خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح]

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 03:26 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-28-2011, 10:24 AM

صلاح عباس فقير
<aصلاح عباس فقير
تاريخ التسجيل: 08-08-2009
مجموع المشاركات: 5482

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح]

    [مزيد ومنقح] طبعاً لتبرير إعادة نشر هذا الموضوع،
    وحقيقةً هو من الموضوعات الأثيرة إلى نفسي،
    وهذا الموضوع، أستطيع أن أصنفه من وجهة نظري عدة تصنيفات:
    1- أنه تعبير عن تجربة واقعية حية.
    2- أنه تاريخ وجداني للإنسان السوداني المعاصر.
    3- أنه خطاب دعوي، بأسلوب مختلف.
    4- أن فيه بياناً لحقيقة موقف الإسلام من الغناء،
    من زاوية مختلفة.
    5- أنه تعبير عن الاستنكار للتدخل (الدعوي الشرعي) (الفج) في
    الأمور المتعلقة بأذواق الناس وأمورهم الخاصة، والإشارة هنا
    إلى ما قرأته سريعاً من توجيه رسمي بتأجيل بث برنامج (أغاني)
    خلال فترة شهر رمضان.
    ولكن الدافع الأساسي الّذي دفعني لكتابة الموضوع، هو أنني رغبت
    ابتداءً في كتابة موضوع أحث فيه على/ وأنصح نفسي وإخواني بـ إيلاء
    القرآن في رمضان مزيداً من الاهتمام!
    فعندئذٍ خطر لي أن أعيد نشر هذا الموضوع، مع إجراء قليل من التعديل
    والإضافة فيه!
    فأسأل الله أن يوفقنا إلى صيام هذا الشهر الكريم، شهر القرآن،
    وأن يكتبنا من عتقائه، آمين!
                  

07-28-2011, 10:27 AM

صلاح عباس فقير
<aصلاح عباس فقير
تاريخ التسجيل: 08-08-2009
مجموع المشاركات: 5482

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح] (Re: صلاح عباس فقير)

    خواطر حول الحبِّ والإيمان والغناء والقرآن
    أيُّها القارئ العزيز،
    أحيِّيك بتحية ملؤها الشَّوق والمودَّة, وأدعوك إلى أن تشاركني الغوصَ في أعماق تجربتي الذوقية لفنِّ الغناء, إذ ربما تجد فيها صدىً لتجربتك الذّاتيَّة، وعبر ذلك نُتيح لأنفسنا فرصةً ثمينةً لمراجعة رصيدنا الروحيِّ والوجدانيِّ، وهو أغلى ما نملك!
    وليكن ذلك في إطار القيم الإيمانيَّة والشَّرعيَّة التي نستظلُّ بها جميعاً.
    لحظة صدق شعوري:
    "إن أنسَ ما أنسَى": ليلةً من ليالي الغربة (المغربيَّة), إذ "عربدت بي الأشواق", وهاجت في نفسيَ الرَّغبة, بلقاء الأهل والأحبَّة, وكان ذلك كلُّه على إيقاع النَّغمات الشَّجيَّة لأغنية (الحبِّ والظُّروف):
    قلنا ما ممكن تسافر ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍....
    وكانت لحظةَ صدق شعوريٍّ مُضمَّخٍ بالدُّموع, كنت بعدَها كلَّما أمعنت بالتَّفكير في مسألة (حكم الغناء في الإسلام) فَرَضَتْ نفسَها عليَّ هذه التَّجربةُ الوجدانيَّة, باعتبارها شاهدَ صدقٍ لا بدَّ من سماع شهادته عند إرادة النّظر في هذه القضيَّة.
    ولست أعني بذلك ما يجدُه السَّامع من نشوةٍ ولذَّةٍ حين السَّماع, ولكنِّي أعني ذلك المعنى الشُّعوريَّ العميق الذي أسال المدامع, وأثار الشَّوق والحنين ...
    ولستُ أدري أكنت متَّبعاً في ذلك للهوى؟ أم كنتُ صادقاً فيه، وأميناً مع نفسي؟
    المغنى حياة الروح:
    إنَّ الغناء يحتلُّ في الحياة مساحة كبيرة, لا باعتباره وسيلة من وسائل الترويح عن النَّفس, بل قد صار مأوىً وملاذاً للكثيرين، يغسلون به همومهم وغمومهم, ويشعرون عند سماعه وترديده بنشوةٍ ولذَّة لا يظفرون بهما في غيره, ما قد يُذكرك بالأغنية المصريَّة الشَّهيرة:
    المغنَى حياة الروح!
    ويُخامر المولَعينَ بالغناء شعورٌ عميق: أنَّهم لحظةَ السَّماع يكتشفون عوالمَ فريدةً, ويُدركون للحياة رؤيةً جديدة، لعلَّها ما كان يُدندِنُ حولها جبران خليل جبران في قصيدته التي مطلعها:
    اعطني النَّايَ وغنِّ فالغِنَا سرُّ الوجود
    أمَّا السَّبب الذي يُعطي للغناء في حياتنا هذه الأهميةَ الكبيرة، فيلوحُ لي أنّه يتمثّل في كون الموضوع المحوريَّ الذي تدور حوله كلماتُ معظم الأغاني هو الحبُّ.
    وما أدراك ما الحُبُّ:
    الحبُّ ذلكم المعنى الإنسانيُّ النَّبيل، الذي يُمكن تعريفُه بأنه: "عصيرٌ مشكل" من كلِّ المعاني والقيم الإنسانيَّة الرَّفيعة.
    وغالباً ما تنبني على "قاعدة الحبِّ" علاقةٌ عاطفيَّةٌ تجمع بين قلبي رجلين أو امرأتين أو رجلٍ وامرأة, وفي الغالب ينجذبُ المحبُّ إلى المحبوب لشعوره القويِّ بأنَّ القيم والمعانيَ المكنونةَ في قلبيهما متماثلةٌ, وأنَّهما قد خُلقا ليسيرا في طريقِ الحياة معاً, فيبدو الحبُّ في كنهه وكأنَّه ميثاقٌ ثنائيٌّ بين طرفيه، على أن يخوضا معركة الحياة متآزِرَين يعتمد كلٌّ منهما على الآخر.
    فالغناءُ -في نظري- يستمدُّ مكانته الكبيرة، من استناده إلى هذه العاطفة الإنسانيَّة النّبيلة.
    وإذا توجَّهنا بأبصارنا تلقاء السُّنَّة المطّهرة؛ فسوف نجد اهتماماً مباشراً بهذه العاطفة الكبيرة، فهاهو ذا الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- يتوجَّهُ بالنُّصح إلى مَن وقع في قلبه حبُّ أحدِ إخوانه: أن يُعبِّر لأخيه عن هذا الحبِّ ولا يكتمُه!
    بل، فلنذكر في هذا السِّياق أشهر قصَّة حبٍّ شهدها العهد النَّبوّيُّ، وهي قصّة حبِّ مُغيثٍ لبَريرةَ، فها هو ذا مُغيثٌ بعد طلاقه من بريرة، يمشي خلفها، ودموعُه تجري على خدَّيه، الأمرُ الّذي تعجّبَ له رسولُ الله –صلَّى الله عليه وسلَّم-، فقال لعمه: "يا عبَّاس، ألا تعجبُ من حبِّ مغيثٍ بريرةَ، ومن بغضها له"، إذن فقد كان حبّاً من طرفٍ واحد، ولم يجد الرَّسولُ الأكرم غضاضةً في أن يتّخذ موقفاً إيجابيّاً في هذه العلاقة العاطفيّة، فتوجّهَ لبريرة قائلاً: "لو راجَعتيه!"، فقالت: أتأمُرني!؟ قال: "لا، إنَّما أشفع"، فقالت: لا حاجةَ لي به!
    فهل كانَ الشَّاعر والمغنّي الشّعبيّ، في قولهما:
    الحبّ أنا ما بديتُه!
    الحبّ من زمن الصَّحابة يا بَلال!
    هل كانا يُحيطانِ علماً بهذا المعنى، أم أنَّها فقط مناسبة القافية؟
    وعموماً نجد هذا الاهتمام بعاطفة الحبّ، قد تعمّقَ لدى صفوةٍ من العلماء، فكتبوا فيه واستقصَوا أحواله ودرسوه باعتباره ظاهرةً إنسانيّة، وعلى رأس هؤلاء يأتي ابن حزم الأندلسيِّ، في كتابه الشّهير: (طوق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف)، ثمّ ابن قيم الجوزية، في كتابه: (روضة المحبين ونزهة المشتاقين)، وكذلك في بعض فصول كتابه: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدّواء الشّافي).
                  

