|
Re: شوقى بدرى يكتب عن ... مريم عسل الجنوب ...والاديب عثمان حامد (Re: عبدالله الشقليني)
|
شكرا للاديب الكبير الاخ عبد الله الشقلينى وهو رجل مهتم بالادب والادباء وهذا شىء طبيعى الا ان نشاطه الجم الذى يقوم به هنا وفى مواقع اخرى اهمها منتدى السودان الفكرى ..... يستحق هو الاخر التكريم ..
اقرا هنا
حوار مع القاص عثمان حامد........نقلا عن الراى العام
القاص عثمان حامد سليمان:
الآن لن تجد ما تبكي عليه!
حاوره عيسى الحلو
مدخل
القاص عثمان حامد سليمان من كتاب بواكير السبعينات هاجر الى دول الخليج منذ مدة طويلة وهناك يشارك في الحياة الثقافية العربية، اذ يرفدالكتابة بابداعه القصصي حيث نشر الآن مجموعتين قصصيتين هما « رائحة الموت» و« مريم عسل الجنوب»، تلتقي به «الرأي العام» هذه المرة لتدير معه نقاشا حول ارتباط الكتابة بالتطور الحضاري العصري.
« المحرر»
انت من كتاب السبعينات الباكرة.. الآن ألمت تحولات عميقة بالواقع الاجتماعي محليا وعالميا.. كيف هي الكتابة عندك تحت هذا الظرف؟
- تنتمي فترة سنوات الستين الزاخرة بالتحولات لانفجارات ما بعد الحرب العالمية الثانية، من اهم ظواهرها المعارضة القوية خارج البرلمان بدايتها كانت، ليس محليا ولكن عالميا بثورة اكتوبر 1964 بعدها بسنوات انطلقت ثورة الشباب والطلاب من فرنسا ربيع 1968 وتوالت الانفجارات هذا واحدثت تغيرات عميقة في عالم الكتابة والغناء والموسيقى والسينما والمسرح واشكال الاحتجاج بدايات انطلاق منظمات المجتمع المدني وحقوق المرأة والاقليات الاثنية والعرقية ثم بدايات ثورة المعلوماتية والاعتماد على الاجهزة الالكترونية والحاسبات الآلية، والآن ابرز مظاهر العولمة وانفتاح الاسواق العالمية على كل شئ في ظل قبضة اليد الواحدة للقطب المهيمن. سؤالك اين يجد الكاتب نفسه في كتابته وقلمه من الصراعات الاسفينية بمواقع الانترنت؟ واين الكتاب والصحيفة والمجلة والكتابة التي اصبحت بكافة مدارسها تقليدية بالمعنى الكلي للكلمة.؟
-هاجرت وعمرك 29 سنة .. معك عشر سنوات «وعي محلي سوداني» وكان ان تغيرت .. كيف ؟ واين ظهر هذا في كتاباتك؟
تذكر يا استاذ عيسى انني قلت لك في حديثنا السابق ان مدينة امدرمان قد شكلت الحاضنة الحانية لشخوص ومشاهد كتابتي القصصية وانها بهذا المعنى كانت المحول الرئيس لمكونات الوجدان والذاكرة ربما حدثت تغيرات ظاهرة في بنية المحول الامدرماني ولكن بقى من المدينة القديمة وسيبقى حتما الى ان تطوى الارض شرقها بمائه النيلي ، النيل من ابناء امدرمان ولد في زمان سحيق في خاصرتها الجنوبية عند الملتقى، وقد تدفقت قهوة الازرق المنسابة من الهضبة الاثيوبية لتلاقح كرات ماء النيل الابيض القادمة من افريقيا، هذه المدينة كانت وستظل منبعاً للالهام.. مكان فريد وتاريخ اجتماعي متدرج انتصر كثيرا على التناقضات والتباينات التي فرضتها التنوعات القبلية والعرقية الاثنية هذا النسيج المتمازج يزخر بالقصص والحكايات ، يحمل قماشات تصلح لنسج الروايات اكتب الآن وبعد كل هذه السنوات في الغربة - وهي ليست غربة بعيدة مكانياً- اكتب بذات الروح ، ولكنها ملونة بالوان غير مألوفة هنا، فالتعرف على الآخر والاطلال من نوافذ السفر على اقطار الدنيا اتاح لي افقا اكثر اتساعا ورؤية فيها شمول وتنوع الآن تأخذ الغربة مفهوما جد مغاير.. فهي ليست كالمهاجر التقليدية الماضوية التي انجبت شعراً وشعراء ولغة كتابة مختلفة خالطتها اخيلة من بيئات مختلفة ، فحتى وقت قريب اصبح الناس مثل البدو الرحل ولكن في بطون الطائرات وانفتحت حدود الكرة الارضية بل تكسرت اقفالها امام ضربات المهاجرين والمتنقلين في عصر العولمة.
