب لرصاص وقتال وفرق ومجموعات ، وساد خطاب الردة والفرق والتكفير .
    هذه الأجواء ، وهذا المناخ لايساعد ولا يمد شجرة كالطيب صالح بالحياة والتدفق ، لم تعد التربة الطيبة التي أنتجت شخصيات الحلم السوداني في أدب الطيب ، الشخصيات العفوية والطيبة ، الشخصيات انقلبت وتحولت لشياطين ملثمة ومعصوبة وترطن بلغة لا تحمل غير الموت والأنتحار ، والأستبداد سلطان الموقف يدور ويعربد ثملا بأوهامه وتخيلاته ، لم يعد الفقر والتخلف سمة محسوسة لمجتمع مترابط ، ولم يعد سرقة الجهد واستغلال العمل احساس مشترك ، وصار هناك شمال وجنوب وديانات ومذاهب ، وقبائل ومناطق ، وأشباح تتنافر تتطاول سكاكينها لجز الوطن وتقسيم أحشائه .
    يلتزم الطيب المنفى ، المنفى بكل صقيعه وبرده ويذوي ويذبل ، وأوراقه تتهاوى كلما أوغل الوطن الملهم في الغي ، وتطاول في الأستبداد ، المصالحات التي تمت وعاد بها رعيل كثير كانت تقاسم ونهش ومحاصصات ، لا تعيد للزين عرسا و لا تشيع الدفئ الذي تحشده دومة واد حامد ، والقرية العامرة بالحب وممارسة طقس انسانيتها بالهواء الطلق ، أصبحت لا تعرف غير الرجم وحد السيف .
    يموت الطيب ولا تفلح يراعه بهذا الصقيع بشيئ ، كتاب ,, مختارات ،، ذي التسعة أجزاء ، هذا الكتاب يشكل حالة قطع بأبداع الطيب صالح ، كتاب يحدد مرحلة جديدة وباردة في حياة هذه الشجرة اليانعة الثمر ، فقد كان متعدد الأسلوب والأتجاهات والألوان ، حيث تداخلت ما بين السيرة الذاتية ، والخواطر والسرد الصحفي ،إلا أنه يبقى عمل يحدد نكهة ومذاق خاص ، ولكنه لا يتطاول لإعماله الأولى ، وهو ما نلحظه ونحسه حالة من الجفاف والموات والذبول اعترى الطيب ، ونحن بدورنا نعتذر من محبيه ومريديه حيث أعطينا أنفسنا حق الأجتهاد والتعليل لهذا السياق الذي اعترى الكاتب وتوقفه عن الخصب والأنتاج بالأبداع الذي أطل علينا به .
    كتاب محتارات الذي بدأه الطيب .. بالمنسي ،، هو مقدمة للحياة التي غمرت السودان ، حياة الحلبسة على حد تعبير بطله الذي عبر عن النموذج السائد ، نموذج الشخصية القادرة على تقمص كل الأدوار وتعتلي كل المنصات وتتلون بالكثير من الألوان ولكنها تفشل في التعبير عن ذاتها وروحها كجوهر ذات ميز وخصائص ، شخصية ضائعة وتعيش على كل الموائد ، ولكنها بالنهاية فاشلة لا تنتج سوى الحلبسة والتدليس .
    لتبقى الأجزاء الباقية تتداعى السودان وتستحضره كذكريات وحلم وآمال متخيلة ومطاردة ومشتهاة ، يدخل بينها جزء ،، في صحبة المتنبي ,, الذي يفتن أديبنا ويتماهى به ، وهو المتنبي شاغل الدنيا ومؤرقها ولكنه لدى الطيب صالح نموذج وقدوة للطموح ومطاردة القمم
    رحل الطيب صالح ، رحل الرجل الذي أدخل السودان إلى قلوبنا ، وقرب هذا الشعب الطيب منا ، لم يخدعنا الطيب برسم الشخصية السودانية ، طيبتها وعفويتها وكرم أخلاقها ، تفاعلها مع الأخر ، تواضعها الذي يأسرك ويقودك دون ان تقرر الأحجام او الأقدام .
    كم سننتظر لننجب مثل الطيب صالح ، وكم هي خسارتنا بهذا المبدع الذي ذوى في ضباب لندن ، وكم هم الذين حملوا الوطن في قلوبهم واستركنوا البلاد البعيدة ، قد لا يتطاولوا لهذه القمة العبقرية ، ولكنهم اشخاصها وأبطالها وبرحيل مبدعهم يقدرون ويستشعرون حجم الفاجعة والخسارة بموت الطيب صالح ، هذه الشخصيات التي تعيش في المنفى ، والتي تقبع في الأرض الغبسة التي لا تتحمل بذور طيبة ، مازالت تحلم بعرس الذين ، ودومة ود حامد ومريود وضو البيت ، ومازال سعيد كمال في موسم هجرته للشمال شاغل النقاد والباحثين ...



    محمد زكريا السقال
    برلين / 18 / 2 / 2009

                  

02-19-2009, 05:39 AM

محمد فضل الله المكى
<aمحمد فضل الله المكى
تاريخ التسجيل: 03-29-2008
مجموع المشاركات: 4846

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: عبدالله الشقليني)

    نعم أخـي الكيـك

    إنه موسـم الهجرة إلى اللـه

    فهاهي قمة أخرى ترحل في( أربعطاشر) النور عثمان أبكر.

    رحل الطيب صالح

    وتتواصل تراجيديا الرحيل.
                  

02-19-2009, 06:19 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: محمد فضل الله المكى)

    شكرا محمد فضل الله
    نتواصل




    التاريخ : الخميس ,19/02/2009



    --------------------------------------------------------------------------------

    رحيل الطيب صالح


    توفي صباح أمس في العاصمة البريطانية لندن الروائي العربي السوداني الطيب صالح عن عمر ثمانين عاماً قدم خلالها ثروة أدبية زاخرة تضم عدداً من الروايات لعل أكثرها شهرة “موسم الهجرة إلى الشمال” التي تناولت بشكل فني راق الصدام بين الحضارات وموقف انسان العالم الثالث ورؤيته للعالم الأول المتقدم. بدأ الراحل رحلته الأدبية منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي بأعمال أدبية متميزة مثل “عرس الزين” و”مريود” و”دومة ود حامد” و”منسي” و”بندر شاه”.

    وفي عام 2002 تم اختيار روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” ضمن أفضل مائة رواية في التاريخ الانساني، وفق قرار اتخذه مائة من كبار الكتاب الذين ينتمون إلى 54 دولة وفي مارس/ آذار 2007 منح الطيب صالح جائزة ملتقى القاهرة للابداع الروائي.

    وهذه الرواية انما اكتسبت شهرتها لأنها تحدثت عن مفهوم صراع الحضارات، ولعل ما أكسبها تلك الشهرة، انها ظهرت قبيل عام ،67 عندما كان الصراع حاداً بين الشرق والغرب، ونظراً لما اشتملته من عناصر اثارة وتشويق.

    وصف الراحل الكبير بأنه كان من أكثر الكتاب العرب اهتماماً بالثقافة بمستوياتها المتعددة وبصلتها بموضوعي التراث والمعاصرة، بل لعله كان عبر تنقله في العالم ومن خلال عمله في منظمة اليونسكو الأكثر التصاقاً بماهية الثقافة الغربية، تلك التي كان يرى ولد الطيب صالح عام 1929 في اقليم مروى شمال السودان، قرب قرية دبة الفقراء، وهي احدى قرى قبيلة الركابية التي ينتمي إليها وأمضى فيها مطلع حياته وطفولته.

    انتقل إلى الخرطوم لاكمال دراسته فحصل على البكالوريوس في العلوم من جامعتها، سافر إلى بريطانيا ليواصل دراسته مغيراً تخصصه من العلوم إلى الشؤون الدولية.

    عاد صالح إلى السودان بعد استقالته من ال “بي بي سي” التي عمل فيها لفترة طويلة في القسم العربي لهيئة الاذاعة البريطانية ثم انتقل إلى دولة قطر وعمل في وزارة الاعلام وبعد ذلك كمدير اقليمي بمنظمة اليونسكو في باريس.

    برحيله تكون الرواية العربية فقدت اثنين من أضلاع مثلها الذي بدأ الكتابة في الستينات فيها برغم تطورها بعض السلبيات، ذلك ان المجتمع الأوروبي بحسب رأيه، كان مجتمعاً حائراً، بل انه يتمنى ما هو موجود لدينا نحن العرب، لا بل انه يبحث عن الشيء الذي نهرب منه نحن.

    يقول الطيب صالح في أحد الحوارات الصحافية التي أجريت معه “لا ينبغي ان يقول البعض كلاماً فارغاً حول مصير الرواية والشعر والثقافة”. ويضيف “لماذا يصر الناس على استخدام كلمة “أزمة” بهذه الكثرة”.

    ذلك رأي يدل على كاتب حصيف يدرك ماهية الكتابة بوصفها أحد الفنون الأكثر تأثيراً في تطور الإنسان، وهو بهذا انما يجعل من الكتابة رافعة حقيقية لتحقيق مضمون معنوي من الثراء الفكري والفني المبني على أصالة التجربة الانسانية بما تتمتع به من استقراء واستجلاء عميق لدقائق الحياة ورحابة الخيال والاستبصار والذي مثله نجيب محفوظ وحنا مينة والطيب صالح.

    وفي الإمارات علق القاص ابراهيم مبارك على رحيل الطيب صالح بالقول:

    “ان القامات الكبيرة في عالم الأدب والابداع عموماً لا تموت معنوياً وابداعياً، لأن رحيلها يمثل ولادة من جديد لها، حيث ان الأجيال المقبلة تقبل على اعادة قراءة نتاجها في زمان آخر ومكان مختلف، وبالتالي فإن رحيل الطيب صالح كقامة مهمة ومؤثرة في المشهد الروائي والقصصي العربي انما يمثل ولادة جديدة لأدبه، لأن هناك من يقرأ نتاجه برؤية مختلفة وبروح ونفس مختلفة وكأن رحيله ما هو إلا تحريض للتجديد، وهو ما حدث بعد رحيل الروائي الكبير صاحب نوبل نجيب محفوظ، فقد زاد الاقبال على قراءة أدبه للتعرف عليه من قبل جيل آخر، لذا فإن موت القامة المبدعة هو ولادة للقراءة.



    ويضيف مبارك: هناك من يرى ان غياب هذه القامات سوف يؤثر على مستوى الابداع، والحقيقة غير ذلك تماما، لأن رحيل الطيب صالح لن يقلل من تأثيره على المشهدين الروائي والقصصي في الوطن العربي، من جهتين الأولى ان أمتنا العربية ولادة بالابداع، سوف تظهر أسماء وقامات كبيرة تتولى مسؤولية المشهد الروائي كما ان الأجيال القادمة ستعيد قراءة الطيب صالح وهو ما يكفل استمرارية ابداعه الأدبي”.



    وقالت القاصة نجيبة الرفاعي: منذ أن بدأت أناملي تخط كلماتها في عالم الأدب والقصة كنت أسمع عن الطيب صالح، وكنت أقرأ له بعض الأعمال، وكنت أتابع كل ما يكتب عن ذلك الشخص مدحاً في ما يكتبه، تأكيداً للقيمة الأدبية التي تحملها أعماله القصصية، ولا شك ان رحيل الطيب صالح يشكل فقداناً كبيراً للساحة الثقافية الأدبية لا سيما ان مثل تلك الشخصيات تمثل مدرسة للأجيال القادمة وتمثل تاريخاً للأدب، ولكن عزاءنا ان الرحيل هو مصير كل إنسان، وما أروع أن يرحل الإنسان وقد ترك وراءه ارثاً نافعاً يستمر عطاؤه حتى ولو رحل صاحبه، وقد ترك الطيب صالح إرثاً أدبياً لا ينكر وسيبقى اسمه يذكر في كل المحافل واللقاءات الأدبية.

    وستبقى أعماله مرجعاً قوياً لكل من يريد أن يسلك درب الأدب بخطوات قوية مدروسة، ولذلك فإن رحيل هذا الكاتب الكبير يعطينا معنى أن يكون الكاتب ذا ضمير وذا تأثير، فكثير من الكتاب والأدباء قد رحلوا ولكن لم يحزن عليهم أحد، وقلة من كان لرحيلهم وقع الصدمة والألم لأن رحيلهم يخلق فجوة من الصعب أن تملأ بأحد غيرهم”.


    من أقواله


    أنا ليس لي علاقة بالسياسة، ولا انتمي إلى أي حزب، ولا أحسب على أي اتجاه، غاية ما في الأمر، أن هناك من يفكرون في أن في الأدب سياسة، ومن هذا الباب فقط، يمكن القول إن في “ادبي” سياسة، غير أن ما أقوله في هذا الإطار، لا يأتي في”القالب” الذي يتعاطاه السياسيون، وإنما في سياق ما أكتب من أدب، وكسوداني لي بالطبع وجهة نظر اعبر عنها.

    أنا أعمل دائماً كما يفعل (الكيني) ناغوغي و(النيجيري) اتشيب، على استنباط معنى الهوية نظراً إلى أن الدول، كما هو الأمر بالنسبة إلى الحياة، مختلطة ولا يمكن فرض نظام عليها يتجاوز نقطة معينة.
    العشق ليس ضرورة، لأنه يفقدني التوازن.
    لا اتمنى جائزة “نوبل” لأن العرب متطفلون عليها.
    اكتشفت خلال عملي الروائي أن الكثير مما نظنه جديداً هو قديم وموجود من قبل، نريد ان نخلق نظرة عقلانية هادئة في النظر إلى الأمور، نظرة مبنية على الثقة بأنفسنا، وبعضنا، واذا جاء عالم نفسي ودرس هذه الظاهرة، وكيف تطلق مثلاً كلمة الخيانة، فإن ذلك يشكل جزءاً من المخاض الفكري الحاصل في المنطقة.

    من الناحية الواقعية، يستطيع أي متابع أن يلحظ مدى غزارة الانتاج الروائي في العالم العربي وخصوبته وتنوعه.

    الأكاديميون يقسون مراراً على الأدب وعلى الرواية لأن معاييرهم في القياس، قد يكون فيها بعض الاجحاف، غير أن الحقيقة كما اؤمن بها أن النشاط الإبداعي العربي يعد نشاطاً رائعاً وأن ما أنجزته الرواية العربية في عمرها النسبي القصير، اذا قورن بالرواية في الغرب مثل أوروبا نجد أنه إنجاز ليس سهلاً بالقياس لظروفه وزمنه.

    “عطاء المثقف مرهون بهامش حريته في التعبير”.




    قالوا فيه

    “لم تنته الرواية العربية، ولم تقتصر عليّ أنا ونجيب محفوظ، إننا عندما نقول هذا، فإننا لا شك نغفل حق الكثيرين، فهل يمكن ان نتحدث عن الرواية العربية من دون أن نذكر الطيب؟ إن هذا الفنان العظيم كان وما يزال، هو أمل نهضة الرواية العربية، بل إنه الإضافة والتطوير فيها”

    الروائي يوسف إدريس


    “تيقنت أنني بلا أدنى مبالغة أمام عبقرية جديدة في ميدان الرواية العربية، تولد كما يولد الفجر المشرق، وكما تولد الشمس الإفريقية الصريحة الناصعة”.

    رجاء النقاش


    “منذ نشرت “روايات الهلال” للطيب صالح روايته الأحادية “موسم الهجرة إلى الشمال” ونحن في تحفز كبير. الفرحة تغمرنا والدهشة: أين كان الطيب مختبئاً طوال هذا الوقت؟”.

    د. علي الراعي



    “نجح الطيب صالح في أن يخلق بأعماله عوالم حملت للقراء رؤية بالغة الخصوصية لتأثيرات عملية التغيير الدائمة المفيدة في ثقافات إفريقية”

    المستعرب روجر آلن

                  

02-19-2009, 06:44 AM

اسعد الريفى
<aاسعد الريفى
تاريخ التسجيل: 01-21-2007
مجموع المشاركات: 6925

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    Quote: قال لى لا لا يا ابنى هذا رايهم وهؤلاء ربما كانت هذه قناعاتهم .. وانا لن ارد واعفينى هذا راى للناس وهم من يقيموه ولست انا فانا لا ادافع عن نفسى ..والححت عليه ولكنه رفض .. وقال منهيا الحديث ما قالوه رايهم وانا احترم الراى الاخر مهما كان ..


    الاخ الكيك
    التعازى ، إن كان هذا مقامها فى هذا الفقد الجلل
    ..
    رحم الله الطيب الذى ختم مواسم هجرته بالرحيل المر ..
    الطيب .. و الذى نعرف من أين أتى ما كان ليقول لك غير الذى ذكرته ..و تمعن فيما قاله .. ألم يكن هذا ديدن كل رجال السودان يوما ..
    لذا .. ما كان أسمه ليكون غير
    الطيب
    الصالح
                  

02-19-2009, 07:45 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: اسعد الريفى)

    شكرا اسعد

    فى جلسة جمعتنى والفقيد الطيب ووالدكم الاستاذ محمد الخليفة طه الريفى .. بصحيفة الايام عام 1981 اصر والدكم على الطيب ان يعيد له قراءة ابيات من شعر اهلنا فى الشمال كتبها الطيب وكان يستشهد بها دائما ...
    كانت جلسة عامر بالضحك والقصص المتنوعة لاهلنا لن انساها ..
    وهذا مكانه فى زمان اخر وسوف اعود اليه ...


    هذا ما اوردته الاتحاد الاماراتية




    في موسم هجرة أبدي
    وفاة الروائي السوداني الطيب صالح



    وفاة الروائي السوداني الطيب صالح -


    : الخميس 19 فبراير 2009

    لندن - وكالات

    توفي أمس الروائي السوداني الطيب صالح عن ثمانين عاماً في أحد مستشفيات لندن حيث كان يقيم· وبرحيل ''عبقري الرواية العربية'' كما وصفه الناقد الراحل رجاء النقاش فقدت الساحة الأدبية كاتبا بارزا سطر اسمه في سجل الإبداع بروايته الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال)·

    وظلت روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) التي أكسبته شهرة عالمية على مدى أكثر من 40 عاماً المقياس الذي توزن به قيمة أعمال أخرى تالية تناول فيها روائيون عرب الصدام بين الشرق والغرب· ففي كثير من الروايات العربية التي عالجت الأزمة الحضارية بين الشرق والغرب كان مصطفى سعيد بطل (موسم الهجرة إلى الشمال) يطل برأسه متحدياً أبطال هذه الأعمال كما سبق أن تحدى البريطانيين الذين كانوا يحتلون بلاده وأعلن في لندن أنه جاء لغزوهم بفحولته الجنسية·

    وظل اسم صالح يعني (موسم الهجرة إلى الشمال) وحدها على الرغم من أعماله السابقة والتالية لها بل طغى الجانب السياسي في روايته الشهيرة على المستوى الجمالي أحيانا، ووصفتها الأكاديمية العربية ومقرها دمشق عام 2001 بأنها أهم رواية عربية في القرن العشرين· ورغم الاحتفاء بروايته عربيا وعالميا، منع تداولها في بلاده في تسعينات القرن الماضي بعد أكثر من ثلاثين عاماً على صدورها· ويعد الطيب من أكبر الأدباء العرب في القرن العشرين وأشهرهم إثر ترجمة روايته الشهيرة الى 56 لغة واختيارها في 2002 من بين أهم مائة رواية في تاريخ الأدب العالمي·

    ولد صالح في شمالي السودان عام 1929 ودرس العلوم في جامعة الخرطوم ثم سافر إلى لندن ودرس الشؤون الدولية وعمل في الخدمة العربية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي· بي·سي) كما عمل بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) في باريس وعمل ممثلا للمنظمة نفسها في منطقة الخليج· وحظي صالح بتقدير النقاد من كافة التيارات السياسية وصدرت عنه كتب نقدية منها (الطيب صالح عبقري الرواية العربية) بأقلام عدد من النقاد عام ·1976 وفاز بجائزة ملتقى القاهرة الثالث للإبداع الروائي عام 2005 · وفي نهاية الشهر الماضي أرسلت مؤسسات ومراكز ثقافية في الخرطوم منها اتحاد الكتاب السودانيين رسالة إلى الأكاديمية السويدية ترشح فيها صالح لنيل جائزة نوبل في الآداب· ودائما ما يقارن نقاد عرب بين صالح والأديب المصري الراحل يحيى حقي من جهة وبين معظم الكتاب من جهة ثانية إذ امتلك حقي وصالح شجاعة التوقف عن الكتابة الإبداعية مثل أي لاعب بارز يستشعر أنه لن يقدم أفضل مما سبق أن قدمه فيــؤثر الاعــتزال·

    وقال الروائي عزت القمحاوي مدير تحرير صحيفة ''أخبار الأدب'' المصرية لوكالة (رويترز) ''إن أبرز ما يميز صالح أن عنده حساسية كاتب فعندما وجد أنه ينبغي عليه أن يتوقف (عن كتابة الإبداع) توقف بالفعل·





    إغلاق
    جريدة الاتحاد
    الخميس 24 صفر 1430هـ - 19 فبراير 2009م
    www.alittihad.ae[/B]

    (عدل بواسطة الكيك on 02-19-2009, 07:48 AM)

                  

02-19-2009, 10:31 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    التاريخ: الخميس 19 فبراير 2009م، 24 صفر 1430هـ


    الطيب صالح.. موسم الهجرة الأخيرة

    عيسي الحلو

    عندما طلعت شمس الطيب صالح في كامل شروقها بصدور روايته البديعة «موسم الهجرة الى الشمال» كتب الناقد المصرى «رجاء النقاش» مقالة نقدية قوية حول هذا الروائى الجديد، والذى لم تستطع مظلة نجيب محفوظ ان تحجبه. وكان نجيب محفوظ وقتذاك يتمتع بسلطة أدبية لا تدانيها سلطة. فهو مؤسس الرواية العربية الحديثة بالمعنى التقني النقدي. إلا ان الطيب صالح استطاع في ظل هذه المظلة ان يضع رواية عربية جديدة مؤسساً فترة كاملة للرواية العربية الجديدة. وبسبب هذا الاختراق الابداعي للفضاء الروائي العربي ظهر على ذات درب الطيب صالح روائيون عرب جدد، سعوا ذات المسعى في التجديد الروائى الذى ارتاد آفاقه الطيب صالح، فظهر أمين معلوف في لبنان، وابراهيم الكوني في ليبيا وجبرا ابراهيم جبرا في العراق وآسيا جيار في الجزائر. وهكذا!
    أهمية الطيب صالح تأتي بسبب انه استطاع ان يمسك بالأزمة الثقافية الحقيقية التى تمثلت في الاستلاب الثقافي الغربي (الاستعمار الثقافي) ابان السيطرة الكولونيالية وقتذاك. فكانت رواية «موسم الهجرة» هي تلخيص شديد التركيز والشفافية والتأريخانية لما يعانى منه العالم الثالث كله. وفي حوار للطيب صالح قال فيه ان هذه الرواية قد كتبت على قرار رواية (قلب الظلام) لجوزيف كوزاد.. فبطل هذه الرواية يذهب مهاجراً الى الكنغو وبطل موسم الهجرة يهاجر من افريقيا الى بريطانيا. وكلاهما يحمل معه ثقافته كسلاح للغزو.
    واختلاف موقف الطيب صالح عن الكتاب الأفارقة الذين يتحدثون الفرنسية «كنغور» مثلاً انهم يصورون افريقيا بعيون الثقافة الغربية. أما الطيب صالح كما وصفه الناقد الادبي لصحيفة «البرافدا» الموسكوفية بأن روايته «موسم الهجرة» مرصودة بعيون افريقية حينما كانت تصف افريقيا.
    ويقول الدكتور عبدالله علي ابراهيم ان الاهتمام الاكاديمي الذى وجدته أعمال الطيب صالح الأدبية جاء بسبب انه رصد مشكلات وحالات قومية افريقية كانت ترزح تحت سيطرة الاستعمار الاوربي.
    كان أدب الطيب صالح يصدر عن المقابلات بين الثنائيات.. التقدم بازاء التقليدى. كما صورت هذا اقصوصته «دومة ود حامد».. وفي آخر قصصه القصيرة التى كتبها أخيراً ونشرت بـ «الاهرام»القاهرية والتى تحمل عنوان «يوم في شاطيء ام باب» كان يرصد الحضارة العربية بين الروحانية والمادية. دونما ان يصعد هذا الصراع.
    وفي احد حواراته التى أجرتها معه «الرأي العام» الكويتية «أيام مايو» حينما كان صديقه الراحل فتح الرحمن البشير يقود المصالحة بين «نميرى» و«الصادق المهدى».. قال الطيب صالح.. انه لا يميل الى تصعيد الصراع الدرامي في أعماله.. بل هو «يصالح بين المتناقضات».
    أدب الطيب صالح يصدر عن وجهة نظر تمثل موقفاً مبدئياً.. فالرجل لا يميل للعنف، فالعنف يولد العنف.. وهو مع السلام دائماً..
    رغم ان بعض نقاده يرون ان عروبته منعته من النظر المتعاطف مع القضايا ذات الجذور الثقافية غير العربية.. وهذا موقف نقدى غير عادل وشديد التطرف لأن الرجل يصدر في ابداعه عن الخبرات الكبيرة التى خبرها.. وهو لا يتحدث البتة عن امور لا يعرفها..
    لهذا كله فالطيب صالح هو ضمير امته ووجدانها الصافي.. وقد نقل ثقافتنا القومية الى الفضاء الكوني لانه قبض على ذاك البعد الذى يجعل من الأدب المحلي أدباً عالمياً.. اللهم أرحم كاتبنا السوداني الافريقى العربى العالمي أوسع الرحمة وأدخله الجنة مع الأبرار والصديقين..


    الراى العام
                  

02-19-2009, 10:38 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    التاريخ: الخميس 19 فبراير 2009م، 24 صفر 1430هـ


    .. ومضى صاحب «الموسم».. الصّالح الطّيب

    الطيب برير يوسف

    .. نعم؛ هي المحبة ولا شيء سواها، كانت شغل الطيب صالح في كل ما قام به وأبدعه.. هي المفتاح الذي بيدك الآن للدخول إلى عالمه في مفرق رحيله الحزين فجر أمس الأربعاء 23 صفر 1430هـ الموافق 18 فبراير 2009م.. انظر لشخوص رواياته جميعها تلحظ شغفه العريض بإعلاء هذه القيمة بوضوح؛ عند «الزين» و»الحنين» و»الطاهر ودالروّاس» و»نعمة» و»الشيخ نصرالله ود حبيب» و»بلال» وغيرهم ممن تعمّقت هالة «المحبة» حولهم في مرآة نقائضهم من الشخصيات التي بدأت على شيء من «الكُره»؛ ولكنها تستبطن شيئًا من محبّة تخرج واضحة في الصّهد ومحرقة الأحداث، وقوامها منظور عند «سيف الدين» في «عرس الزين»، و»مصطفى سعيد» في «موسم الهجرة إلى الشمال»..
    المحبّة يا «صالح».. زرعتها في لسان «الطاهر ود الرواس» طيّ روايتك «مريود»؛ فحدّث بها صاحبه «محيميد» في بساط الإلفة: «الإنسان يا محيميد.. الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين إتنين.. الصّداقة والمحبة. ما تقول لي لا حسب ولا نسب ولا جاه ولا مال... ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد يكون كسبان... وأنا المولى عز وجل أكرمني بالحيل، أنعم على بدل النعمة نعمتين.. أداني صداقة محجوب وحب فاطمة بت جبر الدار..»
    المحبّة يا «طيب» حملتك لتنزع عن النقد «الشوك» لتصيح في الجميع «أعظم النقد ما صدر عن محبة»..
    المحبة.. رافقتك وأنت تعبر الجسر الفاصل بين (رحم الأم) وتراب قريتك «كَرْمَكوْل» بالقرب من قرية (دبة الفقرا) في إقليم مروي شمالي السودان.. هناك كان الميلاد في محاضن أهلك «الركابية» في العام (1348) من الهجرة النبوية اتفاقًا مع العام 1929 من الميلاد..
    ألم تصادف «ود حد الزين» في تلك الديار..!
    ما أبعد المسافة بين «الميلاد» و»الرحيل»..
    هناك في عاصمة الضباب أسلمت الروح يا صالح يا طيب..
    كيف احتملت «المحبة» ذلك في كل هذا «الصقيع»..؟
    بين ذاك «الميلاد» في وضوح الاستواء المشمس و»الرحيل» في عتمة الضباب اللندني سأطالع سيرتك كما يطالعها المكلوم الحزين.. هل محبتك لـ «المتنبي» نابعة من «إصابتكما» معًا بداء الرحيل.. لم تنعم «كرمكول» بك إلا كما تنعم السّماء ببرقٍ مغامر.. غادرتها إلى الخرطوم شاباً بعد أن أودعتها «عبث» طفولتك، وحلم «صباك».. وعمّقت هي فيك كل «الشخوص» الذين برزوا في محيا أوراقك لاحقاً.. جئت إلى الخرطوم شاباً يطمح في إكمال الدراسة فكان لك ما أردت حصلت من جامعتها على درجة البكالوريوس في العلوم.. نعم العلوم وليس الأدب.. ثم ناداك الرحيل إلى حيث «الضباب».. إلى إنجلترا؛ هناك واصلت الدراسة مشيحاً بوجهك عن «العلوم» لصالح دراسة الشؤون الدولية..
    ألهذا يربطون بينك وبين «مصطفى سعيد» في «الموسم»..؟
    ما فتئت ترد «التهمة» بالإشارة إلى أن «مصطفى» كان كله «عقل»، أما أنت فكلك «محبة»، تقاربها بـ»السذاجة» التي يتألّق بها «الزين» في «عرسه»..
    في لندن.. لم تستقر على حال في البدء، مهنة تنقلك إلى أخرى مع قليل الخبرة فيها أو كثيرها، قدرك كان محتوماً بالتدبير في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، هناك طاب لك المكوث ردحاً غير قليل من الزمن.. حيث «منسي» و»أيوب» وغيرهم من الأحباب.. تسنّمت ترقّياً وتدرجاً منصب مدير قسم الدراما.. فلم استقلت وقد بلغت كل هذا المجد يا صالح من الـ (بي بي سي)؟
    لتعود إلى السودان..؟ هل ناداك أثير الإذاعة السودانية..؟ نعم هو ذاك.. لكن وشيكاً ستغادر.. سيربط «النميري» بينك وبين من حاول الخروج عليه وقتذاك «حسن حسين».. وستهاجر إلى قطر في وزارة إعلامها وكيلاً ومشرفاً على أجهزتها.. كيف قلت عن قطر؟ بلدك الثاني؟ ما زال حمدك لها وفاء مسطورا.. لكن لم غادرت لتعمل مديراً إقليمياً بمنظمة اليونيسكو في باريس؟.. هو داء «الرحيل» الذي ربطك بـ»معشوقك» المتنبي.. ثم كان التقاعد..
    متى تزوّجت يا صالح من ابنة «الضباب»..؟
    ما «أحزن» صوتك و»أفرحه» وأنت تقول ذات يوم في محفل تكريمك من قبل سودانيي «الرياض»: (تزوجت هناك بعيداً عن أهلي بلا «حريرة» أو «ضريرة»).. ثم تبدو فرحاً يا «أبا زينب» بـ»زهراتك الثلاث» وهن يمضين قدماً في مسالك العلو.. بلا رفقة لوهج والدهن، وتتبع لظلاله..
    هكذا مضيت، وفي الخاطر معمل فوّار بكيمياء الإبداع والمحبة تخّلق قصصاً وروايات بدءاً بـ (موسم الهجرة إلى الشمال) في العام 1966م، ثم (عرس الزين) و(دومة ود حامد)، و(ضو البيت) و(مريود)..
    «الموسم» نال الحظوة من الشهرة، تلقفته ثلاثون لغة عالمية بالترجمة، لكن أحداً لم يجرؤ على التعامل معه درامياً بخلاف ما حصل مع «العرس» فهناك في ليبيا حولوه إلى دراما وفي الكويت أنتجه المخرج الكويتي خالد صديق في فيلم سينمائي في أواخر السبعينيات حيث فاز في مهرجان (كان)..
    عابوا عليك يا الطيب قلة الإنتاج.. فمنذ عهد ليس بالقصير كنت مكتفياً بما تبثّه في «المجلة» وأنت تنظر من نافذة «أفق بعيد» إلى عوالم شتى في الأدب والتاريخ والسياسة.. ما أقل اهتمامك بالسياسة، وعلى قلة ذلك لم تسلم من «طعان» و»مناوشة».. أزعجت القادمين في 30 يونيو 1989م بعبارتك السيّارة «من أين أتى هؤلاء؟».. وعدت عنها لاحقاً من «كثرة التهاوش» في خلائق «المحبة»..
    السودان.. أعطاك «موطناً» للميلاد و»حرّم» عليك الظهور «رواية» من بعد «الإنقاذ».. فما أحيف المقياس في موازين رد الديون.. هل تجد عزاء فيما قاله الدكتور هانز بيتر كُونش،Hans Peter Kunisch) .(Dr وهو يصف ما جرى: (قبل عامين مُنعت في السودان رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، أول رواية للكاتب الطيب صالح المولود عام 1929 والذي يعيش منذ سنوات في إنجلترا، وذلك لأنه كان قد أشار في صحيفة (الحياة اللندنية) إلى الوضع الاجتماعي والسياسي المحزن في وطنه، علماً بأن الاحتجاج الرسمي تمثّل في تصنيف الرواية كأدب «بورنوغرافي» ومخالفتها لأصول الإسلام. لقد جاء المنع بلا شك متأخّرًا بعض الشيء، فالرواية قد توطدت - من قبل - بين أوساط المثقفين «ككتاب مقدس» أوان نشرها لأول مرة في منتصف الستينيات وهي الآن في مصاف (الأدب العالمي)».
    لم يبعد هانز عن الحقيقة كثيراً فأخيراً سيمنحونك لقب «عبقري الأدب العربي»، وفي العام 2001 سيعترفون بها على أنها «الرواية العربية الأفضل في القرن العشرين» هناك؛ على يد الأكاديميا العربية في دمشق..
    لكنهم لم يقرأوا «ضو البيت» و«مريود» بعد.. ربما تبدو «كثافة» العامية حائلاً دون ذلك.. أرى قمتك فيهما.. ولا أنقص «الموسم» حق الجمال.. ولن أنزع عن «الزين» فرحة «عرسه» ولن أكف عن طلوع «النخلة على الجدول»، وقريباً سأمضي لأفك طلاسم «دومة ود حامد» لأعرف هل ما زال «الموروث» يقيّد حركة «الحاضر» ويعطّل «ماكينة» الإنتاج «تقديسًا» لما هو قائم..؟
    ثم إنك أيها الصالح الطيب وعلى غير سابق توقيت جئت بمؤلفات تسعة في دفعة واحدة.. أكان ذلك رداً على من أتهموك بـ»النضوب».. حملت «التسعة» أبوابًا متفرقة، جاء «منسي» في صدارتها.. سيرة صديق، أم رواية لشخص.. لا تجد ثمة فاصل بين هذا وذاك.. وإن دققت النظر سترى غشاء رقيقًا لا يمنع عنك المضي من نافذة الرواية إن وعيت خصائصها، ولا يحجب عن السيرة الذاتية إن لامست صدقها..
    ثم «المضيئون كالنجوم»، و»للمدن تفرّد وحديث»، و»في صحبة المتنبي»، و»في رحاب الجنادرية»، و«وطني السودان»، و»ذكريات المواسم»، و»خواطر وترحال» وفيها ستعرف أي نظر متجاوز للأمور كان يحمله الطيب صالح.. وأية سخرية «يستبطنها» من «نظريات» النقد الحديثة «في صحبة المتنبي».. وكيف يقرأ واقع بلده في «وطني السودان».. ستتعرف إلى أصدقائه البشر والكتب في «ذكريات المواسم» وستحل ضيفاً كريماً معه «في رحاب الجنادرية»..
    لم تكن حفياً يا صالح بكل الضوء الذي طوقوك به.. متنازل عن ذلك بسمت صوفي عذب.. حتى أثرت في ذلك غضب صاحبك «منصور خالد» فراح يصيح في الشرق الأوسط «الزين يغيب عن عرسه».. هناك ستعرف معنى آخر لروح هذا الأديب الكبير.. مضى متنازلاً عن كل شيء سوى المحبة.. هل كنتم تنتظرون كل هذه المدة يا أحبابنا في اتحاد الكُتّاب لترشحوه لجائزة نوبل..؟
    ما أنبل القصد.. لولا أنكم متأخّرون..!!
    فصالحنا الطيب مضى..
    رحمة الله عليك يا سيدي.


    ------------------------------------------


    التاريخ: الخميس 19 فبراير 2009م، 24 صفر 1430هـ

    لا أغار من مصطفى سعيد لكني أشبه الزين
    «الرأي العام» تعيد نشر آخر حوار مع الطيب صالح

    حوار: أحمد يونس

    عاد الطيب صالح ليس كما عاد مصطفى سعيد ، على الرغم مما بين العودتين من وشائج قربي ، فالطيب عاد بعد أن قضى آماداً في البلاد التي قال عنها تموت من البرد حيتانها ، وقد سبقه في العود مصطفى سعيد من ذات البلاد لكنها عودة بلا خروج، ومع أن الطيب صالح من لحم ودم ، ومصطفى سعيد محض خيال ، إلاّ أن من يجلس إلى صالح يلمس ذات الخيال ، ويلمس أن الحديث إليه رواية حية ، وسماعه يعيد إلى ذاكرة مستمعه ذات الأجواء الأسطورية التي صنعها خياله المحض ، كدت أتوه بين الراوي والرواية.
    قال إن مشروع سد مروي أعظم مشروع سوداني ، وأن مضيفيه كانوا خيرين ، وأنه مسافر بين حالين ، وأن ضو البيت ومريود أفضل في نظره من موسم الهجرة إلى الشمال ، وأنه يستغرب لماذا لم يفطن أحد للشبه بينه وبطله « الزين « في عرس الزين ، كان حوار (الرأي العام) إليه في غرفته بفندق القصر محطة وسطي بين الواقع والخيال ، وبين البطل والمؤلف ، لقد غاب الطيب صالح طويلاً لكنه عاد ليشرب مجدداً من ماء النيل ، وليسير في ذات الدروب الغبراء ذات الحر اللافح ، ولأنه ابن بار فقد غفر له التراب الغياب الطويل .
    ........................................................................................................................................................................
    * كيف تسير الأشياء ، أو كيف تراها بين بلد ( تموت من البرد حيتانها) وأخرى تعيش في الصيف القائظ ، والغبار الكثيف عصافيرها ؟
    ـ أنا مسافر بين الحالتين ، وأسمي حالتي هذه بالكلمة الإنجليزية « « commuteس ، والكميوت هو من يشتغل في المدينة ويسكن في الضواحي ، ويسافر كل يوم من الضاحية إلى المدينة بالقطارات والسيارات في المدن الأوروبية . كنت طوال الوقت أسافر بين هذه الأحوال ، هي أحوال صعبة ومنهكة نفسياً بالطبع ، لكنها منعشة ، ولها ردود فعلها ، كنت أسعد جداً عندما « أقوم « بالطائرة من لندن إلى الخرطوم ، وخلال أربع وعشرين ساعة أكون قد « تحولت « من لندن إلى « كرمكول «ـ في وقت ما كانت الطائرة منتظمة بين الخرطوم ومنطقتنا في الشمال ـ هذا الانتقال السريع يدخلني في حالة مختلفة تماماً ، أسعد بها أكثر من حياتي في لندن ، مع إنها كانت حياة محتملة!
    * بعين الروائي كيف تنظر للوطن بعد مرور عشرين عاماً ( تقريباً ) على آخر زياراتك له ، وهل شهدت متغيرات كثيرة توقفت عندها ؟
    ـ آخر مرة كنت فيها في الوطن على وجه التحديد كانت في أغسطس 1988م، كنت في تلك الأيام أعمل في مكتب منظمة اليونسكو في الخليج ، كنت أعود للوطن كثيراً ، لأن والدتي رحمها الله كانت « عايشة « ، وكان والدي قد توفي في السبعينات .
    في تلك السنة جئت مرتين ، في الأخيرة منهما كانت الوالدة قد توفيت إلى رحمة الله ، كان هذا آخر عهدي بهذا الوطن ، في مطار الخرطوم ـ وقفت فيه الساعة ، ولم تتحرك ـ وتوقف الساعة هذا صحيح إلى حد ما ! كتبت ثلاث مقالات ـ لعلك قرأتها ـ وصفت فيها الحالة المتداعية والانهيار « الحاصل « في البلد ، كانت خليط من السخط والحزن والحب . بعدها لم أرجع ، وهذه مشيئة الله .
    * لكنك لم تصف لي الحال بعد عودتك الحالية ، كيف وجدت البلاد؟
    ـ « دي حكاية معقدة « ، ما زلت أحاول معرفة طبيعة إحساسي بالضبط ، انطباعاتي للوهلة الأولى « ما في شيء تغير « ، في الخرطوم مثلاً « هنالك كباري جديدة ، طرق جديدة ، أشياء سيئة ، وأخرى حسنة « ، والناس كما يبدو لي هم كما عرفتهم نفس الوجوه ، نفس الطريقة ، نفس السماحة السودانية ، لكني أعلم بأن وراء هذا « لا بد » هناك أشياء أخرى « حصلت « إلى الآن لم أسبر غورها .
    * هل استطعت الإفلات من جو الوفد الرسمي لترى الأشياء كما تريد ؟
    ـ أولاً هذا ليس وفداً رسمياً بمعني الكلمة ، فنحن مجموعة من الناس جئنا من لندن من أجل « أخونا « الشيخ إبراهيم الطيب ، وهو رجل خير ، أنا أعرفه من أيام « رفاعة « ، لم نأت معه لأنه رجل ثري ، فهو من أهلنا الشايقية الذين نزحوا إلى رفاعة ، وأعرف والده الشيخ الطيب الريح ، أيام عملي في رفاعة كنت قريباُ ولصيقاً جداً بهم ، كما أنهم أصهار صديقي العزيز فتح الرحمن البشير ، لم آت مع إبراهيم الطيب لأنه مليونير فأنا « والله لا أعرف عندو ملايين ولا ما عندو « ، لكنه رجل فاضل ومحب للسودان ، أقام مؤتمرين كبيرين في لندن لجمع ولم شمل الناس هناك .
    اختار « أخونا » إبراهيم مجموعة فيها الفنان الكبير إبراهيم الصلحي ، والدكتور كمال أبوسن ، وهو من منطقتنا ـ أرقي شرق النيل ـ وهو رجل عظيم ظل طوال فترة وجوده يجري باستمرار عمليات ويعالج المرضي ، واختار الدكتور أحمد الشاهي وهو من أصل عراقي ويعمل أستاذاً في جامعة « أوكسفورد « ، ومتخصص في قبيلة الشايقية . وصديقنا الصحفي الكبير محمد الحسن أحمد ، ومحمد الحسن في نظري من أحسن المحللين في العالم العربي كله ، لو أنه كان مصرياً أو لبنانياً « لطبّل له الناس كثيراً « ، هذا فضلاً عن أنه محب للسودان و « يلم « بيته السودانيين ، ويكون ملتقيً لهم ، هو وصديقنا حسن تاج السر عندما يكون موجوداً هناك . نحن مجموعة من الناس ولسنا وفداً رسمياً .
    وأقولها بصراحة : « لحسن الحظ أخوانّا هنا ما معاملننا معاملة رسمية ، ما في محاولة للاستقطاب ، و لا كسب التأييد ، ولا أي شيء ، مخلننا على راحتنا » .
    لقد ظل يرافقنا باستمرار الرجل الفاضل وزير الثقافة الأستاذ عبد الباسط عبد الماجد ، وللحقيقة فهو رجل خيّر وبسيط ومتواضع ، كنت أشفق علىه وأقول له : « أنت راجل عندك أعباء أمشي أهلك ولا تتعب معنا « ، وهنالك خالد فتح الرحمن وهو شاب ممتاز جاء معنا من لندن ، وهو يعمل ملحقاً ثقافياً في السفارة هناك كما أظن .
    تحركاتنا كانت بسيطة وعادية لم نحس فيها بأننا موجهون أية جهة ، « وبعدين مهما كان فنحن ناس بلغنا من التجارب والسن بقينا مش قابلين للتوجيه إلاّ من تلقاء أنفسنا على أية حال» .
    * ولو على مستوى ازدحام البرنامج؟..
    ـ يعني شنو ؟!
    * يعني أن يصمم البرنامج لترون ما يراد لكم رؤيته ..
    ـ حتى الآن لم يأخذونا لأشياء رسمية ليقال لنا : « شوفوا نحن بنعمل ايه « ، لكننا زرنا « سد مروي » ، أنا حمدت الله أنهم «ودونا مروي » لأنها البيئة التي أنتمي إلىها بحق ، صحيح أنا أنتمي لكل السودان ، لكن هذه هي البيئة التي تغلغلت في عظامي وفي أعصابي وفي وجداني ، عندما حلقت الطائرة « فوق مروي وشفت النيل والمزارع والنخيل حدث لي شيء عظيم » .
    للحقيقة أقول إن السد عمل عظيم بغض النظر عن من أنشأه ، هنالك مشكلة سودانية « الناس إما أن يقبلوا الشيء كله أو يرفضوه كله « ، صحيح هنالك نظم سيئة مرت ، وأنا دائماً ضد الاستبداد ، واعتبر الشمولية والحكومات العسكرية حكومات مستبدة ، لأن الناس لا يشاركون في الحكم حقيقة ، « لكن ربنا سخر لنا هذه النظم السيئة لعمل أشياء حسنة ، نميري كان نظامه سيئاً وعمل « بلاوي « لكنه عمل « شوية حاجات كويسة « نحمد الله علىها ، ولانحمده هو . و» ديل ربنا وجههم أيضاً ـ خصوصاً هذه الأيام ـ لأعمال بناءة».
    في تقديري المتواضع هذا العمل ـ يقصد السد ـ عندما يكتمل سيكون من أهم ما أنجز في السودان ، ويمكن أن يعادل في أهميته قناة « جونقلي « لو تم إنشاؤها ، وسيغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في منطقة شمال السودان.
    * بين موسم هجرتك الأولى إلى الشمال ، وموسم عودتك الحالية ) لدومة ود حامد) ، بهذا المعني الرمزي أين الروائي الطيب صالح بين كل هذه المواسم ؟
    ـ الروائي إنسان ولا توجد « حاجة متحركة كدة يقال لها دا روائي ، ودا شاعر ، ودا رسام « نحن نحمل في جوفنا أشياء كثيرة ، دائماً أقول حين أسأل إن الرواية نشاط بين عدة نشاطات إنسانية يقدر الإنسان على ممارستها معاً ، أنا لا أكتب الرواية فقط ، أكتب في أشياء كثيرة ، في النقد ، في البحث وغيرها ، ولم أتوقف عن الكتابة .
    على الرغم من وجود الروائي داخلي لكني في مرات عديدة أنظر للأشياء بعين الإنسان العادي ، وأسعد حين تتعطل عندي الحاسة الناقدة والمتفحصة للأشياء ، فآخذ الأشياء كما أراها أو كما هي .
    * بعض النقاد يرون أن منحك جائزة الرواية العربية ، لم يكن تكريماً لك ، بل يرون أن الجائزة تكرمت بك ، وأظن أن القول للأستاذ عيسي الحلو ..
    ـ أنتهز الفرصة لأثني على عيسي الحلو ، الذي أذكر أنه أجرى معي مقابلة قبل عشرين عاماً تقريباً ، لمس فيها أشياءً مهمة ، فقد جعلني أركز في المقابلة على « فكرة التعدد « ، التي منذ أن بدأت الكتابة وأنا أدعو لها ، أدعو لعالم متعدد ، وعلى تعدده واختلاف مناخاته الثقافية والعرقية لكنه عالم متعايش ، عيسي الحلو ركز في مقابلته على « حكاية التعدد» وأظن أن المقابلة كانت للرأي العام ـ أجريت المقابلة لجريدة الأيام السودانية ـ
    « كتّر خيره أن قال الجائزة تكرمت بي » .
    بهذه المناسبة أقول أن أول بلد عربي كرمني كان المغرب ، كرمني مرتين في « أصيلة « كرمني كشخص وأقام لي احتفالية ، وكرمني ثانية حين منحوني « جائزة « محمد زفزاف للرواية « ، وكنت أول من يعطي هذه الجائزة ، وأنا متصل بأصيلة في المغرب منذ بداية المهرجان قبل أن تصبح شهيرة ، وأنا من مؤسسيها ، الرجل الذي قاد هذا العمل الجبار وأحدث تغييراً كبيراً هو محمد بن عيسي ، وزير خارجية المغرب الحالي ، هو رجل فاضل وخلاق وتجمعني به صداقة حميمة ، هذا التكريم أسعدني جداً .
    أما حينما يكرم « الواحد » في مصر ، « ومهما قلنا فيها » : قلب الوطن العربي ، و« سرة » العالمين العربي والإسلامي ، عندما يكرم المرء هناك ، فهو قد كرم على نطاق عربي وإسلامي وربما عالمي . هذا التكريم أسعدني « أخوانا المصريين وجدوا في جهدي المتواضع ما يستحق هذا التكريم » .
    * أثيرت وجهة نظر نقدية تقول إن كتابك ( موسم الهجرة إلى الشمال ) وضع سقفاً روائياً ، وحاجزاً أنطولوجياً لم تتجاوزه الرواية السودانية بعد ، إذا قرأنا وجهة النظر هذه مع جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي ، والروايات الفائزة وغير الفائزة ، السؤال هل تشير إلى أعمال روائية تجاوزت هذا السقف إن كنت تؤيد الفكرة ؟
    ـ لا أفهم مثل هذا القول « حكاية سقف روائي » ، فالكاتب شاعراً أو روائياً يبذل جهده لا ليتجاوز شيئاً ، أو ليضع سقفاً ، فهو يشتغل ليقدم ـ كما يقولون ـ منظوره ورؤيته للأشياء ، يستحسنها الناس أم لا ، يقدرونها أو لا يقدرونها ، يعطوه جائزة أم لا ، هذا شيء ثانوي تماماً ، أنا لا ألقي بالاً لمثل هذا القول ولا أحس بأني « عملت سقف ، ولا أي شيء « . وأري أن أي صاحب موهبة يبذل جهداً لإبراز موهبته سيصل حتماً ، مثل هذا القول خارج مفهوم الأدب والفكر اللذان لا يقومان على سقوف ، الشعراء القدامى لم يكتبوا أشعارهم لتجاوز أبو تمام ، أو المتنبي ، أو البحتري « كل زول بقول كلامو « ، وكما تعلم فهنالك شعراء اكتفوا ببيتين ، وأن بعضهم عرف بقصيدة واحدة ، مثل هذا الفهم « كل زول يقول كلامو « هو الذي يثري الموروث الأدبي .
    والكاتب يكتب بالإضافة للتعبير عن الحالة التي يراها في الوقت الذي يعيشه ، ليعيش حواراً مع الذين سبقوه وتركوا أثراً في التراث العربي الزاخر ، وربما مع آخرين من التراث الإنساني .
    أما قضية سقف وحاجز أنطولوجي فهي قضية خارج مفاهيم الفكر والأدب « مجرد أكليشيهات قد يقلدها الناس بدون فائدة » .
    * هل قرأت روايتي (أحوال المحارب القديم )، و(قبيلة من وراء خط الأفق) الفائزتين بالجائزة التي تحمل اسمك ، وما رأيك فيهما ؟
    ـ نعم قرأتهما ، وهي روايات جيدة ، لكن لا يعني هذا أنه لا يوجد كتاب آخرون .. بالمناسبة أتعرف قصة هذه الجائزة ؟
    * لا ... !!
    ـ خطر للدكتور حسن ابشر الطيب أن يجمع مالاً ليبني لي بيتاً في السودان ، فقلت له لا أريد بيتاً ، ولا أملك وقتاً ، لكنه أصر ، « ولما لم قريشات يبدو أنها قلت عن القروش البتعمل البيت » ، فسألني ماذا نفعل ، وخطر لي في الأول إرجاع الفلوس للمتبرعين ، لكنا فكرنا والأخ محمود صالح عثمان صالح ـ وهو رجل عظيم ـ وقلنا : « والله كويس نخصصها لجائزة ، وهم من اقترحوا أن تكون باسمي ، مع إني كنت أفضل لو أنها كانت باسم التجاني يوسف بشير مثلاً ، « وختينا القريشات دي عشان تبقي نواة لهذه الجائزة » .
    أنا الآن أفكر في جمع المزيد من المال لجعلها جائزة كبيرة ، لا لتكون باسمي المتواضع ، بل باسم أحد عظماء السودانيين ، وأظن أن التجاني يوسف بشير مناسب جداً لتسمية الجائزة باسمه « جائزة التجاني يوسف بشير « .
    * لكن الجائزة أخذت اسمها واستقرت آليات عملها !
    ـ « معلىش » يمكن تغيير الأسماء ..
    * لديك مقولة نقدية تدعو فيها لما اسميته النقد القائم على المحبة ، أحدثت هذه المقولة إرباكاً للإبداع والنقد ، وعلاقتهما معاً ، لأنها تبدو كدعوة للنقد ليتحول إلى غزل في النص ، وأن يرى الناقد بعين ( المحب التي لا ترى إلا المحاسن ) ، كيف يفض هذا الاشتباك؟
    ـ هذا مذهبي ، ومع أني لست بناقد لكني لست بعيداً عنه وعلى بعد البصيرة ، النقد عندنا تحول إلى وسيلة لممارسة السلطة ، وأنا أنفر جداً من المتسلطين في هذه الدنيا عموماً ، حكاماً أو أصحاب نفوذ ، أو نقاد ، الناقد أحياناً يضع نفسه فوق المبدع ، ويتحدث بنبرة متعالية ويقول : « هذا كويس ، وهذا بطال ، وهذا كلام فارغ « .
    أنا أعد الكتاب الذي كتبه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عن أبي الطيب المتنبي من أسوأ أنواع النقد ، وطه حسين « ما في كلام عالم كبير ، وفلتة من فلتات الزمان ، لكن لكل جواد كبوة « ، هذا كتاب سيء جداً ، أبو الطيب المتنبي من أعظم شعراء الإنسانية ، « قعد يتلكلك علىهو ، وطلعو كلام فارغ ، وشتمو ، وقال إنه لا يستاهل كل هذا الإعجاب لأنه أبغضه ، ودخل على عالمه بكراهية ». « أنت كاره الزول خليهو» ، هذا يشبه مسافر يبحث عن رفيق فيختار من لا يحبه لمرافقته ، سيزعج نفسه ويزعج من يرافقه .
    المحبة تفتح البصيرة في مذهبي ، وأرى أن أحسن النقد ما كتب عن محبة من قديم الزمان إلى يومنا هذا ، فأبو العلاء المعري تحيز للمتنبي وأحبه ، وأشاد ونوه به ، وفي الأدب العالمي هنالك نقاد كبار ، وأساتذة جامعات ، أحبوا كتاباً مثل « ليفس »، أحد كبار أساتذة جامعة كمبريدج الذي أحب د . هـ . لورنس وكتب عن كتابه « عشيقة ليدي شترلي » ونوه به ، وهكذا يكون النقد المفيد .
    وحتى الكتاب الذين ليست لديهم قيمة أدبية أمثال « إحسان عبد القدوس « و « يوسف السباعي « عند أخواننا المصريين ، عندما أقرأ كتاباتهم استمتع بها ، « إذا الواحد ما عاجبك خليهو « ، إلاّ إذا نصبوا كاتب « كان واضحاً أنه كاتب تافه ، وعملوه أعظم كتاب زمانه ، فليتصدى لهم الناس ويقولوا : لا يا أخوانا الكاتب دا ما عظيم « .في غير هذا يجب أن تتم عملية التواصل بين المبدع والجمهور بالمحبة وليس بالكراهية .
    * مصطفى سعيد شخصية من ابتداع خيالك ، لكنها استقلت وأقامت لها وجوداً خاصاً ، ونُسجت حولها كثير من الأحداث ، وصارت ذات لحم وعظم وروح ، ألا تحس بالغيرة منها ، ومن شهرتها إلى حد ما ؟
    ـ أبداً لا أحس بالغيرة من مصطفى سعيد مطلقا ، بالمناسبة هناك بعض الناس يقصرون اهتمامهم على أن مصطفى سعيد سوداني ، بينما أنا أقابل أناساً كثراً في هذا العالم يظنون أنهم مصطفى سعيد ، مثلاً قابلت أستاذاً أردنياً درس الاقتصاد في أوكسفورد فقال لي : « في حد حكي لك قصة حياتي ، وقال بالضبط أنه مصطفى سعيد « ، وقابلت شخصاً كندي الجنسية فقال لي شعرت بأن حياة مصطفى سعيد هي حياتي ، هنالك من يتساءلون هل هو أنا ، وفي ندوة قاعة الصداقة « عملت السيدة الفاضلة زوجة أستاذنا الراحل عبد الله الطيب قضية طويلة حول أن مصطفى سعيد واحد في متعدد ، وعددت أسماء سودانيين ذهبوا إلى لندن منهم الدكتور سعد الدين فوزي ، جمال محمد أحمد ، الدكتور أحمد الطيب ، وعبد الله الطيب زوجها ، فقلت لها يا سيدتي والله لم أفكر في هؤلاء الناس ، هذا محض خيال » .
    لم تصبني الغيرة من مصطفى سعيد لأن بعض الصفات التي أسبغتها علىه ليست هي الصفات التي أعتز بها ، لو جازت مقارنة بيني وبين شخصية من شخصياتي ، فليقارنوني بشخصية « الزين « في رواية عرس الزين ، وأنا أعجب لماذا لم يقل واحد من الناس أن الزين هو الطيب صالح ، لأن في ّ بعض صفات الزين أكثر مما عندي من صفات مصطفى سعيد .
    * هل لك أن تبوح لنا في الختام بخبر عن عملك الذي تشتغل علىه بعد منسي ..
    ـ دع الأخبار لحين حدوثها ، لكني أملك مشروعاً روائياً لم يكتمل ، أسأل الله أن يمد لي في الأجل لأفرغ منه ، وهو مشروع « بندر شاه « الذي أعده من أهم ما صنعت على علاته ،» ضو البيت « و « مريود « في تقديري المتواضع أهم من موسم الهجرة إلى الشمال ، هناك جزء ، أو جزءان ، أو ثلاثة ، سأكون سعيداً « لو خلصت منها».


    الراى العام ش
                  

02-19-2009, 10:41 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    التاريخ: الخميس 19 فبراير 2009م، 24 صفر 1430هـ

    حاطب ليل
    ومكتبة اخرى ارتحلت

    عبد اللطيف البوني
    [email protected]
    ويتوالى حريق المكتبات في السودان بتعبير الفيلسوف الافريقي سنغور الذي وصف به رحيل الشيوخ فالطيب صالح لم يكن مكتبة ارتحلت فحسب بل كان مكونا لمكتبات الاخرين اذ قدم مشروعا ثقافيا متكاملا يتسم برؤية فلسفية عميقة ومنظور فكري عالمي فالطيب صالح (1929- 2009م) يمكن ان نقول عليه إنه كان سعيدا وموفقا في دنياه اذ راى بنفسه اعماله تمشي على ساقين ووجد الانتشار والتقدير والمكانة العالمية التي يستحقها بينما هناك عباقرة سودانيون ابدعوا ورحلوا دون ان يجدوا المكانة التي يستحقونها (وهذة قصة اخرى)
    كتب الطيب صالح رواية عرس الزين وهو بالسودان ونشرها كملحق بمجلة الخرطوم الثقافية ولكن لم يحفل الناس بها كثيرا وبعد هجرته الى انجلترا كتب رواية موسم الهجرة الى الشمال فاحتفى النقاد الغربيون بها وفي العالم العربي كتب عنها الاستاذ الراحل رجاء النقاش نقدا مبصرا فانتشرت في العالم العربي انتشار النار في الهشيم فرجع الناس لرواية عرس الزين وترجمت اعمال الطيب الى كل اللغات العالمية الحية فاحتل مكانة مرموقة في سلم الرواية العالمية واصبح مفخرة سودانية غير مسبوقة
    عندما (غزت)سمعة الطيب صالح السودان كنا طلابا في المرحلة الوسطى وكانت سعادتنا به لاتوصف فقرأت له رواية عرس الزين ومثل غيري ادهشتني شخصية الزين التي حشد فيها الطيب صالح كل تناقضات القرية السودانية ولكنني وفي ذلك العمر المبكر لحظت انحياز الطيب صالح للاسلام الصوفي على حساب الاسلام السني وكان دليلي على ذلك احتفائه بالشيخ الحنين وعلاقة الزين به وعرضه لامام المسجد بصورة مهزوزة فصعدت منبر الجمعية الادبية وقلت هذا الكلام وماكان من مشرف الجمعية الا ان قال لي: (بطل فلسفة) فكان أن بطلتها
    في المرحلة الثانوية قرأنا للطيب صالح موسم الهجرة الى الشمال وكانت قراءتنا له مصحوبة بكثافة نقدية فقد قرأنا عنها قبل ان نقرأها وبالطبع اعجبتنا شخصية مصطفى سعيد و(فحولته) وانتقامه لنا من (الخواجيات) اعجبنا استخدام الطيب صالح للجنس في صراع الغرب والشرق وفيما بعد اكتشفنا ان مصطفى سعيد كان ضحية للاعتماد على العقل المحض دون كابح معنوي او اخلاقي وكانت السيدة جريزلدا عبدالله الطيب قد نشرت قبل مدة مقالا رائعا في الشرق الاوسط قالت فيه إنها كانت شاهدة عيان على مولد شخصية مصطفى سعيد في ذهن الطيب صالح وهي توليفة من خمس شخصيات سودانية وسادسهم شخصية غانية كانت لها قضايا مشهورة في المحاكم الانجليزية يومها وتكمن عبقرية الطيب صالح في المزج(المسبك) بينها، وقد رحل عن دنيانا اربعة من هؤلاء وبقى واحد اطال الله عمره (بالمناسبة لقد ذكرتهم بالاسم) وقد وجدت تعضيدا لما كتبته جريزلدا في مذكرات الاستاذ علي ابوسن
    في المرحلة الجامعية درستنا الدكتورة مسز بوول قصة (حفنة بلح) في مقرر الأدب الانجليزي وقد كانت رحمة الله عليها (شرقانة) بأدب الطيب صالح وتعتبره من أعظم ادباء افريقيا وهكذا يمكنني القول باننا من الجيل الذي في عنقه دين مستحق للطيب صالح فقد نشأنا وكبرنا على ادبه ومازلنا نرجع اليه لنفهم منه كل يوم فهما جديدا وقد امتعنا مؤخرا بسفر (منسي) اللهم ارحم الطيب صالح بقدرما قدم لامته والبشرية من اعمال طيبة وصالحة وبقدرما رفع ذكر السودان في المحافل العالمية وانزل شابيب رحمتك على قبره.
                  

02-19-2009, 10:50 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    خميس 19 فبراير 2009م، 24 صفر 1430هـ العدد 5620

    ورحل المريود ــــ الطيب صالح
    الطيب صالح..رمـــز للعبقـرية الســـودانــية

    اعداد: مجذوب عيدروس

    رحل الطيب صالح عن عالمنا بعد عمر حافل بجلائل الاعمال والمآثر الخالدة التي بوأته مكانا سامقا في خارطة الدولية العالمية.
    والطيب صالح نموذج للسوداني المثقف الذي يدرك جيدا تراث شعبه ، ويهتم بثقافته - وليس هناك ادنى شك في ان الطيب صالح قد تفوق علي ابناء جيله ممن حاولوا كتابة الرواية والقصة القصيرة، وفي اعتقادي ان ما تميز به عن اولئك قدرته الفائقة على التعرف على موروث السودان - من خلال تشربه لقصص وحكايات الشمال والوسط - والامر الثاني القدرة على استخدام تقنيات السرد ، واذا كان يصح القول ان الرواية العربية على يد نجيب محفوظ قد بلغت شأوا بعيدا في التماسك وتحقيق مواصفات الرواية، فان الطيب صالح قد بلغ بهذه الرواية مدارج الحداثة.
    في كتابه (الرحلة الثامنة) اشار الناقد والروائي جبرا ابراهيم جبرا الى ان الطيب صالح حقق في موسم الهجرة ما ظل الكتاب يبحثون عنه (الموضوع الكبير).
    ولقد كان لصحيفة الصحافة في عام 2005م من خلال ملفها الثقافي ، شرف المبادرة لترشيح الروائي الكبير الطيب صالح لنيل جائزة نوبل.. ولم يكن الروائي الكبير - كما اخبرنا عند حضوره لدار الصحيفة - متهافتا على الجائزة التي سعى اليها الكثيرون في الشرق والغرب - ولكنه بتواضعه الجم، وزهده المأثور عنه - غير محتفل بهذا الامر الذي قال انه يدخل في باب تقدير اهل السودان كله.
    وهو قد اشار الى شيء من ذلك في ندوة (الصحافة) في السبعينيات.
    في قصة حياة الاستاذ الطيب صالح دروس وعبر نقف عندها، لكي تلهم ابناء الاجيال اللاحقة، فهو قد بدأ رحلته مع التعليم متنقلا في مدارس ذلك العهد اواخر الثلاثينيات والاربعينيات، تلك المدارس التي كانت تجمع بين ابناء البيئات السودانية المختلفة منذ عهد مبكر.
    وعمل لمدة عام مدرسا في رفاعة، وما ادراك ما رفاعة في عز تألقها ومزاوجتها بين الحضر والبادية، مضيئة بنور العلم، ومنفتحة علي سمر البطانة وشعرها الشعبي، والذي كان الطيب صالح يستشهد به في كتاباته واحاديثه.
    في عام 1960م، نشرت مجلة القصة السودانية بعض قصص الطيب (نخلة على الجدول) وقام بنقدها الاستاذ حامد حمداي - الناقد الذي كان يواكب القصص المنشورة بالدراسة والنقد. وكان نقد حمداي رغم حصافته، ينطوي على شيء من القسوة، الا ان ذلك لم يفت في عضد الطيب صالح - الواثق في غير ادعاء من قدراته الفنية.
    وكانت قصص هذه المجموعة (دومة ود حامد) هي البدايات التي زودت الطيب صالح بحكايات سردية من عالم الغربة ، وقدم فيها رؤيا صافية لمشكلات ما بعد الاستقلال - لو كان الساسة يقرأون، وقدم رؤيا اجتماعية تستوعب الموروث والمتغيرات - فهي تتسع لوابور المشروع ولدومة ود حامد.
    (كانت المعارضة تبحث عن شرارة توقد بها النار) فلما حدث حادث الدومة معكم واخذوكم والقوا بكم في السجن، نشرت الصحف النبأ، وخطب رئيس الحكومة المقالة في البرلمان خطبة نارية قال فيها: (لقد بلغ من طغيان هذه الحكومة انها اصبحت تتدخل في معتقدات الناس، في اقدس الاشياء المقدسة عندهم)، ووقف الخطيب وقفة ذات اثر ثم قال وصوته يتهدج بالعاطفة (أسألوا رئيس وزرائنا الموقر عن دومة ود حامد، اسألوه كيف اباح لنفسه ان يرسل جنده واعوانه فيدنسوا ذلك المكان الطاهر المقدس)، وحمل الناس الصيحة واستجابت افئدة الناس في سائر القطر كما لم تستجب لحادث من قبل ، لعل السبب ان في كل بلد من بلدان هذا القطر علما كدومة ودحامد ، يراه الناس في احلامهم ، وبعد شهر من الضوضاء والصراخ والشعور الملتهب، اضطر خمسون من نواب الحكومة ان يسحبوا تأييدهم منها فقد انذرتهم دوائرهم اما ان يعلنوا ذلك، والا فهذه الدوائر التي انتخبتهم تنفض ايديها منهم. وهكذا سقطت الحكومة وعادت الحكومة الاولى الى الحكم وكتبت الصحيفة الاولى في القطر تقول: (ان دومة ود حامد اصبحت رمزا ليقظة الشعب).
    وفي رواية عرس الزين - تصبح قصة الزين - تلك الشخصية التي استطاعت ان تخترق الحواجز التقليدية ، وان توحد بين المعسكرات المختلفة في القرية، وهي رمزية فسرها بعض النقاد بانها دعوة للمصالحة بين الناس على مختلف طبقاتهم.
    وموسم الهجرة هي التي سمت بالطيب صالح الى ذرى المجد الرفيع، ولا اعتقد ان هناك رواية عربية، قد حظيت بمثل ما حظيت به هذه الرواية من اهتمام النقاد.. ولقد نالت شخصية مصطفى سعيد عناية اخصائيي علم النفس، وعلم الاجناس، الى جانب نقاد الادب بطبيعة الحال..
    وقد اضيف اسم الطيب صالح ، ذلك القروي القادم من كرمكول عند منحنى النيل، الى سجل الخالدين من كتاب الرواية، والذين حظيت اعمالهم بتقدير الدارسين والقراء من مختلف بقاع العالم.

    ---------------------------------------------------------------
    الخميس 19 فبراير 2009م، 24 صفر 1430هـ العدد 5620

    البروفيسور الشوش :
    عرس الزين دعوة إلى المحبة والسلام في مجتمع يعج بالتناقضات

    اعداد : وفاء طه

    جمع د. محمد ابراهيم الشوش عددا من المقالات التي تم نشرها في عدد من الصحف السودانية في مؤلفه ادب وادباء ضمت بينها 4 مقالات من ادب الروائى الطيب صالح، قال عنه الشوش بدءاً : يتمتع الطيب صالح برصيد جم من الألفة والود مع القارئ المحلي والعربي والعالمي وقد شملت وقفاتي معه استجلاء الرمز في عرس الزين باعتباره دعوة الى المحبة والسلام والتسامح في مجتمع يعج بالتناقضات وتنهشه الخلافات والاحن كما حاولت ان ارسم ابعاد المأساة في موسم الهجرة الى الشمال.
    تحدث في المقالة الاول عن الرمز في عرس الزين فقال عنه : عرس الزين هي الرواية الاولي للطيب صالح ، ولقد شق المؤلف طريقه نحو القصة قبل ذلك بنشر عدد من القصص القصيرة ترجم بعضها الى عدد من اللغات ونشرتها امهات المجلات الاوربية في انجلترا والمانيا وايطاليا وتدور حوادث هذه القصة في قرية من قري الشمال وهي التي ظلت دائما محور اغلب قصصه الاخري والمسرح الاثير لديه، تبدأ العظمة بمظاهر الدهشة البالغة التي تستحوذ على كل فرد في القرية لدي سماعه خبر عرس الزين ويبدو ان كل الذين يحملون هذا النبأ الشاذ يدركون سلفا مبلغ تأثيره على مستمعيهم فكانوا يتخذون منه وسيلة لمآرب اخرى.
    بعد ان طاف الشوس بكل تلك المظاهر المدهشة في القرية عقب سماعهم الخبر قال : كل هذه العوالم المتناقضة تجتمع في عرس الزين ذلك القلب الكبير الذي احتضن القرية كلها فجاءت جميعها لتشاركه هذه الفرحة : الذي يريد ان يقوله الطيب صالح هو : بالحب وبالولاء وبالتسامح يمكننا ان نصهر ونزيل التناقضات في هذه الامة وانه لا القوة المادية التي عجزت ان تحول بين الزين وغريمه لولا الكلمة الطيبة من الحنين، ولا الضغط المادي والمعنوي «فسيف الدين مارجع عن صوابه برغم غضب القرية وكراهيتها الا عن طريق الايمان الداخلي في نفسه» يمكن ان يؤدي الى ازالة التناقض وانما عن طريق المحبة التي دفعت الزين ان يترك حفل عرسه ليبكي على قبر الحنين ذلك الصديق الذي حال موته دون المشاركة في الزواج، يمكن ان تنصهر الامة وتزول الادران والاحن والاحقاد، عرس الزين دعوة الى المحبة والسلام والتسامح في مجتمع يعج بالمتناقضات وتنهشه الخلافات والاحن. في المقالة الثانية تحدث د. الشوش عن ابعاد المأساة في موسم الهجرة الى الشمال فقال موسم الهجرة الى الشمال هو القمة الفنية التي استطاع الطيب صالح ان يبلغها بملكته القصصية الفذة وجهده المتواصل .. قمة استطاع من خلالها المؤلف ان يخترق سياج المحلية والرتابة والرومانسية الفارغة والتقليد الجاهل الذي ظل يخنق تطور القصة العربية ردحا من الزمن ظلت فيه حبيسة الركود والجمود بين جدران العالم العربي لا تتعداه الا خجلة متوارية.
    ويواصل الشوش: لعلني لا اكون مغاليا اذا قلت اننا نشهد بظهور هذا العمل الفني مولد حدث ادبي له خطره بل نقطة تحول جبارة في تاريخ القصة العربية سيكون لها اثرها الكبير .. الرواية تتخذ نسقا متداخلا مع احداث القصة ، لا تتبع سياقا زمنيا منتظما ومفعلا، وانما يجد القارئ نفسه في خضم الاحداث جميعها في ان واحد، وهي تطل عليه على موجات يطغى بعضها على بعض تختلط فيها الحقيقة بالوهم والواقع بالتخيل ، والسرد المباشر بالمناجاة الذاتية، والذكريات القديمة بالاحداث الجارية وقد زال كل شئ يتصل بالزمان والمكان فالقصة لا تساير التطور الزمني للاحداث او تتبعها الي نقطة محددة وانما تنبسط على رقعة عريضة واسعة وتتكشف على مستويات متعددة ومتشابكة شبيهة بلوحة فنية تحيط بها العين المجردة في لحظة واحدة ويتسرب الوعي الى القلب على آلاف الدرجات .. والمؤلف يمسك بخيوط القصة كلها في لحظة واحدة مستغلاً الى ابعد حد ممكن وفي براعة مذهلة احد تكنيك روائى، كما ارتقي عند نابو كوف اعمق كتاب القصة من المعاصرين في قصة «النار الشاحبة».. اسرار حياة مصطفى سعيد الغريبة الشاذة، واحداث القرية الوادعة الهادئة وتطور شخصية الراوي ومناجاته الذاتية، ونزوات الطبيعة في هدوئها وتغولها، وصخب الحياة في لندن، كلها تتسق في نهج فني يجل عن الوصف ويستعصي على التحليل والنقد.
    «موسم الهجرة الى الشمال» هي تخيل اديب ملهم للحياة وما يمكن ان تكون عليه حيث تفقد الحب والحنان.
    ومن خلال ندوة نظمتها اسرة دار الصحافة عن ادب الطيب صالح واعماله التي خرقت سياج المحلية لتبشر بمولد كاتب سوداني نابغ كتب الشوس قائلاً:
    عالمية الطيب صالح تتركز في اصالته ومحليته وارتباطه الوثيق بالتراث السوداني، فيه نكهة بلادنا وبساطة اهلها وجمال ارتباطها وحلاوة ناسها، وعن اختيار المكان وملامحه قال الطيب صالح في الندوة: في تقديري ان الاشياء المترسبة في عقلي تؤثر فيّ.. فقد نشأت في مكان معين اكسبني الكثير من التجارب.. ويؤكد الطيب صالح بعد ذلك حقيقة مهمة تغيب عن الكثيرين من النقاد.. والقراء.. وهي ان الاديب المبدع ليس آلة تصوير وتسجيل ولكنه يملك قدراً من التجارب يصونها في نفسه عملا جديدا خلاقا فيه ملامح الواقع ولكنه ليس الواقع بحال من الاحوال، ويستطرد الطيب: ولكنني اكتب عن مكان وهمي على اقل تقدير في تصوري شخصيا.. اما التفاصيل التي تأتي في القصة فالمقصود بها المزيد من الايهام، قد يظن القارئ ان عرس الزين قد حدثت بالفعل وان اشخاصها احياء وان الزين شخص حي يرزق اما بالنسبة لي فان شيئاً من ذلك لم يحدث.. والرواية عالم من تصوري، وانا المسؤول عنه، اما التفاصيل فربما يكون بعضها حقيقياً اعتمدت فيه على واقع استلهمته من ذكريات بعيدة للمكان الذي نشأت فيه ولكنني لا اقصد ان اتحدث في زمن معين او مكان معين.
    في هذه الندوة قارن احد المتحدثين بين الطيب صالح والكتاب الافارقة وبعد ان اجلسه على قمتهم فضله على شارلس ديكنز فسارع الطيب صالح يقول في تواضع جم «احب ان اؤكد انني افهم واقدر الحب الذي اجده في السودان بحكم انني سوداني ولكن اود ان اقول دون اي احساس بتواضع مزيف انني ابعد ما اكون عن كاتب عالمي، انا كاتب ما زال في بداية طريقه واعتقد ان ظن المتحدث بان هناك مجالاً للمقارنة بيني وبين شارلس ديكنز مع تقديري وشكري.. شيء لا اقبله... ويستطرد قائلاً انا احاول ان اعيرهم احساس شخص مثل احساس الصدام الحضاري وافكار التغيير المطروحة واحساس العلاقة بين القيم الني عهدناها والقيم التي نظن انها افضل لحياتنا، ومن الصعب ان يستشف الانسان آراء الكاتب من اقوال شخصياته.. ذلك لانه يرسم عالما لا وجود له.
    وفي سؤال حول هل الطيب صالح يعتبر نقطة نهاية او عقبة لا يمكن لاحد تجاوزها قال: انا شخصياً احب ان اقول بانني لست مقصدا.. واذا كان السودان يعطيني كنز خيره وحبه لانه يظن انني اعبر عن تطلعاته واشواقه فهذا شيء لا يثير الغضب فيما اعتقد.. انا لا اكتب لأصبح تياراً او مدرسة ادبية، وتدهشني كي احضر هنا في السودان مظاهر التقدير الذي يحيط بي.. ويجب ان اعترف بانه اذا كان السودان يعتبرني صوتا من الاصوات التي تعبر عن تطلعاته فارجو ان اكون خمس اصوات اخرى حاضرا ومستقبلا ارجو الا اكون نهاية لاي شيء فالناس يروحون ويجيئون وما من احد يمكن ان يبلغ به الغرور والادعاء ان يعتقد للحظة انه يمكن ان يكون نهاية لاي شيء..
    نختتم بقوله في توضيح سوء فهم وقع اثر مقابلة في احدى الصحف البيروتية، قال لم ارد باختياري ان اكون كاتبا انما اريد ان اكون شيئاً معبراً يزيح عن كاهل اهلي ما يعانون من فقر وعوز وحاجة.. اني اعرف ان الكتابة شيء بعيد ولكن وقت ذلك لم يحن بعد، هنالك اسبقيات اخرى..

    ------------------------------------------------------------
    الخميس 19 فبراير 2009م، 24 صفر 1430هـ العدد 5620

    الطيب صالح: سيرة ذاتية




    غيب الموت في الساعات الاولى من صباح أمس الأربعاء الروائي الكبير الطيب صالح (1929 - 2009م).. بعد رحلة في الحياة، ومسيرة ابداعية تواصلت حتى رحيله الفاجع.
    وبدأت هذه الرحلة عام 1929م بكرمكول ريفي الدبة بالولاية الشمالية. وتلقى تعليمه حتى مدرسة حنتوب الثانوية. والتحق بكلية الخرطوم الجامعية - كلية العلوم ولم يكمل.
    ? عمل معلماً لمدة عام في مدرسة رفاعة المتوسطة وترك اثراً عميقاً في نفوس تلاميذه.
    ? هاجر الى بريطانيا عام 1953 وعمل مذيعاً بهيئة الاذاعة البريطانية. وتدرج في وظائفها حتى اصبح رئيس قسم الدراما بالقسم العربي في لندن.
    ? تم انتدابه في منتصف الستينات لمدة عام 1966/65 مستشاراً للاذاعة السودانية حيث قام باجراء اصلاحات ادارية لتحديث الاذاعة وسجل السيرة النبوية - سيرة ابن هشام، وحوارات مميزة مع الشاعر الكبير ابراهيم العبادي.
    ? في منتصف السبعينات عمل وكيلاً للاعلام في دولة قطر لمدة 7 سنوات، وهي الفترة التي وضعت فيها الأسس للنهضة الحديثة في الاعلام والثقافة في الشقيقة دولة قطر. حيث ظهرت مجلة الدوحة القطرية، وتطورت الاذاعة والتلفزيون والصحافة القطرية.
    ? ظهرت مجموعته القصصية (دومة ود حامد) والتي ضمت قصصاً متميزة (نخلة على الجدول)، (حفنة تمر)، (رسالة إلى ايلين)، (مقدمات) وغيرها من القصص القصيرة. وجاءت في وقت لاحق في التسعينات قصته (يوم مبارك على شاطئ أم باب) التي نشرتها مجلة الخرطوم مع نقد لها بقلم د. الطاهر أحمد مكي.
    ? نشرت مجلة الخرطوم روايته «عرس الزين» التي تحولت الى فيلم سينمائي قام باخراجه الكويتي خالد الصديق. وقام ببطولته ابراهيم الصلحي - على مهدي - فائزة عمسيب وغيرهم.
    ? وفي بيروت صدرت روايته «موسم الهجرة الى الشمال» التي احدثت دوياً هائلاً، وأصبحت علامة فارقة في تاريخ الرواية العربية، ووضعت كاتبها في مصاف كتاب الرواية الكبار في العالم، واجتذبت الرواية ملايين القراء بمختلف لغات العالم الحية. كما اهتم بها الدارسون والنقاد وخرجت عنها مئات الكتب والبحوث والدراسات والمقالات.
    ? اصدر روايته بندر شاه من جزئين (ضو البيت) و(مريود).
    ? ثم صدرت مختارات الطيب صالح من تسعة اجزاء كان مفتتحها (منسي - انسان نادر على طريقته).
    ? فاز بجائزة الرواية العربية - وترأس لجنة تحكيمها في احدى الدورات..
    ? صدرت كتب عديدة عنه من بينها (الطيب صالح عبقري الرواية العربية) وحوار مع الطيب صالح - طلحة جبريل - والقراءة النقدية لروايات الطيب صالح د. عبد الرحمن الخانجي وغيرها.