07-28-2011, 10:29 AM

صلاح عباس فقير
<aصلاح عباس فقير
تاريخ التسجيل: 08-08-2009
مجموع المشاركات: 5482

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح] (Re: صلاح عباس فقير)

    كتاب الغناء في السودان:
    ولو أنَّنا تصفَّحنا "كتاب الغناء في السودان"؛ لرأيناه موسوعةً جامعةً، قد تناول بين دِفَّتَيه مختلفَ جوانبِ هذه التَّجربة العاطفيَّة ومراحلها, وما يحدُث فيها من مواقف، وما يحيط بها من آمال وطموحات ومشاعر وأحزان وهموم.
    تجارب عاطفيَّة صادقة:
    فمن نماذج الأغنيات السُّودانيَّة المُعبِّرة التي لامست بصدق كلماتِها وعذوبة أدائها منابعَ الإحساس الفطريِّ في الإنسان, نذكرُ أغنية "زاد الشجون" لفضل الله محمد ومحمد الأمين، التي يُطلق عليها البعض اسم "الملحمة العاطفيَّة":
    ومن بعد فرقتنا ديك مين كان بيفتكرك تعود
    كنتَ بحتاج ليك بشدَّة وانتَ عنِّي بعيد .....كنتَ....
    نعم, فالشعور بالحاجة إلى المحبوب هو أبرز سمات المحبَّة وأعمقها: كلماتٌ بسيطة, لكنها تمسُّ في الوجدان أوتاراً عميقة.
    ومن ذلك كذلك كلُّ أغنيات الثُّنائيِّ وردي وإسماعيل حسن, أو أغنيات وردي قبل أن يزُجَّ بنفسه في "مرحلة تسييس الوجدان", وردي الود والمستحيل والطير المهاجر:
    ورحلة عصافير الخريف في موسم الشَّوق الحلو
    هيَّج رحيلها مع الغروب إحساسْ غلبني اتحمَّلو
    و أول غرام يا أجمل هدية يا أنبل مودة يا نور عينيَّ
    ومحفورٌ في ذواكر العُشَّاق ويجري في دمائهم ما أبدعه الثُّنائي بازرعة وعثمان حسين من أغانٍ عاطفيّة، في تجربتهما الطّويلة التي اكتشفا في نهايتها "الحقيقةَ":
    لكن حنانك ليَّ، أو حتّى مشاعرك نحوي:
    ما كانت حقيقة!!!
    كانت وهم!!
    كانت دموع مسفوحة بي أحرف رقيقة!
    هذه بعض نماذج من الأغاني التي تحكي عن تجارب إنسانية عاطفيَّة صادقة, وغيرُها كثيرٌ من الرَّوائع, لكنِّي أقف خاصَّةً عند أنموذجٍ أعتقدُ أنَّه أكثرُ ارتقاءً وإبداعاً وسموَّاً:
    أغنية الصباح الجديد:
    إنَّه النَّموذج الذي جمع بين شاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي والفنان حمد الرَّيَّح, فكانت ثمرته أغنيةَ "الصَّباح الجديد".
    تستند معاني هذه الأغنية إلى فكرةٍ إنسانيَّة: عميقة وواقعية، في آنٍ واحد: وهي فكرة "أنَّ كلَّ إنسانٍ يحتمل في صدره قيماً ومُثُلاً عظيمة, يُحاول كلَّ جهده أن يُحقِّقَها عبرَ مراحل حياته".
    ففي هذه الأغنية، يغمسُ الشابي ريشتهُ في رحيق ليل المعاناة، المُرافق لمسيرة حياته، مُسطّراً بمداده "البُشرى" بشروق شمسِ "الصّباح الجديد":
    اسكني يا جراح واسكتي يا شجون
    مات عهدُ النَّواح وزمانُ الجنون
    وأطلَّ الصَّباح من وراء القرون
    ثم يُشير الشابِّي إلى المعاني والقيم التي جعلته، والتي تجعلُ كلَّ إنسانٍ يتطلّع لهذا الصباح المُفعم بالحياة، قائلاً:
    في فؤادي الرَّحيب معبدٌ للجمال شيَّدته الحياة في الرُّؤى والخيال
    إنَّ سحر الحياة خالدٌ لا يزول فعلام الشُّكاء من ظلامٍ يحول
    ثم بهذا الصَّدر المنشرح, المغمور بالنَّشوة، يُودِّع حياته السَّابقة التي عاشها بعيداً عن تلك القيم الرَّفيعة، يودّعها وهو يلبّي ذلكم النداء:
    من وراء الظَّلام وهدير المياه قد دعاني الصَّباح وربيعُ الحياة
    يَا لهُ من دعاءٍ هزَّ قلبي صداه لم يعُد لي بقاء فوق هذي البقاع
    فها هو ذا يقف مودّعاً تلك البقاع، وهو يبثُّها زفراته الأخيرة، قائلاً:
    فالوداع الوداع الوداع
    يا جبالَ الهموم يا هضابَ الأسى يا فجاجَ الجحيم
    وحقَّاً ذلك التَّمزُّقُ النَّفسيُّ الشُّعوريُّ الذي يعيشه الإنسان, بعيداً عن القيم الرَّفيعة والمثل العليا التي جعلها اللهُ فطرةً في سويداء الضَّمير, هو زفَراتٌ حرَّى من الجحيم، ويُوشك أن تقودَ صاحبَها إليه.
    ثم يُعلن الشابي انعتاقه وتحرُّره من أغلال هذه المرحلة, وابتداء مرحلة تاريخيَّة جديدة من عمره:
    قد جرى زورقي في الخِضمِّ العظيم
    ونشرتُ القلاع فالوداع الوداع الوداع
    أغنيةٌ تحكي على مستوى العاطفة والشُّعور مسيرةً إنسانيَّةً ظافرةً, يطمحُ كلُّ إنسانٍ ينبضُ قلبه بالحياة إلى أن يُحقِّقها على مستوى الواقع، ومن خلال هذا الجهد النَّبيل الّذي يبذُله الإنسانُ لتحقيق هذه القيم، تنمو شخصيّته ويتكامل وجوده الإنسانيّ، ويكتشف في نفسه منجماً زاخراً بالقدرات والإمكانات، وبهذا الجهد النّبيل يكون للحياة رونقٌ وبهاء، يجعلانها رغم كلِّ ضروب الإحباط، ساحةً للعمل والجهاد والعبادة ...
    الإيمانُ والحبّ:
    تلك بعضُ نماذجَ من التَّجارب الصَّادقة, التي أعتقدُ أنَّها تتوافق في جوهرها مع القيم الشَّرعيَّة, بل ربَّما يستطيعُ الكثيرون ممَّن تذوَّقوا تجربة الإيمان، ونهلوا من معين الحبِّ: أن يُعبِّروا لنا عن خلاصة هذه التَّجربة المزدوجة متمثِّلةً في هذه الحقيقة:
    أنَّ عاطفة الحب, وعاطفة الإيمان بالله، صنوان:
    فمنبعُهما واحدٌ: هو القلب,
    وأثرُهما واحد: هو الارتقاء بمشاعر الإنسان والسُّموّ بها إلى مراتبَ رفيعةٍ من الوعي والإدراك والشَّفافيَّة,
    بل هما لِمَن ذاقَهُما شيءٌ واحد: فليس الإيمانُ "مقولاتٍ لاهوتيَّة باردة", وليس الحبُّ مجرد عاطفة رومانسيَّة محلِّقة في الخيال.
    بل الإيمان في حقيقته: هو الحبُّ، وقد فاض عن قلوب العباد متوجِّهاً إلى الله الجليل الرَّحيم الجميل، ومن ثمَّ إلى أيٍّ ممّن خلق، أو ممّا خلق!
    كما أنَّ الحب في حقيقته: رصيدُ الإيمان المكنون في قلوب العباد فطرةً وخِلقة, والذي يَظهر عندما تستثيرُه وتقدحُ زناده شتَّى المثيرات الاجتماعيَّة والطبيعيَّة، ألم تلحظ إلى تلك الحالة العاطفية الاستثنائية التي تغمرُك عندما تنخرطُ في البكاء حزناً على فقيدٍ عزيزٍ!؟
    والإسلامُ إنما يُريد أن يرقَى بحياتنا ومشاعرنا, ويوجِّهَها إلى صراط مستقيم، من خلاله يُحققُ الإنسانُ كلَّ ما يصبو إليه من سعادة روحية وجسدية, معنوية وحسية, إنَّه لا يقمع مشاعر الإنسان وطاقاته الفطرية, كلا ولا يكبتها، بل يوجِّهها وينظِّمُها ويوظِّفُها حتى تكون متوازنةً منضبطةً في ممارستها وفي التَّعبير عنها.
    هذا هو الإسلام، الّذي شَوَّهَتْ صفاءَ رؤيته أيّما تشويهٍ: الرؤى الحزبيةُ ذات الأفق الضيّق!
                  