الملاحظ في الكتابات السودانية الحديثة.. ان هناك تناقضا ما بين المضمون والشكل، فالكاتب المحدث يأتي بشكل جمالي جديد «FORM» لمضمون قديم... لان الواقع المحلي لم يتغير ويتطور على الصعيد الحضاري... وان شكل الافكار اصبح عالميا ومتطوراً لذا فنحن نشهد هذا الانشطار على صعيد الكتابة العربية الآن؟
استأذنك ان اتحدث عن الكتابة باللغة العربية وليس الكتابة العربية، ففي رأيي ان الانفصام سببه عدم احترام « الساعة » اعني « الزمن» فالزمن مختل هنا في السودان لا أحد يلتزم بأي موعد كان ولا حتى مواعيده الشخصية اعنى وقت اكله وشربه وعمله وزيارته وترفيهه وانتاجه ووقت راحته كل هذا مزلزل ومحطم يحطم كل ما حوله وكل من معه والعالم لن ينتظر ، فالايقاع سريع ومتناغم والحياة اكتسبت هارموني يختلف عن هذا النشاز، فالى ان يدرك الناس ان للساعة والدقيقة اهميتها ستمضي صواريخ الحضارة الجديدة مثل القذيفة ونحن وانتم في ذهول.!!
ستصدق حتما انه لا توجد ساعات بالميادين والساحات او المرافق العامة بالخرطوم ولا المكاتب الحكومية والخاصة ولا بالجامعات والمدارس وغيرها من الدور التي يرتادها الناس وهم في خدرهم اللذيذ الى ان يدرك الناس اهمية الوقت سيكون للكتابة تفعل خلاق وكعامل اجتماعي بناء اثره الملموس.
وفق توقيت هذه الساعة الحضارية الكبرى.. نجد اختلالاً في الموقف بالنسبة للكتّاب داخل الوطن وخارج الوطن حيث الاغتراب هو اغتراب حضاري في الاساس؟
ان الذي يدرك قيمة الوقت لا يستسلم مثلاً لمرض الملاريا الذي سقط من ذاكرة العالم.. فكيف يسمح اي مجتمع لمثل هذا الداء المنتشر ان يعطل حركة الانتاج بصورة تكاد تكون شاملة.. انظر كيف يمكن لهذ الحشرة الضئيلة الحقيرة ان تعطل قوة انتاجية هائلة لملايين ساعات العمل دون ان تتحرك اي يد بمبيد يقضي عليها.
الاغتراب الداخلي هو ضرب من الموت الاجتماعي أدى الى الانهيارات الراهنة ومنها كثافة نزيف اغتراب القوى الاجتماعية الفاعلة هروبا الى عوالم اخرى لا يتحقق في كثير منها شرط البقاء على قيد الحياة الهادئة الكريمة فان في الخارج نملة عاملة. عبدة في تلقيط رزقها الذي سيطؤه الفيل حتما..