    الصحافة
                  

02-19-2009, 11:22 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    عدد رقم: 1175 2009-02-19

    نقوش على ذاكرة رحيل عبقري الرواية العربية

    الخرطوم: صلاح الدين مصطفى- معتز - وجدان
    الطيب صالح موسم الهجرة (من) الشمال..!!
    برحيله يوم أمس تكون الرواية العربية قد فقدت واحداً من أبرز رموزها، وقد كتب أربع روايات فقط، الأمر الذي يشير الى أن قياس الابداع لا يتم بالكم، ويكفيه فخراً دخول رواية موسم الهجرة إلى الشمال ضمن أفضل مائة رواية عالمية، إضافة إلى ترجمة أعماله إلى كل الروايات الحية. إن رحيل الأديب العالمي الطيب صالح مناسبة كبيرة لا يمكن المرور فيها دون أن نبرز مساهماته في الأدب السوداني والعربي والعالمي الإنساني، وفي هذه المساحة على ذاكرة الإبداع المتفرِّد، خطها أدباء ونقاد ومثقفون كلٌّ ينظر إلى الراحل من زاوية مختلفة، وبهذه اللقطات نحاول إضاءة المشهد الكامل لإبداع الأديب الراحل الطيب صالح.
    اللبنة الأولى في مضمار الرواية العربية الحديثة
    الناقد الأدبي، أحمد عبدالمكرم، يقول إن الطيب صالح اسم كبير في عالم الأدب وهو صاحب نموذج عالي القيمة الجمالية في الكتابة الإبداعية، خاصة (القصة القصيرة والرواية) ويضيف مكرّم: لم يكن الطيب صالح وابداعه نموذجاً لمعيار التطور الأدبي والجمالي في السودان، بل شكل الراحل ريادة في مجال تطور الرواية العربية المعاصرة ولم تكن روايته (موسم الهجرة إلى الشمال)، لم تكن تمثّل قمة الابداع الروائي في السودان فحسب، ولكنها وضعت اللبنة الحديثة في مضمار الرواية العربية، مستبقة الحدود والانجازات الفنية التي حققها نجيب محفوظ.
    ويواصل عبدالمكرم: القيمة الجمالية لإبداع الراحل، تتمثل في كونه استطاع ان يخلق عالماً روائياً متكامل الأضلاع، تكمل القصص القصيرة فيه، واستطاع في هذا العالم –الحديث لمكرم- أن يبتكر مكاناً خرافياً، رمزية إلى السودان، واعني قرية ود حامد، حيث جدد عبرها عالم القرية السودانية بنقائها المعهود وجمالها وصدق إنسانها وعالمها المليء بالخرافة والسحر والتصوّف.
    رؤية فنية لواقع اليوم
    ويرى عبدالمكرم أن مناسبة رحيل هذا المبدع هي فرصة سانحة للتذكير بالقيم الجمالية المركوزة في كتاباته عن السودان وعن المجتمع السوداني، بحسبان أن مجتمعنا يعاني من الانقسام العرقي وعدم الاعتراف بالتنوع الثقافي وبالتالي فإن كل ما كتبه في عالمه الروائي والسردي هو معالجة فنية لشرور الانقسام والصراع وعدم إعلاء قيمة التسامح والحب.
    ويشير الناقد أحمد عبدالمكرم إلى قصة دومة ود حامد التي قال فيها إن السودان يتسع لكل شيء، للقديم والجديد، يتسع في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وهي حكمة لو أدركها السياسيون لما شهدنا هذه الحروب الدموية، ويختم مكرم حديثه بالترحم على روح الأديب الراحل والدعوة لاستنباط القيم من كتاباته وأحاديثه الثرة.
    فتح عالمي للأدب السوداني
    الأستاذ فيصل أحمد صالح الكاتب الصحافي ومدير مركز طيبة برس، ابتدر حديثه بقوله إن رحيل الطيب صالح فقد كبير للشعب السوداني وللأدب العربي بصفة عامة، مشيراً الى الميزات العديدة التي تميّز بها، وعلى رأسها تأسيسه وتركيزه لفن الرواية في السودان.
    وأضاف فيصل أن نشر رواية (موسم الهجرة للشمال) أحدث هزة في الأوساط الأدبية في كافة أرجاء الوطن العربي، وظهر اسم الطيب صالح كواحد من أفذاذ الروائيين، وقد استطاع تقديم الأدب السوداني الذي كان غائباًً عن المحافل العربية والعالمية.
    ويقول فيصل إن أديبنا الراحل قاد دور النشر العربية (خاصة دار العودة) لنشر الروايات السودانية، وكان ذلك بمثابة فتح وسبق أدبي كبير، ويختتم حديثه بذكر ميزة مهمة في شخصية الطيب صالح وهو أنه كان سودانياً حميماً، من حيث اختياره للموضوعات إضافة للبيئة التي تدور فيها رواياته ومن حيث لغته الأدبية (المطعمة بالعامية السودانية). ويرى أن اختيار الطيب صالح كواحد من أبرز الروائيين العرب لا غرابة فيه رغم قلة أعماله لأن المقياس (هنا) باليكف لا الكم.
    أديب من طراز فريد
    د.فيصل أحمد سعد المحاضر بكلية الموسيقى والدراما قال إن الراحل أديب من طراز فريد، والدليل على ذلك أنه كان مرشحاً لجائزة نوبل، ويقول إنه استطاع أن ينقل الحياة السودانية الدقيقة للعالم الخارجي عبر رواياته مثل (عرس الزين) و(دومة ود حامد) التي أصبحت تدرس ضمن المناهج في الجامعات، ويقول فيصل إن الإذاعة السودانية قدمت له عملاً مميزاً في شهر رمضان الماضي وهو (منسي) تلك الشخصية المصرية التي عبّر عنها الطيب صالح بشكل بديع وقد أعد هذا العمل للإذاعة البروفيسور عثمان جمال الدين.
    الرهان على تعدد الثقافة السودانية
    الأستاذ علي مهدي رئيس مسرح البقعة واحد من أبرز نجوم فيلم عرس الزين المأخوذ عن رواية الطيب صالح، ومن ثم المسرحية التي طاف بها عدداً من دول العالم يقول إن رحيل الطيب صالح يمثل فاجعة للجميع، ليس على مستوى السودان فحسب، بل على مستوى كل العالم، وهو –حسب علي مهدي- الأديب المبدع الذي ظل يعرف كل العالم بالسودان (بيئة وإنساناً) عبر كتبه وحواراته، ويضيف أن البلاد لم تفقد برحيله مجرد مبدع، بل واحدا من أبرز قادة التنوير في القرن الماضي، فقد كان يراهن على تعدد وتنوع الثقافة السودانية، ويرى أن مستقبل البلاد في احترام هذا التعدد واتاحة الفرصة كاملة له.
    ويقول علي مهدي إن تجربة فيلم (عرس الزين) الذي تحول إلى عمل مسرحي فيما بعد، تعد من أهم التجارب في السينما السودانية حتى الآن، وقال مهدي إن الفقيد توفي فى حوالى الساعة العاشرة بتوقيت لندن بحضور زوجته وبناته وتوقع أن يحضر الجثمان (اليوم) ليدفن بمقابر البكري وقال إن العزاء يقام بمنزل شقيقه بشير بمدينة النيل بام درمان.
    أكبر رموز البلد
    الدكتور عبدالله حمدنا الله أستاذ النقد ورئيس قسم الدراسات العليا بجامعة أفريقيا العالمية يقول إن ما قدمه الطيب للسودان يجعل كل واحد يشعر بفجيعة رحيله فهو من أكبر رموز البلد، ويضيف: "بفقده فقدنا القيم الكبرى التي كان ينادي بها، ورغم أنه قضى أكثر من نصف قرن خارج السودان إلا أنه ظل سودانياً اصيلاً ملماً بأدق تفاصيل الحياة وكأنه لم يغادر أرض الوطن".
    ويقول إن القيمة الأكبر هي تواضعه، حيث كان شديد الشعور بأنه من غمار الناس، وبهذا فقد دخل كل بيت وقلب سوداني.
    عبقري الرواية العربية
    الشاعر والدبلوماسي سيد أحمد الحاردلو تجمعه علاقات حميمة بالطيب صالح، فقد خط له مقدمة المجموعة الكاملة من أعماله الشعرية، ويقول الحاردلو إن بداية تعرفه بالطيب صالح تعود للعام 1966م عندما تم انتدابه ليقوم ببعض الاصلاحات في اذاعة ام درمان، ثم غادر الطيب إلى لندن وهو لا يحب الشهرة، ويصف الحاردلو موقفاً أدى لتعجيل شهرة الطيب صالح وهو نشر مجلة الحوار اللبنانية لرواية موسم الهجرة للشمال، ويقول: اشتريت منها خمس نسخ وفي زيارة لي لمصر أوصل نسخة لرجاء النقاش الذي اندهش وكتب مقالاً بعنوان (الطيب صالح... عبقري الرواية العربية)، ويقول الحاردلو إن هذا المقال وضع الطيب صالح على قمة الروائيين العرب منذ عام 1968م. ويصف الحاردلو العلاقة بينهما بالوطيدة خاصة بعد نقله لسفارة السودان في لندن، حيث تمت ترجمة أعماله ويقول إن (150) ناقداً حضروا احتفالاً أقيم للراحل، وخرجت إحدى الصحف في اليوم التالي تقول إن الطيب صالح يقود حرب غوريلا ضد الحضارة الغربية، ثم ظهرت الترجمات بعد ذلك ووضعت الطيب في مكانه الصحيح، ويقول إن آخر زيارة له كانت بمناسبة حضور الطيب للعاصمة الثقافية حيث حرص على الحضور لمنزلي بأركويت ويرى الحاردلو أن رحيل الطيب صالح سوف يخلق فراغاً كبيراً في العالم العربي.
    مثقف موسوعي
    الناقد والأستاذ الجامعي البروفيسور محمد المهدي بشرى يقول إن الراحل ظل يحمل هم الوطن في كتاباته منذ بداية الخمسينيات وقد خلّد اسم السودان في المحافل الدولية وهو مثقف موسوعي شامل المعرفة وله رؤية نقدية صائبة، وكتب عن الشاعر صلاح أحمد إبراهيم في مقدمة ديوانه، وهو متعدد المواهب التي وظفها للكتابة الصحفية، وما زالت رواياته جديرة بالدراسة.
    ويقول البروفيسور محمد المهدي بشرى: على الرغم من ابتعاده عن الوطن وهو في سن صغيرة نسبياً، إلا أنه ظل يعيش كل آمال وآلام الوطن في غربته.
    أسس لفن المقالة الصحفية
    د.صديق عمر الصديق، مدير معهد عبدالله الطيب للغة العربية قال إن الراحل احتل مكانة مرموقة في الأدب العالمي الإنساني، حيث ترجمت رواياته إلى كل اللغات الحيّة رغم أنه لم يكتب روايات كثيرة فقد كتب (موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين، ضو البيت ومريود) إضافة لمجموعة من القصص القصيرة أبرزها (نخلة على جدول) و(رسالة إلى إيلين).
    ويضيف د.صديق إن الراحل كتب في سنواته الاخيرة مقالات صحفية متميّزة، حيث كان يكتب الورقة الأخيرة بمجلة الدوحة القطرية وقد جمعت هذه المقالات في تسعة كتب، إضافة لكتابه (منسي) وهو شخصية صاحبته في الغربة، وغير ذلك من الكتب ويقول إن ما كتبه يمثل فناً من الكتابة الصحفية، ووصف تجربته بالثرة، مشيراً إلى أن فقده يعد فقداً للرواية العالمية، واصفاً قلمه بالخصوصية والتفرّد والمعرفة العميقة بالتراث العربي، وخلط ذلك باستخدام تقنيات كتابة الرواية الحديثة، ويقول إن الغوص في التراث وعدم الانفصال عن لغة العصر هو ما ميز تجربة الطيب صالح الإبداعية



    ------------------------------------------

    العدد رقم: 1175 2009-02-19

    في حوار لم يكتمل

    حوار: نبيلة عبدالمطلب
    الروائي العالمي الطيب صالح:
    أنا أعرف السودان أكثر من الذين يعيشون فيه
    حينما قلت "أنا تربال" لم أرد التلاعب بالألفاظ لأنني تربال حقيقي
    خصائص الشخصية السودانية أدهشت العالم لأنها راسخة
    الحكومات السودانية أهملت الثقافة بدعوى أن هناك أولويات
    لم أفقد الدهشة بالسودان لأنني أنظر إليه بعين المواطن وليس الروائي
    أجري هذا الحوار في زيارة الأديب العالمي الطيب صالح للسودان في أبريل 2005م للمشاركة في فعاليات الخرطوم عاصمة للثقافة 2005م وجاءت الزيارة بعد عشرين عاماً من مغادرته السودان.
    * في ليلة من ليالي صيف العام 1929م كانت مدينة الدبة قرية كرمكول على موعد بميلاد شخصية سودانية أضافت صفحة بيضاء ناصعة في تاريخ السودان الحافل برجاله ومبدعيه في المجالات كافة..
    * الروائي العالمي الأستاذ الطيب صالح حين أطلق مقولته الشهيرة "أنا تربال إبن تربال جئت من منحنى النيل" كان يعبِّر بصدق عن انتمائه لتلك البقعة التي قدمته أديباً متمكّناً.. ومبدعاً أصيلاً ليصبح من السودانيين القلائل الذين يعرفهم الناس في بقاع الدنيا.. فعلى الرغم من أنه (تربال) عاش حياة القرية في الشمال بكل تفاصيلها إلا أنه خلّد أعمالاً أدبية انتشرت بلغات عالمية..



    * "نخلة على الجدول".. "دومة ود حامد".. "عرس الزين".. "موسم الهجرة إلى الشمال".. "مريود".. "ضو البيت".. وغيرها من الأعمال الأدبية كانت إضاءات مهمة في تاريخ الأدب السوداني قدّمها الطيب صالح على فترات متباعدة ومعظم هذه الأعمال لم تخرج عن نطاق الإنسان السوداني إذ عبّرت بعمق عن الشخصية في بيئات مختلفة لكنها تظل ذات الشخصية وإن إختلفت الأزمان والظروف.
    * بعد غياب دام عشرين عاماً جاء الروائي الطيب صالح من مهجره بلندن إلى السودان رغم طوال سنين غيابه لم تستطع البلاد الاسكندنافية أن تغيّر من (سودانيته شيئاً).. لم يخف أن إقناعه بالحضور إلى السودان كان صعباً لأسباب ذكرها صراحة.. إحتفت الخرطوم ومدن أخرى بمقدمه في صحبته رموز ثقافية وأدبية غابوا أيضاً عن البلاد سنوات.. جلسنا إليه في مقر إقامته بفندق الصداقة في حوار لم يكن طويلاً بسبب إنشغاله ببرامج كثيفة امتدت أياماً وليالٍ.. وكنا نتمنى أن تطول إقامته إلا أننا ولذات الأسباب لم نفلح للقائه ثانية.. فإلى افادته في حوارنا معه..
    * غيابك عن السودان مدة العشرين عاماً.. كيف كان تأثيره علكيم خاصة أن السودان طرأ عليه الكثير من المتغيّرات على الأصعدة المختلفة..؟
    - لا أعتقد أن غيابي عن السودان قد غيّرني عنه وعن أهله الطيبين ولا أرى أن السودان قد تغيّر كثيراً وأعني هنا شعبه.. في كل اللقاءات التي تمت خلال زيارتي للسودان مع الفعاليات المختلفة وجدت السودانيين كما هم كما عرفتهم وكتبت عنهم في رواياتي.. كنت أخشى أناساً مختلفين، لكن الحمد لله وجدت كل الذين التقيتهم رجالاً ونساءً.. كباراً وصغاراً يتميِّزون بدماثة أهل السودان والطباع الأصيلة التي عشقتها فيهم وعشقها كل الناس في العالم.
    * الروائي الطيب صالح كأنما فقد الدهشة بالسودان.. هل يعود ذلك للحياة التي عاشها في مجتمع أوربا الذي يختلف كثيراً عن المجتمعات السودانية؟
    - لم أفقد الدهشة.. لكنني لا أنظر للأشياء بعين الروائي لكن بعين المواطن الذي حمل البلد في خياله وتعايش مع الصور التي يحلمها.. لم أفقد الدهشة.. ولكن هذه هي الانطباعات العفوية المباشرة التي شعرت بها، إلى الآن لم أر شيئاً غريباً أو نشاذاً ووجدت الكثير الذي يذكّرني بالسودان قبل خمسين عاماً.
    فالشخصية السودانية راسخة كما يعرفها العالم وليست ثابتة، ليس هناك شيء ثابت في هذه الدنيا لكن هناك خصائص للشخصية موجودة، هذا ما قصدته..
    * قلت إنك تربال ابن تربال.. جئت من منحنى النيل نجد أنك عبَّرت عن ذلك في روايتك التي استطعت أن تتجاوز بها العالمية.. ماذا تقول؟
    - بالحيل، هذا كلام صحيح حينما قلت أنا تربال ابن تربال لم أرد التلاعب بالألفاظ.. لأني نشأت في بيئة زراعية وشاركت أهلي في كل شيء إلى أن خرجت من السودان.. فحينما كنت طالباً بجامعة الخرطوم كنت أذهب إلى البلد في الإجازات لأشارك في الزراعة وفي كل أمور الحياة الأخرى.. كنت أشارك في زراعة التمر وحصاده.. كنت أرعى الغنم وقراع الماء في الساقية (أروتي).. والأروتي هو الولد الذي يركب على التكم، والتكم في الحلقة و(أسوق) البقرة وهي تلف في الساقية لإخراج الماء.. عملت كل شيء..
    - هناك من يتهمني بأنني لا أعرف السودان.. بدون ذهول أقول أنا أعرف السودان أكثر من كثيرين يعيشون فيه.. لأنني تشبّعت في المرحلة الأولى من حياتي بالبيئة التي عشت فيها.. كنت أكتب الخطابات لأزواج وأبناء ونساء القرية المسافرين كنت أذهب بالقمح إلى "الطاحونة" فعلت كل ما يمكن أن يخطر ببال الناس.. فأنا أحمل تجارب طويلة عريضة وكل إنسان يجب أن يكون جزءاً من حياته.. فمثلاً شقيقي بشير محمد صالح وهو قاضي محكمة عليا مثلي تماماً ويفعل كل ما كنت أفعله وحينما يذهب إلى البلد يشارك في كل النشاطات..
    وأعتقد أن كل أهل السودان وأقصد أهل الشمال تحديداً (انعجنوا في الحياة) لذلك نحن حملنا خصائص أدهشنا بها العالم وأقصد هنا الصفات والخصال السودانية..
    * وانت تشارك في احتفالية العاصمة الثقافية كيف تقيِّم الحركة الثقافية في السودان بصورة عامة..؟
    - أولاً: دعيني أذكر لك أمراً مهماً.. يعود الفضل في مجيئي إلى السودان الرجل الخيّر الدكتور إبراهيم الطيب الريح.. ولا أخفي أنني كنت متردداً في المجئ ولكن هو من أقنعني.. ومصدر ترددي أنني غبت طويلاً عن السودان ولم أكن مرحّباً بالوضع في السودان مثلي مثل آخرين هم خارجه وحمدت الله على عودتي.
    وكان لا بد أن أتمحص وأنظر للأشياء على الطبيعة..
    – أود القول إننا أهملنا الثقافة لزمن طويل وكانت هنالك مبررات لأن الحكومات لديها دوماً أولويات.. وانشغلنا كثيراً بحرب الجنوب وقد توقّفت.. أظن الآن النية صادقة كما يبدو لي في البناء الثقافي وهذه فرصة كبيرة لدعم المؤسسات الثقافية وهذا هو المهم في نهاية الأمر..
    * أهل الثقافة يقولون إن علاقتهم بأهل السياسية غير حميمة.. هل يعني هذا أن السياسة والثقافة لا تلتقيان؟
    - العلاقة بين السياسة والثقافة مترابطة.. الثقافة وجودها قديم وراسخ وهي الأصل في الأشياء ولا أظن أن هناك عداوة بينهما..
    * المثقف السوداني وجوده ضعيف في المحافل الثقافية الدولية والثقافة السودانية لا يتم عكسها للآخرين حتى يعرفوا السودان جيداً.. إلى ماذا تعزي ذلك..؟
    - هنالك أسباب تتعلق بالسودان.. لم نبذل الجهد حتى نتصل بالآخرين لنقدم إليهم ما لدينا.. رغماً عن ذلك الكثير من السودانيين كتاب وشعراء وموسيقيين ورسامين قاموا بمساهمات كبيرة وهم معروفون لدى العالم على سبيل المثال الأستاذ إبراهيم الصلحي، وهو شخصية معروفة والدكتور راشد دياب والأستاذ عبدالله وقيع الله، السودان ليس مهملاً تماماً كما يتصوّر البعض لكنه غير معروف بالقدر الذي يستحقه بتنوعه وثقافته وتاريخه الحضاري الضارب في الجذور.
    * لكن هذه الاسماء التي ذكرتها هي فقط التي تشارك في المحافل الدولية، أليس هنالك مجال لاسماء جديدة خاصة أن بلادنا تعج بالكثير..؟
    - لا، هنالك عناصر شبابية استطاعت أن تشق طريقها.. لعلك تعجبين الآن هناك شاب سوداني ممثل أصبح نجماً كبيراً في بريطانيا.. لكن في نهاية الأمر الأشياء تعتمد على البلد نفسها وعلى همتها وملاحقتها وطرح بضاعتها.
    - الأستاذ محمد الحسن أحمد من الذين بذلوا جهداً كبيراً في الخارج.. الناس هنا يلومون من في الخارج يعتقدون أنهم لا يعانون من شيء ويعيشون حياة هانئة وأن من بالداخل حياتهم مضنية.. السودانيون المنتشرون في أصقاع الدنيا يبذلون جهوداً ربما تكون أكبر من جهود مَنْ في الداخل.. وهناك اسماء سودانية لامعة في تخصصات أمثال الدكتور كمال أبوسن وهو من الاختصاصيين الكبار في نقل الكلى، إلى غيره من الاسماء المشهورة في أمريكا وألمانيا ودول العالم الأخرى.. يحملون همَّ السودان ولكن كل على طريقته.
    نقلاً عن مجلة الخرطوم 2005م.




    السودانى
                  

02-19-2009, 12:00 PM

نصر الدين عثمان
<aنصر الدين عثمان
تاريخ التسجيل: 03-24-2008
مجموع المشاركات: 3920

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    الأديب الشاعر (سيد أحمد الحاردلو) وحديث عن صداقة عمرها (43) عاماً مع (الطيب صالح)
    رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة للسودان لأنه شخصية قومية مؤثرة وهو شخصية كونية.
    عندما علمت بالخبر اتصلت بأسرته ممثلة في زوجته السيدة (جوجي) وبناته (زينب) و(سارة) و(سميرة) وأبلغتهم تعازي الشعب السوداني وطلبت من أرملته التكرم بالموافقة على دفنه في السودان لأن تلك هي رغبة الشعب السوداني ولكن زوجته قالت لي بصورة قاطعة "لا أريد أن أتحدث عن هذا الموضوع" وهو ما يعني رفضها دفنه في السودان، وهو شيء مؤسف لن رمز بقامة الطيب صالح كان يجب أن يتم دفنه في وطنه.
    وعن آخر اتصال هاتفي يقول (الحاردلو) كان ذلك قبل حوالي شهر، فلقد شعرت من نبرة صوته إحباطاً، فقال لي "الظاهر الواحد فينا خلاص ..." ولكنني قلت له لا تقول هذا.
    وكنت أنوي الاتصال به مساء أمس الأول ولكن كان الوقت متأخراً فقلت ربما أتسبب في إزعاجه وعندما أصبح الصبح كان خبر رحيله الفاجع.
    يقول (الحاردلو) لقد بدأت علاقتي (بالطيب) عام 1966م وذلك عندما طلبه (محمد أحمد المحجوب) من الإذاعة البريطانية للارتقاء بالعمل في إذاعة السودان، وبالفعل حضر إلى السودان فذهب إليه في الإذاعة وتعرفت عليه، ولكن (الطيب صالح) لم يجد الأجواء المناسبة فذهب (للمحجوب) واعتذر له بكل تهذيب عن تلك المهمة وغادر إلى (لندن) وفي تقديري أننا بذلك فقدنا كادراً إعلامياً كان من شأنه أن يضيف الكثير للعمل الإعلامي في السودان.
    عام 1967م سافرت إلى (القاهرة) مع (محمد أحمد المحجوب) لحضور مؤتمر القمة .. وكنت قبل ذلك قد ذهبت إلى إحدى المكتبات بالمحطة الوسطى فوجدت أن (مجلة الحوار اللبنانية) قد نشرت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) فوجدت نفسي أمام عمل رائع فقلت لصاحب المكتبة اعطني (5) نسخ فجأة وجدت شخصاً يقف خلفي ويضحك، عندما التفت وجدته (الأستاذ عبد الله علي إبراهيم) ... فمنحته نسخة .. وطلبت منه أن يطلع على تلك الرواية المدهشة.
    وعندما وصلت إلى (القاهرة) مع (محمد أحمد المحجوب) كنت أحمل معي (مجلة الحوار) التي خبأتها في معطفي لأنها كانت محظورة في (مصر) وبينما أنا مهموم بإيجاد طريقة للوصول للوصول إلى (رجاء النقاش) تفاجأت به وهو يأتي لمقابلة (المحجوب) وعندما أراد أن ينصرف تحركت نحوه ووضعت المجلة في جيب معطفه فداعبني قائلاً (أنت حا تديني فلوس) فقلت له لقد أعطيتك شيئاً أقيم من كل أموال الدنيا فرجاء الاهتمام به.
    وعندما اطلع على الرواية كتب مقاله الشهير (الطيب صالح عبقري الرواية العربية).
    تميزت علاقتي به إذ أنه كان دائماً ما يأتي لزيارتي ومعه (الصلحي) و(عثمان وقيع الله) وأذكر أنني أقمت له حفلاً بمناسبة ترجمة (موسم الهجرة إلى الشمال) وكذلك احتفلنا به عند ترجمت (عرس الزين) وكان ذلك بمنزل السفير (جمال محمد أحمد) .
    الطيب صالح قدم للسودان ما لم تقدمه جميع وزارات الثقافة منذ الاستقلال، وترجمت رواياته إلى (40) لغة عالمية.
    فقد قدم السودان على طبق من ذهب.
    كان (الطيب صالح) زاهداً ومتواضعاً لدرجة أنه رفض ترشيحه (لجائزة نوبل) ولكن مجموعة من أصدقائه بقيادة الدكتور حسن أبشر الطيب أقنعوه بضرورة ذلك.
    والطيب صالح إنسان مهذب ودود ولم يغضب من شخص في حياته وعاش محباً لكل الناس، فهو إنسان عظيم على جميع المستويات.

    (لقاء أجراه الصحفي الزبير سعيد مع الشاعر والأديب سيد أحمد الحاردلو – صحيفة الخرطوم بتاريخ 19 فبراير 2009)

    أعزيك أخي الكيك وأعزي نفسي على هذا الفقد الجلل .. اللهم أنزل على قبر (الطيب) شآبيب رحمتك وأسكنه فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا
    إنا لله وإنا إليه راجعون
                  

02-19-2009, 12:55 PM

Alfarwq
<aAlfarwq
تاريخ التسجيل: 03-05-2002
مجموع المشاركات: 1552

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: نصر الدين عثمان)

    لم اتمالك دموعي و انا احاول قراءة كل ما قيل .... و هو بحق رحيل مر ...

    محب جدا للاستاذ الطيب صالح .. تعرفت على روايات الاستاذ الطيب صالح عن طريق الوالد امد الله في ايامه عند ما اهداني جميع رواياته و انا في المرحلة المتوسطة .. قراءة معظم رواياته باللغتين العربية و الانجليزية ..... اكملت موسم الهجرة للمرة المائة قبل اسبوع ... و كل مرة اكتشف فيها ابداع سردي لم الحظه في المرات السابقات ... مغرم بدومة ود حامد و عرس الزين...

    اتذكر اخرجنا(انا و محمد شلا و الاستاذ معمر) مسرحية مقتبسة من احدى روياته في اول دورة مدرسية في عهد الانقاذ لطلاب كسلا الثانوية نالت استحسان كل من شاهدها .... وصلت المسرحية للنهائيات في الخرطوم حتى اكتشفتها السلطة الرقابية ليتم حذفها و مسالةكل من شارك في العمل ....

                  

02-20-2009, 11:19 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: Alfarwq)

    اشكركما ولكما منى كل الشكر
    للفقيد الرحة
    نتواصل
                  

02-20-2009, 03:12 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    العدد رقم: 1176 2009-02-20

    علي أبو سن ومصطفى سعيد في كتاب (المجذوب.. والذكريات) (1/2)

    عبد المنعم عجب الفيا



    علي أبو عاقلة أبو سن، من آل أبو سن زعماء قبيلة الشكرية المعروفين. عمل مذيعاً بالقسم العربي بإذاعة لندن في أواخر الخمسينيات ثم التحق بوزارة الخارجية للعمل دبلوماسياً في الستينات حتى أعفي من منصبه في أول عهد نميري وبعدها عمل بالمصرف العربي بالخرطوم ثم بالجامعة العربية. لم يكن لي سابق معرفة بعلي أبو سن ولم أشاهده إلا مرة واحدة في إحدى الندوات بدار أساتذة جامعة الخرطوم عقب انتفاضة أبريل 1985م فقد كان من الناشطين في تلك الفترة.



    أذكر عندما نزلت بأرض مصر في ربيع 1999م وجدت السودانيين يتحدثون عن كتاب "المجذوب.. والذكريات" ورسائل المجذوب إلى ديزي الامير وغادة السمان. وكان علي أبو سن قد نشر كتاب "المجذوب.. والذكريات" في جزءين سنة 1997م وقد طبع الكتاب ونشر على نفقة المؤلف ولعله لهذا السبب لم يوزع على نطاق واسع. ولكنه كتاب شيق وقيم ومثير للجدل ولا أظن أنني قرأت كتاباً لكاتب سوداني في السيرة الذاتية يضارع هذا الكتاب متعة وتشويقا وإثارة. وأظن أن هذا الكتاب سيفجر جدلا لا ينتهي. وسيظل مدار حديث الناس لأمد طويل. ولا عجب فالكاتب أديب ودبلوماسي وسياسي وإذا اجتمعت هذه الصفات الثلاث في كاتب، فما يكتبه لا يكون إلا مثاراً للمتعة والإثارة والتشويق. ولعل الأسلوب ذو النفس الروائي الذي اتبعه علي أبو سن في الكتابة يعد عنصراً مهماً من عناصر المتعة والتشويق.



    أما عنصر الإثارة في الكتاب فيأتي من الصراحة التي تصل إلى حد التجريح والحديث عن الذات باعتداد وثقة غير مألوفة والكشف عن جوانب لم تكن معروفة في حياة المشاهير من رموز التاريخ والسياسة والأدب والفن مثل السيد الحسن وبابكر عوض الله والأزهري وجمال عبد الناصر وعوض الكريم أبو سن ومالك بن نبي ومنصور خالد وعمر مصطفى المكي والطيب صالح وغادة السمان وحسن الكرمي وليلي طنوس وأحمد قباني والجاغريو وأعضاء لجنة النصوص بالإذاعة السودانية الذين كان عضواً معهم هو والمجذوب من أمثال حسن نجيلة والعبادي وعبيد عبد الرحمن وغير هؤلاء.



    وأظن أن هذه الجرأة وهذه الصراحة المتناهية في الحديث عن الذات والآخرين هي الثغرة التي ستنفذ منها سهام النقد والهجوم على الكاتب إذ كثيراً ما يقف القارئ وهو يطالع الكتاب ليسأل نفسه عن ما إذا كان الكاتب محقاً في الحديث بكل هذه الصراحة عن شخصية من الشخصيات ويزداد التساؤل إلحاحاً عندما يطالع رسائل المجذوب إلى روزماري تلك الفتاة الإنجليزية التي لم يرها المجذوب ومع ذلك يقع في حبها ويتبادل معها الرسائل في وجد صوفي غير عادي. وبالرغم من القيمة الأدبية لهذه الرسائل التي تكشف سعة إطلاع المجذوب على الفلسفة والأدب الغربي وتملكه لناصية اللغة الإنجليزية إلا أن شبح التساؤل حول أحقية الكاتب في نشر هذه الرسائل يظل منتصبا أما القارئ أثناء القراءة وبعد الفراغ منها.



    ولعل جرأة الكاتب في نشر رسائل المجذوب إلى روزماري هي التي دفعت برجاء النقاش إلى الكشف عن رسائل المجذوب إلى الكاتبة ديزي الامير. كما شجع غادة السمان على التصريح ببعض مراسلاتها مع المجذوب.



    ولعل أكثر فصول الكتاب تشويقاً وإثارة للجدل الفصل الذي يتحدّث فيه عن ذكرياته مع الطيب صالح في لندن وعلاقته بمصطفى سعيد كشخص حقيقي ربطته به علاقة صداقة وزمالة أثناء عمله كمذيع بهيئة الإذاعة البريطانية ال بي بي سي. وتارات أخرى كثيرة يتحدث عن نفسه وعن علاقاته بالمجتمع الإنجليزي ونسائه وكأنه مصطفى سعيد الذي جاء وصفه في الرواية بل إنه يشير صراحة إلى أن الطيب صالح اتخذ من علاقاته النسائية مادة لصياغة بعض ملامح سيرة مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة، يقول: ".. أصبح الطيب صالح يتصيد قصص مغامراتنا –أحمد قباني وأنا- ويطلب منا أن نحكي تفاصيلها له يومياً بطريقة مملة وكأنه يكتب مذكرات عنها"، ويواصل قائلاً "كان ينظر إلينا باعتبارنا وجهين لعملة واحدة فنشأت في ذهنه رؤية روائية لنا".. طبعاً العبارة الأخيرة (رؤية روائية) هي بيت القصيد..



    وكان علي أبو سن قد التحق بالعمل مذيعاً بهيئة الإذاعة البريطانية سنة 1959 حيث التقى بالطيب صالح الذي سبقه للعمل هنالك بقسم الدراما بالإذاعة مند سنة 1953. وبعد فترة انضم إليهما المذيع السوداني اللامع في زمانه أحمد قباني وكان الشاعر والإذاعي صلاح أحمد محمد صالح قد سبقهم جميعا إلى هنالك. وقد وصف الطيب صالح علي أبو سن في إحدى خواطره التي كان يكتبها بالصفحة الأخيرة بمجلة "المجلة" بقوله: "..من أرومة باسقة في السودان. متوقد الذهن، كان يقرأ نشرة الأخبار وكأنه يتفضل بها على الإنجليز". وفي كتاب.. (على الدرب.. ملامح من سيرة ذاتية) يقول الطيب صالح عن علي أبو سن: "عمل معنا فترة في ال بي بي سي وهو أديب مرهف الحس، وراوية للشعر إلى جانب ذكاء شديد ودقة ملحوظة وهو من أوائل من اطلعوا على محاولاتي القصصية".



    وفي هذا السياق يذكر علي أبو سن أن الطيب صالح قال له ذات مرة إنه كتب قصة قصيرة ويريد رأيه فيها. كان ذلك سنة 1961 وكانت القصة هي (دومة ود حامد) أعجبته القصة وطلب من الطيب صالح نشرها لكنه رفض فكرة النشر وحاول نزع الورقة من يد علي أبو سن، ولكن أبو سن رفض إعادة القصة إليه إلا إذا وافق على نشرها، وبعد ثلاثة أيام جاءه الطيب صالح ضاحكاً وقال: "يا سيدي خلاص أنا وافقت لكين منو البينشرها لينا؟"



    ونشرت القصة أول ما نشرت في العدد الأول من مجلة "حوار" وبعد فترة من نشرها وصل خطاب من جمال محمد أحمد وكان وقتها سفيرا في أديس أبابا يقول له فيه: "قل للطيب صالح أن قصته أعجبتني بقدر ما غاظتي" فأنبسط الطيب صالح لرأي جمال وأطمئن لموهبته القصصية وقال لعلي أبو سن الآن أستطيع أن أواصل الكتابة ونشر ما أكتب. وقد أكد الطيب صالح هذه الرواية في مقاله في تأبين جمال محمد أحمد. نشرت بكتاب (في سيرة جمال، كاتب سرة شرق).



    ولكن ما هي العلاقة بين مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال وبين علي أبو سن صاحب كتاب (المجذوب.. والذكريات)، هل حقاً أفاد الطيب صالح في رسم شخصية بطله من حكايات علي أبو سن في المجتمع الإنجليزي؟ أو بعبارة أخرى هل يجوز لنا نظرياً ومن حيث المبدأ القول بأن هذه الشخصية الروائية أو تلك فيها شيء من الواقع؟



    للإجابة على هذه التساؤلات لا بد من الحديث أولاً عن العلاقة بين الفن والواقع. الفن القصصي والروائي تحديدا. لا جدال أن الواقع الذي يحياة الناس في مختلف بيئاتهم وأوضاعهم الاجتماعية وطرائق تفكيرهم هو المادة الخام التي يستمد منها الفنان عالمه القصصي والروائي هذا الواقع بالنسبة للقاص كالحجر بالنسبة للنحات واللون بالنسبة للرسام. قد يلتقي العالم القصصي والروائي الذي يخلقه الفنان مع الواقع هنا وهنالك وقد يتقاطع معه في أغلب الأحيان وذلك حسب (الرؤية الفنية) للكاتب.



    وقد عبر الطيب صالح عن رؤيته لطبيعة العلاقة بين الواقع والفن تعبيراً رائعاً حينما علق على رواية (عرس الزين) بقوله إن الغرض من كتابة الرواية أصلاً هو أن يرد الجميل لمجتمع قريته الذي أحبه.. "الغرض الاحتفاء بمجتمع أعرفه وعشت فيه، الشخصيات فيه أهلي كما عرفتهم إلى حدٍّ كبير. بيد أن في العمل طبعاً عنصر الفن المتعمد، أي الدفع بالشخصية إلى أقصى مدى ممكن، أقصى حدود تحملها".



    هنا يقرر الطيب صالح أنه يستمد رسم شخصيات رواياته من صور الناس الذين عرفهم وعاش معهم لكنه يضيف عبارة في غاية الأهمية تلخص القضية كلها وهي عبارة (الفن المتعمد) أي الدفع بالشخصية الواقعية إلى أقصى مدى ممكن. وهذا ما يطلق عليه النقاد (الرؤية الفنية) وهي التي ترسم الحد الفاصل بين الشخصية في الرواية والشخصية في الواقع. عليه يمكن من حيث المبدأ ومن الناحية النظرية وصف شخصية روائية ما بأنها فيها شئ من الواقع مع الأخذ في الحسبان مسألة (الفن المتعمد) والدفع بالشخصية إلى أقصى مدى ممكن التي أشار إليها الطيب صالح. فكأنما علي أبو سن عندما وصف الطيب صالح بقوله: "فنشأت في ذهنه رؤية روائية لنا" كان مدركاً لطبيعة العلاقة بين الواقع والفن، بين مصطفى سعيد خارج الرواية ومصطفى سعيد داخل الرواية.



    ولقد عبر الطيب صالح في كتاب (على الدرب.. ملامح من سيرة ذاتية) عن فلسفته في الكتابة الروائية بقوله: "تجدني دائماً أقول أنني أعتمد على أنصاف الحقائق والأحداث التي يكون جزء منها صحيحا والآخر مبهماً.. هـذا يلائمني تماماً.. بمعنى آخر يكفيني جملة سمعتها عرضاً في الشارع لأستوحي منها فكرة للكتابة، ليس بالضرورة أن أجلس مع صاحب الجملة لأستمع إلى قصة كاملة… تكفي جملة واحدة أسمعها وأنا في الطريق، فقد تثيـر في نفسي أصداء لا حدود لها".



    حديث الطيب صالح هذا عن اعتماده على أنصاف الحقائق والأحداث في الكتابة الروائية كأنما يعزز حديث علي أبو سن عن تصيد الطيب صالح لقصص مغامراتهما النسائية وهو وأحمد قباني وإصراره على أن تحكى له تفاصيلها وكأنه يكتب عنها مذكرات حتى "نشأت في ذهنه رؤية روائية" لهما..



    أذكر أنني نشرت مقالاً قبل فترة عن تداخلات سيرة الطيب صالح الذاتية وشخصية بطل (موسم الهجرة إلى الشمال) مصطفى سعيد، اعتمدت فيه على ما ذكره الطيب عن نفسه من سيرة في كتاب (على الدرب) وخلصت فيه إلى أن الطيب أضفى بعضا من ميوله الفكرية والأدبية على شخصية بطله مصطفى سعيد مثل ميوله إلى الاشتراكية الفابية ودراسته الاقتصاد بالمدرسة التي أنشأها حزب العمال وانضمامه إلى أحد أندية الكويكرز وحبه لشعر أبي نواس ومسرح شكسبير. فإذا كان الطيب صالح قد استمد بعض ميول مصطفى سعيد الفكرية والأدبية من تجاربه وميوله الشخصية فهل استمد مغامراته وغزواته النسائية من حكايات ومغامرات علي أبو سن التي كان يلح في الاستماع إليها؟ هل كانت هذه الحكايات والمغامرات تمثل أنصاف الحقائق والأحداث التي صاغ منها جزءاً من شخصية مصطفى سعيد؟



    (يتبع)



    -----------------------------------------------------
    العدد رقم: 1176 2009-02-20

    موسم الهجرة إلى الرفيق الأعلى

    د . أحمد خير



    الطيب " الصالح " ذهب وإبتسامة على شفتيه ! فارق هذه الدنيا الفانية فارس القلم والكلمة الطيبة الأديب العالمى الطيب صالح أو " الصالح " كما يحلو أن يسميه بعض الإخوة العرب. أكيد انه قد فارقها وهو يضحك مع صديق أو قريب أو رفيق ، فما رأيتك ياصديق " المتنبى " و " المعرى " إلا ضاحكا أو مبتسماً ! كيف لا وأنت قد رافقت المتنبى فى غزواته والمعرى فى محبسيه ، مرة طليقاً يحلق فى الأفق وأخرى جالساً تتمعن فى أحوال عالمنا العربى وسوداننا المحشور بين المطرقة والسندان !



    لك الله فى أعلى عليين بقلبك الصافى الذى ماعرف الحقد ولا مسته كبرياء التربع على قمة الأدب العالمى ! يا صالح ياطيب ، أراك بسحنتك المشوبة بسمار أرضنا الطيبة ونيلنا الحامل لذكريات صباك ! أراك ترفل عائدا لدارك لتبقى بعد أن مل جسدك الترحال ! لتبقى بين الرفاق من الذين إتبعوا خطاك أو أولئك الذين طافوا معك القرى والبوادى حاملين الفرحة للقلوب العامرة بحب الحروف المعبرة عن واقع كشفت عنه الغطاء وكنت النطاسى الذى إستبدل المشرط بالحرف فماسالت دماء، بالرغم من سماعنا لأنة المحرومين من ترانيم صرير القلم على الورق ليصور أحلى الكلمات !



    عفوا سيدى ان قصرت فى تصوير الطيب صالح الإنسان ، لا الكاتب الذى ماجاراه أحد إلا وغلبه فى صمت بالرغم من حسد الحاسدين وشماتة الشامتين الفاقدين للحس الإبداعى !



    لقد علمتنا الأيام ان العظماء قد عهدوا أن تلاحقهم الألسن والأقلام ، وان تستمر ملاحقتهم كلما عظم شأنهم وإتسعت دائرة شهرتهم ! ومن عظمتكم كنتم تقابلون الإساءة بإبتسامة ، وهذا لعمرى صفة من يمتلك الدنيا بين راحتيه ، صفة العالم بأن الحياة فيها الأخيار كما فيها الأشرار ، وأن خيار الناس من يقول كلمة طيبة فى حق من أساءوا إليه !



    كان " وآه من كان " الطيب صالح يؤمن بأن الغد سيأتى مهما طالت اللحظات أم قصرت ، لذا فلابد للإنسان من أن يتوكل على الله ويعيش اللحظة ويترك الغد لرب العباد القوى العزيز الذى يدخل الطمأنينة فى قلب من يحب من عباده .



    رحل الطيب الصالح وترك سيرته العطرة وأعماله الخالدات التى نحتت فى الأدب العربى والعالمى مكاناً لها ، ورفعت معها إسم السودان لتتغنى به الحروف والكلمات فتصدح فى القاعات والمكتبات ويمتد صداها عابرا القارات ليسمع حتى من به صمم !



    أرى الطيب الصالح يخاطب أعضاء منظمة العرب من خريجى الجامعات الأمريكية فى حفلها السنوى الذى أقيم فى واشنطن وهو يقول بسخريته المحببة إلى النفس " لقد تساءلت قبل وصولى إلى هنا عن الأسباب التى دعت منظمتكم الموقرة تقديم الدعوة لشخصى الضعيف للحضور إلى أمريكا لمخاطبتها بالرغم من أننى لم أتخرج من جامعة أمريكية ! وبالطبع هناك أفضل منى للقيام بهذا الدور! وبكل أسف لم أجد إجابة سوى أن عالمكم قد أصيب بالجنون ، أو ربما أنا المجنون ! ... " عندها ضجت القاعة بالتصفيق والضحك ! ثم تكررت دعوته مرات ومرات وفى كل مرة كانت دائرة الإعجاب تتسع وتتسع !! ذاك هو الطيب صالح الفريد فى نوعه ، العارف والمتعمق فى خفايا وأغوار النفس البشرية !



    نفتقدك اليوم ياطيب ياصالح بالرغم من أن جسدك الطاهر لم يلامس بعد ثرى وطننا الحبيب الذى كم إشتاق إليك طوال زمن هجرتك إلى الشمال وإلى الغرب والشرق والجنوب ! وبرغم الدهشة التى عقدت اللسان ، ليس فى إرادة المولى ولكن لعظمة الفراق المعمق للجرح والمتعدى حدود الزمان والمكان ! سيفتقدك المقهى الثقافى فى معرض الكتاب الدولى بالقاهرة والجمع الملتف من حولك يستمع ويستمتع بما تحكيه من حكايات عن عالمك وعالمنا فى الريف والبوادى والحضر ! كما ستفتقدك مؤتمرات جمعية الدراسات السودانية فى أمريكا وأنت تأتيها حاملاً قلبك المتسع لكل ألوان الطيف ، وكان هذا هو سر عظمتك ياطيب ياصالح ياصاحب القلب الطيب والروح الطيبة التى ملت الإغتراب فعادت لثرى أرضنا الطيبة التى ضمت قبل أيام شاعرنا الأديب الراحل النور عثمان أبكر (رحمه الله رحمة واسعة) ومالنا إلا أن نقول : هنيئاً لأرضنا الطيبة المستقبلة للفرسان فى زمن تكسرت فيه الرماح !



    لك ياطيب ياصالح خالص الدعاء بأن يتقبلك المولى قبولاً حسنا بشفاعة سيدنا محمد عليه أفضل السلام ، وبدعاء كل مترحم عليك ، و " إنا لله وإنا إليه راجعون ".







    -----------------------------------------------------

    العدد رقم: 1176 2009-02-20

    قولوا حسناً
    (التربال) العظيم..

    محجوب عروة
    كُتب في: 2009-02-20




    أجمل وصف قاله المرحوم الطيب صالح عن نفسه هو صفة (التربال).
    نعم، تربال.. من كان يصدّق أو يجرؤ أحد أن يتخيّل أن (تربالاً) شاباً في أحد مزارع قرى الشمالية (المنسية) التي تسكن جوار النيل الخالد والتي لم يسمع بها أحد في العالم وربما في هذا السودان الواسع الشاسع يخرج منها هذا الكاتب والأديب الأريب والروائي الباهر ليقدم للعالم أعظم روايات القرن العشرين بصورة أدهشت الجميع فصار ذلك (التربال) البسيط كاتباً ذا شأن عظيم على مستوى العالم.. إذن ما أعظم وما أجمل وما أنبل أن يصير أحدهم بالتعليم وبالمعلم من مجرد (تربال) لا يجيد غير عزق الأرض إلى شخصية عالمية ذات (أفق بعيد) وتصبح هنا (الثقافة Culture) بديلاً عن (الزراعة Agra culture) فتحول بالخيال الخصب صحارى الجدب الفكري وضمور الأدب إلى واحات وساحات من الإخضرار الثقافي وغذاء للعقل والروح.. فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. من لهذا العمل الخير إلا الطيب الصالح وأمثاله من عباقرة الرواية هذه واحدة..
    والثانية لقد استطاع هذا (الطيب الصالح) و(طيب الخصال) كما كان يطلق عليه زملاؤه في الدراسة ثم في دروب الحياة، استطاع أن يجبر الكثيرين ممن يعشقون الأدب والإبداع أن يعلموا أن السودان بلد (ولود) وينتج الأدب الرفيع مثلما يقدِّم للعالم منتجات غذائية مثل (الصمغ العربي) هذا الغذاء الطبيعي (Organic food) الذي لا تدخل فيه الكيماويات، فسمع العالم واستمتع بالروايات مثل موسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين ومريود ومنسي... إلخ، الروايات التي أجبرت عشاق الأدب ليترجموها بل صار أحدهم (عرس الزين) فيلماً مشاهداً استمتع به الكثيرون من عشاق السينما..
    والثالثة التي ربما لا يلتفت الكثيرون هو ذاك الذي يجبرنا في هذه اللحظات المشبعة بالحزن أن نتذكر (المعلم) ذلك الجندي المجهول الذي حوّل ذلك الصبي اليافع من مجرد تربال يعزق الأرض إلى أحد عظماء الأدب في القرن العشرين إنها بضع حصص هناك وهناك (زرع) فيها أولئك المعلمون منذ المدرسة الأولية عقل (تربال) (منسي) إلى عقل مترع بالعلوم والأدب خاصة شعر أبي الطيب المتنبي فكان هذا الروائي المبهر.. الرجل المتواضع طيب الخصال والرجل الطيب الصالح.. نعم، إنه التعليم والتربية والمعلم والكتاب.. تحول الإنسان البسيط أو (التربال المنسي) إلى أحد العظماء في مجال الأدب والرواية والثقافة والكتابة الصحفية.. شغل الدنيا ولم تزده إلا تواضعاً.. إحترم وإحترف العلم والأدب والثقافة فاحترمه الناس لا بسبب جاه أو منصب أو مال من مقتنيات الدنيا الفانية.. فكان يتأسى دائماً بقول المتنبي:
    ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه * إني بما أنا باك منه محسود
    صدقت أبا الطيب (أحمد بن الحسين) (إني بما أنا باك منه محسود) وشكراً للطيب الصالح وطيب الخصال أن استدعيت لنا هذا البيت المعبّر من كنوز أبي الطيب المتنبي..
    اللهم أنزل شآبيب الرحمة على فقيدنا وأجعل قبره روضة من رياض الجنة وأنزله منزلاً يستحقه مع الصديقين والشهداء والصالحين، فقد قال رسولنا الكريم محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والتسليم (أقاربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون..). وأحسب أن فقيدنا منهم ولا نزكي على الله أحداً.



    السودانى
                  

02-20-2009, 04:24 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    التاريخ: الجمعة 20 فبراير 2009م، 25 صفر 1430هـ

    قال عن نفسه: يبدو لي أحياناً أن البشرية تائهة وأنا تائه معها
    سيبقى الطيب صالح أمة في كاتب وكاتباً في أمة

    واشنطن: طلحة جبريل

    غادر الطيب صالح الخرطوم في شتاء عام 1953 في رحلة ستمتد أزيد من نصف قرن، وكان ذلك في فبراير (شباط) من تلك السنة، ويتوقع أن يعود الطيب صالح إلى السودان فجر غد الجمعة من شهر فبراير (شباط) أيضاً، جثماناً يرافقه شقيقه بشير محمد صالح وصديقه محمود عثمان صالح، ليدفن في مقابر البكري في أم درمان، هذه المدينة التي قال عنها «هي المدينة التي ترنو إليها باقي بلاد السودان... كان كل واحد منا يجد أن لديه أقارب أو أهلا في أم درمان ... مكاناً ميكروكوزم... لقد بدأت أم درمان تتكون بكيفية طبيعية لكننا كسرناها لسوء الحظ».
    في آخر حديث هاتفي بيننا تحدثنا أيضاً عن أم درمان ، وأحسست بفرح غامر عندما قلت له إنني ربما أعود إليها عودة عاطفية هذه المرة، ولم يكن يدور بخلد أحد منا أن الطيب نفسه سيعود إلى أم درمان ليوارَى الثرى في المدينة التي درس خلالها المرحلة الثانوية في واحدة من أهم ثلاث مدارس ثانوية في أربعينات القرن الماضي.
    الطيب صالح تلخص شخصيته عبارة كتبها هو نفسه يصف فيها أحد الكتاب «هو من طراز مبدعين يظهرون في حياة الأمم خلال فترات متباعدة كان كاتباً في أمة أحبها وأحبه كثيرون... وكان أمة في كاتب».
    كان الطيب صالح هو السودان، وكان السودان هو الطيب صالح، لأنه جمع في كتاباته بين قدرات كاتب عملاق، ومبدع مرهف الإحساس، ومفكر عميق الفكر، وإنساناً قل أن يجود الزمان بمثيل له.
    وعلى الرغم من أن روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» اختيرت ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ الإنسانية، يقول الطيب بتواضعه الجم «أقول لك صادقاً ليس لديّ أي إحساس بأهمية ما كتبت، ولا أحس أنني مهم، هذا ليس تواضعاً لكنها الحقيقة، إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر، قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر».
    هذا هو الطيب صالح في حقيقته، تلخصه كلمة واحدة « التواضع» ولعل من مفارقات لعبة التواريخ في حياة الطيب صالح، أنه ولد عام 1929، واحتفظ برقم تسعة أيضاً وهو يغادر.
    أطلقت والدته عائشة أحمد زكريا عليه اسم «الطيب» بعد أن فقدت اثنين من أشقائه قبل أن يأتي الطيب، وكان الناس في قرى شمال السودان، يعتقدون أن «الطيب» اسم تحل به البركة إذا كانت الأسرة تفقد مواليدها، والده محمد صالح أحمد، وأهله يتوزعون ما بين «الدبة» و«العفاض» وهي من قرى منطقة مروي. عاش الطيب مثل أهله حياة المزارعين. لذلك يعتقد الطيب صالح أن بيئة القرية في المجتمع المتساكن والمندمج هي التي ستحفزه بعد ذلك بسنوات طويلة على الكتابة «كتبت حتى أقيم جسراً بيني وبين بيئة افتقدتها ولن أعود إليها مرة أخرى».
    عاش الطيب صالح في قريته كما يعيش أهلها، وهو يقول بحنين يبدو جارفاً عن تلك الفترة «في هذه البيئة بدأت مسيرة حياتي، ورغم أنني تعرجت في الزمان والمكان بعد ذلك لكن أثر البيئة لا يزال راسخاً في أعماقي، وأعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه، والإبداع نفسه فيه البحث عن الطفولة الضائعة. حين كبرت ودخلت في تعقيدات الحياة كان عالم الطفولة بالنسبة لي فردوساً عشت خلاله متحرراً من الهموم، أسرح وأمرح كما شاء لي الله، وأعتقد أنه كان عالماً جميلا». «ذلك هو العالم الوحيد الذي أحببته دون تحفظ، وأحسست فيه بسعادة كاملة وما حدث لي لاحقاً كان كله مشوباً بالتوتر...».
    ويكشف الطيب صالح النقاب عن مسألة في غاية الأهمية «لقد كانت قريتي مختلفة تماماً عن الأمكنة والمدن الأخرى التي عشت فيها، ولاشك أن هذه المنطقة هي التي خلقت عالمي الروائي»
    انتقل الطيب صالح إلى دراسة المرحلة الوسطى (المتوسطة) في مدينة بورتسودان على البحر الأحمر، بيد أنه ظل مشدوداً إلى قريته «في بورتسودان بدأ يراودني إحساس أن هذا الشيء الجميل الذي تركته خلفي سيضيع».
    في المرحلة الوسطى ستبدأ علاقة الطيب صالح مع اللغةش الإنجليزية «حين بدأت تعلم اللغة الإنجليزية اكتشفت مدى حبي لها... والواضح أن سبب تفوقي في اللغة الإنجليزية كان مرده حبي لهذه اللغة».
    بعد المرحلة الوسطى، سينتقل إلى أم درمان ، حيث سيتابع دراسته الثانوية في مدرسة «وادي سيدنا» ولا يخفي الطيب صالح إعجابه بتلك المدرسة «كانت مدرسة وادي سيدنا مدرسة فاخرة، بناها الإنجليز بناءً باذخاً على غرار أعظم المدارس في إنجلترا وكنا ندرس تماماً كما يدرس الإنجليز في مدارس الارستقراطيين في أيتون وهارو».
    كان طموح الطيب صالح أن يدرس في كلية الزراعة بعد المرحلة الثانوية، ولعله في ذلك بدا متأثراً وشديد الانجذاب إلى بيئته الزراعية، بيد أن الميولات الأدبية أيضاً كانت حاضرة وهو يفكر في دراسته الجامعية «كنت أفكر في دراسة الآداب، حتى مستر لانغ ناظر مدرسة وادي سيدنا الثانوية شجعني على دخول كلية الآداب، لكن كانت تستهويني دراسة الزراعة إذ بدت لي مسألة رومانتيكية».
    بيد أن الطيب صالح الذي التحق بكلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم) عام 1949، سيقرر ترك الجامعة برمتها عندما وجد أن السنة الأولى في كلية العلوم التي ستقوده بعد ذلك إلى دراسة الزراعة تتطلب منه تشريح الصراصير والفئران، ونفر من هذه الأمور وقرر قطع دراسته الجامعية حيث التحق بالتدريس، ليدرّس اللغة الإنجليزية في مدينة رفاعة في وسط السودان.
    وعلى الرغم من أن الطيب صالح كان يود العودة إلى الجامعة من جديد لاستكمال دراسته الجامعية في كلية الآداب، بيد أن إعلاناً من هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) يطلب مذيعين ومحررين ومترجمين سودانيين، قلب حياته رأساً على عقب. وهذه التجربة القاسية لشاب عمر 24 سنة فقط، هي التي ستمنحنا كاتباً وروائياً عالمياً، لأن الطيب كتب «فقط لأقيم جسراً بيني وبين بيئة افتقدتها بدون سبب».
    بيد أن الطيب لم يكن سعيداً على الإطلاق في هجرته إلى لندن «جئت إلى بلد لم أكن أرغب فيه لأعمل عملا هو كذلك ليست لي رغبة فيه... تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة والتواصل الاجتماعي لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة برودتها لا تطاق في بلد غريب بين قوم غرباء».
    اهتم الطيب صالح خلال سنواته الأولى في بريطانيا بالمسرح، وقرأ كتباً كثيرة في الأدب والفن والتاريخ والاجتماع، وفي السياسة وجد نفسه ميالا للاشتراكية العمالية، واندمج في حياة لندن وتزوج من زوجته جولي (بريطانية)، ورزق منها بناته زينب وسارة وسميرة.
    بدأت علاقة الطيب صالح مع الكتابة في وقت مبكر، عكس ما هو رائج، إذ كتب أول قصة قصيرة عام 1953، بعنوان «نخلة على الجدول» ستنشر لاحقاً ضمن المجموعة القصصية «دومة ود حامد».
    يقول عنها الطيب صالح «قصة بسيطة كتبتها ببساطة شديدة جداً... كانت القصة تعبيراً عن حنين للبيئة ومحاولة لاستحضار تلك البيئة».
    وبعد «نخلة على الجدول» لم يكتب الطيب صالح على مدى سبع سنوات حرفاً واحداً، ثم كتب «حفنة تمر» ثم «دومة ود حامد» ونشرتها مجلة «انكونتر» الأدبية الإنجليزية التي كانت آنذاك زوبعة ثقافية، واعتبر نشر تلك المجلة لقصة الطيب صالح، هو بمثابة الميلاد الحقيقي لأديب عالمي. وفي عام 1964 كتب الطيب صالح روايته الأولى «عُرس الزين» وفي عام 1966 سيكتب روايته ذائعة الصيت «موسم الهجرة إلى الشمال».
    كثيرون يعتقدون أن مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال فيه بعض ملامح الطيب صالح نفسه وفي هذا السياق يقول الطيب «الذي يطرح أفكاره على الناس علناً عليه أن يتحمل تبعات ذلك، لذلك لا يزعجني أحياناً حين يسألني بعض الناس هل مصطفى سعيد يشكل جزءاًً من سيرتي الذاتية». ويضيف الطيب «يبدو لي أحياناً أن البشرية تائهة وأنا تائه معها، لذلك لا أطالب الناس بأن تفهمني كما أريد، الكاتب نفسه لا يعرف ماذا يقول وماذا يكتب».
    قبل أن يرقد الطيب صالح يوم غد الجمعة رقدته الأبدية تحت سماء السودان الصافية التي تعج بالنجوم، سيقول المشيعون «جنازة رجل» قبل الصلاة عليه. لكن، أي رجل سيوارى الثرى، الرجل الذي جعلنا نقول باعتزاز «نحن من بلد الطيب صالح».
    أما أنا شخصياً الذي اعتقدت دائماً أن مجرد وجود الطيب صالح في هذه الدنيا يجعلها خيّرة، وفي هذه اللحظة التي تطفح بالمشاعر أقول صادقاً إن أحزاني فاضت وفاضت. وعندما قال لي شقيقه بشير هو يعتقد أنك أفضل من ستكتب عنه، بقيت ساعات في حالة ذهول وفجيعة، وسط دموع رجوت أن أغلبها ولا تغلبني. ما أوسع الحزن وما أضيق الكلمات. كان الطيب صالح في حياته أكبر من الحياة وسيظل الطيب صالح في موته أكبر من الموت.


    -----------------------------------------

    التاريخ: الجمعة 20 فبراير 2009م، 25 صفر 1430هـ

    مـداد
    الطيب صالح..صعوبة الكتابة

    إسماعيل ادم

    تمر الصحف، بأوقات ماحلة خلال اليوم مثيرة القلق، وهي في الغالب بين مرحلة وأخرى، لا يستطيع فيها اغلب من يعملون في الصحيفة فعل شيء منتج، إلا كل ما من شأنه أن يساعدهم على ترويض القلق بانتظار المرحلة اللاحقة من مراحل إنتاج الصحيفة اليومية، كنا في صحيفة«السودان الحديث» نستعين بالجلوس أمام «ست الشاي» لترويض ما يعتورنا من قلق «حار» في مثل تلك الأوقات الماحلة.كنا ثلة جميلة متوترة ، وكلما تمر سيرة الطيب صالح في خضم الحديث عن الأدب السوداني في المكان، يقطع شريط الحديث الزميل معاوية ابوقرون.يقرا من «رأسه» بصوت عال يخترق حاجز الصوت في المكان: (عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا. تعلمت الكثير، وغاب عني الكثير، ولكن تلك قصة أخرى.المهم إنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل. سبعة أعوام وانا احن إليهم واحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائمة بينهم، فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كان ثلجاً يذوب في دخيلتي ، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس، ذاك دفء الحياة والعشيرة، فقدته زمانا في بلاد تموت من البرد حيتانها....). ويمضى ابوقرون يقرأ من«رأسه» رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، رائعة الأديب العالمي الكبير الطيب صالح، الذي رحل عنا أول من أمس، بعد مشوار طويل مع المرض، في وطنه الآخر الذي اختاره: «لندن»، ويصغى مرضى القلق في المكان، إلى ابي قرون بحواسهم الخمس، ولا شك عندي بأنه إذا كان من بيننا من يمتلك أكثر من الحواس الخمس، لا ستعارها من عمقه وحشدها للإصغاء إلى «موسم الهجرة إلى الشمال»، من رأس ابي قرون. يتوغل الإصغاء بنا بعيدا، فيختلط برائحة الشاي وفوح البن، ونكهة الهبهان، ودخان الكانون وغبار الخرطوم وأصوات السابلة، ودهشة ست الشاي، لتقدم للحظة لنا وصفة سودانية ناجعة للقلق،لنعود بعد التداوي ونستأنف رحلة المتاعب من داخل الصحيفة، كان ابوقرون يداوينا بالطيب صالح، حتى نتماثل إلى الشفاء ومثل ابوقرون عدد لايحصى من السودانيين، يحفظون ما انتجه الطيب صالح من أدب «منقى» على ظهر قلوبهم. ربما يتداوون بأدب الطيب صالح، كما كان ابوقرون يداوينا به. ففي أدب صالح الكثير من السحر والإبانة. ليس السودانيون وحدهم يتماهون مع «فنون» الراحل، وإنما شعوب يتحدثون« 20» لغة في العالم، حملت كتابات الطيب صالح عبر التراجم. وهذا قد يكفي أديبنا الراحل بانه قد أدى الرسالة: رسالة الأدب الممتدة .
    «السحر والإبانة» توفرا للطيب صالح، بما يحمل من أثقال الكتابة، فهناك كاتب يهرول ويعتني بالفكرة، على حساب جماليات الكتابة، وهم من من يسمون أصحاب الكتابة «الخشنة»، وهم حمالون أفكار، لا يفصل بينهم وبين الأكاديميين إلا خيط خيال رفيع. مقابل هؤلاء هناك كتاب تجرفهم «حلاوة» الإنشاء، تراهم ينوءون بحمل الألفاظ، يضربون لها أكباد الإبل، فيما تتسرب الفكرة من بين أقلامهم، وهم أصحاب الكتابة «الناعمة»، إن صح التعبير، وهناك فريق ثالث من كتاب الأدب بين بين يأخذ من هذا «حبة» ومن ذاك «حبتين». ولا يكلف الله نفسا الا وسعها. ولكن الطيب صالح، كان يحمل بقلمه كل حمولات الكتابة، بأوزانها الثقيلة «الخشنة والناعمة» في مزاوجة عنيفة، تعطي الفكرة تجلياتها القصوى، واللغة مذاقها «الحادق». تلك المعاناة في حمل شروط الكتابة، التي تفضي بأعمال الطيب صالح إلى فضاءات السحر والإبانة: في «موسم الهجرة إلى الشمال، وعرس الزين، ومجموعة بندر شاه»، تلك المعاناة جعلت منه كاتبا مقلا. بعد الانتهاء من «الكتابة» يحتاج إلى وقت طويل، ليسترد أنفاسه،قبل أن يستأنف كتابة جديدة.الكتابة عند الطيب صالح مشروع صعب. جنزير ثقيل! لذلك صعد بالرواية إلى سقف عال لم يبلغه احد بيننا.



    -الراى العام
                  

02-21-2009, 05:26 PM

عبدالباقى الظافر
<aعبدالباقى الظافر
تاريخ التسجيل: 11-16-2008
مجموع المشاركات: 367

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    تراسيم .
    مطار الطيب صالح الدولي ..هل من مثنى ؟!!
    عبدالباقى الظافر .
    [email protected]


    الطيب صالح بضاعتنا الأكثر رواجا في السوق العالمي.. ولد الطيب عند منحى النيل بقرية كرمكول في محافظة الدبة حوالي العام 1929.. وعندما كان النبوغ يمر بوادي سيدنا ويعمد بجامعة الخرطوم سلك الطيب الوادي وأقام بعض من الزمان بدوحة الجامعة .
    هاجر الطيب إلى بريطانيا درس في جامعاتها وخرج صوته قويا عبر إذاعة (هنا لندن ) وفى بلاد تموت حيتانها من شدة الصقيع طاب له المقام واتخذ له زوجة من بنات الانجليز وهبته ثلاث أميرات زينب وسارة وسميرة ..فيهن شيء من ملامحنا وكل نبوغ الطيب صالح .
    روايته موسم الهجرة إلى الشمال شكلت فتحا أدبيا للسودان وحملتنا إلى مشارف العالمية وصنفت من ضمن أفضل مائة رواية في العالم ومنحتها الأكاديمية العربية بدمشق لقب أفضل رواية عربية في القرن العشرين .
    ظل الطيب صالح متواضعا وهو الهرم بين الناس .. بارا بأهله وهو بعيدا عنهم.. محتفيا بأصدقائه رقم كثرتهم واختلاف أذواقهم وتباين نزعاتهم السياسة
    .
    . أهدى ابنته الكبرى زينب اسم والدته .. وكتب سفرا قيما عن صديقه منسي وهو قبطي تحول للإسلام وكان يمكن ان يمضى بذات الهدوء الذى ولج به لندن .. ولكن الطيب صالح يصنع منه رواية بتداولها الناس .
    تساءل الطيب صالح بقسوة عن رجال الإنقاذ وقال من أين أتى هؤلاء ؟ . رغم ذلك زار عاصمتهم الخرطوم وانتشى على أنغام الطنبور بوجود هم . واثبت ان السودان وان اختلفت انتماءاتنا يسعنا جميأخبار لندن تقول ان هرمنا الروائي لقي اليوم ربه راضيا مرضيا ..رحل الصالح والوطن إليه أحوج .. بكى الطيب أمام كاميرا تلفزيون السودان والعدالة الجنائية تترصد عوراتنا وتغض الطرف عن بيوت تهدم في غزة .. ونساء يترملن في بغداد ..و اناس في كابل وجدوا الحرية وفقدوا الأمن .. أوجز الأديب العارف الأمر في (عدالة القوة ) .. (تكشر ) في الضعيف وتربت على كتف القوى .
    عا .
    يا ولاة أمورنا .. يا شعبنا المكلوم ..ابلغوا العالم فعلا وقولا إننا امة تحب الأدب وتجل الأدباء . اجعلوا من المطار الجديد مطار صالح الدولي ..الطيب صالح كان مسافرا وهو يكره الترحال ..الطيب صالح كان بعيدا ولكنه يعشق الوطن .
                  

02-22-2009, 05:41 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: عبدالباقى الظافر)

    شكرا عبد الباقى
    على المقال الرائع

    نتواصل

    صحيفة الاهرام تنعى عبقرى الرواية العربية وأديب السودان الكبير


    الطيب صالح ينهى هجرته إلى الشمال ويودع الحياة فى شتاء لندن




    كتبت-أسماء الحسينى :فى هدوء وصمت ميزا شخصيته ومسيرة حياته رحل عن عالمنا امس الأديب السودانى الكبير الطيب صالح عن عمر يناهز (80عاما)،بعد رحلة حافلة بالعطاء والإبداع ،رحل فى زمهرير شتاء لندن ،ليكتب آخر فصل من فصول هجرته إلى الشمال ،تماما مثل إسم روايته الرائعة "موسم الهجرة إلى الشمال "التى تم إختيارها من قبل لجنة من الأدباء العرب بإعتبارها أهم رواية كتبت فى القرن العشرين ،هذه الهجرة التى قادت مشاعره وأحاسيسه وخياله إلى الكتابة عن بلده السودان الذى يقبع جنوبا ،يوم أحس بغربة خانقة فى لندن ،التى هاجر إليها للعمل كمذيع بهيئة الإذاعة البريطانية ،فولدت فيه الرغبة فى مد الجسور مع وطنه وعوالمه الأولى بالكتابة عنها ،لعل ذلك يبعث فى نفسه شيئا من الطمأنينة والإحساس بالأمان .

    وإلى الطيب صالح ينسب الفضل فى تقديم الثقافة والأدب السودانى إلى مختلف أنحاء العالم ،من خلال رواياته ومؤلفاته وكتاباته ،التى ترجم العديد منها إلى عدد من اللغات ،ومن بينها "دومة ود حامد "و"بندر شاه "و"عرس الزين "وغيرها من الأعمال المثيرة للدهشة ،التى قدمت لنماذج وبيئات إنسانية شديدة الخصوصية ،والتى توالى صدورها منذ بدء ظهوره على الساحة الأدبية فى أواخر الخمسينات من القرن الماضى،وقدمها فى مصر بكل حماس الراحلين أحمد بهاء الدين ورجاء النقاش .

    هناك إجماع على شخصية الطيب صالح الإنسانية المتفردة ،يقول عنه الكاتب والأديب السودانى الدكتور حسن أبشر الطيب :ماعرفت إنسانا فى حياتى إسمه مثل وصفه مثل الطيب صالح ،فهو طيب إلى منتهى حدود الطيبة ،وصالح تتجسد فيه سمات الشيوخ المتصوفين من عباد الله الصالحين ،وهو ذات الأمر الذى يؤكده الروائى المصرى محمد البساطى ،الذى يقول :إن الطيب صالح تمتع بحب كبير بين المثقفين المصريين بسبب شخصيته الظريفة وتواضعه وبساطته الحقيقية ،فهو أديب بسيط غير متكلف وغير مصنوع ،وأحد الكبار الأفذاذ ،الذين نجحوا فى تصوير مفردات البيئة الشرقية وآمالها من خلال شخصية مصطفى سعيد فى "موسم الهجرة إلى الشمال "

    أدب الطيب صالح مثله مثل أدب نجيب محفوظ ويحيى حقى وغيرهما من الأدباء العظام ،الذين تؤكد أعمالهم فكرة أن المحلية والخصوصية هى التى تقود إلى العالمية ،وليس الإغتراب ومحاولة تقليد الآخرين ،وقد عبر الطيب صالح بصدق كما يقول الروائى المصرى فؤاد قنديل عن سمات البيئة السودانية المحلية ،وكشف عن قيمها ومفرداتها ومعالمها وطقوسها ولهجاتها فى نسق سردى مبهر ،كما كشفت أعماله عن شخصية ثرية غير متعصبة وغير متحجرة ،وقد لاقت روايات الطيب صالح قبولا واسعا فى الغرب كما الشرق ،لما يتمتع به من ثقافة متحضرة تجاه العالم والآخر على حد تعبير الناقد الكبير الدكتور رمسيس عوض .

    يصف الطيب صالح فى روايته الأخيرة "منسى "بطل الرواية فيقول : فيه خصلتان حميدتان ،حبه للبسطاءوحفاظه للود "ولعله كان يتحدث عن شخصيته هو ،وإستطاع بقدرة فذة الغوص فى الشخصية السودانية وقدم مرآة صادقة عن هموم ومعاناة المجتمع السودانى ،ومعاناة المثقف العربى والبسطاء من الناس،ومن الواجب اليوم على الهيئات الثقافية العربية إعادة طبع أعمال الطيب صالح طبعة شعبية ،حتى تصل إلى الأجيال الجديدة .

    وفى السودان عم الوجوم والحزن العميق جميع الأوساط ،حزنا على فقد من قدم إلى العالم مصطفى سعيد وود المجدوب وملود وبندر شاه ومنسى وغيرها من الشخصيات التى لاتنسى القادمة من أعماق السودان ،ونعاه الأدباء والمثقفون ورئاسة الجمهورية ،ولازال الجميع فى حالة إنتظار لوصول جثمان الرجل "الأسمر الذى يمتزج خط الإستواء فى دمه باللبن العربى ،الرجل الذى جاء من حيث الأساطير ومياه النيل "على حد وصف الطيب صالح لمصطفى سعيد بطل رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال "،وهم أنفسهم الذين كانوا يترقبون فوزه بجائزة نوبل ،التى تم ترشيحه لها مؤخرا.


    ----------------------------------------

    على حمد إبراهيم فى وداع المريود والحزن عليه ... بقلم: د. على حمد إبراهيم
    فى وداع المريود والحزن عليه ... بقلم: د. على حمد إبراهيم
    السبت, 21 فبراير 2009 22:11

    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته
    أغالب حزنى اليوم ،واكتب اسطرا متأملة عن فقيد الأمة العربية ، وفقيد الامم القارئة ، الطيب صالح ، المريود ، الذى تشابى فى حدقات كل العيون، وتماهى فى حنايا كل القلوب ، قلوب الملايين من البشر. وأمسحع عبرة ساخنة من عينى ، واردد مع قسيس مصطفى سعيد :"كلنا يابنىّ نسافر لوحدنا فى نهاية الامر". قالها المريود الطيب صالح على لسان القسيس المؤمن فى تذكير مبكر بالرحلة الابدية التى تنتظرنا جميعا . تلك الرحلة التى لا رفيق فيها ولا أنيس فى الطريق الموحش الطويل ، ولا يعين عليها الا عمل صالح هنا وهناك نجده مدخورا لنا فى اليوم الحار . اكتب صفحة من الحزن العام فى هذا الصبح الحزين ، صبح الاربعاء ، الثامن عشر من فبراير من عام 2009 بالتحديد. وليكتب التاريخ معى أنه فى هذا الصبح الحزين زفر المريودأنفاسه الدفيقة . وغادر عالمنا الارضى الذى كم آنس سماره فى مقيل و فى سمر . و سافر لوحده . وترك من خلفه الملايين التى تشبث وجدانها بوجدانه ، وغاص فى جوانحها كما يغوص الصدف الثمين فى المحار. سافر لوحده كما هو محتم منذ الازل . وترك لنا غصة فى الحلق. وترك لنا كذلك مصطفى سعيد، نتجادل فى شأنه منبتين ، لا نكاد نقطع ارضا ، او نبقى ظهرا. وتركنا مع حزن مقيم ، لم نتبين بعد إن كان المريود فى يوم رحيله الباكر قد اخذ معه كل اشيائه الاثيرة التى كان يضن بها على الوجود من حوله : محبرته المدرارة. ، وقلمه الشفيف ، وقرطاسه الصقيل ، ونظارته التى تلقط الاخاييل من سطح المريخ مثل عين زرقاء اليمامة تلتقط الاخاييل من وراء الاكمات الداكنة. فما جدواها وقد زايل الروض العندليب الذى كان يحرك سواكن المشاعر ، ويحرك القلوب التى فى الصدور. ويسأل الناس ماخوذين بالفجيعة : هل وجد المريود زمنا او وقتا يلقى فيه نظرة الوداع الاخيرة على العالم الصغير الذى حمله فى قلبه الكبير هما وغما وأملا ورجاءا . ذلك العالم المنطرح على وجه البسيطة بلا مبالاة كأن الناس فيه لم يألفوا كدر الايام وقسوتها فى يوم من الايام. ينعكس ذلك فى أنسهم الدائم وحكاياتهم السرمدية فى " الفارغة والمقدودة". ذلك العالم الذى كان يحن اليه المريود ويعشقه وهو فى منفاه البعيد خلف المحيطات الفاجرة والمسافات المستحيلة. أليس هو من أبلغ عن شوقه العظيم الى ذلك العالم الذى يتمدد فى تلك القرية الصغيرة المنطرحة عند منحنى النيل ، الذى فرح الناس فيه وضجوا من حوله يوم جاءهم بعد اغتراب طويل . ولم يمض وقت طويل حتى احس كأن ثلجا قد ذاب فى دخيلته. لقد اعطاه ذلك العالم دفئ الحياة الذى افتقده فى البلاد التى تموت من البرد حيتانها كما قال. وذلك وصف يطرب النفس المتأملة. فاذا كان برد ذلك العالم يقتل حيتانه المخلوقة لبيئة البرد اساسا ، فما بالك بالمريود القادم من صحراء القرية المنطرحة عند منحنى النيل .
    * " استيقظت فى فراشى ، وارخيت اذنى للريح . ذاك لعمرى صوت اعرفه. سمعت هديل القمرى ، ونظرت الى النخلة القائمة فى فناء دارنا ، فعلمت أن الحياة ما زالت بخير . انظر الى جذعها القوى المعتدل، والى عروقها الضاربة فى الاض ، والى الجريد الاخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة. أحس بأننى لست ريشة فى مهب الريح.ولكنى مثل تلك النخلة مخلوق له أصل، له جذور ، له هدف.
    :" اريد أن آخذ حقى من الحياة عنوة ، و ان اعطى بسخاء. و ان يفيض الحب من قلبى ، فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لابد ان تزار .و ثمة ثمار يجب أن تقطف . و ثمة صفحات بيضاء فى سجل العمر، ساكتب فيها جملا واضحة وبخط جرئ . فانا لست حجرا يلقى فى الماء ، لكننى بذرة تبذر فى الحقل ."
    هذا العالم المفتول بالدهشة والبساطة والقوة صعب عليه أن يلقى نظرة الوداع الاخيرة على المريود فى جوار جده البكرى. هل استوفى المريود حقوقه كاملة فى هذا العالم كما كان يريد. ذلك العالم الذى انداح فيه كما ينداح النسيم السيار بين الخمائل فيحرك اغصانها وفروعها. و هل بقى فى مقدور المريود ان يعطى اكثر مما اعطى لعالمه الكبير. لقدأعطى سمار "اصيلة" عبق الجروف كله فما ابقى ، وافاض دعاش الشفق الساجى على "الجنادرية" فما اقتصد. وكتب بخط جرئ على كل الصفحات ، فاوغر صدر الابداع حتى فاض منه مداد الخلود فى بندر شاه ، وفى عرس الزين ، وفى ضو البيت ، وفى النخلة الحانية عند الجدول.وقطعا فى موسم الهجرة الى الشمال الذى بزغ فيه فجر خلوده الادبى، وغادر فيه دار الغرور الى دار الحلود . ومثلما قال المريود كأنه يحدث عن نفسه : لم يكن حجرا يلقى فى البرك الساكنة فيغوص فى عتمات السكون والظلمات والنسيان. ولكنه كان محارا من صدف جميل متى القى فى البرك الساكنة ، ماجت وهجا وشعاعا .
    لقد ساح المريود فى العالم الأول ، وانداح فيه حتى ظن أنه لن يعود منه الى عالمه الصغير الذى عرفه وهو بعد صبى تربال . ولكنه عاد على أى حال . تماما مثلما ساح مصطفى سعيد فى الارجاء ثم عاد الى تلك القرية المنطرحة عند منحنى النيل ، التى يتصايح فيها الناس عند الفجر والديوك.
    يسألك الناس : لماذا صنع المريود مصطفى سعيد بذلك الحجم من التعقيد. هل كان يريد أن يعطينا حصة فى ثقافات شعوب ما وراء البحار وترهاتها. ام فعل ذلك تأسيا بعادة الناس فى قريته الناعسة عند منحنى النيل. وقدرتهم على الحكى . فالناس هناك يحكون ويحكون ويحكون حتى يظن جليسهم أن ليس هناك صنعة غير الحكى فى عالم القرية الساجية عند منحنى النيل. ففى تلك البيئة الريفية يحكى الناس من صباح الرحمن وحتى مسائه، لا يفترون . ليس هناك اعمالا يؤدونها ، فتشغلهم عن الحكى. و هذه الفروق التى وجدها المريود بين عالم جده فى القرية الوادعة المنطرحة عند منحنى النيل . وعالم جين مورس فى البلاد التى تموت من البرد حيتانها ، قد حفزته لتجويد صناعة الحكى التى الفها فى محيطه القديم ، وزادته قوة للتماهى فيه . ام أنه أراد أن يستعرض ثقافاته الجديدة التى حصل عليها فى عوالم ما وراء البحار فى غفلة من أهله الماكثون على قديمهم الباقى فى قريتهم الناعسة عند منحنى النيل . وفى غفلة كذلك من أهل تلك العوالم فى دأبهم اليومى المفرط. ربما هذا . وربما ذاك . ولكنه صنع، على أية حال ، اسطورة استعصت على فهم الناس . و دفق عليها من ثقافاته الدراسية مدادا كثيرا ، حتى استوت عالما من غموض كثيف . وقد احاطها بكل ذلك الكم المعرفى المتنوع . فقد عرفها بعوالم جديدة : عرفها بعالم باخ ، وعالم كيتس، وعالم مارك توين . و فلسف لها الحديث عن عوالم جين مورس . وفتيات جيش الخلاص. وجمعيات الكويكرز . ومجتمعات الفابيانيين، وحزب الاحرار .وحزب العمال . وحزب المحافظين . لغريب فى الامر حقا أن أهله فى تلك القرية الناعسة عند منحنى النيل استطاعوا أن يفهموا هذه الالغاز دون عناء . وقالوا لابأس من أن يستعرض فتاهم عضلاته الثقافية ، وقوته التعليمية . او أن يتماهى بما حصد من صنوف المعرفة. المهم أنه نجح فى الهاء الناس بما صنع ، وشحذ هممهم ، ودعاهم الى دائرة التفكير فى شئ جديد .
    ولكن هل كان مصطفى سعيد فى حقيقته ، شخصية معقدة تستعصى على الفهم. البعض يقول نعم . ويدلق فى ذلك حبرا كثيرا. آخرون يقولون لا . وبذات القدر او اكثر يدلقون حبرا كثيرا . كاتب هذه السطور ، و هو من قبيلة الوراقين ، وعلى طريقة جده القديم ابوحيان التوحيدى ، كان وما زال يغشى اوراق المريودكثيرا . ويعشقه كثيرا . وهو لا يرى أن المريود جعل من مصطفى سعيد شخصية معقدة. بل يرى ان شخصية مصطفى سعيد هى شخصية واضحة وضوحا شديدا . لقدكان مصطفى سعيد ضحية لوجوده فى عالم مرذول اخلاقيا . اخذته الدهشة فى عقالها منذ اللحظة التى دخل فيها الى ذلك العالم الاباحى المفرط . واغرته سهولة الحصول على المجون بثمن بخس ، بعض من علب البيرة الباردة من هنا ، وبعض عشاء من هناك ، ودعوات فورية بلا ترتيب كبير ، من النوع الذى نقول عنه فى بلادنا انها دعوات "مراكبية".بمعنى انها دعوات بلا تخطيط مسبق وترتيب محترم دقيق. وبعدها يحدث كل شئ بسهولة متناهية . ففى مثل جلسات الانس تلك لا يوجد ولى أمر ينتهر من يخرج عن المالوف ، و لا صاحب عصبة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. حتى اذا اصبح صبح القوم الفيتهم مطرقين ومجدوعين على قارعة المكان ، مثل الاباريق الفارغة. مصطفى سعيد قرر أن يهتبل السانحة التى اوجدته فى هذا العالم المنطلق بلا قياد او رسن . وأن ينتقم من الحرمان الذى عاش فيه منذ صباه الباكر. فقد نشأ صبيا يتيما . وكان يتحدث عن كبد العيش مع أم لا تملك من المال اكثر مما يوفر لها القدر القليل من السترة. و فى عالم ما وراء البحار، وجد الحرمان الحقيقى مجسدا امامه بوضوح شديد : لا أب ، ولا ام ، ولا اهل ، ولا عشيرة يركن اليها . ووجد بجانب هذا الواقع سهولة متناهية فى الافلات من ضيقه ومن عزلته- بأن يغوص فى عالمه الجديد هذا و ينسى عالمه القديم فى قريته الوادعة المنطرحة عند منحنى النيل . فقرر أن يفعل الافاعيل .
    وياحضرة الساجى عند بوابة الرحمن الرحيم ، الرحمة لك ، والخلود ، بما انعمت علينا من فيض عطائك الجزل.والتحية لك والتبجيل ، ويبقى لن التعزى فيك ،والصبر الجميل . ولا حول ولا قوة الا بالله.
    -----------------------------------------------

    محيميد.. لن يموت النيل ... بقلم: ضياء الدين بلال
    السبت, 21 فبراير 2009 21:22

    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته
    بصدق.. فاجأتني عيناي بدمعتين وأنا استمع للـ (بي. بي. سي) بالعربة في طريقي الى مباني الصحيفة. كان الكاتب المصري الرفيع جمال الغيطاني يتحدث عن الراحل الطيب صالح - المصريون دوماً من أكثر المجيدين للتعبير عن المشاعر السلبية والايجابية تجاه الاحياء والأموات - تحدث الغيطاني بحب شفيف. ومعرفة عميقة بالروائي ورواياته، وقال انه تعرف على السودان المجاور لمصر، والمتداخل معها تاريخياً، لا عبر الزيارات. ولكن عبر روايات الطيب صالح. ذلك الرجل الذي أجاد الدكتور عبد الله علي ابراهيم وصفه بأنه «رجل بلا مزاعم».. والغيطاني قال انه درويش عظيم. تسكنه أرواح التصوف. يأتي الى أعظم الافكار عبر أقرب الطرق. وكما هو كاتب بديع هو كذلك متحدث مجيد. لا تستطيع أذن أن تقاوم رغبة الإصغاء لما يقول. فالحكمة تجري على لسانه كما تجري مياه النيل..!
    الاستاذ محمد ابراهيم نقد.. تجمعني به محبة خالية من الادلجة.. ومحادثات هاتفية - تًسر معنا شركات الاتصالات - اتصل بي ليلتها وقال لي: (كتب علينا ان نستقبل مبدعينا في توابيت من خشب.. علي المك وصلاح أحمد ابراهيم. وأخيراً الطيب صالح.. صلاح رثا علي المك والطيب رثا صلاح فمن يرثي الطيب؟)... قالها نقد وفي صوته أحزان اليسار واليمين..!
    الدكتور عبد الله قال إن الطيب «رجل بلا مزاعم».. هذا أفضل تلخيص لوصف كاتب باتساع وعمق الطيب صالح، في وطن تتعالى فيه أصوات المزايدات وكل يضيف الى ملامحه وسيرته، ما اتسع له المجال من ادعاءات واوهام. تجد سوقها رائجاً في حواري السقّايين وتجار البخور.
    الدكتور محمد ابراهيم الشوش من أكثر العارفين وأجود المتحدثين عن الطيب صالح. ذلك بحكم المزاملة والمساكنة ببريطانيا، الى درجة ذهاب البعض الى ان بعض مقومات شخصيات الطيب صالح الروائية لها نصيب من سيرة الشوش اللندنية..!
    الشوش حكى لنا بمباني مجلة «الخرطوم الجديدة» التي يرأس تحريرها الصديق الطاهر حسن التوم، حكى ذكريات تلك الايام. وألقى وقتها بملاحظة شدّت انتباهنا الى مداه الأقصى..!
    قال الشوش إن أياماً طوال جمعته في مسكنٍ واحدٍ بالطيب صالح بلندن - في الخمسينات أو الستينات لا أذكر- وأنه - أي الشوش- كان يراقب تصرفات وأفعال الطيب بعينٍ راصدةٍ، تبحث عن التجاوزات والهناّت، التي يوفّرها مناخ لندن البارد لشبابٍ ساخن الدماء..!
    ورغبة البحث والترصد مصدرها قناعة راسخة لدى الشوش بأن الاستحالة البشرية تقتضي عدم وجود شخص بمثالية الشاب الطيب صالح. لذا ربما أن الرجل له براعة استثنائية في الإخفاء وكتمان الاسرار.. وقال الشوش بعد سنوات طوال اكتشف أمراً خطيراً.. وهو ان الطيب صالح تخلّص من نزواته ورغباته عبر شخوص رواياته ونال مصطفى سعيد النصيب الأوفر.. واحتفظ الطيب لحياته الواقعية بكل هذه المثالية والنقاء..!
    اكتشاف الشوش هو نقيض ما وصل اليه عبد الرزاق عبد الواحد الشاعر العراقي الشهير، وهو يتحدث في البرنامج الأروع «أيام لها ايقاع» عن صديقه وزميل دراسته الشاعر بدر شاكر السياب.. فقال ان بدر كان في الواقع شخصاً قميئاً كثير المثالب، ولكنه كان حينما يمسك القلم، فارس كلمة لا يشق له غبار..!
    عبد الرزاق اختصر صديقه في وصف محكم حين قال:(السياب شاعر بالغ الروعة يعصر نفسه بين السطور ولا يبقى منه إلا الوحل).. وبمناسبة (أيام لها إيقاع).. ترى متى يُطلق سراح قلم الأستاذ حسين خوجلي؟!.. فقد رحل الكثيرون من مبدعي السودان وثرواته القومية دون أن يسمح للبارع حسين خوجلي، بأن يضع توقيعه الأنيق على دفاتر أحزانهم.. عندما يكتب حسين عن الطيب صالح سيضطرنا جميعاً للجلوس على مقاعد الجماهير..!
    الأحزان واحدة.. رحل الطيب صالح قبل أن تتحقّق أمنية ورغبة محيميد. حينما قال: (وقتين طفح الكيل، مشيت لأصحاب الشأن قلت ليهم خلاص. مش عاوز.. رافض.. أدوني حقوقي عاوز أاروّح لي أهلي، دار جدي وأبوي.. أزرع وأحرث زي بقية خلق الله، أشرب الموية من القلة وآكل الكسرة بالويكة الخضرا من الجروف، وارقد على قفاي بالليل في حوش الديوان.. أعاين السما فوق صافية زي العجب والقمر يلهلج زي صحن الفضة.. قلت ليهم عاوز أعود للماضي أيام كان الناس ناس، والزمان زمان)، ولكن محيميد عاد أخيراً محمولاً على تابوت خشبي..!