07-28-2011, 10:43 AM

صلاح عباس فقير
<aصلاح عباس فقير
تاريخ التسجيل: 08-08-2009
مجموع المشاركات: 5482

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح] (Re: صلاح عباس فقير)

    الأماني العذبة:
    لقد كان للأغنيات الجميلة دورٌ لا يُنكر في التّنويه بتلك الفكرة المحوريَّة، فبالإضافة إلى أغنية "الصباح الجديد" كانت هناك أُغنيةُ "الأماني العذبة" الّتي استثارَ بها كلٌّ من الشّاعر محمد علي أبو قطاطي والفنّان خليل إسماعيل، ذلكم الينبوع العاطفيّ الكبير، الّذي يموج في صدور كلِّ التّائقين لتحقيق أهدافٍ إنسانية كبيرةٍ في حياتهم:
    الأماني العذبة تتراقص حِيَالي
    والأمل بسّام يداعب في خيالي
    حُلمي بكرة، وذكرى أيَّامي الخوالي
    بكرة تتحقّق أماني
    والفؤاد يرتاح ويتبسَّم زماني
    ورغم أنّ هذه الأماني أو المعاني تلعب دور المحرّك للنّشاط الإنسانيّ، إلا أنّها لا تخلو من غموض، إذ تبدو للإنسان وهو في بواكير حياته وأولى مراحل الوعي بذاته، كالحُلم الهائم الكبير، الّذي يسعى لتحقيقه، وهو يخوض "معركة الحياة" بكلّ عنفوانها، مستهدفاً إثبات ذاته ووجوده في إطار مجتمعه الصَّغير، تائقاً إلى تحقيق الأماني الكبار التي يجيش بها صدره، والآمال التي يعقدُها عليه أهلُه.
    ويقيني أنّ هاشم صديق في الأغنية التي غنّاها له ابنُ البادية:
    عايز أكون
    عايز أكون بهجة ومسرة
    فى دروب البائسين
    ...
    عايز أكون أنا صدر حاني
    أبقى للمجروح طبيب
    أحضن الهايم مشرد
    واحضن العايش غريب
    واحضن الطفل اليتيم
    وابقى زى الأم حبيب
    ابقى فى عيونه ابتسامه
    وابقى فى ثغره الحليب
    كان يُحاول رسم بعض ملامح ذلك الحلم أو الطّموح الإنساني، بما أورده من إشاراتٍ حسية تُشير إلى كُنه تلك الأماني والمعاني، أو إلى حقيقةِ تلك المسيرة الإنسانية الظافرة، التي تعلّق بها الشَّابِّيّ، إنّها رغبةٌ في البذل والعطاء الإنسانيّ، إنه نزوعٌ إلى الاستعلاء على النّزعات الفرديّة والأنانية، إنه إثباتُ الذّات الإنسانية، لكن من خلال إفنائها جهاداً نبيلاً، من أجل تحقيق القيم الإنسانية الرفيعة!
    ثم في "أكتوبر الأخضر" نجد محمد المكي إبراهيم ومحمد وردي، يعملانِ على تحقيق ذات الرؤية الإنسانية الحُبلى بالإنجازات الكبيرة، لكن على صعيد الوعي الجمعيِّ هذه المرّة، فيقولان:
    كان أكتوبر في أمّتنا منذ الأزل
    كانَ خلف الصّبر والأحزان يحيا
    صامداً منتصراً
    نعم، إنّه مشروع التّغيير الإنسانيّ الكبير نفسِه، مجسّداً على صعيد وعي الأمّة كلها، وهي تحلُم بعطاءٍ أكتوبريٍّ غيداق!
    كان أكتوبر في أمّتنا منذ الأزل!
    عبارةٌ مكتنزة بالمعاني والرؤى العميقة، وبعاطفةٍ فيّاضة يلمسُها من عاش أيام أكتوبر، أو أيام الانتفاضة، ورأى كيف "سالت مشاعرُ الناس جداولَ" من المحبّة والطّيبة والتّوق إلى عالمٍ مزدانٍ بالقيم الإنسانية الرفيعة!
    ولكن!
    إحباطٌ مُدوٍّ!
    ونحنُ نعلم أنّ "أكتوبر" قد وُئدَ كما وُئدت من بعده الانتفاضة!
    وقبل ذلك: وُئدتِ تلك الآمالُ الكبيرةُ، الّتي طالما أسالت المدامع!
    نعم، وفي ظلّ مجتمعٍ رأسماليٍّ، تسود فيه القيم المادية، استحالت تلك الأمنياتُ العذبة في صدورنا إلى مجرّد تطلُّع لإحراز (لقبٍ اجتماعيٍّ مرموق): أستاذ أو باشمهندس أو دكتور أو...! المُهم أن تثبت وجودك في المجتمع.
    فذلك يكفي في سدّ الجوعة المعنويّة! أمّا وشوشاتُ الضمير ونداءاتُ أعماقه البعيدة، فستستحيل إلى آهاتٍ عميقة تحكي آلام الفشل الذّريع، ولسوف تُمجِّدُها وتُحيي ذكراها أغنياتٌ حزينة:
    وذكرياتنا مهما كانت برضو ترديده بألم
    كيف بدت كيف انتهت واتبدّدت قُبَّال أوانها
    وكيف أمانينا الجميلة حلّت الآهات مكانها
    وكأنّي بخليل فرح، يختصر هذه المعاني في كلماتٍ قلائل:
    في سموم الصيف لاح له بارق
    لم يزل يرتاد المشارق
    كان مع الأحباب نجمه شارق
    ماله والأفلاك في الظلام!؟
    وكأنّ سيف الدين الدسوقي وإبراهيم عوض، في رائعتهما "المصير"، إنّما يسجلان اللحظات التاريخية التي حدث عندها ذلك الانكسار:
    ليه بنهرب من مصيرنا، ونقضى أيامنا في عذاب!؟
    ........................
    كنا فى ماضينا قوة تتحدى الصعاب!
    نقطع الليل المخيم ونمشى فى القفر اليباب!
    كنا للناس رمز طيبة وكنا عنوان الشباب!
    ورغم ما في الأغنية من روح التفاؤل المخيّم، لكنّ آهاتِ إبراهيم عوض، المنبعثة من أدائه الصَّادق، تكشف عن النّتيجة المأساويّة التي انتهى إليها ذلك الحبُّ، وذلك المشروع الّذي كان يحمله الحبيبان!
    وعموماً، بناءً على أنّ الطبيعةَ ترفضُ الفراغ والسّكون، فإنّنا سنلجأ إلى القيام بنشاطاتٍ تعويضيّة، فبالإضافة إلى سماع الأغنيات الجميلة، الّتي تذكّرنا بذلك الحلم، نُتابع الرّياضة المحلية أو العالمية، ولا بأس في شيء من الاهتمام بالشّأن السياسيّ الداخليّ أو الخارجيّ، فذلك على الأقل سيُتيح لنا التّنفيس عن ذاك الغبن المكنون، حيث نقوم بتوجيهِ زفراتٍ حارقةٍ من رصيد الإحباط المخزون نحو الآخرين سواءٌ كانوا أفراداً أو أحزاباً أو أنظمة سياسيةً!
    لقد كان فشلاً ذريعاً وإحباطاً مدوِّياً، سُمعت أصداؤه في طوايا الأنفس وأعماقها البعيدة، كما تردّدت أصداؤه في أركان نظامنا السياسي والاجتماعيّ، ليلحقَ جيلُنا بجيل الدكتور منصور خالد وصفوتِهِ التي أدمنت الفشل، والتي بعد بضع سنواتٍ من ثورة أكتوبر الشّعبية قامت بصناعة نظام مايو 1969م، ثمّ بعد بضع سنواتٍ من انتفاضة مارس أبريل، قامت بصناعة نظام يونيو 1989م.