الاغتراب الحضاري يصطدم بصخرة الذهنية السودانية التي يستعصى عليها قبول الجديد، تلك العقلية شديدة الانغلاق التي تختفي في الجيتوهات التي انشأتها بمنازلها تجتر فيها كل ما في الوطن من تراجع، انك لن تجد ما تبكي عليه وانت تسترجع ذكريات العمر ناهيك عن الكتابة ذلك الوجع العظيم.
الراى العام الثقافى10-8-2006
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شوقى بدرى يكتب عن ... مريم عسل الجنوب ...والاديب عثمان حامد (Re: الكيك)
|
القاص عثمان حامد سليمان عودة الجارية تودد في سكة الصمت
يخرج السرد بنا إلى أعالي الفضاءات القديمة ثم يعود إلى تهشيم الوقائع الراهنة بلغة تفجر فيها الكلمات معانيها وتبيحها على بساط المأساة لتبين تعقيدات المأزق المعاصر (يا أيها الفتاة الرمح يا أيتها العذوب، مدي يدك اغرفي من ينبوع النغم وتعالي إلى طفلك الأول والأخير، كان دم المفاجأة المتخثر، فاضت به الأحشاء ولفظته من صباح القيء مضخة ناقصة).
هذا ما ذكره الراوي الحاضر دوماً في قصة (سكة الصمت) للقاص السوداني عثمان حامد سليمان والمنشورة في الملف الثقافي لجريدة (الشارع السياسي)) وعثمان حامد سليمان واحد من أهم الأدباءالسودانيين المهاجرين في الخليج وله مجموعة قصصية بعنوان (مريم عسل الجنوب) صدرت من دار شرقيات بالقاهرة العام الماضي وهي الدار التي يرأسها الأديب المصري المعروف إدوارد الخراط.. وهي الدار المعنية بأدب الحساسية الجديدة وكتابة الحداثة العربية.
أهم ما يميز (سكة الصمت) هي الوجود المباشر للراوي فيما يخدم فكرة الشكل باختراقها من خلال تفتيت بنية السرد الهيكلية بجعلها متعددة الرواة حيث أن المتعارف عليه في الكتابة القصصية المألوفة بأن موقع الراوي محدد سلفا إما أن يكون من الخلف أو مع أو من أمام. (جلست وقلمي مشرع في يدي وتصاعدت نية الكتابة وتفتحت شهية الورق قلت لها فلنبدأ بذلك الرجل الفضي الذي رشحته رئيسة القوالات بالحي كي يكون زوجا لك ثم أدخلته مع رفيقاتها مثل مطواة صدئة في أحشاء الحكايا). هكذا نجد أن هناك عددا من الرواة يتوزعون مهام السرد حول الشخصية المركزية في القصة وهي البطلة /الأنثى/ المستباحة التي جاءت هنا بلا اسم وبلا هوية وملامحها هي مأساة مصيرها لتتوسع الدلالة وتنفتح احتمالاتها لتشمل الأنثى المقهورة بلا حدود. والتي تولد في فضاء وجودي متربص لها بهذا المصير التاريخي الذي بدأ تأسيسه منذ القدم وقد سكت عنه في كل الطبقات وجميع أضابير التاريخ ومصنفاته إلا لماما وأحياناً قد تتعرض كتابات التاريخ لقهر النساء وباعتباره شيئاً مألوفاً ولا مندوحة علي أما الشاذ والغير طبيعي أن تبرز امرأة فوق رؤوس الرجال لتمارس القهر المضاد كالملكات والاميرات إلا أن هناك أرشيفاً إبداعياً يخرج من صلب الأساطير والحكايا يفجر المكبوتات وما أخفاه التاريخ الرسمي للملوك والسلاطين، هذا الأرشيف هو ما احتمل أحداث الصراعات والمصائر المأساوية للجموع المقهورين وهو الذي ثبتها لنا لنقرأ ما بين (فتية كيف كان يصارع المقهورين مأزق قهرهم).