    --------------------------------------------------------

    تجربة الحركة الإسلامية بميزان الطيب صالح ... بقلم: بقلم: وليد الطيب
    السبت, 21 فبراير 2009 19:59

    لم يشتهر بين السودانيين رجل من خارج قطاع السياسيين كما اشتهر الطيب صالح الأديب والروائي المعروف، صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال"، ورغم ابتعاده عن غمار السياسة فإنه كان صاحب رؤية سياسية نثرها من خلال رواياته أو مقالاته، التي داوم على كتابتها في مجلة (المجلة) السعودية، وظل يجهر برأيه عبر مختلف وسائل الإعلام حتى وفاته يوم الأربعاء 18 فبراير 2009م، ومما تعرض صالح له بالتناول والنقد تجربة الحركة الإسلامية السودانية في الحكم، وهي تجربة طويلة وثرية وملهمة للإسلاميين في العالم..
    هذا المقال يتتبع رأي الطيب صالح في هذه التجربة كما نثرها في كتابه (وطني السودان) الذي نشر ضمن مختارات الطيب صالح التي نشرها مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان.
    إسلام الطيب صالح!
    لا يصنف الروائي السوداني الشهير الطيب صالح إسلاميا في توجهاته العامة، وبهذا الاعتبار فإن الإسلاميات أو الإشارات ذات المغزى أو المحتوى الإسلامي التي تناثرت في كتبه لا تجد اهتماما من الإسلاميين، كما لا ينظر النقاد الأدبيون إليها إلا من أجل إثبات الأثر الإسلامي وتأكيد وجوده، في محاولة منهم لتقديم رؤية نقدية تتسم بالشمول لهذا الأديب الذي ينحدر من بلد عريق في إسلامه، ولقد خضع لمثل هذه القراءات أدباء كثيرون.
    يقول الأكاديمي السوداني د.خالد محمد فرح: "يستمر الاهتمام بالإسلاميات –في الأدب- ليشمل حتى بعض الكتاب والأدباء المعاصرين ممن ينتمون إلى التيارات الفكرية الحديثة، الليبرالية منها واليسارية بصفة عامة، وحتى بعض معتنقي المذهب الماركسي" (صحيفة الأحداث السودانية، العدد: 455، الخميس 22يناير 2009م)، وفيما يتصل بأديبنا الكبير فقد تقصى المفكر السوداني إبراهيم محمد زين "أشكال التعبير الديني في روايات الطيب صالح" في كتاب حمل هذا العنوان.
    والحق أن الطيب صالح لا يمكن اعتباره بعيدا عن المشروع الإسلامي وأشواقه في السودان؛ فالرجل قبل أن يأخذه الأدب من السياسة كان أحد بضعة شباب أسسوا طلائع الحركة الإسلامية السودانية باسم حركة التحرير الإسلامي، وهو أحد بضعة رجل اختاروا أن يتميزوا باسم الحزب الاشتراكي الإسلامي عندما اختار بعض الرعيل الأول الانحياز بحركتهم السودانية الإسلامية الناشئة إلى الإخوان المسلمين وفكرهم وتنظيمهم المصري.
    ورغم ابتعاده نهائيا عن الدائرة الإسلامية في العمل العام فإنه كما يبدو من خلال سيرته الذاتية ويومياته حريص على الصلاة والحج، وله إجلال للصحابة رضي الله عنهم، ولا يبالي بتصنيف الإسلاميين له.
    وهذه الصلة كافية في أن تجعل من تعليقات الأستاذ الأديب حول تجربة الإسلاميين في الحكم مقياسا لما كان يصبو إليه الجيل المؤسس للحركة الإسلامية السودانية، ومن جهة أخرى تصلح كذلك مقياسا للمطلوبات الوطنية من دولة ما بعد الاستقلال.
    قبل حكومة الإنقاذ
    اختار الطيب صالح أن يبدأ كتابه (وطني السودان) من لحظة من العام 1988م، وهي من سنوات العهد الديمقراطي الثالث بالسودان، ومن مكان ذي دلالات وإيحاءات وهو مطار الخرطوم، حيث أفواج المهاجرين والفارين تترى وكأن البلد ستخلو بعد قليل، وذلك في عهد السيد الصادق المهدي الذي لم يحفل بنصيحة الطيب صالح له أول عهده بأن يهتم بقضايا الحياة اليومية التي تهم الناس، ورئيس الوزراء يومذاك "كان كعهده دائما مهذبا لطيفا جم التواضع... هذا الرجل اجتمعت له كل مقومات الزعيم الكبير، ومع ذلك مضى رجال الأحزاب يخبطون خبط عشواء وكأن انتفاضة رجب المباركة -1985م التي أطاحت بالنميري لم تحدث، وكأن ما كان طوال سبعة عشر عاما -فترة حكم النميري- لم يكن وكأن الزمن رصيد لا ينفد؛ يبددونه كيف شاءوا ثم، كما كان حتما أن يحدث، استيقظوا ذات صباح فإذا الجيش قد ربط خواصر الجسور وأغلق أفواه الطرق وإذا الصحف معطلة والبرلمان موصد، والأحزاب محظورة وإذا هم داخل السجون" (الطيب صالح، مختارات"7": وطني السودان، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي،أم درمان،ط 1،2005م، ص69-70).
    وتلك كانت الأسباب التي دعت الإسلاميين السودانيين للانقلاب على السلطة السياسية في الخرطوم، وفي نظر الطيب صالح هي بداية لا تختلف عن بدايات التجارب العسكرية الثلاثة التي حكم الجنرالات عبرها السودان، فمن ثم لا يستبعد الطيب صالح أن تكون مسيرة هؤلاء الإسلاميين الذين انقلبوا على السلطة وصادروا الحريات أول أمرهم هي ذات مسيرة العسكريين السابقين ممن تولوا الحكم ثم نُزعوا عنه.
    من أين جاء هؤلاء؟
    يعتقد الأديب السوداني الكبير أن للسودانيين صفات نفسية واجتماعية مميزة، وتغطي برحابتها كل مكونات الشعب السوداني لا يشذ عن ذلك مسلم متدين أو وطني مخلص أو يساري ذو ولاء لأمته، وأن هذا الوجدان السوداني صاغته عوامل متعددة من المدائح النبوية للشيخ "حاج الماحي" والغناء الوطني لخليل فرح وغيره وشعر محمد سعيد العباسي ومحمد المهدي المجذوب (وطني السودان،ص 82).
    ولكن الطيب صالح لم يلحظ الصفات النفسية والاجتماعية تلك في حكومة الإنقاذ ولا رجالها فـ"من أين جاء هؤلاء؟".. ظلت هذه الجملة سؤالا كبيرا يشغل بال الروائي السوداني، وهو يرى -في فاتحة عهد النظام الإسلامي الجديد- مئات من ذوي الكفاءة من بني وطنه يتوافدون على منفاه الاختياري في بريطانيا وشواطئ الخليج وأصقاع الأرض بعد أن حيل بينهم وبين الخدمة في أوطانهم وهم في ذروة العمر وزهرته... ضباط أحيلوا للتقاعد، معلمون أرغموا على ترك وظائفهم، سفراء استغني عن خدماتهم ظلما فتحولوا إلى تجار، أساتذة في الجامعات اضطروا إلى الهجرة اضطرارا فتشتتوا شرقا وغربا.
    وللطيب صالح قراءة خاصة لما جرى؛ فهو يعتبر أن الطالبين للحكم من أي توجه كانوا يتوهمون أن إرادة الله قد اختارتهم ليكتبوا الصيغة النهائية في سفر التاريخ، وفي حالة الحركة الإسلامية السودانية وحكومتها فإن رجالها يحلمون أن يقيموا "خلافة إسلامية" سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب، ولكنه يستقرئ أنها لن تكون إلا (جثة السودان المسكين).
    من مؤلفات الروائي السوداني
    ويقطع الطيب صالح -من خلال تجربته الطويلة في الحياة- بخطأ هذا المسلك، ومحاولة تغيير عجلة التاريخ دون وعي بسنن التغيير وإمكانات الواقع على النهوض بالمهمة التي يراد له أن يحملها، فالشعوب تحتاج لإعداد خاص الحرية شرط أولي وأساسي فيه، لأن التطور لا يكون إلا على يد "قوم أحرار في بلد حر" وهي حرية تؤسس نظاما يُعلي من "أقدار الناس" في الحياة، بعيدا عن الانكسار أمام الحاجة اليومية تحت سياط الجلاد، فالطيب يريد أن يستجيب السودانيون للسياسي الحاكم و"يعملون للوطن كما يعمل الأحرار، نخوة ومروءة وتقديسا للواجب، الواحد منهم لا تحده إلا حدود الموهبة ولا يخشى إلا الله والذئاب على غنمه" ص 192.
    وفي هذا يتفق مع ما انتهى إليه مفكرو الحركة الإسلامية الحديثة من أن الحرية شرط النهضة وعمادها، وهي حرية لا تتنافى مع جوهر الفكرة الإسلامية، حيث تجعل من الحياة كما أرادها الله ميدانا للتدافع بين الناس.
    أسباب مشكلة الإسلاميين
    يتبنى الطيب صالح ما ذهب إليه المفكر الإسلامي السوداني الدكتور مدثر عبد الرحيم عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق بجامعة الخرطوم من أنه "حدث انشقاق اليوم -في ظل حكم الحركة الإسلامية- في المجتمع السوداني لم يحدث مثله منذ عهد الخليفة عبد الله" خليفة المهدي السوداني، قبل مائة عام.
    يرد صالح هذا الانشقاق إلى سببين رئيسيين: الأول هو أن الحركة الإسلامية التي استولت على السلطة لها تصور (يقيني) بأنها وحدها على الحق المبين، وأن لها سلطة أخلاقية ووطنية ليست عند الأحزاب الأخرى، والسبب الثاني هو اتخاذ ها طرقا في الحياة ومواقف في العمل السياسي والنهضوي تتنافى مع طبيعة الأشياء ومسيرة التاريخ، يقول الطيب صالح: "إن هذا العهد أوحى أول مجيئه أنه لا يبالي أرضي الناس أم سخطوا، جاء بتصور جاهز للمستقبل، يريد أن يفرضه قوة واقتدارا، وقد اتخذ أساليب منافية كلية لمسيرة التاريخ وطبيعة البيئة بما فيها من قبول للتعدد، ونزوع إلى الوفاق والتراضي، وعزوف عن التطرف والعنف" ص177.
    ويجزم صالح أن هذه الرؤى اليقينية محكوم عليها بالفشل، بل بإنتاج ثمار عكس المتوقع والمرجو "إن النظم (اليقينية) دائما تجيء بخارطة جاهزة للمستقبل، لا نستطيع إنجازها بطبيعة الحال، إنما يحدث شيء مختلف كلية"، ويضرب صالح مثالا: "هذا الحكم جاء ليرفع ألوية الإسلام في غيابات الجنوب، لكنه لم يستطع لأن الحرب لم تبق مساجد ولا كنائس.. لكن مقابل ذلك قامت كنائس في الشمال في أماكن لم تسمع غير نداءات المؤذنين منذ عشرة قرون" ص 184.
    ويستشهد من التاريخ الإسلامي بنماذج تبين خطر هذه (اليقينية): "إن الحجاج بن يوسف -السفاح- كان يعلم الصبية القرآن، وعبد الملك بن مروان الذي أمر بضرب الكعبة الشريفة بالمنجنيق كان فقيها عالما بالشعر، وهذه الأمور ليست جديدة" ص 62.
    رأيه في محاولات الإصلاح
    قبل أكثر من أربع سنوات من انشقاق الحركة الإسلامية السودانية وحزبها الحاكم في العام 1999م، بين الترابي والبشير، استشف الطيب صالح بوادر إصلاح أو احتجاج آخذة في الظهور، بين الإسلاميين السودانيين، بعضها أتى في سياق انتقادات علنية من بعض الجيل القديم كما في تصريح مدثر عبد الرحيم السابق، وبعضها من الجيل الشاب كمحاولات الدكتور عبد الوهاب الأفندي، التي ضمنها كتابه "الثورة والإصلاح السياسي"، ويعتبر صالح ذلك" من حسن الحظ أنه يوجد أناس أمثال الأستاذ أحمد عبد الرحمن لم يمنعهم إيمانهم بفلسفة هذا العهد أن ينظروا في أفعاله بعيون مفتوحة وقلوب واعية، هؤلاء يدركون أن العهود تجيء وتذهب، وأن الأوطان هي التي تبقى، وأن الهدف يجب أن يكون بقاء الوطن، وليس بقاء أي حكم أو نظام" ص 187.
    "وقد ارتفع صوته من قبل في الخرطوم في المجلس (الوطني) الانتقالي، وهو مجلس معين بين مجموعة من الأصوات منبها على أخطاء الحكومة وتجاوزاتها بالتعدي على حقوق المواطنين، وندد بأساليب القهر التي تنتهجها بعض وسائل الأمن، ولا يخفى أن هذا النظام قد ابتدع من وسائل المخابرات والتجسس والتلصص على الناس ما يدعو إلى العجب" ص 197.
    بل إن أحمد عبد الرحمن، وهو إسلامي مخضرم وله مجاهدات مشهودة في رأي الطيب صالح، قد أسدى خدمة لجماعته حين صارحهم في ندوة بلندن سبتمبر 1994م أنه (لا توجد دولة إسلامية بالسودان)، وهي مصارحة شجاعة في وقت مبكر من عمر التجربة "لعله يسدي بها خدمة (لجماعته)".
    أما محاولة الأفندي التي ضمنها كتابه (الثورة والإصلاح السياسي)، فقد رأى الطيب صالح أنه "أحرى بهم أن يأخذوه مأخذ الجد لو كانوا يريدون الإصلاح"؛ إذ "محص فيه أخطاء الحكم"، وصدرت (من منطلق الانتماء لهم والحدب عليهم".
    ولكن الطيب صالح لم يكن متفائلا بالاستجابة لداعي الإصلاح، مع يقينيات الحركة الإسلامية، ولهذا جزم (وما أظنهم يفعلون).وقد تواصلت دعوات الإصلاح داخل الحركة الإسلامية السودانية منذ تلك السنوات الباكرة، ولم يكن حظها غير الصد والرد وإبعاد المصلحين من دائرة القرار والتأثير في الحركة الإسلامية ودولتها في الخرطوم، وقد بلغت سن الرشد، ومن العمر عشرين عاما.
    نجد هنا الطيب صالح ينظر للحركة الإسلامية السودانية ودولتها بموضوعية كاملة؛ فهو لا يريد إلغاءها وإقصاءها من الحياة السودانية، بل يريد أن تطور هذه الحركة من مواقفها، وأن تصلح نفسها بنفسها، معتبرة بالتاريخ، وواقع الشعب السوداني، بمثل استجابة المستعمر البريطاني قبل قرن من الزمان، وهي رؤية جديرة بأن ينظر إليها أيضا الذين هم خارج الدائرة الإسلامية، وهي اعتبار المشروع الإسلامي في الدولة الوطنية القائمة اليوم في العالم الإسلامي مشروعا وطنيا مثله وغيره المشاريع التي تزخر بها الدول العربية اليوم.وممن يدعو لهذا الفكرة أيضا الأكاديمي السوداني والماركسي السابق د.عبد الله علي إبراهيم، الذي يقرر من خلال استقرائه أن الشريعة تتعقب الحداثة بأثر رجعي حال استبعادها.
    إن قراءة الطيب صالح لتجربة الحركة الإسلامية في الحكم في سياق الدولة الوطنية وتعاطيها مع محاولات الإصلاح يعطي الحركة الإسلامية السودانية فرصة لأن ترى تجربتها في مرآة الآخرين بل النخبة منهم، أهل الإبداع والتجربة، الذين يقودون الحياة بل ويصنعونها.
    وقد رحل الطيب صالح، وبقيت رؤيته للحركة الإسلامية وملاحظاته السالبة عن تجربتها في الحكم، ورغم مرور سنوات طويلة بين تنبيهه عليها، فما تزال هذه السلبيات تؤثر في مسيرة التجربة، وما تزال دعوات الإصلاح التي شجعها تنكفئ ولا تتجرأ على إحداث تغيير إيجابي في الحركة والدولة والوطن، فلعل وقت الاستجابة قد حان.
    صحفي سوداني
    [email protected]


                  

02-22-2009, 11:31 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    الأحد 22 فبراير 2009م، 27 صفر 1430هـ العدد 5623


    رحل الأديب الفذ والإنسان الرائع والمتحدث الذرب

    د. الطيب زين العابدين

    التقيت أديبنا الفذ الطيب صالح لأول مرة قبل ثلاث أو أربع سنوات فى منتدى الجنادرية الذى يقيمه الحرس الوطنى بالمملكة السعودية فى كل سنة، يجمع فيه المفكرين العرب والأدباء والمتأدبين والأكاديميين ورجال الإعلام من داخل المملكة وخارجها، وكان الطيب صالح ضيفاً دائماً فى ذلك المنتدى الجامع. رأيته فى بهو الفندق يتحلق حوله الأدباء والصحافيون من الشام ومصر ولبنان والعراق والمثقفون السعوديون، كان هو قطب الرحى فى ذلك التجمع يخاطبه الجميع ويرد على الجميع بأريحية وعفوية وصراحة. كنت أريد أن أتعرف عليه عن قرب ولكن ليس فى تلك «الزحمة» فأنا امرؤ فردانى أنفر من الزحمة والضوضاء ولو فى مناسبة طيبة، وقلت فى نفسى سأتحين معه فرصة ثانية فمهرجان الجنادرية يمتد لعدة أيام، وخاب ظنى فالحلقة حول الطيب صالح لا تنتهى وتستمر فى كل فترات الراحة صباحاً وعصراً ومساءً. وبعد يوم أو يومين من الانتظار اقتحمت الحلقة وسلمت عليه وعرّفته بنفسى فرد التحية بأحسن منها وقال لى فى ودٍ جاذب انه قرأ لى بعض المقالات فى الصحف السودانية وأعجب بها. أخذت مكانى فى طرف الحلقة واستمر الحديث والأنس، فاكتشفت أنه يعرف كل أولئك النفر من شتى بلاد العرب ويتعرف بسهولة على من ينضم إليه لأول مرة ويستمتع بالحديث معهم دون كلفة أو تصنع، ولا يتنازل عن ليبراليته الغربية ولا عن سودانيته القحة ولا يجد تناقضاً فى ذلك، ومدار الحديث كان عن الأدب والفكر والشعر والصحافة وقليل من السياسة التى يسمح بها مناخ السعودية غير المواتى. وتبينت من جلسات قصيرة ان أديبنا الفذ متحدث من الطراز الأول تجذبك نحوه معرفة موسوعية بدنيا الثقافة والأدب والفكر فى الشرق والغرب، وطلاوة حديثه وعمق تفكيره وحسه الفكاهى الراقى، وتبسطه فى الكلام دون كلفة وصوته الشجى العميق، هو من تلك الزمرة الموهوبة التى لا يمل المرء حديثها ويستزيدها كلما ارادت أن تتوقف. قال عن مجالسه الناقد المصرى حلمى النمنم «لا تمل من الجلوس معه والاستماع إليه، وتشعر أنك تستفيد منه بالفعل»، وقال عنه ميرزا الخويلدى من جريدة «الشرق الأوسط» : كان الطيب أبرز المثقفين العرب الذين أعطوا زخماً هائلاً لأمسيات الجنادرية الثقافيه، كان صدره واسعاً وهو يجيب على المثقفين الشباب الذين ألهبت عواطفهم أدبيات الصحوة الدينية، كان يغلب محاوريه بأفق رحب وابتسامة عريضة وحس انسانى رفيع.
    أما روعة انسانية الطيب صالح فأسأل عنها دون حرج من عرفوه فى ديار الغربة عن قرب وارتبطوا به فى علاقة حميمة: محمود عثمان صالح ومحمد ابراهيم الشوش وحسن ابشر الطيب وحسن تاج السر وعبد الوهاب الافندى وخالد فتح الرحمن وبونا ملوال وآخرون، أحسب أن الأفندى يتحدث باسمهم جميعاً حين كتب يقول: كان الطيب نسيج وحده لأنه يأسر بانسانيته قبل أن يبهر بموهبته، فقد جسد فى شخصه كل ما هو محبوب من صفات أهل السودان: نبل وكرم وتواضع وإيثار وبعد عن التكلف. وقال عنه الأديب خالد عويس: عظمته لا تكمن فى ابداعه الأدبى والروائى وإنما فى انسانيته وتواضعه المدهش وزهده. وقال عنه صديقه وصفيه محمد بن عيسى وزير الثقافة ثم الخارجية فى المملكة المغربية: انه أشبه بالولى الصالح، وقد عرفه الرجل معرفة لصيقة فى منتديات أصيلة على شاطئ الأطلسى التى تتخير لها الحكومة المغربية أهل الفكر والأدب والذوق، وكان الطيب أحد فرسان المنتدى الميامين لا يكتمل العقد الا بحضوره، وأحسب أن بن عيسى سيحزن لموته أكثر مما يحزن كثير من أهل السودان. ونحن نغفر لأبى الطيب المتنبى كثيرا من صفاته الشخصية غير المحبوبة مقابل ذلك الشعر الرفيع واللغة الجزلى والحكمة الشرود التى استبطنت أعماق النفس البشرية، فما بالك بمبدع جمع مع تلك المواهب الراقية زهد أبى العتاهية وروحانية الغزالى وموسوعية الجاحظ وحلم الأحنف بن قيس وأدب اخوان الصفا. ذلك هو الطيب صالح جمع بين الموهبة الفذة والانسانية الرائعة والذوق الرفيع. والذى يصبر على فهلوة القبطى المصرى، منسى، الذى ادعى ذات مرة أنه رئيس الوفد المصرى لمقابلة ملكة بريطانيا ولم يكتف بذلك بل سلم عليها ووقف يحادثها مدة أطول مما ينبغى فى عرف البروتوكول الانجليزى العتيد حتى تعطل من ورائه صف الضيوف الذين ينتظرون دورهم فى مصافحتها، ومن بينهم كان وزير خارجية السودان محمد أحمد محجوب! من يصبر على ذلك لا بد أن يكون من أهل الحضرة المباركة الذين لا يعرفون الغضب ولا يكترثون لهفوات البشر ولا يأبهون للقيل والقال! وكتب الطيب كتيبا فى غاية الامتاع عن ذكرياته مع منسى الذى دخل بريطانيا قبطيا معدما وخرج من الحياة غنيا يمتلك الضياع والخيول ومتزوجاً من احدى بنات اللوردات وعاش فى ارقى أحياء لندن وهداه الله الى الاسلام فى آخر عمره، وأصر الطيب على أسرته أن يدفن فى مقابر المسلمين فاستجابوا له، رحمه الله.
    أما روعة أدبه فذلك مربط الفرس الذى ينبغى أن يقف المرء أمامه حاسر الرأس معترفاً ومتأدباً، فالزمان لا يجود بأمثال هؤلاء كثيراً، فروايته «موسم الهجرة الى الشمال» تقف واحدة من مئة رواية هى أبدع ما كتب فى تاريخ الأدب الانسانى مع روائع سوفوكليس وهوميروس ودانتى وتولستوى وشكسبير وفاوست وأنطون شيخوف وجويس وفرانز كافكا وايميلى برونتى وجين أوستن وشارلس دكينز وارنست همنجواى وجبرائيل ماركيز ونجيب محفوظ وشنوا أشيبى، ومن أحسن رفقة من هؤلاء فى دنيا الأدب والقصة؟ ووصفت أكاديمية الأدب العربى فى دمشق رواية «موسم الهجرة» بأنها أهم رواية عربية فى القرن العشرين؛ وترجمت بعض كتبه خاصة رواية «موسم الهجرة» لأكثر من ثلاثين لغة. وقد اعترف بمكانته الأدبية الروائى البريطانى من أصل تركى، موريس فرحى، قائلاً: ان الطيب كاتب عبقرى وأديب بارز ومثله لا يتكرر فى العالم العربى والشرق الأوسط،، وقال مثل ذلك الكاتب السورى حنا منيا: أمثاله من عباقرة الأمة ستذكرهم الأجيال القادمة ولن يتكرروا. ووصفه الكاتب المصرى المدقق، رجاء النقاش، الذى يعزى له أنه أول كاتب عربى مرموق لفت النظر الى رواية «موسم الهجرة»، وصفه بأنه «عبقرى الرواية العربية». ونال الطيب عدة جوائز على أعماله الباهرة من مصر والمغرب وقطر. وقد رفع الطيب صالح بموهبته اسم السودان عاليا فى فن الرواية العربية حتى ما عاد أحد يشتغل بفن القصة والرواية لم يسمع بالطيب صالح أو يقرأ له بعض قصصه. والطيب مقل فى كتاباته فلا تزيد كتبه الروائية عن خمسة أو ستة، ينطبق عليه بيت الشعر المشهور: بغاث الطير أكثرها فراخاً *** وأم الصقر مقلاة نذور «أظنه للمتنبى». سألته جريدة «الشرق الأوسط» ذات مرة: هل تحب الكتابة؟ فأجاب دون مراوغة: أكرهها مثل الموت، ولا أكتب إلا إذا بلغ السيل الزبى! فالطيب لا يحترف الكتابة ولا يتعيش منها، ولكن عندما تتخلق الفكرة فى داخله وتنضج وتؤرقه ليلاً ونهاراً يضطر إلى إخراجها من ذهنه وفكره الى الوجود مكتملة النمو ناضجة السباكة مثل ما تلد الأم الطفل بعد تمام حمله. وأحسب أن طلحة جبريل كان مصيباً عندما رثى الطيب صالح فى مقال جيد ينضح بالعاطفة والحزن، استشهد فيه بمقولة للطيب نفسه «الشخص الذى يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع فى أعماقه، والابداع نفسه هو بحث عن الطفولة الضائعة»؛ يعنى الطفولة البريئة الطيبة الوادعة التى يسخر منها السياسيون المحترفون، قاتلهم الله أنى يؤفكون!
    أول ما قرأت للطيب كانت رائعته «موسم الهجرة الى الشمال» فى منتصف الستينات وأنا طالب بكلية الآداب فى جامعة الخرطوم، أهدانى أحد الزملاء مجلة «حوار» اللبنانية التى نشرت القصة ونصحنى بقراءتها ولو لا ثقتى فى ذوقه الأدبى لما حفلت بها فقد كنا مشغولين فى ذلك الزمن الجميل عقب ثورة أكتوبر بمقارعة الشيوعيين سياسياً وأكاديمياً «جلال الدين الطيب وعبد الله على ابراهيم وخالد المبارك وعثمان النصيرى»، ولم يكن لدينا وقت نضيعه فى سفاسف الأدب والشعر والمسرح! وندمت على ذلك ندامة الكسعى فقد كان لى ميل للآداب والفنون هجرته فى مهده عندما اشتبكت مع الحركة الاسلامية وأنا فى أول العهد بكلية المعلمين الأولية فى بخت الرضا، ولكنى عوضت شيئا من ذلك عندما أخلدت الى نفسى فى لندن ووجدتنى فى رفقة كريمة من بعض المحبين للأدب والمسرح أمثال عمر شمينا وعلى سليمان وعمر عباس عجبنا الذى جاء لممارضة أخيه المصاب بالفشل الكلوى. أمسكت بالمجلة بعد صلاة العشاء فى حجرتى بداخلية بحر الغزال ولم أضعها من يدى حتى أكملت الرواية المبهرة عند طلوع الفجر، وشعرت بمتعة لا حدود لها أحسست بها فى حلقى وجوفى، ولو طاوعت نفسى على سجيتها لصحت فى فناء الداخلية كما كان يصيح الزين فى رواية «عرس الزين» عندما يكتشف إمرأة جميلة تستحق الإعلان عنها. وغفرت لمجلة «حوار» خطيئتها فى إنشاء علاقة مريبة مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ان كانت تنشر مثل ذلك الادب الرصين، فقد كانت «حوار» مجلة متميزة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وتكررت تجربتى بعد ذلك مع كل أعمال الطيب صالح: عرس الزين، ودومة ود حامد، وبندر شاه، ومريود، ومنسى: انسان نادر على طريقته الخاصة الخ... وما عدت أحتاج الى من يوصينى بقراءة روايات الطيب صالح.
    أجد أن سر عبقرية الطيب صالح تكمن فى لغته الشاعرة المموسقة التى لا تزيد كلمة عما يجب ولا تنقص، وفى خياله المجنح الذى يخلط بين الأسطورة والواقع المعيش حتى يعلو القارئ مع هذا وينزل مع ذاك دون أن يحس بالفرق، وفى حبكته القصصية المتينة التى أخذها عن مناهج الرواية الغربية المتطورة، وفى تضمينه أسئلة عميقة عن سر هذا الكون، وعن الخير والشر، وعن السعادة والشقاء، وعن الحياة والموت، وعن مغزى الحياة البشرية، وعن أسرار النفس البشرية. وهى ذات الاسئلة التى أوجعت الفلاسفة والمفكرين والأدباء العظام، ولا يهم ان وجدوا لها اجوبة شافية أم لم يجدوا، وهل لكل من هذه الأسئلة العويصة جواب واحد أم عدة أجوبة؟ فطرح الأسئلة الكبيرة فى حد ذاتها يدل على عقل كبير وعلى تجاوز لماديات الحياة وشهواتها. وأنعم بذلك من سموٍ فكرى ونفسى مرهق. ألم يقل أبو الطيب: ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله *** وذو الجهالة فى الجحيم ينعم! أشعر من قراءتى أن الطيب يبحث بإصرار عن الجانب الخير فى البشر، ويريد أن يقول لنا فى كل انسان بذرة من الخير فعليك أن تبحث عنها حتى تجدها، وعند ذلك تستطيع ان تتعايش بسلام مع ذلك الانسان وتغفر له ذنوبه وتحبه لأن الخير يجمع بينكما، ولأن الحساب ليس مهمة البشر وليس مكانه هذه الدنيا، ولأن حاجيات النفس أهون من أن نتقاتل فيها ونتفانى. وبحث الطيب عن بذرة الخير فى كل أبطاله: مصطفى سعيد، بت مجدوب، حسنة بت محمود، الشيخ الحنين، الزين «العوير»، الطاهر ود الرواسى، وأخيرا منسى. ويبدو أنه وجدها عند كل منهم لذلك خرج متصالحاً معهم ومع نفسه.
    ألا رحم الله الطيب صالح بقدر ما أمتع قراءه، وبقدر ما أفادهم من تعليم وتنوير، وبقدر ما رفع رأس السودان عاليا فى مجال الأدب والقصة، وبقدر ما ضرب من قدوة صالحة فى التسامح والتعايش والمحبة بين الناس. اللهم نشهد وأنت الأعلم بأن الطيب قد جاءك بروح مؤمنة تقية، وبقلب أبيض لا يعرف الغل والحسد، وبنفس سمحة كريمة معطاءة، وبحب لكل ذى كبد رطبة. اللهم أغفر له ذنبه وزد فى حسناته وتوله برحمتك التى وسعت كل شئ، وأجزل له عطاءك بإنزاله مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وبارك فى زوجه وولده وأهله، وأحسن عزاء صحبه من رفاق الكلمة والقلم فقد زلزلتهم الفاجعة.
                  

02-22-2009, 06:10 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)


    السودان ودّع مؤلف «موسم الهجرة الى الشمال» ... الطيب صالح شيِّع بمشاركة رسمية وشعبية
    <
    >أم درمان (السودان) - عصام أبو القاسم الحياة - 21/02/09//


    يبدو أن اغتراب الراحل الطيب صالح الطويل أبعده كثيراً عن مواطنيه إذ بخلاف ما كان متوقعاً شيع جثمانه بحضور عدد محدود من المواطنين لم يتجاوز ثلاثة آلاف، وهي نسبة أقل عن تلك التي شاركت في موكب المطرب عثمان حسين والتشكيلي أحمد عبدالعال والمطرب مصطفى سيد أحمد وغيرهم من مبدعين فقدهم الــسودان فــي الفترة الماضية. وربط البعض بين غربة الطيب صالح الطويلة والمشاركة المحدودة للمواطنين في تشييعه، فــعلى رغــم أن يــوم دفنه صادف اجازة رسمية إلا أن مجموعة محدودة من الرســميين والمبدعين شــاركت في دفنه.

    وتقدم الموكب رئيس الجمهورية ورئيس حزب الأمة الصادق المهدي الى جانب اسرة الراحل وأعضاء اتحادات الكتّاب والأدباء والصحافيين والموسيقيين. الجثمان الذي وصل الى مطار الخرطوم عند الرابعة صباحاً بتوقيت السودان استقبله وزير الدولة بوزارة الثقافة أمين حسن عمر واللجنة التنفيذية لاتحاد الكتّاب السودانيين ورئيس اتحاد الفنون الدرامية وأسرة الراحل.

    وكان رحيل الطيب صالح خلف حزناً عميقاً في المشهد الثقافي السوداني حيث تقاطرت جموع المثقفين والفنانين الى مركز عبدالكريم ميرغني والى منزل شقيق الراحل محمد بشير صالح بأم درمان منذ الصباح، ووصل سفراء مصر وفرنسا والإمارات والسعودية للتعزية وقطعت الإذاعة برامجها وقدمت حوارات سابقة مع الأديب الراحل وحاورت النقاد والكتّاب حول سيرته وطبعت الصحف الصادرة الخميس صفحاتها بالأسود وبصور للراحل ونشرت حوارات سابقة معه كذلك، وألغت مراكز فنية وثقافية عدة برامجها الدورية.

    وتلقى اتحاد الكتّاب السودانيين برقيات تعازي من الكتّاب العرب والأفارقة، كما قدم العزاء رؤساء الأحزاب الســياسية، الاتــحادي الديــموقراطي والحزب الشــيوعي الذي قال أمينه العام محمد ابراهيم نقد معلقاً: «كُتب علينا أن نستقبل مبدعينا في توابيت خشبية». وتلقت وزارة الثقافة برقيات التعازي من وزراء الثقافة بالعالم العربي كما تقبّل المجلس القومي للثقافة التعازي بمقره في الخرطوم.

    وفي تصريحات الى «الحياة» وصف الكاتب عبدالله علي ابراهيم الراحل بـ «النوارة» وقال: «لقد فقدنا نوارة الثقافة السودانية... لكن إن كنا نريد وعياً حقيقياً... أشمل وأوسع بالطيب صالح فنتوقع من دارسيه في الغرب والشرق على السواء ألاّ يواصلوا التعامل معه كممثل للأدب السوداني وكفى، وأن ينتقلوا في دراساتهم له كي يبلغوا مسام السرد السوداني، ولربما أعادنا هذا الى دراسة متجددة لثلاثيته التي تكاثر عليها غبار الإهمال، فأصبح الطيب صالح ضحية الطيب صالح لأن إبداعه كله لا يؤخذ بشكل جدي أو مثالي إلا في موسم الهجرة الى الشمال».

    ومن سكرتارية جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي قال مرتضى الغالي أن عمله في لجنة الجائزة التي تُقدم منذ العام 2003 أتاح له فرصة طيبة لمعرفة الراحل وقال: «ظل الطيب صالح ملحاً علي أن أسمه لا يستحق أن تسمى به جائزة، وعلق عندما علم بأمر ترشيحه لنوبل وهو على فراش المرض أن في العالم من هو أحقّ بها منه».

    وأضاف مرتضى الغالي: «وصلتا الكثير من رسائل التعزية من مختلف أنحاء العالم ويصعب حصرها الآن». وفي ما يتعلق بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي قال الغالي: «رحيل الطيب صالح أدعى لاستمراريتها».

    من جانبه وصف المحرر الثقافي لصحيفة «الرأي العام» عيسى الحلو رحيل الطيب صالح بالمفجع، وقال: «الطيب ضــمير أمته ووجدانها الصافي وقد نقل ثقافتنا القومية الى الفضاء الكوني لأنه قبض على ذلك البعد الذي يجعل الأدب المحلي أدباً عالمياً».

    أما الناقد أحمد الصادق فقال ان على الكتّاب السودانيين معادلة غياب الطيب صالح، وشغل الفراغ الذي خلفه كصوت أدبي سوداني في المنابر الثقافية العالمية، مشيراً الى أن الطيب صالح قدم صورة نموذجية للكاتب السوداني بتواضعه وجمال خلقه وطيبته، وباقتداره الكبير في الإبداع الفني ولحد كبير استطاع أن يحمل العالم على قياس الشخصية السودانية بشخصيته الفذة، فصرنا نسمع من يقول لك: «ان هذا من بلد الطيب صالح».

    الروائي عبدالعزيز بركة قال: «فقدنا سرفانتيس الرواية السودانية، وهو أمر لا يمكن تعويضه بأي مستوى». أما أمير تاج السر الروائي الذي قدم من دولة قطر للمشاركة في دفن «خاله» قال: «لقد فقدت أحبّ شخص إليّ في الوجود وأنا في غاية الحزن، كان أنيساً طيباً صالحاً حميماً».

    وكان عبدالباسط عبدالماجد وزير الثقافة الأسبق قال باكياً وهو يقف قرب قبر الراحل «الطيب الصالح الجميل... كان أكثرنا علماً ونبلاً وأصالة»، أما حسن أبشر الطيب أحد رفقاء الطيب صالح ورئيس سكرتارية الجائزة التي تحمل اسم الراحل فقال: «لقد دفنا اليوم أعظم وزارة ثقافة في تاريخ السودان الحديث» وعدد مآثره.


                  

02-22-2009, 06:13 AM

waleed nayel
<awaleed nayel
تاريخ التسجيل: 10-31-2008
مجموع المشاركات: 1170

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)
                  

02-22-2009, 06:19 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: waleed nayel)

    سبت 21 فبراير 2009م، 26 صفر 1430هـ العدد 5622


    طبت أبا زينب في مرقدك المدثَّر بالمحبَّة

    د.عبد الوهاب الافندي

    (1)
    هذا مقام لا يصلح له إلا الصمت. وإن كان لا بد من حديث مودع مفطور الفؤاد، فليكن همساً كانسراب النيل قبالة العفاض وكرمكول وأم دويمة وبربر. فلمثل هذا اليوم خلق الصمت الدامع. ولمثله أيضاً كانت القوافي وكل أحابيل البلاغة.
    (2)
    كان صباح يوم جمعة: أذكر ذلك جيداً، فقد كنت في طريقي إلى المسجد. كنت تابعت على القناة السودانية مشاهد عودة سامي الحاج إلى وطنه وسمعته يحكي للرئيس السوداني عمر البشير تفاصيل رؤيا رآها معتقل عربي في غوانتامو عن قبر قيل له إنه لوالد الطيب صالح -رحمهما الله- وإن بركات كثيرة ستفيض على السودان من صاحب ذلك القبر المشهود بصلاحه كما قيل لصاحب الرؤيا في منامه. هاتفت الطيب لأبلغه هذه الحكاية الغريبة، فكان أول قوله: هذا كل ما أحتاجه، أن يصبح اسمي متداولاً في غوانتامو فيظن بي القوم الظنون!
    (3)
    ضحكنا طويلاً ثم غلبت النزعة الصوفية على الطيب فانتقل الحديث إلى رؤيا غريبة رآها هو ذات ليلة في الجنادرية، كانت أشبه بمقطع من روايته «ضو البيت»، كتب عنها في مجلة «المجلة» يقول: «رأيت فيما يرى النائم أنني في أرض خلاء في المدينة المنورة. لم تكن المدينة المنورة كما أعرفها. وإذا شجرة ضخمة كأنها شجرة زيتون عظيمة الجذع، ممتدة الفروع متدلية الأغصان، وإذا عرق من عروقها ظاهر فوق الأرض، منتفخ في شكل بيضاوي، عليه بياض كأنه الجير، وإذا صوت يهتف بي: -هذا قبر الرسول صلى الله عليه وسلم-. عجبت أن الرسول مدفون في أصل شجرة. ثم إذا أنا في الحرم النبوي في الروضة الشريفة كما أعرفها إلا أن الضريح كان في موضع المنبر». ثم ينتقل المشهد في ما يشبه السريالية إلى لندن أيام شبابه ثم القاهرة.
    (4)
    كشف لي الطيب حينها أن المجلة حذفت مقاطع مهمة من روايته عن الرؤيا مما أفقدها معناها، واستخلصت منه وعداً بأن يسمعني الرواية كاملة عند أول لقاء لنا. جاء ذلك اللقاء بعد فترة قصيرة في منزل الراحل الكريم محمد الحسن أحمد، ودار الحديث مرة أخرى عن رؤيا غوانتنامو، ولكننا لم نخلص إلى الحديث عن رؤيا الجنادرية. فكان ذلك آخر العهد بهما مثلما كانت تلك آخر محادثة هاتفية.
    (5)
    التقيت الطيب عليه من الله شامل الرحمة لأول مرة قبل أكثر من عقدين من الزمان حين دعاني عبر الصديق محمد ابراهيم الشوش لتناول شاي العصر في أحد فنادق بيكاديلي العريقة في قلب لندن، وقد كان هذا طرفاً من كرمه المعهود وإكراماً لصديقة الشوش الذي زكاني عنده، إذ لم تكن بيننا معرفة سابقة. ولكن من يلتقي الطيب مرة تكفيه.
    (6)
    لم تذهب معارضته للحكومة التي كنت أمثلها في لندن وقتها شيئاً من الود بيننا، بل بالعكس، تكثفت لقاءاتنا وحواراتنا في تلك الفترة، وازددت به معرفة ومنه قرباً. وقد أشار إليَّ حين أورد مقولته التي ذهبت مثلاً عن عقلاء النظام ومجانينه وذلك عندما عتب عليه الأخ حسن مكي في ندوة امبريال كوليدج لغيابه الطويل عن السودان فقال إن فلاناً ظل يغريني بالزيارة فقلت له أخشى أن أقع في قبضة مجانين النظام فلا يدركني عقلاؤهم إلا بعد فوات الأوان.
    (7)
    بدوره ظل الطيب يغريني بورود أصيلة، تلك الواحة الثقافية الوارفة الظلال على شاطئ الأطلسي، وقد عاتبني في إحدى المرات لأنني بعد أن قبلت الدعوة ووصلت التذاكر اخترت السفر إلى القرن الافريقي للقاء قادة تلك البلاد في سعينا المحموم لتقريب السلام من بلادنا، فقال: تستبدلون الذي أدنى بالذي هو خير؟ وقد عرفت تماماً ما كان يعني حين حطت رحالي في أصيلة بعد قرابة عقد من الزمان، فسعدت لأكثر من أسبوع بصحبته والأخ الكريم محمود عثمان صالح، فلم يكن هناك أقرب إلى فردوس أرضي للعقل والنفس والروح من تلك المرابع سقاها الله، خاصة في صحبة الطيب ومحمود!
    (8)
    في أي مكان حل كان الطيب يشع محبة وسخاء نفس فلا يملك من يخالطه إلا أن يحبه. وقد كانت له مع ذلك حلقة من الأصفياء يسعد بقربهم، كان منهم في لندن محمد الحسن أحمد وحسن تاج السر وبونا ملوال، ثم انضم إليهم مؤخراً خالد فتح الرحمن. وقد أكرموني بغير استحقاق بالدعوة إلى كثير من مجالسهم التي تشبه واحة إنسانية وثقافية تحفظ من أصالة السودان عبقاً لا أخاله أصبح موجوداً حتى في داخل الوطن. لهذا فإن فقد الطيب بعد محمد الحسن خلال أشهر هو خسارة شخصية قبل أن تكون خسارة لأديب مرموق ورمز شرف به السودان وحق له.
    (9)
    هناك أدباء وشعراء ومبدعون كثر يبهر المرء انتاجهم حتى إذا لقيهم تمنى لو لم يفعل. ولكن الطيب رحمه الله كان نسيج وحده لأنه كان يأسر بإنسانيته قبل أن يبهر بموهبته. فقد جسد في شخصه أجمل ما محبوب في السودان وأهله من نبل وكرم وتواضع وإيثار وبعد عن التكلّف. فلم يكن فقط سفير السودان الأول كما قيل، بل كان السودان، كما يحب السودان أن يعرف، ماشياً على قدمين.
    (10)
    في حياته كتب الطيب مراثي كثيرة لأحبة رحلوا: شعراء وأدباء وكتاب ومشاهير. ولعل رائعته عن أكرم صالح تعتبر تحفة أدبية تستحق مقام أفضل رواياته. ولكن من أبلغ ما كتب كان رثاؤه لتاج السر محمد نور «أخي وصديقي، ابن عمتي وصهري من بقية النفر الأبرار الذين مشوا على الأرض هوناً، ونادتهم الحياة ونادوها بلسان المحبة». يقول الطيب في تلك المرثية: «ما أوسع الحزن وما أضيق الكلمات.. ألا يعزيك أنه رحل عن الدنيا قرير العين راضي النفس.. كان ذاهباً إلى لقاء ربه في صلاة الجمعة، مقبلاً إليه بكليته، على أهبة الاستعداد للسفر».
    (11)
    هذه المقولة تصلح كذلك لرثاء الطيب عليه شآبيب الرحمة، ومعها مقولة الطاهر ود الرواسي (أحد شخصيات رواية «ضو البيت» عن ما ورثه عن أمه من محبة: «ويوم الحساب، يوم يقف الناس بين يدي ذي العزة والجلال، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم وهجودهم وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجلال والجبروت، عبدك المسكين، الطاهر ود بلال، ولد حواء بت العريبي، يقف بين يديك خالي الجراب مقطع الأسباب، ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة».
    (12)
    اللهم إنا نشهد أن عبدك أبا زينب الطيب قد أفاض على خلقك من المحبّة والرحمة والود ما ألّف حوله القلوب، اللهم فأوجب له الجنة كما حدث رسولك عليه صلواتك وسلامك في من شهد له الناس بالخير، وأجمعنا وإياه ومن نحب في أعلى الفراديس عطاء بغير حساب، ومغفرة لا تغادر ذنباً، فقد كان في عفوك طامعاً، ونحن كذلك.

    ------------------------------
    السبت 21 فبراير 2009م، 26 صفر 1430هـ العدد 5622

    أدباء مصر يبكون الطيب صالح ويقترحون جائزة باسمه


    القاهرة : اسماء الحسيني

    ساد الحزن والوجوم الأوساط الثقافية المصرية لخبر وفاة الأديب السودانى الكبير الطيب صالح ،حيث كان يستعد أدباء مصر ومثقفوها لحملة كبيرة لمناصرته من أجل الفوز بجائزة نوبل التى تم ترشيحه لها مؤخرا ،وقد إحتلت صورته وخبر وفاته صدارة الصحف المصرية أمس ،وكتبت صحيفة الأهرام المصرية فى صفحتها الأولى تحت عنوان: (الطيب صالح ينهى «هجرته للشمال»..ويودع الحياة فى شتاء لندن)
    فى هدوء وصمت ميزا شخصيته ومسيرة حياته رحل عن عالمنا امس الأديب السودانى الكبير الطيب صالح عن عمر يناهز (80عاما)،بعد رحلة حافلة بالعطاء والإبداع ،رحل فى زمهرير شتاء لندن ،ليكتب آخر فصل من فصول هجرته إلى الشمال ،تماما مثل إسم روايته الرائعة «موسم الهجرة إلى الشمال «التى تعد أحد أهم الروايات التى كتبت فى القرن العشرين فى العالم العربى ،هذه الهجرة التى قادت مشاعره وأحاسيسه وخياله إلى الكتابة عن بلده السودان الذى يقبع جنوبا ،يوم أحس بغربة خانقة فى لندن ،التى هاجر إليها للعمل كمذيع بهيئة الإذاعة البريطانية ، فولدت فيه الرغبة فى مد الجسور مع وطنه وعوالمه الأولى بالكتابة عنها ،لعل ذلك يبعث فى نفسه شيئا من الطمأنينة والإحساس بالأمان .
    وإلى الطيب صالح ينسب الفضل فى تقديم الثقافة والأدب السودانى إلى مختلف أنحاء العالم ،من خلال رواياته ومؤلفاته وكتاباته ،التى ترجم العديد منها إلى عدد من اللغات ،ومن بينها «دومة ود حامد «و»بندر شاه «و»عرس الزين «وغيرها من الأعمال المثيرة للدهشة ،التى قدمت لنماذج وبيئات إنسانية شديدة الخصوصية ،والتى توالى صدورها منذ بدء ظهوره على الساحة الأدبية فى أواخر الخمسينات من القرن الماضى،وقدمها فى مصر بكل حماس الراحلين أحمد بهاء الدين ورجاء النقاش .
    وتضيف «الأهرام «:هناك إجماع على شخصية الطيب صالح الإنسانية المتفردة ،يقول عنه الكاتب والأديب السودانى الدكتور حسن أبشر الطيب :ماعرفت إنسانا فى حياتى إسمه مثل وصفه مثل الطيب صالح ،فهو طيب إلى منتهى حدود الطيبة ،وصالح تتجسد فيه سمات الشيوخ المتصوفين من عباد الله الصالحين ،وهو ذات الأمر الذى يؤكده الروائى المصرى محمد البساطى ،الذى يقول :إن الطيب صالح تمتع بحب كبير بين المثقفين المصريين بسبب شخصيته الظريفة وتواضعه وبساطته الحقيقية ،فهو أديب بسيط غير متكلف وغير مصنوع ،وأحد الكبار الأفذاذ ،الذين نجحوا فى تصوير مفردات البيئة الشرقية وآمالها من خلال شخصية مصطفى سعيد فى «موسم الهجرة إلى الشمال «
    وتقول صحيفة» الأهرام «:أدب الطيب صالح مثله مثل أدب نجيب محفوظ ويحيى حقى وغيرهما من الأدباء العظام ،الذين تؤكد أعمالهم فكرة أن المحلية والخصوصية هى التى تقود إلى العالمية ،وليس الإغتراب ومحاولة تقليد الآخرين ،وقد عبر الطيب صالح بصدق كما يقول الروائى المصرى فؤاد قنديل عن سمات البيئة السودانية المحلية ،وكشف عن قيمها ومفرداتها ومعالمها وطقوسها ولهجاتها فى نسق سردى مبهر ،كما كشفت أعماله عن شخصية ثرية غير متعصبة وغير متحجرة ،وقد لاقت روايات الطيب صالح قبولا واسعا فى الغرب كما الشرق ،لما يتمتع به من ثقافة متحضرة تجاه العالم والآخر على حد تعبير الناقد الكبير الدكتور رمسيس عوض .
    يصف الطيب صالح فى روايته الأخيرة «منسى «بطل الرواية فيقول : فيه خصلتان حميدتان ،حبه للبسطاءوحفاظه للود «ولعله كان يتحدث عن شخصيته هو ،وعن ذلك يقول الناقد الكبير الدكتور سيد البحراوى :إن الطيب صالح إستطاع بقدرة فذة الغوص فى الشخصية السودانية ،وأن يقدم مرآة صادقة عن هموم ومعاناة المجتمع السودانى ،ومعاناة المثقف العربى بشكل أكبر مابين الوطنية والتبعية ،ودعا البحراوى الهيئات الثقافية العربية إلى إعادة طبع أعمال الطيب صالح طبعة شعبية ،حتى تصل إلى الأجيال الجديدة .
    وفى السودان عم الوجوم والحزن العميق جميع الأوساط ،حزنا على فقد من قدم إلى العالم مصطفى سعيد وود المجدوب وملود وبندر شاه ومنسى وغيرها من الشخصيات التى لاتنسى القادمة من أعماق السودان ،ونعاه الأدباء والمثقفون ورئاسة الجمهورية ،ولازال الجميع فى حالة إنتظار لوصول جثمان الرجل «الأسمر الذى يمتزج خط الإستواء فى دمه باللبن العربى ،الرجل الذى جاء من حيث الأساطير ومياه النيل «على حد وصف الطيب صالح لمصطفى سعيد بطل رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال «،وهم الذين كانوا يترقبون فوزه بجائزة نوبل ،التى تم ترشيحه لها مؤخرا.
    وفى صحيفة الوفد كتبت فى صفحتها الأولى :إن الراحل كان من أبرز مبدعى جيل الستينات ،وأن رواياته «موسم الهجرة إلى الشمال «و»عرس الزين «و»دومة ود حامد « حققت شهرة واسعة وتأثير كبير .
    أما صحيفة المصرى اليوم فقالت :إنه يقف فى صف واحد مع جبران خليل جبران وطه حسين ونجيب محفوظ ،وله بصمات واضحة فى تقديم الأدب والثقافة السودانية لأنحاء العالم ،من خلال رواياته التى ترجم العديد منها إلى اللغات العالمية .
    وقال روائيون وشعراء مصريون إن رحيل الأديب السوداني الطيب صالح أفقد الرواية العربية رافدا أساسيا للعالمية والتجديد، وطالبوا بإعادة قراءة أعماله التي أبدعها بالعامية السودانية، واقترح بعضهم إطلاق جائزة باسمه للراوية العربية.
    رائد التجديد
    الناقد الدكتور جابر عصفور قال إن الطيب صالح واحد من الأعلام الكبار الذين يتصدرون الصف الأول من إبداع الرواية العربية، وهو مبدع عربي وعالمي في نفس الوقت، ورغم قلة إعماله لكنه ترك أثرا كبيرا في الإنجاز الإبداعي للراوية العربية.
    وأشار إلى أنه كان أول من فتح أفقا جديدا للرواية القصيرة المحملة بهموم العلاقة بين الشرق والغرب بكل صراعاتها واختلافاتها، ولعل روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» دليل على عبقريته في تناول هذه العلاقة.
    وأضاف عصفور أن الأديب الراحل «لم يكن روائيا عربيا وعالميا فحسب، بل كان مثقفا كبيرا وكاتب مقالات من طراز رفيع وكانت له مقالات متميزة في مجلة المجلة وخاصة مقالاته عن المتنبي، التي تصلح لأن تشكل كتابا مستقلا ومتميزا».
    وأشار الناقد المصري إلى تميز أعمال صالح بالتجديد والتطوير والانفتاحية التي كانت سمة أعماله، وقال «كان روائيا لا يكف عن متابعة الإبداع الجديد في كل المجالات وكان دائما في صف التجديد وخاصة إذا تميز الإبداع بما كان يسميه -رحمه الله- الأصالة التي كان يرى أنها الوجه الآخر من الإبداع».
    شخصية عذبة
    الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وصف الطيب صالح بأنه «كان أحد الأعمدة المهمة للرواية العربية» وقال «لقد فقدنا صديقا مقربا وشخصية عذبة لن تتكرر، ولا نعزي أنفسنا فقط أو شعب السودان، وإنما نعزي الأدب العربي والأمة العربية».
    وأعرب عن حزنه لتوالي رحيل المثقفين العرب الكبار في العامين الأخيرين، وقال «يبدو أننا نفقد القامات الكبيرة في الأدب العربي برحيل محمود درويش ورجاء النقاش والآن الطيب صالح، وغيرهم، لكن عزاءنا في إبداعاتهم التي تركوها لنا والتي يجب أن نحيي فيها سيرتهم وفكرهم».
    وأوضح الأبنودي أن أعمال الأديب السوداني الراحل غير المعروفة كثيرا للناس مثل «عرس الزين» و»بندر شاه» والتي كتبها بالعامية السودانية، تحمل إبداعا أدبيا لا يقل عن روايته الأشهر «موسم الهجرة إلى الشمال» التي أخذت شهرتها لأنها كتبت بالفصحى.
    ودعا المثقفين ومحبي الرواية والأدب إلى إعادة قراءة أعمال صالح التي كتبها بالعامية السودانية وتحديدا بلهجة قريته، خاصة وأنها عامية خفيفة غير موغلة في سودانيتها.
    وأشار الأبنودي إلى تعلق صالح بالشعر، وقال إنه كان كنزا في الشعر، وكان يحفظ معظم أشعار القبائل السودانية، والأشعار العربية، وكان شديد الالتصاق بالمصريين وشعرهم «وكان يقول لي دائما «حذار يا صديقي فإننا نغترف من نفس البئر».
    وحول آراء البعض بأن الطيب كان يستحق جائزة نوبل في الأدب التي لم ينلها، قال الشاعر المصري الكبير «إن معظم أعمال الطيب تستحق تقييما وتكريما عالميا، فقد أنجز إنجازا فريدا في الرواية العربية رغم قلة أعماله وكان غارقا في التراث العربي لأبعد الحدود فضلا عن اطلاعه على الأدب العالمي».
    أصلان والبساطي
    أما الروائي إبراهيم أصلان فأشاد بقيمة الراحل ومكانته، وقال إنه «كان كاتبا صاحب موهبة استثنائية في الأدب العربي وصاحب أعمال إبداعية شديدة الأهمية تجاوزت النخبة في تلقيها إلى رجل الشارع العام».
    بدوره، قال الروائي محمد البساطي إن الطيب صالح تمتع بحب كبير بين المثقفين المصريين بسبب شخصيته الظريفة وتواضعه وبساطته الحقيقية، فهو أديب بسيط غير متكلف وغير مصنوع.
    وأشار إلى أن أدب صالح مثله مثل أدب نجيب محفوظ ويحيى حقي وغيرهما من الأدباء العظام الذين تؤكد أعمالهم فكرة أن المحلية والخصوصية هي التي تقود إلى العالمية، وليس الاغتراب ومحاولة تقليد الآخرين.

    -----------------------------------------


    السبت 21 فبراير 2009م، 26 صفر 1430هـ العدد 5622


    موسم الهجرة إلى الرفيق الأعلى..

    د. أحمد خير
    [email protected]
    الطيب «الصالح» ذهب وابتسامة على شفتيه! فارق هذه الدنيا الفانية فارس القلم والكلمة الطيبة الأديب العالمي الطيب صالح أو «الصالح» كما يحلو أن يسميه بعض الإخوة العرب. أكيد أنه قد فارقها وهو يضحك مع صديق أو قريب أو رفيق، فما رأيتك يا صديق «المتنبي» و«المعري» إلا ضاحكاً أو مبتسماً! كيف لا وأنت قد رافقت المتنبي في غزواته والمعري في محبسيه، مرة طليقاً يحلّق في الأفق وأخرى جالساً تتمعن في أحوال عالمنا العربي وسوداننا المحشور بين المطرقة والسندان!
    لك الله في أعلى عليين بقلبك الصافي الذي ما عرف الحقد ولا مسته كبرياء التربع على قمة الأدب العالمي! يا صالح يا طيب، أراك بسحنتك المشوبة بسمار أرضنا الطيبة ونيلنا الحامل لذكريات صباك! أراك ترفل عائداً لدارك لتبقى بعد أن مل جسدك الترحال! لتبقى بين الرفاق من الذين اتبعوا خطاك أو أولئك الذين طافوا معك القرى والبوادي حاملين الفرحة للقلوب العامرة بحب الحروف المعبِّرة عن واقع كشفت عنه الغطاء وكنت كالنطاسي الذي استبدل المشرط بالحرف فما سالت دماء، بالرغم من سماعنا لأنة المحرومين من ترانيم صرير القلم على الورق ليصور أحلى الكلمات!
    عفواً سيدي إن قصرت في تصوير الطيب صالح الإنسان، لا الكاتب الذي ما جاراه أحد إلا وغلبه في صمت بالرغم من حسد الحاسدين وشماتة الشامتين الفاقدين للحس الإبداعي!
    لقد علمتنا الأيام أن العظماء قد عهدوا أن تلاحقهم الألسن والأقلام، وأن تستمر ملاحقتهم كلما عظم شأنهم واتسعت دائرة شهرتهم! ومن عظمتكم كنتم تقابلون الإساءة بابتسامة، وهذا لعمري صفة من يمتلك الدنيا بين راحتيه، صفة العالم بأن الحياة فيها الأخيار كما فيها الأشرار، وأن خيار الناس من يقول كلمة طيبة في حق من أساءوا إليه!
    كان «وآه من كان» الطيب صالح يؤمن بأن الغد سيأتي مهما طالت اللحظات أم قصرت، لذا فلا بد للإنسان من أن يتوكَّل على الله ويعيش اللحظة ويترك الغد لرب العباد القوي العزيز الذي يدخل الطمأنينة في قلب من يحب من عباده.
    رحل الطيب الصالح وترك سيرته العطرة وأعماله الخالدات التي نحتت في الأدب العربي والعالمي مكاناً لها، ورفعت معها اسم السودان لتتغنى به الحروف والكلمات فتصدح في القاعات والمكتبات ويمتد صداها عابراً القارات ليسمع حتى من به صمم!
    أرى الطيب الصالح يخاطب أعضاء منظمة العرب من خريجي الجامعات الأميركية في حفلها السنوي الذي أقيم في واشنطن وهو يقول بسخريته المحببة إلى النفس «لقد تساءلت قبل وصولي إلى هنا عن الأسباب التي دعت منظمتكم الموقرة تقديم الدعوة لشخصي الضعيف للحضور إلى أميركا لمخاطبتها بالرغم من أنني لم أتخرّج من جامعة أميركية! وبالطبع هناك أفضل مني للقيام بهذا الدور! وبكل أسف لم أجد إجابة سوى أن عالمكم قد أصيب بالجنون، أو ربما أنا المجنون..!». عندها ضجت القاعة بالتصفيق والضحك! ثم تكررت دعوته مرات ومرات وفي كل مرة كانت دائرة الإعجاب تتسع وتتسع!! ذاك هو الطيب صالح الفريد في نوعه، العارف والمتعمّق في خفايا وأغوار النفس البشرية!
    نفتقدك اليوم يا طيب يا صالح بالرغم من أن جسدك الطاهر لم يلامس بعد ثرى وطننا الحبيب الذي كم إشتاق إليك طوال زمن هجرتك إلى الشمال وإلى الغرب والشرق والجنوب! وبرغم الدهشة التي عقدت اللسان، ليس في إرادة المولى ولكن لعظمة الفراق المعمّق للجرح والمتعدي حدود الزمان والمكان! سيفتقدك المقهى الثقافي في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة والجمع الملتف من حولك يستمع ويستمتع بما تحكيه من حكايات عن عالمك وعالمنا في الريف والبوادي والحضر! كما ستفتقدك مؤتمرات جمعية الدراسات السودانية في أميركا وأنت تأتيها حاملاً قلبك المتسع لكل ألوان الطيف، وكان هذا هو سر عظمتك يا طيب يا صالح يا صاحب القلب الطيب والروح الطيبة التي ملّت الإغتراب فعادت لثرى أرضنا الطيبة التي ضمت قبل أيام شاعرنا الأديب الراحل النور عثمان أبكر «رحمه الله رحمة واسعة» ومالنا إلا أن نقول: هنيئاً لأرضنا الطيبة المستقبلة للفرسان في زمن تكسّرت فيه الرماح!
    لك يا طيب يا صالح خالص الدعاء بأن يتقبَّلك المولى قبولاً حسناً بشفاعة سيدنا محمد عليه أفضل السلام، وبدعاء كل مترحم عليك.. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
    ? واشنطن

    لالصحافة
                  

02-22-2009, 06:50 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    التاريخ: السبت 21 فبراير 2009م، 26 صفر 1430هـ

    صباح الخير
    الطيب صالح أكمل مشوار هجرته.. ذكريات ومواقف مع الراحل العبقري

    كمال حسن بخيت
    [email protected]
    غيَّب الموت أحد أهم العلامات البارزة في تاريخ الأدب العربي بشكل عام والرواية العربية بشكل خاص.
    رحل العبقري الطيب صالح .. الذي كان مثل المتنبئ ملأ الدنيا وشغل الناس بروايته الأولى «موسم الهجرة الى الشمال» وبكل ما كتبه من روايات وغيرها.
    والطيب صالح .. هو طيب وصالح.. حقيقة يدخل قلبك دون استئذان وتحبه.
    وتعود علاقتي بالأديب الراحل الصالح والطيب جداً الى منتصف السبعينات. وظللنا نلتقي خارج السودان كثيراً.
    كان لقائي الأول به في بيروت العام 1974، ثم توالت اللقاءات في باريس.. وفي بغداد، وعندما يزور الطيب صالح بغداد أو أية عاصمة عربية.. أو يشارك في أي مهرجان أدبي تلتف حوله كل حسان الدنيا.. وصبايا المغرب العربي بدوله الخمس. أكثر المعجبات بأدبه،، والأكثر اهتماماً به المستشرقات من الفرنجة.. ومن (الخواجات).. وكان السؤال الأساسي الذي يطرح في تلك اللقاءات الحانية.. هو هل أنت مصطفى سعيد.. وكانت إجابات الراحل العظيمة.. ضحكة مهذبة ونفي على استحياء.
    الرواية سلبت عقول أهل الغرب نساءً ورجالاً.. لأنها كانت في تأثيرها مثلها مثل أية (قنبلة) في ذلك الزمان الجميل الذي فاجأ الطيب صالح العالم بتلك الرواية العظيمة التي أحدثت انقلاباً كبيراً في عالم الإبداع الأدبي.. وهي رواية (موسم الهجرة الى الشمال).
    وكان للناقد المصري المتميز الراحل رجاء النقاش دور مهم وأساسي في تعريف القارئ العربي بالعبقرية السودانية الطيب صالح وبروايته الرائعة موسم الهجرة الى الشمال.. إذ وصف موسم الهجرة الى الشمال بالقنبلة التي انفجرت في الأوساط الثقافية العربية.
    ومنذ ذلك التاريخ أصبح اسم الطيب صالح على كل لسان، وكثيرون من أهل الأدب والنقد تحمسوا له.. ووصفوه بالعبقرية الجديدة.. فيما صب عليه البعض اللعنات ووصفوه بالكاتب الفاجر، ووصفه البعض بأنه كاتب من أنصار الأدب الجنسي المكشوف.
    الكتَّاب العرب كان وعيهم متقدماً إذ أحبوا الطيب صالح وأدبه.
    ميزة الرجل العظيم.. أنه كان ممتلئاً حباً بالسودان ومؤمناً بدوره المستقبلي.. لذلك رفض أن يتقدم بأي طلب للحصول على جواز سفر بريطاني وهو الذي مكث في بريطانيا قرابة نصف قرن ومتزوج من سيدة بريطانية أنجب منها ثلاث بنات هن زينب وسارة وسمية.
    والطيب صالح .. هو أحد القلائل الذين انطبق اسمهم عليه.. فهو طيب بحق وكذلك صالح.. وابن صالح.
    الطيب كان يرى في المنام رؤى كثيرة فسرها كثيرون بأنها لا تأتي إلا لرجل صالح.
    لم أر في حياتي الطيب صالح غاضباً أو صوته مرتفعاً.. كان حليماً.. وكان أحد الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.
    كان الطيب صالح.. متصالحاً مع نفسه للحد البعيد،، وكان عطراً للأحباب، وريحانة للمجالس.
    وبعد رحيل أستاذنا محمد الحسن أحمد أحد أهم المقربين للراحل.. خشيت على أحبابه الذين يحبون بعضهم بعضاً.. وأن أقرب المقربين إليه.. حسن تاج السر، ود. الشوش، ود. حسن أبشر الطيب، والأستاذ عثمان محمد الحسن، والشاعر سيد أحمد الحردلو.
    وبعد رحيل الطيب خشيت على هذه ا لمجموعة النادرة الوفاء.. وأسأل الله ان يمد في أعمارهم.
    بعض المقربين إلى الراحل اكدوا أن مصطفى سعيد هو د. الشوش. وآخرون قالوا إنه الحردلو.. بينما آخرون.. اكدوا أنه الطيب صالح نفسه وعندما يسأل الطيب صالح عن شخصية مصطفى سعيد يظهر الحياء على وجهه..
    والطيب صالح كان رجلاً كريماً وأخو أخوان.. لم اجد سودانياً يتمتع بحب الناس مثل الطيب صالح ولم أر رجلاً حليماً ونبيلاً مثل الطيب صالح.
    كان يفرح كثيراً عندما يرى الشعراء السودانيين المشاركين في مهرجانات المربد يزداد عددهم.. وكان دائماً يحرضنا على أن نعطي الشاعرات نصيباً كبيراً في الوفد السوداني.. كان من عشاق شعر مصطفى سند وكان معجباً بالشباب من الشعراء.. تربطه بالشاعر العربي الكبير الراحل نزار قباني.. علاقة حميمة، وكنا نسهر كثيراً أيام المربد في ضيافة نزار قباني.. وتخيل جلسة أدبية أقطابها الطيب صالح ونزار قباني.. وعبدالوهاب البياتي ومحمود درويش ود. سعاد الصباح..!!
    أجريت حواراً طويلاً وعميقاً معه في بداية الثمانينات.. ونشرته على صفحات مجلة «الوطن العربي» التي تصدر في باريس.. ونلت عليه جائزة تقديرية من إدارة التحرير.. كما نشرت معه عدة حوارات لصحيفة «الثورة »العراقية.
    كان يردد لي جملة بشكل مستمر عندما نلتقي في المهرجانات.. «يا خوي البنات المثقفات ديل مطرطشات.. بفتكروا.. انه غازي واني مصطفى سعيد».. وكنت أقول له من جهز غازياً فقد غزا.. ويضحك بصوت مجلجل ويقول ايضا.. نحن المسكونين بالفنون والآداب.. دائما حظنا في المال ضعيف.. وحظنا من المعجبين والمعجبات كبير جدا.. ولو كانت المسألة انقلبت.. كان يكون أحسن. ويكون احسن جداً.. لو أخذنا نصيبنا من هذا ومن ذاك.
    رحم الله عبقري الرواية العربية الطيب صالح باكثر مما قدمه لامته ولشعبه ولاسرته ولأحبائه واسكنه فسيح جناته مع الشهداء والصديقين وحسن اولئك رفيقا.


    ------------------------------------------------

    التاريخ: السبت 21 فبراير 2009م، 26 صفر 1430هـ

    كيف تعامل مع الناس والمال والشهرة؟
    الطيب صالح نتاج تربية وإرث سوداني أصيل

    محمد سعيد محمد الحسن

    تعرفت عليه مبكراً، عندما كان يأتي للخرطوم قادماً من لندن ويزور صحيفة «الرأي العام» ثم أحاطني بلفتة كريمة بزيارتي في جريدة «السياسة» اليومية المستقلة برفقة صديقه الدكتور عثمان محمد الحسن، وكلفت آنذاك الأستاذ عيسى الحلو المشرف على الملف الثقافي بإجراء حوار مطول معه، ووصفه لاحقاً لي «إنه استمتع بأسئلة وحوار متعدد الجوانب وجيد»، وتوطدت الصلات الشخصية والإنسانية عبر الأصدقاء الخُلّص، الاساتذة محمد الحسن أحمد، ومولانا ملوال، وحسن تاج السر، حيث تنتظم لقاءات عطلة نهاية الاسبوع إما في منازلهم، أو في مطاعم لندن المميزة،أو في دعوات العشاء للسفير الكفء المقتدر عمر بريدو، كان وجوده في هذه الجلسات ومشاركته في الحوارات والمناقشات بالإصغاء والحديث يعطيها طعماً ومذاقاً ولوناً وحيوية فكرية سودانية يصعب نسيانها، وكانت بيننا حوارات عبر الهاتف تمتد لزمن غير قصير يتداخل فيها العام مع الخاص، والذكريات بالأحداث والمواقف والشخصيات، ولقد أحببت فيه وطنيته ووشائج التواصل الأصيل، والأدب الجم والتواضع الشفاف المريح السلس واحترام الآخرين، ففي حفل تأبين صديق الطرفين الاستاذ ربيع حسنين «رحمه الله» أحد الرموز السودانية البارزة في بريطانيا، لاحظت حرصه على الوقوف لمن يأتون لمصافحته خاصة الشباب الصغار، وقلت إن يهون على نفسه فلا يقف في كل دقيقة، وقد جاء من مشوار بعيد حيث يقع منزله خارج لندن، ورد بأدبه الجم، ألا ترى كيف يقبلون نحوي بحب، أفلا أعبر عن امتناني بالوقوف، إنهم يستحقون ما هو أكثر، ومرة قال لي إنه عاتب علىَّ وعلى غيري من كتاب وصحفيين كيف يغمض لنا جفن أو نركن لهدوء بوجود عمالقة كالأساتذة إسماعيل العتباني والدكتور عبدالحليم محمد وغيرهما للتواصل معهم والاستماع اليهم والتوثيق لذكرياتهم وتجاربهم وإسهاماتهم المقدرة في المسيرة الوطنية السودانية، كان بتواضعه وأدبه الجم يعتبر ان هؤلاء العمالقة هم الأهم لأنهم نتاج الإرث والتراث والقيم الأصيلة، وعندما أرد عليه بأنه واحد منهم وربما تميز بأنه نقل هذا الإرث في رواياته ومقالاته الاسبوعية في مجلة المجلة اللندنية وعلى سنوات بأفضل مما فعل أي كاتب أو روائي أو مبدع آخر، فيتواضع باسماً، إنها مجرد كتابات وخواطر، أما هؤلاء العمالقة فقد فعلوا وصنعوا ما هو أكبر وأفضل.
    ومرة سألته كيف يتعامل مع المال، فرد بحذر شديد: أكيف نفسي على قدر دخلي، ولا أشغل بالي أبداً به، وروى لي أنه تلقى مرة خطاباً باسمه وبداخله شيك وبمبلغ كبير بالدولار «5 آلاف دولار» ولم يعرف الجهة أوالشخص الذي بعث به اليه، وظل يتساءل من أرسله ومن أين جاءه، ولماذا؟ وأصابه القلق، فلا يمكن ان يصرف الشيك أو يتصرف فيه بدون معلومة، وأخذ يبحث عن وسيلة ما تحل «طلسم الشيك» حسب تعبيره، ثم عاد الى سلة المهملات وعثر على الظرف الذي تسلمه وبداخله الشيك، ووجد فيه عنواناً، فسارع الى إرساله في الحال، وقال لي إنه إنتابته راحة بالغة بعد ذلك بعد أن ظل قلقاً لعدة أيام والشيك بين يديه، يحمل اسمه ومبلغ التحويل وبدون خطاب يكشف عن مصدره، ولاحقاً اتصل به صديقه السيد فتح الرحمن البشير «مهندس المصالحة الوطنية 1977 رحمه الله» وعاتبه على إعادة الشيك، لأنه هو الذي أرسله اليه من دولة الإمارات العربية المتحدة، وبرر له الدافع، انه انتابه إحساس بأنه قد يكون في ضائقة مالية، ووجد أنه من الأفضل إرسال ما لديه مباشرة دون سؤال أو استفسار ولأنه كان على عجل فتعذر عليه إرسال خطاب أو مذكرة، واكتفى بإرسال الشيك الذي سبب القلق للأستاذ الطيب صالح، أنظر الى نوع العلاقات والصداقات والأخوة الأصيلة في الزمن الجميل، طابعها الوفاء والإيثار والتواصل، وانظر الى القيم، مجرد اعتبارالشيك جاء من مجهول، فهو كاف لأن يثير القلق والذي انتهى بإعادة الشيك الى عنوانه دون التفكير بتاتاً في صرفه او الإفادة منه على أي نحو أو تبرير.
    كنت ألمح في كل لقاء توقاً واهتماماً أصيلاً وصادقاً لمعرفة أخبار السودان وأهله، ولأني كنت أمضي وقتاً في لندن وأعود للخرطوم وهكذا فأجده يصغي بكل حواسه ووجدانه، وكان يعبر عن الحزن والأسى في أوقات الظروف الصعبة، والكئيبة، وأيام كوارث الفيضانات والسيول في العاصمة والشمال، والخلافات والنزاعات، وكان يقول إن السودان وأهله، لا يستحقون هذه المصاعب والمشاكل، أين الحكمة السودانية وعلام الخلاف والاختلاف والمشهد كله لا يسر قريباً ولا بعيداً.
    كان قلبه وفكره ووجدانه مع أهل السودان ربما بأكثر من بعض الذين يعيشون فيه ويتحدثون باسمه، وعندما جاء للسودان بعد إنقطاع سنوات طويلة في إطار الاحتفاء بالخرطوم عاصمة الثقافة العربية وتفضل مع الأصدقاء محمد الحسن أحمد وبونا ملوال والدكتور خالد فتح الرحمن لتناول الشاي والقهوة السودانية في منزلي، وكان قد سبقه في الحضور الاستاذ محمد إبراهيم نقد، واضطر للإعتذار والخروج قبل وصولهم بسبب إرتباط سابق، وعرف الاستاذ الطيب ذلك فأبدى أسفه وحزنه، وسألني عن صحته، وماذا فعلت فيه سنوات الاختفاء، فجاءت إجابتي، إنه بخير وأكثر حيوية وحضوراً مما كان في السابق، ووصفه بأنه يشبه أهله، أي مواطن كريم وفاضل، إنه لفقد كبير وعظيم، لقد رحل الى رحاب ربه راضياً مرضياً، لكم يحزنني زيارة لندن، فلا أجده، ولا أجد محمد الحسن أحمد ولا ربيع حسنين، تغمدهم الله جميعاً بواسع رحمته وغفرانه. «إنا لله وإنا إليه راجعون».

    الراى العام
                  

02-24-2009, 06:13 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    الزين ومصطفى سعيد

    ffالزين ومصطفى سعيدfff

    الياس خوري

    'وكانت الدائرة تتسع وتضيق، والاصوات تغطس وتطفو، والطبول ترعد وتزمجر، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة، وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب'.
    هكذا تنتهي رواية 'عرس الزين'، للطيب الصالح. تأخذك الرواية الى رحلة ممتعة في القرية السودانية. الزين- المبروك، مجنون القرية، يتحول حكاية تمزج الفولكلور بالحكمة، ومتعة الحكي بمتع الحياة.
    الحقيقة انني عدت الى قراءة هذه الرواية، لأنني تمنيت ان يكون افتراضي، بأن الطيب الصالح كتب رواية واحدة، هي 'موسم الهجرة الى الشمال'، خاطئا. مات هذا الكاتب الكبير الذي سحرنا بحكايات مصطفى سعيد التي انحفرت في ذاكرتنا. لكن هل صحيح ان الروائي لم يكتب سوى رواية واحدة؟
    نشرت 'عرس الزين' عام 1964، اي قبل عامين من 'موسم الهجرة'. قال الطيب الصالح في مقابلة صحافية، انه كتب روايته الأولى قبل زمن طويل من نشرها. اي من المرجح ان 'موسم الهجرة' لم تكن في البال. غير ان قراءة مدققة للروايتين تجعلنا في حيرة من امر هذا الاستنتاج. فالشخصيات القروية في رواية الطيب الصالح الأولى، تشبه كثيرا شخصيات الرواية الثانية. محجوب لم يتغير في الروايتين، ابن ود الريّس يختفي ليحل مكانه والده، والحنين يأتي ببركاته ليمهد لظهور الجد. بنت مجذوب حلت مكان النساء المتهتكات في اطراف القرية، والى آخره...
    سؤالي اين اختفى الزين؟ لماذا لم نعثر على اثر للزين في 'موسم الهجرة'؟ لن نسأل لماذا لا نعثر على مصطفى سعيد في الرواية الأولى، اذ اغلب الظن انه لم يكن قد ولد بعد في خيال الكاتب، غير ان غياب الزين يتحوّل الى سؤال شيّق.
    يبدو سؤالي آتيا من خارج السياق، فالطيب الصالح لم يكن في وارد كتابة تتمة لروايته الاولى في روايته الثانية. ولكن لماذا استعاد المناخات نفسها؟ هل كانت 'عرس الزين' تمريناً اولياً من اجل كتابة 'موسم الهجرة'، بعد سنوات؟
    اغلب الظن ان الطيب الصالح لم يكتب روايتيه كجزء من ترسيمة واحدة، والا لما بقي محجوب في العمر نفسه في الروايتين، لكننا لا نستطيع سوى ان نلاحظ المناخات القروية المتشابهة في العملين، ومن المرجح ان مناخات قرية كرمكول في شمالي السودان، حيث ولد الكاتب عام 1929، بقيت تلاحقه في جميع اعماله.
    عدت الى 'عرس الزين'، وهي عمل جميل يشير الى براعة كبيرة في نقل مناخات القرية، كي اكتشف من جديد، ان الطيب الصالح كتب رواية كبرى واحدة، هي 'موسم الهجرة'، وان ما سبقها كان اعدادا لها، اما ما تلاها فكان مشروعا لم يكتمل للأسف.
    لنفترض ان مصطفى سعيد التقى الزين في القرية، هل سيتغير شيء من السياق التراجيدي الذي قاد الى تلك الجريمة المروعة التي ارتكبتها ارملته حسنة، عندما فرضوا عليها الزواج من ود الريّس؟
    لن يكون في استطاعة الزين ان يغير شيئا في حياة مصطفى سعيد في لندن، وهي حياة نسجها خيال راو امضى سبعة اعوام في دراسة الادب الانكليزي قبل ان يعود الى السودان، كي تفترسه حياته الخاملة. من المرجّح ان تكون حكايات مصطفى العجيبة في لندن، علاجا للراوي من احتمالات الخمول، وشكلت تجسيدا لتناقضات الترسيمة الايديولوجية الاستشراقية.
    ولكن كيف كان للحكاية ان تتحول، لو كان الزين في القرية، يوم بدأت تتكشف الخيوط في مجلس الشراب الذي جمع مصطفى سعيد بالراوي؟
    اغلب الظن ان كل المسارات كانت ستتحوّل في اتجاهات جديدة. استطيع ان اتخيّل الزين وهو يقوم بتفكيك البناء الايديولوجي الذي بنيت عليه 'موسم الهجرة'، محولا المأسوية العطيلية، نسبة الى البطل الشكسبيري، الى مهزلة مضخمة. ضاربا عرض الحائط بكل التقاليد لأنه هو من سيتزوج حسنة بنت محمود، برضى زوجته الاولى، نعمة.
    كان زواج الزين من نعمة الجميلة، هو الحدث الذي صنع بنية الحكاية التي تشكلت من مزيج الجنون والبركة. الزين هو الريف في تناقضاته الداخلية، وهو ايضا احتمالات المصالحة، التي لم تستطع ان تتشكل في 'موسم الهجرة'، الا على شكل سؤال طرحته صرخة 'النجدة'، التي اطلقها الراوي وهو يتأرجح بين الموت والحياة.
    البناء الايديولوجي الصارم في الرواية الثانية لا يتسع للزين، كما ان البناء الرومانسي للرواية الأولى لا يتسع لمصطفى سعيد. لكننا نستطيع ان نتخيل مشهد دخول الراوي الى غرفة مصطفى سعيد الانكليزية في شكل مقلوب. لنفترض ان الزين هو من دخل، وهذا جزء من افتراضنا بأنه المجنون-المبارك هو افضل زوج محتمل للأرملة. بدل ان يرى الزين في المرآة صورة مصطفى سعيد، لقام بتحطيم المرآة، محولا الغرفة الى اكبر نكتة في تاريخ الأدب العربي.
    لكن مصائر الابطال تشكلت في الكتاب، ولا قدرة لمقال على تغيير احداث حكاية صارت جزءا من الذاكرة.
    لذا لن يلتقي البطلان، وستكون 'عرس الزين'، مجرد تمرين لبناء مناخات القرية، التي سوف تكتمل في 'موسم الهجرة'. اي ان الرواية الأولى كانت مجرد مسودة للرواية الكبرى الوحيدة التي كتبها الطيب الصالح.
    قلت رواية واحدة تكفي، كي تجعل من الطيب الصالح احد اكبر الأدباء العرب، لأنها صنعت من مصطفى سعيد بطلا حقيقيا، جاعلة منه استعارة لوعي بائس، ومشروعا للخروج من مرآة الايديولوجية الاستشراقية.
    qla

    القدس
                  

02-24-2009, 06:33 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    الإثنين 23 فبراير 2009م، 28 صفر 1430هـ العدد 5624


    الطيب صالح

    مريم عبد الرحمن تكس

    بزغ الطيب صالح كأنصع ما يكون الفجر في الصحراء الافريقية باسمه الذي يحمل معاني يتوق إليها العارفون السالكون مدارج القُرب فيطلقون الاسماء ذات المعاني على أبنائهم أُنساً وتيمناً.
    إنَّ الروعة التي أطل بها الطيب صالح تكمن في قدرته على عكس الواقع المحلي الذي عاش فيه وآمن به ذلك الايمان الذي مكَّنه من الوصف بسلاسة ودقة وتأني فأتى المشهد في كل زاوية مجسداً للإنسانية أينما وجدتْ مُعبِّراً عن قدرة السودانيين على التربية السوية التي جعلت من الطيب صالح رجلاً يحمل ثقافة إنسانية عندما تجلَّت في رواياته خشعت لها وتواضعت دونها كُل ما كُتب وصوِّر ووصف في المنطقة التي تكتب باللغة العربية وغيراللغة العربية.فاستيقنتها النفوس وأقرتها كأبدع وأروع ما يكون السرد وحفظتها العقول فالتصقت بها لأن الطيب صالح لا يكتب بقلم الروائي أو القاص بل بروح ونفس المفكر الفيلسوف.
    إذا كانت روايات الطيب صالح تمثل نقطة تحول في تاريخ الرواية العربية وإضافة كبيرة للأدب العالمي فإن نقطة التحول الجوهرية والعميقة هي ما احدثتها رواياته في عقل ووجدان القارئ السوداني الذي كان يقرأ بنهم كل الانتاج الادبي العربي الذي لم يكن يُجسِّد مناخه النفسي إنّما كان يمثل تثاقف ومتعة وتسلية مثل روايات إحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ ويوسف إدريس .. الخ هذا بالاضافة إلى الاتجاه الرسمي العام في مناهج التربية نحو الأدب الانجليزي الذي يتأثر به السودانيون مُنذ نعومة أظافرهم في المدارس المتوسطة والثانوية حيث يتعايشون مع شخصيات «مرتفعات وذرنج هالينا كينج سلمون ماينز» ويتسلى الطلاب بالشخصيات وينعتون بها بعضهم والناس من حولهم ونحن في «تيهنا» الادبي هذااعادنا الطيب صالح ببساط عميقة وشفافة وحادة إلى رائحة ترابنا وخضرة اشجارنا وشخوصنا«وناسنا» فاصبحت الحاجة والمشاعر والرغبة التي تحرك بت محمود والزين ومصطفى سعيد والعمدة «وسيد الدكان» وتخلق الحوار والمعايشة بينهم وبين الأرض، وبينهم وبين بعضهم البعض، وبينهم وبين حيواناتهم الاليفة، وبينهم وبين الغريب الوافد عليهم من خارج حدودهم وحتى الغريب الذي كان منهم فتغرب وعاد ليطمئن بهم ومعهم هذه الحاجة والمشاعر والرغبة هي التي تحرك أى اشخاص في نمولي وأم روابة وفي كتم وفي كسلا. لقد وطًّن الطيب صالح السودانيين روائياً ورفع الرواية السودانية إلى مصاف العالمية لأنه أصَّل الرواية السودانية بالروح السودانية المليئة بالتراكم والتجارب الانسانية الفريدةوالتي لا يمكن أن يحيط بها وصف.
    إنّ الطيب صالح لم يكن روائياً أديباً فذَّاً فحسب إنّما كان يمثل في حقيقته ضميراً إبداعياً شاهداً على ترابه الذي نشأ فيه وقد ساهم في فك العزلة التي تعيشهاالقرية السودانية فنياً وادبياً وجعلها تلامس العصر الذي عاش فيه في أرقى مدارجه الادبية وجعلها متاحة للحوار الخلاق بين الكتاب والمفكرين العرب وغيرالعرب على مختلف اتجاهاتهم. وقد حقق هذاالنجاح والاختراق والشهرة لوطنه متسللاًمثل الشعاع دون جلية او ضوضاء أو تكبر او غرور ولا حتى مناً وتفضلاً فقد كان الطيب صالح وهو يقدم وطنه أدبياً كان رجلاً سودانياً كما ينبغي أن يكون الرجال صبراً وتواضعاً علماً وعمقاً وشهامة ،فهو من الذين لا يؤمنون بالثنائية ولا يعاني من حاله انفصاماً بين الحداثة والتراث أو الاصل والعصر لقد كان مؤمناً بالواقع كما هو فهو يرى أن القيم الموجودة في التراث تعيش فينا وليست شيئاً تستدعيه او تتغالط فيه هذه الواقعية والصمود أمام ما يملك من قيم هي التي جعلت منه إنساناً سوياً يتعايش مع تراثه وواقعه والعالم من حوله يتواضع وكأنه يقول إذا لم نتحل نحن بالنيل ممن أحق به منّا.
    إيمانه بالوطن واقتناعه الكامل بالخصائص الانسانية الفريدة للسودانيين كما هي هذا الإيمان وتلك القناعة جعلته يحافظ على طهارة وطنية ناصعة إذ نأى بنفسه عن الانتماء لأى حزب سياسي حتى يحتفظ برأيه دون قيد أو حجر وبالرغم من حياده هذا إلا أنَّ ابدائه لرأيه في النظم الديكتاتورية لم يجعله ينضم لأى معارضة منظمة حتى لا يجور على الوطن من خلال المعارضة التي لا تفرق بين الوطن والنظام. ولقد برر عبارته المشهورة (من أين أتى هؤلاء) بقوله: (إن ما دعاه إلى قولته هو ما أتى به نظام الجبهة القومية الاسلامية من عسق وقهر لم يألفه السودانيون ولم يعرفوه قطعاً من قبل) على الدرب ـ طلحة جبريل ص 28.
    إنّ الطيب صالح أحسَّ بأهله كأصدق ما يكون الاحساس وليس هناك ابلغ من هذه العبارة التي وردت في موسم الهجرة الى الشمال: (نحن بمقاييس العالم الصناعي الاوربي، فلاحون فقراء ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه انه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منت عليها الطبيعة بالماء والخصب ولكنه كشجيرات السيال في صحاري السودان سميكة اللحى حادة الاشواك تقهر الموت لأنها لاتسرف في الحياة وهذا وجه العجب. انه عاش اصلاً ـ رغم الطاعون والمجاعات والحروب وفساد الحكام).
    إن الطيب صالح يذهب بحبه للإنسان ابعدبكثير من جده وقريته وأهله وقد تعلمت منه شخصياً كيف انظر للناس من خلال عبارة وردت في احدى قصصه القصيرة التي كتبها في لندن حينما كان يصف أحد اصدقائه أظنه من السنغال قائلاً : (إن الرجل وسيم أو يمكنك أن تراه كذلك إذا أنت تجاوزت حاجز اللون) قرأت هذه العبارة مُنذ عشرات السنين لكني احفظها واطبقها في كل مكان وزمان حُباً في الانسانية وليس تجاوزاً لحاجز اللون فحسب بل كل الحواجز المادية والمعرفية والدينية نسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة إنني لست ممن يجيدون الرثاء لان الموت ـ موت أى إنسان أعرفه يستغرقني في حالة تأمل تام لا تترك لي وعياً للتعبير «كلُ نفس ذائقة الموت» الانبياء 53 «وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلاً تعقلون» الانعام 23 «ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار» غافر 93 ، موت الذين نعرفهم يردنا الى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم : لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه ما عندك من ذكر الموت يا أبا حفص؟ قال : أُمسى فما أرى إني أُصبح، وأُصبح فما أرى إنى أمسى قال الأمر أوشك من ذلك أبا حفص، أما إنه يخرُج مني نفسي فما أرى أنه يعودُ إلىَّ».
    رحم الله الطيب صالح رحمة واسعة وغفر لنا وله إذا أُلنا إلى ما آل إليه لقد ترك الطيب صالح ميراثاً ادبياً ثميناً للسودانيين كافة يجب أن يروا في دراسته وتخليده وحفظه وصيانته واحياءً قومياً هو بمثابة أمانة تسليم للأجيال القادمة.