    وهي التي تواطأت الآن في جنوب الوطن وشماله، على تحقيق كارثة الانفصال!
    فالفشل هو الثمرةُ الطبيعية والحصاد المرّ، الّذي نجنيه في غياب ثقافة حيَّة، تستوعبُ تلك الطاقة الإنسانية الفطرية، وتوظّف العلوم والتجارب الإنسانية المعاصرة، لخدمة الإنسان فرداً أو مجتمعاً!
    الإسلام!
    وفي يقيني أنّ الرؤية الإسلامية تمدُّنا بالعناصر الكافية لبناء تلك الثقافة الإنسانية الحيّة، لأنها:
    أولاً: تعترف بذلك الينبوع الإنسانيِّ الفطري، وتحتفل بتلك الأشواق والآمال، وترسم لها طريقاً يُعين على تحقُّقها.
    ثانياً: تهتمُّ بعملية تحريك هذه الطاقة وتوليدها واستجاشتها من خلال الاستغراق في التّأمّل والذّكر والعبادةِ التي تحرّك ذلك المخزون العاطفي.
    ثالثاً: تُوجِّه إلى تجسيد تلك الطاقة في أعمالٍ إنسانيّة: تأمّل في قوله تعالى: ((ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم))، وانظر إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (واللهِ، لا يؤمنُ من باتَ شبعانَ وجاره جائع، وهو يعلم به)، ... الخ.
    رابعاً: لا تَحجر على الرؤى والأفكار الأخرى، بل تدعو إلى العلم والبحث والتّحقيق، وكما قيل: فالحكمة "ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقُّ الناس بها"!
    خامساً: تعمل على تحقيق أهدافها من خلال إثارة الاقتناع بها في نفوس المتّبِعينَ، وليس على سبيل الفرض والإملاء، ولذلك كانت الأعمالُ عند الله -عزّ وجلّ- لا تُقبلُ إلا بالنّيّات، يعني بأن يتعمّق إيمانُ العامل بها في نفسه أولاً.
    أصداء الفشل!
    وفي غياب الدّور الّذي كان ينبغي أن يقوم به (المثقّفونَ) من أجل توظيف تلك الطاقة الإنسانيّة الخيِّرَة وتحويلها إلى فكرة واقعيّةٍ قابلة للتّجسد؛ وجد أهلُ الفنّ والغناء أنفسهم في مقام الأساتذة ومرشدي الأمّة.
    وكما كان للغناءِ (يدٌ بيضاء) في الاحتفاء بتلك الطاقة الإنسانيّة الخيِّرة في بعض الأغنيات الجميلة، كذلك كان له الفضلُ في "احتضان بعض النّاجين من المجزرة الإنسانية الكبيرة"، من المُحبّين الصادقين، الّذين حماهم حبُّهم من الوقوع في تلك الهُوّة المادّية السّحيقة -ومن أبرز مظاهر هذا السُّقوط: الرِّضاء بنظامٍ سياسيٍّ (حكوميٍّ أو حزبيٍّ، مُوالٍ أو معارض) يرضى بانتهاك حقوق الإنسان الأساسيَّة- فبقُوا وبقيت جذوة تلك العاطفة الإنسانيّة فيهم متَّقدةً، ولكن بعد إبطال مفعولها الكلي، وحبسها داخل سجن الحياة العاطفية بين حبيبين، يعتبرُ أحدُهما الآخرَ غايته ومراده في الحياة، ليس لهما من غايةٍ وراء ذلك، أو كما قال أبوداود:
    مشاكلي بسيطة بالريدة بتُحلّ..
    إذن، بعد أن كانت تلك العاطفةُ الكبيرة، تدور في فلكٍ إنسانيّ رحب، تمّ اختزالُها في إطار "الرؤية الغنائية السائدة"، لتدور حول كوكب المرأة خاصّة، تعبيراً عن حبّها وما جعله الله فيها من الصفات المعنوية والجمالية.
    وبعد ما كان الحبُّ زاداً في طريق تحقيق تلك الأمنيات والأهداف الإنسانية الكبيرة، كما غنّى محمد الأمين من كلمات أبو آمنة حامد:
    في عيونُه فاض شوقن هتن لي حبّه للناس للوطن
    ما غيّرت ريدتُه السّنين وما بدّل إحساسُه الزّمن
    وشفنا المشاعر الحلوة في ساحاتنا بالآمال مشن
    صار الحبُّ هدفاً مطلوباً لذاته، وعملاً أنانيّاً، وبسبب ذلك صار أحدُ الحبيبين ساديّاً والآخر نرجسيّاً، وهذا واقعٌ تُعبّر عنه كثيرٌ من الأغنيات العاطفيّة، ومن ذلك ما غنّاه زيدان:
    ليه كل العذاب ليه كل الألم
    بزرع في المحبة وحصادي العشم
    .....
    الدرب المشيتو مشيتو عشانك
    عذب وزيد عذابك يا سلطان زمانك
    .....
    لو تعرف يا ظالم بحبك قدر إيه
    بحبك -والله عالم- ده حب احترت فيه
    .....
    قالو البهوى دايماً يا ما يشوف كتير
    وشفت غلاوتي عندك وحبّيت الألم
    البرتكان والرمان
    وفي غضون هذه الرؤية الغنائية السائدة، عكفت معظمُ الأغاني على دغدغة أحاسيس الشّباب ومشاعرهم! واستثارة عاطفة الحُبّ الفطريّة في نفوسهم البريَّة، واستلابها استلاباً غَرَزيّاً شهوانيّاً، من خلال التّنويه بجمال المرأة ومحاسنها ومفاتنها، وبالتّالي الحضّ والحثُّ على النَّظر إليها من أجل الاستمتاع بذلك الجمال.
    وهذه بعض النماذج:
    ففي عصر حقيبة الفنِّ (الخالدة)، كتب الشاعر سيد عبد العزيز:
    حاول يخفي نفسو
    شفناهُ شفناهُ
    وهل يخفَى القمر في سماهُ!
    وفي سبب نزول الوحي والإلهام، بهذه الأغنية، تحكي الرواية أنّ الشاعر ورفاقه كانوا مارّين في إحدى حواري أمدرمان، فوجدوا إحداهنّ تريد دفق "موية البلاعة"، فلما رأتهم دعاها حياؤها إلى الاستخفاء، ولكن...
    وفي الأغنية المشهورة: (اذكري أيام صفانا)، يقول الشّاعر محمد بشير عتيق متوسّلاً:
    يا أمير الحسن يا سامي المكانة
    أهدي لي تفاحة بس أو برتكانة
    فهي غير شك مرضية
    بيها أقتبس الضياء
    بل أذوق طعم الحياة!
    وأيضاً، من أغاني الحقيبة (الخالدة):
    الزمان زمانك
    أهدى لي من فضلك نظرة فى رمَّانك
    يا الفريد فى عصرك
    ثمّ إذا تقدّمنا خطوةً إلى الأمام، نجد وردي في (القمر بوبا) يُسهم في بناء هذه الرؤية، بشحنةٍ من الأوصاف الحسية، والمعاني الدائرة حول فلك المرأة وجسدها.
    ويخرق سمعنا كذلك نداء الأستاذ محمد الأمين:
    يا مُعاين من الشباك
    يا أحلى زول شفناك
    أرحم قلوبنا معاك...