وأهم أرشيف يوضح مأساة الأنثى وكيف واجهت مصيرها هو ما ورد في ليالي العرب (ألف ليلة وليلة) وأخبار شهرزاد التي قاومت بالحكايا المتواصلة وأنقذت نفسها من مصير الموت العاجل واستسلمت للزوج وهو المصير المؤجل. مما لاشك فيه أن هناك تناصا إبداعياً عميق الدلالات بين شهرزاد تلك وأنثى سكة الصمت هذه ويوجد هذا التناص في امتداد القهر الوجودي الأنثوي عبر مراحل التاريخ. والتناص أيضاً يوجد في تبني الحكاية أن تحكي البطلة تفاصيل مصيرها المأساوي (ومضت الليالي إلى أن أخذها الدليل إلى شقيقتها حواء.. ولكن كانت تقول لنفسها عودي إلى رشدك فهذه أختك حواء تأكل الذهب ولا ترضى بالقليل.. وقالت أما أنا فلن يمتطي صهوات خيولي الصماء إلا من في رأسه عقل وفي صدره قلب ولسانه من ذهب) وصرخت في أعماقها أن كنوز الأرض والذهب والتبر لن تزنها. وهذا الحديث المعبر عن اعتزاز كبير بالذات وقدرة على مغالبة المحن وويلات الصراع تحيلنا مباشرة لحكاية الجارية تودد صاحبة الحكاية الأخيرة في الليلة الأخيرة من ليالي شهرزاد تلك الجارية التي واجهت الرجال مباشرة ووجه لوجه جميع الرجال: السلطان والأمراء والعلماء والقادة العسكريين والحاشية والتجار، واجهتهم جمعيهم بكل الثقة والعزة والإنسانية وكان سلاحها الوحيد هو المعرفة فقد كانت جميلة حد الجمال وفي نفس الوقت عالمة بكل ضروب العلم والمعرفة وانتصرت في مجلس السلطان ذاك الذي خاضت فيه صراعها ضد السلطة الشاملة بالمعرفة والجمال فنالت حريتها. أما مصير بطلتنا في (سكة الصمت) هو الهروب المستمر حتى وجدت مقتولة تقبض بأصابعها المضمخة خصلة بنية مدماه تبين أنها من لبدة أسد. فواضح أنه مصير محتوم يعبر عن استمرار حالة القهر واستمرار حالة مقاومته بشتى السبل وسيظل القاتل يستجدي الضحية وتظل الضحية تغوي فإنها من بين ثنايا جدلية القاتل والضحية هذه ستخرج الحكايا تباعا وبمختلف الأشكال الإبداعية والأكثر حداثة مثل أعمال القاص السوداني عثمان حامد سليمان.