    ---------------------------------------


    الإثنين 23 فبراير 2009م، 28 صفر 1430هـ العدد 5624


    وداعاً الراحل المقيم الطيب صالح(1)

    تاج السر عثمان

    أضواء على شخصيتي نعمة والزين في رواية (عرس الزين)
    (1)
    رحل عن دنيانا الأربعاء 18/2/2009م الكاتب والروائي السوداني المشهور الطيب صالح بعد صراع مع المرض في احد مستشفيات لندن، وسيظل الطيب صالح حيَّاً بيننا لما تركه من أعمال روائية خالدة مثل رواية (عرس الزين)، و(موسم الهجرة إلى الشمال)، و(دومة ود حامد)، و(بندر شاه)، و(مريود)، وتعكس تلك الأعمال في مستويات معقّدة ومتشابكة تجربة الكاتب التي اتسمت بالغنى والخصوبة، والارتباط العميق بين المحلية والعالمية، ومن خلال رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) التي ترجمت إلى أكثر من لغة عالمية، تعرف الناس في مشارق الأرض ومغاربها على مسقط رأس الكاتب (كرمكول) التي ولد فيها عام 1929م، كانت تجربة الكاتب خصبة وغنية فهو قد تنقّل من (كرمكول) التي تلقى فيها تعليمه الأولي وبورتسودان التي تلقى فيها تعليمه الأوسط، والخرطوم حيث تلقى تعليمه الثانوي في وادي سيدنا، وتخرّج في كلية العلوم جامعة الخرطوم، وفي حياته العملية تنقّل بين مهن كثيرة منها: التعليم، العمل الاذاعي في هيئة الاذاعة البريطانية واذاعة ام درمان وفي الصحافة وفي اليونسكو، اضافة الى تنقله الكثير في اقطار العالم، كل ذلك كان له الأثر في تنوع وخصوبة تجارب الكاتب، وكان الطيب صالح إضافة لذلك مثقفاً موسوعياً، فبعد تخرجه في كلية العلوم غيَّر مساره إلى الأدب والفن والرواية، وارتبط بالمدرسة الاشتراكية الفابية بعد وصوله لبريطانيا عام 1953م، اختلط بمجتمعها في تنوعه كما عكست شخصية مصطفى سعيد جانباً من تجاربه وشخصيته، ودرس الأدب العربي والتراث الإسلامي بعمق كما نلحظ ذلك في كتاباته، اضافة لدراسة التراث والواقع والتاريخ السوداني، وبالتالي استطاع أن يدمج بمهارة بين الثقافة الحديثة والثقافة العربية الإسلامية، كما فعل الكثيرون من قبله مثل: طه حسين والعقاد وأحمد أمين ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، يحيى حقي وروايته المشهورة (قنديل أم هاشم) والتي لا تختلف كثيراً عن رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) والتي طرحت سؤال الهوية والتناقض بين الشرق والغرب... الخ. اتسم الطيب صالح إضافة لثقافته الموسوعية بالتواضع الجم والبساطة والاسلوب السهل الممتنع والتسامح واحتمال الآخر، والاعتراف بالتنوع الثقافي والديني واللغوي وضرورة التعايش معه، وقد عبّر عن ذلك في روايته (دومة ودحامد) حين ختمها بحكمة حين قال (لن تكون سمة ضرورة لقطع الدومة، ليس ثمة داع لإزالة الضريح، الأمر الذي فات على هؤلاء الناس جميعاً، أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء، يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة)، وكأنما أراد أن يقول (في البلاد متسع للجميع)، وأي فائدة للتنمية ما لم تستند على الأصالة والموروث الثقافي المحلي، وأن الحداثة لا تتعارض مع الموروثات والمعالم التقافية والتاريخية للبلاد.
    (2)
    أدلف إلى موضوع هذا المقال وهو: شخصية الزين ونعمة في رواية (عرس الزين).
    شخصية نعمة:
    يدور محور الرواية حول زواج نعمة بالزين، ونعمة تمثل نوعاً مختلفاً لامرأة في الوسط الذي صورته الرواية، كانت متمردة على واقعها الاجتماعي منذ أن كانت طفلة، كانت تمقت ضم النساء إليها وتقبيلها على خدها وشفتيها (ومرة ضجرت من عبث امرأة بدينة بها، وشعرت بذراعي المرأة الغليظين تنطبقان عليها، كأنهما فكا حيوان مفترس وبردفي المرأة المثقلة وعطرها القوي، كأنها تخنقها، وتململت نعمة وحاولت أن تتخلّص من قبضة المرأة، ولكن المرأة ضمتها إلى صدرها بقوة، وانقضت على وجهها بشفتيها المكتنزتين تقبلها على رقبتها وعلى خدها وتشمها، صفعتها نعمة على وجهها صفعة قاسية، وذعرت المرأة، وتركت نعمة)، وكان هذا تعبيراً لرفض نعمة منذ نعومة أظفارها الامتثال والإذعان للعادات الاجتماعية التي كانت تمارس مع المرأة منذ طفولتها، لاعدادها وتشكيلها لتقبّل الواقع الاجتماعي الذي تعيشه. ولكن نعمة تمردت منذ الطفولة على هذا الواقع، ونرى البذور الأولى لتشكل شخصيتها في صراع مع من حولها، حتى أصبحت تلفت نظر النساء والرجال إليها عندما كبرت، وتذكر نعمة أنها أرغمت أباها أن يدخلها في الكتّاب لتتعلّم القرآن وهي طفلة، وكانت الطفلة الوحيدة بين الصبيان وبعد شهر واحد تعلّمت الكتابة، وكانت تستلذ بتلاوة القرآن وتعجب بسورة الرحمن ومريم وسورة القصص وتشعر بقلبها يعتصره الحزن وهي تقرأ عن أيوب وتشعر بنشوة عظيمة حين تصل الآية (وآتيناه رحمة من عندنا)، وتتمثّل رحمة امرأة رائعة الحسن متفانية في خدمة زوجها، وكان صبرها يعادل إن لم يكن أكبر من صبر أيوب، وتتمنى لو أن أهلها سموها رحمة.
    وكانت تحلم بتضحية عظيمة لا تدري نوعها، تضحية ضخمة تؤديها في يوم من الأيام.
    نشأت نعمة طفلة وقورة، محور شخصيتها الشعور بالمسؤولية، تشارك أمها في أعباء المنزل، وتناقشها في كل شيء، وتتحدث اليها حديثاً ناضجاً جريئاً يذهلها في بعض الأحيان. قطعت نعمة بمحض اختيارها تعليمها رغم ذكائها، وكان أخوها الذي يكبرها بعامين يحثها على مواصلة التعليم في المدارس ويقول لها (يمكن تبقي دكتورة ولا محامية)، ولكنها لم تكن تؤمن بذلك النوع من التعليم، تقول لأخيها وعلى وجهها ذلك القناع الكثيف من الوقار (التعليم في المدارس كله «طرطشة»، كفاية القراية والكتابة ومعرفة القرآن وفرائض الصلاة).
    ربما كانت نعمة ترى الممكن من تعليمها في تلك الظروف والأوضاع، لا أعتقد أن نعمة بذلك الوعي المتقدم والذهن الوقاد، كانت ترفض التعليم الحديث، ولكن الظروف والواقع الاجتماعي في تلك اللحظة، ما كان يسمح لها بمواصلة تعليمها، وإذا أخذنا في الاعتبار أنها كانت الطفلة الوحيدة التي كانت في الكتَّاب ودخلته بعد ارغام ابيها على ذلك، هل كان ممكناً أن تواصل تعليمها في تلك الظروف؟ ولماذا كانت نعمة تنظر للتعليم في المدارس «طرطشة»؟، واكتفت منه بالقراية والكتابة ومعرفة القرآن وفرائض الصلاة. كانت نعمة في هذا الجانب متمشيّة مع الحياة الاجتماعية والواقع الاجتماعي في القرية الذي لم يكن محتاجاً من التعليم لأكثر من ذلك، وهي الأهداف التي وضعها ورسمها المجتمع للتعليم منذ عهد السلطنة الزرقاء، كما أن التعليم الحديث لم تترسّخ جذوره وسط النساء رغم الجهود التي بذلها المرحوم بابكر بدري في تعليم البنات في بداية القرن العشرين. وبالتالي، فإن نعمة رفضت تخطي الواقع الاجتماعي المعين إلى اللاممكن، وكي تلعب دورها الذي رسمه المجتمع وحددته أحداث الرواية، مما يشير إلى أن اخ نعمة كان مازحاً أو حالماً، ولم يقدر التقدير الصحيح الظروف الملموسة، رغم أن نظرته كانت متقدّمة وتحققت فيما بعد، وانحيازه للتعليم الحديث، كان واضحاً اذ طالب نعمة بمواصلة تعليمها.
    ولكن نعمة في ظروف وواقع القرية التي كانت تعيش فيها كانت تمثل نقلة نوعية لامرأة من نوع جديد، رفضت الاذعان للواقع الذي كان مفروضاً على المرأة في تلك الظروف واستطاعت أن تلعب دوراً اجتماعياً معيّناً جذب إليها اهتمام الرجال والنساء، يكفي أنها الطفلة الوحيدة في القرية التي انتزعت حق تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، ونالت الحظ الذي كان يسمح به المجتمع من التعليم يومئذ، وأنها صارعت في سبيل ذلك.
    فيما يختص بالزواج، استطاعت نعمة ان تمارس حقها في اختيار زوجها بنفسها، هذا طبيعي، فقد نشأت مستقلة في الرأي وتناقش والدها في كل شيء. ولما جاءت آمنه إلى سعدية (ام نعمة) تحدثها في أمر زواج نعمة من احمد قالت لها سعدية (الشورى عند ابو البنت)، كانت تعلم في قرارة نفسها أن (الرأي) لا لأحد غير نعمة نفسها، وكان لا بد من خيارها، فهزت كتفها وقالت: أنا لي الليلة ما بقيت للعرس. وعندما جاء خطيب آخر إدريس الذي كانت كثير من الفتيات يتمنين أن يصبحن زوجات له، كان متعلماً، يعمل في مدرسة ابتدائية، كان دمث الأخلاق، حسن السيرة بين أهل البلد، ومع أن عائلته لم تكن من العوائل ذات الأصل التي يشار إليها في البلد، إلا أن أباه كوّن لنفسه مكاناً بين الناس بجده وحسن عشرته، كانت أسرة طيبة وميسورة الحال، وكان حاج ابراهيم والد نعمة وامها سعدية واخوانها الثلاثة يميلون الى ادريس، بيد أن نعمة كان لها رأي آخر غير ذلك، فقد رفضت الزواج منه. احتد حاج ابراهيم في كلامه معها وهمّ بصفعها،
    نواصل.....

    الصحافة
                  

02-24-2009, 08:13 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    دمعة على المريود: الطيب صالح .... نظم د. خالد محمد فرح/ داكار – السنغال
    الاثنين, 23 فبراير 2009 21:27

    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


    أعينيَّ فابكي بالدموعِ السوافحِ شهاباً توارى تحت تلك الصفائحِ

    شهاباً أضاء الكونَ نوراً وحكمةً وإبداعَ فنٍّ ما يُرام لقــــادحِ

    ثرى السيِّد البكريِّ قد ضِفْتَ سيّداً يضوعُ أريجاً من زكيٍّ وفائحِ

    هو الطيِّبُ المشهورُ في كلِّ بلدةٍ وما كان إلاّ صالحاً وابنَ صالحِ

    فكمْ ذاع في الآفاق ثمّة عرفه فضاعَ عبيراً بين شتى المسارح

    فخلَّدَ للسودان إسماً وشهرةً تقاصرَ عنها كل ساعٍ وطامح

    (محيميدُنا) المحمودُ في كل موطنٍ و(مريودُنا) المريودُ بين الأباطح

    لقد صغت دنيا من خيالٍ مجنّحٍ تعيشُ وتحيا بيننا في الجوانحِ

    نشاهد فيها ذاتنَا وحياتــَــنا وأهلَ بلادي بين غادٍ ورائــــحِ

    سعيداً ومحجوباً والرواسيّ وأحمداً وزيْناً وبتْ مجذوب ذات الملائحِ

    وودّ الريِّس الفحل يسعى لحتفهِ فيُلفى صريعاً غِبَّ تلك الفـــضائح

    وحسنةَ بتْ محمودَ كم زانَ حسنُها بمكنونِ عطرٍ في ذرى الروحِ سابحِ

    ونعمةَ بنتَ الحاجِّ كم ناءَ قلبُها بحبٍ دفينٍ منْ نفيسِِ المنائحِ

    همو جسّدوا السودانَ معنىً وصورةً همو مثّلوا الإنسانَ زينَ الملامحِ

    وكنتُ بعيداً إذ أتاني نعيُّهُ وقدْ زادَ هوْلَ البيْنِ هولُ الفوادحِ

    وحدّقْتُ في التلفازِ أنظرُ نعْشَهُ فسالتْ دموعٌ من عيونٍ قرائحِ

    رأيتُ سَراةَ القومِ يمشون حولهُ وثَمَّ جموعاً بين باكٍ ونائحِ

    سقى اللهُ أرضاً حلّها قبرُ طيِّبٍ بمنهلِّ وسْميِّ الغوادي القوادحِ

    فكم كان للسودان رمزاً ومعْلماً فيا لهفَ نفسي صار رهنَ الضرائحِ

    عليهِ سلامُ اللهِ ما طارَ بُلـــــــبلٌ بمٌخْضلِّ روضٍ ناعمِ الغُصنِ مائحِ

    وما انساب ماءُ النيلِ في الأرضِ جارياً بخيرٍ عميمٍ يحملُ الخصبَ طافحِ

    --------------------------------------------

    الطيب صالح ... البطلُ والرواية ... بقلم: بقلم صلاح الباشا
    الأحد, 22 فبراير 2009 21:59

    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته
    **********************
    هاهو القدر يكون دوماً بالمرصاد حين يريد الله سبحانه وتعالي أن يأخذ أحبابه إليه .. نعم كان الطيب صالح واحداً من أحباب الله .. كان التواضع يكسوه .. والعفة تغلفهُ .. وحب الوطن يجري في دمائه.. الطيب الطيب الذي لم تطاوعه أحاسيسه في أن يتخلي عن جواز سفره السوداني مطلقاً برغم أن نيل العديد من الجنسيات ظلت في متناول يديه أين ما حل .. داخل بلاد العرب أو لدي العجم .. هاهو الطيب الطيب يرحل ويترك لنا الأمل الذي كنا نعيشه حين فكر نفر من أهل السودان المتميزين في أن يضعوه في دائرة إهتماتهم ليرشحوه للمنافسة لجائزة نوبل لهذا العام .. بعد أن كرمته بيوتات الفكر ومؤسساتها العالمية كواحد من أميز مائة كاتب علي مستوي العالم كله منذ بدء الخليقة وحتي اللحظة.
    إنها إرادة الله وهي الغالبة .. ولاراد لقضاء الله أحداً .. ومنها نعزي جماهير شعبنا في كل الدنيا علي هذا الفقد الجلل .. بمثلما نعزي أصدقائه وهم كثرُ ... لكن العزاء الأكبر يكون لشقيقه وصديقه وحبيبه الأصغر مولانا بشير صالح قاضي المحكمة العليا سابقاً والمستشار القنانوني السابق بمؤسسات مجلس التعاون الخليجي بالدوحة والمستشار الحالي بدولة الكويت الشقيقة .. كما نسجل التعزية الحارة لإبن شقيقته الوحيدة الراحلة .. وهو القاص والطبيب د. أمير تاج السر بدولة قطر .. والحمد لله علي كل حال .. ولله ما أعطي ولله ماأخذ.
    وهنا ... في السطور التالية ننشر تلك القصيدة التي سبق أن قمنا بأليفها وإرسالها حين كنا بالدوحة للجنة التي تأسست بالقاهرة حينذاك للإحتفال بسبعينية الراحل الكبير الطيب صالح .. وقد ترأس تلك اللجنة الصديق البروفيسور والإداري المرموق حسن أبشر الطيب .. صبره الله علي هذا الفقد الجلل .
    والقصيدة أدناه ولمن طالع روايات الطيب صالح كلها فإنه سيجد فيها شخوص رواياته وأبطالها ..وقد أسميناها ( الطيب صالح ... البطل والرواية )
    ******
    لم نزل نستنشق عبق الحكايه
    نطالع الروايه
    وموسم الهجرةِ تـُعطـِّر المكان
    من الجنوب للشمال
    من الجزيرةِ وإلي أقاصي كردفان
    وطعمُ تمر كرمكول.. ومروي
    بائنُُ... في كريمة الزمان
    ************
    نواصل القراءة
    نستنطقُ التاريخ...
    لعلنا نمازح ذكريات الدهرِ
    لنلتقي مع الزين والشباب
    ونشهدُ عُرسهُ العجيب
    وتأتيَ بنت مجذوب
    من هجرتها الأولي
    لتصنع العصيده والقصيده
    والقراصة َ ... والفطائر
    فيلتقي الحبيبُ بالحبيب
    فتظهر الفتاةُ عند بابِ الخشب ِ
    وتمنحُ الزينَ لقمة ً
    من الفطير بالحليب
    فيلتهم ... ويجري
    ويهتفُ بصوته الرهيب
    الزين مقتول
    لقد قتلتني... بنتُ مَن؟؟
    وشرقتني .. بنتُ مَن؟؟
    فهل .. يجيـبهُ مجيب؟؟
    ************
    ويأتي من جديد
    الطيبُ الحبيب
    يقص.. قصتين
    فتسقط الدموع فرِحة ً
    لأنها روايه .. فصولها تزيد
    وتأتي بالمزيد
    فهاهمُ الشهود..
    الدومةُ العريقه
    وودحامد المجيد
    يُعيدُ من جديد
    حكاية المهاجر .. للعالم البعيد
    مواسمُ التجاربِ.. لمصطفي السعيد
    يغوصُ في المياه
    ويحتفي النيلُ والنجوم
    يُقيمُ ( بارتياً )... للقادم الجديد
    ********
    فهل توقف ودصالح..
    عند الدومةِ العجيبه
    وعند شجرةِ النخيل ؟؟
    مهلاً علينا يا أخي ..
    مريودُ في إنتظارهِ
    والطاهرُ الروّاسُ
    يمتطي ظهر حمارهِ
    ليلتقي محيـميداً
    فهل تري بأنه تعيس؟؟
    قد كان لم يزل .. يواصل اللحاق
    فالسوقُ بالخميس
    وكيف لا يشاركُ الجميع
    فالسوق مزدهر..
    محيميد ينتظر
    فهاهو الرفيقُ قد وصل
    سعيد .. عشا البايتات
    يضاحك الصديق..
    أحمد أخو البنات
    ويمتطي حماره الكورتاوي
    ذي اللجام
    سيقانُ أحمدد ٍ.. قـِصار
    عمامة ُُ كبيرةُُ تمام
    كأنه أوزةُ
    تجلسُ علي سنام
    **********
    ونحن لا نزالُ ..
    نتابعُ الحكايه
    فهي.. ليست لها نهاية
    فهاهو ودصالح ٌ..
    يواصل الروايه
    ألم أقل لكم أحبتي..
    بأن... لكل بدايةِِ نهايه؟؟؟
    لكن.. حكاوي الطيب
    ليست لها... نهايه
    فهاهو... يروي لنا
    في كل مرة ٍ .. روايه
    ضوّاً... يضيءُ ليلنا
    ضوّاً .. يضيءُ بيتنا
    فهاهو... يأتي لنا
    بضوء البيتِ حقـّنا
    فكان ضوءنا .. ونجمُ دارِنا
    محجوبُ... مثل نمـَر ٍ .. هـرِم ٍ
    يعانق الوجودَ والزمان
    ويلتئمُ الشملُ في المكان
    ويطلق الطاهرُ الروّاسي
    ضحكة ً..تجلجلُ السكونَ
    تعانقُ القـِمم
    *******
    ونحن في المَهاجر
    العديده… والبعيده
    قد إفتقدنا النهايه... والبدايه
    نستجير ... من شموسِ الغربة ِ
    بالكتاب والروايه ..
    فالطيبُ الحبيبُ
    جوازُ سفرهِ .. كنايه
    ولونُ وجههِ... حكايه
    وطعمُ قلمهِ... سقايه
    خيالُ أفقهِ... دوايه
    ومسكُ ختمهِ... شفايه
    دعاءُ شعبهِ كفايه
    فهو في النهايه... البطلُ و الروايه
    صلاح الباشا ( الدوحة ... فبراير 1999م )

    -----------------------------------------------------------

    في رثاء الطيّب صالح : وأودى عبقريّ الرواية .... بقلم: هاشم الإمام محيي الدّين
    الأحد, 22 فبراير 2009 21:44

    بسم الله الرحمن الرحيم
    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته
    لا بدّ ممّا هو كائن ، وقد حلّ ما لا يُدفع ، ولا سبيل إلى ما قد فات . رحل الطيّب عن الدّنيا وأهلها ، وما الدّنيا بدار قرار ، فهي تجود لتسلب ، وتعطي لتأخذ ، وتجمع لتشتّت ، وتزرع الأحزان في القلوب .رحل الطيب فبكته أعين قرّت بما تطالعه من عظيم أدبه ، وحزنت عليه أفئدة سكنها حبه، وجزع عليه أقوام ربّاهم بحسن سيرته ، وأرهف إحساسهم بسحر بيانه .أودى الطيّب ، أودى عبقريّ الرواية ، وسيّد أدباء العربية وشيخهم ، وكذلك أهل الدنيا إنّما هم في سفرلا يحلّون إلا في غيرها .
    لقد كان الطيّب أُمة اجتمعت فيه من صفات الأمم ما تفرّق في أفرادها ،فهو سمح ، ليّن الجانب ،فيه أخلاق القرية ، كأنّه لم يغادر قريته ، ولم يسكن بلاد الفرنجة ، ولم تبلغ شهرته ما بلغ الليل والنّهار، وهو ممن يحسنون الظن بالناس، يلتمس أحسن مافيهم فيبرزه ،ويخفي سوءاتهم فلا يبديها ، لعلمه أنه لا مطمع في كمال البشر ، فهم بحكم جبلّتهم محل النقص والقصور، ولعلّ هذه المعرفة الدقيقة بأحوال البشر ونفسيّاتهم، هي التي مكّنته من اختيار شخوص رواياته بعناية ووضعهم في أماكنهم الصحيحة من الرواية . والطيّب وفيّ لأصدقائه يبرّهم، ويحسن صحبتهم ، ويدفع عنهم قالة السوء ، وقد خلّد ذكرى من مات منهم في كتاباته ، فبقيت شاهدة على عبقريته في فنّ كتابة السير، وعظم وفائه .
    والطيّب ممن يترفعون عن الدنايا ، رغب بنفسه عمّا يتهافت فيه الأرذلون ، وصان قدره عمّا يركبه المخسوسون ، وهو سودانيّ ، فيه شمائل أهل السودان ، لم تفارقه سودانيته لحظة، ولم يتخلّ عمّا يربطه بالسودان رغم طول مكثه في بلاد الفرنجة ، ورغم ما مرّ به السودان من محن جعلت كثيراً من أبنائه يبرّرون بها سلوكهم المنافي للوطنيّة وحبّ الوطن ، ولا غرو فقد ارتضع الطيّب من لبان هذا الوطن العظيم ما عصمه من هذا الزلل .
    والطيّب عبقريّ من عباقرة الرواية العربية بل العالمية ، حفر اسمه في سجلها الخالد ، وأبدى قدرة مدهشة في توظيف الرواية لمعالجة قضايا المجتمع . قرأ ما كتبه كتّاب الرواية في العالم وهضمه ،ثمّ تمثله في أعمال أصيلة عكست حذقه لفنّ الرواية ، وعمق معرفته بثقافة السودان وتراثه ، والرواية بعض عبقرية الطيّب الأدبية ، فهو موسوعيّ الإبداع ، فقد كتب في الشعر ونقده ، وكتب عن المتنبي فأضاف إلى كتابات من سبقه ، وجلّى بعض ما ندّت عنه أقلامهم ، وكتب في السير فأبدع ،وأوفى أصحابها حقهم ، والطيّب في نقده إنسان ومرب ،يظهر محاسن شخوصه الأدبية لا تزلفاً ولكن نشراً لمكارم الأخلاق بين الناس ، فالنقد عنده تربية وتعليم .
    كتب الطيّب في الثقافة ، والدّين ، والاجتماع ، والفن ، وكان هو وصديقه الدكتور الشوش –متّعه الله بالصحة وأمدّ في أيامه – من فرسان الثقافة العربية ، يمتشقان سيفها ، يردان به كيد العداة ومكرهم ،ولقد كان انحيازه للثقافة العربية مثار نقد من الناقمين والحاقدين ، ودعاة الشعوبية ، فأنكروا عليه حبّ ثقافته وثقافة أجداده ،وحقّروا أعماله الأدبية التي تجاوزت مثل هذا الإسفاف إلى العالميّة ، وطعنوا في قدراته الفكريّة والمعرفيّة ، وكأنه من شداة الأدب لم يملأ الدنيا ويشغل النّاس .
    رحم الله الطيّب ، وتقبله ، وغفر الله ، ونوّر قبره ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله .ورغم عظم المصيبة إلا أنّ ساحة الصبر أوسع .
    وأنتهز هذه السانحة لأعزي زوجه وابنته وأهله ،كما أعزي صديقه الدكتور إبراهيم الشوش ، والأستاذ طلحة جبريل،والأستاذ خالد موسى فهو والأستاذ طلحة ممن كتبا عنه ، كذلك العزاء موصول إلى صديقه ومحبه الأستاذ الفاتح إبراهيم، وكل أصدقائه ومحبيه وتلامذته وقرائه ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
                  

02-24-2009, 08:32 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    يا "ترابلة" السودان: عزّ العزاء وأمرنا جلل ..

    بقلم: د. عبدالرحمن عبدالرؤوف الخانجي –الرياض
    الأحد, 22 فبراير 2009 10:20

    [email protected]

    "يا أخي أنا تربال ساكت... والله أنتو الدكاترة الكلام الكبير اللي بتقولوه عني ده ما أظن أنا مستحقه"
    هكذا بحيائه الأصيل وتواضعه النبيل حدثني الطيب صالح عقب صدور دراستي عن الموت في روايات الطيب الصالح. كان دائماً في حالة من نكران الذات والتواضع تجعله حيياً حين يذكر بفضل أو يخص بشكر أو مدح.
    آتاه الله القبول ومحبة الناس؛ فما ألتقاه أحد إلا وأحس أنه يعرفه منذ زمن طويل. كنا نفترق شهوراً عددا وعندما نلتقي نبدأ الحديث من آخر مشهد كنا فيه؛ وكأنه لم يغب عنا سوى ليلة واحدة. وكان حديثه دائماً أبعد ما يكون عن نفسه بل متفقداً من حوله ويسأل عن أخبارهم.
    حديثه ممتع وشائق ومتعدد الجوانب لا تفوق متعة حديثه إلا متعة قراءة رواياته. فكان في كل محفل رسمي أو خاص هو تفاحة المجلس. يستهل حديثه دائماً بحرف النداء وحميمة الخطاب "ياأخي" يستهل بها الجملة ويختمها فيستشعر محدثه صلة الأخوة والمحبة تسري بين أوصاله.
    عندما نحدثه أن يكتب سيرته كان يضحك ويقول: لكن خلاص وقتها جاء؟ّ" ويروي لنا قصة ذلك الشيخ الذي كان يحتضر فيغيب عن الوعي، وعندما يفتح عينيه يقول له أبناؤه "يابوي اتشهد" فيجيبهم: "لكن خلاص بقيت عليها".
    رحم الله الطيب صالح الذي كثيراً ما كان يسخر من رمزية الأسماء "والله لا أنا طيب ولا صالح". كانت الدعابة على طرف لسانه يخرج من موضوع إلى آخر في سماحة ويسر وسهولة يذكرك بشيخ الأدباء الجاحظ وهو يطوف بك من مقام إلى مقام ومن حدث إلى حدث وفي كل ذلك يفيدك علماً ومتعة ونبلاً وصفاءً.
    لم يأكل الخبز برواياته بل كان إعلامياً شاملاً: صحفياً إذاعياً خبيراً تربوياً إدارياً متمرساً عرفته إذاعة البي بي سي بلندن وأروقة اليونسكو في باريس والأردن ووزارة الإعلام في قطر، وكثير من المحافل الإقليمية والدولية. كان الطيب صالح هو الدبلوماسي المثقف المبدع الإعلامي الشامل. كان له أن يأكل الشهد برواياته وليس الخبز ولكن من عجب كان يرى نفسه كاتباً هاوياً وليس محترفاً. وعندما تحدثه أما آن الأوان ليصدر عملاً جديداً كان يضحك ويقول إنه قد يجبر نفسه على كتابة بحث أو دراسة أو مقالة أو محاضرة أما الإبداع -شعراً أو نثرا- فهو الذي يكتبك وأنت لا تكتبه؛ وعنده أن الإبداع يختار موضوعه وزمانه ومكانه ورؤيته الفنية.
    كان يجبر نفسه على ألوان من القراءات الواسعة المتنوعة ولساعات طويلة، وينهي التزامات متعددة في مؤتمرات ومحافل ومحاضرات، لكنه أبداً لا يجبر نفسه ولا يشغله هم أن يكتب رواية أو قصة؛ لأنها على حد قناعته: هي التي تكتبه. كان له علم بكل تخصص يحدثك في الاقتصاد والاجتماع وعلم السياسة وتاريخ الأديان والتراث -عربيه وسودانيه- وشتى المعارف حديث مختص وعالم. ومع ذلك عندما تمدحه أو تثني عليه يبتسم ويقول (يأخي: أنا تربال ساكت). وكان رأيه في الناس، كل الناس: "ياأخي دا راجل فاضل"، تخرج في صوت عميق ومنغم ومميز، هو صوت الطيب صالح الذي لا تخطئه أذن؛ كل الناس عنده فاضلون، لا يغتاب ولا يعتب ولا يسخر من أحد. براعته في اللغة الإنجليزية حديثاً وكتابة ونطقاً قل من يجاريه فيها حتى من أبنائها، ومع ذلك عندما يتحدث تلتمس فيه تواضع معلمي خلاوي القرآن وطيبة أهلنا الفقرا والترابلة في قرى السودان.
    كان زاهداً في الشهرة عن صدق وهي تسعى إليه وتحيط به من كل جانب، كان يقول في صدق: "أقول لك ليس لدي أي إحساس بأهمية ما كتبت ولا أحس أني مهم هذا ليس تواضعاً ولكنها الحقيقة، إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكن قطرة في بحر قصيرة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر".
    ولعل من أكثر علامات الاستفهام في حياة الطيب صالح أنه لم يكثر من الكتابة، ولو أراد لأصدر كل عام عملاً جديداً مستنداً إلى اسمه وتاريخه وكان ذلك العمل سيجد القبول والاهتمام من الأوساط الأدبية ولكنه لم يفعل ذلك لأنه في تقديري لم يرد أن يكرر نفسه أو يجبرها على شيء لم تجد هي به، ولهذا كان صادقاً في قناعته أن العمل الفني هو الذي يكتبك لا أنت الذي تكتبه. ولعل الطيب صالح هنا يشبه عدداً من أولئك المبدعين الذين عرفوا بنص واحد كان هو مدار إبداعهم فاشتهروا به، شهرة الطيب صالح بموسم الهجرة إلى الشمال؛ هو عمل واحد بلغ بصاحبه القمة وأبقاه عليها ما يزيد عن أربعة قرون من الزمان.
    لم أرد "ياترابلة السودان" أن أتحدث عن الطيب صالح وأدبه وفنه، وكان لي شرف هذه المحاولة في عملين صدر أولهما عام 1983 "قراءة جديدة في روايات الطيب صالح" وعمل آخر في أواخر التسعينيات عن الموت في روايات الطيب صالح ثم دراسة موجزة عن كتابه "المنسي"؛ ولكن أردت فقط أن أقول للتاريخ: إن جيلاً شهد أو سمع أو حادث أو جالس -على سبيل المثال لا الحصر- عبدالله الطيب وعون الشريف وصلاح أحمد إبراهيم وعلي المك ومحمد المهدي مجذوب وعلي عبدالقيوم وعبدالرحيم أبو الذكرى ومحمد عبدالحي ومصطفى سند وأحمد عبدالعال وعثمان حسين وإبراهيم عوض وإسماعيل العتباني والنور عثمان ابكر، والطيب صالح وغيرهم من المبدعين لجيل خصه الله بنعم جليلة. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

    ---------------------------------------------

    عندما يرحل الطيب..

    حسن عبدربه المصرى GMT 12:00:00 2009 الجمعة 20 فبراير

    عرفت الصديق الطيب صالح قارئا قبل أن أتعرف عليه إنساناًً.. قرأت له كما قرأ ملايين غيري روائيته العالمية موسم الهجرة إلي الشمال.. وعرس الزين و دومة ود حامد.. وعشرات المقالات والمُلح التي كان يخطها في المجلات والدوريات الادبية والصحف.. وحضرت له بعض الأمسيات القليلة التي شارك فيها حاكياً ومتفلسفاً بلا تعال أو نفاق.. لكني ربما أتفرد بواقعة جمعت بيننا، قصتها فيما بعد علي أخي جابر عصفور لأسباب عدة فوافقني علي بعضا من استنتاجاتي..


    دعيت في منتصف عام 2004 لمؤتمر الثقافة العربية بالقاهرة، وعندما دخلت إلي صالة الانتظار بمطار هيثرو / لندن - في انتظار السماح للركاب بالتوجه إلي الطائرة - لمحته بين المنتظرين هادئا متأملاًً.. دنوت منه وحييته وجلسنا نتبادل أطراف الحديث حتى دُعينا لاحتلال قلب الطائرة.. فرقت بيننا أرقام المقاعد، وانشغل كل منا بما يحمله في حله وترحاله من فكر وهموم..


    اتجهت الطائرة بعد عبور البحر المتوسط إلي مطار الأقصر – جنوب مصر - لإفراغ ما في بطنها من حمل سياحي قادم من الشمال إلي الجنوب.. وبقي المسافرون إلي القاهرة في أماكنهم لمدة ثلاثة أرباع الساعة، ثم اتجهت بهم الطائرة إلي مقصدها ومقصدهم الأخير بعد طيران لمدة ساعة ً..


    لما انكمش عدد الركاب في الأقصر إلي الثلث تقريبا وقبل أن تعاود الطائرة التحليق في اتجاه القاهرة.. لاحت فرصة للدردشة مع الطيب.. لاحظت شحوباً علي وجهه.. سألته ما بك قال.. أكاد اجن.. لم أدخن سيجارة منذ دخلنا إلي قاعة الانتظار في مطار لندن !!.. وبحساب بسيط وجدت أن صديقي المدخن الكبير قد توقف قسرا عن تعاطي السجائر لمدة تقترب من السبع ساعات.. قلت له متفكها لعلي اخفف عنه وطأة ما به من أحزان والآم دخانيه تكاد تعصف بما بقي من تحفظه.. أول مرة في حياتي أري شخصياً يعاني من هبوط في مؤشر النيكوتين.. تبسم بغيظ وزفر، كأنما حال لسانه يقول هو أنا ناقصك..


    كان باقياً علي الإقلاع إلي القاهرة بضع دقائـق.. همست في أذن الممثل الشاب الواعد مصطفي شعبان – الذي كان ضمن الركاب - قائلا.. خليني اقدمك إلي شخصية أدبية عالمية ربما سمعت بصاحبها ولم تتعرف عليه.. رحب سعيدا..
    قدمته للطيب وجلسنا نحن الاثنين معه نسري عنه ونخفف عنه طوال ساعة الطيران.. وازعم انه استجاب لحديثنا وهو في شبه غيبوبة نيكوتينية حادة..


    عندما هبطت الطائرة في مطار القاهرة.. استأذن مصطفي شعبان ليحمل أمتعته.. وبقيت مع الطيب.. وصعدنا معاً إلي الأتوبيس الذي أوصلنا إلي باب دخول صالة فحص وثائق السفر.. ما ان اجتاز الطيب لافتة ادخلوها بسلام آمنين، إلا وأشعل سيجارة وامتص دخانها في اقل من دقيقة.. وفي طريقه لإشعال الثانية، كاد أن يصطدم بمسئول الأمن الذي سارع للتنبيه عليه بأن المكان غير مسموح فيه بالتدخين.. وتدخلت بين الاثنين.. شارحا للمسئول الحالة النيكوتينية بالغة السوء التي عليها الطيب.. ورجوت الطيب أن يؤجل سيجارته الثانية إلي أن نخرج إلي حيث يستقبلنا مندوبي المؤتمر المضيف، فانصاع في الم..

    تذكرت بطل رائعته موسم الهجرة إلي الشمال مصطفي سعيد..
    كان مسافراً علي متن سيارة نقل ركاب إلي العاصمة الخرطوم.. عند الغروب توقفت السيارة للراحة وللصلاة.. يقول الراوي أن رجلاً مسنا يمسك بعصاه طويلة تقدم من بعض الركاب وطلب من احدهم سيجارة.. وانه نفس دخانها في سرعة بالغة.. ثم اتبعها بثانية..


    طابقت بين الصورة الحية التي شاهدت عليها الطيب عام 2004 والصورة القلمية التي رسمها بإبداع للرجل المسن في روايته التي نشرت عام 1966.. ورأيت فيها تماثلا إنسانياً قل أن يشعر به القارئ إلا إذا عايش تجربة حقيقة..


    حكيت لأخي جابر عصفور ما وقع لصحابه الحميم في مطار القاهرة.. وتذكرنا سويا بطله في روايته الشامخة.. ضرب لي أمثال لوقائع حية وصور أدبية.. لكن هذه الصورة الإنسانية المجردة من كل زيف، بقيت راسخة.. وازعم أنها ستظل كذلك في نفس مكانة إبداعات الطيب صالح عليه رحمة الله..

    الدكتور حسن عبد ربه المصري
    • استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا [email protected]،uk
                  

02-24-2009, 09:24 AM

جعفر محي الدين
<aجعفر محي الدين
تاريخ التسجيل: 11-12-2008
مجموع المشاركات: 3649

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    شكرا أخي الكيك على هذا السياحة فيما كتب عن أديبنا العظيم الراحل والمغفور له بإذن الله الطيب صالح
    وهذا خبر يفرحنا ............

    ناشر الطيب صالح يروي حكاية إصدارات جديدة له ستبصر النور

    الأمير ودويهي: رجل الأصالة الذي نهل من الشعر

    بيروت: سوسن الأبطح

    «خلال أشهر تصدر المجموعة الروائية الكاملة للطيب صالح، وتصبح بين يدي القراء. وبعد أيام قليلة فقط سيصدر الكتاب العاشر من مقالات الطيب صالح التي جُمعت في تسعة كتب لغاية الآن». وستبصر الإصدارات النور بناء على اتفاق بين الطيب صالح وناشره رياض الريس، تم قبل رحيل الكاتب، والريس ماضٍ في الاتفاق. ليس ذلك فحسب، بل إن رسائل رائعة تبادلها الطيب صالح مع أدباء عدة وكذلك مع ناشره رياض الريس موجودة في عهدة الدار، لا بد أن تبصر النور لاحقا. هذا ما أخبرنا به رياض الريس أمس، بعد أن علم بنبأ وفاة الراحل الكبير، مبديا حزنه من رحيل كتّابه واحدهم بعد الآخر. فلم يمض على وفاة محمود درويش أشهر، حتى جاء النبأ الحزين لوفاة الطيب صالح. ونستفسر من رياض الريس عن صاحب فكرة جمع مقالات الطيب صالح، خصوصا وأن الأخير كان رجلا كسولا لا مباليا، لا يُعنى كثيرا بأن تجمع مقالاته أو تضيع، هنا يضحك الريس ويقول: «بالفعل هو كاتب كسول جدا، لكنه كسل جميل، كان يتخفى وراءه ليهرب من الكتابة أو يتقاعس عنها. نحن فقط طلبنا إذنه، وما قاله حينها أنه لا يمانع، لكنه لا يريد أن يتكفل بالبحث والتنقيب وترك لنا هذه المهمة، وهو ما فعلناه. والنتيجة أننا أنقذنا هذه الكتابات التي كانت لتضيع لو أننا لم نجمعها وباتت اليوم بين دفتي عشرة كتب، بعضها أكثر شعبية من رواياته نفسها. وقد كان الطيب صالح سعيدا بها وهو يراها تبصر النور على هذا النحو».

    يتحدث الريس عن الطيب صالح بكثير من الحزن، فقد أراد أن يكرمه لمرة ثانية في بيروت، فالتكريم الذي أقيم له منذ ست سنوات أسعده كثيرا، وكان يريد له أن يعود، لكن المرض الذي يقعده منذ سنتين حال دون ذلك. «هذا الرجل هو أحد أعمدة الرواية العربية في الخمسين سنة الماضية»، هكذا يصف الريس الطيب صالح «هو على مستوى محفوظ. هناك جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، وربما لا يزيد عدد هؤلاء الكبار على العشرة». يستذكر الريس أيضا كيف أن أول من شجع الطيب صالح على نشر روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» هو توفيق صايغ، وصدرت في العدد الأول من مجلة حوار. ولا يمكن أن نغمط الطيب صالح دوره الذي لعبه في الصحافة أيضا، وفي العمل الإذاعي عبر الـ«بي بي سي». بكثير من التأثر يتحدث الريس عن الفشل الكلوي الذي أصاب الطيب صالح، وعن معاناته في البحث عن متبرع بكلية، وعن الجلطة الأولى والثانية اللتين أصابتا الأديب، ثم الثالثة التي لم ينجُ منها على ما يبدو، والمتبرع بالكلية الذي اختفى قبل أن يسدي إليه خدمة تساوي عمرا.

    أصدقاء الطيب صالح في لبنان ليسوا كثرا، لكن محبيه أكثر من أي يحصوا، الروائية رشا الأمير التي التقته لمرات ثلاث، تتحدث عن قدرة بديعة له في إلقاء الشعر. قرأ على مسمعها المتنبي فطربت: «في القاهرة التقيته، وجمعنا حب المتنبي، فقرأ لي من أبياته، بصوته الجميل الدافئ. صوته كما كتاباته لا مكان فيه للبروتوكولات والتكلف. اليوم أشعر بالأسف لأنني لم أسجل له تلك القراءات. حين يخطب أيضا كان يملأ المكان بصوته الجهوري وقدرته القوية على الإلقاء». وتضيف رشا الأمير: «لو طُلب إليّ أن أختصر هذا الرجل الشديد الراقي بكلمتين لقلت إنه أديب كبير وصوت مدرب ومتمرس، سواء في مخارج الألفاظ أو في الإلقاء». «مشكلة الطيب صالح وسره» كما تقول رشا الأمير «في خجله وخفره. رجل لا يحب الضوء، لا، بل يهرب منه ويتحاشاه. ومن البديع أن الناس كرموه دون أن يطلب أو حتى يبحث عن ذلك، لا، بل كان زاهدا ومتعففا. هذا جيل آخر، غير جيل الأدباء الجديد الذي يستجدي الشهرة ويطاردها، الطيب صالح كانت النجومية هي التي تطارده». وحين نسألها عن سرّ أسلوبه السلس وعربيته المرنة اللدنة، تقول رشا الأمير: «الطيب صالح كان عاشقا للشعر العربي، وهو أحد الروائيين العرب القلة الذين فهموا أن النثر العربي لا يستطيع إلا أن يتغذى بالشعر. صحيح أنه ترك لنا ثلاث تحف صغيرة لا أكثر، لكنها كانت كافية لإسعادنا. فمن ميزاته أيضا أن زهده وتقشفه انعكسا على أسلوبه، ولربما كسله أيضا، فهو يكتب جملته على قد المعنى دون ثرثرة أو إطالة». تتحدث الأمير عن كاتب «راق، ومترفع، عاش حياته بالطول والعرض، بعيدا عن لوثة الضجيج، لذا فمن يستطيع أن لا يحب الطيب صالح؟».

    الروائي اللبناني جبور الدويهي يقول: «لعل البعض يلومني لو قلت إنني أحبه أكثر من نجيب محفوظ، لكنني معه أشعر بأنني في مكان رحب وعالم متسع. لقد استطاع الطيب صالح أن يقدم إنجازا لم يقدر عليه غيره، فلقد استطاع تحويل المحلي إلى عالمي. ليس سهلا أنه تمكن من أن يجعل هذه القرية السودانية النائية التي كتب عنها، مكانا يجسّد حالة عالمية وإنسانية فياضة». ما يعجب جبور دويهي في الطيب صالح أيضا إحساسه معه بأنه «رجل أصيل وبلا عقد. أصيل في أسلوبه وسرده، ولا يتعامل بموقف مسبق مع الرواية الغربية. فروايته تتمتع بحرية تشبه تلك التي يتمتع بها هو نفسه في تعاطيه مع ذاته، وكل هذا ينمّ عن ثقة كبيرة في النفس. صحيح أنه مقل، لكن كل ما قرأته له كان يمتعني، فهو أديب يمد يده إلى قارئه».

    ولعل أفضل من تكلم عن الطيب صالح هو الطيب صالح نفسه، في مقابلة قديمة مع الزميلة هدى الحسيني تعود إلى السبعينات، يقول فيها شارحا ما يعتلج في نفسه في أثناء الكتابة: «مشكلاتي النفسية مرتبطة بعملية الكتابة فقط، لأنني أغرق في ينبوع داخلي عميق، وهذا الينبوع هو منطقة الفوضى. الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملا. وكلما أوغل الكاتب داخل نفسه بحثا عن الضوء، ازدادت الفوضى. ثم تأتي فكرة تستقر خلالها عملية الخلق فيتضح الطريق، وقد يكون خطأ أو صحيحا، المهم في تلك اللحظة هو: الضوء».
                  

02-24-2009, 11:15 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: جعفر محي الدين)

    شكرا الاخ
    جعفر محى الدين
    واشكرك على الاضافة المهمة

    ورغم ان اهل الانقاذ قالوا ما قالوا ومنعوا تدريس رواية موسم الهجرة الى الشمال فى كلية الاداب جامعة الخرطوم الا ان الدكنور غازى رغم ذلك كتب هذا المقال الرائع ..


    نَوح على تربال هاجر إلى بلاد «تموت من البرد حيتانها»


    د. غازى صلاح الدين


    إلهنا العظيم - أنت تعلم ما لا نعلم - جرى اليوم حدث عالمي الأبعاد. أخذ الموت الطيب صالح بعد أن أرجأه ثمانين عاماً. وإنها يا إلهي لصفقة عادلة -فلا اعتراض على حكمك. ثمانون عاماً جال فيها وصال، وكتب وقال، وأبدع وأمتع، وباختصار: زحم ذلك الأديب المتواضع الآفاق بمنكبيه. ولو أننا نظرنا إلى ما حققه بمعطيات بدايته لقدمناه على كل أولئك الذين بدأوا رحلة نجاحهم الأدبي وفي أفواههم ملاعق من ذهب.
    مثلنا، ومثل الناس جميعاً، حتى الصالحين منهم، كان الطيب يخاف من الموت«3» وهو، من شدة خوفه، جعل لتصاوير الموت في أدبه دراما وملحمة لها دويّ - بخلاف ما نفعل نحن حينما ننزوي عندما يذكر الموت. هو نصب للموت سرادقات من الخيال، وصوّره في ألوان شتى. صوّره وهو ينسل إلى فرائسه بصنوف المكر والمباغتة - قاعدة في رواياته لا تخطئ. مقتل جين مورس..مقتل حسنة بت محمود وود الريس في مشهد واحد..ثم مصرع ضو البيت الذي اختفى في البحر «اختفى، لا خبر ولا أثر، ذهب من حيث أتى، من الماء إلى الماء، ومن الظلام إلى الظلام»«4» كأن احتفاء الطيب بالموت هذه الحفاوة وتهويله هذا التهويل، محاولة منه لأن يسترضيه. وقد جاءه الموت بعد صراع متطاول مع المرض فكان بخلاف دراما قصصه، وهكذا أراده هو - فلك الحمد يا إلهنا.
    ----
    جلسنا -كما قلت لكم أيها السادة من قبل- عصر ذلك اليوم في مطعم ببرشلونة إلى طبق «بائيّة» دعاني إليه. كنت قد ذكرت لكم حينها، وأعيد القول هنا، أن أصل ذلك الاسم ككثير من مفردات الإسبانية، عربي، من «بقيّة» أو «بقايا». المورسكيون«5» الذين انقلب الدهر عليهم وفقدوا ملكاً «بكوا عليه كالنساء عندما لم يحافظوا عليه كالرجال» على قول عائشة والدة أبو عبد الله آخر ملوك بني الأحمر الذي سلم إيزابيلا وقرينها فردناند مفاتيح غرناطة، يبدو أنهم لجأوا إلى الاقتصاد في الأكل عندما انحطت أحوال معاشهم فاخترعوا أكلة البقايا يعدّونها بخلط بقايا الأرز والسمك وصنوف أخرى من الطعام في طبق واحد. إلى هنا والأمر لا يستحق الدهشة، الدهشة مصدرها أن أهل قشتالة وأرغون الذين تغلبوا على المورسكيين وسادوهم بعد أن انقلبت حظوظ دهرهم، لم يحسنوا من فنون الطبخ ولا من بدائع الحياة الحضرية شيئاً كثيراً ولا قليلاً؛ كانوا لا يحسنون غير القتال، فأخذوا فنون الطعام من المورسكيين الذين بقيت عاداتهم تحكي عن سؤدد قديم وعظمة قد قد أبلتها تصاريف الدهر.
    تلاحيت وأستاذ الطيب في جدوى فتح المسلمين إسبانيا، أو غزوها بحسب زاوية نظرك، لكننا لم نتلاح في حبّها، ولعل رائعة نزار قد تخللت تلافيف جدالنا فخففت من وطأته:
    في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد
    عينان سوداوان في حجريهما تتوالـد الأبعاد مـن أبعـاد
    هل أنت إسبانـية؟ ساءلـتها قالت: وفي غـرناطة ميلادي
    غرناطة؟ وصحت قرون سبعة في تينـك العينين بعد رقاد
    وأمـية راياتـها مرفوعـة وجيـادها موصـولة بجيـاد
    ما أغرب التاريخ كيف أعادني لحفيـدة سـمراء من أحفادي
    لم أسلّم له برأيه الذي ألحّ عليه هو واستغربت له أنا، لكنني خرجت من ذلك اللقاء بأن للرجل جرأة فكرية عجيبة وأن آراءه على بساطته في عرضها تحمل مخزوناً منطقياًً من مصلحتك ألا تستهين به. ما لم أذكره في تلك اللحظة، وربما لو ذكرته لأسعفتني الحجة عليه، هو أن كتابات الطيب تفضح ولهه بإسبانيا في عهدها الإسلامي، كولهه بكل ما يمت إلى العربية بصلة. تبينت ذلك في ما بعد، سواءً في كتاباته الصحفية عن الأكبريين «6»، أو لما عدت إلى «موسم الهجرة» فوجدت إحدى شخصياتها إيزابيلا سيمور تقول له، أو بالأحرى تقول لمصطفى سعيد:
    - «هل تدري أن أمي إسبانية»؛
    فيجيبها، أو بالأحرى يجيبها مصطفى سعيد:
    - «هذا إذن يفسر كل شيء. يفسر لقاءنا صدفة، وتفاهمنا تلقائياً، كأننا تعارفنا منذ قرون. لا بد أن جدي كان جندياً في جيش طارق بن زياد. ولا بد أنه قابل جدتك وهي تجني العنب في بستان في أشبيلية»
    ما الفرق إذن بين ما قاله نزار وما قاله الطيب، لا فرق سوى أن الطيب كان يجادل لكن بعقله ويكتب بقلبه.

    *****
    ثم اجتمعنا -أيها السادة - بدعوة منه مرة ثانية بمطعم بلندن، وهو لم يحدث أن سمع بزيارتي مدينة يقيم بها إلا بادر إلى دعوتي، رغم قصر مدة معرفتنا منذ تلاقينا أول مرة في عام 1998 ، كان دائما هكذا -شيخ عرب لا يسمح لك بأن تمد يدك إلى محفظتك لتدفع. يملأ وحشة غرباه بالأنس إلى كل من يذكّره في برد الغربة بعهوده القديمة حيث نشأ ومن حيث جاء.
    تسامرنا وتجادلنا وتلاحينا مرة أخرى، فهو لا يتوقف حين يرمي بوجهك رأياً يسخّّن الدم الصاعد إلى رأسك، لكنه يفعل ذلك بهدوء ولسان حاله يقول إن الغضب مرفوع وبيننا المنطق.
    طرح موضوع العنف، وهو السلوك الذي أجزم بأنه لا يجد في نفسه موقعاً ولا أذكر أنني صادفت شخصاً مسالماً مثله. أحببت أن أتفلسف فقلت: في عالم السياسة لا بد من درجة من العنف المنظّم المنضبط بالقانون والذي تنفذه الدولة لا الأفراد. فالسجن على سبيل المثال، والأحكام الأخرى العقابية، وقتال الأعداء كلها أعمال عنف مشروعة إذا انضبطت بضابط القانون وصدرت من سلطة ذات مشروعية.
    اكفهر وجهه، كأنه ندم على دعوتي، وبدا أنه غير حفيّ بأي حديث عن العنف حتى لو كان موضوعياً ومنطقياًً. تراجعت عن محاولتي وتراجعت عن الموضوع برمته بسرعة عندما أدركت أنه لا جدوى من نقاشه وأن أدنى ما يفعله طرح الموضوع هو التنكيد على أديب ذي نفس شاعرية لا يستسيغ مثل هذا المنطق القانوني الفظ.
    عادت بي الذكرى مرة أخرى إلى «موسم الهجرة» فتذكرت أن مصطفى سعيد المتهم زوراً في الذاكرة العامة بأنه صنيعة المستعمر كان في حقيقة أمره من أشد الناقمين على ذلك المستعمر. يقول مصطفى سعيد:
    - «البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد إنشئت أصلا لنقل الجنود. وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول «نعم» بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر....نعم يا سادتي إنني جئتكم غازياً في عقر داركم، قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلا. عطيل كان أكذوبة».
    جرثومة العنف الأوروبي..إذن الطيب لم يكن ناقماً على عنف الحكم الوطني وحده، بل هو يعد جرثومته الأصلية قد وردت من أوروبا. لهذا السبب هو متشكك في كل ضروب العنف، طاعناً في جدواه، وفي مشروعيته، وفي مشروعية الذين يفترضون لأنفسهم حق ممارسته، حتى لو أسندت دعواهم حجج العلم والقانون.
    تتضح مفاهيم الطيب السياسية أكثر شيء في روايته «دومة ود حامد». وهي رواية حافلة بالرمزية السياسية الذكيّة، بل إنني أرى الرواية كلها نقداً وسخرية عميقة من العقلية السياسية التي حكمت السودان في العهدين الاستعماري والوطني، وللأساليب التي مورس بها الحكم. ويتميّز الطيب هنا بعدم اجترائه على نقد الحكم الوطني وحده -على عادة كثير من المثقفين- وكأنه يقول إن جرثومة الإخفاق نشأت في العهد الاستعماري واستمرت في العهد الوطني. أقوى تلخيص لهذا النقد يأتي في خاتمة الرواية عندما يلقي السائل باستفساره:
    - «هل تظن أن الدومة ستقطع يوماً؟»
    فيجيبه الراوي العجوز:
    - «لن تكون ثمة ضرورة لقطع الدومة. ليس ثمة داع لإزالة الضريح. الأمر الذي فات على هؤلاء الناس جميعاً أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء -يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة»
    إنه لا يرى منطقاً وراء كل هذه الصراعات التي شغلت حكومة المستعمر كما شغلت الساسة الوطنيين وحكوماتهم وأنصارهم من الأحزاب وأدمت البلاد وأرهقتها. ولو أنهم تدبروا الأمر مليّاً وأبدوا القدر اللازم من العقل والتواضع لتجاوزوا كل المشكلات وحققوا كل المطالب دون حاجة إلى صراع ولا دماء.

    *****
    موهبة الطيب تمثلت في براعته في الانتقال بطرفة عين من عالم جين سيمور إلى عالم بت مجذوب، وهما عالمان بينهما مهامه فيافي. وهو رغم إعجابه بعالم جين سيمور يظل وفياً لبيئته الأولى التي نشأ بها، فخوراً بها على علاتها. هذه القدرة على تقديم بيئته في وطنه الأول وعرض الجوانب الإنسانية والخير الراسخة في أهله؛ هذا المزيج من شكوى الزمان ولكن في صبر واحتساب تبرز جانب العبقرية التي ميزت الطيب وقربت أدبه إلى ثقافات بشرية أخرى شتى.
    جدير بالإشارة إلى أن منهج الطيب هنا متردد ومتكرر في الأدبيات السودانية. أنظر إلى وصف الاحتساب والتسليم العميق بالقدر في الشخصية السودانية عند المجذوب حين يقول:
    وطني الذي أهوى كتاب ملاحم كبرى تضيء على الزمان وتبهر
    وعمائم بيض تهل غمائماً في ظلها كرم يهشّ منضر
    وقرى على النيل الوفي برزقه ترضى وتؤمن بالقضاء وتصبر«01»
    والبيت الأخير هو بيت القصيد، فلا سمة أظهر في ذلك العالم من الصبر ثم الاستعداد لمزيد من الصبر في قرى عيشها وصبحها ومساها أن ترضى وتؤمن بالقضاء وتصبر.
    يقول الراوي في «دومة ود حامد» ملخصاً تلك المعاني، ولكن باستفاضة نثرية:
    - «لو جئت بلدنا سائحاً، فأغلب الظن يا بني أنك لن تمكث فيها طويلاً؛ تجيئنا شتاءً وقت لقاح النخل، فترى سحابة داكنة ربضت على البلد...هذا سرب واحد من أسراب النمتة التي تربط على الداخلين إلينا أفواه الطرق...وتجيئنا صيفاً فتجد عندنا ذباب البقر -ذباب ضخم كحملان الخريف، كما نقول بلهجتنا، ومن هذا البلاء أهون عليك النمتة ألف مرة»
    ثم يخلص الراوي إلى حكمه على ذلك العالم دون إحساس بالخجل منه:
    «سترحل عن بلدنا غداً، أنا واثق من ذلك، وحسناً تفعل، مالك ولهذا العناء؟ نحن قوم جلودنا ثخينة، ليست كجلود سائر الناس. لقد اعتدنا هذه الحياة الخشنة، بل نحن في الواقع نحبها، لكننا لا نطلب من أحد أن يجشم نفسه مشقة الحياة عندنا» «11»
    هذه الحفاوة بالفقر والبؤس التي تخفي تحتها عظمة الإنسان تذكر بتشبيب صلاح أحمد إبراهيم بالسودان على علاته متحدياً من يعترض:
    ما شين ودشن...وهظاره خشن
    بسموم وسوافى...وحر سيافى...وقولة مافى
    شين ودشن، لكنه برغم ذلك:
    الشعب الحر...الفعله بسر...أب لحما مر
    دا أخو الواقفة تعشى الضيف
    الحافظ ديمه حقوق الغير
    سيد الماعون السالي السيف
    الهدمو مترب وقلبو نضيف
    خصوصية السودان هذه لم يقتصر التعبير عنها على أدبائه بل عبّر عنها آخرون كان الطيب لصيقاً بعالمهم الواسع المركب. أنظر إلى ما يقوله روديارد كيبلنق شاعر الإمبراطورية البريطانية عن هذه الخصوصية:
    عبر البحار كم جالدنا الأعداء
    بعضهم كان جسوراً وبعضهم لم يكن كذلك
    الباتان...الزولو...والبورميين
    لكن الأشعث كان أعجبهم جميعاً«21»
    والأشعث يمثل مقاتلي الأمير عثمان دقنة في الشرق خاصة في معركة التيب في فبراير عام 1884م.

    *****
    «عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا. تعلمت الكثير، وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى. المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل. سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم، فرحوا بي وضجّوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زماناً في بلاد «تموت من البرد حيتانها»«31»
    هاجر التربال في 1952، ملأ الدنيا بأحاديثه عن الناس وأحاديث الناس عنه. نال الجوائز والتقديرات، ألقى المحاضرات، شهد المناظرات، ثم عاد محمولاً إلى بلده بعد سياحة سبعة وخمسين عاماً. عاد مقروراً من بلاد تجمد الشموس من بردها وتهلك الحيتان في بحارها. عاد محمولا على نعش وأفضى إلى عالم جديد عالم يستوي فيه الناس بين يدي عدالة سماوية تستعصي على بشريتنا أسرارها.
    فيا إلهنا الواحد الأحد، أنت القائل:
    (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)«41».
    ما أعظم وعيدك يا إلهى، ولكن ما أوفى وعدك؛ ما أهول عذابك، ولكن ما أوسع عفوك. في يوم يأتيك فيه الناس بارزين بمخازيهم: الجبابرة بارزون بظلمهم وتجبرهم؛ الخونة بارزون بخيانتهم، الأشحاء بارزون بشحهم؛ القتلة بارزون بقتلاهم؛ المفسدون بإفسادهم؛ جميعهم بارزون لا يخفى منهم شيء.
    لمن الملك اليوم- أعظم بالسؤال وأعظم بالسائل! لله الواحد القهار.
    إلهنا كيف نقدم لك تربالاً بسيطاً وكيف نشهد له عندك. أنقول إنه كان كالحسن البصري زهداً؟ أم نقول إنه كان كأبي الدرداء عبادة؟ لا نقول، ولكن من منا بلغ ذلك المبلغ؟
    ولكن إلهنا الفرد الصمد نقول: إنه كان من أكثر الناس تواضعاً، جاب الأرض وأكرمته الملوك، واحتفى به الناس من جميع الأجناس، لكنه لم يستهوه النظر في عطفيه، بل كان يقول ببساطة: «أنا رجل بسيط؛ تربال ابن تربال».
    نقول يا إلهنا: إنه كان رجلاً مسالما، لم يؤذ أحداً ولا استلب حق أحد من الناس.
    نقول يا إلهنا العلي العظيم: إنه أحب تلك اللغة الجميلة وعرّف العالم بها، لغة كتابك وقرآنك.
    إلهنا إننا نشهد له بذلك وأنت أعلم بسريرته منّا، ونحن إذ ندعوك نعلم أنه لا يدخل أحدنا جنتك بعمله، ولكن يدخلها بفضلك ورحمتك التي وسعت كل شيء. إلهنا، أما وقد أودعناه لديك وأسلمه الأشحاء منا إلى حسابه، فأدخله الجنة بفضلك لا بعمله، فما أغناك سبحانك عن عذابه وما أحوجه هو إلى رحمتك.

    ??????
    هوامش
    1- تربال: تعني المزارع المباشر للأرض والفلاحة؛ وفي ظني أن المقصود بها أفقر أنواع الزراع وأبأسهم لأنه عامل على الأرض غير مالك لها. والشائع ردها إلى اللغة النوبية، وللعلامة عبد الله الطيب مذهب في ردها إلى العربية باعتبار أن أصلها «تربان» من التراب، وهو رأي كما ترى لا يخلو من ذكاء وطرافة، وإن كنت أرجح الأصل النوبي، فهكذا في دارجيتنا معظم ما يتعلق بالزراعة.
    2- تعبير مقتبس من مقدمة «موسم الهجرة إلى الشمال».
    3- قال رسول الله، «صلى الله عليه وسلم»: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت. قال: ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه؛ وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه.
    4- بندرشاه.
    5- المورسكيون هم من بقى من المسلمين في مدن مملكتي قشتالة وأرغون بعد زوال دولتهم بدخول إيزابيلا القشتالية وزوجها فردناند الأرغوني مدينة غرناطة عام1492م.. وقد ظل المورسكيون في حالة تمرد وثورات قرابة المائة وعشرين سنة بسبب نقض المعاهدة التي ضمنت حقوقهم وخرج بموجبها آخر حاكم مسلم هو أبو عبد الله من غرناطة. وعندما ضاقت الدولة القشتالية (سلف مملكة إسبانيا الراهنة) بتمسكهم بدينهم وثقافتهم خيرتهم في عام «1609» بين الخروج نهائياً من جزيرة إيبيريا أو التحول إلى الكاثوليكية واطّراح اللغة والملابس العربية إلى غير رجعة ودون أية مساومة.
    6- الأكبريون: أتباع «الإمام الأكبر» محيي الدين بن عربي من الإسبان والأوروبيين الذين اعتنقوا الإسلام.
    7- موسم الهجرة إلى الشمال.
    8- موسم الهجرة إلى الشمال.
    9- دومة ود حامد.
    01- محمد المهدي المجذوب: من قصيدة عيد الحرية -أم درمان - ديسمبر 1957.
    11- دومة ود حامد.
    21- قصيدة فزي- وزي، (الأشعث الباسل) لشاعر الإمبراطورية روديارد كيبلنق،
    We›ve fought with many men acrost the seas,
    An› some of ‹em was brave an› some was not:
    The Paythan an› the Zulu an› Burmese;
    But the Fuzzy was the finest o› the lot.
    Fuzzy-wuzzy - by Rudyard Kipling
    يلاحظ أن الشاعر كتبها بدارجة ليفربول، ربما لتكون أقرب لفهم الجنود والعامة.
    31- من مقدمة «موسم الهجرة إلى الشمال».
    41- سورة غافر: الآيتان «51-61».

                  

02-25-2009, 00:07 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    مواسم هجرة عصافير الخريف إلى برزخها


    مواسم هجرة عصافير الخريف إلى برزخها من أصحى فينا منسى الكلام ومن جسد فينا
    المنسى...رحلا عملاقا خلف عملاق...النور عثمان الذى غنى للعشب والزهره والطيب صالح
    الذى صور نشوق هذه الأمة وشوقارتها وصور مواطاتها ودمرتها ورسم لوحات عرسها وحرك
    ساكن جلوس الكون لتنخلع رقابهم عن مواضعها من خلعة أرواحهم من جمال الفلكلور
    والتراث الثر...والذى لا يخالطه فريك تراث آخر...الطيب الذى وقف طنابرة قصه وحناجرهم
    تجبد أنفاسها والصفقة والغنه ترتفع مع علالة الفرح وطوابير البـطان صفوفا من
    الفرسان حزت عضلات الفتونة سيور سكاكينهم حول أذرعهم والقدة القلوى والعطشى فى
    يد من ساخت أرجله فى جوف الأرض كأمينة المربعه لا يرتجف عندما يرمى بجمر السياط على ظهور
    أولئك الفرسان حتى تتفطر ظهورهم وكأنها فصدت بأمواس حداد والزين وجوقة الصبيه يثملهم
    خمر الفرح وكاميرة بنت مجذوب تصور الوقائع لتعيد صياغتها بلغتها الجريئة دون تكلف أو
    وجل وود الريس وصحبه يمارسون طقوس الحكى فى هيئاتهم التى صورهم عليها ذلكم الطيب والدخرى
    والخزين وألوان الطيف الأخرى يدورون فى أفلاك تدور حول خيط ذلكم الفلكى القدير الطيب وهو
    لا يتجاهل ضو البيت ولا يغض الطرف عن مريود ولا ينسى دومة ود حامد ذلك البربندى الذى ربـط
    فيه فرس إبداعه وأغدق عليه عليقة تكلفه إلى يوم الدين ذلكم الحكيم ذو النظر الثاقب
    إستطاع أن يجسد من خاماتنا المحليه ألاف من التاج محل والاف من الحدائق المعلقة والإهرامات
    والمسلات لا بل ألاف من العجائب والعجائب التى لا يقوى عليها فك الكون فينفك عن موضعه من قوة
    جرعة الدهشه التى باغتته من بعض سحر إبن موسى وإبن منطقته فى الشمال السودانى ذلكم الأديب
    العفيف العنيف ذرب اللسان عميق المعانى الطيب صالح الذى خطى أسطورته فى القص بمهارة جند
    سليمان التى ألزمت بلقيس لتكشف عن ساقيها ليكشف له كل الكون عن سيقانه لا بل يتجرد من كل
    محيط ومخيط ليسبح فى بحر حقيقته راضيا عليه ومرضيا به...والان فى هذا الموسم تتحقق هجرة
    أديبنا إلى اليمين لا الشمال محلقا فى عالم برزخه فرحا ببذه وبذله متيقنا من دأب وديدن
    إستثماره الذى سيقبض ريعه فى الفردوس بإذن الله صدقات لا تنقطع...فالآن تبدأ رحلة البحث فى
    كنه ذلك العبقرى الذى خلف لنا مجدا متجددا وفتح لنا أبوابا للنجاح كادت أن تتعذر لولاه
    اللهم تغمضه بلطفك فى قبره وأجلس عليه ملائكة القص يسلونه وأبعثه ملاكا يسلينا فى الفردوس....................




    منصور عبدالله المفتاح
                  

02-25-2009, 04:59 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: munswor almophtah)

    شكرا منصور
    على الكلام الرائع والابداع
    نتواصل لكم وبكم

    وهنا مقال رائع للكاتب الكبير الاستاذ كمال الجزولى

    مُعَلَّقَاً بِخُيُوطِ الشَّمْسِ الغَارِبَةِ .. مَضَى! بقلم: كمال الجزولي
    الثلاثاء, 24 فبراير 2009 20:38