    هذه بعض النماذج التي أريد من خلالها أن أؤكد فقط على أنّ الرؤية الغنائية السائدة التي يتلقّاها المتلقِّي، باتت تدور حول المرأة لا باعتبارها كائناً إنسانيّاً عاقلاً، له دورٌ في الحياة، ويواجه كثيراً من العقبات والابتلاءات، لا بل من حيث هي جسدٌ جميل، ابتداءً من تقرير معاني الحبّ العذري العفيف، إلى إظهار مجرد الإعجاب والاستمتاع بجمال المرأة والرَّغبة في الغَرف من مَعين هذا الجمال نظراً فقط، كما قال:
    أنا ما بقطف زهورك بس بعاين بعيوني!
    أو أكثر من النَّظر، كما حدث يوم القبلة السكرى، ويوم الجمعة في شمبات.
    بل: وعبادةً ورسالةً في الحياة: كما غنّى رمضان حسن:
    حبّك مُنيتي وفرضي وسنّتي ناري وجنّتي
    وكما كاد حسين بازرعة أن يفعل:
    يا حبيبة بجمالك أنا مغرم
    والجحيم من فراقك ليّ أرحم
    يا حبيبة، لولا ربي وجهنم
    لعبدتك وسجدت بين يديك!
    وكما نادى المنادي: البعبده وين!
    إذن، فذلك الحبّ الذي كان ينبغي أن تسموَ به الحياةُ وترقَى، أصبح سجناً لإنسانية الإنسان، وقضاءً على استقلاله الذّاتي! حيث يرهن أغلى ما يملك ويجعله تحت رحمة إنسانٍ مثله، كما يُقرّر إدريس جماع وسيد خليفة "في ربيع الحب":
    ليس لى غير ابتساماتك من زاد وخمر
    بسمة منك تشع النور فى ظلمات دهري
    وتعيد الماء والأزهار فى صحراء عمري
    وكما يحكي سيف الدسوقي والجابري:
    وصرت بعدك يا حبيبى ذرة فى بحر الزمن
    بعت للآلام مواهبي بعتها بأبخس تمن
    فكان أن تسرَّبت كلّ هذه المعاني والقيم السلبية عبر هذه الرؤية الغنائية, ونتج عنها ما أصاب مجتمعنا من مظاهر التفسُّخ الخُلقي والسُّلوكيّ!
    نعم ثمَّةَ عوامل أخرى أودت بأخلاقنا وقيمنا: عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكنَّ أخطرها على الإطلاق هو هذا الذي يتسلَّل خِلسةً, وعبر النَّغمةِ الجميلةِ إلى طوايا نفسك، منتهزاً لحظةَ ضعفٍ أو قهرٍ, لِيَدُسَّ في تربة القلب بذور اللامبالاة بالأخلاق والقيم!!
    بل كلُّ نظامٍ سياسيٍّ، إنّما كان انبثاقُه من قلب هذا المجتمع الّذي تربّى بهذه القيم! فهو وليدُه الشّرعيُّ!
    تعاطي الوهم:
    كذلك ينبغي الانتباهُ إلى أنَّ الرؤية الغنائية السائدة، بحسب دورانها حول كوكب المرأة وعالم العشق والهيام، تدعو السَّامعين والمتذوِّقين إلى التعامل مع الخيالات والأوهام, بعيداً عن الواقع الملموس وما فيه من مشاغل ومسئوليَّات والتزامات.
    ومن النَّماذج الطريفة التي تُقدِّم هذا المعنى في مشهدٍ كوميديٍّ أغنية "قبل ميعادنا بساعتين" لخليل إسماعيل: يَحضر المحبُّ إلى الموعد مبكراً, ويُعاني ما يُعاني من مرارة الانتظار، الذي كان كذلك بلا جدوى, فماذا كان شعوره؟ انظر إليه يقول:
    أغالط نفسي بإصرار وأقول:
    يمكن أنا الما جيت
    ومن هذا الباب معظم الأغنيات العاطفية، التي تجعل المحبّ هائماً على وجهه لا يعرف شيئاً إلا ليلاهُ، ولا يعرف قيمةً إلا لهذه العاطفة التي استولت على وعيه وشعوره.
    إنَّ الحبَّ الذي يرفع المحبوب إلى هذا المقام، ويُردي المُحبَّ إلى هذه المهاوي، ليس حبًّا حقيقيًّا, إنَّما هو عاطفة استبدَّت بقلب صاحبها, فرهن مشاعره وما حباه الله به من ذاتية واستقلال وكبرياء لإنسان مثله, وللأسف فإنَّ كثيراً من الأغنيات تُروِّج لهذا الضَّعف الذي من شأنه إذا استحكم أن يُدمِّر كيان الإنسان كله, ويحوِّلَه إلى حطام وركام من الطُّموحات والآمال.
    ماذا علينا إذا نظرنا؟!
    إنّ القاعدة التي تقوم عليها هذه الرؤية الغنائية السّائدة كما رأينا، تتمثّل في النّظر والدّعوة إلى النَّظر إلى المرأة الجميلة، إذ إنّ هذا النظر هو السبيل لمعرفة مفاتنها ومحاسنها الحسّية!
    أو كما تساءل إدريس جمّاع مستنكراً:
    أعلى الجمال تغارُ منّا
    ماذا علينا إذا نظرنا؟!
    والواقع: إنّ النّاظر للمرأة الجميلة، يشعُر من وراء ذلك بلذّةٍ معنويّة، ومن وراء اللّذة المعنوية برغبةٍ في الوصل خفيّة، عبر نظرةٍ خائنة أو قبلة ماجنة أو ... الخ.
    هذا هو السّياق الطبيعيّ، ولا يحولُ دون تحقيقهِ إلا اعتباراتٌ أخرى كالخوف من رقابة الآخرين، أو كونُ الناظر منشغلاً بأمرٍ آخر، أو خشيتُه من أن يَصفع خدّه كفٌّ صاعق، أو لأنه استهلك كلَّ رصيده الحِسِّيّ الفطري، ولم يعُد يُحرّكه مجرّدُ النَّظر ... الخ.
    اعتباراتٌ واقعية كثيرة جداً تحول دون هذا السبب ونتيجته الطبيعية! ولكنّها لا تمنع من التقاط صورةٍ، يتمّ حفظها في خلايا الذاكرة، ليُعادَ عرضُها لاحقا، في لحظات خلوة وفراغ!
    لذلك نلحظ أنّ الإسلام يتعامل مع هذا الأمر تعاملاً واقعيّاً وحازماً، يتمُّ توجيه المؤمن من خلاله إلى أن يغُضَّ بصره عند وُقوع أشعته على امرأة أجنبية؛ خشية أن يؤديَ ذلك إلى الوقوع في أسر الشهوة المستبدَّة، وبالتالي: خطر الاعتداء على حقّ الفرد أو على حقِّ المجتمع، ... فليغضّ بصره ابتداءً، ويحمي نفسه من الآلام والهموم والغموم التي طالما شكا منها الشعراء والمغنّون، والتي إنَّما تسبّبت ابتداءً عن النَّظر!
    ولنذكر قول الشاعر الحكيم:
    كم نظرةٍ فعلت بقلب صاحبها
    فعلَ السِّهام بلا قوسٍ ولا وترٍ
    يُسَرُّ ناظرُه ما ضلَّ خاطرُه،
    لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضّررِ
    حقَّاً: لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضرر، هكذا يُقرر "المنطق" أو العقل، ولكن هل تستجيب العاطفة أو القلب؟!
    تستجيبُ إذا تمّ استقطابها وتدويرُها حول محور الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، عبر الصَّلوات والأذكار!
                  