معاوية البلال من كتابه " الكتابة في منتصف الدائرة"
=================
سكة الصمت عثمان حامد سليمان
أهذا فضاء النهر أم فضاء المقبرة؟
قال لنفسه – القمر وحيد والنجيمات تناثرون متباعدات – ورأى السماء وهي تنشر غطاءها الرمادي الخشن على وجه المدينة فوق سجادة الرمل المطوية. ساعة الترقب آتية لا ريب، تشير إلى انفطار الفؤاد. نَبَشَها من الذاكرة زنبقة بيضاء، وأرهف سمعه لحكايتها المهموسة. "أما وقد قلبت الدنيا وجهها الكالح المجدور لأبي بعد أن بارت تجارته ونفقت ماشيته، ورحَّلت الحكومة ابنه وسنده الوحيد إلى سجن المدينة.. أما بعد، فقد وصلت إليه مراسيل ابن الجوار، جاء هذه المرة يطلبني حليلة في داره، بعد أن أتعبه الطراد بلا طائل.. نكس أبي، الشيخ الجليل، راياته وأطرق وطال إطراقه، ولم يخرج من صمته لليالٍ كثيرة. كان عليّ أن أضمد جراحه وأن أقبل خاطبي اللدود وأنا كارهة له، فقد زج بشقيقي في السجن بعد أن قاده إلى مخالفة الحكومة ودفعه للاعتداء على مآميرها دون ما تبصر.. كما أحاطه بعيونها وصنائعها غير مبال بعسفهم وقساواتهم عليه حتى تشابكت خيوطه معهم وانتهى إلى الأسر. ثم أغدق على والدي الشيخ المنكسر، وقدم له الذهب والفضة والحلل، وجلب له اللبن والسمن والعسل وقطيعاً من الماشية، وأفسح له في المرعى والسُّقيا. مس جلد كفيه الذي سلخته الضراعة، وأدى إلى مهري نقداً وعيناً فتغنت بعطائه نساء الجوار، وأطلقن أصواتهن بمناقبه… نسي الجميع تآمره ووضاعته، فالفرح قائم والولائم حارة، وهو فارس الحلبة المغوار" جلس الكاتب وحيداً، انتحى بمقعد قصيٍّ في حديقة الليل، وقطط الظلام تصارخ بعضها بنداءاتها الممطوطة المشعثة. انكفأت قارورة النبيذ، وتفرق الحزن المسائي بين الطاولات، الدخان دثار واهٍ واللفافات انكمشن في ذبالاتهن. جلست وقلمي مشرع في يدي، وتصاعدت نية الكتابة، وتفتحت شهية الورق، قلت لها، فلنبدأ بذلك الرجل الفضي الذي رشحته رئيسة القوالات بالحي كي يكون خليلاً لك، ثم أدخلته مع رفيقاتها مثل مطواة صدئة في أحشاء الحكايا، وعندما أصابه الوهن، أخرجنه من جديد ثم أدخلنه ثلاثاً بثرثرتهن أمام دهشة المشاهدين، فقد كانت حكايتهن تشخيصاً مرعباً، وقالت المتربعة على رأس مجلسهن: "هي دفقة من رمل الصحراء، ملعقة سمهرية طفت على صفحة الكثبان لتراقص الأمواج في الأفق القرمزي". وقصت عليهن ما تبقى من الحكاية: "حملها فارس الجوار غانماً وأقام لها عرساً ببطن الصحراء" بعيداً عن مساقط دموع أبيها وحشرجات عاره وخزيه. نُصبت الخيام ونُحرت الذبائح ودقت الطبول، رقصت النساء وسكر الرجال حتى طلوع الروح". لما دخل عليها كادت أن تسلمه للجنون، أنشبت أظافرها حسنها في عقله – دفنت أشواك الوعيد إلى حين وقلمت أظافرها – الآن وقد غادرت حافلتها محطة العذرية على صخب الطبول ورزيم الأرجل تهز أرض الاحتفال، فما بقي لها إلاّ أن تمدد دفاتر حسابها بفطنة، وتعد عدتها لما سيأتي. أخذت تساير رجلها العميق كبئر، المتربّع على كرسي ملكه بصولجانه الفتاك وأحاديث لسانه الذي يقطر شهداً، وثنائه على أغصانه الريانة وأزهار أنوثتها الفواحة العطر، لكنه كان ليلة بعد ليلة يغرس نابه في أحشائها. يا ترجمان الأغاني تناول