    "الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين .. الصداقة والمحبة"!
    ود الرَّوَّاس
    (بندر شاه: مريود، ص 37 ـ 38)
    (1)
    في الثامنة من مساء الثلاثاء 17/2/09 قرَّر محمود صالح، الصديق الصدوق للطيِّب صالح، والذي بقي ملازماً له في رقدته الأخيرة، مثلما في كلِّ أوقات مرضه العصيبة خلال الفترة الماضية، أن يتوجَّه من مستشفى سانت هيلير في ضاحية ميرتون، بجوار ويمبلدون جنوب غرب العاصمة البريطانيَّة، حيث يرقد الطيِّب بعنبر هاري سيكوم لغسيل الكلى، إلى شقة إبنه الكائنة بناحية المطار غربيَّ لندن، كي يأخذ قسطاً من الراحة، يعود بعدها ليبقى قريباً من خدن روحه. لكنه ما كاد يبلغ الشقة، ولم تكن قد مضت على مغادرته المستشفى سوى أقل من ساعتين هي مسافة الطريق الزَّمنيَّة، حتى رنَّت نغمة جواله تنقل إليه الفاجعة:
    ـ "عُد فوراً. حالة الطيِّب تردَّت، فجأة، إلى أدنى درجة"!
    ............................
    ............................
    ظلَّ الطيِّب، طوال السنوات الماضية، في صراع يشتدُّ ويخفت، ليشتدَّ مجدَّداً، مع الداء الوبيل الذي أصاب كليتيه. وفي الأثناء ظلَّ يتردَّد على الأطباء بين لندن والقاهرة، أملاً في وصفة تستبعد مخايل عمليَّة نقل الكليَّة التي كان من رأي بعضهم ألا بديل عنها. ومع الأيام تكاثر، للأسف، أصحاب هذا الرأي من الاختصاصيين هنا وهناك، حتى صاروا أغلبية عظمى. فبدأ مشوار المعاناة في البحث عن مانح متطوِّع ملائم، وفي المفاضلة بين بلد وبلد، وبين مستشفى ومستشفى، وبين جرَّاح وجرَّاح.
    أخيراً وُجد المانح، وهو شاب من كوستي أصرَّ على عدم ذكر اسمه، فأدخِل مع الطيِّب مستشفى ميديكال كير الخاص بدُبَي، في فبراير 2008م، حيث تقرَّر إجراء العمليَّة هناك على يد الجرَّاح السوداني الكبير كمال ابو سن. سوى أن الفحوصات التحضيريَّة ما لبثت أن كشفت، للأسف، عن ضيق في أحد شرايين الطيِّب التاجيَّة، نتيجة إدمانه التدخين أغلب سنوات عمره، مِمَّا استلزم وضع دُعَامة في الشريان المعطوب لتوسيع مجرى الدَّم، مثلما استلزم تأجيل العمليَّة، ضربة لازب، لسنتين على الأقل!
    عاد الطيِّب إلى لندن ليواظب على الغسيل ويحاول التعايش معه. لكنَّ ارتخاءً مفاجئاً وقع في الدُّعَامة، بعد ما لا يزيد عن الخمسة أشهر من وضعها في الشريان، مِمَّا استدعى نقله، على عجل، إلى مستشفى برومتون التخصُّصي لأمراض القلب، حيث أجريت له، في يوليو، عمليَّة أخرى لاستبدالها. غير أنه أصيب، عقب العمليَّة، بجلطة في الدماغ أدخلته في حالة تنويم استمرَّت لثلاثة أشهر قضاها بغرفة العناية المركَّزة!
    في نوفمبر أفاق تماماً، وبمستوى أشاع التفاؤل في نفوس أطبائه وأسرته وأصدقائه، فتمَّ نقله إلى مستشفى سانت هيلير القريبة من مسكنه، ليبقى تحت العناية الاعتياديَّة، والمداومة الروتينيَّة على الغسيل ثلاث مرَّات في الأسبوع. وبالفعل بدا، خلال الشهرين التاليين، أنه قد استعاد شهيَّته للطعام، وللقراءة، وللمؤانسة، وأن صحته، بوجه عام، آخذة في التحسُّن، حتى أنه شرع في ممارسة رياضة المشي والتمارين على الدَّرَّاجة الثابتة.
    لكن حالته انتكست، فجأة، للأسف، مع خواتيم يناير المنصرم، فدخل في إغماءة أخرى. ورغم كلِّ ما بذل الأطباء من جهد، إلا أن خط التدهور العام في صحَّته راح يواصل انحداره بسرعة متزايدة، يوماً عن يوم، وساعة بعد ساعة، حتى أسلم روحه الطاهرة لبارئها قبل ساعتين من منتصف تلك الليلة الشتائيَّة التي ما انفكَّت ريحها تعول .. ويب .. ويب .. ويب!
    ............................
    ............................
    قابلته آخر مرَّة قبل عامين. كان في إحدى زياراته إلى القاهرة، وكنت هناك بالمصادفة. إلتقينا على مأدبة غداء بشقة محمود، مع لفيف من أصدقائه وندمائه السودانيين والمصريين، وكان فيهم الشاعر صلاح أحمد محمد صالح، والشاعر الياس فتح الرحمن، والكاتب حسن ابَّشر الطيِّب، والصحفي مرتضى الغالي، والكاتب المصري المتخصِّص في أدب الأطفال محمود سالم، والكاتب والمترجم المصري عبد الرحيم الرفاعي، صديقه المقيم، حالياً، مع أسرته بجنيف، والذي زامله، لسنوات طوال، بهيئة الإذاعة البريطانيَّة، والذي يحرص على مرافقته إلى القاهرة كلما نزل إليها، وآخرين. كانت الجلسة ودودة، ومحفوفة بكرم أسرة محمود الفياض. وكان الأنس شائقاً تتخلله، كالعادة، لمعاً من القفشات المصريَّة. لكنَّ الطيِّب كان بادي الهزال والإعياء والرهق والهمِّ، ولا يكاد ينبس ببنت شفة، بل لم يكن نادراً ما يدع رأسه يتكئ على كتفه، ويدخل في نوبات إغفاء متقطعة، كلما غافل العيون المشتاقة، وكلما انزلق الكلام بعيداً عنه! وعندما نهضنا إلى المائدة الدسمة لمحت إناءين كبيرين فاخرين يتوسَّطانها، في أحدهما (أم رقيقة)، وفي الآخر (ملوخيَّة مفروكة). تذكَّرت، على الفور، ليلة سهرنا، الياس وشقيقي محمد وشخصي، قبل سنوات طوال، في شقة الطيِّب بالقاهرة، ذات شتاء قارس لبرده أزيز في الحنايا، ولصقيعه عضَّة في العظام، برفقة أصدقائه محمود صالح وحسن ابشر وعبد الرحمن سعيد والسِّر قدور وعمر يوسف، ثمَّ تعشينا، آخر الليل، على مزاجه الموغل في سودانيَّته، بـ (مُلاح وَرَق) كان أحضره له، بناء على طلبه المخصوص، صديقه حسن ابشر الذي كان يقيم، وقتها، مع أسرته هناك. قلت أداعبه بتلك الذكرى، عساه يخرج من حالة الصمت والكآبة التي تغمره. لكنه اكتفى بابتسامة كابية، وبدا كما لو لم يسمعني جيِّداً، مثلما بدا فاقداً الشهيَّة، لا للكلام، فحسب، وإنما للطعام أيضاً .. حتى السوداني الذي يفضله من بين أطعمة العالمين، رغم أنه لا يأكل، في العادة، إلا قليلاً، لكنه يبتهج لمرآه على المائدة، مثلما يبتهج لمرأى كلِّ شئ سوداني!
    أوَّل المساء أوصلناه، الياس ومرتضى وشخصي، بعربة الياس، وكان نائماً تقريباً، إلى حيث يقيم بالشقة التي كان يؤثرها على ما عداها، كلما زار القاهرة، والكائنة في البناية رقم 34 بالمهندسين ـ شارع جامعة الدول العربيَّة، وكنت سمعته، مرَّة، يتحدَّث عن رغبته في شرائها، لكنني لا أعلم إن كان فعل أم لا. أيقظناه، فترجَّل بصعوبة، وودَّعنا. لكنَّ إحساس قلق غامض ما لبث أن اجتاح ثلاثتنا، ونحن نبصره يعبر الرصيف، بخطو متثاقل، إلى مدخل العمارة، محاولاً أن يتفادى ثلة من الصبية كانوا يتسابقون بدرَّاجات رياضيَّة ملوَّنة. مع ذلك رأيناه يتمكَّث قليلاً، قبل أن يدلف، ليردَّ تحيَّة البوَّاب وزوجته وعيالهما، وقد هبُّوا لاستقباله خفافاً، ثمَّ يدخل يده في جيب جاكتته الداخلي يوزِّع على الأطفال ما تيسَّر.
    ............................
    ............................
    نفس هذا البوَّاب كان سألنا، عندما جئنا، الياس وشقيقي محمد وشخصي، نلبي دعوة الطيِّب في تلك الليلة الصقيعيَّة قبل سنوات طوال:
    ـ "مين الراجل الطيِّب ده؟! أنا بشوف صورو في الجرانين، وبيجي عندو باشوات ياما .. ده باين عليه باشا حقيقي"؟!
    ـ "أيوه .. ده راجل مشهور قوي في العالم كلو .. إنت بتعرف نجيب محفوظ يا حاج؟! أهو ده بقى زي نجيب محفوظ"؟!
    ـ "بس هوَّ يا بيه، الله يجبر بخاطرو، بيقعد معانا عالدكَّة هنا، وبياخد ويدِّي معانا في الكلام، وساعات كمان بيشرب معانا الشاي الكشري اللي بتعملهولو الوليَّة مراتي"!
    خطرت لي، لحظتها، خاطرة كاريكاتيريَّة غاية في الطرافة: الرِّوائي الكبير الذي صُنفت روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) ضمن أفضل مائة عمل أدبي في التاريخ البشري، والذي تتهافت كبريات دور النشر العالميَة على نشر أعماله بملايين النسخ، وبما يربو على الستين لغة حيَّة، ليطالعها الناس في القارَّات كلها، وتدرَّس في أعرق الجامعات، ويضع طلاب الدِّراسات العليا بحوثهم حولها ليحصلوا على درجات الدكتوراه والماجستير، وتتردَّد أسماء أبطاله في أركان الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، يقيم، في تلك الساعة، في شقة بسيطة بالقاهرة، يسهر مع الأصدقاء على سمر رائق، ويقدِّم لهم طعام السودانيين على العشاء؛ وفي الصباح، على حين تتبارى جميع المؤسَّسات الصحفيَّة والثقافيَّة على لفت انتباهه إليها، ويتسابق كلُّ المبدعين والنقاد، كبارهم قبل صغارهم، على الفوز بموعد للقائه، يروق له هو أن يجلس على (دكَّة) في مدخل عمارة ليتآنس ويشرب (الشاي الكشري) مع أسرة بوَّاب من عامَّة الناس!
    إلتفتُّ إلى الحاج قائلاً:
    ـ "آه .. طبعو كده، أصل هوَّ راجل حكيم، ومتواضع قوي .. وضارب الدنيا صرمة كمان"!
    فانطلقت زوجة الحاج تلهج بدعوات من القلب:
    ـ "إلهي يارب ينوِّلو اللي في مرادو، ويديلو الصِّحَّة وطولة العمر، ويزيدو كمان وكمان"!
    ............................
    ............................
    ما كاد محمود يغلق جوَّاله، حتى عدل عن دخول شقة إبنه وهي على مرمى حجر، ليخفَّ راجعاً، من فوره، إلى المستشفى، برغم الإرهاق الذي قشعه عن جسده، فجأة، قلق مزلزل! وصل المستشفى عند منتصف الليل. دلف إلى المبنى راكضاً، وقذف بنفسه داخل العنبر، يحدوه بصيص أمل في أن يجد الحالة قد تحسَّنت شيئاً. كانت هناك زوجة صديقه الاسكتلنديَّة جولي وبنتاهما سارة وسميرة يجهشن ببكاء حار. أما الإبنة الثالثة زينب، المقيمة، مع زوجها وأطفالها، في ألمانيا، فقد غادرتها على عجل في طريقها إليهم، لكنها لم تصل بعد. وأما بشير، شقيق صديقه، فقد كان، ساعتها، بين السماء والأرض، نهباً لقلق عاصف، حيث كانت طائرته ما تزال تقطع المسافة بين الدوحة، مقرِّ عمله، وبين لندن. وأما صديقه نفسه فقد كان مسجى على السرير الأبيض بلا حراك، تغمره المحارم الطبيَّة والسكينة الأبديَّة .. كان الأديب العظيم والإنسان النادر قد ودَّع الحياة والأحياء في تمام العاشرة من ذلك المساء الصقيعي الحزين!
    (2)
    ـ "كذابة المرة التقول ولدت مثل محجوب ود جبر الدار"!
    ود الروَّاس
    (بندر شاه: مريود، ص 39)
    في يوليو عام 1929م ولد الطيِّب بكرمكول لعائلتين؛ إحداهما، وهي عائلة مشاوي، تنتمي إلى البديريَّة الدهمشيَّة من جهة أبيه محمد صالح، والأخرى، وهي عائلة زكريا، تنتمي إلى الركابيَّة من جهة أمِّه عائشة حمودة.
    قضى الطيِّب طفولته الباكرة، هو وشقيقته علويَّة وشقيقهما الأصغر بشير، في كرمكول، حيث درس الكتاب. ولمَّا كان الفقر حالة عامَّة فاشية في كلِّ أنحاء السودان على أيام الاستعمار البريطاني، والناس ما ينفكُّون يرتحلون من الأرياف إلى المدن الكبيرة سعياً وراء الرزق الأوفر لأسرهم، والتعليم الأفضل لأبنائهم، فقد ارتحل والد الطيِّب، أيضاً، بأسرته، عام 1940م، من عمق مزارع الشمال، إلى ميناء بورسودان على ساحل البحر الأحمر.
    في مدرسة بورسودان الأميريَّة درس الطيِّب المرحلة الوسطى. ويروي عنه قريبه الأستاذ الصحفي عماد الدين أبو شامة أنه لم يكن يستنكف، خلال تلك السنوات، أن يعمل، أثناء العطلات، كبائع خُضَر متجوِّل في أزقة (ديم مدينة) ينادي على البصل والفجل والليمون، كي يخفف من أعباء مصروفاته عن كاهل والده. ولشغفه بالاطلاع فإنه كثيراً ما كان يغشى مكتبة كبيرة بسوق بورسودان، فإذا ما أعجبه كتاب، ولم يكن يملك ثمنه في العادة، قرأه بأكمله داخل المكتبة نفسها، خلال بضعة أيام، واقفاً، في كلِّ مرَّة، يتظاهر بالبحث عن كتاب ما (أجراس الحريَّة، 22/2/09).
    إجتاز الطيِّب المرحلة الوسطى، ونجح، عام 1944م، ضمن مائة وثلاثين تلميذاً فقط من جملة خمسمائة من كل أنحاء السودان، في الالتحاق بكليَّة غردون لدراسة الثانوي. لكنَّ الكليَّة ما لبثت أن خُصِّصت، عام 1946م، للمدارس العليا (الجامعيَّة)، فتوزَّع طلابها إلى مدرستين ثانويَّتين، حنتوب ووادي سيدنا، وكانت الأخيرة من نصيب الطيِّب، ثمَّ أنشئت خور طقت لاحقاً. هكذا أكمل الطيِّب دراسته الثانويَّة بوادي سيدنا، عام 1948م، وجلس لامتحان الشهادة السودانيَّة (كيمبردج)، فنجح في الالتحاق بمدرسة العلوم لدراسة الزراعة في الكليَّة بوضعها الجامعي الجديد. لكنه سرعان ما هجرها بعد عام واحد، لسبب غير معلوم، وإن كان الظنُّ الغالب أنه لم يكن، أصلاً، راغباً في ذلك التخصُّص. وما زال أبناء دفعته، حتى الآن، محتارين في سبب اختياره، منذ البداية، لمدرسة العلوم، مع أن مدرسة الآداب كانت تعتبر مكانه الطبيعي، خصوصاً وقد كان النجم الأدبي الأسطع المدرسة الثانويَّة، وسكرتير جمعيَّتها الأدبيَّة الدائم لا ينازعه في ذلك أحد!
    عقب مغادرته الكليَّة التحق الطيِّب بالعمل معلماً بمدرسة رفاعة الوسطى لمدة عام آخر انتقل بعده، في 1949م، إلى بخت الرضا لمدة سنتين. ومع نهايتهما تصادف أن أعلن القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانيَّة عن حاجته لمذيعين، فتقدَّم، واختير، وسافر إلى لندن عام 1952م، وعمره لم يتجاوز، بعد، الثالثة والعشرين.
    في لندن أتيحت للطيِّب الشاب فرص واسعة لإشباع طموحاته الإبداعيَّة، من خلال مواظبته على تثقيف الذات، وتجويده مهنة الإعلام، وانفتاحه على الدنيا الجديدة، فأبدى كفاءة مشهودة في تقديم البرامج الأدبيَّة والثقافيَّة، وفي ترجمة وتحرير وإعداد المواد الإذاعيَّة، وسرعان ما ارتقى، خلال السنوات التالية، إلى منصب مدير قسم الدراما، وتزوَّج من زميلته بالهيئة، واتسعت دائرة صداقاته وعلاقاته المهنيَّة والإنسانيَّة، يعينه في ذلك طبع ليِّن، وخلق دمث، وقلب حان، وذوق رفيع، حيث ظلَّ مبدأه الأسمى هو (المحبَّة والصداقة)؛ حتى النقد كان يرى أفضله ما صدر عن محبَّة.
    على أن السَّرد، إبداعاً وإحساناً وتجويداً، ظلَّ هو أكبَّر همِّ الطيِّب، وشغله الشاغل الذي منحه، على قلة إنتاجه من الناحية الكمِّيَّة، جُلَّ وقته وعافيته، فكافأه بالمقابل مجداً وصيتاً ما بعدهما مجد أو صيت، حيث حاز على الكثير من الشهادات الفخريَّة والجوائز والأوسمة من مختلف البلدان؛ وتمَّ تتويجه، عام 1976م، باعتباره (عبقري الرواية العربيَّة)، وقد أصدر عدد كبير من الباحثين المتخصِّصين كتاباً في بيروت بذات العنوان، تناولوا فيه لغته وعالمه الروائي، بكلِّ أبعاده وإشكالاته؛ كما تمَّ ترشيحه، ثلاث مرَّات لجائزة نوبل العالميَّة: الأولى، بصفة غير رسميَّة، من جانب نجيب محفوظ، يوم أبلغوه بفوزه بها، فقال: كنت أتوقع أن تمنح للطيِّب صالح! والثانية، بصفة رسميَّة، عام 2007م، من جانب البروفيسير عامي إلعاد ـ بوسقيلة، أستاذ الأدب العربي بكليَّة بيت بيرل؛ والثالثة، بصفة رسميَّة أيضاً، في يناير عام 2009م، قبل شهر من وفاته، من جانب مؤسَّستين سودانيَّتين هما إتحاد الكتاب السودانيين ومركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان؛ والمعلوم أن الأخير يدير، منذ سنوات طوال، برنامج (جائزة الطيِّب صالح للرواية في السودان).
    لقد استطاع الطيِّب، خلال سنوات وجيزة بمعيار الإنجاز، أن يصل بأهمِّ أعماله، وكلها مترجمة في معظم اللغات الحيَّة، إلى مصاف العالميَّة، وأن يحفر اسمه عميقاً في لوح الخالدين، وأن يمنح وطنه رمزاً آخر، ومواطنيه هويَّة إضافيَّة هي أنهم (مواطنو الطيِّب صالح)!
    (3)
    لم يقتصر عمل الطيِّب على السَّرد، وإن كان هو الأهمُّ في حياته المهنيَّة، أو على هيئة الإذاعة البريطانيَّة، فحسب، بل لقد عاد إلى بلده عام 1967م مستشاراً للإذاعة السودانيَّة لمدَّة عام. وانتقل إلى دولة قطر، وكيلاً ومشرفاً على أجهزة إعلامها سنين عدداً. ثمَّ عمل مديراً إقليمياً لمنظمة اليونسكو بباريس، ثمَّ ممثلاً لها بدول الخليج. كما عمل كاتباً صحفياً لعمود (وراء الأفق) الشهير بمجلة (المجلة) اللندنيَّة، لأكثر من عقد من الزمن. وفي الأثناء حصل على عدة شهادة أكاديميَّة، من بينها شهادة في الشئون الدوليَّة من بريطانيا.
    (4)
    بدأت معرفتي بالطيِّب صالح الأديب وأنا، بعد، طالب بالثانوي، من خلال (موسم الهجرة)، عندما نشرت، لأوَّل مرَّة، بمجلة (حوار) البيروتيَّة، نحو منتصف ستينات القرن الماضي. كانت شيئاً صاعقاً يكاد لا يصدق، كأن من كتبها ليس من جنس البشر! أعدت قراءتها مرَّات ومرَّات، وما زلت، منذ ذلك الوقت الباكر، أعود إليها، بين الحين والآخر، في مختلف الطبعات، وأتسقط كلَّ ما يكتب النقاد والدارسون عنها، وعن جماليات الطيِّب عموماً، دون أن أزعم أنني ارتويت تماماً مِمَّا تمنح من متعة وفائدة معاً. ولا غرو، فإن تلك السرديَّة المركبَّة شديدة التعقيد هي، في رأيي، مفتاح (باب السِّر) إلى عالم الطيِّب السردي كله، حسبما ظللت أتتبَّعه بلهفة وشغف، عملاً وراء عمل، من (عُرس الزين) إلى (دومة ود حامد) إلى (نخلة على الجدول)، حتى بلغ أشده في روايته (بندر شاه) بجزئيها الصادرين، حتى الآن، (ضو البيت) و(مريود)، وأسأل الله العلي القدير أن تكشف محتويات مكتبته المنزليَّة عمَّا يكون الراحل قد أراد أن يستكمل به هذا العمل الجليل، وليس سوى محمود صالح من يُعَوَّل عليه في تنقيب كهذا. ثمَّ إن (المنسي) ليس ببعيد عن ذلك العالم. وما زلت أذكر، كمهتمٍّ باللغة والثقافة الروسيَّتين، كم كانت سعادتي عظيمة عندما تولى البروفيسير السوفيتي، آنذاك، فلاديمير شاغال ترجمة (موسم الهجرة) إلى اللغة الروسيَّة، ونشرها بمجلة (الآداب الأجنبيَّة) عام 1975م، ثمَّ عندما ترجم إيغور يرماكوف (عرس الزين)، ثمَّ عندما ترجم ل. ستيبانوف جزئي (بندر شاه)، ثمَّ عندما صدرت هذه الأعمال كاملة في مجلد واحد أنيق عن دار رادوغا بموسكو عام 1982م.
    لقد أفضت دقة رسم الطيِّب لشخصيَّة مصطفى سعيد المركزيَّة في (موسم الهجرة) إلى أن يتبدَّى للجميع كما لو أنه شخصيَّة حقيقيَّة تسعى معهم في الحياة، لدرجة أن الأديب علي أبو سن، صديق الطيِّب وزميله، زعم، مرَّة، أنه هو مصطفى سعيد، مستشهداً بما كان الطيِّب قد صرَّح به، ذات محفل دبلوماسي! غير أن الطيِّب، عندما سُئل، لاحقاً، عن جليَّة الأمر، اكتفى بالصمت والابتسام، مفضِّلاً، في ما يبدو، الإبقاء على المسألة برمَّتها في دائرة الغموض!
    على المستوى الإنساني تعرَّفت إلى الطيِّب، شخصياً، حين زار السودان في خواتيم سبعينات القرن المنصرم، أو أوائل ثمانيناته. قدَّمني إليه صديقي الراحل الشاعر النور عثمان أبَّكر. وبعدها جمعتنا به الفنانة المسرحيَّة آسيا عبد الماجد في حفل مرطبات صغير أقامته، على شرفه، بباحة بيتها بالشعبيَّة. ثمَّ جمعتنا سهرة لطيفة بصالون قريبه وصديقه السِّر محمد الحسن بحي المقرن، وكان ضمن الحضور الناقدان عبد القدوس الخاتم وعبد الهادي الصديق، والشاعران سيد احمد الحردلو والنور عثمان، والقاص عيسى الحلو، والمغني ود اليمني، وآخرون أنسيتهم. ومنذ ذلك الوقت صرت ألتقيه كلما جاء إلى السودان في زيارات غير رسميَّة، وكلما حباني الحظ، خلال سفراتي المتعددة إلى القاهرة، بأن يكون هو متواجداً فيها. وما عرفت محبَّاً لمصر والمصريين كالطيِّب، اللهم إلا ما بلغنا من تاريخ الإبداع السوداني عن الخليل والتيجاني ونفر آخرين اشتهروا بهذه المحبَّة. وقد قامت للطيِّب هناك صداقات يجلها، لمست بعضها بنفسي وبعضها من مؤانساته الشخصيَّة، ولعلَّ على رأس هؤلاء ناقده الأوَّل، بل أوَّل من شدَّ الانتباه إليه، الراحل رجاء النقاش، وإلى ذلك جابر عصفور، وآخرين.
    كان الطيِّب بسيطاً، دائماً، في لغته، وفي حياته، وفي أسلوبه في الكتابة، وفي كلِّ شئ، اللهمَّ إلا الحكمة التي أوتيها، والتي ما تلبث أن تتكشف، لمن يتروَّى ويدقق، من خلال بساطته هذه نفسها التي يمكن اعتبارها، أيضاً، وفي بعض أهمِّ جوانبها، (بساطة مظهريَّة)! فهي، بالقطع، ليست ضرباً من (الغشامة)، بل إنها تلتمُّ، في حقيقتها، على شخصيَّة بالغة الرُّقي، هائلة العظمة. ولقد صدق تماماً عندما ردَّ على من وصفوه بأنه هو مصطفى سعيد، قائلاً: لا، أنا أقرب إلى الزين .. أنا الزين!
    بساطة الطيِّب هي (واجهته) الاعتياديَّة في التعامل مع بسطاء الناس، بل ويحبِّذ، ابتداءً، التعامل بها مع كلِّ مَن حوله، ريثما تغوي أحدهم بالتنطع، حينذاك يستل من قرابٍ خفيٍّ أدوات دهاء ما علمت أن مثلها يتوفر لدى سواه!
    (5)
    ورغم أن الطيِّب ينفي مقاربته الشعر إلا هذراً، لكن ما من عين يمكن أن تخطئ شيئاً من عناصر شعريَّته الخاصَّة التي تشكل، في النهاية، بعض مقوِّمات البناء الجمالي في سردياته؛ وهي شعريَّة بصريَّة سينمائيَّة بأكثر منها لفظيَّة بحتة.
    ففي وصفه، في (عُرس الزين)، للإمام في مشهد علاقته الغريبة بأهل القرية الذين كانوا يمقتونه، ومع ذلك يجمعون له مرتبه آخر كلِّ شهر، بينما هو لا يكفُّ عن تذكيرهم في خطبه، دائماً، بالحساب والعقاب، اقتصاصاً لنفسه منهم، يقول الطيِّب: "كان مثل الضريح الكبير وسط المقبرة!" (عُرس الزين، ص 96 ـ 97). وبعد أن رأى نفس الإمام الراقصة سلامة وقد انحسر ثوبها ".. عاد بوجهه إلى محدثه (و) كانت عيناه مربدتين مثل الماء العكر" (المصدر، ص 124). واستطراداً لعلَّ ذاكرة كلِّ مَن شاهد فيلم المخرج الكويتي خالد الصديقي (عُرس الزين ـ 1976م)، الفائز بجائزة خاصَّة في مهرجان كان، سوف تظل تختزن الأسلوب الرائع الذي أدى به الممثل السوداني الكبير الراحل محمد خيري هذا المشهد، رغم أنه لم يستغرق سوى بضع ثوان من زمن العرض!
    على أن هذه الشعريَّة بلغت أقصى قممها في (ضو البيت) و(مريود)، بالذات، حيث لم تعُد محض عنصر فني، فحسب، بل جزءاً وقائعياً ضرورياً في السَّرد لا يتجزَّأ من نسيج قماشة (الواقعيَّة السحريَّة) التي كان الطيِّب أوَّل من بدأ اجتراحها باكراً، من خلال (موسم الهجرة) و(عرس الزين) بالأخص، وسبق فيها دهاقنتها الحاليين من روائيي أمريكا اللاتينيَّة الذين ينسب أكثر النقاد، أبوَّتها، خطأ، إليهم! فالزين، في (عُرس الزين)، مثلاً، "ولي من أولياء الله" (ص 35)، أو "لعله نبي الله الخضر (أو هو) ملاك أنزله الله في هيكل آدمي زري" (المصدر، ص 37). لكن، لئن كان (الزين)، أصلاً، نتاج مجتمع (ود حامد)، فإنَّ جُلَّ شغل الطيِّب انصبَّ، بوجه خاص، على ثيمة (الغريب) الميتافيزيقي الذي يهبط، فجأة، من لامكان، ويتلاشى، فجأة، في لامكان، سوى أنه، بين هذا وذاك، يهزَّ المكان المحسوس المرئي هزَّاً، ويرجُّه رجَّاً، محدثاً فيه تحولات عظيمة، خيراً أو شرَّاً، كما لاحظ ذلك باحثون كثر، من بينهم، على سبيل المثال، صديقي عبد الرحمن الخانجي في كتابه (قراءة جديدة في روايات الطيِّب صالح، 1983م).
    ففي (موسم الهجرة) قلب مجئ مصطفى سعيد ود حامد رأساً على عقب، ابتداءً من خصائص شخصيَّة حسنة بت محمود، وليس انتهاءً بمقتلها الدراماتيكي هي وود الريس في ليلة واحدة. لقد بلغ التغيير نخاع القرية، ودفع بأسفلها إلى عاليها. وهكذا، برغم ما قد يبدو على حال الحياة، في الغالب، من استمرار (مظهري)، حيث "مع كلِّ هبَّة ريح يفوح أريج الليمون والبرتقال واليوسفندي، خوار ثور أو نهيق حمار أو صوت فأس في الحطب"، إلا أنَّ "الدنيا قد تغيَّرت" (موسم الهجرة، ص 131).
    وفي (ضو البيت) كان ما أحدثه بندر شاه من تغيير يستحيل، بذات القدر، نظمه في سلك عاديَّات الحياة، حيث "فجأة اختلَّ ذلك التناسق في الكون، فإذا نحن، بين عشيَّة وضحاها، لا ندري من نحن، وما هو موضعنا في الزَّمان والمكان" (بندر شاه: ضو البيت، ص 19)، و"كانت البلد كأنَّ طائراً رهيباً اقتلعها من جذورها، وحملها بمخلبيه، ودار بها، ثمَّ ألقاها من شاهق!" (نفسه، ص 24)، و"كنا مثل سرب عظيم من طيور مذعورة تفترق لتلتقي، تعلو وتهبط، وتدور بعضها حول بعض، محدثة صراخاً منكراً يصمُّ الآذان" (نفسه، ص 25).
    وفي (مريود) يقول الطيِّب على لسان الراوي: "فجأة أحسست بمريم، بُعيد العِشاء أو قبيل الفجر، لا أعلم، لكنني أذكر ظلاماً رهيفاً، وضوءاً ينسكب على وجهي من عينيها .. (و) سمعت صوتها كأنه ينزل من السماء، ويحيط بي من النواحي كافة، تطويه رياح وتنشره رياح" (بندر شاه: مريود، ص 85). ويقول، أيضاً، عن صوت بلال (روَّاس مراكب القدرة) الذي استيقظ عليه الناس، ذات فجر، ينادي من على مئذنة الجامع، بعد إذ كان قد امتنع عن الأذان وعن دخول الجامع منذ وفاة شيخه نصرالله، إنه ".. كان كأنه مجموعة أصوات، يأتي من أماكن شتى ومن عصور غابرة، وإن ود حامد ارتعشت لرحابة الصوت، وأخذت تكبُر وتكثر وتعلو وتتسع، فكأنها مدينة أخرى في زمان آخر" (بندر شاه: مريود، ص 46).
    (6)
    خريف 1988م، وأثناء سيوله وفيضاناته الشهيرة، كان الطيِّب في إحدى زياراته إلى السودان. فأبلغته رسمياً بقرار اتحاد الكتاب بمنحه العضويَّة الشرفيَّة، فأدهشني الحبور الذي بدا على محياه وهو يحمِّلني شكره للزملاء بلجنة الاتحاد. تفسيري الوحيد لذلك أنه، مع كلِّ هالات الضوء والتكريم والتشريف التي تحيط بهامته السامقة عالمياً، كان يعزُّ أقلَّ القليل الذي يأتيه من وطنه بوجه خاص، ما جعله، طوال العُمر الذي قضاه في بريطانيا، يصرُّ على التمسُّك بجواز سفره السوداني!
    قلت له:
    ـ "لا .. إنت حتشرفنا في دار الاتحاد وتجتمع مع اللجنة، لكين بعد ما نعمل ليك محاكمة"!
    وسألني ضاحكاً:
    ـ "محاكمة كيف يعني؟! إنت بتجيب جنس الكلام ده من وين"؟!
    ثمَّ ما لبث أن وافق، متحمِّساً، بعد أن شرحت له مشروع الندوة الطريفة التي نعتزم إقامتها لتدارس بعض أهمِّ الإشكاليات التي تثيرها أعماله، في شكل محاكمة بممثل اتهام وممثل دفاع وقاض رمزي لإدارة الجلسة، على أن القاضي الحقيقي سيكون الجمهور!
    وهكذا انعقدت (محاكمة الطيِّب صالح) غير المسبوقة، وقتها، بحديقة دار الاتحاد بالمقرن. جلس الشاعر فضيلي جماع في مقعد القاضي الرَّمزي، ووقف المرحوم الناقد عبد الهادي الصديق في خانة الاتهام، والشاعر محمد المكي ابراهيم في خانة الدفاع، وكان حواراً ساخناً امتدَّ إلى منتصف الليل، بمشاركة نقاد وأدباء آخرين من مقاعد الجمهور، بالإضافة إلى الجمهور نفسه. وكان القاضي فضيلي يتيح الفرصة للطيِّب، كلما طلبها، للتعقيب على ما يقال. وما زلت أذكر، على نحو خاص، تعقيبه على ما أثار ناقد متزمِّت، حيث قال الطيِّب ما يعني إن أكثر ما يثير لديه الإشفاق حال من يخترعون للقرية (أخلاقاً) سرمديَّة لا تتأثر بالصراع الاجتماعي، كما وأن أكثر ما يثير لديه الرثاء حال من يحاكمون (الإبداع) بمقايسات (الأخلاق العامَّة)، فلا أرضاً يقطعون للأوَّل، ولا ظهراً يبقون للأخرى!
    بعد (المحاكمة) جلس معنا في اجتماع استثنائي للجنة الاتحاد، وسألنا: "كيف يمكنني مساعدتكم"؟ قلنا: "ديوان (إشراقة) تعدَّدت طبعاته الشائهة، حتى لقد التبس شعر التيجاني تماماً. فلو وجدنا منحة من اليونسكو العالميَّة أو الأليسكو العربي لتحقيقه ونشر طبعة منه بكميات كبيرة، لأضحت هذه خدمة للشعر السوداني لا تقدَّر بثمن. ونريد أن نستثمر علائقك في هذا السبيل". تحمَّس للأمر أيَّما حماس، ووعد بالسعي فيه، حالما يصله منا ما يفيد بالميزانيَّة المطلوبة.
    رشَّحنا عبد الله علي ابراهيم لتولي المهمَّة، وعبد الله اقترح ضم المرحوم عبد الحي إليه، لكنَّ سوء تفاهم وقع، في ما بعد، من جانب عبد الحي، حول أصل الموضوع وفصله، مِمَّا استغرق فضُّه شهوراً، حتى وقع الإنقلاب، وحُلَّ الاتحاد، وانتزعت الدار، وتفرقنا أيدي سبأ!
    (7)
    ـ "قلت نعم. قلت نعم. قلت نعم. ولكن طريق العودة كان أشقَّ لأنني كنت قد .. مشيت"!
    (خاتمة بندر شاه: مريود، ص 86)
    شعب السودان سوف يظلُّ مديناً لأرملته وبناته اللاتي حرمن أنفسهنَّ، بمشاعر إعزاز فياض لذكرى حبيبهنَّ الغالي، حين تنازلن عن فكرة دفنه إلى جوارهنَّ بلندن، ولو أصررن لكان القانون الإنجليزي في صفهنَّ. لكنهنَّ رأين أن من الأوقع تماماً دفنه في ثرى الأرض الغبشاء التي أحبَّها بكلِّ جوارحه، وقال إنها "لا تنبت إلا الشعراء والأنبياء"، وبين ملايين الناس الذين أحبهم، وحملهم في حدقات عيونه، وجعل لهم ذكراً في العالمين، وبقي وفياً لهم إلى آخر رمق في حياته العامرة بجلائل المكرمات، المزيَّنة ببساطة وتواضع المتصوِّفة النائين بأنفسهم عن عرض الدنيا الزائل، حتى مضى وكأنه كان معلقاً، أصلاً، بخيوط الشمس الغاربة!
    هكذا أمكن لنا أن نستقبل جثمانه بمطار الخرطوم في الرابعة والنصف من صباح الجمعة 20/2/09، وأن نشيِّعه، في التاسعة والنصف، في موكب مهيب، لنواريه الثرى بمقابر البكري بأم درمان.
    ............................
    ............................
    إنَّ "موته .. خسارة لا تعوَّض"!
    محجوب عن مصطفى سعيد
    (موسم الهجرة، ص 104 ـ 105)
    وإنا لنشهد بأنه عاش "كأنه وطـَّن نفسه على الموت"!
    عبد الخالق عن ضو البيت
    (بندر شاه: ضو البيت، ص 132)
    فقد "أحبَّ بلا ملل، وأعطى بلا أمل، وحسا كما يحسو الطائر .. حلم أحلام الضعفاء، وتزوَّد من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها، ولما نادته الحياة .. لما نادته الحياة ..!"
    (بندر شاه: مريود، ص 85)
    وكثيراً ما كان يردِّد أن "ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد يكون كسبان"!
    ود الرَّوَّاس
    (بندر شاه: مريود، ص 38)
    وكان يقول، أيضاً، إن "القوَّة ليست للجسد، بل للروح والعزيمة"!
    (بندر شاه: ضو البيت، ص 35 ـ 39)
    كما كان يقول: "يوم يقف الخلق بين يدي ذي العزَّة والجَّلال، شايلين صلاتهم وزكاتهم، وحجَّهم وصيامهم، وهجودهم وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجَّلال والجبروت، عبدك المسكين الطاهر ود بلال ولد حواء بنت العريبي يقف بين يديك خالي الجراب، مقطع الأسباب، ما عنده شئ يضعه في ميزان عدلك سوى المحبَّة!"
    الطاهر ود بلال
    (بندر شاه: مريود، ص 64)
    ............................
    ............................
    اللهم، ها هو الطيِّب أمسى في رحابك، ضارعاً يتكفَّف غوث عزَّتك ببابك، وإنا لنتوسل بك اليك أن تكرم نزله وأنت خير المنزلين، وأن تؤنس وحشته وأنت خير المؤنسين، وأن تغفر له وترحمه وأنت خير الغافرين الراحمين، وأن تعيذه من العذاب وأنت الغني عن عذابه يوم الدِّين، فيمِّن، يا ربُّ، كتابه، ويسِّر حسابه، وثبت علي الصراط اقدامه، وثقل بالحسنات ميزانه، وافرش قبره من فراش الجنة مع الصِّدِّيقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

    الخرطوم بحري

    الأحد 22/2/2009م
    [email protected]


    ---------------------------------------

    الطيب صالح: تعظيم إبداعي وتساؤلات .. بقلم: صلاح شعيب
    الثلاثاء, 24 فبراير 2009 23:29

    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته
    سيمر وقت ليس بالقصير، بعد وفاة الطيب صالح، لكي يجد مبدع سوداني حظا من إحتفاء محلي وأقليمي وعالمي، كما وجده صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" والتي هي، على كل حال، بستان القراءة المخضر الذي وجد فيه معظم من عرفوا أدب الراحل ملاذا للاستمتاع به أكثر من بساتين أخرى حرثها قبل ما يقارب الثلاثة عقود.
    والغريب أنه برغم قلة روايات المبدع الراحل بالمقارنة مع مجايليه المصريين، على الأقل، إلا أن رواياته، التي أخذت الشهرة وعرفت به كعبقري للرواية العربية، لم تصدر في النصف الثاني من السبعينات أو الثمانينات أو التسعينات من القرن الماضي أو في مطلع الألفية الجديدة، وإنما مثلت أعماله قمة إنتاج الستينات الأدبية، وهي الفترة التي لا تزال منجزاتها على مستوى الأدب والغناء السودانيين محكا للتجاوز من قبل الأجيال المتعاقبة.
    ليس ذلك فحسب فمرحلة الستينات، وما قبلها، أفرزت، على نطاق الوطن العربي، رموزا في مجال الثقافة والأبداع ولا يزال تأثيرها إلى الآن ملاحظا بكثافة على مستوى الدراسات والاهتمامات بالنسبة للنقاد حتى من الأجيال الجديدة، بل ويصعب لهذه الأجيال التي جاءت بعد الجيل الذي بدأت أزاهيره تتفتح في الستينات أن تشكل حضورها المختلف والمستمرعلى الحقل الإبداعي من دون التعرف والإستناد على تنمية الثيمات الإبداعية التي أنجزها جيل الطيب صالح، وهو الذي سوق إبداعه في الربع الثاني من القرن الماضي وينافس لتأكيد حضوره إلى الآن، سواء من خلال أعمال المبدعين الأموات أو الأحياء. وبرغم أن
    لا ينوي المرء هنا سكب الدمع الحرى على فقدان شخصية مهمة لبلادنا مثل الأديب الطيب صالح، فالشاهد أن هناك الكثير من هذا الدمع الصادق الذي بلل الصحف. مثلما أن النية ليست أيضا لتعداد مآثر الراحل الفنية والإنسانية، وذلك فعل وثقه النقاد المعنيون بالأمر، ومعلوم مواقعه في أرشيف الصحف والمجلات والكتب ومنابر الانترنت، ولكن تأتي النية للقول إنه ينبغي النظر إلى الأفكار التي تسهم في تخليد الإسم الكبير للراحل ليكون ذلك تكريما له جزاء ً لما قدمه للثقافة السودانية، فالطيب صالح لم يكن روائيا فحسب، وإنما كانت مواضيع كتاباته وحواراته والندوات التي شارك فيها تمثل محطا ثقافيا متمايزا، تمتع فيه الكثيرون، وتألق به نجما، وتشرفنا عبره وسط العالمين.
    إن العلاقة بين الدولة التي أنتمى لها الطيب صالح وكثير من رموزها الثقافيين تخصيصا ظلت متأرجحة منذ أمد بعيد، وبرغم أن الحديث عن الدولة، من الوهلة الأولى، يفترض عند البعض وضعا لا يتحكم فيه المثقفون، فإن الشاهد أن هذه الدولة التي لم تراع لخصوصية المبدع السوداني ــ إهتماما بذاته وبمنتجعاته الثقافية ــ إنما هي من صنيع المثقفين أنفسهم سواء كانوا سدنة شمولية أم ديمقراطية. ومن هنا يبقى عجز الدولة عن تكريم الطيب صالح وزملاء له من الراحلين، وعدم بذلها الغالي والنفيس لصالح إزدهار محافل إبداعية، وإهمالها تخليد ذكراهم هو عجز المثقف عن العناء بالآخر منه.
    فالطيب صالح والذي عاصر فترات الحكم الوطني التي تعهد التخطيط لها مثقفون لم يجد التكريم الذي يوازي عطاءه الإستثنائي بالنظر إلى عطاء من شاركوه في التجييل ومن أتوا بعدهم. وإذا نقبنا في السيرة الذاتية للرجل لوجدنا أن دولا في المنطقة وظفت بذكاء خدماته في مجال التخطيط الثقافي الإستراتيجي، وأن منظمات أقليمية ودولية إمتصت خبراته من خلال إرتباطه العملي بها، حتى وجدنا أن عطاءه في الكتابة الحرة، طيلة حياته، ظل موصولا بصحف ومجلات غير سودانية، فضلا عن ذلك فإن المئات من المهرجانات الأدبية التي شارك فيها واسهم في نجاحها، سواء في جدة أو القاهرة أو دمشق أو بغداد أو المغرب، لم يكن من بينها مهرجان ثقافي سنوي في الخرطوم.
    صحيح أن عطاء شخصية الطيب صالح تجاوز السودان، ومثله في ذلك مفكرون وأدباء كثر تجاوزوا القطرية وأصبح النظر إليهم كرموز في حقل الثقافة العربية والأفريقية والعالم الثالث، بل أن إسهاماته الثقافية والعملية الخارجية أعطت بلادنا حضورا لافتا في هذه المهرجانات، غير أن الناظر لرموز ثقافية عربية أمثال محمود أمين العالم أو يوسف أدريس، أو محمد عابد الجابري، أو محمد جابر الانصاري، أو محمد إبراهيم الفقيه سيجد أنهم ظلوا يمثلون بلادهم في هذه المهرجانات ويعودون إليها كما يعود الطائر إلى عشه، إذ أن حكومات بلدانهم عملت على تهيئة ظروف الاستقرار النسبي للمبدعين واسهمت في مكوثهم داخل أوطانهم وبالتالي إستفادت منهم في الجامعات، ومراكز الابحاث، والمؤسسات الثقافية والإعلامية، وبرغم أن قائلا قد يجادل بأن مبدعين آخرين في تلك البلدان العربية نفسها قد عانوا من شظف العيش وغياب الحرية وتعرضوا للملاحقات الأمنية وفضلوا أن يعيشوا في الخارج إلا أن ذلك ليس سببا لأن نسلم بتقصير الدولة في عدم الإهتمام مرة ثانية بالطيب صالح، والذي كان قد عمل مستشارا بوزارة الثقافة والإعلام لفترة قصيرة ولم يجد دعما كبيرا من الدولة في عمله.
    والأنكى وأمر أن ذات الدولة التي حرمت تدريس رواية الطيب صالح لأسباب تتعلق بتصريحه الشهير ذاك عادت في لحظات ضعفها تستنجد به من أجل أن تجير مواقفه لصالحها، وليت كان هذا الموقف الحكومي الأخير تصحيحا لمواقف قديمة جاءت في سياق محاربة الابداع وكل المبدعين، فالذي حدث هو أن هذا الإهتمام الأخير بالتودد لبعض المبدعين والخروج منهم بتصريحات تخدم خطها السياسي إنما هو شئ لا علاقة له بتمجيد المبدع في شخصه، أو إحترام عطاءه، أو تحقيق رغبته بأن يجد الحرية التي تتيح له الإبداع.
    فالموقف الإيجابي من المبدعين ينبغي أن ينعكس في شكل إهتمام مدروس وراسخ من الدولة بالمؤسسات الثقافية والمبدعين أثناء وضع الأوليات في الإهتمام المركزي، وأثناء التخطيط السنوي للميزانية العامة، وكذلك لا بد لهذا الموقف الإيجابي أن ينعكس في شكل تحفيز المبدعين من غير دعاية إعلامية، أو بصورة تهين كرامتهم أمام الشعب، أو دعم منظماتهم الأهلية وتجنيبها الحملات الضرائبية والقوانيين التعجيزية لأي عمل أهلي. وقبل كل هذا وذاك لا بد أن ينعكس موقف الدولة في شكل تهيئة لمناخ الحرية الذي يساعد المبدعين في تنمية منتجاتهم الفكرية والأدبية والفنية. وأعتقد أن أي إحتفاء يبذل للراحل الطيب صالح أو بقية المبدعين الراحلين سيكون ناقصا وغير ذي جدوى إذا لم يلب الحاجيات الأساسية التي تحتاج لها العملية الثقافية وتطورها بإضطراد.
    والشئ الجدير بالذكر هو أن الطيب صالح خصص من ماله الخاص ما يعنى بتطوير العملية الثقافية في السودان، تلك التي تشجع الجيل الجديد من الروائيين والقصصة في السودان، وما جائزته السنوية التي يقدمها عبر مركز عبد الكريم ميرغني بأمدرمان إلا أحساس عميق منه بأن هناك قصورا كبيرا للدولة تجاه دعم الإبداع أو الأجيال المبدعة. والسؤال هو كيف تأتى للطيب صالح الفرد أن يقوم بهذه المهمة والتي هي من ضمن مهمات وأولويات مديري المؤسسات الثقافية، أو فلنقل القائمين بأمر الدولة ما دام أن المسؤولية عن رعاية الإبداع وتحفيز العاملين في حقوله من صميم عملهم..؟
    وإذا كان للناس حق مساءلة مواقف الأديب، مهما تكن إسهاماته الفنية، من الانظمة الشمولية فإن الطيب صالح قد واجه في السنين الأخيرة نقدا لتصريحات صحفية بدرت منه ورأى البعض ومنهم كاتب هذا السطور أنها تعطي صورا متناقضة للتساؤل الكبير الذي طرحه في بدء مثول الإنقاذ، وكذلك متناقضة للمواقف السياسة الضرورية التي يتوقعها الناس من مثقف كبير مثله.
    ولقد كان ذلك (التساؤل التهكمي) الذي قذف به في جوف العقل السوداني ضروريا من المثقف الطيب صالح، خصوصا وأن جانبا من وظيفة المثقفين، كل المثقفين، أن يتصدوا لمسؤولياتهم في الجهر بالموقف الإيجابي من سلطات القمع والبؤس والكآبة، وسوف يكون من عدم الإحترام لعقل الشعب إذا ظن مثقف ما أن صمته دون قول الحق أمام القمع الذي يتعرض له الناس يعبر عن عدم علاقته بالسياسة.
    إن الذين إستماتوا للدفاع عن المثقف الراحل الطيب صالح وتصريحاته التي لم تقع موقعا حسنا أمام كثيرين من محبي أدبه حاولوا أن يخلطوا الأمر وكأنما أن الراحل يتعرض إلى إستهداف إلى شخصيته الأدبية، أو عدم تقدير لما قدمه لأمته. والحقيقة أنه لا بد أن يكون هناك فصلا حادا بين مواقف كل أدبائنا من القضية القومية والمجهودات الفنية التي لا ينكرها إلا مكابر. فالأديب والشاعر والفنان والكاتب والرسام ليسوا مطالبين بالإنتماء إلى المنظماتنا السياسية حتى تستبين مواقفهم سواء من الأنظمة الشمولية أو الديمقراطية أو الشموقراطية، ولعل العقلاء من الأدباء وغير الادباء لا يجهلون أن الشموليين يقضون على روح الإبداع قبل القضاء على الروح الوطنية التي تتسامى بالحرية والديمقراطية لمضاعفة إسهاماتها. وبطبيعة الحال ليس من حق أحد أو مجموع تقديس قاماتنا الابداعية والفكرية والسياسية للدرجة التي يمنعون الناس من مراجعة أفكارهم، الناس سواء تواضعوا معرفيا أو الذين يمتهون الأعمال ذات الصلة بالتثقفيف، فكما حق للذين إنتقدوا عبارة "من اين أتى هؤلاء" والطعن في شخصية الطيب صالح، فقد كان على الذين رأوا فيه تنازلا عن تلك العبارة الموحية أن يعبروا عن إنتقاداتهم وهؤلاء لم يصلوا إلى درجة إعدام العمل الفني للراحل في الجامعات.
    إن المرء لا يحتاج إلى تكرار القول بعبقرية الطيب صالح الفنية ولكن يحتاج لتكرار القول إن منهج النقد السياسي يجوز تجاه الادباء وغير الادباء، خصوصا وأن للأفراد/المتلقين، ضعف مستوى تعليمهم أو تعالى، الحق أن يعبروا برأيهم عن القامات الفنية من زاوية تعاطيهم أو عدم تعاطيهم مع الشؤون التي تتعلق بواقع ومستقبل بلدانهم. وسيكون من التغبيش الفكري التصريح بأن لا يقوم الناس بنقد الناشطين في العمل العام من الاحياء والاموات إلا الذين يوازونهم في التجربة والصيت والعمر. وإذا كان الذين يتخذون مرجعيات دينية ويصرون على ألا تتعرض قاماتنا الفكرية والسياسية إلى نقد من ما يسخرون من مستوى تعليمهم وينادونهم بـ"العامة والدهماء" فماذا يقولون في ذلك الإعرابي الذي واجه سيدنا عمر رضي الله عنه فأثنى عليه وحمد الله أن في أمة عمر من يقوم إعوجاجه بسيفه.
    إن ما أقعد وطن الطيب صالح عن التطور والتقدم هو سعي البعض الدائب لتأليه بعض رموزنا السياسية والفكرية والثقافية، إلخ، وعدهم فوق النقد، بأي منهج جاء. ولاحظنا كيف أن التبريرات، غير الموضوعية، تترى حين يتعرض رموزنا السياسيين أمثال الصادق المهدي أو نقد أو الميرغني او الترابي وغيرهم إلى نقد صارم لإجراءات عملية بذلوها في إطار إجتهاداتهم غير المعصومة.؟
    وبذاك المستوى من قمع الناقدين للزعماء ورموز الحياة العامة غاب الإصلاح واصبح دور الناقدين الحريصين عليه هو أن يتجاوزوا سخائم القلوب وظنها التي يوفرها الكارهون لوضع هؤلاء الزعماء والرموز في موضع النقد المستحق، بل وعلى الإصلاحيون أن يتجاسروا دون أن تلحقهم مساعي حرق الشخصية، وهو الطريق الاسهل الذي يبذله الزعماء ومناصرينهم، بدلا عن الدفاع بالحوار والحسنى مع الآخر الناقد، وتفنيد زعمه بناء على المنهجية التي إتخذها اصحاب النقد، والأخذ بيده إن كان منهج نقده ومضمونه ينتابه الفقر المعرفي.
    إن لا سلطة لأحد أن يحدد المنهجية النقدية لكل أمرئ يريد أن يطبق منهج النقد السياسي للعاملين في مجال التثقيف والإعلام والفنون الذين يواصلون إبداعهم أو رحلوا إلى الدار الآخرة. فمن الحق الأصيل أن يعيد الدارسون بحث المواقف السياسية من السلطة الشمولية للمبدعين عبدالله الطيب والمجذوب والنور عثمان أبكرأو عبد الكريم الكابلي أو عمر الطيب الدوش أو الطيب حاج عطية أو إسماعيل الحاج موسى أو مكي سنادة أو هاشم صديق وغيرهم. وبصرف النظر عن النتائج التي يتوصلون إليهم في مباحثهم، فإن هؤلاء الدارسين سيطرحون معرفة عامة من خلالها ندرك إلى أي مدى توطأ أحدهم حيال إدانة سلوك الإنظمة الشمولية أو بذل جهدا لتنوير الشعب بما إنتوت عليه من دجل وتدجين وأفك، وندرك أيضا كيف أن المطلوب من الإنسان أن يتسق في مواقفه الأدبية والفنية والقومية.
    والسؤال هو ما علاقة النتائج التي يتوصل إليها هؤلاء الباحثون ــ إذا وجدوا ــ بالنتائج التي يتوصل إليها باحث آخر يقول بأن عبدالله الطيب أزجى خدمة كبيرة للأدب العربي أو أحسن أيما إحسان في خدمة جامعة الخرطوم والاكاديميا وتأهيل طلبته؟ وايضا ما علاقة نتائج النقد السياسي بما قدمه مكي سنادة من دور في تثقيف جمهور المسرح بالأعمال الابداعية التي نالت مدحا وثناء ً، وهو دور لا ينكره إلا مكابر أو ناكر جميل، بل وما علاقة الموقف السياسي المطلوب الذي بذله هاشم صديق وعمر الطيب الدوش بخدمة وضع إبداعهما فنيا..؟
    إن وضع اي صناجة للأدب سيظل كذلك، ولا يستطيع ناقد منهجه السياسي أن يقلل من إضافاته الفنية المفارقة، وسيظل أديبا إذا رأى هذا الناقد ميلا منه نحو الديكتاتور أو حربا لا هوادة فيها نحوه، وسيظل دورا الأكاديمي والمغني محفوظان مهما برهن الناقد السياسي إنكسارهما نحو منافع السلطان.
    عليه دعونا نعظم الطيب صالح فنيا وندعوا له بالرحمة ونقول بعبقريته وخدمته الإستثنائية للادب المكتوب بالعربية. على أن لا تثنينا عاطفة الحب التي إستحقها منا بجدارة وإقتدار أن يدرس أحد منا كل جوانب حياته العامة، بما فيها رؤاه في السياسة ورموزها ومراحلها، ولا أعتقد أن تلك شنشنة من أخزم أو خطل من متنطع ما دام أن الناقد يتقصى الموضوعية ويفرز البرهان في متن أفكاره، فقيمة إنسان الطيب صالح الاساسية أنه حقل الدرس الخصيب، وإبداعه وحياته موئل التأويل اللامتناهي. واللهم اسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء.
    نقلا عن الأحداث


    ---------------------------------------------
    وهنا مقال للاستاذ الفاضل عباس وهو من اصدقاء الفقيد


    الطيب صالح =الحنين+الزين+مريود..و أكثر ...

    بقلم: الفاضل عباس محمد علي
    الثلاثاء, 24 فبراير 2009 20:44

    [email protected]

    (و نظرت من خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير، انظر الى جذعها القوي المعتدل، و إلى عروقها الضاربة في الأرض، و إلى الجريد الأخضر المتهّدل فوق هاماتها، فأحس بالطمأنينة. أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، و لكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، له جذور، له هدف. الراوي – لسان حال الطيب- في موسم الهجرة إلى الشمال.
    سمعت بالطيب صالح أول مرة عام 1963 في بخت الرضا من الصديق الأستاذ محجوب محمد عثمان الذي كان يعطّر ليالينا بأنسه اللطيف و حكاوي المدرسين بالمناطق النائية، و من ضمنها الدبّة عند منحنى النيل بين قنتي و تنقسي، و كيف أن المدرسين بالأميرية الوسطى كانوا ينتظرون إجازات الطيب صالح المذيع بالبي بي سي بفارغ الصبر مرتين في العام: عطلة الكريسماس في ديسمبر، و موسم حصاد البلح في أغسطس، لأنه كان من التواضع و دماثة الخلق و طلاوة الحديث و تدفق الشعر بمكان، و كان يضرب لهم كبد حماره من كرمكول على بعد خمس كيلومترات كل يوم تقريبا، يؤانسهم بالليل و النهار و يزوّدهم بالمعرفة بلا تكلف أو استعراض و ثرثرة، كان يواسيهم في قسوة الحياة بذلك الريف النائي كأنما يشكرهم على ما يقومون به تجاه أبناء اخوانه و أخواته البديرية الدهامشة القادمين للدبة الوسطى من الجابرية و كرمكول و العفّاض و جرا و قشابي و ابدوم و أرقي، و يتعامل مع المدرسين كزميل مهنة بحكم السنتين اللتين قضاهما بالأحفاد و رفاعة الأهلية عامي 53 و 1954 قبل أن يذهب للعمل بالقسم العربي بالاذاعة البريطانية، و ينشدهم أشعار الحاردلو التي حفظها عن ظهر قلب من أيام رفاعة؛ و في حقيقة الأمر كان القادمون للعطلات كثيرين، من طلاب وادي سيدنا و الجامعة و موظفي السكة الحديد و مشروع الجزيرة، مما يسمّون ب(السكاّكة) أي الذين ضربوا في الأصقاع النائية بفضل السكة الحديد، الا أن الطيب هو الوحيد الذي كان يحفل بالمدرسين و يلاطفهم و يعاشرهم، فحببّني فيه محجوب قبل أن اقرأ رواياته بعد ذلك بسنوات.
    و تناهت الينا في بادئ الأمر (عرس الزين) في سنار عام 1965 حيث أتى بها رئيس شعبتنا بالثانوية الراحل فيصل العمدة من بريطانيا، فقرأتها عدة مرات، و قرأتها لأمي عليها رحمة الله، و هي التي جاءت من قنتي عروسا في الرابعة عشر من عمرها و لم تعد لها ثانية و لكنها ظلت تتحدث كأنها قادمة للتو...بلهجة شايقية لم تبرحها حتى غادرت الدنيا بعد ذلك بعقدين، تماما كالطيب صالح الذي التقيته أول مرة بلندن عام 1999، و جلست معه لعدة ساعات تحت ظل وهيط لشجرة بلوط شامخة بهايد بارك، و كان يتحدث معي كأنه جاء لتوّه من كرمكول؛ و حكيت له كيف أنيّ تعرفت على رواياته و فككت بعضا من طلاسمها بمعونة أمي التي لم تكن متعلمة، و لكنها كانت متشرّبة بثقافة أهلها و متابعة لمجريات الأمور في مسقط رأسها، فكأنما تلك المشاهد في ود حامد و كرمكول و الدبة شاخصة كذلك في قنتي، و كأنما الشخصيات جميعها موجودة بقنتي و لكن بأسماء مختلفة بعض الشيء، فالزين هو جنا علي، زاهد مبروك رغم أنه يحب الأكل voluptuous و مهزار مع النساء كالعديد من الأشخاص "البنّوتيّين" الذين يجدون أنفسهم في مجالس النسوة، و قابل للجديّة و للتقمص الكامل لدوره في منظومة القرية عندما يحين الزواج و يشرع في بناء حياته الجديدة مثل فسيلة النخل التي تغرس في جوف تلك الأرض الخصبة وسط آيات كريمات و تعاويذ و طقوس أخرى تعود لآلاف السنين. و العمدة هو العمدة. و الحنين(ود القلباوي) هو فكي ابراهيم ود السيد. و محجوب و احمد اسماعيل و الطاهر الرواسي و عبد الحفيظ و حمد ود الريس و سعيد التاجر ركاّزة القرية جمال الشيل رجال الملمات الحارسون للعقاب و نحن في الشتات، سواء في الصعيد و الصّي أو في أقاصي بلاد الترك.. حتى مصطفى سعيد الذي عادة ما يحيله المثقفاتية الى لغز أو طاقة مشحونة بعوامل السلب و الايجاب، ما هو الا واحد من الأفندية الذين أتى بهم المشروع منذ تدفق جنّابيته من وابورات حسينارتي عام 1927، أو المسّاحون الذين توافدوا على تلك الديار منذ بداية عهد الانجليز و أقاموا في مخيّماتهم بأطراف القرية، أو هذا و ذاك من المعاشيّين الذين عادوا للقرية بعد طول ترحال في مصلحة الدريسة أو قوة دفاع السودان داخل أو خارج البلاد. و الجد هو الجد، نحيف رغم صلابته البدنية، و شعرصدره يشبه(شجيرات السيال في صحاري السودان..سميكة اللحي، حادة الأشواك، تقهر الموت، و لكنها لا تسرف في الحياة.) و قد لا يكون من السهولة ادراك المعاني الأدبية و الفلسفية المختبئة وراء هذا التشخيص الدقيق و استعارته المكنية، و لكن القارئ( أو المستمع) العادي لمثل هذه اللوحات imagery لسكان قرية محدوفة بأقصى شمال السودان يتماهى معها و يرتاح لها و يحسّ كأنه هو الذي سطرها بيراعه، و يستنتج أن الكاتب له نفس الاهتمامات و تؤرقه نفس الهموم، لا يحكى قصص أهله كالمتفرّج أو السائح العابر أو المتكسّب باسمهم ، و لكن كواحد منهم مقيم بينهم ما أقام عسير، حتى لو كان جسمه في بلاد الترك، و منفعل بقضاياهم و مجتهد في سبيل توصيل خبرهم للعالمين لأنه فخور بهم و لأنه يرى فيهم السريرة النظيفة و القدوة الحسنة و السعادة و الطمأنينة felicity التي أخذ العالم يفتقدها من فرط لهاث الحياة و سطحيتها و شبقها المادي و اسرافها و تخمتها؛ فهؤلاء قوم كشجيرات السيال أقوياء الشكيمة و لكنهم لا يسرفون في الحياة، و يجيدون لعبة العرض و الطلب الوجودية السرمدية.
    و لكن الذي ساهم منذ وقت مبكر في شرح روايتي عرس الزين و موسم الهجرة الى الشمال هو رجاء النقاش، في حوالي عام 1966، اذ كانت تلك أول مرة يتذكر النقاد المصريون و العرب إبداعا أو مبدعا سودانيا، و رغم أن الصدفة لعبت دوراً في أن ينتبه رجاء النقاش لروايات الطيب صالح الا أن الروايات نفسها كانت تستحق تلك الاشادة، و استمر دفعها الباطني بعد ذلك في تحريكها بدور النشر و المكتبات العربية، بل و الجامعات و المنتديات و على مستوى القراء في الوطن العربي من محيطه الى خليجه طوال الأربعين عاما المنصرمة.
    و أذكر أنني قابلت حنان عشراوي في جامعة برمنجهام عام 1983 خلال سمنار دام لثلاثة أسابيع اسمه (اللغة الانجليزية في العالم العربي)، و كانت وقتذاك متخصّصة في تدريس أدب الطيب صالح بجامعة دير زيت، و ما أن علمت بأنني ذو جذور في منطقة الطيب حتى اكثرت من استنطاقي عن التفاصيل و التضاريس و الحياة عند منحنى النيل قبل أن يتجه شمالاً صوب مصر؛ و عن عادات الناس و تقاليد العمل الجماعي (البوغة أي النفير بلغة الصعيد..صعيد السودان)، مثل تلك اللحظة في "عرس الزين" عندما اجتمع رجال القرية مستنفرين لدى العمدة في حقله، و صاح الزين فجأة..( أنا يا ناس مكتول في حوش العمدة!)، معبرا عن اعجابه باحدى كريمات العمدة اسمها عازة، و انفجر الغضب في صدر العمدة و لكنه خبا لما انفجر الباقون بالضحك؛ و عن دور الزين في رفاهية القرية و كلفة بالأعراس و توصيل أخبارها للكافة، و دوره كعامل مساعد catalyst في سعادة الآخرين تسعى وراءه جميع الأمهات كوسيلة اعلامية مجانية للاعلان عن بناتهن و جاهزيتهن للزواج؛ و سألتني حنان عن الأكل و طريق تناوله الجماعية، و عن كل شيء تعلمتْه من قصص الطيب وهي في رأيها أفضل ما صوّر الحياة بتفاصيلها في القرية الفلسطينية، و كان ذلك مثار دهشة بالنسبة لي عندما اكتشفت أنها مسيحية، فتأكد لدي أن رسالة الطيب صالح تنفذ لجوهر الانسان و تستجلي عوامل الخير و الشر المتصارعة في داخله و تجلّياتها في مجتمع القرية ( أي قرية في الكون) الذي يشبه خلية مايكروكوزمية للمجتمع الاكبر،فالادب لحقيقي هو الذي يجد الجميع أنفسهم فيه، قروية رحلت الى مدن بعيدة أو مسيحية تناضل ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني و هي مقيمة بأرضها حتى الآن.
    ثم تتلمذت بكلية الآداب جامعة الخرطوم (بعد ما شاب أدخلوه الكتاب) على يد الناقد العبقري المتواضع هو الآخر، و النافر من الأضواء و الشهرة، د.علي عبد الله عباس رئيس شعبة الانجليزي في النصف الثاني من السبعينات، الذى درّسنا روايتي عرس الزين وموسم الهجرة ترجمة دنس جونسون ديفز، ضمن برنامج الادب الافريقي ممثلاً في شنوا أشيبى ووول سوينكا ( روايتي الاشياء تتداعى Things Fall Apart و المترجمون The Interpreters )، مع الفارق بين هذا و ذاك، فرغم أن عرس الزين دارت حوادثها أيام الاستعمار البريطاني ..لا وجود فيها للسلطة أجنبية أو مسودنة، و ليس هنالك احتكاك من نوع القسيس رمز التبشير المسيحي الغربي في ( الأشياء تتداعى) أو الادراي البريطاني الذي يستهجن معتقدات الايبو و يهتك حرماتها؛ في عرس الزين يسوس أهل القرية أمورهم بأنفسهم و تتوالى عليهم الفصول و يتقلبون معها في سلاسة و تصالح و يفضّون النزاعات حتى قبل أن تحدث proactively بفضل التوزيع العبقري للأدوار بين جميع الفئات الممثلة لكافة المصالح، و الطبقة الوسطى هي الحاكمة برغم وجود العمدة رمزا للسيادة، و تلك الطبقة هي التي يرمز اليها الطيب مازحا(بالعصابة)، مجموعة محجوب والطاهر الرواسي و احمد اسماعيل...حتى عندما لامستهم الدولة بآخرة في (عام الحنين)، سنة البركة و الفال الحسن (النسوان القنعن من الولادة ولدن.البقر و الغنم جابت الاثنين و الثلاثة. تمر النخيل كتير. التلج نزل. و الحكومة جاءت بالمشروع الزراعي، شيدت بناه التحتية و تركته للعصابة لتديره. و شيدت المستشفى و المدرسة الثانوية..الخ). القرية التي تفجرت فيها معجزة (عام الحنين) هي نتاج لتصالح مع النفس و طمأنينة يتمتع بها أهلها منذ قديم الزمان، مشبّعة بالإسلام الصوفي ممثلا في الحنين و حواره الزين الذي ظفر باجمل فتاة في القرية، نعمة ابنة عمه ابراهيم، كما تنبأ له الحنين رغم أنه كان عوير القرية الشبيه بأحدب نوتردام، يسميه صبيان القرية الزرافة،(الذراعان طويلتان كذراعي القرد، الصدر مجوف و الظهر محدودب قليلاً و الساقان رقيقتان و طويلتان كساقي الكركي)، كما يصفه الطيب في أول الرواية.
    و حتى عندما كان هنالك احتكاك لصيق بالحضارة الغربية كما جاء بعد ذلك في موسم الهجرة فهو يتم في(بلاد تموت من البرد حيتانها)، يمثله مصطفى سعيد بصورة أكثر دراماتيكية من شخوص قنديل أم هاشم ليحي حقي و عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم. و حتى مصطفى سعيد رجع (في المغيرب) لتلك القرية كفسيلة مطعومة، و اشترى أرضا بحر ماله و تزوج و أراد لجذوره أن تضرب وسط هؤلاء القوم الأصيلين المتصالحين مع أنفسهم، و لكنه كالعضو المزروع في جسم الانسان بمبضع جراح لفظه ذلك الجسم في آخر الأمر، و فجأة اختفى كأنما ابتلعه النيل، و لم يطب له المقام حتى في مقابر تلك القرية الوادعة. أما الملامسة الايجابية مع الحضارة الغربية فهي التي يبشر بها الراوي في موسم الهجرة، و غالبا هو لسان حال الطيب، الذي يقول في بداية الرواية:(عدت الى أهلي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام كنت خلالها أتعلم في أوروبا)، لأنه متجذّر في بيئته السعيدة التي يرمز لها جده الذي بلغ التسعين و ما زال يتسلّى و يضحك ملء شدقيه لأحدوثات بت مجدوب مع كافة أنواع الرجال الذين عاشرتهم (بالحلال طبعا)؛ثم يقول الراوي بعد ذلك بصفحتين:(أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع و يثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، و صفحات بيضاء في سجل العمر. سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جرئ.) ذلك هو الطيب صالح شخصيا، و قد أوفى بما وعد عبر كل مراحل حياته: عندما كان مذيعاً بالبي بي سي بلندن لم يتوارى من الضيوف و كان حتى مماته أخ الأخوان و عشا البايتات و المدافع عن السودان و السودانيين في كل المحافل، و جميعها تجهل السودان تماما، و عاد للسودان بعد ثورة أكتوبر و عمل مستشارا للاعلام فأعطى الكثير و لم يأخذ شيئا، و عمل بقطر فأنشأ بنيتها الاعلامية التحتية، وساعد العشرات من السودانيين الذين لا زالوا يعملون في تلك الدولة المضيافة التي عشقت الطيب و أحسنت وفادته، و من اجل عيونه أكرمت مئات العيون. و أعطى بسخاء ايضا عندما كان في منظمة اليونسكو بباريس فكانت داره مفتوحة للأدباء و المثقفين السودانيين و غيرهم من الأعراب و الأفارقة، و فاض الحب من قلبه فأنجب بنات أحداهن برفيسورة الأدب الانجليزي بجامعة كامبريدج، و ارتاد آفاقا كثيرة في مجال القصة و المقال الصحفي الاسبوعي و سجل صفحات بيضاء لأنه يتأسى بالقول السوداني المأثور:(الكلمة أطول من العمر) فترك الناس كلهم يذكرونه بالخير، و لا يكاد يوجد عدو واحد له، و بالفعل قرأ كتبا كثيرة و كتب جملا واضحة بخط جرئ.
    ألا رحم الله أبا زينب فقد كان نوارة الركابية و البديرية الدهمشية و السودانيين و جميع العرب، و إن بخل عليه الغرب بجائزة نوبل فهو يذهب مرفوع الرأس كما ذهب سمرست موم و حي.بي بريستلي و قراهام قرين الذين حرموا منها كذلك و الذين كانت قاماتهم أعلى بكثير من جائزة نوبل و اللوبي المحلّق حولها في السويد. و يكفي أستاذنا الطيب أنه ترك إرثا أدبيا لا يشيخ على مر الدهور، كالثريا و دونه الشيب و الهرم، و ترك ملايين القلوب المفعمة بحبه على نطاق الوطن العربي كله. ألا رحم الله الأستاذ الطيب و جعل الجنة مثواه بين الصديقين و الشهداء.


                  

02-25-2009, 05:46 AM

ضياء الدين ميرغني
<aضياء الدين ميرغني
تاريخ التسجيل: 01-29-2009
مجموع المشاركات: 1431

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    الاديب والروائي العظيم الطيب صالح وموسم الرحيل المر
    2009/2/23
    نحو افق بعيد وفاء للراحل العظيم الأديب الطيب صالح



    للكتابة سحرها الآخاذ . ولها لسان يسحر الألباب ، ولكن قليل هم من يمتلكون ناصيتها وحبكة جملها ومفرداتها وقد كان اديبا الراحل الكبير الطيب صالح أحد ابرز فرسانها



    لاديبنا الراحل بصمة عالمية نقلته من التعبير عن الواقع المحلى بلغته الممزوجة بالشعر الى مصاف ابرز كُتاب اللغة العربية فى القرن العشرين حتى أُطلق عليه صفة عبقرى الرواية العربية من الناقد الكبير رجاء النقاش.



    بعدد قليل من الروايات مقارنة بروائين آخرين ، استطاع ان ينجز عبرها مشروعه الثقافى الضخم ، فى بلاد تتقاذفها امواج محيط متلاطم من ثقافات وتكوينات مختلفة تكاد ان تعصف بها .



    وبكيانها بكل تأريخها التليد والمجيد ، كان شجاعا فى مواجهة العلة التى ادت الى وفاته كما كان شجاعا وجرئيا فى قولة الحق مهما كان المقصود بها . تنقل فى عدة مناصب ذات طابع ثقافى

    وفكرى ونقلنا الى حيث يريد عبر الهامه الادبى والفكرى سواء كانت رواية او مقالة ونحو افق بعيد خير مثال وشاهد .

    لم تغب اوجاع الامة العربية ووطنه السودان عن باله وهو فى اشد حالات وجعه جراء الداء اللعين الذى خطف منا ارفع رموزنا واوسمهم مكانة .فمضى وكأنه يلقى بوصيته الينا

    أن كفانا ما يحدث فهل من مجيب؟

    فرقتنا السياسة والساسة شَر فرقة ، ومزقت اواصرنا ورباطنا مثل تمزيق قماش بالى وهرئتنا مثل ورق اكلته (الاردة) فبتنا عراة ،حفاة، من كل ما نفخر به فى هذا الزمان . وحده قال

    ما يجب أن يقال فى حينه ، وفى الزمان والمكان المناسبين. ومضى ينشُد افقه البعيد . وتركنا فى حيرة لا ندرى هل نبكيه ام نبكى انفسنا .

    عرَفنا بالعالم وعرَف العالم بنا فمصطفى سعيد لا زال يتجول بيننا ويعيش داخل عربى وسودانى مهاجر فى بلاد الغرب منذ ان خَط اشهر روايته موسم الهجرة الى الشمال ،والتى ترجمت الى مائة لغة

    واتوقع عندما يقراء العالم روياته الاخرى التى لا تقل جمالا وحبكة عن موسم الهجرة الى الشمال ،فسيدرى كم كان عظيما هذا الطيب الصالح . اتوقع ان يقبل السودانيون على كتاباته ورواياته وهى عادة متأصلة ان لانعطى الإنسان حق قدره فى حياته ، اتوقع ان يعرفونه ويوفونه بعد غيابه الجسدى مكانه الصحيح .

    امنية وامل ظل يراوده فى آخر ايامه التى كان يعلم انها قد دنت وتحدث كثيرا عن هذا الأمر وقال بلسانه مايشتهيه ولكن دمعة سالت على خدوده الوضيئة كذَبت ما كان يأمله وافصحت عن ما كان يدركه.

    لك الرحمة والمغفرة اديبنا العظيم ونهرنا الثالث الطيب صالح
    ضياء الدين ميرغنى الطاهر


    http://diyamirghani.1toxic.com/admin.php?ctrl=posts&tab=posts&blog=1#post_1



                  

02-25-2009, 08:59 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: ضياء الدين ميرغني)

    شكرا لك الاخ ضياء الدين
    على المقال الرصين
    واقرا معى ما كتبه ناصر الظاهرى فى الاتحاد الاماراتية رغم انه يفهم من حديثه انه فهم موسم الهجرة الى الشمال فهما جغرافيا فقط






    ناصر الظاهري موسم الهجرة ليس دوماً إلى الشمال!

    أخر تحديث: الأربعاء 25 فبراير 2009 الساعة 02:59AM بتوقت الإمارات
    هكذا ودعنا الروائي السوداني الطيب صالح الذي كان طيباً على الدوام، وصالحاً إلى أبعد حد، تاركاً اسمه محفوراً في متون الأدب العالمي، وفي قلوب كل من عرفه، وفي ذاكرة المدن التي عاش فيها، أضحكته يوماً أو حملت ثقل غربته، أو كفكفت دموع حزنه، أو بشرته بما يفرح قلبه·

    توفي الطيب صالح في لندن، هذه المدينة التي عرفته، وعرفها مثل راحة كفه، وربما أهدته روايته الخالدة ''موسم الهجرة إلى الشمال'' وعاد منها محمولاً على نعش ليستقر في بلاده السودان الذي وإن غاب عنه، وغرّبه، إلا أنه كان يحمله قبل أن يحزم حقائب سفره إلى أي مكان، تلك هي علاقة المبدعين بالأوطان، تبقى عزيزة لا يساويها أي شيء، دون أن يدري الآخرون، ولا يريد هو من الآخرين أن يدروا، علاقة أكبر حتى من التفكير السياسي أو الانتماء الطائفي، أو الضيق المحلي والجهوي، علاقة حب سرمدية، لها طقوسها، ولها خصوصيتها، ولها طُهرها، ولها عبء حملها·

    لقد شيعه العرب في مختلف أنحائهم، وباختلاف نحلهم من معارف ومحبين وكتّاب رفاق رحلة القلم، ومثقفين وسياسيين وفنانين، وفي السودان تقدم المشيعين الرئيس عمر البشير، والصادق المهدي زعيم حزب الأمة المعارض، وجموع غفيرة من المواطنين الذين طالما أفرحتهم كتاباته، وطالما حضتهم على البقاء، وعلى الكفاح، وعلى الصبر· ولد الطيب صالح عام 1929 في قرية ''كرمكول'' في إقليم مروي شمالي السودان، قرب قرية ''دبة الفقراء'' وهي إحدى قرى قبيلة الركابية التي ينتسب إليها، انتقل الى الخرطوم حيث التحق بالجامعة التي لم يتم دراسته فيها، منتقلاً إلى لندن عام ،1952 حيث عمل في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية ''بي بي سي'' وشغل منصب مدير قسم الدراما فيها، ثم عمل في وزارة الاعلام القطرية، بعدها غادر إلى باريس حيث شغل منصباً استشارياً في مقر اليونيسكو في باريس·ذاع صيت الطيب صالح كروائي وقاص بعد نشر روايته ''موسم الهجرة الى الشمال'' في بيروت عام ،1966 لتصبح فيما بعد واحدة من أهم الروايات العربية والعالمية، لكن السلطات السودانية منعت تداول هذه الرواية في التسعينيات من القرن المنصرم، بحجة تضمنها مشاهد وإيحاءات جنسية، غير أن الرواية رغم ذلك صنفت كواحدة من أفضل مئة رواية في القرن العشرين، ونالت العديد من الجوائز، وترجمت إلى معظم لغات العالم، ومن رواياته التي اكتسبت شهرة ''عرس الزين'' التي تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج المخرج الكويتي خالد الصديق الذي أخرج أول فيلم كويتي ''بس يابحر'' وللطيب كذلك روايات: ''مريود'' ''ضو البيت'' ''دومة ود حامد'' ''بندر شاه'' ''نخلة على الجدول'' ''حفنة تمر'' و''منسي''·

    موسم الهجرة ليس دوماً إلى الشمال، كما أردت يا صديقنا الغائب، الآيب، فقد استقريت اليوم أيها الطيب، وأيها الصالح في مثواك الأخير في مقابر البكري في أم درمان!



    جميع الحقوق محفوظة © لجريدة الاتحاد

    إغلاق
    جريدة الاتحاد
    الاربعاء 30 صفر 1430هـ - 25 فبراير 2009م
    www.alittihad.ae[/B]
                  

02-25-2009, 10:58 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    التاريخ: الأربعاء 25 فبراير 2009م، 1 ربيع الأول 1430هـ


    في حضرة شيخي الطيب صالح (1)

    خالد عويس

    «لوقتٍ طويلٍ لن يولد، هذا إذا وُلِدَ،
    (سودانيٌّ) جليّ مثلك، وغنيّ بالمغامرة مثلك،
    ذا أنا أُعظّم أناقتَه بنائح الكلمات،
    ومتذكراً نسمة حزينة تخلّلت أشجار (النخيل)»
    الشاعر الإسباني الكبير غارسيا لوركا في (بكائية من أجل إغناثيو سانشيز ميخياس) - ترجمة الشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي، وبتعديل كلمتي (إسباني) إلى (سوداني)، و(الزيتون) إلى (النخيل).
    الموت منتصر في النهاية !
    الموتُ منتصرٌ في النهاية، كما هجس الشاعر الإسباني، غارسيا لوركا.الموت يهزمنا نحن الباقين بعد رحيل من هزموا الموت.الموت يشرقنا بالبكاء.وكلما سقط «عصرٌ من الكلمات»، ونشيدٌ إنسانيٌ صرف، كالطيب صالح، سقطت ورقة من أوراق العمر، عمرنا نحن.
    الموت منتصر في النهاية.هزمنا - عنوة ? مرات ومرات، بسرقة أجمل المخلوقات منّا، المخلوقات التي تفيض شعرا وموسيقى، وقادهم إلى «ممر لولبي»، هو ممر بياض لن يعودوا منه أبدا.وها هو، اليوم، يجرحنا إلى أقصى حد، ويزرع طعم العلقم في حلوقنا، باختياره، هذه المرة، «المهاتما/الروح العظيمة»، الطيب صالح !
    يستعصي عليّ إلى أبعد درجة، ألا أرى الطيب صالح مرة أخرى، ولا أسمع صوته.وأن أعيش اليوم الذي أراه فيه - على شاشات التلفزيون -، محمولا على الأعناق، إلى مثواه الأخير.
    يصعب تصوّر ذلك، فالأمر فادح جدا.أن يغيب عن العالم فجأة، ذلك الطيف النوراني المشع إنسانية، كأنه ضوء الفجر الخفيف الذي ينسرب بين هامات النخل، ناهضا من النيل، ليعم الأرجاء، ويبعث في الناس شعورا عميقا بمعنى الحياة.
    إن كان الأمرُ أمرَ عبقرية أدبية متفجرة وحسب، لهان، لكنه أمرُ «إنسانٍ نادرٍ على طريقته» فعلا.إنسان «لا يجرح خدا»، ولا يؤذي زهرة، ولا فراشة. إنسان كأنه مخلوق من طينة سماوية، لا أرضية.
    هكذا كان الطيب صالح، لكل من عرفه عن قرب.روح خفيفة كالنسمة، وعقل جبّار.في حضرته، يصبح المرء - بلا إرادة - تلميذا صغيرا ينهل من نبع الإنسانية.ينهل من رجل عظيم، على ثقافته الشديدة الاتساع، إلا أنه آسر للغاية بمعشره وروحه الإنسانية المتوقدة الفذّة.
    ولعل ذلك هو سر عبقريته، التي لا انفصام بين شقها الأدبي العبقري، وجوهرها الروحي الذي قلّ أن تجد له نظيرا بين الناس، عامة الناس، الذين ما إن يبلغ الواحد منهم مرتبة ما، في سياق اللهث والصراع الدنيوي الفاني، حتى يحسّ بنشوة ذلك، وتعظم في عينيه نفسه، فما بالك بروائي عالمي كالطيب صالح! لكنه أبدى على مرّ السنوات، زهدا غريبا، وتقشفا نادرا، وتواضعا، وبساطة، وقلبا رقيقا، كقلوب الرضع، لا يخدش أحدا، ولا تغرّه الدنيا، ولا ينتظر من متاعها إلا أقلّ القليل، تصغر في عينيه العظائم.
    هذه هي عبقرية الطيب صالح.عبقرية السوداني البسيط، البالغ البساطة، الذي تكفيه تمرات يلتقطها من «نخلة على الجدول»، وجرعات من ماء عكِر، لينام قرير العين، متفيأً ظلال شجيرة، تغطي بالكاد جسده.
    ما أقسى خسارة أمثاله. وما أكبر فجيعتنا فيه على الصعيدين، الأدبي والإنساني.خسارته لا تُعوض.والمرارة ستبقى في حلوقنا للأبد، لأن أمثال الطيب صالح لا يولدون كل يوم، ولا كل سنة، ولا كل قرن. إنهم كالمستحيل، يضيئون سماوات العالم بأسره، ويشعون عليه، ويسبغون على شعوبهم، وعلى الإنسانية جمعاء، نورا وإلهاما يبقى أبد الدهر.
    عازف عن الضوء، وزاهد في الأضواء عاش سيدي الطيب صالح.وهكذا رحل في صمت.صمت الفلاسفة الكبار.عرف الدنيا وأختبرها وأدرك حقائقها الكبرى، فعزف عنها وعن إغوائها.بل حتى سخر منها ومن أضوائها الزائفة. كان ناموسا بحدّ ذاته، كالنواميس الكونية الكبرى، وكالظواهر الخارقة، غير أنها في غاية البساطة، وفي هذه المعادلة الصعبة، بين الخارق والبسيط تكمن عظمة الطيب صالح.

    * روائي سوداني مقيم في الإمارات
    [email protected]


    ---------------------------------------

    التاريخ: الأربعاء 25 فبراير 2009م، 1 ربيع الأول 1430هـ


    الطيب صالح..نفحة الطمي

    بقلم: لمياء شمت

    ما يقارب نصف قرن من سير الزمان وما زالت الأقلام تحرث في محاولة للقبض على سر ذاك المتن الإبداعي المتجاوز، و تلك الروح الساردة الحكائية في تعبها المستطاب وهي تعاين تفاصيل الوجود بمحبة وتتماس معه بشفافية مطلقة تحوله هوناً الى خزائن رؤى وأفكار لا تنفد، والى تأمل متمهل و إستكناه متبصر ينسج أمشاج الحياتي والخيالي بأبعاد رؤيوية توثق عراها لغة هي زبدة البساطة والطلاوة والنفاذ. يقول الطيب صالح عن منجزه الإبداعي: «هو نوع من الاصغاء لنداءات الحنان التي يبثها هذا العالم الذي أعتبر نفسي مجرد وسيط وناقل له».


    و كما أن الألماني هنريش هاينة قد إرتفع بالكتابة الصحفية الى مقام الشعرية، فإن الطيب صالح قد جعل من المقال الصحفي مفاعل تخصيب رؤيوي عظيم، يهدر فكراً وجمالاً معافاً من رهن الإشتراطات وجمود القولبة وسلفية ترسيم الحدود بين أجناس الكتابة.ليفيض مقاله بالمحاورات و الخواطر والتأملات والأنساق الحكائية و الكشوفات التي تتبدى كمغامرات وعي باهرة تحتمل كل الأفكار، ويتسع أفقها نحو اللا محدود واللانهائي في الكتابة.
    ولعل تلك السعة والقدرة على الإصغاء والتدبر هي ما جعلت وعي الطيب صالح يلتقط بوضوح أدق إشارات وإرهاصات الحياة الثقافية في منطقة الخليج تحديداً، التي التصق بها و بفعالياتها المختلفة على مدى ربع قرن من الزمان. «إذا كان الخليج عنده أدباً حديثاً وأصيلاً وليس ازدهاراً مجبراً فسيكون مكتوباً على يد امرأة، لأن النساء هنّ اللواتي يعشن تحت ظروف اجتماعية صعبة تجعلهن مؤهلات للكتابة في الرواية والشعر .. وأنه إذا كانت هناك رواية خليجية خلال العشر سنوات المقبلة فإنها سوف تكون رواية امرأة كتبت بالقهر والغضب».
    تلك هي نبوءة الطيب صالح الباهرة التي أطلقها في العام 1981م، وما زال أهل الفكر و الثقافة في منطقة الخليج يتحلقون حولها مستضيئين بنفاذ تلك الرؤية المتبصرة خاصة السعوديين وهم يستحضرون روح الطيب صالح كأحد الرموز الباذخة للمهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، الذي ظل الطيب صالح يزينه بحضوره الأنيق ويرفده باستمداداته الفكرية و الجمالية التي لطالما قدحت الأذهان وحركت كوامن الروح والعقل والوجدان. وفي عهد إزدهار الفن الروائي السعودي الحالي وعلو مده بتصدر الرواية النسائية بجدارة لواجهة المشهد الثقافي، ما زالت تلك المقولة تقتبس وتستدعى باستمرار. فها هو إبن عقيل يكتب بعد ما يزيد عن الربع قرن مستصحباً ذاك الحدس الطيبي الملهم وهو يمضي متأملاً ملامح الأدب السعودي ليدون شهادة جيل : «المرأة هي الأفضل فيما يتعلق بالرواية في المنطقة، بل أن تلك الأعمال لها أثر عظيم حتى في تغيير آليات التلقي داخل المجتمع».
    ذلك هو حضور الطيب صالح الذي لم تغيبه سهوب الجغرافيا ليظل على عهده براً حفيا. تحيلنا خصوصية غربته الطويلة الى تمثلات إدوارد سعيد للمثقف كذات مرتحلة واقعاً و مجازاً، تتأبط غربتها لكنها لا تكف عن التواصل والإندغام في هموم بيئتها، يخبر عن ذلك إتصال الطيب صالح العضوي بأوردة أمته وبلده، وأرقه بإنسانه، ووعيه النافذ بالتحولات السياسية والإقتصادية وما أحدثته من تجريفات رهيبة في بنية المجتمع.
    وعبر البلاد وفي جوف ضباب لندن المتناسل لم يجنح الطيب صالح يوماً لتدبيج مراثي الإغتراب الشكاءة البكاءة، التي تختزل التجربة الى محض إنكسار وشتات وحالة رهابية، وإنما أنخرط بكل جوارحه في تلك التجربة الوجودية المهمة بيقين راكز بحقيقة اتصال كوني أبدي ووحدة وجود إنساني يسقي جذره الود والمحبة والسعة وإحترام الآخر. يحلم الطيب بأن يلملم شعثه و يرتق فتقه ظاهراً و باطناً، «لو كان لي من الأمر شيء لربطت العالم كله من طنجة الى مسقط، ومن اللاذقية الى نيالا بشبكة من السكك الحديدية».
    و لعل تلك الأريحية المتسامحة البشوشة هي ما جعلت الطيب صالح تماماً كصديقه منسي «كان أصدقاؤه من مختلف الأجناس و شتى المشارب والأقدار والمراتب، وكانوا كلهم عنده سواسية؛ الأمير مثل الفقير».
    رجل هو حقاً بلا مزاعم ولا رهانات كبرى ولا ادعاءات. يقول كلمته و يمضي هيناً زاهداً في الأضواء والألقاب والحظوات و التعلق بأشجار النسب، ورغاوي المرابد وصبوات الإستعلان والانتفاخ و ترويج الذات. يصر على انه محض فلاح بسيط يقلب حواسه في قبة الكون. فلاح قدره أن يشع في الأذهان و يخلد للأبد الأسم الذي هو صفة ذاته الحيية، نقية الطوية دافئة الانسانية، طيبة النفحة، عظيمة الخصب كطمي الأرض البكر التي أخرجتها.


    ---------------------------------------------
    التاريخ: الأربعاء 25 فبراير 2009م، 1 ربيع الأول 1430هـ


    الطيب صالح: قراءة سريعة في خطاب الرحيل

    عبد الماجد عبد الرحمن

    - رحل الطيب صالح فالحزن عريض. لكن ورطة أكبر، ستواجه كل من يحاول الكتابة عنه . خاصة إن كان الكاتب من النوع الذي يعاني «قلق التأثر»- حسب المفهوم النقدي لهارولد بلوم الذي عرضنا له سابقاً (في الحقيقة كل النصوص مثقلة بقلق التأثر!). فليس أصعب من الكتابة عن كاتب كبير أو نص كبير(وكذلك النص الصغير والكاتب الضعيف هو الآخر ورطة!). إذ كيف يمكن لأي كاتب أن يضيف جديداً لما كتب ويكتب باستمرار.. لهذا السيل العارم المنهمر بلا حدود. لعل مثل هذه الورطة هي التي جعلت الكاتب المفكر السوري هاشم صالح يكتب مقالا - حين مات محمود درويش - يشتمه بشدة أو كأنه يشتمه! وتبريره لذلك أن درويش مثل كل الشعراء العظام في التاريخ لم ولن يموت، فدعنا نعامله وكأنه حي بشتمه (لعلها طريقة ذكية لطرد الحزن)! فالطيب صالح كشكسبير أو ديكنز أو ميلتون أو طاغور أو غيته أو ماركيز أو كافكا أو هوقو وكل المائة الآخرين الأعظم في تاريخ الأدب الإنساني الذين صنف بينهم ولم يفخر. تابعت التغطيات الصحفية لرحيله ووجدت المعاناة تفوح من كل قلم حاول الكتابة عن الطيب صالح. وتحضر هنا عبارة قالها الكاتب عثمان الحوري تلخص ورطة الكتابة عن الطيب صالح وهي أن من يحاول الكتابة عن الطيب صالح فهو كمن يحاول « أن يبيع الماء في حارة السقايين» ( يعني حيقول شنو الناس ما عارفنه). وفي أحد أعداد مجلة الثقافة السودانية القديمة محاولة لكتابة ببليوغرافيا عن كتابات الطيب صالح . ستندهش من كم الدراسات والمقالات والبحوث العلمية التي أحصيت عنه (عشرات). لاحظ هذا العدد القديم يعود إلى السبعينيات!
    ---
    - مع هذا السيل الجارف، أعتقد أن من الكتب والدراسات الأخيرة الجديرة بالقراءة كتاب د.احمد البدوي(الطيب صالح - سيرة كاتب ونص ) وكتاب آخر لباحث عربي في بريطانيا يحمل رؤية جديدة عن «موسم الهجرة»(سنعرض لهذه الدراسة لاحقاً)، ودراسة الدكتور عبد الرحمن الخانجي عن «رؤية الموت و دلالتها في روايات الطيب صالح (نموذج موسم الهجرة وبندرشاه)»، ومقالة منصور خالد الفاخرة (الزين يغيب عن عرسه) حين اختير الطيب صالح ضمن المائة كاتب الأعظم في التاريخ(نشرت في الشرق الأوسط والصحافة). الكاتب الصحفي الممتاز إسماعيل آدم تحدث عن «صعوبة الكتابة» عند الطيب صالح ووصفها «بالجنزير» الثقيل. وهو يريد أن يقول إن الطيب صالح يخرج الكتابة بعد كدٍ وجهدٍ وتعب، وهذا صحيح. فأحمد البدوي هو رجل بحاثة وذو حس توثيقي نادر قال في كتابه (سيرة كاتب ونص) إنه وجد في المتحف البريطاني عدداً قديماً من مجلة (التايمز) يعود إلي العشرينيات من القرن الماضي. في هذا العدد القديم وجد الباحث خبراً أو تقريراً موجوداً بالنص في «موسم الهجرة» (في أوراق مصطفى سعيد في غرفته الخاصة التي فتحها محجوب بعد اختفائه الغريب). وكأن الأخ إسماعيل يريد أن يقول أيضا إن الكتابة صعبة عند الطيب صالح وعنه أيضا !
    - في احدى هذه التغطيات الصحفية عن رحيل الكاتب في جريدة (الرياض - السعودية) قال د. حسين المناصرة أن (موسم الهجرة إلى الشمال) رواية يمكن أن تقرأها عشر مرات أو مائة مرة ثم تحس وكأنك تقرأها للمرة الأولى. وهذه على الضبط ميزة النصوص الكبيرة.. لا ستنفد ولا تنضب وتبقى باستمرار في انتظار قراءة جديدة أعمق وأجمل. وقال الروائي السعودي يوسف المحيميد إنه لم يكد يفق من صدمة موت محمود درويش حتى فاجأه الطيب صالح، ومما قال: «فكما تعلمنا جماليات اللغة ومفرداتها الشعرية على يدي محمود درويش، كنا التقطنا جماليات خيوط السرد من رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال». وتتذكر الكاتبة السعودية منى المالكي كيف أن «موسم الهجرة» كانت تتناقل سراً بين أيدي طالبات المرحلة الثانوية في السعودية وأن دهشتهن كانت بالغة بعوالم ولغة هذه الرواية فائقة الجمال.
    - لم نستثمر نحن السودانيين الحضور الطاغي للطيب صالح على مستوى الدوائر الثلاث التي نقع فيها(العربي والأفريقي والعالمي). فلو استثمرنا (10%) فقط من هذا الحضور الفريد لما كنا اليوم نشكو من الإهمال لأدبنا وثقافتنا، وهي التي جاءت بالطيب صالح . هذا مع أن الكثير من أهم مبدعي السودان عاشوا أو يعيشون في منطقة الخليج : إبراهيم اسحق(قضى حوالي عشرين عاماً في الرياض) والنور أبكر وبشرى الفاضل وعالم عباس وحسن البكري وعصام عيسى رجب والطيب برير وغيرهم كثيرون ولا تكاد تسمع لهم ذكراً حتى في المدن التي يعيشون فيها!!
    - كنا صباح الأربعاء 81/2 وزميل كاتب وصحفي سعودي محاضر بجامعة القصيم (د.خالد العوض) نتحدث عن (دومة ود حامد)، حيث سألني الزميل عن هذه الدومة ودلالتها حين وصلتني فجأة رسالة حزينة من الأخت لمياء شمت تقول: (الطيب صالح رحل يا ماجد!). أخبرت الزميل فرأيت سحابة هائلة من الحزن تحط على وجهه. القاريء السوداني عبد الرحمن محمد الحسن كان أول ما فعله بعد سماعه نبأ الرحيل المؤلم هو أن أمسك»بموسم الهجرة»ولم ينم حتى أكمل قراءتها من جديد. هذه طريقة ممتازة للتعامل مع إحساس الفقد الكبير (فالطيب صالح لم يمت، ها هو موجود طالما أنك تستطيع أن تلمسه بيدك في» موسم الهجرة»).
    - معظم اتحادات الكتاب العرب نعته وعددت مآثره. واللافت في هذه التغطيات محاولة كل بلد عربي أن يحوز على شيء ما في الطيب صالح . فالموريتانيون ذكروا في بيان كتابهم أن الطيب صالح من أصل شنقيطي- موريتاني وأنه أسرّ لهم بذلك في إحدى زياراته مع الاعتزاز، والسعوديون ذكروا علاقته الحميمة بعبد الله الناصر وعبد العزيز التويجري ومجيئه الدائم إلى الجنادرية. والمصريون أشادوا بحبه لمصر وعلاقته بالمثقفين المصريين (منسي، الأبنودي...الخ). ولا شك أيضا أن المغاربة سيذكرون حبه للمغرب واختلافه الذي لا ينقطع إلى مهرجان أصيلة (في العام 2002 منحوه جائزة محمد زفزاف للرواية العربية). ولا يحتاج القطريون إلى قول شيء كون حبه وعلاقته بحكام وأهل الدوحة بائناً بشدة. وكذلك الحال في العراق وسوريا ولبنان التي أحبها الكاتب جميعاً وبادله كتابها ومثقفوها حباً بحب أكبر. لكن السوداني طلحة جبريل قال في الشرق الأوسط «كان الطيب صالح هو السودان، وكان السودان هو الطيب صالح». وكانت المرحومة المذيعة اللامعة ليلى المغربي تقول إنها تشعر بزهو طاؤوسي حين يذكر الطيب صالح في المحافل الخارجية وخصص التلفزيون السوداني برنامجاً خاصاً من تقديم المذيع الناضج (طارق كبلو) عن رحيل الطيب اختار له عنوناً مهيباً غاطساً في الحب(وداعاً النيل الثالث) ! هو خطاب الحب إذاً، دائما استحواذي وخاص حتى مع كاتب عالمي النزعة والترحال كالطيب صالح.
    - عبد الرحمن الأبنودي لفت القراء العرب إلى الاهتمام بكتابات الصالح الأخرى غير» موسم الهجرة»، كونها لا تقل روعة عن هذه الرواية الفريدة. وكذلك أشار جابر عصفور إلى صفة التجديد والانفتاح في أدب الطيب الصالح وتميز مقالاته في مجلة( المجلة)- خاصة عن المتنبي. ميزة «التجديد»تنسجم مع رؤية الأستاذ عيسى الحلو الذي يرى أن «عبقرية الطيب صالح» تكمن في أنه استطاع أن يتجاوز عقبة نجيب محفوظ ويكسر حاجزها. هذه النكهة الجديدة والدم الجديد التي يتكلم عنها نقاد الطيب صالح مرتدة إلى (الواقعية - الصوفية) ذات الأفق الحداثوي المُصعّد للمحلي التي انتهجها كاتبنا الكبير. وهذا ما جعل كاتبة سعودية تقول: «إن مما تعلمته من الطيب صالح هو أنك إذا أردت العالمية، فعليك الإغراق في المحلية»!
    - ومن الصفات الإنسانية التي كانت حاضرة بشدة في خطاب الرحيل صفة التواضع. رئيس تحرير» القدس العربي»- عبد الباري عطوان قال إن الطيب، كان «مثل الغالبية الساحقة من أبناء السودان، قمة في التواضع وهو المبدع الكبير، وعاش حياة بسيطة هادئة، محاطاً بمجموعة من الأصدقاء وفي البيت نفسه، وكم كنت أتمنى لو أنه حصل على جائزة نوبل تكريماً لمسيرته، لكنه مع ذلك يسجل له أنه جدد دم الرواية العربية وأضاف إليها نكهة لم تكن تعرفها من قبل «. وذكر طلحة جبريل أن الطيب صالح كان حقيقة لا يشعر بأهمية ما كتب وكانت تزعجه هذه الهالة حوله وكان يقول بتواضع مخيف «إن قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر». ووصف الصديق الشاعر عصام رجب في مقالة أنيقة الطيب صالح بالتميز في أدبين (أدب الحرف وأدب النفس) وقال عنه إنه كان «صوفي الأدباء وأديب الصوفية». وصديق الكاتب المعروف حسن أبشر الطيب دائم الكلام عن صفة التواضع عند الطيب صالح. الناس منذ القدم يحبون هذه الصفة، ووراء كل مبدع عظيم تواضع عظيم!
    - كان الطيب صالح لافت العذوبة حتى في صوته وطريقة كلامه. فله طريقة تنغيم لافتة حلوة عذبة ويعمل ضغطات مميزة في بعض الكلمات والعبارات. ولعل أميز الأصوات السودانية وأعذبها كانت للمحجوب (في التنغيم والنبر الخطابي) والطيب صالح وعلي المك وإبراهيم أحمد عبد الكريم - فكأنهم يغنون حين يتكلمون (يشاركني في هذه الملاحظة الأخ الشاعر عصام عيسى رجب)! والدكتور عبد الله علي إبراهيم أشار إلى تميز جلسات الطيب صالح كونها لا تقل في قيمتها الأدبية والثقافية عن كتاباته. ويبدو أن جزءاً مهماً من حلاوة مشافهات الطيب ووسامة أنسه، عائدة إلى حلاوة صوته وطريقته الأنيقة في مد الكلمات والعبارات وتنغيمها بطريقة معينة.
    هذه قراءة سريعة إذاً لخطاب الرحيل الكبير والحزن الأعرض، وتحتاج بالتأكيد زيارة أخرى لتحليلٍ أوسع.. وما زال وابل كتابة الرحيل يهطل بلا حدود.