07-28-2011, 10:46 AM

صلاح عباس فقير
<aصلاح عباس فقير
تاريخ التسجيل: 08-08-2009
مجموع المشاركات: 5482

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح] (Re: صلاح عباس فقير)

    كنز الفطرة المدفون:
    عزيزي القارئ
    إنَّ المعاني التي نجدُها عند سماع الأغنيات الجميلة, والإحساس المتجدِّد بالحياة الذي يغمرُنا لحظتها, إنَّما يكمن سرُّهُ في أنَّ عمليّة الإبداع الفني، سواءٌ من ناحية الأداء أو التّلقِّي, إنّما هي في الحقيقة عمليةُ تنقيب في تربة القلب عن سبائك المعنى وكنوز المشاعر, وأزعم أنّ ذلك المنجم الذي نكتشفُه في تلك اللحظات عبرَ اللّمسات الفنّيّة المبدعة، ما هو إلا رصيدُ الإيمان المكنون في نفس الإنسان، نغرفُ من معينه في تلك اللحظات نشوةً ولذّةً، تجعلانِنا ننسجم مع الكون الواسع المُتّجه إلى عبادة ربِّه خِلقةً وطبعاً!
    ولكن من المؤسف أنّنا سرعان ما نغادر تلك اللحظات الجميلة من التّوحد والانسجام؛ لنعيش حياتنا الواقعيّة، ونحن أبعدُ ما نكون عن تلك القيم والمعاني!
    وهذا ما يدفعنا هنا إلى أن نُسجل ملحوظة واقعية، وهي أنّ الرؤية الغنائية تتّسم بعجزٍ طبيعيّ مزمن، يتمثّل في طاقتها التّأثيريّة المحدودة على نفس الإنسان، فتأثيرها أقرب ما يكون إلى حالة النّشوة النّاتجة من تناول مادة كحولية.
    وقد يقول المولعون بالسّماع: نحن لا نريد أكثر من ذلك!
    وللإنسان العاقل أن يُفكرَ ويتطلع مع الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد "نحو زمانٍ فنيٍّ مبدع مرتبط بتحريكٍ كاملٍ ومتكامل لقُوى الإبداع الإنسانيّ"، ويسعى لكي لا تكون لحظاتُ الألفة مع النفس والشّفافيّة لحظاتٍ عابرةً في حياته، بل واقعاً مجسداً، وطابعاً مميّزاً لسلوكه!
    إذن، أكبر مشكلة يواجهها المُتذوّق، هي مشكلةُ استدامة تلك اللحظات من الصّفاء والصدق والشّفافيّة التي نشعُر بها عند سماع النّغمات الجميلة، لكي لا تبقى تلك النشوةُ وذلك الارتقاءُ مجرّد لحظات عابرةٍ في مسيرة حياتنا!
    فالإبداع الحقيقيّ لا بدّ أن يكون له تأثيره في الرُّقيِّ بحياة الإنسان والسّموّ بمشاعره! ويكاد أن يكون هذا الحكم مُسلّماً، بل بناءً عليه نلحظُ أنّ الكثيرين يخلعون على فئة المغنّين والمطربين ألقاب الأستاذية والرّيادة، ويزعمون لهم أنَّهم ارتَقوا بالوجدان السُّودانيّ، بل ونلحظ أنّ كثيراً من الفنّانين يشعرون بأنهم أصحاب رسالة إنسانيّة كبيرة يؤدّونها من خلال غنائهم الجميل!
    إنّنا على أيِّ حالٍ، قد تبيّن لنا أنّه ثمّة كنزٌ مدفونٌ في طوايا عوالمنا الداخليّة، فلنتساءل: أليس حريَّاً بنا أن نفكِّر في الوسائط التي يتهيَّأ لنا بها استخراجُهُ حتى يكونَ ذلك الشُّعورُ واقعاً مُجسَّداً في حياتنا, وليس لحظاتٍ عابرةً من النَّشوة والالتذاذ؟
    أو: لنقل بعبارةٍ أخرى: ما هي أعلى مراتب التَّذوُّق والسَّماع ؟
    بدءاً، لا بد أن نلحظ أنَّ السّياق الطبيعيّ لعملية الإبداع، أداءً وتذوُّقاً، سياقٌ تطوُّريٌّ يجد فيه المرء أنّه يتجاوز نفسَهُ باستمرار, ويكتشفُ في كل مرَّة معاني جديدةً, لم يكن قد انتبه إليها أوَّلَ مرّة، ولعلَّ المرتبة العليا من التطور، التي يمكن أن يبلغها هذا المبدع المرهف، هي أن تتعمّق في نفسه رؤيةٌ إنسانيّة، يرسم من خلالها لنفسه هدفاً واضحاً في الحياة, يملك من الطموح والقيم الكبيرة، ما يجعله يسعى لتحقيقه على صعيد الفعل والممارسة, وليس فقط في لحظات السَّماع وحدها.
    فما هي تلك الدَّرجة التي يُمكن أن تُعتبر بحقٍّ قمَّةَ التَّذوُّق الفنِّيِّ والجماليِّ التي يُمكن لأيِّ بشرٍ أن يبلُغَها على الإطلاق؟
    ‌‌‌أسمى مراتب التذوق:
    إنّني أرى انطلاقاً من واقع انتمائي الدّيني والعقديّ، أنّ تلك المرتبة، هي التي تجد نفسك فيها قادراً على تذوُّق النَّغمات الجميلة، والموسيقى العميقة، والمعاني الكبيرة، التي يتضمَّنها القرآن الكريم.
    وتبدو هذه النتيجة بحسب واقع مجتمعنا المؤمن بالله، ثمرةً بدهيّة، وخلاصةً منطقيّة، إذ يبدو القرآن الكريم من هذه النّاحية، وكأنّه الرؤية الإبداعية البديلة، التي تتجاوز (الرؤية الإبداعية السائدة، والتي يقود مسيرتها الفنّانون والمغنّون، والتي ثبت فشلها الذريع، في مجرى حياتنا الواقعيّة)، فالقرآن في نظريّ، هو الرؤية المنقذة لسفينة الإبداع في حياتنا، من الغرق في خضمّ بحر الشّهوات!