ربابتك وأخرج لنا من عصبها آخر الرنين، وانظر حتى نملأ أقداحنا بالشراب، ثم اجلب لنا شمساً جديدة طرية العود. ويا أيتها الفتاة الرمح يا وميض الغروب، مدي يدك أغرفي من ينبوع النغم، وتعالي إليّ: طفلك الأول الأخير كان دم المفاجأة المتخثر، فاضت به الأحشاء ولفظته في صباح القيء مضغة ناقصة. "وعندما خرجت إلى الطريق وعلى كتفيها أحمال الليل وأثقاله، زفرات رجلها وحشرجاته الثملة بعد أن أهرقت له كاسات العرق، شخصت ببصرها للشاحانات القادمة، واستجاب لنداءاتها الرجال. مدت سجادة الهروب إلى مدينة الصباح التي يشقها النهر، وتشممت روائح النبات والطمي، صمّت أذنيها عن أزيز الصحراء، ونفضت عن وجهها حبيبات الرمل التي ذرتها الرياح.. دعاها أحدهم لتغادر معه سكة الصمت، ودخلت في عباءة المدينة، بطن الفيل. ومضت الليالي إلى أن أخذها الدليل إلى شقيقتها حواء.. ولكنها كانت تقول لنفسها عودي إلى رشدك فهذه أختك حواء تأكل الذهب ولا ترضى بالقليل، وقالت: أما أنا فلن يمتطي صهوات خيولي الصماء إلاّ من في رأسه عقل وفي صدره قلب ولسانه من ذهب. وإن كانت تزدرد طعامها وهي تنتحب بعد كل مضاجعة عابرة، ولما اشتد عودها في هذه المدينة الملونة بألوان القسوة لمن كان مثلها، صرخت من أعماقها "أن كنوز الأرض والذهب والتبر لن تزنها". أما الأسد الوحشي الذي يدخل في أحلامها ويخرج كل ليلة من نافذة كابوسها، فلم يعد يرهبها، قال لنفسه: جئت إليها في تلك الليلة ومعي صديقي الشاعر، غمسنا رأسينا في ينابيع الشراب فأخذ يهذي بكلامه المموسق وتعابيره الجديدة الغامضة. وعندما غفا وحيداً، أيقظتني ابتسامتها الفضية وأنعشتني بضيائها الباهر، فألقينا بظهرينا المتعبين على سرير الزعفران ووضعنا رأسينا على وسائد الراحة من ذلك التعب. قفزت من على صهوة حصاني في لجة الكأس وسبحت حتى الثمالة، أما هي فقد أخذت تغرد في غلالتها الحريرية الرقيقة. أفقت عند الصباح فإذا أنا موغل في النشوة، وهي سادرة في نعاسها المعطر. كنت أختلف اليها في بعض الصباحات فتلاقيني هاشة، وتغمرني بفيض ابتساماتها المشرقة وتقبل وجهي بحنان، فتغسل تعبي . أفتقدها الآن كثيرا ، فقد عثروا عليهامضرجة بدمائها وسيف بتار قد اخترق صدرها واقتلع الحياة من قلبها. استلقى بجوارها جسد ذلك الرجل الفارع الذي كان زوجها وقد لفه الموت، وتيبست أطراف فمه بالزبد، وتصمغت أسنانه بعد أن سقته سماً قاتلاً. رددت مدينة الصباح الأٌقاصيص عن فارس قدم من غرب المدينة. كان يلح في السؤال عن امرأة مليحة هاربة وكان يصفها بصوت متهدج، إلى أن عثر على من دله عليها. قيل أن حضوره لم يفاجئها فقد كانت قد أعدت أحبولتها. فهدأت من ثائرته، وربتت على جزعه واضطراب نفسه. وقادته إلى مجلس شرابها. وقبل أن يسري السم في عروقه، عاجلها بطعنة مميتة من سيفه. وعندما جاء من يفحص جثتها الباردة، كانت تقبض بأصابعها المصممة خصلة بنية مدماة، تبين أنها من لبدة أسد.
==========
عثمان حامد سليمان صدرت له : رائحة الموت - قصص - دار الحوار- سوريا طبعة اولى 1990م - مريم عسل الجنوب - قصص - دار شرقيات طبعة اولى 1995م - مريم عسل الجنوب يليها غناء في العدم- نشر خاص - امتوبر 2003م
| |
|
|
|
|
|
|
|