    ------------------------------------------------


    التاريخ: الأربعاء 25 فبراير 2009م، 1 ربيع الأول 1430هـ

    من يعزينى فى فقد مبدعنا الكبير ولمن التوجه بالعزاء؟؟
    وسرادق الاحزان قد نصبت عليه من المحيط الى الخليج

    مها محمد بشير

    كنت طفلة- ياسادتى- حين سمعت بان رجلا ولد فى قرية صغيرة عند منحنى النيل تربى وسط جروفها ونخيلها وحين اضحى رجلا حمل تلك القرية بين جوانحه وهاجر جنوبا الى مدن الصقيع والضباب وكان كلما غالبه الحنين يسبح بخياله حتى إذ ما ادرك ذاك المنحنى رصد الاماكن وساكنيها وكل مايدور وخط بقلمه ذلك الواقع قصصا ساحرة وحكى عن تلك النخلة على الجدول- عن بندر شاه عن الزين ومفارقات عرسه وعن دومة ودحامد ثم كل هؤلاء وغيرهم حين عاد لواقع مهجره الضبابى مزجهم جميعا فى قصة موسم شغلت مدن الشمس والضباب على حد سواء...وقد كان.
    وعند ذلك المنحنى النيلى فى الشمال قريتان متجاورتان بريفى الدبة فى احداهما ولد مبدعنا الكبيروهى (كرمكول) وفى القرية المجاورة موقعا ونسبا (جرا-بكسر الجيم) ولد ابى واجدادى هكذا عرفت منذ طفولتى واحتفظت لنفسى بفخر التفرد والانتماء وانتظرت يوما ليس بالبعيد يلوح فى الافق.
    كنت اعشق القراءة منذ سنوات دراستى الاولى وحين عرفت من والدى فى مناسبة ذكر فيها اسم اديبنا الكبير خصوصية الاواصر والمكان طلبت منه ان يشترى لي كل رواياته وافق ابى مع إدراكه باننى فى هذا العمر سوف يصعب على استيعاب المعانى العميقة التى تكمن بين سطور الحكايا - بعد سنوات ادركت بان والدي كان محقا- فقد كنت قبلها مأخوذة بالشخوص والاماكن وفضولى الطفولى لم يستطع إدراك ان وراء ذلك السرد الذى بدا كالسهل الممتنع تكمن كنوز من المعاني العميقة وابداع ساحر.
    كان مصطفى سعيد فى( الموسم) بالنسبة لى لغزا وظننت بذلك الادراك القاصر بانني إذا سافرت وتواجدت بتلك القرية سأتمكن من حله كان فضولى لايحتمل الانتظار وحاصرت أسرتي بالحاح لاينقطع بانني اريد ان ارى موطن اجدادى واستجابت السماء حين جاءتنا دعوة لحضور مناسبة زواج وسافرت وكانت امنيتى ان اسافر بنفس الوسيلة وعبر الصحراء وكنت كمن يضع الرواية خريطة للطريق كنت اقرأ واراقب ادهشتنى دقة الوصف وتلك التفاصيل الصغيرة والتى تصادف كل المسافرين من هنا ولكنها حتما لايلتقطها بتأمل الا مبدع يعرف متى واين وكيف يضعها فى نسيج غزل ببراعة وسحر..وقد كان
    حين وصلنا القرية قابلني اهلي كعادتهم مع كل القادمين بترحاب ودود وكرم اصيل كان قصر المسافة بين القريتين وتواجد اهلي فى هذه وتلك قد سهل تواجدي هنا وهناك وكنت اختار الجدول الذى يشق الجروف وتتهادى حوله اشجار النخيل واقول فى سري سيقودني هذا الطريق حتما الى تلك النخلة التى على الجدول ثم امضى الى حيث دومة ود حامد لاعرف كيف حل امر الصراع حولها بعد ذاك على اخذ قسط من الراحة فى منزل بندر شاه او مريود وقبل مغيب الشمس سابحث عن محجوب ليأخذنى الى تلك الغرفة الغامضة التى تركها مصطفى سعيد حتى اتمكن من حل اللغزلماذا عاد من مدن الضباب؟ لم اختار ان يعيش هنا؟ وحين اتعبني السؤال وارهقنى البحث تيقنت بان الاجابة لن اجدها الاعند الراوي نفسه....عندي احساس عميق بانني يوما ما سألقاه وستنتهي حيرتي وحين إنفلات تلك السانحة الحلم سأخبره انني حضرت وكان وجوده طاغيا لكننا لم نلتق............وقد كان.
    كنت فى الرباط حين سمعت بمقدمه الى اصيلة سافرت الى هناك وشوقى يسابق خطوتي وفي احدى مقاهي المدينة الساحرة وجدته جالسا وبرفقته الدكتور محمد إبراهيم الشوش بمرحه وخفة ظله المعهودة وكأنني على موعد معهما اقتحمت الحضور المهيب دون اذن فقد اخذت موعدا لنفسى منذ طفولتي رحبا بى سألني اديبنا الكبير بتلك اللهجة التى اعرفها جيدا من اهلى- من وين جيتي ياشافعة؟
    اجبته من حيث أتيت أنت من قرية مجاورة عند منحني النيل. إزداد وجهه الصبوح اشراقا وصافحني بود من جديد وقال باسما وقد شرد ببصره بعيدا وهو يرنو لصخب موج المحيط : عفارم عليك يا نيل بنياتك وصلوا فاس..ثم التفت اليّ كيف انفلتي من الحصار؟ اجبته منذ نعومة اظافري رباني ابي على انني ولده الكبير ولم اترك حظا للذكور على الاناث الا واغتنمته............. وقد كان.
    فى المغرب كانت المحطة التى عرفت فيها الجانب الانسانى فى هذا المبدع الكبير ففي لقائنا الاول هذا حين هممت بالانصراف بعد ساعتين من اروع الحديث- وكانت لهفته على السودان واهله لاحدود لها- سألنى نازلة وين؟ اجبت هنالك استضافة مجانية لكل الصحفيين بالفنادق لاتقلقوا على معى بطاقة صحفى و.......لم اكمل حديثي التفت لصديقه الشوش انت معاك الاولاد ومؤجر بيت بنيتنا ضيفتك معقول اعمامك قاعدين وتنزلي فى الفنادق؟ اجابه الدكتور الشوش ضاحكا مستحيل طبعا- واخذني مباشرة وعرفني بزوجته وبناته وكانوا معى فى غاية الود والكرم حتى غادرت اصيلة الى الرباط وقد كان محقا إسماعيل حسن حين قال (لو ماجيت من زي ديل وااسفاي وامأساتي واذلي)الحمد لله إنني قد كنت، ما انتهى الحديث ولكن وطأة الشجن المسربل بالدموع استدعت الصمت قليلا ... وفي حلقة اخرى نواصل .
    لاديبنا الكبير الطيب صالح مواقف انسانية عديدة وعظيمة معي ومع غيري ابناء وبنات وطنه لاتحصى ولاتعد كان كثير الاهتمام بالطلاب وظروفهم واحوالهم فى المغرب وفى دول اخرى. بعد عام من مهرجان اصيلة قدم الى الرباط فى زيارة سريعة بدعوة من احدى المؤسسات الثقافية لما عرفت ذهبت ايضا دون اتصال اواستئذان فأبوابه دائما مشرعة للجميع سألنى عن احوالي وعرج بالسؤال الى اهلي طلب ان احدثه بالتفصيل ان كنت زرت البلد قبل حضورى المغرب - البلد يعني بها القرية- حدثته عن زيارة الطفولة وضحك كثيرا عن مزاعمى بفك لغز مصطفى سعيد وأخبرته بان له الفضل بان اذهب اليها مرة ثانية وثالثة وحدثته عن انطباعاتى حول الزيارة الاخيرة كان يستمع باهتمام شديد وضحك مرة ثانية حين اخبرته كنت محقا فى البلد الان اكثر من طاحونة دقيق وطلمبة ري ومشروع زراعي ومع ذلك ظلت دومة ودحامد فى مكانها والنخلة بقيت صامدة على الجدول. سألني مرة اخرى وبعد هذه السنوات التى مرت حليتي طلاسم اللغز؟ اجبته إزداد اللغز غموضا فقد كنت اعتقد وقتها بانك ومصطفى سعيد شخصية واحدة وحين عرفتك عن قرب تأكدت بانك ليس هو سأعيد القراءة للمرة الثالثة او حتى الثلاثين وسأعرف.
    أكملت دراستى بالمغرب وكنت مهمومة ببحث التخرج ومناقشته اسبوع فقط ويحدد موعد المناقشة وانا فى قمة إنشغالى اتصل بى الاستاذ طلحة جبريل وطلب مني الحضور لان هنالك أمانة ارسلت لي من لندن دهشت وجالت بخاطري آلاف الاحتمالات وحسمت الامر بان ذهبت لارى وبمكتب الاستاذ طلحة جبريل وكان مديرا لمكتب الشرق الاوسط بالرباط سلموني ظرفا مغلقا وقالوا من الاستاذ الطيب صالح كنت اعرف بان صداقة عميقة تربط بين الرجلين ومكتب طلحة جبريل كالعادة مزدحماً لم اجد فرصة لاعرف اي تفاصيل عندما فتحت الظرف وانا اجلس مع السكرتيرة اندهشت وجدته مبلغا من المال حوّل من لندن سألتنى بلهجة مغربية علامك؟ يعنى مابك لم اجبها الجمتني الدهشة وذهبت لاقرب هاتف عمومي واتصلت بالاستاذ الطيب صالح بلندن سألته وانا فى غاية الارتباك والدهشة لماذا ياأستاذي إننى اتلقى منحة واعمل و............... قاطعني مبروك النجاح (القريشات) ديل ما عشانك للبحث الموضوع عجبنى قضايا السودان فى الصحافة العربية اطبعيه طباعة فاخرة وما( تكلفتيه) الشكل الخارجى مهم والمغرب نصف اهله تشكيليون وخلي نسخة لي (عمك) الطيب وبمجرد إستلامك الشهادة ارجعي البلد ولو كنت بعشرة رجال وجع الغربة قاسي اسألي عمك ودعتك الله. لم يترك لى مجالا حتى لقول شكرا وبكيت. رحمه الله فقد ابكانى وهو حيا بانسانيته.
    لم نلتق مرة اخرى- فقد نفذت وصيته وعدت فور إستلامى الشهادة-
    فى العام 2005 فى قاهرة المعز ذهبت وزوجى جمال الخبير للعلاج من وعكة صحية المت بى واقول مرة اخرى ان الاقدار احيانا ترتب لنا امورنا بصورة افضل مما نفعل.........وقد كان
    وانا فى قمة معاناتى مع المرض جاءني جمال منشرحا قائلا أنا والدكتور ياسر اعددنا لك مفاجأة(الدكتور ياسر محمد علي مستشار بالسفارة السودانية بالقاهرة هو وزوجته تربطنا بهما صداقة عمل والمفاجأة كانت وجود الطيب صالح بالقاهرة ودعوته للعشاء غدا هنا بمنزل الدكتور ياسر وكأنما كان المرض غطاءً اتدثر به ازحته جانبا وقفزت يايوم غدا رحماك اقبل صباحا سألت الدكتور ياسر للمرة العشرين هل انت متأكد بانه سيأتى اليوم؟ اجابنى بلى واخبرته باننى ساعرفه على صديقى جمال وان له منهجية متفردة فى التفسير القرآنى ووافق الطيب بحماس وانا على علم باهتماماته الصوفية............وقد كان
    حضر بكل وقاره وهدوئه كالنسمة ومعه الشاعر السر قدور ووصل قبله عدد من الدبلوماسيين وكانت المفأجأة ان يجدني مع هذا الجمع وتساءل مندهشا حين رآنى بنيتنا تاني؟ وتأثر جدا حين عرف بانني اتيت للعلاج. وفى هذه الليلة فاض شلال من التصوف حين حدثه جمال عن رؤى الحياة من منطلق قرآنى بمنهج جديد كان يستمع بتواضع جم ثم انداح معلقا ومحلقا فى سموات التصوف ولم نشعر بخيوط الفجر تتسلل برفق خشية إنقطاع الحديث وحين صافحني مودعا قال لي هامسا: عفارم عليك..........ودعتك الله.
    فى زيارته الاخيرة للسودان فى نفس العام فاجأنا باتصال هاتفى ونحن نرتب لدعوته ادهشنا حين قال إنني اذكر النقطة التى توقف فيها حوار القاهرة اعتذر بشدة فبرنامجه كان قصيرا ومزدحما وكنا حريصين على الاتصال باستمرار وفى اتصالنا الاخير ودعنا قائلا: المرة القادمة إذا اذن المولى ستكون لي معكم جلسات فحديثي مع جمال توقف عند منعطف مهم وانا صوفيى فضولي......... ودعناكم الله.
    كنت سعيدة بذاك الوعد ولم اكن اتصور ان الاقدار يمكن ان ترتب الامور ايضا بقسوة تفوق الاحتمال ففى صباح جمعة حزين عاد الطائر المهاجر ولم يكن الحضور المرتجى اكفهر النيل وعبست السماء ونكست كل اشجار النخيل........ رحل الطيب الصالح.
    فمن يعزيني فى فقد مبدعنا الكبير.... ولمن التوجه بالعزاء...........وسرادق الاحزان قد نصبت عليه من المحيط الى الخليج .
    ماذا .........اقول؟
    خطبٌ جلل
    من هوله جف المداد
    رفعت صحائف الابداع عن هذا الوجود
    ونجمها الساطع أفل


    -----------------------------------------------

    التاريخ: الأربعاء 25 فبراير 2009م، 1 ربيع الأول 1430هـ


    جيلي..بعيداً عن مصطفى سعيد..

    مجاهد بشير

    الطبعة الأخيرة من مؤلفات الطيب صالح، كان على غلافها الخلفي صورة مكبرة لوجهه، لكن تلك النسخة القديمة من موسم الهجرة إلى الشمال، التي كان أبي يخبئها وسط الكتب الأخرى، كان غلافها من ورق خفيف نوعاً. (ما) متغضن بعض الشيء، وعندما نجحت في التسلل ذات يوم إلى الغرفة التي يحتفظ فيها والدي بكتبه، ونقبت في الأرفف المعدنية العالية، ووجدت الرواية، وأسرعت إلى غرفتي لأقرأها قبل أن يعود والدي من عمله، أثناء إحدى الإجازات الصيفية المدرسية، عرفت السبب الذي من أجله تخفى هذه الرواية عن أعين الصغار، وظللت منذ ذلك الوقت، لسنوات، أفتح الكتاب وأبحث عن صفحات محددة لأعيد قراءتها، خاصة تلك السطور التي تتحدث فيها بت الريس عن أزواجها بلسان سليط، وصفحات دفن الوجوه في الإبط.
    لم يكن مفاجئاً بالنسبة لي أن أعرف، أن عدداً من أصدقائي الأطفال، من أبناء الأفندية، حدث لهم ذلك مع آبائهم، سرقوا الرواية وقاموا بقراءتها سراً، وأصبحنا نتكاشف فيما بيننا بتفاصيل ذلك العالم الذي بدا لنا مدهشاً، وجذبت عبارات بت الريس اهتمامنا بشكل خاص، من جانبي، بعد ذلك، بحثت عن بقية مؤلفاته وقرأتها في تلك السن الباكرة، ولم أفهم حينها معني أن يوجد شخص اسمه الزين، شبيه بالقرد، ويمتلك من الاسنان القليل فحسب، وأن يكون شخصاً وضيعاً يعين نساء القرية ما استعنه، في الناحية الأخرى أعتقد أننا كنا مسرورين لوجود شخص اسمه مصطفى سعيد، وجدة تدعى بت الريس، آخر سرور، لكن الكيفية التي عرفنا بها جميعنا أن هناك كتاباً يُسمى موسم الهجرة إلى الشمال يضم أشياء مثيرة جداً، وأن ذلك الكتاب يرقد معنا في بيوتنا ذاتها، تبقي تلك الكيفية غامضة، وسحرية بعض الشيء.
    تفرقت سبل أولئك الاطفال بالطبع، وابتعد جميعهم عن الأدب والكتب، ولسوء الحظ أو لحسنه لا أدري، لم ابتعد بل بقيت، إلا أن بت الريس ومصطفى سعيد لم يبقيا معي، ويمكنني الآن القول إن بت الريس مجرد امرأة بقليل من الحياء، مثل كثيرات قابلتهن فيما بعد، ولم يعد ذلك مثيراً جداً على أية حال، ومعها اضمحل مصطفى، فتلك الشخصية العائدة لأفندي سوداني من أواسط القرن، يسافر إلى أوروبا، ويعود بعد أن يفعل الكثير أو القليل، لم تعد أفعالها - أي الشخصية - تلك تجذبني كما السابق، ولا دلالات تلك الأفعال التي رحت أخمنها شيئاً فشيئاً، ولعل أبرز ما يمكن أن يستدعى في هذا المجال، هو قول الأديب السوداني النمساوي طارق الطيب أن جيله الوسيط تختلف ظروف حياته وقدومه إلى أوروبا عن جيل الخمسينيات، وبالتالي فإن تفاصيل حياة الجيلين جد مختلفة، وخلاصة ما يمكن قوله هنا، أن مصطفى سعيد هو شخصية متقنة الصنع، في رواية بديعة السبك، لكن بعض الكتاب اللاحقين، لا يحبونها.
    الطيب صالح بالنسبة إلينا كان كبيراً جداً وبعيداً جداً، ليس بسبب شهرته فحسب، بل بسبب عمره أيضاً، لذلك لم نكن نعرفه إلا عبر مؤلفاته، ولم نحب موسم الهجرة إلا في طفولتنا، لكننا كبرنا ولم نجد فيها شيئاً يخصنا، شيئاً لنا، وإذا كان مصطفى سعيد البطل الأثير بالنسبة لأجيال أواسط القرن الماضي، فإن الزين هو بطلنا الخاص، وعرس الزين ليس في واقع الأمر سوى عرس هذا الجيل، فهذه الرواية في حدها الأقصى، ليست سوى معجزة أن تتحقق رغبة الإنسان وإرادته، في واقع محدود للغاية، وبأسلوب يسير للغاية ومذهل في حد ذاته، ورغم أن جيلنا لا يمكن أن تتحقق إرادته بالأسلوب السحري الذي تحققت به رغبة الزين، إلا أن ما يتقاسمه الجيل مع الزين، أكثر بما لا يقاس مما يتقاسمه مع مصطفى سعيد، وربما كان ذلك سر محبة كثيرين من أدباء الجيل والمستنيرين من أبنائه للزين، ونقلت إلىَّ إحدى كاتبات القصص الشابات أنهن أثناء الدراسة، كن يكرهن مصطفى سعيد ويتعاطفن مع الزين.
    وإذا كنا تحدثنا عن علاقة شخصية تقريباً بأدب الطيب صالح، فلا بأس في اتجاه آخر من الإشارة إلى أن رواية عرس الزين، لكونها حققت اللا معقول ضمن شروط معقولة، وبأسلوب سحري، تمثل مزيجاً ذكياً من المعقول واللا معقول، والأسطورة والواقع، والحقيقة والخيال، ونوعاً من واقعية ساحرة ولا معقولة ومعقولة في ذات الوقت، وهو أمر قد نعود إلى تفاصيله، وأساليبه، وتأويله، مستقبلاً.


    الراى العام
                  

02-26-2009, 05:16 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    أدباء ونقاء إماراتيون وعرب يقرأون في تجربته الإبداعية سمات الرواية العربية الحديثة
    الطيّب صالح·· موسم العودة إلى الجنوب



    الطيب صالح··إسم تحل به البركة -





    الخميس 26 فبراير 2009 الساعة 11:38PM بتوقت الإمارات

    سلمان كاصد، حلمي النمنم، عمار أبوعايد، عماد جانبيه، محمد خضر
    يقول الاديب حارب الظاهري رئيس اتحاد كتاب وأدباء الإمارات: بذللك الفقد العظيم، ينعى اتحاد كتاب وأدباء الإمارات الأديب والروائي العربي الطيب صالح الذي انتقل إلى رحمة الله، إنها مناسبة أليمة لا شك تذكرنا بالعطاء الأدبي الزاخر والذي قدمه الطيب صالح -رحمه الله- إن ما قدمه من إبداعات روائية يعد ثورة في عالم الرواية العربية والعالمية من خلال روايته ''موسم الهجرة إلى الشمال'' التي ستظل عالقة في أذهان الأجيال العربية المثقفة! بل ستؤرخ العلاقة ما بين الشرق والغرب وستضفي على الواقع الكثير من التعبير المتجدد والمهم مما يحسب للراحل·

    إن الراحل قدم للمكتبة العربية ما يجعلنا نفخر به، فمن خلال كتابته الروائية اعاد للإبداع العربي بريقه المفقود، مما دعى بالعالم أن يلتفت إلى هذا الإبداع الذي طالما شغل العالم وشغل دور الترجمة التي باتت تترجم للكتاب العرب وباتت الرواية العربية تحضر في الساحة الثقافية العالمية·

    إن الدلالات تشير إلى أن المبدع العربي حين يجد الفضاء الحر، يصنع من خلال إبداعه الكثير من العطاء الذي على صورة ما قدمه الطيب صالح؛ لذا نتمنى أن يظهر كاتب بحجم الطيب كونه مثالاً للأجيال العربية المبدعة، حيث ظلت تجربته دافعاً للعطاء، فالإبداع الحق لا يتوارى، بل يصبح كالنسيج المتجدد في خضم الحياة·

    كرامة: تلك الهجرة

    يقول المخرج والقاص الإماراتي صالح كرامة: عادة ما يأتي الموت ليغيب الأشياء الجميلة ويسلب منا ما نملك ويستبقي لنا الحب والشوق·

    وإن كانت الهجرة التي ارتضاها الروائي الطيب صالح وغادرها الآن بعد مدة من الزمن، يجعلنا نسأل ماذا تعني تلك الهجرة؟ هل نقول إنها محاولة ترك المكان بمن فيه والوقوف على أماكن غيرها، وكأننا نكتشفها أول مرة، إنها مراوحة دائمة بين الموت والحياة·

    إن التجربة الحياتية التي رصدها الطيب صالح جاءت من خلال معايشته لقانون الاغتراب، والاستلاب اليومي، فالزمن القار هو القاهر اليومي الذي يلاحق شخوصه· والتراوح المكاني هو الذي نجده في موسم الهجرة لنحدده من خلالها شبح الطفولة والشباب اليافع، منذ زمن نحاول أن نحدد ماهية الروائي بين الحكائية والراصد، وفي اعتقادي أن الطيب صالح رصد الكثير من خلال تجربته اللندنية واستفاق بها على الجنوب البعيد·

    وتأتي قدرته الروائية من خلال ملامسته للوجع اليومي للإنسان، فجاءت كل محطاته مصبوغة بلون الأبنوس ومياه النيل·

    مبارك: نخلة عالية

    ويقول الأديب الإماراتي إبراهيم مبارك: بالتأكيد، إن رحيل الروائي الكبير الطيب صالح أشبه بسقوط نخلة عالية، كانت حاملة لأطيب الثمار، وهي أثمرت طويلاً وكانت وافرة العطاء، والآن يعود صاحب ''موسم الهجرة إلى الشمال'' جنوباً إلى النيل العظيم والسودان العزيز، حيث مسقط رأسه بعد رحلة طويلة جداً هناك في الشمال·

    نعم انتهى ''موسم الرحلة إلى الشمال''، ولكنها كانت رحلة الإبداع والمعرفة والثقافة والرواية الطويلة، التي حاكها الراحل في أجل صورة لإظهار الأدب العربي وانتشاره في كل الأصقاع، وإذا كان الأديب الكبير الطيب صالح عرف راوياً وأديباً فإن له أيضاً محطات مختلفة في عالم الكتابة والفكر والثقافة، حيث يؤكد الجميع ومن عرفه عن قرب أنه مكتبة متنقلة وكاتب فذ في مجالات أخرى وإداري ومسرحي ومحب للأدب والشعر العربي القديم، وحافظ لأهم القصائد والتراث، حيث يقول الأديب جمال الغيطاني في مقابلة إذاعية له بعد وفاته إنه عرفه عن قرب وأدهشه بقدراته الكبيرة في الحفظ خاصة قصائد شاعره العظيم وشاعر العرب المتنبي·

    إن هذا المبدع الذي يرحل عن هذه الدنيا الفانية، إنما رحل بعد أن سطر اسمه بأحرف من نور في مجال الرواية والثقافة والأدب·

    والآن يفتح رحيله لرحلة جديدة للمثقفين للعودة إلى قراءة الطيب صالح من جديد والتنقيب عن كل ما أبدعه تماماً مثل ما يحصل دائماً بأن يقرأ المبدع الكبير مرتين الأولى في حياته وزمنه وأخرى للتأمل والتنقيب عن زوايا أخرى في إبداعه بعد الرحيل؛ لأن القراءة التالية هي البحث فيما وراء الكلمات والسطور وبطريقة مغايرة للقراءة الأولى·

    حسني: خلطة إنسانية

    وزير الثقافة المصري الفنان فاروق حسني يقول: خسرت بوفاته صديقاً كبيراً، محباً للعروبة ومؤمناً بها حتى النخاع، ولم يتخل عن روحه وطابعه السوداني، ويمثل الطيب صالح خلطة إنسانية فريدة، فهو سوداني عروبي عاش في بلاد أوروبا معظم حياته، ومع ذلك حين يحكي تسمعه يتكلم لغة عربية صافية وصحيحة تماماً، ويتمتع بعمق ثقافي كبير، وتنوعت معارفة ومداركه، لذا نال التقدير والتكريم من المثقفين العرب، في القاهرة وفي تونس ومعظم دول الخليج فضلاً عن تكريم الخرطوم له، باعتباره الروائي الأبرز في السودان، وهو من أبرز المبدعين عربياً ونال اعتراف وتقدير الدوائر الثقافية في الغرب، خاصة بعد أن ترجمت روايته ''موسم الهجرة إلى الشمال'' إلى الانجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها·

    ويضيف وزير الثقافة المصري: كنت أحرص على أن ألقاه كلما جاء إلى القاهرة ونجلس معاً مدة طويلة بحضور عدد من كبار النقاد والمبدعين وكانت جلساته ممتعة·

    عصفور: بار بأهله

    وتحدث المفكر والناقد د· جابر عصفور عن الطيب صالح محتفيا بالجانب الانساني فيه ومتناولا علاقتهما الشخصية التي استمرت سنوات· ويقول: الطيب صديق عزيز جدا، لم يكن يأتي الى مصر إلا والتقيه ولم أكن أذهب إلى لندن إلا وأسعى إليه، كان ودوداً ونبيلاً إلى أقصى حد، في القاهرة كانت له مجموعة من الأصدقاء، وفي مقدمتهم الناقد الراحل رجاء النقاش، وكان يعتبر رجاء توأمه الروحي، وهناك محمود سالم كاتب المغامرات، وكان سالم قد تزامل في الخمسينيات مع الطيب في إذاعة لندن العربية ''b.b.c'' وظلت صلتهما قائمة ولم تنقطع أبداً·

    يستطرد د· عصفور قائلا: الطيب رجل بار بأهله وخيّر جدا وكان يحرص على زيارة عدد من الاخوة السودانيين المقيمين بالقاهرة وكان يمد لهم يد العون والمساعدة ولم يبخل عليهم ولم يتحدث عن ذلك ابدا، كان يفعل ذلك في سرية تامة، وبمنطق انه واجب عليه لابد ان يقوم به ويؤديه·

    ويضيف د· عصفور: بشكل شخصي اشعر بالامتنان له، ففي عام 2005 كنت أمين عام المجلس الأعلى المصري للثقافة وكنا قد عقدنا الدورة الثالثة لمؤتمر الرواية العربية وكان الطيب مرشحا للجائزة وكان ينافسه ابراهيم الكوني، وكان ميلي النقدي مع الكوني، لكن اللجنة قررت فوز الطيب، فقلت لهم ''على بركة الله'' واثار بعض الزملاء مشكلة اجرائية بأن لائحة الجائزة تشترط ان يكون الفائز قد اصدر عملا خلال السنوات العشر الاخيرة، ورأى البعض ان الطيب متوقف لكن كانت لدي روايته ''منسي'' التي صدرت قبل عامين، واعلن فوزه فألقى كلمة بالاوبرا المصرية، هزت وجدان الجميع وتحدث عن قيمة الجائزة ومعناها، وضرورة ان يقبل المبدع الجائزة وبذلك رد الاعتبار للجائزة بعد الضجة التي اثارها صنع الله ابراهيم عام 2003 حين رفض الجائزة وسعد المثقفون المصريون والعرب بفوز الطيب·

    ويستكمل عصفور: كان حسن المعشر مهذبا ودودا إلى اقصى حد، وبه درجة عالية من التواضع، ومحبا وشغوفا بالثقافة العربية والمثقفين العرب من المحيط الى الخليج وتسمع منه حول المتنبي او المعري وطه حسين ويحيي حقي أفضل مما تسمع عنهم من كبار النقاد المتخصصين·

    بكر: حق الريادة

    الروائية سلوى بكر تتوقف عند رواية ''موسم الهجرة الى الشمال'' حيث ارتاد الطيب صالح فيها منطقة لم يتم ارتيادها من قبل في الكتابة الادبية العربية، فقد ميز بوضوح بين المستعمِر ـ بكسر الميم والمستعمَر ـ بفتح الميم، وهناك بعض الكتابات العربية ميزت ذلك ولكن في الدراسات الاقتصادية والتاريخية العربية، أما في المجال الادبي والثقافي، فلم يسبق ان انتبه الى ذلك أحد·· هو تناولها بعمق وباحساس انساني رفيع وسبق في ذلك ادوار سعيد، صحيح ان كتاب ادوار ''الاستشراق'' تناول القضية بتوسع شديد، لكن الريادة تبقى للطيب صالح وروايته، حيث اشار إلى تلك الاشكالية الثقافية منذ وقت مبكر·

    العراقي: موقف نقدي

    د· عاطف العراقي، استاذ الفلسفة ومهتم بمسألة العلاقة بين الشرق والغرب، يقول: وفاته خسارة كبرى لحياتنا الادبية والفكرية ورغم تواضع الرجل على المستوى الشخصي فإنه من اكبر ادباء العرب قامة وانجازا، وتعد روايته ''موسم الهجرة إلى الشمال'' ملحمة ادبية وثقافية كبرى، رغم اختلافي معه في بعض القضايا مثل هجومه الحاد على الغرب، فالعلاقة بين الشرق والغرب لا تقوم على الصراع ولكننا نتفهم انه كتب روايته على خلفية الاستعمار البريطاني للسودان، والحقبة الاستعمارية في عالمنا العربي·

    ويضيف د· العراقي: لقد اقمت في السودان فترة واكتشفت انه صور في العديد من اعماله القيم الاجتماعية والثقافية وبعض العادات السودانية، ووقف من بعضها موقفا نقديا واخذ عليه بعض الأخوة السودانيين ذلك، لكنه أديب ومفكر عربي كبير، حمل القضايا والهموم العربية في اعماله ووجدانه·

    ويطالب د· العراقي بضرورة اصدار طبعة كاملة من اعمال الطيب صالح، لتكون متاحة للمثقفين وللشبان عموما، فهو روائي كبير·

    الغيطاني: تجربة فريدة

    الروائي جمال الغيطاني يذهب إلى أن الطيب صالح روائي عربي وإنساني كبير، يقف في مصاف الحاصلين على جائزة نوبل، وروايته ''موسم الهجرة إلى الشمال'' هي درة إبداعية عربية، فضلاً عن أنها تمثل ذروة إنتاجه وعالمه الروائي، حيث قدمت تجربة فريدة وفوق ذلك فهو على المستوى الإنساني كان غاية في الرقة والدماثة· وبعض الكتاب الكبار إبداعياً حين تقترب منهم يمكن أن تكتشف فيهم نقاط ضعف معينة وقد يكون الأمر سيئاً أحياناً، لكنك مع الطيب صالح حين تقترب منه تزداد حباً وإعجاباً بشخصه وثقافته الواسعة·

    عبدالمجيد: جرأة التناول

    الروائي ابراهيم عبدالمجيد يؤكد انه هو وابناء جيله تعلموا واستفادوا من رواية ''موسم الهجرة للشمال''· ويقول: شعرنا بفرح كبير ونحن نكتشفها في سنوات الستينات من القرن الماضي، وكانت تمثل لنا الجرأة في التناول وقوة الاسلوب، فضلا عن اعادة طرح قضية الشرق والغرب من جديد، وبفهم اخر غير الذي كان سائدا من قبل في الاعمال الابداعية·

    ويقول: على الرغم من أن الطيب له عدة أعمال روائية أخرى، مهمة ومتميزة لكن ''موسم الهجرة'' أخذتنا جميعاً أنا وأبناء جيلي، فقد هزت عقولنا وتعلما منها واظن أنها لعبت دوراً في تكويننا·

    ويضيف إبراهيم: الطيب صالح علامة كبرى في الرواية العربية وعلى الرغم من أنه كان شبه متوقف في السنوات الأخيرة عن الكتابة الروائية لسبب لم نعرفه ولم نتوصل إليه لكنه ظل كاتباً كبيراً وحفر اسمه بين المبدعين الكبار عربياً وعالمياً ولذا فإن حزننا عليه كبير ويبدو أنها سنة الأحزان، كل أسبوع نفقد كاتباً كبيراً تقريباً!

    شاهين: عبقري الرواية

    ويقول الناقد العراقي ذياب شاهين عن عبقري الرواية العربية: لا شك أن وفاة الطيب صالح خسارة كبيرة لنا، فهو صاحب أشهر رواية عربية في القرن الماضي ''موسم الهجرة للشمال'' وقد تكون الأهم، وهي الرواية التي عرف بها واشتهر من خلالها، كما أن رواياته الأخرى لا تقل إدهاشاً وحرفنة من الأولى مثل رواية ''عرس الزين'' والذي كنا قد شاهدناه عندما عرض في تلفزيون بغداد في نهاية السبعينات على ما أتذكر، والذي أخرجه المخرج الكويتي خالد الصديق، فضلاً عن ''مريود'' و''ضو البيت'' و''دومة ود حامد'' وكذلك ''منسي''·

    ليس مستغرباً أن يطلق عليه النقاد لقب ''عبقري الرواية العربية''، فتنقله بين المملكة المتحدة وقطر وفرنسا جعله مطلعاً على كثير من العوالم ومخالطة الكثير من البشر، لذا فما هو ذاتي أصبح لديه مرتبطاً بما هو محلي وتكاد تكون روايته الأولى مرآة تعكس الآخر في المخيال العربي، فضلاً عما يرسم ذلك المخيال أي الغربي لنا من صور أو حقائق بوصفنا آخر معاكس أو مناظر له· وإذ يدخل ما هو سياسي وما هو خاص بالآخر الغربي بوصفه مستعمراً في نسيج النص الروائي لديه، فهو يكشف بصورة قد تكون واقعية أو كشفاً عن واقع العلاقة غير المتوازنة بين المجتمع الشرقي العربي والغرب بصورة عامة·

    ولا شك أن الطيب صالح يقف في منزلة واحدة مع جبران خليل جبران وطه حسين ونجيب محفوظ والتكرلي وغيرهم من كبار روائيينا وقصاصينا، ورواياته تؤسطر الواقع بوصفه حياة وموتاً، ولكن هذا الموت ليس مجانياً، ولكنه ضمن منظومة من القيم والتقاليد الشرقية والتي تشد إليها الكاتب شداً، فالموت العنيف ''القتل أو الانتحار'' أو الموت الطبيعي يستثمرها الكاتب وتثير في نصوصه حوارات أو أسئلة يلقيها المتلقي بعد حين بعد أن أطلقها أبطاله، وهي أسئلة فكرية حيناً وفلسفية وأنطولوجية في أحيان أخرى·

    إبراهيم: الاسم الغريب

    أما الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم، فيقول: حين بزغ نجم الطيب صالح في الستينات من القرن الماضي، لم يكن أحد يتصور أن هذا الاسم الغريب من هذا البلد الغريب، فلم يكن قد سمع أحد ما عن رواية ما ناهيك عن روائيّ ما في السودان، على رغم ما فيه من ثراء معرفي وأسطوري وزنوجة طاغية على كل مناحي الحياة، مما استفاد بها الغرب في الفن التشكيلي والموسيقى والنحت وخلافه·

    وكان للناقد المصري الراحل رجاء النقاش الفضل الكبير في تعريف الناس بموهبته الطاغية كما فعل مع محمود درويش، فقد قام بنشر روايته الفذة الأولى ''موسم الهجرة إلى الشمال'' في سلسلة ''روايات الهلال'' وكان لها سمعة شعبية عربيتين فوق العادة، فمن ينشر فيها يأخذ صكّ تحققه ومجده الأدبي· فكان أن التفت لها الغرب، قبل العرب، وتُرجمت إلى عدد من اللغات·

    لقد أحسّ النقاش بفطنته النقدية أن هناك موهبة حارقة، تعبر عن صراع الحضارات بين الشرق والغرب، بصورة تختلف تماماً عما عبر عنه قبلها توفيق الحكيم وطه حسين وسهيل إدريس وغيرهم، فقد كان متأثراً بفرويد، لكنه أدخله في سياق إبداعي عربي خارق· ولا يغيب شكسبير بظلاله الأدبية من قتل ومصادفات وشك وخيانات، لكن في المقابل نجد ظلال المتمردين العرب مثل أبي نواس وغيره تحل في كلماته، حيث يذهب في الرواية إلى الغرب وفي ذهنه ''سأغزوكم''، مع أنه بعد غزوه النساء لا يجد مفراً من القتل ثم العودة حزيناً مكسوراً إلى ضفاف النيل· وقد اعتبرها الدكتور إدوارد سعيد إحدى المرتكزات في كتابه الاستشراق التي بنى عليها عوالمه النقدية· وقد اختيرت هذه الرواية ضمن أفضل مئة رواية على مستوى العالم عام ·2002 كما نال عن مجمل أعماله جائزة الإبداع الروائي بالقاهرة ·2007

    والغريب في الطيب صالح أنه لم يبتذل موهبته وسكت حين وجب السكوت ولم يعد لديه ما يقوله، مع أنه كتب في الرحلات والسيرة والترجمة والأعمدة، كذلك كتب مرة، ما معناه: ''لا يجب على الأديب أن يستسلم لشياطين الأدب فستملك روحه وتقض مضاجعه، فلا يستطيع إلى العيش سبيلاً· عليك أن تكتب ثم تهرب سريعاً إلى الحياة· وقد تعلمت هذا وظللت أعيش، فلم أختنق''·

    لكن الطيب صالح قد حفر لنفسه اسماً لا يغيب، فبعد ''موسم الهجرة'' التي كرهها بعد أن ظل يُعرّف بها سنيناً، جاءت رواية ''مريود'' و''عرس الزين'' و''ضو البيت''، ومجموعة ''دومة ود حامد''، وسيرة ''منسي''· وهي عدد قليل، لكنها عميقة الأثر، بالغة الدلالة في حياة أديب سيظل كبيراً في سماء الرواية العربية·

    جمعة: قامة كبيرة

    الدكتور حسين جمعة رئيس اتحاد الكتاب العرب بدمشق والناقد الأكاديمي المعروف يقول: نحن خسرنا برحيل الطيب صالح قامة أدبية وروائية كبيرة، لكن الموت حق، ونرجو للروائيين من بعده أن يسدوا الثغرة، ويكملوا الطريق·

    ويرى د· جمعة أن التجربة المميزة للطيب صالح قد وضعته في مقدمة الروائيين العرب، وربما في مقدمة الروائيين العالميين، ولاسيما حين اختيرت روايته ''موسم الهجرة إلى الشمال'' واحدة من أفضل مئة رواية في العالم· ويضيف جمعة: هذه الرواية قرأتها ووقفت عندها مطولاً وتبين لي كيف يعالج الفوارق الاجتماعية والثقافية بين دول الشمال والجنوب، وقد أراد أن يثبت أن الذهنية التي تشكل أبناء دول الجنوب، لا تختلف عن تلك التي تشكل أبناء دول الشمال، وأن ابن دول الجنوب قادر على أن يحلل القضايا المعنوية المجردة بمثل ما يحلل القضايا الحسية المادية· وبمعنى آخر هو أراد أن يقول إن ابن الجنوب لم يعد واقعاً تحت سيطرة الجنس والمادة، مثلما كان يحاول ابن الشمال أن يصوره من خلال ''ألف ليلة وليلة''· أيضاً الطيب صالح ليس متميزاً بهذه النقطة فقط، بل إنه في رواياته الأخرى حاول أن يرجع إلى الطبيعة الأم، ويرسم هذه الطبيعة بكل تفاصيلها، بحيث وضعته أيضاً في مقابل نجيب محفوظ في مصر، فإذا ذكر نجيب محفوظ في مصر، ذكر الطيب صالح في السودان·

    إخلاصي: الوصية

    ويقول الروائي والمسرحي السوري المعروف وليد إخلاصي: لقد ترك لنا الطيب صالح ما يشبه الوصية بأن نكون روائيين أو لا نكون، وهو الذي كان بامتياز· ويضيف إخلاصي: لقد أكرمنا الطيب صالح، وكرم الأدب العربي والأدب العالمي بأعماله التي كانت قد تفجرت بروايته ''موسم الهجرة إلى الشمال''، ويذكر إخلاصي: أن ''موسم الهجرة إلى الشمال'' كانت قد نشرت في مجلة ''حوار'' في العام ست وستين من القرن الماضي، وقد فوجئت برئيس تحريرها توفيق صائغ يدعوني لأكتب عنها· وأعترف بأني خفت عدم الارتقاء إلى مستوى الرواية، إلا أنني أقدمت لإحساسي بأن الرواية ستكون الآن ومستقبلاً درة الأعمال الأدبية، وسيكون لي شرف الكتابة عنها· وتمر الأيام في متابعة الطيب صالح، فأسعى إليه في لندن حيث يعمل· كان اللقاء معه في نادي الإذاعة، وكان أبرز مذيعيها، لأكتشف أن ذلك الأسمر السوداني لا تختلف إنسانيته عن بريق عبقريته· وكان لقاء لنا يوم فوزه بجائزة الرواية العربية في القاهرة منذ سنوات قليلة· قبلته امتناناً بما منحه للرواية العربية والعالمية·

    حميد: خصوصية جمالية

    ويرى الروائي الدكتور حسن حميد: إن النظر في تجربة الراحل الطيب صالح يؤكد على أمور اجتماعية وأدبية وفنية عدة لعل في طالعها: أولاً أن تجربته الروائية لم تتشكل وتتطور داخل البنية الأدبية العربية، وإنما تشكلت وتطورت من خارجها، ذلك لأن الطيب صالح انصرف مبكراً للعمل في بريطانيا، فراح ينشر أعماله الأدبية في بيروت بهدوء شديد، فلفت الانتباه إلى أعماله التي قدمت الحياة السودانية (حياة الناس) في أول مظهريات التأريخ الاجتماعي أدبياً· ثانياً: المقدرة الأدبية الفذة على استنطاق الطبيعة من جهة، والذات الإنسانية من جهة ثانية، كي تجهر الطبيعة بجمالها وبكوريتها، وكي تجهر الذات الإنسانية بعذاباتها وما تعرضت له من مآس·

    ثالثاً: رصد التقابلية ما بين الحياة والهواجس والتطلعات في جهتين من جهات العالم، الأولى: جهة الجنوب ممثلة بالسودان بلد الطيب صالح، والثانية: جهة الشمال ممثلة بالمجتمع الإنجليزي، فهذه التقابلية شخصت الندوب التي تركتها حروب الشمال في بلاد الجنوب في جسدين اثنين: جسد الإنسان وجسد الأرض، وفي ذهنيتين اثنتين: الأولى جنوبية أريد لها أن توصف بالتخلف الأبدي، والثانية شمالية أريد لها أن توصف بالتفوق الأبدي المطلق· رابعاً: حظيت تجربة الطيب صالح بخصوصية جمالية ذات بكورية غير مسبوقة، ذلك لأنها لم تماش تقاليد الكتابة الروائية الغربية المعروفة، وإنما هي تجربة أدبية مكتوبة بالحساسية الشعبية، التي تنتسب إلى المدونة الحكائية العربية الأولى ''ألف ليلة وليلة''، لهذا فإن تجربة الطيب صالح الروائية هي التجربة التي تملأ الفراغ الزمني والفني ما بين زمن كتابة ''ألف ليلة وليلة'' قبل نحو ألف عام، وزمن كتابته لروايته ''موسم الهجرة إلى الشمال''·

    سليمان: طاقة جديدة

    أما الروائي والناقد نبيل سليمان، فقد رثى الطيب صالح بأسلوبه الخاص، فقال: لقد نفث الطيب صالح في المكان والزمن والبشر طاقة جديدة، ثم سخر من الموت، وجعله نكتة حين رحل؟!· ويضيف سليمان: في نهاية رواية ''عرس الزين'' تستطيعون منذ اليوم أن تقرؤوا قراءة جديدة، وأن تكتبوا قراءتكم، كما فعلت، فإذا بالسطور تغدو: وصلوا الدار الكبيرة، فاستقبلتنا الضجة، وغشيت عيوننا أول وهلة من النور الساطع المنبعث من كبد السماء وكبد البحر، ومن عشرات المصابيح، لا فرق بين ليل أو نهار، وكانت الروايات تغني، والقراءات توقع، والدلاليك تزمجر، وفي الوسط وقفت فتاة اسمها ''موسم الهجرة إلى الشمال'' ترقص، وحولها دائرة عظيمة فيها جمهرة من الكتّاب والكاتبات، وما لا يحصيه عدّ من القراء والقارئات، يصفقون بقلوبهم وعيونهم، ويضربون بأرجلهم، ويحمحمون بحلوقهم·

    انفلت الطيب صالح، وقفز قفزة عالية في الهواء، فاستقر في وسط الدائرة· ومن رواية ''بندر شاه'' التمع ''ضو البيت'' على وجه الطيب، فكان لا يزال مبللاً بالدموع، وصاح بأعلى صوته، ويده مشهورة بالراقصة الفتانة ''موسم الهجرة إلى الشمال'': أبشروا بالخير·· أبشروا بالخير·

    وفارت الدنيا، فكأنها تغلي· لقد نفث الطيب صالح في المكان والزمن والبشر طاقة جديدة، وكانت الدائرة تتسع وتضيق، والأصوات تغطس وتطفو، والطبول ترعد وتزمجر، والطيب صالح واقف في مكانه، بقامته الطويلة، وجسمه الممتلئ، فكأنه صاري المركب·

    ويرى الروائي السوري خليل صويلح أن النص الاستثنائي للطيب صالح سيبقى في واجهة المكتبة الروائية العربية بوصفه وشماً لا يمحى من الذاكرة·

    داود: من أعلام الرواية

    ويقول: الروائي السوري أحمد يوسف داود: برحيل الطيب صالح يرحل أحد كبار الروائيين العرب الذين اشتهروا منذ الستينات، وبرحيله نودع علماً من أعلام هذا الجنس الأدبي الرفيع، ونودع أسلوباً خاصاً به ميزه بين أقرانه ومجايليه· ويذكر داود بأن الطيب صالح كان من رواد القصة القصيرة جداً في أواخر الستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، إذ نشر عدداً من هذه القصص في مجلة ''حوار'' في بيروت، لكنه قال بعد ذلك: إن هذا الأسلوب من الكتابة لا يناسبني، وهو ليس فناً مهماً!·

    ويتوقف داود عند التزام الطيب صالح بالقضايا الوطنية والقومية ولاسيما القضية الفلسطينية، ويذكر أن الراحل كان عاشقاً للأمة العربية وحضارتها، وأنه كان يعتبر المتنبي إمام الشعر العربي الأكبر، لأنه وصل بالمعاني إلى مداها الأقصى، فكان شعره كله عظيماً·

    مروة: كان مدهشاً

    ويقول الأديب إسماعيل مروة: عندما يرحل الطيب صالح ترحل قامة أدبية وفكرية وروائية لم تكتب للسودان وحده، وإنما كتبت للعروبة جمعاء، وحسب الطيب صالح أنه أرخ للرواية العربية لتواصله مع الشمال، وكان أدبه الأنموذج الذي درس طويلاً ولا تزال لحظة الانبهار ماثلة أمام أعيننا، وتوجت لحظة الانبهار بدهشة الرحيل الذي كان الطيب صالح على موعد معه، وكنا أدباً وأمة بأمس الحاجة إليه· رحل الطيب صالح حاملاً معه دليل تفوقه وتفرده و(.........)اجته، واستطاع أن يحمل هماً عربياً وأرقاً سودانياً ليقول ها نحن بكل أوزارنا وأخطائنا· فاهنأ أيها المبدع لأنك كنت المبدع والمدهش في الإقامة والكتابة والرحيل·

    الحضور والغياب

    تقول الإعلامية والشاعرة السعودية ميسون أبو بكر: كانت هجرة الطيب الصالح هذه المرة إلى حيث لا نستطيع أن نقرأه أو نراه أو نتواصل معه حول حرفه الذي كان يأتي على هيئة رواية أو مقال، هجرنا حيث لم نستطع أن نودعه أو نصافحه، كان عبر إلى أرواحنا عبر روايته ''موسم الهجرة إلى الشمال'' والتي وضعت وطنه على خارطة الإبداع ممثلا بهذا الأديب الذي نقلها إلى الآخرين ونقله عشقه لها ليعبر به العالم· منذ زمن ما يقارب العام وأنا أخشى أن صحته ليست على مايرام ، كانت مكالمتي الهاتفية له لأرتب معه مشاركتي في برنامجي الستين دقيقة، بدا متعبا والزمن والسنين التي يحملها حملته الكثير، لكن فكره كان ساطعا ومشرقا ومتقدا لم تؤثر فيه الأيام كما على صوته وملامح جسده· في لندن كان يعيش وكله هنا في شرقنا العربي، هناك كان يشرق بشمسه في ديار يحجب فيها الضباب سطوع الشمس، وكان يؤكد حضوره أيضا لأنه كان مشاركا في عدد من الفعاليات والمناسبات الثقافية التي تصله بالوطن العربي·

    ويقول الروائي عبدالسلام المودني معبرا عن أسفه وحزنه لرحيل روائي بارز ومؤثر كالطيب الصالح: لاشك أن رحيل كل مبدع عنا هو خسارة كبرى، ورحيل الروائي الكبير الطيب صالح أكبر من خسارة، ذلك أنه واحد من الذين طبعوا الساحة الأدبية العربية بمداد التميز والعبقرية· لكن هل يرحل العظام فعلا؟ من اللائق الحديث عن الحضور في الغياب عند استحضار هؤلاء الكبار الذين أثروا فينا، وخلفوا إرثاً تعجز كواهلنا عن حمله، فأرواحهم تظل حاضرة في كل أعمالهم، وتجاربهم تبقى معيناً لا ينضب عطاؤه، حتى بعد أن يملوا منا ويختاروا تأبط أجسادهم والتيه بين العوالم والحيوات·

    لغة فريدة

    وتقول الشاعرة السعودية هاجر شرواني: يعنيني شخصيا أن أقول في العملية الابداعية أول ما يلفت نظري إليها هو اللغة نعم لأنها المادة التي يعتمد عليها الصانع (صانع الابداع) ولغة الطيب صالح من اللغات الفريدة التي أوصلت المتلقي إلى نشوة الإحساس باللغة واهميتها· لغته القصصية فريدة هكذا تبادر إلى ذهني وأنا ألتهم سطور ''موسم الهجرة'' و''عرس الزين'' وغيرها وربما علي أن أخلق أنا الأخرى لغة فريدة تليق بقامة الطيب حتى أقيم وأقرأ إبداعه لأنني كما أسلفت له لغة خاصة تذكرنا بالعظماء وانطباعي عن هذا الابداع أقتنصه من قلمه هو ففي رواية ''موسم الهجرة'' كأنني به يقدم بطاقته الشخصية لكل من يسأل من هو الطيب صالح يقول: ''إنني مختلف··· كنت مثل شيء مكور من المطاط تلقيه في الماء فلا يبتل ترميه على الأرض فيقفز··· أنا مثل عطيل عربي أفريقي''· وهذا يؤيد نظرية أن الكاتب ما هو إلا خطيب بارع يسرد علينا سيرة حياته مع نوع من التظليل والخداع لدرجة تضعنا معه على نفس المسرح· وتضيف شرواني: الحق أن الطيب صالح مثلما اطلق عليه عبقري الرواية العربية وهو صاحب القلم الوسيط الذي ربط بحبره بين الثقافتين العربية والغربية بل وأظهر لنا محاسن الثقافة العربية ولن أتجنى على أحد حين أقول إن الروايات الحديثة لو سارت على نفس القوة التي وسمت الروايات الجميلة من الزمن الجميل لما أحسسنا بهذا الفراغ وهذه المسافة بين ما نقرأ اليوم وما التهمناه بالأمس· وفي شهادتها تقول الكاتبة والشاعرة منى ظاهر: إنّ الكاتب السوداني العربي الطيّب صالح باطلاعه الواسع على القضايا المعيشيّة، وتنقلاته المهنية والأكاديمية بين بريطانيا وفرنسا والسودان والخليج العربي، وبتجربته الغنية المنعجنة بروايات تتمحور حول موضوعات الاستعمار والسياسة والجنس والمجتمع العربي، قد أثرى العمق الحقيقي لإبداعنا، هو أحد رواد الرواية الحديثة والذي ترك بصماته المهمة في جسد خريطة الإبداع الحقيقي·· وتضيف: ولا بد لي هنا أن ألتفت إلى رواية ''موسم الهجرة إلى الشّمال''، والتي تعتبر من أشهر أعمال الطيب صالح· وكما يذكر محمد عزام في كتابه ''البطل الإشكالي في الرواية العربية المعاصرة'' بأنّها رواية متميّزة من ناحية فنية بسبب اعتمادها على تدمير الأزمنة وعلى المونولوج الداخلي وعلى علاقات منطقية في داخل النص·

    ويختصر الكاتب السعودي علي مغاوي حديثه عن الطيب الصالح إذ يقول: الطيب صالح استنطق الأنوثة العربية على لسان ''بت مجذوب'' وحدد ملامح الغربة العربية بتداعيات محطات الجسد التي لا توجد هناك بتفاصيل القبيلة·

    ميكانيزم الرواية

    واعتبرت الشاعرة أسماء صقر القاسمي رحيل الطيب الصالح كارثة أدبية فجع من خلالها أهل الأدب والفكر العربي، فهو الروائي الذي استطاع أن يترك بنفسه بصمة خاصة في المشهد الروائي العربي ويكفي أن نتذكر هنا روايته ''موسم الهجرة إلى الشمال'' التي اعتبرت بعيون النقاد من بين أهم الروايات العربية التي استطاعت أن تحرك ميكانيزمات الرواية العربية· وتستدرك أسماء صقر القاسمي: لكن الشيء الذي لا يسعني إخفاؤه هو أن مبدعينا ومفكرينا العرب وجب علينا أن نكرمهم ونهتم بهم وهم على قيد الحياة وليس فقط بعد رحيلهم·

    وتقول الشاعرة فاطمة بوهراكة: مما لا شك فيه أن رحيل مبدع من حجم الروائي الطيب صالح سيترك فراغا واضحا في المشهد الأدبي بصفة عامة والروائي بشكل خاص خاصة أنه قد ساهم في إغناء المكتبة العربية بمجموعة من الروايات الجادة على رأسها ''موسم الهجرة إلى الشمال'' التي شكل من خلالها حوارا متميزا بين الشق العربي والغربي· ولعل تواجده في أهم ملتقيات السعودية في الجنادرية لدليل قاطع على مدى أهمية هذا الرجل في صناعة جيل روائي جديد ورحيله يعد خسارة كبرى للحقل الأدبي العربي·

    شمس الدين: الكلمة والمعرفة

    الكاتب والشاعر محمد علي شمس الدين قال: لقد اثر بي موت الروائي الطيب صالح كما اثرت بي قصصه ورواياته منها ''دومة ود حامد''، ''موسم الهجرة إلى الشمال'' و''عرس الزين'' و''نخلة على الجدول'' فوجدت فيه مسألتين، الكلمة والمعرفة، يضاف إلى ذلك قدرته الإبداعية على السرد الروائي وكتابة رواية حديثة مبتكرة، ذلك أن روايته ''موسم الهجرة إلى الشمال'' كانت تمثل تلك السمة بين عالمين عالم الجنوب ويرمز به إلى بلاد الشرق عامة والسودان خاصة وبين الشمال ويرمز به إلى عالم الغرب· ففي هذه الرواية حيل روائية وتقنيات في السرد وتداخل في الأشخاص ووصف حار للميول والنزعات حيث ينتقم فيها ببطلها مصطفى سعيد السوداني الذاهب إلى إنجلترا ليتزوج من بريطانية وينتقم من الاستعمار البريطاني للرجل المسلم الشرقي· أضف أيضاً كلمة على الروائي وهي أنه كان ودوداً ليّن الحواشي وكان قارئاً عظيماً ومحباً للشعر العربي القديم خاصة شعر المتنبي·

    كبريت: الشفافية والألم

    المفكر والكاتب رضا كبريت قال: لا شك أن في خسارة الطيب الصالح ألماً من نوع آخر فهو واحد من اولئك الأدباء الذين لطالما نجحوا في التعبير عن واقعهم الذي لا يعني الكثير للبعض، بلغة روائية اتسمت بالشفافية والجرأة والألم، يعبر الطيب صالح بوصفه الأرض والفقر من خلال معاناة مر بها· مع العلم لم تحده هذه المعاناة عن إكمال مشواره الروائي· هو ابن الأرض العنيد في الروح والسرد والوصف والعلاقة· هو المتواضع البسيط الطيب· منهجه خاص في الكتابة من خلال اطلاعه الواسع على الأدب العالمي وثقافته العميقة· هو من صناع الحقيقة من حبر على ورق· ارآه المدخل لطريق الروائيين في الجيل الجديد· لا لن يمر على الأرض وفي يومنا هذا، عبقري كالطيب صالح·

    جماجيان: تعبير عصري

    واعتبر الفنان والممثل بيار جماجيان رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة للثقافة العربية وقال: تعرفت إليه في آخر زيارة له الى بيروت في منتدى ثقافي بحضور وزير الثقافة يومها غسان سلامة· فكان إنساناً طيباً وصادقاً بنكهته العربية والتعبير العصري وفي الوقت نفسه كان قادراً بجذب كل من رآه بعذوبيته وأخلاقه العالية ليقترب إليه· كان يمتلك صداقات كثيرة في بيروت وهو معروف في الوسط اللبناني بأدبه وكتاباته ورواياته عرفته عن قرب وكان أكثر الحضور يسألونه عن إصداراته وعن الجوائز التي منحت إليه في كافة أقطار العالم، وروايته الشهيرة ''موسم الهجرة إلى الشمال''· في أثناء حديثه إلينا كان يرى الكتابة ملحقاً لحياة الكاتب من ضمن مشاغل أخرى لأن الكاتب والفنان الممثل يعطي أكثر مما يأخذ، والبدل في هذه الاختصاصات معنوي أكثر ما هو مادي·

    نوبلي ·· بلا جائزة

    ولد الطيب عام 1929 في قرية ''كرمكول'' ودرس في كلية العلوم بالسودان وتخرج فيها، ثم رحل الى لندن عام 1952 ليعمل بالاذاعة البريطانية وهناك درس العلوم السياسية، ثم عمل بعد ذلك خبيراً بمنظمة اليونسكو في باريس ومنها الى منطقة الخليج حيث عمل مندوباً لليونسكو في الكويت ثم وكيلاً لوزارة الاعلام بالدوحة ومنها إلى باريس ثم لندن وكان يمتلك بيتاً في حي المهندسين في العاصمة المصرية يقضي به شهوراً كل سنة، وفي عام 1996 صادرت حكومة الإنقاذ في الخرطوم روايته ''موسم الهجرة إلى الشمال'' وكان في القاهرة وقتها وغضب الكتّاب من تلك الخطوة، وكان هو يحاول تهدئة الجميع مبدياً عدم دهشته مما جرى، فقط تساءل ''من اين جاء هؤلاء وكيف يصادر عمل بعد ثلاثين عاماً من ظهوره، حتى لو كانت به أخطاء؟!!'' وفي عام 2005 دُعي لزيارة السودان، واتهمه بعض المعارضين بأن لديه ميولاً تجاه السلطة، ولم يكن الرجل في سن تسمح له بشيء مما تقولوا عليه به، فقط دُعي إلى وطنه فاستجاب، وقبل شهور رشحته مؤسسات سودانية لنيل جائزة نوبل، وعلى الرغم من أنه ليس من حق مؤسسات رسمية ترشيح احد لجائزة نوبل، فإن هذه الخطوة كانت تحمل اعتذاراً مجدداً من حكومة السودان للطيب ولفتة تكريم نحوه، لكنه كان قريباً من نوبل لأن ''نادين جورديمر'' الحاصلة على نوبل قالت لمحمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب في مصر أنها رشحت الطيب لنوبل·

    الطيب صالح عاش معظم سنوات حياته في أوروبا، لكنه كان عصياً على التغريب وظل طوال حياته عروبياً صادقاً وسودانيا حقاً، لم يكتب بالإنجليزية كما فعل البعض، وظل يكتب بالعربية ومفتوناً بالمتنبي وأبي العلاء المعري· وقبل كل هذا وبعده كان إنساناً نبيلاً وكريماً، وهذا ما جعله موضع محبة وتقدير الكثيرين ممن عرفوه ومن قرأوا أعماله·

    على هامش رحيل نوّارة الثقافة السودانية

    حكاية موسم الهجرة إلى الشمال؟

    شهيرة أحمد

    ثمة تقليد في قرى شمال السودان (يمكن العثور على ما يشابهه في بلاد الشام أيضاً)، وهو أن تطلق الأسرة على الطفل الذي يعيش بعد أن تفقد الأم حملها أكثر من مرة، لقب الطيب، لأنهم يعتقدون أن ''الطيب'' اسم تحل به البركة إذا كانت الأسرة تفقد مواليدها، وهذا ما فعلته والدة الطيب صالح، من دون أن تنتبه أن هذه ''البركة'' لن تكون قصراً على الأسرة فقط، بل ستمتد إلى الثقافة العربية لتمنحها هذا الصوت الإبداعي الخاص والمتفرد·

    الطيب صالح ليس بدعة بين المبدعين الذين حالفهم الحظ في عمل ما يبقى خالداً في الذهن، فيغطي على إبداعاتهم الأخرى، وهم شوارد إبداعية نعثر عليها هنا وهناك· في حالات كهذه يرتبط اسم الكاتب بعمله الإبداعي ويسكنه الى الأبد، ويقترن به في علاقة لا تنفصم، وهذا ما حدث مع الطيب صالح، الذي منحته روايته الشهيرة ''موسم الهجرة إلى الشمال'' فضلاً عن الشهرة وذيوع الصيت، لقباً يغبطه ويحسده عليه روائيون كثر وهو ''عبقري الرواية العربية''، وسواء كنا مع هذا أو ضده، سيبقى هذا اللقب علامة فارقة نميز بها الطيب صالح من غيره، ونعرفه به كما نعرفه من لونه واسمه وملامح وجهه· فعلى الرغم من أنه كتب غيرها عدداً من الروايات والقصص القصيرة التي لا تقل عنها فرادة وتميزاً مثل ''عرس الزين'' و''بندر شاه'' ظل الطيب صالح موشوماً بـ ''موسم الهجرة إلى الشمال'' لكن ما هو السرّ الكامن وراء ذلك؟

    لاعتبارات ليست كلها إبداعية بالضرورة، خطفت ''الموسم'' البريق، وأحيطت بهالة واسعة من العناية والاشتغال النقديين· فالرواية من أكثر روايات القرن الماضي شهرة، ووضعت حولها الكثير من الدراسات والبحوث، ونالت من التقريظ ما لم تنله رواية أخرى، حتى إنها تحولت لتمارس نوعاً من السطوة الإبداعية التي عانى منها الطيب صالح، كما اعترف هو نفسه ذات مرة، وبات أسيراً لها·

    فعل المرحلة

    ويبدو لي أن المرحلة التي ظهرت فيها الرواية (1966) لعبت دوراً في ذلك، وكانت واحداً من هذه الاعتبارات، فقد نشرت في فترة كان أحد انشغالاتها الرئيسة يتمثل في توصيف وتحليل العلاقة بين الغرب والشرق، هذا الموضوع الإشكالي الذي حظي لدى المثقفين العرب والغربيين بأهمية خاصة، وكان المثقف العربي يعيش نوعاً من الصدمة الحضارية، أو التأزم العقلي والانفصام النفسي والتمزق الوجداني بين تقاليد المجتمع العربي المنغلقة التي يحملها على عاتقه، وبين تقاليد الحضارة الغربية المنفتحة التي تصطدم في أحيان كثيرة مع ثوابته الثقافية والحضارية·

    في هذا المناخ جاءت ''موسم الهجرة إلى الشمال'' لتعالج هذه الإشكالية بجرأة كبيرة (أثارت أحياناً سخط المحافظين) ومتقدمة على أعمال سبقتها (توفيق الحكيم في ''عصفور من الشرق'' أو سهيل إدريس في ''الحي اللاتيني'')· فحظيت باهتمام واسع، نظراً لجرأة الطرح والنظرة التحليلية الثاقبة لهذه العلاقة الإشكالية التي جسدها الطيب صالح عبر بطله ''مصطفى سعيد'' في معالجة رمزية توظف الجنس على نحو تأويلي يجعله معادلاً للصراع الحضاري بين الثقافتين (الغربية والشرقية)· ينضاف إليهما تلك اللوحات التي رسمها للسودان وتقاليده وقريته بتفاصيلها اليومية والحياتية وحمولاتها النفسية والاجتماعية، ودلالالتها الحضارية والروحية، من دون أن ننسى أن الرواية على المستوى الفني قدمت اقتراحها أو مشروعها الروائي الذي يحمل جانباً من علامات التحديث، على المستوى الشكلي والأسلوبي والتقنوي، وأنها حملت خصوصيتها اللغوية على مستوى السرد والحكي، لكل هذه الأسباب وغيرها حصدت ''الموسم'' هذه الأهمية الاستثنائية·

    الغموض الأفريقي

    من أفريقيا وأسرارها، ظهرت الرواية في لندن حاملة صور الشرق وغموضه وعوالمه المتمظهرة في البيئة وصورها، وشخوصها، وطقوسها، وتقاليدها التي غالباً ما تبدو للغربيين ''غرائبية'' ناهيك عما منحها الروائي من أسطرة وسحرية آتية من عوالم الطفولة، وبدا أكثر من مرة أنه يكتب ليتصل بذلك الفردوس الضائع الذي فقده وإلى الأبد، فقد ظلت صور الطفولة في ذاكرته تستدعي حنيناً جارفاً لبراءة غائبة ووجوه يخشى أن تذهب هي الأخرى في النسيان وتغرب في بيداء الغربة، وفي هذا يقول: ''كتبت حتى أقيم جسراً بيني وبين بيئة افتقدتها ولن أعود إليها مرة أخرى· وأعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه، والإبداع نفسه فيه البحث عن الطفولة الضائعة''·

    حضور البيئة

    هذا الحضور الكبير للبيئة ومفرداتها يعزوه الطيب صالح إلى أن قريته ''كانت مختلفة تماماً عن الأمكنة والمدن الأخرى التي عشت فيها، ولاشك أن هذه المنطقة هي التي خلقت عالمي الروائي''·

    وللقرية أو البيئة الريفية حضور هائل في أعمال الطيب الروائية، لا سيما في موسم الهجرة إلى الشمال، فهي تحضر بكل ما فيها، لتشكل مكاناً روحياً تتدفق صوره حارة طازجة من مختزنات الذاكرة والوجدان؛ رائحة التربة والثمار، اصوات النخل والزرع والطير، حفيف اوراق الشجر حين يداعبها النسيم، ينقلها بكل تفاصيلها وحيويتها، ليس على سبيل اللقطة الفوتوغرافية الميتة بل بكل ما فيها من الحياة المتحركة في البيوت والشوارع والناس، وفي الملابس الشعبية والطقوس والمشروبات والمأكولات والمجالس والطب الشعبي والشعر الذي يوظفه في ثنايا النص ليضع القارئ في لوحة واقعية يرى فيها الألوان والأمزجة ويسمع الأهازيج·

    من هنا، تعكس أعمال الطيب صالح الروائية، ثراء فكرياً وغنىً في الأبنية والأنساق والعوالم الفنية الآتية من غنى التجربة الحياتية والإنسانية التي يلتقط منها تفاصيل شخوصه وأحداثه، وما فيها من الأصالة والرحابة، والتعبير عن كل ذلك بلغة شاعرية موحية هي أقرب ما تكون إلى الأسلوب السهل الممتنع· فالطيب يمتلك أدواته الفنية، ويتميز بقدرته الفائقة على السرد والحكي لبلورة الفكرة ونسجها في تفاصيل شديدة الخصوصية، وفي بناء متكامل يتداخل في معماره الروائي الواقع بالخيال، والحقيقة بالأسطورة، وتتجاور أحياناً وتندعم أخرى في هذا المعمار الروائي اشكال شتى من التعبير الأدبي لتسهم في إيصال العمل إلى المتلقي، وتضعه في صورة الحياة التي تظهر ثرية، في تداعياتها وأسرارها وأشواقها وجمالياتها المختلفة·

    جماليات فنية

    بجانب هذه العوالم المضمونية، ثمة عوالم اللغة التي يتقن الطيب أسرارها، ويلعب بمهارة على مترادفها ومتشابهها ووظائفها النفسية والجمالية، مستخدماً لغة متعددة المستويات، بحيث تحمل خطاباً فكرياً عميقاً في قوالب بسيطة وبعيدة الغور في دلالاتها في الوقت نفسه، كما أن لغته توظف جميع الحواس (السمع، الذوق، الشم، البصر) لكي توصل القارئ إلى حالة يشعر معها أنه يرى الموقف الموصوف ويدركه ويحسه ويشعر بحركاته وسكناته· فالطيب الصالح، لطالما أراد للرواية أن تعبر عن فكره الموسوعي، وأن تحيط بعالمه الفكري وجوانياته وتفرعاته وهواجسه الحضارية والأدبية والسياسية والمجتمعية وحتى صبواته التراثية· فالطيب كاتب صحافي، وسياسي ومؤرخ وحكواتي ومهتم بحقوق الإنسان، وإن غابت هذه الجوانب وراء صورة الروائي الذي ذاع صيته، وهي جوانب لا تقل أهمية وثراء عن صورته الروائية والإنسانية·

    ثمة درس خفي يمكن أن يخرج به المرء من ''حكاية الشهرة'' الخاصة بهذه الرواية لا علاقة له بعوالمها، بل بالطيب صالح نفسه، وهو التواضع، ففي الوقت الذي يجمع النقاد على اختلاف اتجاهاتهم على أنه غزا العالمية مثلما غزا ''مصطفى سعيد'' بطل روايته أوروبا، نجد أن مثل هذا الإطراء وغيره كثير، لم يكن ليجعل الطيب صالح يتنازل عن الطيبة والتواضع اللتين تميز بهما، ففي الوقت الذي نجد مبدعين أقل منه بكثير يتيهون على الناس خيلاء، ويملأون المجالس صخباً، ويرهقون من يسمعهم بـ ''أناهُم'' المتضخمة، يتحلى هو بتواضع شديد غير مصطنع، يمكن أن يلمسه كل من يتعامل معه، ويعلق على أهمية روايته التي اختيرت ضمن مئة رواية من أهم روايات القرن العشرين: ''ليس لديّ أي إحساس بأهمية ما كتبت، ولا أحس أنني مهم· هذا ليس تواضعاً لكنها الحقيقة· إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر، قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر''·

    ''النوارة'' هو الاسم الذي يصف به السودانيون الطيب صالح، فهو ''نوارة الثقافة السودانية'' حسب الكاتب عبدالله علي ابراهيم الذي يؤكد على ضرورة إخراج الطيب صالح من دائرة السودان إلى دائرة اوسع وأشمل عند بحثه ودراسة منتجه الفكري والإبداعي·

    رغم إقامته الطويلة في أوروبا ظل يكتب بالعربية ومفتوناً بالمتنبي وأبي العلاء المعري

    تمسك بعروبته واستعصى على التغريب

    حلمي النمنم

    حين فاز الراحل نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام ،1988 غضب بشدة القصاص الراحل يوسف إدريس واعتبر نفسه الأحق بجائزة نوبل، وانها ضلت الطريق إليه لتذهب إلى ''العجوز'' وكان كثيرون يثقون بأن نجيب محفوظ هو الأحق، لكن أمام عاصفة يوسف، كما وصفها رجاء النقاش وقتها، وهياجه الشديد لم يقل أحد ليوسف إنه اذا كان يستحقها فقد تأتيه فيما بعد، وفي كل الأحوال فإن ذلك لا ينفي استحقاق نجيب محفوظ لها، وكتب عدد من النقاد يحاولون تهدئة أو تعزية يوسف إدريس·

    وحده الطيب صالح واجه يوسف إدريس وقال له الحقيقة، في حضور عدد من الكتاب والنقاد المصريين والعرب، ما زال بعضهم على قيد الحياة· قال له :''أنت يا يوسف تريد ان تنال كل شيء، أن تكون نجماً تنافس نجوم السينما وكاتب مقال تنافس كتاب المقالات من الصحفيين، وقصاصاً تنال نوبل، وهذا لا يمكن·· ليس متاحا لإنسان أن ينال كل هذا وحده''· واحتملها منه د· يوسف ادريس لانهما كانا صديقين قالها الطيب بثقة وبهدوء وانتهى الأمر عند هذا الحد·

    كلمات الطيب صالح ليوسف ادريس تعكس شخصية وعقلية الرجل، وقد كان يتعامل مع نفسه بذلك الفهم، فقد كتب روايته ''موسم الهجرة الى الشمال'' التي حققت له شهرة وحضوراً إبداعيا كبيراً في المشهد الثقافي العربي، وكتب قبلها وبعدها بعض أعمال، هو في العموم كان مقلاً ولم يكن من هؤلاء الذين يعتبرون الكتابة الروائية مهنة، بمعنى أنه لابد أن يكتب كل يوم وطوال العام، وليس معنى أنه أصدر عملاً متميزاً أن يلح على القراء كل شهور بعمل جديد، حتى لو لم يكن في المستوى نفسه· وفي شهر مارس 2002 حل الطيب صالح ضيفاً على الجامعة الأميركية بالقاهرة ليتحدث إلى طلابها وجمهور من المثقفين والكتاب، وسأله يومها استاذ اميركي كان يقوم بتدريس ''موسم الهجرة'' لطلابه لماذا توقف عن الكتابة الروائية، فرد الرجل بصوته الخفيض والرخيم: ''لانني لم اعد استمتع بتلك الكتابة'' ولم تعجب تلك الإجابة بعض دارسي الأدب من الحضور فراحوا يجادلونه، ويذكرونه بنجيب محفوظ الذي لم يتوقف عن الكتابة، فاعاد الإجابة نفسها تقريباً ''لأن محفوظ يستمتع بتلك الكتابة''·

    وأياً كان الرأي فقد عبر الرجل عما بداخله، لذا لم يكن يكتب إلا ما يريد أن يكتبه، وفي هذا السياق لا توجد قاعدة حاكمة، كان نجيب محفوظ غزير الإنتاج وكذلك كان عبدالرحمن منيف وغيرهما، لكن يحيى حقي كان قليل الإنتاج كروائي·· المهم أن يستمتع الكاتب بما يكتب·

    اصدر الطيب رواية ''عرس الزين'' وبعدها أصدر روايتين وكان المفترض أن تصدر رواية ثالثة بعنوان ''بندر شاه'' لكنه لم يصدرها كما أصدر رواية ''دومة ود حامد'' وانطلقت شهرته مع رواية ''موسم الهجرة إلى الشمال'' التي نشرت في بيروت ثم تحمس لها رجاء النقاش وكتب عنها مقالاً بمجلة ''المصور'' وصدرت منها طبعة في روايات الهلال عام 1969 حين كان يتولاها أحمد بهاء الدين ورجاء النقاش، ومع هذه الط





    إغلاق
    جريدة الاتحاد
    الخميس 1 ربيع الاول 1430هـ - 26 فبراير 2009م
    www.alittihad.ae

                  

02-26-2009, 05:20 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)





    استطرادات
    عرس الزين

    د· حاتم الصكَر -


    الخميس 26 فبراير 2009 الساعة 11:54PM بتوقت الإمارات

    د· حاتم الصكَر
    لم يكن كثير من طلابي قد قرؤوا شيئا للطيب صالح عندما قررت لهم روايته ''عرس الزين'' للدراسة والتحليل في مادة النثر الحديث، لكنهم بعد أيام كانوا يتحدثون عن الزين كشخصية مألوفة وحميمة بدءا من اسمه المميز، وقد لفت انتباههم انتشال الطيب صالح للزين من الهامش الاجتماعي إلى المركز وزواجه بنعمة التي ترفض وجهاء القرية، وتساءل بعضهم عن إمكان وجود حدث مماثل في الواقع يتحول فيه الفتى الأبله الظريف والدميم بطلا تتزوج به أفضل فتيات قريته· تنتهي الرواية والزين وسط الراقصين، (واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة وجسمه النحيل فكأنه ساري المركب)· راح الزين يقود الحشد منتصرا على الجماعة التي عدّته مجنونا وعاملته بقسوة فثأر منها وقام بالتعويض عما أحسّه غبنا وتهميشا·· فكانت النهاية برمزيتها تشير للانحياز لمخلوقات الهوامش المقصاة والحواشي المهملة، وكان السودان نفسه بلد الطيب صالح يقف في قلب دائرة الرواية العربية ويظهر بإبداعه إلى العالم من بعد عبر أعماله·

    عندما رحل الطيب صالح في الأربعاء الرمادي الحزين تذكرت بكاء الزين ليلة عرسه عند قبر الشيخ الحنين، كان والدا رمزيا له وبصوفيته ورقة مشاعره قدّم البديل للأب الغائب في الرواية وقام بتعويض آخر، هو عصب روايات الطيب صالح في الحقيقة· وإذا كان الدارسون يعرّفون الرواية بأنها فن التحولات فإن الطيب صالح يجعلها فن التعويض عن الحرمان والفقد، كما هو حال السرد العربي في أجمل متونه كألف ليلة وليلة، وعلى أساس ذلك التعويض يتحول الأشخاص وتتحول مسارات السرد وأحداثه·

    هكذا نلتقي مصطفى سعيد في ''موسم الهجرة إلى الشمال'' فلاحا مقترنا بامرأة من غمار الناس بعد أن قتل زوجته البريطانية وعاد من رحلته الشمالية خائبا، كأنما ليترجم مقولة إن الشرق شرق والغرب غرب فلا يلتقيان ولا يأملان اللقاء لأنه مستحيل فالشرق الكتلة والشرق الجهة ينأى عن الغرب كتلةً وجهة، لذا كان سفر مصطفى سعيد بطل ''موسم الهجرة إلى الشمال'' ودراسته وزواجه ومحاولة العيش في الغرب ضربا من المستحيل الذي أعاده إلى النسيان في زاوية قصية من وطنه، ولكن ليلامس قضية من أخطر ما كان ـ ولا يزال ـ على لائحة الثقافة والآخر·

    لقد عالج الطيب صالح بسرد روائي سلس بسيط وموجز أشد القضايا تعقيدا، وعانى ما عاناه أبطاله وبلده وثقافته العربية من أسئلة حارقة وعنت وتهميش، لكن احتفاء الرواية العربية به واغتنائها بجهده كان مكافأة للإبداع غير المصنوع بشهرة أو شائعة··

    تقرض المنافي بموت الطيب صالح قلما آخر وتُسكت نبض قلب مرهف لكن ميراثه سيحكي لأجيال القراء لمدى لا يحده زمن أو يوقفه غياب·





    جريدة الاتحاد
    الخميس 1 ربيع الاول 1430هـ - 26 فبراير 2009م
    www.alittihad.ae[/B]
                  

03-02-2009, 05:19 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    رحيل الطيب صالح
    محمد عبده يماني
    الخميـس 02 ربيـع الاول 1430 هـ 26 فبراير 2009 العدد 11048
    جريدة الشرق الاوسط
    الصفحة: الــــــرأي

    ورحل الأديب الفذ والرجل الصادق الأديب والروائي الرائع والرجل الذي تعدت بصماته الأدب السوداني والعربي وأوصلت أصواتنا إلى
    العالم الغربي والشرقي حتى قلت يوماً وأنا أتحدث إلى مجموعة من الأدباء في فندق الدوشستر في لندن إن هذا الرجل حملنا قلمه وتخطى
    بنا الإطار العربي حتى قرأ له بعض الأدباء في الغرب بعضاً من إنتاجه الأصيل وخاصة (موسم الهجرة إلى الشمال). ولقد جلست إلى هذا
    الرجل الإنسان كثيراً وفرحت بخلقه وأدبه وقدرته على العطاء وعمقه حتى شعرت في وقت من الأوقات – وقلت هذا لمجموعة من الأدباء
    حضروا معنا – أن الطيب صالح كان يستحق لو أننا خدمناه وروجنا لعطائه لينال جائزة نوبل للآداب التي فاز بها أديبنا المبدع الأستاذ نجيب محفوظ،
    فكلاهما فارس هذا الفن، ولكن الطيب صالح لم يعبر عن الرواية السودانية كما فعل الأستاذ نجيب محفوظ في إبداعه في مجال القصة والرواية المصرية،
    ولكنه نقل صوراً عميقة وعبر عنها في لغة أدبية سامية ومعالجة روائية بديعة أعجب بها الناس كما أعجبوا بكتابات الروائي الكبير الأستاذ نجيب محفوظ
    ورفاقه. لكن أحداً لا ينكر أن الطيب صالح كان هو نافذة من هذه النوافذ الواسعة والمضيئة والتي أطل بها أدبنا فيما بيننا وبين بعضنا وفيما بيننا وبين الغرب،
    والطيب صالح الذي ولد في كرمكول على ضفاف النيل وكانت ثقافته قرآنية ثم صار حتى درس وتخرج في كلية العلوم بجامعة الخرطوم،
    وعاش جوانب من قسوة الاستعمار الإنجليزي وعنفه وكانت ميوله كما يقول عنه أساتذته ومعاصروه هي ميول أدبية جريئة، وكان يتابع بكل
    إصرار جهوده للتعبير عن مكنونات نفسه، وعمل بالقسم العربي بالإذاعة البريطانية، وكان قد عمل بالإذاعة السودانية والتحق بهيئة اليونسكو بباريس،
    ولست هنا في مجال استعراض لتاريخه ولكني أوافق على أن هذا الرجل الطيب صالح كان أمة أدب وأدب أمة وكاتباً عبّر عن الأمة بصدق
    ورحل إلى نهاية رحلة الشمال فغادر بعد أن أدى واجبه كاملاً واحترمه كل من تعامل معه. وقد شكرت للأخ الرئيس عمر البشير ورجالات السودان
    عنايتهم بتكريمه ونقله ليدفن حيث كان يتوق دائماً إلى مسقط رأسه، فجزاهم الله خير الجزاء.

    وأحسب أن الطيب صالح بلا شك هامة من هامات أدبنا العربي ورجل مبدع حتى تم اختيار روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) ضمن أفضل مائة
    عمل روائي في تاريخ الإنسانية، وكنا نستغرب ونحن نجلس إليه عدم اكتراثه بكل تلك الجوائز والمقولات فقد كان دائماً يعبر في تواضع
    (أنا لا أعتبر نفسي مهماً وأرجو أن لا تنظروا إلى هذا كتواضع ولكنها الحقيقة) وعندما أقول إن الطيب صالح كان نافذة مضيئة للأدب العربي
    على الغرب، قصدت أن نتذكر أن بعض إنتاجه وخاصة (موسم الهجرة إلى الشمال) قد ترجم إلى عشرين لغة وحتى أقدم أدباء في إسرائيل على
    ترجمة هذا العمل إلى اللغة العبرية وربما لا يعرف ذلك إلا قلة من الناس المتابعين لقضية انتشار الأدب العربي في العالم. وهو رجل كله خير
    وبركة ومن حسن حظه أن اختارت له أمه اسم الطيب فهم يتفاءلون هناك بأن هذا الاسم يعني أنه رجل بركة ووالده محمد صالح صحبه ابنه كمزارع،
    وقد أثّرت فيه حياته؛ حياة القرية وبيئتها، ونقل طيبته وأصالته عن أبيه.

    رحم الله الطيب الإنسان فقد كان يملأ قلبه وعقله هاجس الأدب وحرص في مراحله الأولى على أن يصارع لدخول كلية الآداب ولم تساعده الظروف
    ولم يتمكن من ذلك ولكنه عبر عن هذه الرغبة بطرق أخرى، وعندما كنت ألتقي بالحبيب الطيب صالح في لندن أشعر بعدم راحته ولا رغبته في الاستقرار
    بها وأنه دوماً يحن ويتوق إلى ضفاف النيل، وكنت أشعر بارتباط هذا الإنسان ببلده ووطنه وهذا الوطن العربي الكبير، وكنت كلما أجلس إليه أفاجأ
    بكمية القراءة التي يقرأها وبحثه الدائب عن الإنتاج الجديد في الأدب والرواية، وقد ذكر لي أنه في بداياته كان يرتبط بالمسرح.

    رحمه الله فقد خلف زينب وسارة وسميرة وكان الطيب قد تزوج من زوجته السيدة جولي وأنجب منها البنات.

    ومن ظواهر بروزه المبكر أنه كتب قصته (نخلة على الجدول) ولم ينشرها ثم كتب (حفنه تمر) و(دومة ود حامد)، وكما يقول الأستاذ طلحة جبريل
    في حديثه عنه أن هذه كانت بمثابة الميلاد الحقيقي لأديب عالمي، ثم (عرس الزين) التي ظهرت عام 1966م. وفعلاً اتفق مع كل الذين نظروا إلى
    رواية موسم الهجرة إلى الشمال بأن البطل فيه ملامح الطيب وكأنه لجأ إلى صور حقيقية عبر فيها عن التيه الذي كان يعيش فيه.

    ونحن هنا في السعودية كما يقول صفوة من الأدباء عن هذا الإنسان أنه كانت له عناية بالأدب والأدباء في السعودية وكان يأنس لهم وله بصمات
    ولقاءات جادة في الخليج في الاحتفالات الثقافية وقد ضحكت وأنا أقرأ تعابير الأخ الدكتور تركي الحمد وهو يشاغب كعادته ولكنه يقول الحق في
    أننا لا نكرم أدباءنا ولا مفكرينا إلا بعد أن يموتوا. وأكرر أن هذا الرجل كان ممن يستحق فعلاً أن ندفعه ونقدمه للعالم، ولا يزال في عالمنا العربي
    رجال يستحقون التكريم قبل فوات الأوان.

    رحم الله الصديق الأديب الطيب صالح وتغمده برحمته وأسكنه فسيح جناته وأنا أشهد أنه كان رجلاً يحب الله ورسوله ويحترم الناس ويحترم الحوار،
    وقد كانت لقاءاتي في الأشهر الأخيرة معه في لندن والتي أدركت فيها جوانب مما يعانيه وكأنّ المنية قد أنشبت فيه أظفارها، ورغم معاناته فقد كان
    صابراً على مرضه ومحتسباً الأجر عند الله تعالى.

    وختاماً فرحمك الله أيها الإنسان الطيب والأديب الطيب على كل ما قدمت من عمل طيب وأشهد أنك كنت أديباً صادقاً وروائياً فذاً، وأسال الله أن
    يخلفك خيراً في أهلك وبناتك وكل من تحب، وخالص تعازينا لأسرتك وبناتك زينب وسارة وسميرة، وعزاؤنا في كل ذلك أنها سُنة الله في عباده
    وأن كل إنسان إلى فناء وقد حدد ربنا هذا المنهج يوم علّمنا في الآية الكريمة «كل نفس ذائقة الموت»..

    «إنا لله وإنا إليه راجعون».
                  

03-02-2009, 07:44 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    صحيفة أجراس الحرية
    http://www.ajrasalhurriya.net/ar/news.php?action=view&id=2097
    --------------------------------------------------------------------------------
    الكاتب : admino || بتاريخ : الأحد 22-02-2009

    عنوان النص : حوار مع الطيب صالح.. من أين أتى هؤلاء؟. 1

    فايز السليك

    : وأنا هنا؛ لا تعنيني كثيراً تلك "الأفعال" التي يمكن إدراجها في خانة "أفعال المراهقة الفكرية"، "والصبينة السياسية"، والفتونة التنظيمية"، وأذكر أنني لم أشعر بحزن على حالتنا الفكرية، مثل تلك التي انتابتني وأنا أشاهد قبل عدة أعوام حلقة من حلقات برنامج "خليك بالبيت" بفضائية المستقبل اللبنانية، من تقديم الأديب والاعلامي المتمكن زاهي وهبي، حيث كانت الحلقة مع الطيب صالح، فقال وهبي: إنه لم يتلق رسائل في عدد تلك التي استقبلها في حلقة الطيب صالح..

    وما زادني حزناً أنَّ فتيات من الأردن، ومن دول عربية أخرى تساءلن حول مغزى: قصة "نخلة على الجدول"، أو "دومة ود حامد" لأنها من القصص المقررة هناك في المدارس ضمن مقرر الأدب، وساعتها كانت قصص الرجل محظروة حتى في الجامعات؛ لا في المدارس في وطن الأديب الكبير، وهو وطن وصف إحساسه تجاهه على لسان راوي "موسم الهجرة الى الشمال" " (المهم، أني عدت، و بي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة، عند منحني النهر. سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم، كانت لحظة عجيبة، أن وجدتُني حقيقة قائماً بينهم. فرحوا بي، وضجُّوا حولي، ولم يمض وقت طويل، حتى أحسست، كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعتْ عليه الشمس. ذاك دفْء الحياة في العشيرة، فقدته زمناً في بلاد تموت من البرد حيتانها، تعودت أذناي أصواتهم، وألفت عيناي أشكالهم، من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة........،(أحس بالطمأنينة، أحس أني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل هذه النخلة، مخلوق له أصل، وله جذور وله هدَف). ويقول في موقع آخر من ذات الرواية ذائعة الصيت (تمهَّلت عند باب الغرفة، وأنا أستمريء ذلك الإحساس العذب، الذي يسبق لحظة لقائي مع جدي كلما عدت من السفر، إحساس صاف بالعجب من أن ذلك الكيان العتيق، ما يزال موجوداً أصلاً على ظاهر الأرض. وحين أعانقه، أستنشق رائحته الفريدة، التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة، ورائحة الطفل الرضيع...نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوربي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي، أحس بالغِنَى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه.)



    ونهر النيل يعزف لحنه القديم ، والسادة الجدد لا.... من أيتى هؤلاء الرجال؟. أمَا أرضعتهم الخالات وشالتهم العمات؟." أو بتلك الطريقة؛ مع تغيير الكلمات والجمل؛ لأن زمناً طويلاً مرّ على طرح تلك التساؤلات، ولم أجد النص الأصلي لما كتبه الطيب صالح في بداية التسعينيات من القرن الماضي، في مجلة "المجلة السعودية" التي تصدر من عاصمة الضباب لندن، لقد كان أديبُنا الراحل في ساعة قهر، وعهد قمع لم ينجل بعد، يطرح تلك التساؤلات؟" وهي أسئلة كان يطرحها بروح الأديب، وشفافية الفنان، و"انستالجيا" الانسان المحب لناسه، وفي قمة الحنين الى الوطن، وحينها غضب القوم وثارت ثائرتهم، وكتب بعض الكُتّاب ومثقفي السلطة آنذاك "لا عاش طيباً ولا صالحاً" ففتشوا في لا وعيهم الجمعي، ونصبوا مشنقة آداب لمحاكمة أدب الرجل، وتفننوا في تعريته، والتسلل الى غرف النوم ليكشفوا عَورة مصطفى سعيد، ووقاحة وجرأة بت الريِّس، وجردوا اللغة الأنيقة من أناقتها، ففتّشوا عن الفُجور، وعن الفسوق في روايات الكاتب الكبير.