    ونحن، بإيماننا البسيط، نعلم أنّ القرآن هو كلامُ الله عزّ وجلّ، وبالتالي فلا يُتصوّر أن يفوقَه كلامٌ آخرُ، في دقّته وانسجامه إلى الدّرجة التي تؤدي إلى صدور موسيقى داخلية عميقة، تنبعث من بين حروفه وحركاته وتنويناته، وكما نعلم فإنّ الموسيقى ليست في المنتهى سوى أصواتٍ فائقة الانسجام، وليس هناك أصواتٌ تفوق الأصوات القرآنية عمقاً وحلاوة، إضافةً إلى ميزةٍ أخرى، وهي الانسجام فيه بين أصواته ومعانيه، فلذلك تجد القرآن يفعل فعله، تأثيراً في نفوس التّالين له، وتحريكاً لدواخلهم، ما دام أنّهم قد جلسوا بين يديه، وهم مؤمنون بأنّهم جالسون بين يدي ربهم الّذي خلقهم، وها هو ذا يناجيهم، ويُذكرهم بالحقائق الكبيرة، عن الحياة وعن المصير الحقيقيّ!
    بل إنَّ من الأهداف الأساسيَّة للقرآن الكريم: أن يُشبع في الإنسان تلك الحاجة الفطريَّة لسماع الأنغام الجميلة، وجيل الصّحابة -رضوان الله عليهم- إنّما بلغ تلك المرتبة العالية من الرّفعة والسُّمو، حينما سمت أذواقُهم ورهفت مشاعرُهم, فما عادوا يَطربون لشيءٍ أعظمَ من طربهم للقرآن, فصار القرآن غذاء أرواحهم، ... وقد سمعوا الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- يُوجِّهُهم إلى أهمِّيَّة التَّغنِّي بالقرآن وتحسين الصَّوت به عند التّلاوة, وسمعوه يقول لأبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه-: "لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داود" كما سمعوه يقول: "من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منَّا".
    ويُمكن القول بناءً على ذلك: إنّ مسألة الالتزام بالقيم الشرعية، هي في الواقع مسألةٌ ارتقاء بالذَّوق, ويبدو أنَّ هذا هو ما يقصدُه البعض عند تنبيهِهِ لأمرٍ شرعيًّ ليلتزمَه فيقول: "ربنا يهدينا", كأنَّه يقول: "في الحقيقة: لم أبلغ هذه المرتبة من التَّذوُّق".
    طيّب، الغناءُ حلالٌ أم حرام؟
    إنَّ هذا السُّؤالَ لم يُطرح بهذه الصُّورة في عهد النُّبوَّة, وإنما بدأ المُربِّي البصير بتقرير الإيمان في القلوب أولاً, فأُتيح للذَّوق والشُّعور أن يرتقيا, بحيث صار المُتلقِّي لا يَجدُ متعةً تفوق المتعة التي يلقاها من تلاوته للقرآن, أو قل من تَغنِّيهِ بالقرآن, إضافةً إلى أن التَّالي للقرآن فوق ذلك -بحسب درجة صدقه- يُقرِّر في نفسه قيماً ومعاني راسخة, تُؤسِّس في قلبه رصيداً زاخراً من الطَّاقة الحيويَّة التي تدفعُه إلى العمل والجدِّ والمثابرة, وهو بذلك يتجاوز السَّيِّئات والمثالب التي تنجم عن سماع الأغاني الهابطة خاصّةً.
    ولم يروِ الرّواةُ، عن ذلك العصر النّبويّ، قطُّ أنّه قد حدثت فيه معركةٌ ضدّ الغناء والموسيقى، لأنّ القرآن والدعوة إليه، قد تنزّلا في السياق الواقعيّ لعملية الإبداع والتغيير الإنسانيّ، وكلُّ ما هنالك أنّه قد حدث ارتقاء في الذوق الفنيّ، واتّساعٌ في دائرة الرؤية الفنية، جعلها تمتدُّ إلى ما لا نهاية، بحيث تشمل الكون كله، بل والدنيا والآخرة معاً.
    المواجهة الحاسمة:
    ولئن كان هناك من غموض لدى بعض الناس في موقف الإسلام من الغناء والموسيقى, فإنَّ الأمر بناءً على هذا التصور الّذي نطرحه يبدو واضحاً, ولا يُثير أدنى إشكال.
    وتُصبح القضية برُمّتها قضيَّة داخليَّة عميقة, يُواجه فيها المسلمُ نفسَه بشجاعةٍ, من أجل الارتقاء بها، مستفيداً من ذلك الرصيد الحيِّ من المشاعر والقيم المستقرَّة في ضميره.
    واضعاً نصب عينيه غايةً كبرى، يسعى لتحقيقها في كلّ لحظةٍ، ألا وهي أن يرقى بذوقه إلى مرتبة إدراك المعاني القرآنية، والعيش في سياقها الكونيّ، خاشعاً منتبهاً متأملاً مستمتعاً!
    وعندئذٍ، فحريٌّ بمن وجد نفسه عند سماع الغناء, ولم يجدْها عند سماع القرآن, أن يقفَ مع نفسه وقفةً جادَّة, يجتهدُ من خلالها في أن يعمل على تأسيس مساحاتٍ في القلب لتذوُّق كلام الرَّحمن, مساحاتٍ يعملُ على أن يُوسِّعَهَا شيئاً فشيئأ حتى يحتلَّ القرآنُ من قلبه المكانةَ التي تليقُ به.
    ومِمَّا يُعينُ المرءَ على الاجتهاد في هذا السَّبيلِ، معرفتُه ببعض الآثار السَّلبيَّة التي تنتج من الولع بسماع الأغاني, وأقف معك الآن عزيزي القارئ عند أخطر هذه الآثار: ألا وهو:
                  