    و لكن ما يعنيني هنا أكثر هو السؤال الكبير " من أين أتى هؤلاء الرجال؟". وكان الطيب صالح يقصد: أن أفعال هؤلاء لا تشبه أفعال السودانيين، فهم قساة والسودانيون رحماء، وهم غلاظ والسودانيون رقيقو النفس والمشاعر، وهم.. .. والسودانيون..... لكن لم يسأل أديبنا عن من هم السودانيون؟. ولم يطرح السؤال الا بطريقة عاطفية وإن كانت مشحونة بتوتر اللغة، وبرهافة حس الأديب، لكنها طريقة ربما تثير غضب بعض السودانيين، وربما يقفز البعض ليعلنوا على الملأ أنّ هؤلاء الرجال جاءوا منّا، وهم نتاج طبيعي لممارساتنا، ولسياساتنا، بل أن الإسلام السياسي هو إعادة لإنتاج الأزمة السودانية في أبشع صورها، وينظرون الى سؤال الطيب صالح بأنه سؤال فوقي من رجل يجلس فوق برج عاجي، ولا يخلو من صفوية، فتاريخ السودان السياسي الحديث مليء بالفواجع، فمثلاً: من قتل الشيخ محمود محمد طه، وهو يتجاوز عمره السبعين عاماً، أوَ ليس من قتله هو من السودان؟. ومن ارتكب مجازر بيت الضيافة والجزيرة أبا وودنوباوي؟. ومن اغتال عشرات السياسيين؟. ومن ارتكب مجزرة الضعين؟. ومن أشعل الحريق في دارفور منذ ثمانينات القرن الماضي؟. ومن ارتكب مجزرة عنبر جودة؟. هم شريحة من ذات الناس الذين أرضعتهم الخالات، وشالتهم العمات والحبوبات، وهم أيضاً من أنجب من كان يبقر بطون النساء الحوامل في جنوب السودان، ومن يتعلم رمي السلاح في صدور الرجال هناك!.



    و قد يكون هؤلاء الناس المعنيّون بسؤال الطيب صالح "زوّدوا العيار فقط، وأكثروا من الزيت المسكوب على النار المشتعلة، لأنهم أكثر جرأةً ، ولأنهم يفوقون سوء الظن، فهم ليسوا استثناء في الممارسة الشمولية، برغم أنهم استثناء في الدم البارد، وفي التخلص من تأنيب الضمير، والفجور في الخصومة، فهم منا مع فوراق نسبيّة وكميّة ؛لا نوعيّة، وهي فوارق أحسها قلبُ الأديب قبل الآخرين، والتقطها قلمه لحساسيته العالية.



    ويظل الطيب صالح إنساناً غير عادي بمعيار آخر، فهو رجل له القدرة على إثارة الدهشة، وعلى تفجير الأسئلة منذ رائعته "موسم الهجرة الى الشمال"، وحتى "المنسي"، فهو قد تحدَّث عن الهم الإنساني العام، وعن صراع الحضارات بين الشمال والجنوب" بكلمات رقيقة، وبدفق شحنات إنسانية في روعة الرومانسية " أي شيء جذب آن همند إليّ ؟" لقيتها وهي دون العشرين، تدرس اللغات الشرقية في اكسفورد، كانت حية، وجهها ذكي مرح وعيناها تبرقان بحب الاستطلاع. رأتني فرأت شغفاً داكناً كفجر كاذب، كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية، وشموس قاسية، وآفاق أُرجوانية، كنت في عينها رمزاً لكل هذا الحنين، وأنا جنوبي، يحن إلى الشمال والصقيع".



    وربما يأخذ كثيرون على الطيب صالح أنه ظل يعبّر عن سودان المركز، أو الهوية الاسلاموعروبية في السودان، وهو أمر حقيقي، الا أنه يعبر عن تفكير عيله القديم، وعن هموم ناسه، ولحظتها لم يطرح الناس هنا سؤال الهوية، وهو مشروع كبير، لكن هل من الضرورة أن يتحول الأديب الى مشروع سياسي ؟. وهل الكتابة هي أداة تعبير لمشروع فكري ، أم هي حالة مزاجية تعبر عن مزاج كاتبها؟.



    ولا أرى من الصواب محاكمة الرجل، ونصب مشنقة أخرى على شاكلة مشانق محاكم التفتيش الانقاذية، بقدرما نعتبر مشروعه الأدبي مساحة للحوار الفكري، وللجدل، ولما لم يقله، وقاله ، ولا يعبر عن شرائح كل السودانيين، ولا أريد هنا تشريح كتابات الرجل أدبياً فأنني لن أضيف شيئاً، ولن أقول أكثر مما قاله رجاء النقاش، أو غيره من النقاد، لكنني أحتفي هنا بسؤاله القديم والمتجدد " من أين أتى هؤلاء الرجال؟" . أهم منا؟. أم من لا وعينا الجمعي، أم من حقل الهيمنة؟. أم هم أناس غرباء جاءوا الينا من كوكب آخر؟.
                  

03-02-2009, 07:49 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    صحيفة أجراس الحرية
    http://www.ajrasalhurriya.net/ar/news.php?action=view&id=2124
    --------------------------------------------------------------------------------
    الكاتب : admino || بتاريخ : الإثنين 23-02-2009
    عنوان النص : حوار مع الطيب صالح (2)
    فايز السليك

    : أرض بلا إنسان أم حنين بلا تنمية؟.

    كتبت يوم أمس أن ما يعنيني أكثر من الحوار مع الأديب الراحل الطيب صالح هو سؤاله الكبير، القديم، المتجدد، والذي طرحه ذات قهر، وهو سؤال حول مصدر أفعال الحكام، وهل هي تشبه الناس العاديين من شعوبهم؟ أم لا تشبههم لأنّها أفعال لأناس قادمين من كوكب آخر من كواكب الكون؟. وهو ذات السؤال؛ من أين أتى هؤلاء الناس؟.
    ويوم أمس جاءني صديق عزيز جمعتنا ظروف ذات زمن بعيد، وفرقتنا ذات ظروف الحياة الصعبة، ونحن نعيش في أزمنة الشتات والنزوح، فباغتني صديقي بنص كامل لمقال الكاتب الكبير الطيب صالح في مجلة المجلة في بداية تسعينيات القرن الماضي، ويقول المقال الذي وصفه بعض مثقي السلطة آنذاك؛ بأنه وضع حركة التجديد في خطر " السماء فوق أرض السودان ما تزال صافيةً، أم أنهم حجبوها بالأكاذيب، هل مطار الخرطوم ما يزال مزدحماً بالنازحين يريدون الهروب الى أي بلد تقلهم، وكأني بهم منذ عام 1988 يعلن عن قيام الطائرات ولا تقوم، لا أحد يكلمهم، لا أحد يهمه أمرهم، جامعة الخرطوم مغلقة وكذلك كافة الجامعات في جميع أنحاء السودان.. الخرطوم الجميلة كطفلة صغيرة ينيمونها عنوةً منذ الحادية عشرة، تنام باكيةً في ثياب باليةً، لا ضوء في النوافذ، لا ضحك في الحناجر، لافرح في القلوب، والسادة الجدد لا يسمعون ولا يعقلون ويظنون أنهم موقنون من كل شيء.. نهر النيل العظيم يسير سيره الصبور، ويعزف لحنه القديم والسادة الجدد يزحمون شاشات التلفزيون ومايكرفونات الإذاعة، يقولون كلاماً ميتاً في بلد حي في مضمونه، يريدون أن يميتونه، ويستتب لهم الأمر.. من أين جاء هؤلاء الناس؟. أما أرضعتهم الأمهات، والعمات والخلالات، أما اصغوا لرياح الشمال، واستمعوا لمدائح حاج الماحي، وأغاني سرور" ويعزف الطيب صالح ذات المقطوعة الساحرة، ويطرح ذات التساؤلات " هل حرائر النساء من سودري وحمرة الشيخ وحمرة الوز مازلن يتسولن في شوارع الخرطوم؟. والسادة الجدد يحلمون بإقامة شريعة على جثة السودان المسكين ليبايعهم أهل الشام، وأهل مصر وبلاد المغرب ، هل أسعار الدولار ما زالت في ارتفاع؟. وأقدار الناس ما زالت في انحطاط؟. من أين جاء هؤلاء الناس؟. بل من هم هؤلاء الناس؟.
    ربما أديبنا الكبير يظن أن كل الناس في السودان مثل ضوء البيت، أو مثل مريود، او حتى السياسي محجوب، يعزفون لحن الوجود بعفوية، ويوزعون الابتسامات مثلما يفعل "الزين في عرسه" وهو عرس أعجوبة، ودهشة في زمن قلت فيه الدهشة، وذهبت متعتها التي كان يغني لها شاعرنا المبدع عمر الطيب الدوش" وامتع نفسي بالدهشة".
    وربما يقفز أحد المتطرفين ويرد على كاتبنا الكبير أنهم من "رواياتك"، أو أنهم من "خيباتنا وهزائمنا وانكساراتنا"، وهم باقون لأن من بيده فعل التغيير حالياً يقف ضد التغيير، اما لأسباب ذاتية، أو أسباب لا نعلمها لكن الله يعلمها، وقد يعلمها ذات الناس الذين نتساءل من أين أتوا؟..
    وربما يقول قائل إنهم منا والينا، ونحن بهم ولهم، مثلما أجاب الطيب نفسه بعد حوالى الـ(15) عاماً من تفجير السؤال!. بالطبع نحن لسنا قديسين، أو ملائكة مثلما ندعي بأننا "أفضل شعب، وأكرم شعب" في وقت نكاد نغطي جلد الأرض بانتشارنا نزوحاً وهروباً وجنوناً، ويكاد دمنا المسفوح يشكل ينبوعاً من الأحزان في قلب وطن يئن من وطأة الظلم.
    هو سؤال يجب أن نطرحه بشفافية، ويجب ألا نخجل من طرحه، ومن مناقشته، ومن نتائج ذلك النقاش لأننا بذلك نكون قد فارقنا طير النعام، وسرنا في الدرب الصحيح؟. وربما يكون السؤال بعده؛ أكثر عمقاً من نحن؟. وما هي هويتنا ؟. وبالطبع يجر السؤال السؤال وتجر الإجابة الإجابة مثلما يعبر شاعرنا الفيتوري وهو يصرخ قلبي على وطني، وأنا أقول أيضاً قلبي على وطني.
    وبعيداً عن السؤال الكبير تستفزني أيضاً دومة ود حامد وهي جدل بين الحديث والقديم، وبين التراث والمعاصرة، وبين التنمية والتخلف، وبين التقدم والتراجع، وهو وضع لا يزال شائكاً، وسؤال لا يزال مطروحاً، وهو يذكرني مسيرة مشاريع التنمية المصحوبة بدماء فوق النهر، وأخرى فوق البحر، وسيل فوق الجبال، وفوق بحيرات النفط!. لماذا تكون التنمية عندنا مصحوبة بالمأساة؟. مثل مأساة شركات الموز في ماكوندو على حد زعم رواية "مائة عام من العزلة" للكاتب الروائي العالمي قابريال قارسيا ماركيز، أما عند الطيب صالح فيطرحها لنا هذا الجزء من "دومة ود حامد، حيث جاء موظف حكومي يبشر النّاس بإنشاء محطة للباخرة، وفي جزء من القصة سأله أحدهم : (( أين تكون المحطة ؟ )) وقال الموظف : إنه لا يوجد غير مكان واحد يصلح للمحطة – عند الدومة – ولو أنك في تلك اللحظة جئت بإمرأة وأوقفتها عارية كما ولدتها أمها وسط أولئك الرجال ، لما أثرت دهشتهم أكثر مما فعلت تلك الجملة – سارع أحدهم وقال للموظف : الباخرة تمر عادة هنا يوم الأربعاء، فإذا عملتم محطة هنا فإنها ستقف عندنا عصر الأربعاء ، فقال الموظف إن الموعد الذي سيحدد لوقوف الباخرة في محطتهم سيكون في الرابعة بعد الظهر من يوم الأربعاء - فرد عليه الرجل : ( لكن هذا هو الوقت الذي نزور فيه ضريح ود حامد عند الدومة. ونأخذ نساءنا وأطفالنا، ونذبح نذورنا، نفعل ذلك كل أسبوع .
    فرد الموظف ضاحكا : (( إذا غيروا يوم الزيارة )) . ولو أن ذلك الموظف قال لأولئك الرجال في تلك اللحظة إن كلا منهم ابن حرام لما أغضبهم كما أغضبتهم عبارته تلك. فهبوا لتوهم هبة رجل واحد ، وعصفوا بالرجل وكادوا يفتكون به، لولا أني تدخلت فانتزعته من براثنهم، وأركبته حمارا وقلت له انج بنفسك. وهكذا ظلت الباخرة لا تقف عندنا. وما نزال إذ اضطرنا الأمر وأردنا السفر، نركب حميرنا ضحى كاملا ونأخذ الباخرة من البلدة المجاورة، لكن حسبنا أننا نزور ضريح ود حامد ومعنا نساؤنا وأطفالنا، نذبح نذورنا كل يوم أربعاء، كما فعل آباؤنا وآباء آبائنا من قبل".
    والسؤال ما هو الأهم التنمية أم الإنسان؟. وهل من تنمية من غير انسان؟. ثم لماذا تندلع الأزمات بين الحكومات والسكان المحليين؟. أهي الوصايا والاستعلاء؟. أم "المكاجرة السياسية لكل ما هو آت من الحكومة"؟. أم هو غياب الحوار والمنطق؟. .
    هي أسئلة يجب أن تطرح لمناقشة مشاريع السدود وترحيل الناس من مناطقهم، ومعرفة أيهما أكثر فائدة؟. الأرض بلا ناس؟. أم حنين بلا تنمية؟. أم يمكننا العبور الى طريق ثالث يحقق التنمية ويحقن الدماء، وهو في دومة ود حامد " (( وهل تظن أن الدومة ستقطع يوماً ؟ )) فنظر إليّ ملياً، وكأنه يريد أن ينقل إليّ خلال عينيه المتعبتين الباهتتين ما لا تقوى على نقله الكلمات (( لن تكون ثمة ضرورة لقطع الدومة. ليس ثمة داع لإزالة الضريح. الأمر الذي فات على هؤلاء الناس جميعا أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء.. يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة)) .. فهل ما تقوله القصة ممكن التحقق عملياً في أمري وكجبار أم هو حلم أديب، ومشروع فلسفي على الورق؟.
    إنّ روايات الطيب صالح وأسئلته تصلح لحوار سياسي، وفكري ليكون احتفالنا بأديبنا الراحل ليس مجرد احتفاء بروتوكولي وبكاء دون أن نعرف من هو الميت؟. أو تشييع رسمي لمجرد أن الرجل تراجع في لحظة ضعف انساني عن بعض أسئلته الكبيرة، أو أجابها بذات الطريقة السودانية العفوية" هم طيبون مثلنا، ولو كنا نعلم أنهم كذلك لما بعدنا كل هذه المسافات"؟.
                  

03-02-2009, 08:03 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    صحيفة أجراس الحرية
    http://www.ajrasalhurriya.net/ar/news.php?action=view&id=2100
    --------------------------------------------------------------------------------
    الكاتب : admino || بتاريخ : الأحد 22-02-2009
    عنوان النص : للطيب صالح أقوال فى حضرة الشعب
    كمال الصادق


    : خيم الحزن ليس على السودان وحسب وانما في العالم كله لرحيل الروائي العالمي الطيب صالح الذي ورى جثمانه الثرى يوم امس بمقابر البكرى بأمدرمان وقد اثار رحيله حزنا عميقا في الاواسط الادبية والثقافية وقال روائيون وشعراء مصريون إن رحيل الطيب صالح افقد الرواية العربية رافدا أساسيا للعالمية والتجديد، وطالبوا بإعادة قراءة أعماله التي أبدعها بالعامية السودانية، واقترح بعضهم إطلاق جائزة باسمه للراوية العربية


    واليوم نترك هذا الباب للزميل محمد صالح عبد الله يسن فماذا قال :



    عملاق السودان الذى به أصبح اسم السودان مردداً ومقروناً به، فى سماوات الأدب وفضاءات الإبداع، عرف السودان قبله فى ضروب الحياة المختلفة ولم يعرف العالم شيئاً عن وجه الحياة الثقافية والاجتماعية فى ارضه، حتى ظهرت روايته المشهورة موسم الهجرة الى الشمال. هذه الرواية الساحرة والعظمية المضامين والمحتوى كانت هى بوابة السودان الثقافية للعالم الخارجى. فالطيب راوية وعلامة انساب اديب رضع من صهيل الأمواج من امواهٍ معتقة ممزوجةً بسحر الفراعنة وزنارات آلهة الهوى فى فسطاط مروى وأضرحة الفونج وقباب السلطنة الزرقاء



    عاش طفولة مليئة بالحيوية والنشاط امتلأت ذاكرته بأقاصيص الجدات وحكاياتهن من خلال مجالس الأنس وأسمار العشاء الدسمة والرطبة. الطيب كان سودانياً فى كل شىء عبر عن مجتمعه بشفافية وصدق متناهي نقل فى رواياته الحياة السودانية بكل تفاصيلها المعلنة والخفية، تجاوز مقعدات الإبداع وأباطيل الالتزام كان يحشد المفردة والعبارة فى الاتجاه المعاكس. خمسون عاماً قضاها الطيب فى منافي الدنيا بين لظى التسفاروهجير الغربة عاش سفيراً بلا سفارة وأميراً بلا جيش أو امارة عاش فقيراً، ومات وهو اشد فقراً شانه شان عظماء التاريخ الذين مضوا وعبروا. ترك الطيب لورثته ثروة ضخمة من الموارد الحضارية المنتجة سيشغل بها الدنيا ومن أمسى عليها. نعم!! هو الآن فى حضرة الشعب مومياء محنطة مثل ملايين الجثامين لكنه مومياء فكرة وعبقرية، تنعم بها السبخة التى احتضنتها



    الطيب صالح كتيبة هزمت جيوش العنصرية وطواحينها البغيضة كانت أنفاسه الحرى شُعلٌ من نارٍ تُضيء الطريق وتهدى الى قصد السبيل، قدم أنموذجاً لحوار الحضارات فى روايته عُرس الزين اما دومة ودحامد فقد أسس بها لتفاهمات وعلائق ووشائج بين مكونات المشهد الثقافي السوداني



    الطيب بنبوغة وعبقريتة تعرف العالم على شجرة الدوم التى ظلت نسياً منسيا (كأشجار الاسئلة الكبرى) من أجيال الأشجار النكرة فى التعاطي الثقافي السوداني، حتى أصبحت بفعل هذه الرواية ضمن مكونات الحالة الإبداعية فى العالم، وتحولت شجرة الدوم الى أسطورةٍ تفيضُ بالقداسة والكبرياء، سبقت أفكاره مساجلات مدرسة الغابة والصحراء وجعل من النيل صولجاناً يلمعُ بالضياء في قلب الصحراء الموحشة ليس له أنيس إلا المجرات والنجيمات البعيدة، ان الطيب صالح عرف كمبدع فى أرقى مؤسسات العالم التى تصنع الأفكار وتنتج القيم الانسانية النبيلة حتى أضحى قريب المنال أو قاب قوسين او ادنى من جائزة نوبل التى استحقها كثيرون اقل قامة منه فى العطاء والانجاز



    الآن وبفقده يكون الراهن الثقافي في العالم قد فقد ضلعاً ضليعاً سيشتكي من فقده السهر والحمى وبموته يكون السودان قد فقد جملة هامة من جمله المفيدة، وخلا مقعداً قل ان يوجد من يشغله فى ظل التعقيدات التي تمر بها ثورة المعرفة الرقمية فى عالمنا المعاصر

                  

03-03-2009, 05:19 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    التاريخ: الإثنين 2 مارس 2009م، 6 ربيع الأول 1430هـ

    أفق آخر
    اوباما ،، ومحيمد ،، ومريم الأخرى

    عادل عبد الرحمن عمر

    ـ1ـ
    كان وديعا حين افترقنا.. رأى هو بلاداً جديدة ونساء شقراوات ، وليال تبدو اقرب للخيال.. لكنه قضاها في القراءة ومعاقرة المستشفيات والعمليات الجراحية في مدينة «شيكاغو» الساحرة. الح علىّ ان التقيه ولو لساعة ، وبطريقته الوادعة حملني اليه رغم المرض لأجده قد غير نبرته وبدا أكثر تأثرا بالآلة الإعلامية الأمريكية التي تصوب سهامها على السودان وقضية دارفور والفساد وما فعله الإسلاميون « في البلد « وقد كان معبأ لدرجة لم استطع ان ألاحقه ... معجب كثيرا بالرئيس الجديد لأمريكا .. لكنني ما زلت امتلك كثيرا من المعزة.. لأحاول ان اعدل في الصور المقلوبة المركزة على بلد يحاول النهوض والخروج من أزماته المتلاحقة لكن قناعاته كانت اكثر قوة، خاصة عن القتل في دارفور... ولما ذكرته بصور ماثله أكثر وحشية وفاشية حدثت في العدوان على غزة تحت سمع وبصر القوى العالمية المحترمة التي تقدس حقوق الانسان وحفظ كرامته... اعتصم بجدار «دارفور» والمحكمة الجنائية الدولية التي لم يرمش لها طرف لكارثة غزة الاخيرة.
    صديقي ابن اصيل للسودان خرج باحثا عن العلم فاصطاده ويد أخرى تعمل بشعارات لا تطبقها على نفسها ولا على الظالمين حقاً ...عدالة مجروحة وكيل بمكيالين لكن صديقي ما زال يحب وطنه وان اختلفت درجة الحب وطريقته المختلفة ... حيث الوطن يحل امه اعز ما في الوجود... وحبيبة ارّقه الوصول اليها لأسباب شتى مثل هذا المواطن المجروح سيجد بعد حين كل الوطن يناديه بحب خاص مثل انتظار حبيبته النبيل ليأتي يوما ما .
    - 2 -
    في صيف ساخن والايام في السودان كلها صيف... جتهد أهل اليسار بعد الانتفاضة... وفي دار اتحاد الكتاب دعوة مجيدة للراحل الطيب الصالح ... والدار وقتها مكدسة بالمثقفين وأدعياء الثقافة ذهبنا أنا والاخ المحبوب عبد السلام... وعند المدخل وجدنا اعدادا مهولة من اهل اليسار الذين تغامزوا علينا وتجرأ احدهم وسألنا عن سبب قدومنا!... وهكذا كانت الخصومة في الجامعات بين الشيوعيين والإسلاميين فالطائفة الاولى تحتكر الابداع والطائفة الثانية تحتكر الدين .
    لا أجد أفضل من الاخ المحبوب عبد السلام ليكتب عن الطيب صالح فقد تلازما كثيرا خاصة في السنوات الخمس الاخيرة ...أذكر ذات مرة حدثني المحبوب عبد السلام عن العديد من تعليقاته وقفشاته المختلفة تارة تبدو مثيرة وأخرى مدهشة ولكن كلها تقع في حيز الغرابة والسحر ، أما الطيب صالح فقد أفقده الزهد السوداني الكثير من الانتشار فيما عمق هذا الزهد وذاك التواضع إحساس الناس به .. في الوقت الذي احتفى به المبدعون بفنه الخلاّق فالطيب صالح طرق ابوابا عديدة في الادب اذكر في تلك المحاكمة حاول البعض ان يشبهه بجورج امادو وماركيز .... فقرأ لهم بطريقته الفذة أبياتاً من شعر المتنبي الذي يوضح فيه أصالة الفن العربي وأسبقيته في تناول أدب الرحلات فالروائي الكبير تناول الأسطورة وقولها قبل ماركيز وذلك في مريود وعرس الزين ... اما من اهل اليمن فالكثير منهم يحب الطيب الصالح ويدرك عبقريته الفذة ... ومثلما ذكر د. عبد الله علي إبراهيم رجلاً بلا مزاعم سوداني حتى النخاع .....خالص ـ تماما ـ ولذا دفن في مقابر البكري حيث يوارى الثرى كل عباد فقراء السودان .
    ومثلما قال الأستاذ الرائع محمد خروب كيف يبلغ الرجل الثمانين !!!!
    - 3 -
    يظن ان الحبيبة واحدة .... هذا الحديث صحيح ولكنه يحتاج الى استدراك . قد يجدها صيفا او شتاء .. وأحيانا عند الربيع في بدايات العمر ... أو أسفله ـ تماما ـ ... يأتيك الحب حيث لا تحتسب ... قد تجد ما يشبه حلمك .... ثم عند منتصفه او نهاياته لا تعرفه ... تنكره ... لم يخرج كاملا للوجود ... بينما تجدها عند حافة الزمان شهية طازجة تحمل كل الحلم الذي تتمناه ... أقرب للتقوى فعلا وعملا تشبه النخيل في السمو والنيل في العطاء وفل الحديد في العناد والإصرار وملح العرق الغزير في التواضع الجم .
    هي مريم الأخرى التي تبحث عن رجل يشبهها في الحنين والعطاء والتجرد ... ثم الرغبة المحمومة التي تخاصم ذلك الزهد الاستثنائي !!!
    انه حلم لكنه حقيقة الآن ... للذي نذر حياته بحثاً عن حلم في زمان نازف ... مريم الأخرى سمراء فاقع لونها ... واثقة الخطوة ... مليئة الهمة ...ناهدة الصدر في كبرياء ساطع ... تبدو امرأة كثيرة ... بعينيها الصغيرتين الحلوتين يفتح الآفاق كله !!!!
    أكثر ما تبدو عليه تصالحاً مع النفس صادقة إلى درجة جارحة ... فالذي قضى زمانه يعانق المحال وجدها ـ هكذا ـ تلقائية وعفوية يحاول ان يرتب نفسه مع هذه البساطة الساطعة في هذا الزمن الصعب « وفي ذات الوقت يرنو ان يحملها الى زمانه المكدس بالتعقيد والأحلام المستحيلة !!!!!
                  

03-03-2009, 05:54 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    في حُزْنِ بَيْروْتَ عَلَى الطيّب . . بقلم: جمال محمد ابراهيم*
    السبت, 28 فبراير 2009 21:03

    أقربُ إلى القلْب :

    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته
    1-
    هي بيروت تسأل عنكَ أيّها الراحل ، وقد طال انتظارها ليزورها قلمك ، وأنت واهن الجسم ضعيف الكلى ، تستضعفك لندن التي ألفت ، ولكنها بيروت هي التي أحبتك أكثر ، تبحث من ظمأ مطابعها، إلى حرفك الجميل يزدهي فيه حبرها ، لتخرج كتباً وأسفاراً مذهبة بروحك الطيب الصالح . تلك "دار العودة" في دارها العتيقة في منطقة كورنيش المزرعة بوسط بيروت ،ما زال أحمد سعيد محمدية هناك يلهف في السؤال عنك قبيل الرحيل الكبير ، وما أسعفته أنا باجابة ترمم فجوات السؤال والشوق إلى قلمك وقد أقعده المرض . عالقة بذاكرته التي وهنت قليلا ، تلك الدهشة التي عقدت محبته بـ"موسم الهجرة إلى الشمال" ، حين رآها أول مرة مطبوعة في مجلة "حوار" فبعث بها إلى مطابع داره لتخرج لأول مرة كتاباً مستقلاً مبهرا ، حتى قبل أن يلتقيك ويتعرف إليك في سنوات ستينات القرن العشرين. ذلك كان قبل أن يروّج للرواية رجاء النقاش في طبعتها عن "دار الهلال".
    هي بيروت تسأل زواريبها و"روشاها" ومقاهيها عنك أيّها الراحل الكبير ، فما يرجع إليها إلا الصدى المسافر في "الأفق البعيد" . . قهر الحزن صديقك وناشرك العزيز "رياض الريس" هنا ، وألجم لسانه . تحجرت في عينيه دمعة لحقت بدمعة سبق وأدمت قلب صديقنا ، ساعة رحل صفيّه المناضل الشاعر الشفيف كزهر اللوز، محمود درويش . أجل ، ليس لساحل بيروت - وفيه صخرة المنتحرين تلك - سحر وغموض شواطيء نيلك أيها الطيّب ، غير أنّ لتلاطم موجه جرساً يماثل خفقان نيلك في السودان ، حين يضطرب جامحاً فيأخذ في أحشاء فيضانه ما يأخذ ومن يأخذ . . وإلا فأين اختفى مصطفى سعيد ؟
    هي بيروت تسأل ، حتى وأنت مسجّى ، تحمل جثمانك الطاهر طائرة من لندن ، أبتْ أقدارها إلا أن تستجيب لنداء بيروت تطلبك لنظرة أخيرة ، فحلت بمطار رفيق الحريري هنيهة ليكون وداعاً أخرساً مكللاً بجلال الموت ، ثم غادر جثمانك الطاهر إلى وطنك ليحتضنك ترابه الذي جئت منه وأبت إليه .
    حمّلتني بيروت العزاء إلى ذويك وإلى أصدقائك وإلى سودانك ، بل وإلى قرائك في أقاصي أرض العروبة والعالم الفسيح . طلبتُ صفيّك "محموداً" ذلك النهار ،فأجابني الهاتف مضطرباً منكسراً ، فعزيته و"بشير الصالح" شقيقك معه ، مثقلين كانا بهموم السفر وزحام المعزّين المكلومين في مطار لندن . لو أن عاصمة عربية غير الخرطوم ، شرقتْ بدموع حسرتها على خسارتها فيك ، فهي بيروت . لو أن عاصمة ستفتقد صدق محبتك لها وطول مكثك فيها ، فهي لندن . وبين العاصمتين تهادى إبداعك محمولاً على هوادج الخيال ، مشبعاً بتراب قرى الشمال ، مهرجاناً من كتابة مثل بريق الماس والتماع اللؤلؤ، معلقاً على جيد التواضع .
    2-
    قال لي الأستاذ الناقد اللبناني الصديق "سليمان بختي" معزياً ، دعنا نبكيه بطريقتنا : تأبيناً أو تظاهرة بكاءٍ ، تستعيد عبرها بيروت روحه السمحة ، مقترحاً أن يتاح لعروس المتوسط حزناً تصوغه على طريقتها ، وأن تبكيه بما أجزل لها من محبة ، فقد كان الراحل الكبير يعدّ بيروت " إحدى نعم الدنيا التي أنعم الرّب بها على الناس ، وله الحمد عليها . . " . أمّنتُ على قوله ، والفكرة تجول في الخاطر منذ سمعت برحيل الطيب ، بأن يكون لبيروت تميّز في بكائها فراق الطيب ، وهي التي شهدت مطابعها ولادة روايته التي اهتزت لها كل فنون الابداع ، رواية "موسم الهجرة إلى الشمال " وقد أطلت في عدد من أعداد مجلة "حوار" في أوائل الستينات من القرن الماضي. مجلة "حوار " هي المجلة الرائدة ، والتي أثارت جدلا واسعا في ساحة الأدب العربي تلك السنوات ، بسبب ما شاع في فترة لاحقة ، من صلات لها مع المخابرات الأمريكية . صاحبها هو الأديب اللبناني الراحل توفيق صايغ . ومن السودانيين الذين نشروا بعض أعمالهم فيها ، الراحل الأستاذ جمال محمد أحمد وقد كان أحد مستشاريها الكبار . الراحل جمال هو من بين الذين رأوا مبكراً عظمة ما كتب الطيب وأوصوا بالنشر في "حوار" .
    أتذكر تلك المجلة الضخمة ، في لون غلافها الحليبي ، ورواية عبقري الرواية العربية ، تحتل حيزاً كبيراً منها . . أجل مررت على هذه النسخة من مجلة "حوار" في تلك السنوات البعيدة ، وعودُ التذوق الأدبي عندي بعدُ أخضر طريّ . . استوعبت في تلك السن الباكرة بعض ما في روايته ، ولكن فاتتني بالطبع ، أشياء كثيرة فيها .
    قرأت بعد ذلك روايته القصيرة "عرس الزين" في عدد قديم صدر في ستينات القرن الماضي أيضاً من مجلة "الخرطوم" ، مزينة برسوم تاج السر أحمد . سحرتني قصة "الزين" ، مثلما سحرت أجيالا بعد جيلي. بعدها بسنوات قليلة أنجز الرواية المخرج الكويتي خالد ومثلها صديقنا العزيز الفنان "علي مهدي" ، وأدى الفنان التشكيلي الكبير "ابراهيم الصلحي" دوراً رئيساً فيها . وجد الشريط طريقه إلى مهرجان "كان" ، وأظنها المرة الأولى والأخيرة التي ولج عمل فيه اسم السودان إلى ذلك المهرجان السينمائي الدولي المميز في فرنسا . ليت وزارة الثقافة في الخرطوم تتعهد بالتنقيب في ارشيف المجلة لتخرج طبعتها تلك من جديد . .
    3-
    حين التقيت بنقيب الصحافة اللبنانية ، أستاذ الأجيال محمد البعلبكي ، لأقترح عليه ما خططت له ليوم عزاء نخصصه للراحل الكبير ، وجدته من فرط حماسه ، يكاد أن يقوم بالأمر كله ، ويردد لي أن الطيب شأن لبناني مثلما هو شأن سوداني ، بل هو شأن عربي في تكوينه وابداعه . سألت عن مجلة "حوار" ، إن كان ميسراً الحصول على ذلك العدد القديم منها الذي نشر "موسم الهجرة إلى الشمال" ، فدلني معاون نقيب الصحافة إلى د.جميل جبر ، وهو من قدامى سدنة مجلة "حوار" . وصلت إليه بهاتفي فوجدته يشكو من علة مؤقته ، لكنه عبّر عن عظيم حزنه على رحيل الطيب وخسارة الرواية العربية لأحد عظمائها . أجل ، أكد لي أن نسخة واحدة بقيت عنده ، بعد احتراق أرشيف المجلة إبان الحرب الأهلية الطاحنة في لبنان بين 1975 و1990. وعدني بنسخة مصورة من الصفحات التي حملت لقراء العربية وللمرة الأولى ، تلك الرواية التي احتلت موقعها بعد ذلك في قائمة أهمّ وأعظم مائة عمل روائي في القرن العشرين . .
    4-
    ثم كان العزاء ، في يوم إثنين حزينٍ من فبراير /شباط . .
    جاءنا في مقدمة المعزين وزير الثقافة الأستاذ تمام سلام ، يحمل حزن لبنان الرسمي على الراحل . معه دكتور عمر حلبلب أمين عام الوزارة ، يقولان إن خسارة العرب والأدب العربي كبيرة ، وأن العزاء أنه خلد اسمه بأعماله الأدبية العظيمة . وقف في صف المعزّين الناشر الكبير رياض الريس ، ذلك الناشر المميز الذي خرجت كل أعمال الراحل الطيب صالح الأخيرة عبر داره النشطة . قال لي رياض أن بيروت وهي تهيء نفسها عروسا للكتاب العالمي هذا العام ، تحزن إذ يغادر الطيب في عامها العالمي ، وقطع وعداً بأن يكون الراحل هو محور مشاركة "رياض الريس للنشر" في معرض بيروت الدولي في دورته الثالثة والخمسين، وأن جدارية سيجري تصميمها للراحل ،وطلب إليّ أن نعد ونساعد في اعداد أمسية تخصص له ولأعماله وأن تكون تظاهرة تميّز معرض بيروت العريق للكتاب العربي والدولي في عام 2009 .
    جاءت في صفّ المعزّين من كتّاب وروائيين وشعراء وموسيقيين وصحافيين ، الروائية الكبيرة إميلي نصر الله ، و"طيور أيلولها" أكثر حزناً منها . تداعت ذكرياتها مع الراحل واستذكرت أيام التقته في البي بي سي عام 1965. واصطف الحزن ساعات في دار نقابة الصحافة في لبنان ، طويلا ، طويلا . . هو نوع من الحزن الذي يستولد نفسه ، دمعة إثر دمعة ، وذكرى إثر ذكرى . كتب صديقي عمر جعفر السَّوري :
    (( هكذا يتركون أماكنهم ومقاعدهم ويرحلون واحدا تلو الآخر، رحيل خارج المكان، بل خارج الزمان كما نعده نحن ونجرده في دفتر الحساب، ثم نعيد جرده حتى لا نسقط في الامتحان، وليس الزمان بمفهومه اللامتناهي في أبد الآبدين . . ))
    أيها الراحل من ضيعة الأدب إلى ضيعة الخلود ، طبت وصلحت وتبارك مقامك السماوي، فقد كنت وجهاً طيباً لبلادك ، فما نبذتك كما أشاعوا ، ولا أدبرتْ عنك وقد حدّثت عنها وعن سحرها العربي الأفريقي الملتبس . بين المائة الأعظم أثراً من مبدعي العالم في القرن العشرين ، جئت أنت أولهم . .
    *سفير السودان - بيروت
    بيروت فبراير/شباط2009
                  

03-09-2009, 07:38 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    الطيب صالح بين الشيوعيين والاسلاميين ... بقلم: طلحة جبريل
    الأحد, 08 مارس 2009 13:39

    [email protected]
    كنت أظن انني احتاج الى الكثير من الوقت، حتى تتوارى صورة بقيت في ذاكرتي منذ ذلك الصباح. صورة رجل ملفوف بعلم وطنه يصلي عليه الناس في الصباح الباكر في "مقابر البكري" في امدرمان.
    كانت رحلة ثرة تلك التي بدأت في نهار قائظ من صيف بعيد في قرية "كورمكول" وانتهت ذات صباح في "مقابر البكري".
    كنت اريد مسافة زمنية لأحدد ماذا أكتب وكيف ساكتب ومن أين أبدأ، وايضاً حتى لا تختلط المشاعر الشخصية مع الوقائع. الناس تعتقد دائماً ان الصحافي يجب ان يكون راوياً لا يعتمد على الذاكرة بل على الوقائع موثقة ومسجلة ومكتوبة. بل ينتظرون منه أن يكون في بعض الأحيان شاهداً وليس راوياً فقط. وهم محقون في كل ذلك. ثم انني وجدت ان ما كتبته في لحظات صعبة ومريرة ومحزنة، يكفي ويفي بالغرض ، خاصة ان الأمر لا يجوز له ان ينزلق من "رثاء " الى " سجال".
    كما اعتقدت انه من الافضل الابتعاد لبعض الوقت عما يجري لنا ويجري حولنا، وليس فقط الحديث عن الرجل الذي تمت مواراته الثرى في "مقابر البكري"، بل لعلني وجدت انه من الافضل البقاء خلف حواجز وتفادي القفز عليها اعتباراً لكبرياء وطن وولاء مواطن. وفي ظني ان البقاء خلف هذه الحواجز يجد تبريره في ان المزاج العام حالياً ساخن حتى لا أقول منفلت.
    لقد اعتقدت دائماً ان الصحافي لابد ان يقف دون تردد أو تلعثم بين فترة واخرى ليجعل صوته مسموعاً ومفهوماً ثم ليكن بعدها ما يكون، لكن بشرط ان يصل هذا الصوت.
    أعود الآن لما اريد الحديث عنه، اي علاقة الطيب صالح مع الشيوعيين والاسلاميين، ويجب علي القول إن صديقاً عزيزاً تحدث معي حول الموضوع ، وكان من رأيه ان اكتب عن ما أعرف، ووجدت ان حديثه لا يعوزه المنطق. لذلك ودون أدعاء سألت نفسي إذا لم اكتب انا فمن ؟ وإذا لم أتكلم الآن فمتى؟
    قرأت كتابات تقول إن الطيب صالح ينتمي للاسلاميين منذ أن كان طالباً في كلية الخرطوم الجامعية، وقرأت إنه كان أحد مؤسسي هذا التنظيم، كما قرأت من يقول عكس ذلك، بل هناك من قال إنه حدث له تحول فكري وأصبح اقرب الى الشيوعيين عندما سافر الى لندن. وقرأت اجتهادات بلا حصر. و بدا لي الكثير مما يلقى على الناس هذه الايام مجافياً لما سمعته من الرجل ونشرته والطيب، رحمه الله، يمشي بيننا، وقبل ان يوارى الثرى في " مقابر البكري". كما بدا لي إن كثيرين مما كتبوا استندوا الى اقوال سماعية من احاديث الناس التي تقال في المجالس. وهكذا يبدو انه لم يكن هناك من قرأ وإنما كان هناك من سمع.
    الآن أقول جازماً إن الطيب صالح لم يكن شيوعياً كما لم يكن إسلامياً، بل لم ينتم الى أي حزب على الاطلاق. أقول ذلك لانني سمعت منه ذلك في أكثر من مناسبة وأكثر من مكان. وأقول ذلك ، وهذا هو الأهم، استناداً الى ثلاث وثائق مكتوبة منشورة وموجودة.
    الوثيقة الاولى هي الكتاب الذي كتبته حول سيرته الذاتية بعنوان " على الدرب مع الطيب صالح" ، وصدر هذا الكتاب عن شركة توب للاستثمار والخدمات في الرباط ولندن ، كما صدرت منه، نسخة مشوهة للأسف عن " مركز الدراسات السودانية" عندما كان المركز في القاهرة.
    هذ الكتاب أطلع عليه الطيب صالح وقرأه كلمة كلمة وسطراً سطراً وفصلاً وفصلاً، وحذف منه بعض المقاطع وكان في رأيه ان تنشر بعد رحيله، وما زلت احتفظ بالنسخة الاصلية للكتاب حيث كتب الطيب وامام المقاطع التي لم يكن يريدها وبخط يده " ارجو حذفها" وهي نسخة تسلمتها منه في فبراير 1995 بعد ان بقيت معه طويلاً ، وفي آخر المخطوط كتب بخط يده ايضاً " يا ... اتمنى عليك ان تحذف المقاطع التي أشرت لها ، أما إذا اردت نشرها ليكن، لكن بعد ان اتوكل على الله ". ونشر الكتاب عام 1997 ، وبعد نشره أشار الطيب صالح على كثيرين من الباحثين وفيهم أجانب بقراءته إذا ارادوا أن يلموا ببعض سيرته الذاتية.
    الوثيقة الثانية حوار طويل نشر على ثلاث حلقات في صحيفة " الشرق الاوسط " بعنوان " الطيب صالح كما لم يتحدث من قبل" ونشرت الحلقة الاولى منه في 13 اكتوبر عام 1983.
    الوثيقة الثالثة حوار أجريته معه في صيف عام 2004 ، ونشرت اجزاء منه ، يتناول انطباعاته حول أول زيارة يقوم بها للسودان بعد سنوات طويلة، الحديث مسجل بصوته وتوجد منه عدة نسخ.
    من هذه الوثائق الثلاث أنقل كلام الطيب صالح عن الشيوعيين والاسلاميين ، حرفاً حرفاً وكلمة كلمة وجملة جملة، قال الطيب صالح رحمه الله:
    *منذ المرحلة الثانوية ابتعدت عن التحزب رغم ان ذلك لم يكن في تلك الفترة امراً سهلاً.
    * عندما كنا ندرس في مدرسة وادي سيدنا الثانوية كان الصراع على اشده بين الشيوعيين والاسلاميين، كنت آنذاك أقوم بأداء الفرائض واحافظ على الدين لكنني لست متديناً بالمعني السياسي والايديلوجي للكلمة.
    * كان صديقي محمود احمد محمود وهو من كورتي ينضم مرة للشيوعيين وتارة للاسلاميين في إطار حب الاستطلاع فقط...وكان كثيراً ما يحدثني عن افكار المجموعتين ورغم ذلك لم أنضم الى اية جهة خلال دراستي الثانوية، فقد وقفت على الحياد.
    *حين انتقلنا الى الجامعة دأبت على التسامر مع مجموعة كانت تضم محمود احمد محمود ومحمد خير عبدالقادر ويوسف حسن سعيد وفتح الرحمن البشير والرشيد الطاهر بكر ومحمد يوسف محمد والذي كان في تفكيره اقرب الى الاسلاميين وانضم اليهم بالفعل في وقت لاحق ، لانه في تلك الفترة لم يكن لهم تنظيم في الجامعة، كانت هذه المجموعة تلتقي بعد المحاضرات خاصة في الامسيات، وكنا نفترش الارض في ميادين الجامعة نتفاكر حول اشياء عديدة نتبادل الرؤى والافكار ، وبعد فترة لم أعد اجالسهم فقد تركتهم ومضيت الى حال سبيلي.
    * الدكتور حسن الترابي أصلحه الله جاء ليقول نريد أعادة صياغة الانسان السوداني . السودان فيه حضارة عمرها على الاقل خمسة الاف سنة ، كيف تريد صياغة هؤلاء الناس الذين هم نتاج لهذه الحضارة.
    * السودان بلد غير عادي لكن جماعة مثل الدكتور حسن الترابي جاءوا وقالوا نجعل السودان منطلقاً لخلافة اسلامية. الخلافة الاسلامية، لم يستطع الامويون والعباسيون اقامتها هل يعقل ان نقوم نحن بذلك.
    *بالنسبة لعلاقتي مع الشيوعيين، اتذكر واقعة حدثت لي ابان دراستي في المدرسة الثانوية، فقد كان المرحوم ابراهيم عبدالله زكريا ابن خالي وهو شيوعي، بل سيصبح لاحقاً من قادة الحزب الشيوعي السوداني ومن اقطاب الحركة الشيوعية العالمية ، كنت ازور ابراهيم زكريا بحكم صلة القرابة ويبدو ان المخابرات الانجليزية كانت تراقب نشاطه، في تلك الفترة جاءنا مدرس رياضيات يدعى مستر سميث وكان شيوعياً، وفي أحد الايام كان مطلوباً مني تقديمه لالقاء محاضرة في الداخلية (داخلية المدرسة) ويبدو أنني اطنبت في مدحه، فاستدعاني مستر لانغ ناظر المدرسة وكان معجباً بي ، وسالني بأدب شديد حول ما إذا كنت مقتنعاً بالكلام الذي وصفت به مستر مستر سميث ، واستغربت في الواقع السؤال، وابلغني ان مستر سميث شيوعي وقال لي إن المخابرات طلبت منه استفساري حول ما إذا كنت شيوعياً ؟ تعجبت جداً لهذه الحكاية، و بالطبع نفيت أن أكون شيوعياً .
    *كنت معجباً جداً بعبد الخالق محجوب كسوداني نابغة، وبفاطمة احمد ابراهيم كانسانة لكنني لم اكن شيوعياً في يوم من الايام.
    *نميري أعدم اربعة من أهم الشخصيات السودانية، اعدم عبدالخالق وكان من أذكى السودانيين، واعدم محمود محمد طه وهو من أكثر السودانيين ورعاً، وأعدم فاروق عثمان حمدالله وهو من أشجع السودانيين، وأعدم بابكر النور أكثر السودانيين تسامحاً.
    *بعد الاطلاع على ...الحياة السياسية في انجلترا وجدت نفسي اميل للاشتراكية العمالية وقرأت الكثير عن الفابيين.
    *لعلني فعلت خيراً في عدم الانضمام الى أي حزب من ، إذ انني اؤمن ان دوري ليس دور من ينضم الى تنظميات سياسية ويعمل من خلالها.
    *أنا أحب السودان حباً شديداً وولائي كما اقول دائماً للامة في صيرورتها.
    هذه هي حقيقة "شيوعية واسلامية" الطيب صالح كما تحدث عنها بنفسه.
    ولا أزيد .
    عن "الاحداث


    في ربوع الطيب صالح : عبقرية المكان .. بقلم: د. عبد الرحيم عبد الحليم محمد
    السبت, 07 مارس 2009 12:07

    1
    بالنسبة الى تلاميذ السنة الرابعة بمدرسة كورتي الأولية في ذلك اليوم من أيام الستينات ، كان ذلك اليوم من أيام الجمعة يوما خاصا بالنسبة اليهم . لقد بدا عليهم فرح طاغ فوعد أستاذ عبد الله القادم من بلدة قنتي سيتحول بعد سويعات الى حلم بأخذهم في رحلة مدرسية طويلة الى "الدبة". انهم طلاب العام الرابع ومن حقهم على المدرسة التي تعود الناس منها انجاح جميع الطلبة في رحلتهم الى المرحلة الوسطى ، أن تتيح لهم من الرفاء ولو كان عنتا على ظهر لوري "الهوستن" الذي سيقوده سائق قدير من قرية الغريبة القريبة من كورتي اسمه "علي أحمودي". ثم أن يوم الجمعة ليس عاديا في أدبياتهم فهو يوم الراحة من عنت الحساب الأملائي وسياط الناظر عثمان أبو شوك المحرقة وتلك سياط كانت أشجار النيم الضخمة بالمدرسة وفية في انتاجها مثلما كان النسيم القادم من صحراء بيوضة وفيا في حمل شذاها المعطر بالخوف والرهبة في نفوس التلاميذ الى الأثير. ويوم الجمعة بالنسبة الى التلاميذ يوم يشوبه حنين غامض وآسر الى أزمنة السفر الى المدن البعيدة فالباخرتين الجلاء وكربكان تمخران عباب النهر ما بين كريمة ودنقلا وتمخران بذلك عباب الطنابير الحنونة للعاشقين اذ هي تتخطف رموش الحبيبة بعيدا الى البناد ر:
    يوم الجمعة ودع وقام
    وخلا أضاى تزيد آلام
    هذا مثلما للجمعة حضور آسر بالنسبة الى المصلين في جامع كورتي العتيق القديم اذ بنهاية الصلاة ومبتدأها يخضب الشيخ ود النقيب المكان بنذر من "النور البراق":
    فياربنا بارك وصل وسلما
    على المصطفى والآل والصحب دائما
    صلاة تفوق المسك عطرا مفخما
    ان الأذن العاشقة التي يطربها النور البراق والأنف العاشقة التي يأتيها عبير النيم والسدر والسيسبان والطلح الصباحي القادم من نسائم بيوضة ووادي المقدم هي أذن خبيرة بأسرار أصوات اللواري وتنغيمها الحزين وهي تجاهد لتفك عجلاتها الضخمة من اسار تلال الرمل العاتية على الضفة الأخرى للنهر ، اما قادمة من كريمة لتفرغ حمولتها من القادمين بعد غيبة أو متجهة اليها لتفرغ جوفها في عربات قطار البخار العتيق في رحلاته الطويلة عبر الصحراء تارة مفارقا لننيل وتارة مقتربا منه محييا ومغازلا ومرافقا قبل أن يتوقف ليملأ الكماسرة أزيار الماء الضخمة لدى سندة أو محطة كبيرة. قطار تفوح من عرباته رائحة اللحم المحمر والقراصة المتمرة زادا للمسافرين وشنط الصفيح الملأى بطحين القمح وقوارير السمن وأكياس الفول المصري للأحباء هنالك في العواصم . تلاميذ مدرسة كورتي الأولية في اتجاههم الى الدبة انما يعبرون القرى كغيرهم من الذين كتب عليهم السفر كماكتب على الذين من قبلهم فالترحال الى جوف المدن البعيدة أصبح قدرا في مكان كان مصدر استقرار وخير للناس في أزمنة سحيقة . ان عبور القرى شيء يستوي فيه التلميذ وسائق اللوري في تلك المنطقة والعاشق كحسن الدابي القائل:
    أتكرن وأبقى فلاتي
    وراك يازهرة الشاطي
    وتلاميذ مدرسة كورتي الابتدائية أنفسهم هم احدى نتاجات ذلك السفر اذ تجمعهم على اختلاف قراهم على ضفتى النهر داخلية المدرسة مثلما تجمع زملاء لهم يأتون من المدارس الصغرى المجاورة للدخول الى السنة الرابعة في فصل رابع مواز لصف المدرسة الرابع الأصلي واسمه "رابعة راس" . الضوضاء تسود المكان والطلاب يتحلقون بنفاذ صبر حول لوري الهوستن . البعض عهد ليه بتجميع الحطب مما يؤمنه الى ضباط الداخلية اعراب مجاورون مثل جقود العربي وآدم البوم وغيرهم . المساعد "جنقة " صورة ملازمة للوري قرية الغريبة كزملاء له على لواري الضفة الغربية للنهر وسائقيها عطاية وعبيد الله وجابر السواق وهنا على ضفة كورتي الى جانب علي أحمودي هناك أحمدي من منصوركتي وصابر جرا الذي خلده شاعر المنطقة الراحل عبد اله محمد خير . من زملاء المساعد جنقة على الضفة الأخرى عبد الغفار حاج خميس ورحمن ود حميد وطلب ود حوة وابراهيم قمرن وبشير اب اضنين وغيرهم وقليل منهم وجدوا فرصة الترقي الى سائقين. وبينما يعود لطلاب الذين قاموا بتحضير الحطب ووضعه على تندة اللوري ، يكون آخرون قد تأكدوا من سلامة قرب الماء على حين يلوح من بعيد العم "مطر " الفراش قادما بكبش ومستعينا بحلل نحاسية ضخمة قامت الطاهية مكة وعواسات الداخلية اليمن وفردوس وسلامة سيدو بتنظيفها . الأستاذ عبد الله يشرف الآن على صعود التلاميذ الى ظهر اللوري . معظمهم بعمائم بيضاء قصيرة وجلاليب دمورية يظهر عليها بوضوح انتمائها الى القطن السوداني عبر بقايا البذرة اللاصقة فيها والمعبرة عن نفسها في شكل ذرات دقيقة تذكرك بقصيدة الشاعر التيجاني :
    هذه الذرة كم تحمل في العالم سرا
    ومع اكتمال صعود التلاميذ واغلاق المساعد جنقة لباب اللوري ، يكون السائق علي احمودي قد أكمل وضع ملفحته وتحسس حقة الصعوط المستديرة في جيبه وله سكين مجلدة لا تفارق ذراعه وهنا يستدير اللوري حول الداخلية في دائرة يردد خلالها لطلاب حول حرم المدرسة وداخليتها نشيدا منغما بصوت عذب جميل :
    بلادي بلدي فداك دمي
    وهبت حياتي فدى اسلمي
    هذا قبل أن يعطي الأستاذ عبد الله محمد عبد الله الاشارة الى التلاميذ بتغيير النشيد الى مدرستي:
    صباح الخير مدرستي
    صباح الخير والنور
    اليك اشتقت في أمسي
    فزاد اليوم تفكيري
    تحين انطلاقة اللوري للدخول الى مجراه قبيل قرية مقنارتي مارا بشجيرات العشر والسلم والطلح وصخور الجرانيت والحجر الرملي التي تحيط بالمكان. مرورا بلافتة تقول "مدرسة كورتي الأولية :تأسست عام 1938م " بمبانيها البيض على غير مبعدة من مباني المدرسة الوسطى وذاك حرم مبيض اللون يرقد ما بين صحراء بيوضة ويعانق خد النيل على شط رملي كظبي ناعس. ان اللوري الهوستن ليسجل في ذاكرته كلما مر بالنيل مثلما يمر القطار البخاري منظر مراكب شراعية تفرد أجنحة داكنة من حين الى آخر وربما كان من بينها مركب ود كرنقيل السفرية التي غابت عن المشهد منذ أن بدأ النهر في معاقرة مواسم الجفاف وتعفر خده بجزر رملية جعلت أشجار الطرفة والسنط تهب لتتسيد الموقف على حساب العمق والعذوبة هنا وهناك في مجرى النهر . ومع امتقاع وجه النهر بالجزر الرملية يهاجر الناس صوب المدن البعيدة حيث ينفض السامر و يرتحل العاشقون مدركين لآخر رحلات الجلاء وكربكان وعطارد والزهرة . ومع ايناع زهور الفول والقمح يكون موسم آخر قد بدأ في اعلان قدومه والناس هنا وهناك يقومون على التذرية ومن بعيد يسمع الطلاب المتجهين الى الدبة صوت ضراية بعيدة تهب من حصادها" للغاشي والماشي" تماما كما كان الجدود في مروي والبركل يقدمون موائد الشمس للعجزة والفقراء والمحتاجين في مملكة وقفت شاهدة على حضارة أمة أنتجت أحلى أساور ذهب في التاريح .... مملكة مروي.
    2
    يكون للوري الغريبة بقيادة علي أحمودي أزيز يشوبه حنين خاص ويقولون هناك أن، ذلك الصوت مبعثه ادخال علبة "كوز" صغير الى جزء بالماكينة فتحدث ذلك الأزيز المنغوم وما التنغيم الا جزءا من حناجر المغنين والمداح .قبل شهر وقف صوت منغوم على مسرح مدرسة كورتي الأولية وكان ذاك صوت نبع من بين تلك الجزر والتلال ..اسحق كرم الله :
    النار أم لهيب جذابة
    يازهرة جناين الغابة.
    لم تكن أغاني اسحق كرم الله ببعيدة عن اللوري المتجه الى الدبة . على "تندة " اللوري أمسك المساعد بشير اب اضنين طنبوره ليكسر رتابة الأناشيد المدرسية التي جفت من كثرة ترديدها حلوق التلاميذ:
    شفتلي زهرة واقفة فريدة
    العشاق قالولي عنيدة
    برضك يا قليبي تريدا
    ربنا في جمالا يزيدا
    في تلك اللحظة يكون اللوري قد مر على كوخ اعرابي ملتح صامت منعزل يعرف عنه اصطياد الثعالب وذبحها ولربما عاجله بعض أشقياء الطلبة من بعيد ... آدم صبرة ...آدم صبرة وربما تكون المشاغلة صادرة عن أعرابي قصير يدعى عبد الله ود أبخشيم فيبادر هو الى اشباعهم شتما ولعنا من بعيد قبل أن ترتاح عجلات اللوري الهوستن في مجراها أسفل قرية مقنارتي ، جواري وأم بكول . هذه محطات يتحد فيها الصخر والنخل والنيل والصحراء ليكون الناتج انسان هذه المنطقة في هذا الشمال الغامض الساحر الحزين الذي اختزل كل المواسم في موسم واحد هو موسم الدميرة ، حيث يحمر خد الضفاف وتكتنز نخلة في عيد لقاحها الأول بسبائط البركاوي وبت تمود وينقل النسيم العابر أصوات الطنابير ,والآذان وأعياد الحصاد وصيحا ت و أهازيج المحتفين به . وقد ينقل الى الناس من بعيد ذات ليل من حسن الدابي طنبورا بعيدا:
    التمودة الوسط الشتل
    ياخي لا راسا بتتوكل
    3
    يتيح لوري الغريبة في عبوره للمنحنيات الضيقة الرملية منها والصخرية للتلاميذ المرتحلين الى الدبة ، رؤية النهر حاسر الرأس عند كل جمال منحسرا عن الضفاف في وقفة حساب بين الصادر والوارد بين النهر والطبيعة منذ بداية تعاقده على مد الطبيعة بالخصوبة والعذوبة يخلف بعدها على الجروف حناء سميكة من الطمى. وقد يئن اللوري الضخم أنينا محزونا حين تنغرس عجلاته الضخمة في شرك من كثيب رمل مخادع فيهب المساعدية جنقة وبشير اب اضنين الى رمي "صاجاتهم " الثقيلة ببراعة وسرعة لاقالة اللوري الأسير من عثرته وتخليصه من الرمل بعد جهد جهيد. على الضفاف صبية يغيرون مواقع "الجبابيد" للحاق بالماء وزهور الفول واللوبيا والترمس تغازل الحفر باطلالات خجولة ملؤها الحمد والرضاء لموسم فيضاني مبارك . أصوات ماكينات الرى تهتف مرسلة الى أعماق الحيضان ماء أٍرجوانيا داكنا الى حيث يريد الله تعالى للزروع والضروع أن تدر ونمو . ان بشير أب اضنين عادة كلف مدنف بأغاني وردي واضحاك التلاميذ في سوق كورتي بطريقته المضحكة محاولا تقليد الفنان الكبير ولكنه واللوري يجتاز منحنى ضيقا بعد أم بكول ليدخل قرية كرمكول ليعبر طولها الموازي للنهر بنحو ثلاثى كيلومترات من الشمال الى الجنوب يغير لحنه فجأة الى مديح. قبل برهة كان أب اضنين يجري على طنبوره نغما قديما من أغاني المنطقة :
    يا قصيبة حمد الملك
    يا الأبوك رباك بالضحك
    عمرو ما نهرك وزعلك
    يا الله هوى
    ليلي انا
    لكنا نراه الآن يمارس عادته في الانتقال المفاجيء من موضوع الى آخر في منتقلا الى المديح دون تنبيه والأستاذ عبد الله مرافق الرحلة يتغاضي عن سلوكه مادام في ذلك تخفيفا من مشقة أن تسافر من كورتي الى الدبة عل متن ذلك اللوري :
    صلاة في سلام
    على قوس الأنام
    مجير الكرب طه
    اذا ماج الزحام
    محمد من تحلى
    بأوصاف الكرام
    ربما كا الذي أهاج خواطر المساعد بشير وحرك حنينا عارما داخله هو رؤيته لتلك القباب البعيدة التي تطرز ثنيات تلك القرية "كرمكول". ان مايدهش في هذه القرية ليس وداعتها ولا قدرتها على امساك الصحراء من رسن وامساك النيل من عنان آخر وكأنها تدرك رسالتها منذ الأزل في خلق ذلك التوازن الأخاذ بين الحياة والفناء ، ولا قدرتها السحرية على البقاء وقد تمايل نخلها العجوز هرما وتهاوت سقوف البيوت واستكانت أشجار الدوم الطويلة لهجعة أبدية فصارت منقعرة ترقد في أسى لتسد ممرات القرية. ان المدهش في القرية هو أن تتخذ من التوازن طابعا لها فهنا تتمازج أصوات المادحين والمغنيين وبركات التلاوة ومقامات الانشاد وعبوس المواسم وابتسامات الغيوم . وبين هذا وذاك يحوى المكان صدى عطرا عماده مجموعة آثار قديمة من بينها قصر "المانجولك" ذلك الاسم النوبي الذي اقترن بالمملك القديمة في الشمال اضافة الىتركة العمد الذين شغلوا جزءا من روايات الطيب صالح . ولئن قال التيجاني في هذه الأمة :
    هذه أمة يفيض بها القيثار فاسمع شجونه وانكساره
    فهذا اقليم يفيض بالعمد والمشايخ ... فهناك آل وقيع الله في جلاس وآل كمبال في كورتي وآل أبو شوك حيث توجد رئاسة فرع البديرية في قنتي وفي كوري ومورة والتكر هناك العمدة أب كروق وفي الأراك العمدة حسن طه سورج. وأؤلئك هم من يولمون لحاج الماحي وود حليب والمادحين العابرين مثل حاج حمد الذي ولد مع ميلاد حرازة حمد في جلاس مع انطلاقة الدعوة المهدية وتلك حرازة يكاد حجمها أن يصل الى حجم تبلدية هائلة تقف شاهدة على أن الرجال في هذه المنطقة كالأشجار تؤرخ للتأريخ وللوطن ولدورة الحياة وتاريخ الابداع البشري فيها .أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟؟. ان الرمز الكبير الطيب صالح مدرك لعبقرية هذا المكان فوجود أهله هنا كما يقول له تراكماته الانسانية ووشائجه ذات التأثير العميق على العالم قاطبة . في زيارته الى سد مروي في عودته التاريخية الى الوطن ، وقف مع الصفاقين مشدودا" بحمحمة الصفاقين" على حد تعبيره. انه هنا يرى الموج العاتي يخرج من بين ثنيات السد العظيم ليفيض الى حيث ينتظر نخل عجوز في كرمكول لم يتمايل يوما سفاهة وان عم الخراب وانفض السامر وارتحل العشاق وخلت الديار.
    5
    تبدو هذه القرى الواقعة على ضفتي النهر وكأنها اتحدت فيما بينها على الصبر الجميل والزهد و الحزن و مثلما اتحدت على انبات الصالحين والأولياء والشعراء والكتاب. تستطيع من على تل صغير في كورتي أن ترى في خاصرة جبل الصلاح "كلنكانكول" قبة السيد محمد على العجيمي حيث يبدو لك جسمها المخروطي الفضي الصقيل كصاروخ معد للانطلاق نحو السماء . ان الصورة لتكون أكثر اكتمالا حين يأتي داخل اطارها جبل كلنكانكول فيبدو وكأنه اتفق مع النهر على الاشتراك في ضم القرى على الضفتين ضمة حنونة فتصنع القرى بين النهر والجبل اطارا دراميا يرمز للانسان الآتي من هذه المكان فهو في رحابة النهر وصلابة الجبل. ان الطلاب المتجهين على متن لوري الغريبة من كورتي الى الدبة يعرفون على صغر سنهم اتساع هذا الاقليم الشمالي الآسر. ربما كان مبتدا أقليم الطيب صالح من مروي ، البركل ، الكرو، الدهسيرة الأراك ، الحجير ، المقل ، الكرفاب ، البرصو وأم درق والبار وجلاس وهنا على ضفة كورتي مساوي وأوسلي والباسا والغريبة والحلة البيضاء وكورتي وهنا تور الأراك وخلاوي الغريبة والبرصة وهنا الشيخ الفقير ود محمود في الأركي والحسن ود حمد خير وخدر حجروهنا حاج عيسي اب قرن والشيخ حسن ود بيل جد الأستاذ محمود محمد طه. هنا ضريح الشيخ ود الكندري الذي أرادت المشيئة أن يأتي عابدا زاهدا ليكون ضريحه البسيط قرية الأركي لدى درب الترك . هنا النعام آدم واسماعين حسن وهنا بلاص وبندة ومحمد كرم الله . من صحراء الهواوير جاء الفنان النعام آدم الى هذه المنطقة قبل مايربو عن ستين عاما لينتقل بها من حداء الصحراء مشعلا فيها حنين النوق عبر الربابة مغنيا عبره للحبيبة والوطن ومشاعل الشوق الجارف الى خدود الحبيبة التي لمعت كبارق ثغر متبسم . ولئن كان غناؤهم في كورتي تقبيلا للرماح في أول انكسار لجيش الترك الغازي فهذه أيضا من بركات الأولياء الصالحين في هذه المنطقة ... حاج الماحي وطبول الأحمدية وراياتهم من خلال خلوة الشيخ أحمد صالح فضل في مورة . هنا حيث يمدح الصبية منشدين :
    وقال آنست نارا
    ليلا فبشرت أهلي
    قلت أمكثوا فلعلي
    أجد هداى لعلي
    ولكنهم أيضا يمسكون برباباتهم " سمح الزى الباري أمو دابو جدي" و "المنقا منقولا " و "أسفاى " . في فضاءت هذا الاقليم الساحر الغامض ، لقد صنع الطيب صالح ابداعه بعد ان تهجى حجارة الأسوار في البركل ويقف متأملا لجماليات الخط المروي في الكرو واختزنت روحه سر هذا النقش البديع وأسراره الغامضة الموحية . انه يتأمل قسمات الأجداد على تلك الصخور شاربا من محاية الابداع لدى أبي دماك وعاشقا حاضرا عبر المكان لمناسبات القرابين في دير الغزالة ثم أنه يختزن عند رجوعه من لقاء التاريخ في معبد الكرو محطاته ونقوشه الأثرية الموحية أنفاس طار بعيد ربما كان قادما من الضفة الأخرى عابرا الى أذن الطيب العاشقة مع أصوات القمري وحنين الأسلاك وخرير الجداول . هنا حيث خلد الوتر الطار وحيث صار الوتر وسيطا بين عيون المحبوبة وعالم السياسة ، حيث كانت مباريات العشق والعاشقين بين حسن الدابي وخدر محمود وعبد الله محمد خير وهناك كان للنعام آدم على أضواء القمر والرتائن حديثا الى الحبيبة:
    من نيرانا محروق
    قلبي شاتلنو على الشروق
    نظرة من عينيكي الزروق
    ترهب المحجوب وزروق
    ومن المكان هذا كانت ضربات قلب العاشق تعبر حجب الزمن والمسافة لتعبر عبر الريح المرسلة مع جن سليمان من النيل الى التايمز حيث يحملها الشاعر حسن الدابي أثقال نقل أحمال الشوق وربما أوزاره الى حبيبة نائية :
    قلبي بالدقات والأنين
    تعترف وتشهدلو بيج بين
    ولم يكن شاعرهم القديم في أغنية "ليلي أنا " التراثية الا عليما بمواصفات الحرير الراقي حتي لا يغالطه مغالط يأتي بنوع أجمل لا يتوفر لدى المعشوقة فحريرها أنعم من ذلك الحرير القادم من هضبة التبت:
    يا حرير الصح مو "تبيت"
    سيدو قال بالأمتار أبيت
    هنا حيث ترتاح اللغة الفصحي في مجاريها البيانية طيعة سلسة في حديث الناس في اقليم عرف الناس فيه بالتصغير حبا أو تعظيما :
    ابقى زرزورن "غتيت"
    وانقد أم راس في" السبيط "
    هذه أرض جاء عنها في عرس الزين " رائحة الأرض تملأ أنفك فتذكرك برائحة النخل حين يتهيأ للقاح . الأرض ساكنة مبتلة ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم كأنه امرأة عارمة الشهوة تستعد لملاقاة بعلها"
    أنظر الى هذا التصوير السينمائي الناصع في بندر شاه" حيث أورده الدكتور حسن أبشر الطيب في "الطيب صالح : دراسات نقدية:
    كان القمر يبتسم بطريقة ما وكان الضوء كأنه نبع لن يجف أبدا وكانت أصوات الحياة في ود حامد متناسقة متماسكة تجعلك تحس بأن للموت معنى آخر من معاني الحياة لا أكثر. كل شيء موجود وسيظل موجودا . لن تنشب حرب ولن تسفك دماء وسوف تلد النساء بلا ألم والموتى سوف يدفنون بلا بكاء"
    6
    مساعد لوري الغريبة الذي يحمل تلاميذ مدرسة كورتي الى الدبة وان سمى بشير أب اضين الى أن بصره الثاقب حمل اليه من بعيد قباب الدواليب في كرمكول واستلهام الآثار الصوفية في هذا الاقليم العبقري يكان أن يستوي فيه الناس لكنه عند أديبنا العالمي يبدو أكثر نصاعة على حد قول الدكتور محمد ابراهيم الشوش. يستلهم رمزنا العالمي ذلك الأثر الصوفي فيسلط اشعاعا قويا على طاقة الحب الذي لا يعرف قيدا أو حدا عبر العديد من شخوص رواياته وكرامات النخلة وأضرحة الأولياء والأسرار الصوفية الغامضة المبهمة في شخصيات مثل الحنين وأضرحة الأولياء ونبوءات الشيخ دوليب وما الى ذلك من ايحاءات صوفية عميقة . وكما يرى الدكتور طارق الطيب فذاك رجل يستمد عالمه الفني من الشفاهي في الحوار والشعبي في الوصف بلغة أصيلة وأسلوب حديث في التركيب من خلال معايشات دنيوية و تأملات وتوكلات قدرية. ونرى الطيب صالح وهو سقف الرواية في العالم يترنم بمديح حاج الماحي ويستشهد به ويبز به أقرانه واني لأذكر تلك المقابلة مع احدى القنوات الفضائية حينما أبدت له المذيعة استغرابها من تملك السوداننين من ناصية اللغة العربية ليكون جوابه شافيا "بل الغريب ألا يكونون كذلك ". ان رمزنا العالمي يترنم بمديح حاج الماحي متسائلا " من كان يظن أن صوت الماحي سيصل بعد أكثر من مئة عام الى ضفاف السين؟" حين وقف أحفاده في فرقة من المنشدين في معهد العالم العربي في باريس "في جلاليبهم البيضاء وعمائمهم وعباءاتهم يضربون على دفوفهم وينشدون من شعر حاج الماحي بتلك الأصوات الرنانة المقنعة المملوءة بالشجن والحبور والحزن كأنها أنهار تتدفق من منابع سحيقة من أعماق التاريخ:
    عيب شبابي الماسرح والله لابشوقن جرح
    قام العبيد من نومو صح لقى جنبو لبنا في قدح
    سمى وشرب زين اتنتح حمد الاله حالو انصلح
    جد في السؤال لى ربو لح قال يا كريم بابو انفتح
    7
    عدما بلغت رحلة تلاميذ مدرسة كورتي الأولية تمامها على شاطيء النيل في الدبة ، تجمع التلاميذ في ظلال تلك أشجار الجميز الضخمة حول حلة كبيرة أحكم فيها الفراش أحمد مطر وضع لحم الخروف وعلى الشط حمل التلميذ فيصل خدر طنبوره :
    يا راحل جفيت مالك
    نسيت والله انشغل بالك
    كأوزة عملاقة أقبلت الباخرة كردفان تشق عباب الماء الأرجواني في رحلتها نحو الشمال وعلى الشط صبي مشاكس يلقي بسنارة طويلة الى عمق النهر ممنيا نفسه بصيد ثمين وهاتفا :
    يا عشا البيت يا قطع الخيت
    يسعجل أستاذ عبد الله التلاميذ وقد انتصف النهار للاستعداد لزيارة مدارس ومعالم مدينة الدبة . سيكون رجوعهم الى كورتي عصرا وعندما يكبرون سيذكرون أنهم مروا عبر مولد الرمز العالمي في كرمكول . تمنوا لو عاد بهم الزمن لكى يروا مرة أخرى دومة ود حامد عد مدخل القرية قبل أن يجتازها اللوري عابرا تلك الانحناءة الضيقة بين النيل والجبل الى مدينة الدبة. لربما يقرأون له مستقبلا "المضيئون كالنجوم " ويسافرون معه عبر حواضر العالم . ولربما ا ستمعوا اليه في ساحات منتديات الثقافة في المربد وأصيلة والجنادرية، فرمزنا هناك هو حديقة الورد العربي المزهر حيث يكون القوم صرعى بقوارير سياحته الساحرة المدهشة في فراديس المتنبي والبحتري والمعري من دون أن ينسى عبقرية أهله في ساحات الغناء العاشق:
    الزول السكونو قشابي
    طول الليل عليهو أشابي
    8
    يرحل الرمز الى عالم الخلد ليكون القدوم النهائي موحيا مثلما كان المولد في حياته المبدعة المثيرة المليئة بالجلال والجمال وفي عودة هذا البطريق المسافر عبر أزمنة الابداع والتميز يأتي الى الوطن ليقول له : يا سيدي الوطن اليك يكون المنتهى وهأنذا في سدرة منتهى حبك أرخي عنان فرس حبك الجامح ومثلما حضنتك بين ثنايا روحي فاحضن جسدي أيها الوطن الدافيء أما روحي فستظل هائمة طائفة حول ذرات مائك وثراك . ان روحي مكانها أنت أيها الوطن وستظل صادحة بحبك الى يوم النشور.

                  

02-25-2009, 10:58 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    (عدل بواسطة الكيك on 02-25-2009, 11:00 AM)

                  

03-14-2009, 08:28 PM

Hadeer Alzain
<aHadeer Alzain
تاريخ التسجيل: 07-13-2008
مجموع المشاركات: 3530

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)
                  

03-15-2009, 05:44 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: Hadeer Alzain)

    شاكر ومقدر لك هذا الجهد الكبير
    اختى هديل
    وربنا يوفقك فى كل خطوة قولى امين
                  

03-15-2009, 10:05 AM

Hadeer Alzain
<aHadeer Alzain
تاريخ التسجيل: 07-13-2008
مجموع المشاركات: 3530

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    أخي الكيك سلام
    أتابع بإعجاب كبير جهدك المقدر في التوثيق
    وأتمنى أن أري مكتبة لك وأخرى للطيب صالح في القريب العاجل
    أمنياتي بالتوفيق لك أيضآ في كل ما تفعل ..

    تحية وتقدير
                  

03-17-2009, 05:19 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: Hadeer Alzain)

    الطيب صالح ومساهمته الباقية في سجال الشرق والغرب
    ffالطيب صالح ومساهمته الباقية في سجال الشرق والغربfff

    د. عبدالوهاب الأفندي

    في عام 1997، استشهدت في كلمة ألقيتها في مؤتمر نظمه معهد السلام في واشنطن حول الدين والقومية في السودان بعبارة وردت على لسان الراوي في حوار بين الراوي في رواية 'موسم الهجرة إلى الشمال' وبين بطل الرواية مصطفى سعيد في ثاني لقاء بين الرجلين.
    في ذلك الحوار يستفسر سعيد، الرجل الغريب الذي استوطن في القرية في غياب الراوي، عن دراسته في الغرب، وعندما يسمع أنه حصل على شهادة دكتوراه في الأدب الإنكليزي عن دراسة في أعمال شاعر إنجليزي مغمور، يجيء الرد الذي أغاظ الراوي أشد الغيظ. ولم يكن ما أغاظ الأخير استخفاف سعيد بمؤهله وقوله ألا حاجة بنا إلى الشعر هنا، فلو كنت درست الزراعة أو الهندسة أو الطب لكان ذلك أنفع. ولكن ما أغاظه كان استخدام سعيد لصيغة الجمع للتحدث عن نفسه باعتباره الممثل لأهل القرية، دون أن يشمل محدثه فيها. يقول الراوي في نفسه: أنظر كيف يدعي الانتماء إلى القرية ويخرجني من هذا الانتماء، في حين أنه هو الغريب وأنا ابن البلد!
    ولعل هذه اللمحة من الرواية تصلح المدخل إذ نعود كما وعدنا إلى تذكر فقيد الأمة والأدب الطيب صالح رحمه الله وأحسن إليه، وفاءً لبعض حق ذلك الفارس الذي ترجل بعد أن أدى ما عليه وزاد. فهاهنا نجد أحد المفاتيح لفهم سر الأثر الصاقع والباقي الذي خلفته كتابات الطيب في قراء ذلك العصر. فقد كان الطيب مهموماً منذ كتابة مجموعته القصصية الأولى 'دومة ود حامد' بالتحدي الذي فرضته الحداثة على المجتمع التقليدي الذي تمثله في هذه الحالة القرية السودانية النائية في الشمال السوداني الأقصى. وكما فعل شينوا أشيبي في روايته 'الأشياء تتداعى'، جعل صالح من القرية مسرحاً للصراع الملحمي بين قوى الحداثة ومؤثراتها الواردة من الغرب، وبين التقاليد الراسخة للمجتمعات الشرقية.
    في هذه اللحظة، لم يكن الراوي يعرف خلفية سعيد، الذي كان مشبعاً مثله، بل أكثر منه بكثير، بقيم الحداثة وتناقضاتها، ولكنه لم يملك إلا أن يحسد هذا الغريب الذي اندمج في حياة القرية وأصبح يخاطبه هو ابن القرية على أنه الغريب.وكان سعيد قد سافر إلى الغرب وهو شاب، وأكمل دراسته الجامعية هناك، وحصل على دكتوراه في الاقتصاد، وأصبح من كبار ومشاهير المنظرين الراديكاليين المعادين للرأسمالية. ولكن سعيد كانت له أيضاً حياة سرية، تمثلت في إدمانه إغواء الفتيات والنساء حتى يقعن في حبه، ثم هجرانهن، مما دفع عدداً منهن للانتحار. كان سعيد غاية في الذكاء، ولكنه كان رجلاً بلا قلب ولاضمير، لا يهتم بالعلاقات الإنسانية ولا يحفل حتى بوالدته، كما أنه كان دعياً يمارس الدجل وحب الشهرة في حياته العلمية. وفي نهاية الأمر انهار عالمه المبني على الأكاذيب والخداع فوق رأسه حين تعرف على جين موريس التي لم تقع في حبائله كبقية الفتيات، وظلت تصده حتى ملت من مطاردته فقبلت الزواج منه، ولكنها ظلت تسومه سوء العذاب وتواصل صده، بل تخونه علناً، حتى دفعته إلى قتلها وهو في حالة تشبه الجنون.
    وبعد أن أمضى عقوبة السجن سبع سنوات عاد قافلاً إلى بلده السودان وأخفى هويته وسعى إلى الاندماج في القرية كما لو كان لم يهاجر قط ولم يذق من ثمرة الحداثة المحرمة. وبالفعل ينجح في ما أراد، ويتزوج فتاة من القرية وينجب منها طفلين ويشتغل فيها بالزراعة ويمارس الحياة التقليدية. ولكن الراوي يشك في هويته حين يقبل الأخير على مضض دعوته لشرب الخمر، ثم يردد وهو ثمل كلمات أغنية انكليزية. وعندما يدرك أن أمره انكشف يفضي للراوي بحكايته كاملة ثم يختفي من القرية في زمن الفيضان، حيث يعتقد أنه غرق. ولكن حكايته لا تنتهي هنا، لأن أرملته تقتل الرجل الذي أجبرت على الزواج منه ثم تنتحر، مما مثل فضيحة لا سابقة لها هزت كيان القرية. وتنتهي الرواية بغموض مقصود حول مصير سعيد، ومحاولة القرية أن تستفيق من الصدمات التي خلفها ظهوره ثم غيابه.
    وبخلاف الروايات الأخرى التي تناولت علاقة الغرب والشرق في الأدب العربي (مثل 'عصفور من الشرق' لتوفيق الحكيم، 'الحي اللاتيني' لسهيل ادريس، 'وقنديل أم هاشم' ليحيى حقي) فإننا هنا أمام رحلتين إلى الغرب وعودتين منه. فمن جهة هناك رحلة الراوي التي أتم فيها دراسته كما هو متوقع منه، ولم يحدث حدثاً أو يفلت من عقال، ثم عاد إلى أهله في شوق للديار، واستمرار في احترام التقاليد. ولكن هذه العودة تظل مع ذلك عودة ملتبسة. فالراوي لم يعد بإمكانه، وقد درس الأدب الانكليزي وشرب من مناهل الثقافة الغربية وعايش حضارتها، أن يعود إلى الاندماج الكامل في المجتمع اندماجاً تاماً كما فعل سعيد في الظاهر على الأقل.
    هنا نجد أن سعيد قد حقق أمنية دفينة تراود كل المثقفين من المجتمعات التقليدية، وهي أمنية العودة الكاملة إلى الجذور، والاندماج من جديد في المجتمع، ولكنها كما نعلم جميعاً أمنية مستحيلة. فحين تتحقق هذه الأمنية في حالة اسماعيل في 'قنديل أم هاشم' الذي ينقلب من الثورة على التقاليد والاحتضان الكامل لقيم الغرب (بما في ذلك المغامرات العاطفية) ويعود إلى الاعتناق الكامل للتقاليد والإيمان بكرامات أم هاشم وينجح عن طريق استخدام زيت القنديل في معالجة فاطمة ثم يتزوجها، عندما تتحقق بهذا الشكل لا يستطيع أي مثقف أن يرى نفسه في مثل هذا التحول اللامعقول. حتى مصطفى سعيد لم يحقق الاندماج حقيقة، وإنما فعل ذلك بإخفاء هويته وكان يعيش حياة مزدوجة يعود فيها ليلاً إلى الغرفة السرية التي بناها على الطراز الغربي وأودعها كتبه وأوراقه وحولها إلى محراب يتعبد فيه للحداثة التي لم يستطع التحرر منها.
    ولكن هذه لم تكن الأمنية الدفينة الوحيدة التي كانت تعشش داخل قلوب مثقفي الخمسينات والستينات وحققها سعيد نيابة عنهم، بل كانت هناك أيضاً أمنية 'الانتقام الجنسي' (إن صح التعبير) من الهيمنة الاستعمارية الغربية عبر غزو الغرب جنسياً والتمتع بنسائه. ويحقق سعيد هذا 'الفتح' عبر استغلال الجهل الغربي بالشرق والخرافات المتداولة عنه في مخيلات الغربيين. وفي سخرية مقصودة من مقولات الاستشراق يستغل سعيد المعتقدات السخيفة عن افريقيا (حين يزعم لإحدى السيدات أن التماسيح تتجول في شوراع مدينته) والشرق العربي (حين يجعل غرفته صورة نمطية عن البيت الشرقي، فيزينها بالتحف المجلوبة منها وجلود الحيوانات ويعطرها بالبخور)، كأداة من أهم أدواته للإغواء والإيقاع بالنساء. وهكذا يقلب سعيد مقولات الاستشرق التي استخدمت كأداة لإخضاع الشرق إلى واحدة من أدواته للإخضاع المضاد.
    وفي أثناء محاكمته يعيد سعيد اللعب على نقاط الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، حين يقول في دفاعه إنه لم يقتل جين موريس، وإنما قتلتها جرثومة عمرها ألف عام، قتلها 'السم الذي حقنتم به أوردة التاريخ'. والإشارة هنا كما لا يخفى هي إلى الحروب الصليبية باعتبارها بداية الصراع بين الشرق والغرب. فهنا يقلب صالح عبر شخصية سعيد مقولات الاستشراق ضد نفسها مرتين: مرة حين يسخر منها ويظهر سذاجتها وغباءها عبر استخدامها ضد أصحابها، ومرة أخرى (كما أشار إدوارد سعيد في نقده للرواية) حين صور رحلة سعيد من مجاهل افريقيا إلى قلب لندن كرحلة معاكسة لرحلة كيرتز (والراوي) إلى 'قلب الظلام' في رواية جوزيف كونراد المشهورة.
    وفي هذا الصدد نجد أن تعامل الطيب صالح مع مقولات الاستشراق تقف على أحد طرفي نقيض من استخدام سلمان رشدي للمقولات الاستشراقية في روايته سيئة الذكر 'آيات شيطانية'، حيث استعاد رشدي تلك المقولات وروج لها واحتفى بها، بينما نجد صالح سخر منها وأظهر تهافتها دون أن يتكلف كبير جهد في ذلك. وهذا أيضاً ما جعل الحبكة الروائية عند صالح تظهر مقدرات فنية عالية، مقابل كثافة (حتى لا نقول فجاجة) تناول رشدي الذي ينقل بالحرف من المصادر الاستشراقية مع معالجة فنية ضعيفة وكسولة.
    الاستقبال الحار الذي لقيته رواية موسم الهجرة إلى الشمال كان له إذن ما يبرره لأنها لامست قضايا وأحاسيس قريبة من قلوب الكثيرين، خاصة بالنظر إلى توقيت صدورها. فقد نشرت الرواية أول مرة في عام 1966، وانتشرت في تلك الحقبة المحورية من صراع الشرق والغرب التي صادفت كارثة حزيران (يونيو) عام 1967. فقد كان الوقت مناسباً لمثل هذا التناول الذي يظهر الصراع بين الشرق والغرب على أحد ما يكون، وبعيداً عن أي تناول ساذج. ففي الرواية لا نجد سعيد في مقام محسن في 'عصفور من الشرق' الذي يمثل عاطفية الشرقي وسذاجته أمام مادية وتحرر الغرب، ولا في مقام بطل 'الحي اللاتيني' الذي يعيش التنازع بين ولائه للتقاليد وحبه لجانين، بل هو بالعكس يسقي الغربيين من كأسهم، ولا يحفل بتقاليد شرق ولا غرب.
    ولم يكن موضوع الصراع بين الشرق والغرب هو عامل الجذب الوحيد في الرواية، حيث قدمت أيضاً للقارئ مشهد المجتمع التقليدي (ممثلاً في القرية السودانية) باعتباره منظومة متكاملة من القيم والممارسات ذات الجذور الراسخة، في مقابل العالم الغربي المضطرب المليء بالصراع (الذي ينتقل عبر سعيد إلى القرية، ولكنها في النهاية تنجح في استعادة هدوئها ومتانة نسيجها الاجتماعي). ولكن صالح يبتعد في تناوله لكل هذه القضايا عن التسطيح والتبسيط. فالصراع بين الشرق والغرب ليس صراع شر محض وخير محض. ذلك أن مصطفى سعيد لا يظهر باعتباره البطل الخير الذي يدافع عن الشرق، بل هو رجل أناني مهووس برغباته ومصالحه، حتى وهو يتشدق بمقولات الصراع أو يحاضر عن الاقتصاد والتنمية. وبنفس القدر نجد أن الراوي يتميز بكثير من التردد وعدم القدرة على اتخاذ القرار، بينما لا تظهر القرية السودانية على أنها واحة استقرار صرفة أو مرتع للفضيلة، بل هي كذلك مسرح للصراعات وللصالح والطالح من الممارسات. ما حققه صالح في هذه الرواية القصيرة لم يكن فقط كشف ضحالة وتهافت بعض الأطروحات الغربية عن الشرق، بل أيضاً نفاق وازدواجية المثقفين الشرقيين الذين يتحللون بمجرد أن تطأ أقدامهم الأرض في الغرب من كل تقاليدهم وقيمهم، ويغلفون هذا التحلل في أوهام النضال، ثم يتنكرون لنفس المجتمعات التي جاءوا منها، ويتحولون إلى غرباء عنها.
    ولهذه القصة جانب آخر، يتعلق بموقف صالح الحقيقي من القضايا التي يطرحها هنا. فمن جهة اعترف صالح في بعض حواراته وشذرات مذكراته بأن بعض أفكار بطله سعيد راودت بعض أفراد جيله ولم تخل ممارساتهم منها. ولكنه من جهة أخرى كان محافظاً معتدلاً في فكره، يؤمن بالحوار بين الشرق إيمانه بالاختلاف الجذري بينهما. وكان يتمسك بهويته السودانية بما يشبه الهوس، حتى أنه رفض أن يتقدم للحصول على جواز بريطاني رغم أنه عاش في بريطانيا أكثر من خمسة وخمسين عاماً وتزوج من بريطانية. وكان دأب حين ينزل إلى قريته في شمال السودان، على التحول إلى 'مصطفى سعيد' آخر، حيث يخلع زيه الافرنجي ويشتغل بالزراعة ورعاية نخله وحقله تماماً كما فعل بطله. وفي آخر أيامه أعلن ندامته على الهجرة إلى الغرب، داعياً الناس للبقاء في أوطانهم.
    ألا رحم الله الطيب وعوضه عن الحرقة بفقدان الوطن داراً خيراً من داره.

    ' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
    qra
    qpt92

    القدس العربى
                  

03-19-2009, 04:30 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    في ذكرى اربعين يوما على رحيل الطيب صالح: عن أثره الأدبي ونشاطه الثقافي وسجاياه الشخصية
    ffفي ذكرى اربعين يوما على رحيل الطيب صالح: عن أثره الأدبي ونشاطه الثقافي وسجاياه الشخصيةfff


    عاطف علي صالح

    باريس ـ 'القدس العربي' اسدل الستار على نافذة اخرى من نوافذ النور، رحل الرجل الطيب. الطيب صالح، كان نافذة من هذه النوافذ الواسعة المضيئة، اثر على التاريخ الثقافي للعالم، لذا اختار المنتدى النرويجي للكتاب في معهد نوبل 'موسم الهجرة الى الشمال' بين اهم مئة عمل ادبي أثرت في تاريخ البشرية، انتقاها مئة اديب وشاعر معظمهم حائز على جائزة نوبل. وجدت رائعة الرجل الطيب مكانها، بين الكوميديا الالهية 'دانتي'، وهاملت ولير وعطيل 'شكسبير'، والالياذة 'هومير'، والحرب والسلام وآنا كارنينا 'ليو تولستوي'، مدام بوفاري 'جوستاف فلوبير'، مئة عام من العزلة والحب في زمن الكوليرا 'غبرائيل غارسيا ماركيز'، حتى المئة الصالحة، 'اتحكرهم' الطيب، وما كان يدري الرجل حتى فاته يوم الاحتفال، وتبلغ ذلك عن طريق البريد. ذهب الرجل الصالح، وسيرة الانسان اطول من عمره، وهذه بعض الشهادات التي لن تتوقف عنك وعن بعض منك.

    ذهب الطيب صالح

    محمّد بن عيسى

    ذهب الطيب صالح، وبقي الطيب صالح. ذهب الصديق المتواضع الوقور، وبقي القطب المتألق المنير. توفي الطيب إلى رحمة الله، ولكنه لم يمت. حياته باقية في إبداعاته ومحبيه وهجراته شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
    عرفت سيدي الطيب ـ كما أسميته منذ اكتشفت زهده وتقشفه وصوفيته ـ منذ أكثر من ثلاثة عقود. كانت البداية في الدوحة، عاصمة دولة قطر العام 1978 ذهبت خصيصا لزيارته واستشارته في موضوع مشروع أصيلة الثقافي الذي لم يكن رأى النور بعد. أعجب بالفكرة وخشي على التنظيم. ولكنه بارك المشروع ووعد بالحضور. لم أر سيدي الطيب إلا صيف 1980 حين حضر مع أسرته موسم أصيلة الثقافي الدولي والثالث.
    وفي أصيلة بدأت رحلة العشق مع سيدي الطيب، فأدمن ـ كما يقول ـ على زيارة مدينتنا الصغيرة الوادعة على المحيط الأطلسي سنة بعد سنة غالبا في الصيف للمشاركة في الموسم الثقافي وأحيانا في الشتاء للراحة والتأمل والغوص في الذات. فكانت أصيلة لسيدي الطيب موسم الهجرة إلى الجنوب حيث تعرّف على العديد من الشعراء والمفكرين والمبدعين، من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
    كانت نقاشاته مع الشاعر السينغالي الراحل الرئيس ليوبولد سنغور مفعمة بالإعجاب والود والتسامح. سيدي الطيب كان يرى في سنغور هيئة الامام المؤمن الصالح، ويسأل ((لماذا أنت لست مسلما يا فخامة الرئيس؟)) ويرد سنغور ((أنا حصيلة غلبة الرجولة على الأنوثة، أمي كانت مسلمة ولكن أبي كان كاثولوكيا قويا فنصرني)).
    وفي أصيلة تعرف سيدي الطيب على الشاعر والكاتب المسرحي الكونغولي الراحل تشيكابا أو تامسي وعملا معا في منظمة اليونسكو في باريس في بداية الثمانينات، كان تشيكابا يحترم سيدي الطيب ويخاطبه دائما بـ ((الرئيس)) patron وينشد له الأغنية العربية الوحيدة التي يرددها 'أغدا ألكاك' ويضحك سيدي الطيب ويصحح لتشيكابا ((ألقاك)) وليس ((ألكاك)).
    ومع المبدعين والكتّاب والإعلاميين العرب كان سيدي الطيب يحاول دائما حياكة النسيج الفكري العربي كلما احتد الخلاف بينهم حول القضايا العربية المعقدة. كان سيدي الطيب صوت التلاقي والتصالح والاعتدال بينهم. ادونيس وأحمد عبد المعطي حجازي وعبد الوهاب البياتي وبلندر الحيدري وعبد الوهاب بدرخان ولطفي الخولي ومحيي الدين اللاذقاني وجابر عصفور، ومحمد عزيز الحبابي، وعبد الله العروبي، ومبارك ربيع، وحسونة المصباحي، ومنصف الوهيبي، وأحمد إبراهيم الفقيه وخليفة التليسي، وإبراهيم الشوش، وصلاح أحمد إبراهيم وواسيني الأعرج، ورشيد بو جدرة، وإميل حبيبي، ولويس عوض ويوسف إدريس، وتركي محمد، وفهد العرابي الحارثي، وعبد الرحمن الراشد،وصلاح فضل، ومحمد عزيز الدين أنصاري، ورشيدة بن مسعود وأحمد المديني وانعام الكجاجي وغيرهم كثيرون.
    الاحترام والإعجاب المتبادل. ربط سيدي الطيب بالكاتب الروائي البرازيلي الراحل جورج أمادو الذي رقص سيدي الطيب له بجلبابه وعمامته البيضاء في قصر الثقافة احتفاء بعيد ميلاد أمادو الثمانين.
    كانت تجمعه بالروائي المغربي الراحل محمد شكري حميمية خاصة، جلساتهما كل مساء كانت مبعث المتعة والتسلية. كلاهما كان يعشق الاستماع إلى عازفي العود العراقيين منير بشير وسلمان شكر.
    وفي أصيلة أقامت مؤسسة منتدى أصيلة أول تكريم لسيدي الطيب العام 1995م. وفي أصيلة اختار المنتدى الثقافي العربي الأفريقي الذي كان أحد مؤسسيه سنة 1981 مع الرئيس سنغور وسمو الأمير حسن بن طلال، اختار مبدعنا السوداني
    (شيخا للرواية العربية) في الدورة الأولى لجائزة محمد زفزاف* للرواية العربية العام 2002. وتقبّل سيدي الطيب تكريمه وجائزته في تواضع العابد والزاهد والمتقشف.
    وفي العام 2008 وأصيلة تحتفي بالذكرى الثلاثين لموسمها الثقافي الدولي بلغنا خبر دخول سيدي الطيب المستشفى في لندن. وبعثنا له برقية متمنين له فيها الشفاء. كان آخر اتصال لنا به قبل وفاته باسبوع واحد حاولت التحدث إليه على تليفون زوجته النقال، كان مرهقا وقالت لي زوجته بأنه سمع رسالتي ولكنه غير قادر على الكلام.
    رحم الله شيخي سيدي الطيب، وسنفتقده في أصيلة ولكن ذكراه في مركز الحسن الثاني وفي بيتي حيث كان يقيم أثناء زيارته الشتوية، وفي فندق زبليثي حيث غرفته المفضلة وعلى مائدة مطعم غارسيا قبالة المحيط وفي حديقتي صديقيه تشيكابا وبلندر الحيدري حيث كان يحضر تأبينهما كل صيف. ذكراه باقية عبيرا......... ممن عرفوه وجالسوه واستمتعوا بأحاديثه وهدوئه وبساطته وتواضعه.

    موسم العودة إلى الجنوب'
    إلى اللقاء الطيب صالح

    الدكتورمحمود عزب

    'عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة دامت سبع سنين... سبع سنين قضيتها في الغربة... كنت خلالها أتعلم في أوروبا... تعلمت الكثير وغاب عني الكثير... ولكن تلك قصة أخرى... المهم أني رجعت إليهم في تلك القرية عند منحنى النيل...'
    في يوم الجمعة الماضي العشرين من شباط /فبراير أسدل الستار على فصل رائع من فصول الهجرة إلى الشمال وعاد جثمان الطائر المهاجر... عاد إلى الجنوب... أما الروح فلم تكن فارقت يوما واحدا نخيل تلك القرية عند منحنى النيل... روح الطائر الذي لم يفارقه الحنين إلى دفء الحياة في العشيرة يوما واحدا.
    'ولماذا تهاجر الطيور؟
    حزين أنا... تسألين لماذا؟
    لأن الطيور تهاجر من قريتي في الصباح
    فتنكأ بين الحنايا الجراح...
    وتفتح جسر الهموم الدفينة
    حزين... وأسمع رجع الأغاني
    بأرض حزينة
    حزين... وأرفض كل ابتسام يزيف
    وجهي بتلك المدينة'
    قبل عودة الطائر المهاجر إلى أعشاش سربه بأيام أربعة امتدت يدي تلقائيا إلى مكتبتي والتقطت 'موسم الهجرة إلى الشمال' لأقدم لطلابي في قسم اللغة والحضارة العربية بالمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية صفحة من صفحات الفكر والأدب العربي من الرواية العملاقة للروائي المبدع العملاق. وتذكرت أنني كنت اخترت سابقا آخر صفحة من صفحات الموسم 'نزلت النهر عاريا... تماما كما ولدتني أمي...'
    وقفت عيناي هذه المرة على الصفحة الأولى: 'عدت إلى أهلي يا سادتي...' وكلفت الطلاب أن يبحثوا عن شيء من سيرة الروائي الإنسان... وتحدثنا عنه في قاعة الدرس.
    ولم نكن ندري، لا طلابي ولا أنا، أنه في لحظات حديثنا عنه كان يكتب بآخر أنفاسه فصلا جديدا أخيرا من 'موسم العودة إلى الجنوب'. أما نحن، طلابي وأنا، فسوف نعاود غدا الاثنين الحديث عن تلك النخلة القائمة في وسط الدار في تلك القرية الواقعة عند منحنى النيل.. وعن 'دفء الحياة في العشيرة' بعد العودة من بلاد 'تموت من الثلج حيتانها'.
    أما الطيب صالح الفنان الروائي الإنسان الصوفي المبدع والخلاق، فقد عاد إلى الجنوب ليلتقي لمن يليق بنقده وتحليل إبداعاته، بمحمود أمين العالم الذي سبقه والذي كان في انتظاره لاستقباله مع نجيب محفوظ ورجاء النقاش... سرب حلق وتطلع وسما وجمع فأوعى ورأى ففهم وحاول وحقق لشعبه ولأمته ولثقافته ولأدبه وللغته الكثير...
    ذلك السرب الذي رآه في الطور الأخير وهو يقاوم الغرق ويقاوم الاستسلام ويصمم على الحياة من أجل من يحبونه ونظر خلال مقاومته لما يشده إلى قاع النهر ورأى تلك الطيور المهاجرة إلى الشمال فوق منحنى النيل، وصرخ من أعماقه في الجملة الأخيرة... وكأنه يهز بعنف أمته كلها: 'النجدة... النجدة'

    ' استاذ الحضارة الإسلامية بالمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس/ فرنسا


    الضحكة التي خبأ رنينها

    محمد المهدي بشرى

    أول ما عرفت من الطيب صالح هو ضحكته، فهو يملك ضحكة ذات رنين خاص، وعندما يضحك ينفعل جسمه كله، كان ذلك عام 1978 حين دعي الطيب صالح للحديث في ندوة بمعهد الدراسات الافريقية والآسيوية جامعة الخرطوم، كانت تلك اول مرة يزور الطيب وطنه السودان بعد النجاح الكبير الذي حققه بكتاباته الخاصة 'موسم الهجرة إلى الشمال'، ضاق فناء المعهد تلك الأمسية على سعته وبعد أن تحدث الطيب صالح فتح باب الحوار، سألته عن رأيه في غارسيا ماركيث الذي منح جائزة نوبل، تحدث الطيب صالح بمحبة عن ماركيث. ثم التقينا بعد ذلك لقاءات عابرة لكنه شرفني بحرصه على التعرف على شخصي، فقد كنت أزمع إعداد أطروحة عن إبداعه، كان أول رد فعل على اقتراحي أن ضحك تلك الضحكة العذبة، قال إن هناك من هو جدير بالاهتمام أكثر منه، ذكر بالتحديد الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب، ظللنا نتواصل مع بعضنا البعض، التقيته ثانية في باريس حيث حياني بمودة هي بعض طبعه، دعاني للعشاء بمنزله حيث كانت أصداء ضحكاته تتردد في أرجاء صالون منزله.. التقينا مرة أخرى بالدوحة عام 2002، دعاني ونفر من خاصة أصدقائه في منزل شقيقه بشير، وكالعادة كان يروي النكتة ويضحك قبل أن يكملها، ثم كانت هناك لقاءات عابرة حين دعي لحضور فعاليات الخرطوم عاصمة الثقافة العربية في عام 2006، كنت مع بعض الأصدقاء في بهو استقبال احد الفنادق، ردد البهو أصداء الضحكة التي أعرفها جداً، ذهبت حيث مصدر الصوت، وجدت الطيب صالح يتوسط بعض الأصدقاء، نهض لتحيتي، فزعت لأنه كان يتكئ على عصاه، ابيض شعر رأسه كثيراً، لكن شيئاً واحداً لم يتغير، ضحكته الصادقة العذبة.
    حين ووري جثمانه في القبر صباح الجمعة 20/2/2009 كنت أسمع في داخلي تلك الضحكة، صافية، صادقة وعذبة.

    ' مؤلف كتاب 'الفلكلور في أدب الطيب صالح'


    زمن الطيب صالح

    الدكتور خطار ابودياب

    غاب الطيب صالح في هجرة لا عودة منها. غادرنا على حين غرة كاتب 'موسم الهجرة إلى الشمال' ومن النادر أن يعبر عنوان كتاب كما هذا العنوان عن حقبة العقود الأخيرة من القرن المنصرم، وعن أحوال مثقفي الجنوب ومعاناتهم، وكأن الطيب صالح قد اختصر التوق إلى العولمة بمعنى التكور الإنساني قبل بزوغ عهد الشمولية الاقتصادية وثورة المعلومات.
    كان الطيب صالح سباقاً في محاكاة واقع الاحتكاك الدائم بين الشرق والغرب... لم يكن ابن النيل الأزرق تنويرياً من الذين ابتعدوا عن الأصالة، ولم يكن من طراز المثقفين الإيديولوجيين أو من المعانقين للحركات الدينية بغية التماشي مع السائد وركوب الموجات، فهو لم يؤمن بصراع الشرق والغرب، بل آمن بوحدة القيم الإنسانية. كاتبنا الكبير كان شرقيا في بلاد الغرب، وعقلانياً غربياً في يومياته. ولأن مهنة الكتابة في الرواية والإبداع والتفكير لا تسد كل مصاريف الحياة، ولأنه لم يألُُُ جهداً في السعي للعيش الكريم، عمل كذلك في حقل الإعلام. لقد رفض أن يكون كغيره مستكتبا أو متسولا على أبواب هذا الحاكم أو ذاك النافذ.
    لقد كان الغائب الكبير طيباً وصالحاً في تطابق بين الاسم والصفات، أما دماثته وإبداعه وعبقريته فليست بغريبة عن سر السودان الذي لم يتنكر له الصالح بالرغم من قسوة منع كتابه الذي شاع صيته في كل الأرجاء.
    قبل رحيله وبعد رحيله، يعد الطيب صالح من أبرز الوجوه التي ارتبطت اسماؤها باسم بلادها. إذا قلنا فولتير نقول فرنسا وإذا قلنا الطيب صالح نقول السودان، بل نقول أيضاً العالم العربي وأفريقيا ووحدة حال معذبي الجنوب وطموحات مثقفي الجنوب، هذه الطموحات التي تتحطم على صخرة الواقع والتي لا تجد إلا أرض الغرب لتمارس فيها إبداعها وعطاءها.
    مفكر عربي باريس

    لم يمت من له أثر

    عاشور بن فقيرة

    تربطني بالكاتب السوداني الطيب صالح، رحمه الله، علاقة من أمتن العلاقات وأوطدها وأشدّها لحمة وإعجابا: علاقة قارئ بكاتب من أحبّ الكتّاب لديه. فمنذ أن قرأت 'موسم الهجرة إلى الشمال'، وأنا في بداية عهدي بالحياة بين أحضان أوروبا، ارتحت لقلم هذا الرجل، وإلى فكره الصائب وأسلوبه السلس المتين، حتى صرت أعود إليه وأستشهد به كلّما عرض أو أشكل عليّ أمر في العلاقات المتشعّبة بين الشمال والجنوب، أو بين الشرق والغرب. وما إن سمعت بانتقاله إلى مثواه الأخير حتّى هببت إلى رفوف مكتبتي بحثا عن 'موسم الهجرة إلى الشمال' وأعدت قراءة هذه الرواية للمرّة الخامسة أو تزيد، مودّعا بذلك واحدا من أكبر الكتّاب الذين قرأت لهم وولعت بهم، ومعترفا بما له عندي من فضل قصصيّ وأدبيّ. فأنا لم أعرف روائيّا قبل الطيب صالح، ولا بعده، عالج هذا الموضوع بمثل هذا الحسّ الأدبيّ والنفس الروائيّ، حتّى جاء عمله، على صغر حجمه، متكاملا، متماسكا، تتعدّد فيه مستويات القراءة وأبعاد الرؤية، فيجلو لك جديدا مع كلّ قراءة.
    في 'موسم الهجرة إلى الشمال' يضع الطيب صالح القرّاء، وما أكثرهم حول العالم، فقد نُقل كتابه إلى العديد من اللغات، أمام تداخل الحضارتين، الغربيّة والشرقيّة، وأمام تصادمهما، وأخذهما عن بعضهما، وتأثير كلّ واحدة على الأخرى سلبا وإيجابا. كلّ ذلك في سرد فنّي بديع تتداخل وتتشابك فيه شخصيّة مصطفى سعيد مع شخصيّة الراوي، الذي يشترك مع الطيب صالح نفسه في العديد من الملامح، بعد أن خبر وجرّب كلّ منهما الحياة الغربيّة ثمّ عادا إلى الوطن الأمّ وإلى القرية حيث لا تزال دار لقمان على حالها، وحيث لا يزال الرجل رجلا والمرأة امرأة، هذا ذكر وتلك أنثى. وعلى هذه المفارقة، ومن هذا التباعد بين القرية السودانية ولندن، يتتبّع الطيب صالح أعماق النفس البشريّة، ويبني هذه الرواية البعيدة الغور، في 'عولمة' لم تقل اسمها بعد، ممّا يؤهّلها لتبوّؤ أسطع مكان ضمن روائع الأدب العالمي. وهي رواية لا تنصف في وصفها إلاّ القراءة والمتعة، فهنيئا لمن سيقبل عليها، ورحمة لصاحبها، ومن مات وخلّف مثل هذا الأثر فإنّه حيّ بيننا، وهو ما سجّله أحمد شوقي بهذه العبارات التي يحقّ لنا أن نوردها:

    لم يمت من له أثر
    وحياة من السير

    ' عربيّ في باريس، قارئ،، نشرت له روايتان باللغة العربية، 'حكايات الحيّ' و'باب الخضراء'، ومجموعة أقاصيص باللغة الفرنسية.
    الزين يغيب عن عرسه

    الدكتور منصور خالد

    في الحادي والعشرين من نيسان (ابريل) العام 2002 بعث السيد تور هيلد فايكن والفاقان دير هيقين، رسالة للطيب صالح يدعوانه فيها باسم المنتدى النرويجي للكتاب للقاء يعقد في معهد نوبل في السابع من ايار (مايو) من العام نفسه.
    طوت الرسالة القارة لتستقر حيث تستقر الرسائل التي يحملها بريد الطيب، لا يلتفت لها الا لماما. ففي تلك الرسائل فواتير الكهرباء والماء والغاز، ومتطلبات لندن كاونسل، واعلانات الناشرين.
    كثيرا ما يترك الطيب امر هذه الرسائل لأم زينب، في حين يفرق في صومعته مع صحب وثق عرى مودته معهم مثل الجاحظ وابي الطيب، وابي تمام: وصدق او لا تصدق، ذي الرمة والراعي النميري. لأمثال الطيب عوالمهم الخاصة، لا يهربون اليها فرقا من الحاضر او استهانة به، وانما لانهم يدركون في قراره انفسهم بانهم اتوا على شبيبته. والعودة الى أولئك حبيبة الى نفسه، دون ان يلهيه عما يدور حوله في عالم الفكر والادب.
    نعود بعد استطراد، الى زيننا الذي غاب عن العرس، ولم يستخففه الزهو بما نال من ميز ورفعه بعد ان بلغه الامر.
    قلت للطيب: ما القصة؟.قال: والله ناس النرويج دعونا لحفل في قاعة نوبل لانهم اختاروا 'موسم الهجرة' مع كتب لجماعة تانيين. قلت: ومن هم الجماعه التانيين؟. قال:شكسبير وبرونتي وهمنغواي. لو لم اكن اعرف الطيب صالح عن ظهر قلب، لقلت يا للافتراء. ولكني اعرف هذا 'الزول'، تواضعه يعتصر الدموع، بل ويثير الغضب لدى اصحابه في بعض الاحيان. هو صادق عندما يرفض التعالي، ومخلص عندما ينأى بنفسه عن التنفج وابغض الاشياء اليه التشدق بالتفصح، لم ار رجلا كالطيب يهضم حق حقه، وهو بذلك راض حامد شاكر. لم ينض الوطن ابدا عن ذاكرته وعن قلبه. هذا العمق في الجزور لم يمنعه من الافادة من ذلك المقام، وتلك الرفقة افاد منها فائدة لم تتوفر لكثيرين، ولم يحرصوا عليها، ولذا بقوا في مهجرهم، او عادوا الى ديارهم أخيب مما تركوها. ولعل من أهم ما أفاد الطيب ارهاف وعيه الجمالي على ارهاف، وتعميق شعوره الانساني على عمق، ولولا هذا الشمول الانساني الذي اضفى على ادب الطيب طابعا كوزموبوليتانيا، لما وجد كتابه الطريق الى عشرين لغة في هذا العالم الفسيح. الطيب لم يخلق ليعظ في الجبل، هو عصي على التصنيفات الجاهزه التي يجيدها من هم ليسوا على شيء. قلة هم الذين يستطيعون وضع بلادهم على خارطة الادب العالمي بكل ما في اهلها من تمزق وجودي يعترف به البعض وينكره الآخر، واستماتة للحفاظ على مناقب الخير التي ورثوها أو ظنوا انهم ورثوها، وبكل ما فيه ايضا من فحولة واستخذاء، وآمال وخيبات. لا يحسن القراءة من لا يرى ما في اقاصيص الطيب ورموزه من رسالات الرفض، والتحدي، والانتصار للانسانية. حتى 'الدومة' شجرة عظامية من الفصيلة النخلية، أصبحت عند الطيب رمزا للتحدي والرفض. ولعل اتخاذ تلك الشجرة محورا لنضال جبار ابلغ في تعبيره عن اتخاذ كافكا للقلعة محورا للحياة والنضال في قريته البوهيمية. يا زين، يا طيب، يا صالح، وتلك صفات لفضائل تتسابق......نحن بك فخورون. وفخورون بأن بعض ما اورثته لنا وجد في التاريخ مكانا له مع سفر ايوب......'ليت كلماتي الان تكتب. ليتها رسمت ونقرت الى الأبد في السخر بقلم حديد' 'الاصحاح التاسع عشر/3 '.
    لقد توجت يا زين فى مملكتك، مملكة الادب، مملكة الأثر الباقي..

    من مقال طويل كتبه الدكتورمنصور خالد في صديقه الراحل الطيب صالح


    مخفور بهذا الشمال..
    من الجنوب حتى الموت

    يحيى امقاسم

    ونحن ــ جيل نحيل ـ أتينا لهذا الشمال بأقل ما يُمكن من الغربة وزوال الشمس، وبمعنى أدق صارت المراودات اليوم تُتقن بأشد مناجل الحياة من تجارب ونقائض وتصاريف حاجة، بينما نهضت أيها الطيب في زمن له أكثر من شمس وأكثر من نافذة للعشق الميسر منه والبسيط، دون ربكة الغريب وخجل اللسان في اللغات الأخرى، فشمخت بالرجل العربي والمرأة العربية، وآثرتهما في المكابدات ومعارج الكتابة؛ ولم تُشق لك ذاكرة الجنوب، تلك الذاكرة التي صرنا اليوم ندعيها على عجل ونكتبها ببرق المحاولات الرديئة؛ فضلاً عن شيخوخة الأمس القريب وافتعال التجريب الذي كنت فتاه في الرواية العربية، إضافة إلى 'هجرتك' الخاتمة لكل زمان نفتحه أو ندخر أصالته ـ إن تيسرت أصالة ـ بالكتابة والتسجيل، فلا سبق لنا ولا جدارة محاولة ـ كما أظن ـ حين لا يكون الطيب فيك سيد الكلام، حين لا يكون الطيب فيك هو الجميل الغفير كما وجدناك في 'مصطفى سعيد' ذلك المتسع بهاجس طيننا الأول ومعول صراخنا في الآخر. 'صالح الطيب'.. هكذا نتذرع أمام الموت باسم جديد كيلا نضطر لمخاطبة الغائب 'الطيب صالح'، إذ لا نجدي نفعاً بحديث أو رسالة، ولا إضمار محبة أو ود ليرأف هذا الموت بنا ويكشف كل هذا العراء فينا بعودتك. لقد آنست هذا الركض المستمر لـ'مصطفاك' في مخزون اجتهادنا إلى كتابة جديدة أكثر محاولة إليك وأكثر حنينا بك، فنقضت عهدك بالحياة لتُؤكد دوام هذا المصطفى في كل واحد منا، ونسيت يا سيدي الطيب أن تخليقك كان سبقاً وكان فعلاً فذاً، لا يُؤتى بذاكرة هشّة بي ولا بأمنية الــ'ربما'، إنما بأسئلة ذلك الجنوب الممُضّة، وبحيرة ذلك الرجل العربي ذي الأظافر القاسية حين جرّب أكثر من حياة ونحو أكثر الجهات مراودة.
    يا سيدي 'الطيب' لقد رحلتَ وغادرتْ من بعدك كل الأسئلة، فإِثرك لم تبق سوى الإجابات التي تقضّ حياتي، وما خلفت خياراً واحداً للخلاص من هذه الطمأنينة اليابسة!.. يا وجعاً إليك.. عُد قليلاً بسؤال آخر وحتى تُحتملُ مشقة هذا الغياب العريض..

    ' كاتب من السعودية


    رجل في حياتي

    رابح فيلالي



    أعرف السودان أكثر مما أعرف وطني الام الجزائر ولذلك قصة غريبة التفاصيل واحدة من أسبابها أنني كنت دائم الصلة بالسودان والشأن السياسي السوداني بصورة أحيانا كانت تدفع الكثر من أصدقائي السودانيين العديدين الى تقديم اقتراح الحصول على الجنسية السودانية وتتويج قصة هذا الحب الكبير التي تجمعني بهذا البلد الكبير الذي قدرت له أحكام الجغرافيا أن يتوسط عوالم ثلاثة مختلفة الخط الحضاري السياسي والاجتماعي. الطيب اسم لجأت اليه والدته الكريمة بعد أن فقدت اثنين من أبنائها على التتابع وعلى طيبة أهل السودان تعتقد الامهات منهن أن تسمية الطفل اللاحق بالطيب سوف يعطيه فرصة الحياة وهي نفس القصة حدثت معي شخصيا عندما انقطعت الخلفة عن أمي بعد خمس عشرة سنة من الزواج فكان نذرها على الله أن تسمي مولودها البكر برابح وتلك واحدة من عادات نساء شرق الجزائر وهي الجهة التي تتحدر منها عائلة أمي.
    عاش الطيب القروي الهادئ المسالم في جلبابه الاصل ولم يحاول أن يخلعه يوما غزا كل المدن الباردة والدافئة من عمق لندن وضبابها المزمن الى فضاء الدوحة المتسع حرا الى سماء أبوظبي المزدحم رطوبة الى فضاء باريس المتراكم بعناوين الجن والملائكة.
    كان الطيب صالح في روايته يأخذني الى حيث اسئلتي القلقة والتي يعجز أفراد عائلتي عن الاجابة عليها حول ماهية العلاقة المستقبلية بين ضفتي البحر الابيض المتوسط شماله وجنوبه.
    وحده الطيب صالح على بعد المسافة بين ثالوث المكان من أم درمان الى لندن الى جبال شرق الجزائر حيث قضيت جزءا من حياتي مع والدي كان يجيبني عن أسئلة هذا القلق.
    الطيب صالح وحده علمني المفهوم الاخر للعلاقة مع المحتل السابق علاقة تقوم على الافادة من أدواته اولها اللغة. وحده صاحب 'موسم الهجرة الى الشمال' بلغته الانكليزية الثانية أعاد ترتيب كينونتي الداخلية عندما علمني أن الاعجاب بلغة العدو التاريخي السابق مسألة تخلو من صفة الخيانة.
    أحب الطيب صالح الانكليزية كحالة عشق عميقة جدا وأجاد بناء علاقة من عشق متصل مع لغة المستعمر السابق لبلاده. وذلك قاسم اخر أشترك فيه مع صاحب موسم الهجرة.
    كانت هذه هي ملامح العلاقة الوجدانية التي جمعتني بالطيب صالح وأنا أقطع طريقي باتجاه العشرينات من عمري وأبدأ محاولات الاجابة عن أسئلة القلق في الهوية والكيان الحضاري.
    الان تحديدا أخاف أن أتحدث عن الطيب صالح كحالة راحلة لان الرجل الذي فضله أبناء وطنه عنوانا وانتماء أكبر من الموت و كلمات الوداع، ولكن بحسابات الغياب والحضور سيكون الطيب صالح بعد الان انسانا جميلا شرف عالمنا اليومي بالعبور عليه اسمعنا رؤاه تتابعا وعلمنا الكثير من عوالمه وأحالنا في الكثير من محطاته الى الحقائق الانسانية الثلاث التي تعلمتها بصورة مختلفة من الرجل وهي المحبة والتواضع والتسامح.
    في كل مرة أنزل فيها الخرطوم كنت دائم السؤال لنفسي في صمتي هذه المدينة وحدها تعرف الطيب صالح أكثر من كافة مدن الدنيا وهذه الخرطوم وحدها حجزت لنفسها مكانا أبديا في قلب الطيب صالح حتى وان عاش الرجل في صورة المواطن العالمي أكثر منه مواطنا سودانيا، ولكن هذه المدينة وحدها ستقول لي في كافة أسفاري القادمة الى الخرطوم هذه المدينة وحدها هي التي تشرفت بالنومة الابدية لانسان كان أبدا جميلا متسامحا مبدعا شفافا. كان بيننا هنا واختار أن يرحل كائن اختارت له أمه الطيب اسما فكان طيبا وبامتياز من المهد الى اللحد تلك حكايتي أنا مع الطيب صالح مبدعا وانسانا.
    ' كاتب واعلامي جزائري مقيم بواشنطن
    [email protected]


    الطيب الصالح كما أراه

    الدكتور حسان التليلي



    أحببت الطيب صالح خلال العطل الصيفية وأنا تلميذ في الثانوية. فقد كنت وقتها مولعا بالقراءة. وكنت في ريف 'عين الكرمة 'التونسي أقرأ 'موسم الهجرة إلى الشمال' أو 'عرس الزين' واعتبرهما وجبة دسمة تغنيك طوال أسبوع أو أكثر عن قراءة الكتب الصفراء أو الصحف اليومية التي كان 'يقرطس' فيها صاحب المحل التجاري الوحيد في القرية الشاي والسكر والصابون والبن. يطلب مني والداي شراءها فألح على أن تكون موضوعة في هذه الجرائد حتى أقرأها والحال أنه كان قد مرت على طبعها أحيانا أشهر عديدة.
    لا أزال أحب الطيب صالح حتى بعد رحيله لأني أعتبره من الكتاب العرب القليلين الذين استطاعوا تطعيم كل ما كتبوه في الأدب والسياسة والفلسفة والاقتصاد وفي كل التخصصات بعلاقاتهم مع الريف. وأعتقد شخصيا أن معين هذه العلاقة لا ينضب لأن الطيب صالح استطاع أن يكرع منه حتى آخر يوم من حياته في مجالسه الخاصة والعامة وبخاصة في عملية الإبداع عنده. وواضح أن هذه العلاقة هي التي جعلته يأنس كثيرا - عندما تقدمت به السن - إلى الجلوس في بلدان الخليج العربي لأن اللحن الخليجي يذكره بألحان قريته في صباه، ذلك أن هذا اللحن لا يزال قريبا من مشية الجمل وطلوع القمر و هدوء الصحراء الصاخب. فالطيب صالح لبسته ألوان الريف وأنوراه وليله وصمته حتى في الطريقة التي يكتب بها وفي صياغة الحوار بين شخوص إبداعه.
    أحب الطيب صالح لأني أعتبره أيضا من الكتاب العرب المعاصرين الذين تمكنوا من ترويض اللغة العربية على نحو يجعلها تتمنى ليل نهار أن تكتب بأقلامهم لأنها تصبح حبلى بالمعاني وشهية وعذبة و سخية دون أن تكون مطاطة أو متطفلة. وما يعجبني مثلا في طريقة تعامله مع الكلمات أنه كان رحمه الله يمنحها قدرة على الإيحاء ترقى به وبالقارئ وباللغة ذاتها إلى مراتب عليا. ويذكرني عبر إيحائه بالكاتب التونسي الراحل محمود المسعدي الذي يستخدم مثلا عبارة 'كنا في الشيطان' عندما يريد أن يصف جلسة حب حميمية بين رجل وامرأة تواقين إلى السفر بعيدا وهما لا يبرحان مكانهما. وشخصيا أعتقد أن الكاتب العربي الوحيد الذي ظل على قمة رأس هرم ترويض العربية من الكتاب الأحياء هو كاتبة لا تزال في مقتبل العمر والعطاء. وأعني أحلام مستغانمي. هذا رأيي وأتحمل مسؤوليته.
    أحب الطيب صالح أيضا لأنه كان بحق حسب رأيي أحد بناة الحداثة التجديدية الأصيلة. فقد تمكن الراحل من نفث روح جديدة في لغة قديمة ومكنها من التعاطي مع لغة العصر. وبين من خلال أسلوبه وإبداعه أن الحداثة ليست مصطلحا نقديا ولكنها تداخل وتمازج مستمر منفتح على المستقبل وقائم على جذور لاءات من عدم أو من عوالم افتراضية.
    سأظل أحب الطيب صالح لأنه اهتدى بثقافته الموسوعية وإحساسه المرهف والعودة إلى التراث الذي طعمه برحيقه إلى كسر الحدود الممكنة أو المفتعلة بين أشكال الإبداع. ويتجلى ذلك أساسا من خلال ما كتبه طوال سنوات عديدة في مجلة 'المجلة' عبر زاوية 'نحو أفق بعيد'. والطريف في عملية كسر هذا الجدار أن صاحب العملية أي الطيب صالح -طيب الله ثراه- استخدم فيها أداة كان يمتلكها ولما يزل طفلا وهي التكنيك الروائي. فقد مكنته هذه الأداة مثلا عبر هذه الزاوية من أن يمزج في المقال الواحد بين فنون كثيرة منها فنون القصة القصيرة والخاطرة والسيرة والمقالة الساخرة والتأملات. والذين صادقوه كثيرا أو عرفوه عن كثب يقولون عنه إنه كان هكذا في أحاديثه اليومية مع المثقفين وغير المثقفين والمتعلمين والناس البسطاء. سأظل أحب الطيب صالح لأنه استطاع أن ينفس عن أبي حيان التوحيدي الذي كان يقول إن أقصى درجات الغربة هو أن يكون الشخص غريبا بين أهله وذويه. وتأتى للأديب الراحل الطيب صالح ذلك من خلال استلهام جزء كبير من إبداعه مما يجمع الثقافة الإفريقية والعربية والغربية. وأنا شخصيا أعتقد أن ثقافة المستقبل المرجعية هي ثقافة هجينة لأن العالم تغير ولأن 'الهويات القاتلة' التي يتحدث عنها الكاتب اللبناني اميل معلوف قد ألهت كثيرا من المبدعين العرب عن العودة إلى ما هو إفريقي في دمهم وثقافتهم وهي قريبة جدا من دم الثقافة العربية غير الإفريقية.
    أود أن أختم هذه المداخلة بالتأكيد على أني سأظل ما حييت أحب الطيب صالح لأنه كان فعلا متواضعا جدا، بل إنه قال ذات يوم إن 'قصيدة واحدة من المتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر'. أحب في الراحل تواضعه لأني أعتقد شخصيا أن الكاتب الذي ينظر إلى الآخرين من علياء متطفلٌ على الإبداع حتى ولو كان مبدعا جيدا. ذلك أن أفضل الكتاب عندي هو الإنسان.
    ' صحافي تونسي
    qad
    qpt86

    القدس العربى
                  

03-19-2009, 05:00 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    الطيب صالح .. وداعا ربيع الادب
    ... بقلم: مكي ابوقرجة
    الأربعاء, 18 مارس 2009 19:49

    بسم الله الرحمن الرحيم

    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته
    واقبلت جوقة الانشاد..كان مشهدا فريدا ومؤثرا.عددهم لم يكن يتجاوز العشرين شابا...يشكلون مربعا صغيرا ويسيرون في خطو منتظم نحو سرادق المأتم.اصواتهم شجية عذبة.توقفوا هنيهة امام الناس ينشدون.ثم ما لبثوا ان تفرقوا داخلين الي المكان في هدوء ووقار.هؤلاء شباب الاسماعيلية لاغيرهم.
    كنت اجلس الي جانب الدكتور مرتضي الغالي وهو رجل عالم أريب فتساءلنا من الذي يعرف العلاقة الواشجة التي تربط كوكبة المنشدين هذه بالراحل الكبير؟من يعرف ذلك الخيط العرفاني الذي يشد اضرحة الدبة بذلك الضريح الثاوي فى قلب مدينة الابيض؟ رأي الطيب صالح هؤلاء المنشدين الشباب وهو فى مهجعه السماوي الوثير وأخذ يرمقهم . عودة وحبور ويقول " لذلك عدت اليكم عثرتي بعد هذا الغياب الطويل حاملا جذوة اشواقي ومحبتي وولائى الذي لايزول "
    قال حين كتب " دفناها عند المغيب كاننا نغرس نخلة او نستودع باطن الارض سرا عزيزا" هكذا كان حاله هو . يسٌر وسهولة فى كل ما تعلق بعودة جثمانه ودفنه . اليوم كان الجمعة والشوارع ساكنة الا من سيارات قليلة عجلى تشق الطريق العام.تخترق صمت المشيعين الواقفين اصوات تجهش بالبكاء من وقت لاخر. تكاد لاتسمعها من فرط وقارها .عندما فرغوا من دفنه واخذوا ينفضون من حول القبر قلت اقف قليلا مودعا .ألفيت قبرا متطامنا لم يشرئب عن الارض كثيرا وما ارتفع.فرغ اناس منه للتو ولكنه بدا كقبر دارس مضت عليه سنوات.أهكذا انت في الحياة وفي الممات!
    مااكثر ما لذنا بابداعه حين كانت الآفاق تعتكر وتنقبض النفوس.نتناول اعماله من قريب فلم تبعد عنا يوما.نلج عوالمه الساحرة فتنجاب عنا سحآئب الحزن وتوترات الغربة.وحين يجد بشأنه حديث نحاول الكتابة عنه حبا واحتفاءً.
    استكتبته ذات مرة جريدة" الاتحاد" الظبانية التي كنت اعمل فيها .ظل مثابرا يكتب عمودا اسبوعيا يبعث به من اي مكان تقوده اليه خطاه في كل انحاء العالم .ما اعتذر يوما ولاسأل عن اجره.كتب مرة عن رحلة له الي نيويورك قال انه قضي نهارا رائقا وضيئا في ضيافة المدير الاقليمي لمنظمة اليونسكو هناك....الفاتح ابراهيم حمد.هزٍه كرم اهل الدار وأريحيتهم وتحدث عن اصهار الفاتح ....أهل الحلفاية الكرام .رأي من بينهم شقيقة ربة الدار سيدة ذات جمال وكمال تزمع الهجرة الي كندا .فأمضه ذلك واضناه.أشار الي عنت الايام والظروف اتي تدفع ببنات العائلات الكريمة الي الهجرة.كنت عائدامن عطلة قضيتها فى لندن في ضيافة صديقي الشاعر راشد سيد احمد . اكرمنا اصدقاؤه ومن ينهم نفرٌ من اهل الحلفايا . اكرموا وافاضوا .
    كتبت مقالة حول حديثه ذاك.. فالفاتح كان من اهل مدينتي كوستي .مازلت اذكره ايام الطفولة يتقدمنا فى الدراسة مشاغبا عذب السلوك ومنذ تلك المقالة الزمني صديقنا المرحوم الفاتح التجاني – سكرتير التحرير بالجريدة- بالكتابة الاسبوعية التى امتدت لسنوات واحتواها فى وقت لاحق كتاب ( اصوات فى الثقافة السودانية )
    فى منتصف سنوات الثمانين فى القرن الماضي التحقت بجريدة ( اخبار الخليج )بالبحرين محررا مترجما . قلت اناوش صفحة الادب احيانا بشئ مما اكتب . تناولت تجربة الطيب صالح الروائية. كنت منفعلا باعمال ماركيز وخاصة رائعته ( مائة عام من العزلة ) . غامرت بعقد مقارنة بين الكاتبين الروائيين . كنت احاول الزعم بان المناخات الروائية للطيب صالح سبقت تجربة ماركيز فى الواقعية السحرية. الكتابة اعجبت مدير التحرير وكان مثقفا مصريا جم الاحتشاد. كما اعجبت عدداً من القراء والادباء ونلت بها حظوة واعجابا لازمني حتي فارقتهم. تلك كانت احدي فيوضات وبركات سيد العارفين . ولما زار الطيب البحرين يوما جاءني صديقي الاديب البحريني محمد فاضل ليصحبني الى الفندق الذي كان يقيم فيه الروائى الكبير .كان يرغب في اجراء حديث معه . كنت غارقا فى اعداد اخبار الصفحة الاولي فاعتذرت وفاتني لقاؤه كما فاتني مرة اخري فى عاصمة الضباب ويا للحسرة .
    فى صيف عام (2002) كنت عائدا الى ابوظبي من مهمة صحفيةفي العاصمة الالبانية ( تيرانا ) ولما توقفت فى مطار اسطنبول فاجأنى زوجان بلغاريان عجوزان بمعرفتهما للزعيم العمالي والنقابي العالمي ابراهيم زكريا – اطنبا فى الحديث عنه وعددا مآثره . كان الرجل البلغاري دبلوماسيا صغيرا حين التق ابراهيم زكريا فى اوائل الستينيات ولم يبرح ذاكرته . عدت مزهوا بما سمعت فكتبت . وقرأ الناس المقالة وبعث بها صديقنا الكاتب الاستاذ الفاضل عباس الى الطيب صالح فى لندن بالفاكس. بعد ايام التقيت بالفاضل الذي يمت بصلة القربي للكاتب فابلغنى ان الطيب اتصل به هاتفيا وهو يبكي بعد ان قرأ المقا لة. حتى ذلك الوقت لم اكن اعلم بالصلة التى تربط الطيب صالح بابراهيم زكريا. فاتضح لى انه ابن خاله. حقا هذه الارض لا تنجب سوي الافذاذ والنجباء. تلك البقعة زعم الاخباريون القدامي انها شهدت نشأة الخليقة الاولي.وقامت علي ثراها حضارات الانسانية البكر ونشأت فيها ممالك كثرآخرها مملكة الدفار.وانتشر بنوها في مختلف بلاد السودان منذ الزمن القديم .برزوا ونبه ذكرهم.فمنها جاء الشيخ اسماعيل ابن عبد الله الولي الكامل الذي اختط طريقة صوفية سودانية خالصة مازال شذاها يعطر دروب السالكين.وحاج عبدالله الدفاري مابرح ضريحه ظاهرا يزار في الكوة بالنيل الابيض.قال احد حوارييه كان القرب منه الجنة بعينها ولااطمع في جنة سواها.مازالت كراماته تتري والحديث عنه علي كل لسان.
    ومن قرية ابكر بتلك المنطقة برزت والدة النور عنقرة الي غردون باشا تحدثه بشجاعة بشأن ابنها الذي كان موظفا في الادارة التركية.كان غردون قد جاء في مهمته الاخيرة حكمدارا علي السودان ليعمل علي اخلاء الحاميات .
    والنور عنقرة دوره مشهود في التركية والمهدية التي انحاز اليها وبات اسطورة في معاركها باقدامه الاسبرطي وروحه القتالية المتمردة ولعل التاريخ لم يذكر كثيرا ابن اخته الحاج ابوبكر الذي قذفت به جسارته الي المكسيك محاربا في صفوف الاورطة السودانية-المصرية في منتصف القرن التاسع عشر .ذكر عارفوه انه عاد الي السودان بخبرته العسكرية ومهاراته الحديثة في القتال وانخرط في صفوف انصار المهدي.وحين شارك في معارك الحبشة حدث ان تقدم العدو في بحر متلاطم من الجنود فأحرز نصرا مؤقتا علي الانصار .خرج فصيل بقيادة الزاكي طمل وعبد الله ودابراهيم والحاج ابوبكر.لحقوا بجيش الاحباش.زغردت النساء السبايا حين رأينهم يكرون .قذفوا بانفسهم في قلب جيش العدو.كالمردة كانوا يقاتلون او الغيلان. اندفعوا نحو موقع الامبراطور فقتلوه وانتزعوا رأسه وتاج ملكه.غيروا نتيجة الحرب وعادو ا ظافرين.
    من هذا المكان ايضا انحدر اسلاف المفكر الاسلامي الشهيد محمود محمد طه والعالم الموسوعي الدكتور التجاني الماحي وغيرهم كثر.اليس حريا بالمؤرخين ان يلتفتوا لظاهرة هذة البقعة التي لاتنجب سوي الافذاذ.
    كان يونس الدسوقي من الصداقات العظيمة التي اكتسبها الطيب صالح في السنوات الاخيرة .ربما كان يونس يكبر الطيب باربع او خمس سنوات علي وجه التقريب.وكان قد اتخذ من القاهرة منفي اختياريا له منذ اوائل العقد الاخير للقرن العشرين.غادر السودان مغاضبا حين غدت الايام عصيبة وعتمة النفق لاتبشر ببصيص.سرعان ماتعرف الناس علي قدراته المدهشة ومعارفه الموسوعية ومهاراته اللغوية في الحديث وشخصيته الآسرة.بات فندق هابتون في قلب القلهرةمحجة يفد اليها الناس .يحدثهم احاديث يتجملون بها .ويجدون فيه صورة السودان الضائعة .فالتقيا الطيب صالح ويونس واكتشفا انهما يحملان نفس الهوي والروح.يتحدثان في الادب والتاريخ ويتباريان في رواية اشعار المتنبي وذي الرمة يتعابثان احيانا فيصنع الطيب روايات صغيرة ملؤها السخرية والعبث.كان ثالثهم هو صديقهما محمود صالح الذي لايلتقيان دون حضوره المشرق وروحه العامرة .انتظم الطيب صالح في زيارته للقاهرة كل عام ليلتقي بصديقه لزيم الخان.وتظل اصداء زيارته لفندق هابيتون يتداولها العاملون –الذين اسعدتهم نفحاته المالية السخية. ومادار بخلدهم ان الكاتب صنع منهم مادة لدعاباته وحكاياته المرحة التي يسعد بها صديقه يونس.
    حين زرنا القاهرة في صيف عام2004 اقمنا مع يونس في فندقه.كنا في انتظار محمود صالح الذي كان في اصيلةمع الطيب يشاركان في المهرجان .عاد محمود وحده بعد ان ودع صديقه الذي عاد الي لندن .كنا تمنينا ان يعودامعا فتسعدنا رؤية الكاتب الا ان محمودا الذي ما فارقنا طياة ايام زيارتنا عوضنا وافاض.اما يونس ففد غمر اماسينا –رغم الوهن وفقدان البصر-بكرمه الجموم واحاديثه العذاب وذكرياته المليئة بالطرائف والنوادر .كان الطيب صالح حاضرا دوما في تلك الاحاديث خاصة عندما يكون صديقنا مصطفي عبادي حاضرا وكان عبادي يروي لنا النكات التي كان الطيب صالح يستجيدها ويستملحها .
    تلك ايام لن تعود فقد مضي يونس اثر عودته الي السودان قبل عامين او يزيد.وهاهو صديقه الطيب صالح يعود محمولا علي نعش بعد اغترابه الطويل ليدفن الي جواره في مقابر البكري.فعليهما الرحمة .
    كتب الكاتبون نقادا ومحبين ،عربا وسودانيين منذ غيابه الفاجع .أسالوا حبرا كثيرا وسيظلون يفعلون مادام للادب سوق قائمة.وليس ذلك كثيرا علي هذا الرجل الذي بات في عداد الخالدين .كانت كتاباتهم مثقلة بالحزن والاحساس بمرارة الفقد .كانهم لم يتوقعوا له الغياب.لاازعم أني قرأت كل ما كتبوا ولكن استوقفنني بعض الكتابات لكتاب عرب ما كانوبعيدين عن ابداع الرجل ولاسيرته الشخصية التي ادهشت كل من تابعها .
    سمير عطا الله كاتب في صحيفة"الشرق الاوسط"جاء في عموده في الصفحةالاخيرة غداة وفاة الطيب صالح"كان يحول الشجرة الي حكاية.والصبا والشقاء والهجرة والبقاء والترعة والفلاحين وصوت الغابة وغناء افريقية والتيه في عالم الرجل الابيض واضواء المدينه وابحار العمامة البيضاء في نوتات بيتهوفن ومؤلفات شيللي ومناخات مور. يحولها كلها الي حكاية يأسر بها قاريئه"ثم لايلبث ان يستطرد في عموده قائلا"لم يفلسف الطيب صالح المشاهدات ولم يطرح القضايا بل رسمها مثل غويا .ولم يثر الالمسائل بالفاظ طنانة بل زرعها في السهول ببساطة وعفوية .لم يتوسل لشهرته ظلامة افريقيا.ولم يستمهل احدا عند بشرته ولم يستوقف احدا.مثل النيل مضي وتركنا نتبعه.يقلده المقلدون عبثا .فقد كان خليطا سريا مثل القهوة الاتية من شجرة بن لها الف لون والف عبق. هذة نظرات نافذة ولا ريب من كاتب يبدو اهتمامه بالادب واضحا .وهي تبدو كانطباعات قاريء محب قادر علي التعبير .استطاع ان يسبر اغوار العوالم الابداعية للطيب صالح ويستمتع بنصوصه.
    واستوقفني ماكتب ياسر عبد الحافظ-وهو روائي مصري شاب."انشغل بناوانشغلنا بانفسنا عن معرفته.وكأنك تطارد سرابا في صحراء.كائنا اسطوريا في غابة يحفظ كل دروبها وانت اعمي خلف اثره الذي لايكاد يري .يقترب من المستحيل ان تكون هناك شخصية مثل الطيب صالح ....لااحد هكذا .ربما فقط في الفن نصدق..:انما في الواقع ملعب الالام الواسع فهناك الصراع بكل مايحويه من متناقضات "ويقول في مقاله الذي نشرته صحيفة الاحداث في العاشر من مارس يبدو انه كان قرارا من البداية ان يقتصد نفسه لنفسه.هكذا نجح في العبور من وسطنا بعد ان نجحت خطته تلك التي تعتمد علي قاعدة واحدة لاغير:أنا لست هنا ؛لاتعتبروني هكذا حقيقة " هذة رؤية كاتب روائي يستبد به الخيال .فراي في سيرة الطيب ما هو اقرب الي الخيال من الواقع.فدفع به الي الدائرة التي يقف فيها البطل وحيدا بكل الخصائص التي يوفرها له السياق الدرامي.ننجح في الاشارة الي عظمة الكاتب وسجاياه البازخة .ومما لفت النظر كذلك اشارته الي كلمة الناقدة هدي فايق التي كتبت تقول :اتصفت اعماله باناقة اللغة و الغزارةالشعرية التي تجعل من رواياته قصائد صوفية كونية...هذا بالاضافة لتجديده في بنية الرواية العربية.من خلال استخدامه الواعي والمؤصل لتيار الوعي في كتابته وغوصه في عمق الشخصية العربية ليحررها من حدود المكان الضيق الي الفضاء الانساني الفسيح.
    ظل محمد بن عيسي وزير الخارجية المغربي الاسبق وامين عام مؤسسة منتدي اصيلة يمحض الطيب صالح ودا عميقا وتعلقا مشبوبا ويناديه ب " سيدي الحشوم" قال عنه مرة :هو كل كامل يقاسمك احاسيسك .لايعادي ولايحاسب ولايلوم .وهو كل كامل لاينافق ولايحابي.قنوع لدرجة اهمال حقوقه ومستحقاته دؤوب بقهقهته وتقاسيم وجهه وشرود نظراته ..كل شي لدي الطيب ملفوف في الحشمة والتقشف ونكران الذات.
    هذه كلمات رجل اقترب كثيرا من شخصية الطيب صالح ولمس ذلك التسامي الشفيف لرجل لابد انه ادرك جوهر الحياة وقيمتها في موازين العارفين .
    لاريب اننا قرأنا اعمال كاتبنا منذ سنوات طويلة استعدنا قراءتها واستعدنا ومازلنا نستجيد ...ونحاول التعبير عن تلك المتعةما وسعنا ذلك محتفين بهذة الاضافة الثرية الملهمة الي حياتنا القاحلة الجديبة. مازلنا نتوقف عند مفرداته ونثره المختلف الذي لم يتوفر كثيرا لدي معظم الكتاب االروائيين .نتوقف دائما وكثيرا عند تلك المقدرةالعبقرية علي الوصف والتعبير .تجد ذلك في كتاباته المتناثرةفي مقالات او احاديث صحفية اومقدمات لكتب. ذلك غير رواياته التي اضحت متاحة للقراء في معظم لغات العالم الحية .
    كتب مرة يصف لقاء له مع الام تيريزا، وهي مبشرة مسيحية شغلت العالم باعمالها الانسانية وحبها للفقراء وتفانيها في خدمتهم .رآها في صالة المغادرة بمطار الخرطوم .هو كان في وداع احمد مختار امبو؛مدير اليونسكو الاسبق. ما قرأت نصا ازهي واروع مما كتب.نثر يزري بالشعر الفخيم .كأنه صيحة ابن عربي"أدين بدين الحب " توجه بكلياته وقلبه يصف ذلك الحضور الاشراقي لتلك المرأة ا لعجائبية .قال "وكان الوقت اواخر الليل ،فاذا ضؤ يسطع الي اعيننا .التفت الي مصدره،فاذا السيدة العجيبة تدخل بهدؤ كما يسيل الماء في الجدول .عليها الثوب الابيض الذي اشتهرت به .وحولها فتيات في مثل زيها .سمراوات .هنديات .أو اثيوبيات او خليط من الاجناس .جلست علي كنبة وطيئة وجلسن حولها ،وعند قدميها كأنهن افراخ حمام في عش.وجهها مغضن ملئ بالتجاعيد .وجه جميل .اجمل ما وقعت عليه عيناك .يذكرك بوجوه كثيرة احببتها وضاعت منك في زحام الحياة .تملؤك بالحبور والحزن وتراها خفيفة جدا .وهي صغيرة الحجم اصلا.كأنك تستطيع ان تحماها في راحة يدك.تريد ان تحتضنها وتقبلها كما تحتضن جدتك او امك او ابنتك."
    لم ينس المبدع ان يربط بينها وبين الاميرة ديانا والعلاقة التي نشأت بينهما والنهاية المريعة للاميرة الجميلة والتي توافقت مع رحيل تلك السيدة العجيبة....مضت تريزا في صمت، ولم يكف الاعلام عن الضوضاءبشأن ديانا.سافرت كل واحدة منهما في نهاية المطاف وحدها وكذلك الطيب صالح ...
    فاي شهاب قد سطع في سماء الادب ،واي رجل قد تواري وذهب.
    غاضت الينابيع وتصوح البستان، فوداعا ابا زينب
                  

03-31-2009, 06:52 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    أحياءٌ عِند قُرائِهم يُذكرُون (1)! ... بقلم: فتحي الضّـو
    الأحد, 29 مارس 2009 22:31


    [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته

    شخصيتان لم يجمع بينهما سوى قاسم مشترك واحد...هو مصطفي سعيد! الأول كاتب الرواية نفسه الراحل العظيم الاستاذ الطيب صالح، والذي يصادف هذا الاسبوع أربعين رحيله عن دنيانا الفانية، أما الثاني وهو من اعتقد البعض بل زعم هو نفسه أنه مصطفي سعيد الذي جسدت الرواية حياته، وله في ذلك قرائن وحجج وبراهين...وهو الأستاذ علي أبو عاقلة أبوسن، والذي رحل عن دنيانا أيضاً قبل بضع سنوات خلت (أغسطس 2004) بمدينة الاسكندرية ودفن في احدى مقابرها ”المنارة“ وهي المدينة التي اختارها ليقضي فيها بقية سنوات عمره بعدما أرهقه الترحال وأرَّقه الشجن. وقد رثاه الفنان والشاعر الفحل أحمد عبد الله البنا الشهير بـ ”الفرجوني“ بقصيدة عصماء جاء فيها: رَازّانِي الدَّهَرْ سَاقْ العُزَازْ مَا خَلَّي/ حَسَّانْ سَاقُو أحْمَدْ وَالدِّمُوُعْ مِنْهَملَّة/ وْحَسَّانْ سَاقْ عَلِي وكَفِّي الْيمِيِن إنْشَلَّ/ عَايَنْتْ في السَّمَا وْ شُفْت القَمرْ مَا هَلَّ/ عَايَنْتْ فِي النَّجمْ غَابْ النَّجِمْ مَا اتْجَلَّي. أما أنا العبد الفقير إلى ربه كاتب هذا المقال فالقاسم الذي يجمعني بالشخصيتين العظيمتين، هو أن الثاني هذا كان أحد أصدقائي العديدين في رحلة المنافي الطويلة، وقد ألَّف الهم العام بين قلبينا، وذلك عندما أناخ كلانا بعيره في قاهرة المعز بحثاً عن قضية وطن ناءت العصبة ذوي البأس بكلكلها عليه في تلك الليلة الليلاء من اواخر يونيو 1989 أما الأول فبيننا صلة رحم ووشائج قربى، فرغم مَقتي للتصنيف الجهوي، والذي لا أظن أنه يُهم القارىء الكريم في كبير شيء، لكنني أبادر - بعد التوبة – وأقول على الرغم من أن مسقط رأسي في الوسط، إلا أن والدة جدي لأمي الحاجة ”ست البنات“ هي عمة الطيب صالح في نفس الوقت، وتلك من ابداعات أهل السودان في تعدد الأنساب والأصول والصلات، وفي الواقع رغم علمي بصلة قرابة ما تجمعني بالراحل المقيم، إلا أنني لم أع تفاصيلها إلا بعد أن حادثت عمنا مكي سليمان المقيم حالياً في ”بوسطن“ والمفارقة أن الطيب نفسه لم يقيض الله لي أن ألتقيه سوى مرتين في حياتي، الأولي عندما زار منزل الأسرة في ”الشجرة/الحماداب“ مطلع السبعينات، والثانية في أواخرها عندما جاء إلى الكويت - التي كنت مقيماً فيها - وذلك لحضور إفتتاح فيلم ”عرس الزين“ الذي أخرجه خالد الصديق، فزرته وبعض أهلي في مكان إقامته وقضينا معه وقتاً طيباً ما زال طعمه عالق بالنفس رغم تقادم السنين، ويبدو والله أعلم أنني أمسكت عن ذكر كل ذلك لقناعتي بأن الطيب رجل قومي، يحق لكل سوداني أن يدَّعي صلة قرابة به دون أن يشعر بحرج الادعاء! كنت قد عكفت في الأيام القليلة الماضية إلى إعادة قراءة كتاب لم يجد حظه من الذيوع والانتشار وذلك لأسباب كثيرة ليس هذا مجال ذكرها، على الرغم من أن هذا الكتاب يُعد من أهم كتب المذكرات والسيرة الذاتية في الحياة السياسية السودانية، بل أكثرها صراحة ووضوح وجرأة. وفي التقدير أن المقارنة قد تبدو جائرة بعض الشيء مع القليل الذي صدر في هذا المضمار، فعلاوة على أننا نحن معشر السودانيين معروفون بالميل لأحاديث الشفاهة والنأي عن التوثيق، فالقليل الذي صدر غلبت عليه العواطف الزائفة والميل نحو المجاملات والمبالغة في تبرئة الذات، بل تزكيتها وإحاطتها بكل ما هو إيجابي والهروب عن كل ما هو سلبي. وعليه لا أظن أن كتاباً يمكن أن يضاهي كتاب بابكر بدري ”حياتي“ سوى كتاب الراحل على أبو سن والذي صدر في العام 1997 في جزأين ووضع له عنواناً رئيسياً ”المجذوب والذكريات“ وآخر فرعياً ”أحاديث الأدب والسياسية بين الخرطوم ولندن والقاهرة وباريس“ وأظن أن التسمية الرئيسية هي من قبيل الوفاء، حيث ربطت بينه ومحمد المهدي المجذوب علاقة صداقة إنسانية سامية يندر أن تجد لها مثيلاً، وكان المجذوب قد سبقه في إهدائه ديوانه الثاني ”الشرافة والهجرة“ وقال أبو سن إنه الاهداء الذي أوغر صدور البعض «قد تعرضنا المجذوب وانا إلى تجربة قاسية كشفت عن الإفلاس الأخلاقي وإنعدام صفات النزاهة والايمان بحرية الفكر، وغيرها من القيم مما كان يتمشدق به أحد وزراء خارجية نميري»...إلى أن يقول «وقد أكدت الأيام أن ذلك الوزير هو ما يمكن أن نطلق عليه ”النموذج الفاضح“ لحالة المثقف السوداني الذي ثبت – بصفة عامة – أنه ضعيف جداً أمام اغراءات السلطة، مُسِفِّ في أفانين التسلَّق والمَحلَسَة» وهو يقصد منصور خالد والذي خصه في الكتاب بجزء غير يسير...قد يكتشف قارئه أن الود مفقود أصلاً بين ثلاثتهم! بيد أن أبو سن لم يقصر حديثه في الكتاب عنه وحده، فقد تناول سيرة آخرين ملأوا الدنيا ضجيجاً وعجيجاً وشغلوا الناس، وأورد عن البعض وقائع قد تُحرِّض البعوض على الانتحار في البرك الراكدة، ولأن الشجاعة الأدبية كانت تعد واحدة من أعظم صفات أبو سن، لهذا كتب مذكراته تلك وقال كلمته في الأحياء وهو بين ظهرانيهم قبل أن يلتحق بالأموات الذين لم يستثنهم أيضاً، وتلك خصلة يندر أن تجدها عند الناشطين في الحياة العامة والذين دأبوا على أن المسكوت عنه هو القاعدة والقليل المنشور هو الاستثناء! ولم يكن أبو سن ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، فحتى يؤكد مصداقيته بالنسبة للقاريء فإنه لم يستثن نفسه، فقد تناول نُذُراً من سيرته الذاتية بصورة جبَّت أي منهج تأطرت فيه الثقافة السودانية السائدة. فقد عرف الناس فئة من البشر إعتادت على الكيل بمكالين، لا سيما، حينما يشرعون في تناول القضايا المختلفة، فيستعرضون حياة الناس العامة والخاصة بالتشريح والتسريح وينسلون كما ”الشعرة من العجين“! ولأن أبو سن ظاهرة يندر تكرارها في الحياة العامة فلا أعتقد أن سياسياً سيجرؤ على إصدار كتاب مماثل يمزق بكارة أحاديث الغرف المغلقة مثلما فعل. وقد يتفق البعض أو يختلف مع بعض المواقف التي أوردها أبو سن في كتابه، وتلك سُنة البشر إذا ما تواضعوا على أن مفهوم الاختلاف لا يعني إقصاء الآخر أو رجمه كما يرجم الحجيج الشيطان! وبنفس القدر أن الاتفاق لا يعني غض البصر عن معايير الموضوعية والواقعية. أقول قولي هذا ويعلم القاريء الكريم أن بيننا قوم متخلفون لم يضعوا للحوار قيمة ولا للآخر مكاناً...وهم الفئة الضالة التي ما تزال تعتقد بأن الغلبة للبندقية والحكم للمتسلط الجبار والبقاء لذوي الأجندة الحربية والشعارات الجوفاء!كان أبو سن رجلاً نسيج نفسه وحدها...شديد الاعتداد بها وبحسبه ونسبه وكريم محتده، وقد يدهشك حينما تراه متدثراً بكبرياء الملوك، ويجبرك على احترامه حينما تجده متزملاً بتواضع الزُهَّاد. كان من الرعيل الأول الذي هاجر من بلاده طلباً للعلم والعمل، فأتيحت له فرصة في هيئة الاذاعة البريطانية أواخر الخمسينات (1959) وبعد خمس سنوات مفعمة بالحياة بتفاصيلها المزركشة، غادر بريطانيا إلى السودان ليعمل في السلك الدبلوماسي برئاسة وزارة الخارجية، وهي الفترة التي أتاحت له معايشة السياسة بكل زخمها بعد ثورة أكتوبر 1964 ثم عاد مجدداً إلى بريطانيا ضمن طاقم السفارة السودانية، وعاش حياة حافلة بكل ما هو مثير، وهي الفترة التي وثق لها بتلك الصورة المذهلة في مذكراته، ثم تنقل بين الخرطوم وباريس والقاهرة، وفي كلٍ كانت حياته أشبه بحبات مسبحة لا تحتمل الانفراط، كان يحب الصدق ويتنفسه كما الهواء، لهذا عشق الحياة بكل عنفوانها، وكان يكره الكذب ويمقت المداهنة والنفاق. وإلى جانب إنه دبلوماسي محنك وسياسي لا يشق له غبار، يمكن القول إنه كان مثقفاً شاملاً - إن جاز التعبير - يحدثك في الأدب بكل ضروبه...كان يقرض الشعر في بواكير حياته فهجره وأصبح من ثقاة رواته، بدءً من الشعر الجاهلي ومروراً بالشعر الحديث وإنتهاءً بما يطلق عليه الشعر العامي أو الدارجي السوداني، ويضيف لك من الرواية والقصة أشكالاً وألواناً. كان فناناً ماهراً إذا هبط المساء أمسك بريشته وذاب في عالم المرئيات، وعندما يرخي الليل سدوله يسلم روحه وأذنيه لباخ وبتهوفن وموزارت وأم كلثوم وكرومه وسرور والأمين برهان. كان ثراً في معلوماته ومعارفه حينما يحدثك في التاريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم النفس والاجتماع...كان يتحدث الانجليزية بطلاقة العربية وينطق العربية بطلاوة الفرنسية، وفوق ذلك متحدثاً لبقاً من النوع الذي لا يبارح مخيلتك إلا بعد ان يترك أثراً في ذاكرتك يصعب أن يطمسه الزمن. كان يعرف كيف يجذب انتباه المستمعين بحديث سلس ولغة رصينة وعبارات منتقاة كأنه يبسط أمام ناظريه قسطاس يزن به كلماته. وقد عرفه الناس شهماً وكريماً وجواداً كأنه يعيش في زمن حاتم الطائي، شديد الوفاء لأصدقائه وصحبه، والذين قدر لهم أن يكتشفوا فيه حبه للخير والجمال، وقالوا له من قبل أن تطوف عليه المنية...عجباً يا صفينا وخليلنا إنك من جنس خلق يعملون لدنياهم كأنهم يعيشون فيها أبداًً، وفي نفس الوقت يعملون لآخرتهم كأنهم يموتون غداً!في الكتاب المذكور تناول أبو سن موضوعات كثيرة مختلفة، ولسنا الآن بصدد استعراض هذا الكتاب ولا الحديث عنه، وسنترك ذلك لفرصة أخرى قادمة، ولكن سوف نحصر حديثنا في هذه الحلقات المتسلسلة عن العلاقة بين الراحلين وبينهما مصطفي سعيد! وفي الواقع هذا موضوع سبقني عليه الزميل الاستاذ عبد المنعم عجب الفيا ونشر دراسة بمقاربة متميزة في صحيفة السوداني العام 2001 وأعيد نشرها في مجلة كتابات سودانية التي تصدر عن مركز الدراسات السودانية، وكذا هذه الصحيفة ”الأحداث“ الشهر الماضي تزامناً مع رحيل الاستاذ الطيب صالح! وفي البدء لعل المفاجأة التي قد تدهش القاريء أن العلاقة بين الراحلين لم تكن بذاك العمق الذي يتوقعه القاريء الذي لا يعرفهما، رغم أنهما إلتقيا للمرة الأولي في ديارالغربة، وعاشا سنواتها معاً وعملا في مكان واحد، يصفها أبو سن بحيادية شديدة يقول عنها: «لم تنشأ بيني وبين الطيب علاقة صداقة حميمة خلال فترة الBBC لم نكن – مثلاً – نسهر سوياً أو نتبادل الزيارات، بل كانت بيننا علاقة بقرار صامت منه، أشبه بعلاقات القرابة، فيها كل ما في علاقات القرابة من عطف ورعاية وتكلف وحذر» ووفق منظوره هذا كانت العلاقة أشبه بنبات ينمو في الظلام، لا يعرف ناظره ما إذا كان ينمو حقيقة أو أنه متوقف عن النمو. وبالرغم من هذه البوهيمية فالمفارقة أن أبي سن يعد أول من إطلع على أعمال الطيب الأدبية، والتي بدأت تحديداً بـ ”دومة ود حامد“ فقال: «أعجبتني القصة جداً واستغربت حرصه على إخفاء كتاباته عن الناس، وحينما إلتقينا ساعة الغداء حدثته بذلك وحينما اقترحت عليه نشرها رفض الفكرة بشدة وحاول نزع الورقة من يدي، قلت له أسمع أنا لن أعيد إليك هذه القصة ما لم توافق على نشرها ووضعت القصة في جيبي، وتركته جالساً في الكافتيريا يداه على خديه، وعدت إلى مكتبي، وبعد ثلاثة أيام جاءني الطيب ضاحكاً وقال : يا سيدي خلاص أنا وافقت، لكين منو البنشرها لينا؟» فيرد القصة له ولكنه يتابعه حتى يتأكد أنه نشرها بالفعل في مجلة حوار. ولم يتوقف دوره عند ذاك الحد، فقد تابع توتر الطيب وشغفه لرؤية انطباع الناس حول القصة، وهو شعور طبيعي لا يماثله في هذه الحالة سوى توتر العرسان في الليلة الأولى بعد الزفاف! على عكس تلك الحيادية التي ذكرنا، كان رأي الطيب عن أبو سن فيه حميمة أكثر، ربما يعود التناقض إلى طبيعة الشخصيتين وخلفيات البيئة التي ترعرعا فيها وتركاها خلفهما، والمفارقة أيضاً رغم الايجابية في الشعور أن أبو سن جاء في ذيل قائمة أصدقاء الطيب الذين ذكرهم وعدَّد جنسياتهم المختلفة، وجاء ذلك في كتاب الزميل الاستاذ طلحة جبريل ”على الدرب مع الطيب صالح/ ملامح من سيرة ذاتية“ حيث خصَّه بهذه الكلمات القليلة: «على أبو عاقلة أبو سن الذي عرفته في لندن، فقد عمل معنا فترة في البي بي سي ثم عمل في وزارة الخارجية، وعاد إلى السفارة في لندن، وهو أديب مرهف الحس، وراوية للشعر، وحافظ لكثير من شعر أهله الشكرية، إلى جانب ذكاء شديد، ودقة ملحوظة، وهو من أوائل من اطلعوا على محاولاتي القصصية» والكتاب المذكور هذا صدر في نفس العام الذي صدر فيه كتاب علي أبو سن (1997) ولم يتطرق فيه الطيب إلى أي من المزاعم التي ذكرها أبو سن، سواء تلك التي طافت حول شخصية مصطفي سعيد ومدى تناغمها مع شخصيته أو القصص الأخري التي أثارها في مواقف مختلفة. لكن يعود الغموض مرة أخرى في سلسلة المقالات التي كان ينشرها الطيب صالح في مجلة المجلة، وفي إحدى الحلقات قال عن أبي سن «كان يقرأ النشرة على الانجليز كأنه يتفضل بها عليهم» كما يورد أبو سن نفسه رواية على لسان الطيب في مذكراته وقال إنه كان يكثر منها: «يظل أبرز ما أذكره عن علاقتي بالطيب هو تلك المرحلة القلقة من علاقاتي بالمجتمع الانجليزي خلال فترة إقامتي الأولى في أوربا. كانت العبارة المفضلة للطيب حينما يتحدث عني أمام الآخرين هي: ”نحن في السودان نصدر ثلاثة أشياء القطن والصمغ العربي وعلي أبو سن!! “ إشارة إلى النجاح الاجتماعي الهائل الذي أصبته في تلك البلاد، وهروباً من كلمات التشجيع المباشر!» ونواصل المبحث الاسبوع القادم بحول الله، وفيه نقف على الأسباب التي أعتقد ابو سن أنه مصطفى سعيد بطل رواية الطيب موسم الهجرة إلى الشمال وقول المؤلف نفسه!ملحوظة: كتبنا الأسبوع الماضي وبلسان عربي مبين مقالاً تطرقنا فيه إلى نواقض الحياة السوية فيما كتبه (الدكتور) محمد وقيع الله عن نفسه، ولما كان ذلك ذو صلة بإفساد الاخلاق والذوق العام فالمطلوب منه أن يدرأ التهم الثلاثة التي سقناها عنه بشواهد حديثه حفاظاً على سلوك الأجيال القادمة من الانحراف...وما زلنا في انتظار رده!!!عن صحيفة (الأحداث) 29/3/2009لمزيد من الاطلاع على مقالات الكاتب يرجى زيارة مكتبته على موقع الجالية السودانية بواشنطن

    :http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoname=فتحى الضو&sacdoid
                  

03-31-2009, 06:55 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرحيل المُر (Re: الكيك)

    بين الطيب صالح وعِطاية الزاهد .. بقلم: د. أسامه عثمان، نيويورك
    الأحد, 29 مارس 2009 13:20

    [email protected]
    غطي حدث الجنائية الدولية على حدث فقد أديبنا الكبير الطيب صالح، وقد يتسآل متسائل ماذا تبقى ليكتب عن الطيب صالح فقد كتب عنه الكثير. إن الطيب صالح من تلك الشخصيات النادرة التي تترك فيك أثرا ولو كان لقاءك بها قصيرا عابرا ولقد لاحظت من خلال ما كتب أن ثمة خيطا رفيعا يربط الذكريات والتجارب الشخصية للجميع مع الطيب صالح بأدبه ورواياته وشخوصها. وقد كان لي تجارب شخصية تجلى فيها ذلك البعد تجليا تاما.
    كنت في طريقي من مدينة ليون في شرق فرنسا حيث كنت أدرس إلى الرباط لحضور دورة علمية وكان ذلك في 15 يوليو عام 1983. نقلتنا حافلة من مطار شارل ديغول إلى مطار أورلي لنستغل الخطوط الملكية المغربية للرباط وما أن وصلت الحافلة إلى مدخل صالة المغادرين في مطار أورلي وبدأنا في الترجل لندخل الصالة حتى دوى انفجار هائل يصم الآذان وعلا الصريخ والضجيج ووصلت الشرطة والإسعاف وكل وسائل الإنقاذ. كان "الجيش السري لتحرير أرمينيا" قد قام بتفجير قنبلة في مدخل مكتب الخطوط الجوية التركية في المطار انتقاما لاعتقال الشرطة الفرنسية لأحد قادته في مطار أورلي حاول أن يستغل طائرة تركية وقد أدى الانفجار لمقتل ثمانية أشخاص وجرح أكثر من ستين شخصا آخرين. لا شك أنك بدأت تتسآل أيها القارئ العزيز وما دخل ذلك بالطيب صالح؟ حجزنا جميعا داخل صالة المطار عسى أن ينجلي الأمر، اتخذت مكانا وهيئت نفسي لانتظار قد يطول وفعلا ظللنا بالمطار في حالة انتظار من العاشرة صباحا حتى العاشرة مساء ولقد كان ذلك أمتع فترة انتظار تمر بي في حياتي. ذلك أنني ما أنت اتخذت مكاني حتى وجدت نفسي وجها لوجه مع الطيب صالح والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وقد كانا في طريقهما للرباط لحضور اجتماع ما ثم السفر إلى مدينة أصيلة لحضور مهرجان أصيلة الذي كان في بداياته في ذلك الوقت. لم أكن قد التقيت بالطيب صالح من قبل، عرفته بنفسي ووجهتي وتجاورنا في "الملكية المغربية" في الرحلة التي تأخرت عشر ساعات وحشرنا فيها حشرا بسبب الاضطراب الذي سببه التفجير. وكان الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يردد طوال الرحلة " يا طيب صالح ولله أنت صالح ولولا انك صالح كنا رحنا فيها في المصيبة دي" وتشعب الحديث ووصل بنا إلى "عرس الزين" فسألت الطيب صالح إن كان قد اقتبس شيئا من شخصية "عطاية الزاهد" في رسم بعض شخوص رواياته. تهللت أساريره عند ذكر الاسم وبدت عليه الدهشة وكأني قد كشفت سرا. استوى في جلسته وسألنى من أين عرفت عطاية الزاهد فأخبرته بأنني ابن المنطقة وكما هاجر هو كشأن معظم أهل الشمال وبقيت لهم جذور في "البلد" كان ذلك حالنا وسألني عن بعض الشخصيات البارزة وإن كانوا على قيد الحياة. ولنعد إلى عطاية الزاهد تلك الشخصية الشبيهة بأكثر من شخصية في روايات الطيب صالح، لقد كان عطاية شخصا "مهمشا" لا أرض له ولا دار ولا قرار في مظهره كل مظاهر الزهد، لا تراه إلا بالعراقي والسروال مهما كان الحدث فهو لا يملك غيرهما ويجود عليه أحد الناس من فترة لأخرى بقماش يأخذه للخياط يوم السوق ليخيط له غيرهما عندما تدعو الضرورة لذلك . كان محبوبا مهذارا تفتح له جميع الأبواب في جميع قرى المنطقة ويتفآل الناس عندما يرونه في الصباح، وكان الجميع من الرجال والنساء والأطفال يعرفونه ويهذرون معه وكان يحب الولائم والمناسبات وطيب الطعام وشرب الشاي، فما من "لعب" إلا وكان أول من يصل وآخر من يغادر، كذلك الحال في بيوت الصدقة ومناسبات الختان وختمة القرآن أو قراءة المولد النبي الشريف أو النور البراق للسيد الختم. وكان من "أهل الخطوة" فيما يقول عنه الكبار في ذلك الوقت. كان يتنقل في المنطقة الممتدة من قنتي حتى مدينة الدبة ويمكث في قشابي وكرمكول أكثر من غيرهما دون أن يكون له مكان سكن ثابت وكانت تروي عنه روايات تجعله أشبه بأكثر من شخصية في "ضو البيت" و"المريود" في أسطوريته، كان يشرب شاي الصباح عند صلاة الصبح أينما اتفق في قرية قشابي مثلا، ويشد الناس حميرهم للذهاب للدبة في يوم السوق ويتركونه خلفهم فهو لا يملك حمارا ويسير راجلا، ويصلونها بعد ساعتين تقريبا ليجدوا عطاية الزاهد يحتسى الشاي في أحد مقاهي السوق ومجموعة من الناس يهذرون حوله. وكان يذهب لحضور حفلات الأعراس في الضفة الأخرى للنيل ويعود دون أن تبتل ملابسه! كان في سلوكه كما الزين وفي مظهره كما الحنين واختفى كما اختفى مصطفى سعيد دونما ما يعرف شخص في كل المنطقة إلى أين ذهب. كان له حد "قبلى" وآخر "بحري" لا يتجاوزه ويرد عندما يسأل عن سر عدم تجاوزه لتلك الحدود أن خلف الحدود زهاد كبار يبلعونه إن تجاوز حدود منطقته!
    تكاد كل الرسائل التي كتبت ونشرت مؤخرا بعد أن نعى الناعي الطيب صالح تجمع على زهده فلا غرو إن كان شخصية الزاهد هو أقرب الشخصيات إلى نفسه ولعل هذا هو سر حضور عطاية في أكثر من شخصية من شخصيات الروايات. وزهد الطيب صالح مما سارت به الركبان. قابلني ذات يوم في باريس في مناسبة ما الناشر بيير بيرنارد، صاحب دار "سندباد" التي كانت مختصة بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الفرنسية وسألني إن كنت أعرف عنوانا للطيب صالح لأنهم قد أرسلوا له شيكا بمبلغ يخصه عن ترجمة موسم الهجرة إلى الشمال وعاد إليهم الشيك وسألني إن كان الطيب صالح يملك أراض وعقارات في السودان تجعله زاهدا في حقه إلى هذا الحد! ولم يفت السيد بيرنار أن يذكر لي عددا من الأسماء المرموقة من الكتاب والروائيين العرب الذين يطالبون بحقوقهم لحظة توقيع العقد ويظلون يلاحقونه بإلحاح إذا تأخر في الدفع. وتكرر السؤال نفسه بعد ذلك بعامين عندما التقاني الروائي الفلسطيني أميل حبيبي في باريس وسألني إن كنت أعرف كيف يمكن أن يصل للطيب صالح لأن الناشر الإسرائيلي الذي تولى ترجمة ونشر موسم الهجرة إلى الشمال إلى العبرية كان يريد أن يدفع له استحقاقه ولم يجد وسيلة لذلك لأنه لا يرد على رسائله التي تصله مع بعض الكتاب وعلمت لاحقا أنه كان قد تعمد عدم استلام حتى "شاقل" واحد من الناشر الإسرائيلي واقترح أن يتبرع الناشر بالمبلغ لمنظمة خيرية فلسطينية فتعذر ذلك على الناشر لأن القوانين الإسرائيلية تعتبر ذلك دعما للإرهاب. ولعل الطيب صالح قد فارق الدنيا وهو لا يدري ما حدث لاستحقاقه من الترجمة العبرية، ولم يكن مهتما بالأمر فهو زاهد في حقوق الترجمات الأخرى التي لا خلاف فيها دعك عن ذاك المال التهمة. وربما كان من المفيد في هذا السياق إعادة حكاية رواها الأخ عبد الوهاب الأفندي مؤخرا تدل على تجنبه مواقع الشبهات. شاهد الأفندي في التلفزيون لقطات من عودة الصحفي السوداني سامي الحاج إلى وطنه وعن حكاية حكاها سامي الحاج عن رؤيا رآها أحد المعتقلين العرب في غوانتامو عن قبر قيل له إنه لوالد الطيب صالح وأن بركات كثيرة ستفيض على السودان من صاحب ذلك القبر المشهود بصلاحه كما قيل لصاحب الرؤيا في منامه. هاتف الأفندي الطيب صالح ليزف له بشرى خبر رويا الخير تلك فكان أول قوله: هذا كل ما أحتاجه، أن يصبح اسمي متداولاً في غوانتامو فيظن بي القوم الظنون!
    منذ أن تعرفت على كتابات الطيب صالح وأنا في مدرسة مروى المتوسطة ظللت أعاود قراءتها بين الحين والآخر وكلما مرة أحس فيها بمتعة متجددة وأرى فيها جوانب لم أرها من قبل. كما أن أدب الطيب صالح، كما هو معروف، أدب عالمي تجاوز القرية السودانية على ضفاف النيل التي تجري فيها وقائع القصة على الرغم من كل ذلك فإنني أحس بانتماء واندماج في وقائع القصص كما لو أني كنت جزء منها بسبب انتمائي للمنطقة التي تقع فيها الأحداث تحديدا وكأني معنيا بها بصفة شخصية. من منا لم ير جده في وصف الجد عند الراوي في نخلة على الجدول أو في "الموسم" أو في "المريود". اصطحبت "عرس الزين" ذات يوم وأنا أتوقع انتظار طويل في قاعة إحدى الدوائر الرسمية في وسط باريس قصدتها لإكمال معاملة تتعلق بسيارة. وغرقت مع الراوي وهو على ظهر اللوري عبر الصحراء وتوقفه عند قهوة "أم الحسن" والحوار الذي يدور بين سائق اللوري والركاب. سرحت بعيدا من قلب باريس إلى المرات العديدة التي قمت فيها بتلك الرحلة من أم درمان إلى قشابي وقنتي وغيرهما مرورا بالقبولاب في ذلك الطريق الترابي وقد كان ذلك قبل الطريق المسفلت وسد مروي ومدينة الملتقى. كدت أفرغ من قراءة الرواية وقد طال الانتظار وبعد قضاء المعاملة خرجت ودخلت إلى أقرب محطة مترو قاصدا داري وبعد وصولي إلى داري شاهدت في التلفزيون أن انفجارا هائلا قد وقع في قسم تسجيلات السيارات الذي كنت فيه قبل أقل من نصف ساعة في صحبة عرس الزين والطيب صالح فتذكرت انفجار مطار أورلي وعبارة أحمد عبد المعطي حجازي "يا طيب يا صالح إنت راجل صالح". التقيت بالطيب صالح بعدها بقليل عرضا في مقهى "كمبرون" مكانه المفضل قرب منظمة اليونسكو وهو ينتظر محمد صالح زيادة والطيب مصطفي وعبد الواحد عبد الله وآخرين من أصدقائه فرويت له واقعة الانفجار الثاني في مركز شرطة المرور وكيف أنه وقع بعد أن غادرت المكان بدقائق وذكرته بكلام أحمد عبد المعطي حجازي أثناء السفرة للمغرب وقلت له لقد تأكد لي صلاحك تماما الآن فأنت الزين والحنين وضو البيت وبندر شاه أنت أسطورة! فقال لي بصوته العميق، لا يا شيخ، ألم تقل لي أن جدك هو ود أب دلق المذكور في كتاب الطبقات، خلي بالك جدك دا دائما شايفك! ألا رحم الله الطيب الصالح وسكب على قبره شآبيب مغفرته.
    كلمة أخيرة، آمل أن يستهل اتحاد الكتاب السودانيين وغيره من الهيئات مشروعا منذ الآن لجمع كل ما كتب عن هذا الرجل السوداني العظيم في جميع البلدان وبجميع اللغات لينشر بعد عام من الآن عندما يجتمع الناس لإحياء حولية ذلك الرجل الصالح. قال لي أحد الإخوة المغاربة مداعبا، إن أمركم مع الطيب صالح كأمر بني تغلب ولم يزد، ففهمت الإشارة اللئيمة هو أنه كان يعني البيت:
    ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ** قصيدة قالها عمرو بن كلثوم.
    وهذا التلميح يجعلنا نطرح السؤال الموضوعي لماذا لمّا تنجب بلادنا بعد غير الطيب صالح ممن هو في قامة الطيب صالح؟
    د. أسامه عثمان، نيويورك،
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de