07-28-2011, 10:52 AM

صلاح عباس فقير
<aصلاح عباس فقير
تاريخ التسجيل: 08-08-2009
مجموع المشاركات: 5482

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح] (Re: صلاح عباس فقير)

    إفراغُ الطَّاقة الشُّعوريَّة الخيِّرة:
    الطَّاقة الشُّعوريَّة الفطريَّة الخيِّرة, هي التي تدفع الإنسان إلى أداء كلِّ عملٍ منتجٍ يعود عليه بالنفع أو على أسرته أو على أقاربه وذوي رحمه أو على مجتمعه عموماً.
    إنَّ الولع بسماع الغناء إذ يجعلك تعيش في عالم من الخيالات والأوهام, كما هو حالُ كثيرٍ من (المبدعين) في سائر ضروب النَّشاط الفنِّي, أنَّهم يَسبَحون في عالمٍ من صُنع خيالهم, لا يَملُّون فيه من العزف على أوتار الحبِّ والعاطفة وكلِّ القيم الجميلة, والمنطقيُّ والواجب حينئذ أن يجتهدوا في الالتزام بها وتحقيقها في واقعهم, وهم -إلا ما رحم الله- لا يفعلون ذلك؟ إذ لا يجدون رصيدَهم الرُّوحيَّ الفعليَّ كافياً لذلك, فقد صرَّفوه في لحظة السَّماع!.
    ولنذكر في هذا السياق قول الله تعالى: (والشُّعراء يتَّبعُهُم الغاوون) علماً بأنَّ الشعراء آنذاك كانوا هم الذين يقومون بدور المحترف للممارسة الفنية, فمن أين أتتهم الغواية؟ يأتينا الجواب: ((ألم ترَ أنَّهم في كلِّ وادٍ يَهيمون وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون)) فهذه الآية تُشيرُ بصراحة للآفة الخطيرة التي يُمكن أن يتعرَّضَ لها المُحترفون للفنِّ والغناء، وكذلك المولعون بسماعه: أنَّهم يتحوَّلون إلى مجرَّد مُغنِّين لتلك المعاني والقيم الجميلة, دون أن يلتزموا بها, بل قد يتَّبعون سبل الغواية والإضلال, والسَّبب في ذلك أنَّ المداومة على سماع الأغاني والولعَ بها يمتصُّ من إرادة الإنسان وعزيمته خُلاصَتها, حتَّى يُصبحَ ولا عزيمةَ له تدفعُه إلى فعل الخير, فقد أفرغ خلاصتها حين سماعِه لتلك الأغاني, حيث تراه عندها خاشعاً مُخبتاً متأمِّلاً, متبتِّلاً في محراب الفنِّ والفنَّانين,..... الأمرُ الذي يوحي إليك بأنَّه مُستغرِقٌ في هذا السَّماع, مُتيحا لكلمات الأغنية أن تتسرَّبَ بمعانيها إلى أعماق روحه, ولسوفَ يُعاودُ سماعَها مرةً بعد أخرى, فتصبحَ لحظاتُ السَّماع هذه في حدِّ ذاتها إنجازاً كبيراً, ...
    وهذا هو الأمر الذي دفع الصَّحابيَّ الجليل عبد الله بن مسعود إلى أن يُسجِّل ملاحظته الواقعيَّة عن تأثير الغناء في نفوس المغنِّين والسَّامعين، حيث يقول: "الغناءُ يُنبت النِّفاقَ في القلب, كما يُنبتُ الماءُ البقلَ."
    درجات سلّم الإبداع:
    بناءً على ما تقرّر عبر سياق هذا الموضوع، يمكنني تحديدً هذه الدرجات المتسلسلة لسلم الإبداع الفنّي تذوُّقاً وأداءً، كما يلي:
    الدرجة السّفلى: سماع الأغنيات الهابطة، والتّجاوب معها.
    ثمَّ، سماع الأغنيات الجميلة ذات الكلمات المعبّرة، والتجاوب معها.
    ثمّ، سماع القرآن الكريم، والعيش في إطار معانيه وقيمه.
    وفي هذا السّياق الفنّي المبدع، لا مجال للاستنكار على ما يدور في وجدان الآخرين، ولكن عبر التفاعل السلوكي والأخلاقي والاجتماعيّ، يُتاح للجميع أن يرتقي تذوّقهم نحو أعلى درجات التّذوق.
    مفرق الطريق:
    وهنا ننتبه إلى مسألة أساسيَّة، تتعلَّق بموقف الإسلام من الإبداع الفنِّيِّ عموماً:
    - إنَّه لا يُريد أن يكون هذا الإبداعُ حرفةً تمتهنها إحدى فئات المجتمع, ولكن يُريده أن يكون ديدنَ كلِّ النَّاس, أولاً ,
    - وثانياً: لا يريده قاصراً على الغناء أو بعض الممارسات الفنية، ولكن يُريدُه روحاً تسري في كلِّ سلوك الإنسان, في مظهره وخُلقه ومعاملته.
    - وثالثاً: لا يُريد أن يقف الأمرُ عند حدود التَّغنِّي والطرب والسَّماع للمعاني الجميلة, ولكن يُريد التزاماً بها وسعياً إلى تجسيدها في عالم الواقع.
    إنّ النُّصوص الشّرعيّة، وإن كانت تحثُّ على التَّرويح عن القلوب "ساعةً وساعةً"، لكنَّها لا تجعل منه عملاً مقصوداً لذاته، بل من أجل تنشيط النّفس الإنسانية على بذل مزيدٍ من الاجتهاد في ساحات العمل الاجتماعي, ولنفس السَّبب فإنَّ احترافَ الغناءِ وجعلَه وسيلةً لكسب المعاش ممَّا يتنافى مع روح الدِّين الإسلاميِّ.
    وقبل الختام، دَعني أُعرِّج على البدء، حيثُ دعوتُك عزيزي القارئ، إلى رحلةٍ استكشافيّة، لعوالمنا الداخلية، نسبرُ أغوارها من خلال مِسبار "الغناء السُّودانيِّ" في فترةٍ تاريخيةٍ معيّنة، ولعلك انتابك الغموضُ في المسلك الّذي سلكتُه في تسجيل هذه الخواطر، بيدَ أنّي أؤكد لك: أني في كلِّ ما كتبته كنتُ أميناً مع نفسي، فكان الانتقال الّذي يلحظه القارئ من حال الحفاوة بالغناء، إلى حال نقده، مع كلِّ احترامي للمولعين بالغناء أداءً أو تلقّياً وسماعاً، وتقديري لتجاربهم، فأنا واثقٌ أنّ شرارة الإبداع ذاتُ طبيعةٍ واحدةٍ، إذا اتّقدت فهي لا شك قائدةٌ صاحبها إلى طريق الخير والنّور، ما لم تعتور طريقه عقبةٌ كؤود، تنحرف به عن مسار الإبداع الحقيقيّ!
    [email protected]
                  

07-28-2011, 11:06 AM

عماد حسين
<aعماد حسين
تاريخ التسجيل: 06-11-2011
مجموع المشاركات: 7066

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح] (Re: صلاح عباس فقير)

    Quote: أنه تعبير عن الاستنكار للتدخل (الدعوي الشرعي) (الفج) في
    الأمور المتعلقة بأذواق الناس وأمورهم الخاصة، والإشارة هنا
    إلى ما قرأته سريعاً من توجيه رسمي بتأجيل بث برنامج (أغاني)
    خلال فترة شهر رمضان.


    التدخل الشرعي في أذواق الناس؟؟!!!

    والله يا صلاح عباراتك دي فيها تمييع للحقائق!!!

    يا اخي أذواق الناس دي متعلقة بـ: ماذا تاكل وماذا تشرب وأين تسكن..

    ودي حاجات على كيفك، وطالما كانت في اطار الحلال، فالشرع لا يتدخل فيها.

    لكن بالله عليك... امر العبدة والحرص عليها.. هل هذه مسالة متعلقة بذوقي أو ذوقك؟

    حتى لو كان برنامج (حلال بلا خلاف) وممكن يؤثر على حضور الناس للصلاة، مش برضو بيكون من الحكمة ألا يبث في هذا الوقت؟

    خليك كمان من أنه يكون برنامج للهو واللعب وفي شهر الصيام!!!!

    مش الغنا ده.. خلينا من الكلام فيهو عشان ما نقعد نلف وندور كتير...

    بس الموسيقى منصوص على تحريمها..

    وكمان سمعت ان هناك برنامج ينقل حفلات الزواج

    حاجة عجيبة
                  

09-06-2011, 01:12 PM

صلاح عباس فقير
<aصلاح عباس فقير
تاريخ التسجيل: 08-08-2009
مجموع المشاركات: 5482

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح] (Re: عماد حسين)

    الإخوة الأعزاء السلام عليكم،
    وكل عام وأنتم بخير،
    أعود مجدّداً لمتابعة مسيرة هذا البوست،
    ابتداءً من الرّدّ على مداخلة الأخ عماد، والتي أرجأتها
    إلى حين وداع شهر رمضان،
    ربّما تجنُّباً للجدال في الشهر الكريم،
    وكنت قد قلت في مداخلتي الأولى عن موضوع هذه الخواطر:
    أنه تعبير عن الاستنكار للتدخل (الدعوي الشرعي) (الفج) في
    الأمور المتعلقة بأذواق الناس وأمورهم الخاصة، والإشارة هنا
    إلى ما قرأته سريعاً من توجيه رسمي بتأجيل بث برنامج (أغاني)
    خلال فترة شهر رمضان.
    فانبرى لي الأخ عماد مستنكراً:

    [[[[[التدخل الشرعي في أذواق الناس؟؟!!!
    والله يا صلاح عباراتك دي فيها تمييع للحقائق!!!]]]]]

    لم أستنكر (التّدخّل الشرعيّ في أذواق الناس) يا عماد،
    وإنما استنكرتُ (التدخل الشرعي الفجّ)، أي غير الناضج!
    ولست في ذلك إلا مقيماً لمعاني الآية الكريمة:
    {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
    وجادلهم بالتي هي أحسن}
    ثمّ قلت لي:

    [[[[[[يا اخي أذواق الناس دي متعلقة بـ:
    ماذا تاكل وماذا تشرب وأين تسكن]]]]]

    لا يا عمدة، أسمَى أذواق الناس ما يتعلّق بإشباح (حاجاتهم الرّوحيّة)!
    وأنا أتفق معك في أنَّ الموسيقى والغناء ليستا غذاءً صحيّاً للرّوح،
    بيدَ أنّ كثيراً من هؤلاء لا يعرفون أنّ القرآن الكريم،
    هو الغذاء الصّحيّ الطّبيعيّ!
    فكيف يمكن الانتقال بوعي الإنسان وذوقه إلى تلك الدرجة السّامية؟
    ليس يتمّ ذلك يا عمدة باختراق جدار الذات،
    وإنما عبر الاستئناس بها والاستئذان منها!
    وأنت تعلمُ أنّ دواوين السنة لم تسجل موقفاً واحداً، أُثيرت فيه بلبلةٌ
    أو مشكلةٌ بسبب الغناء والموسيقى، وإنما تلقائيّاً عبر المعاملة الحسنة
    والتّلطُّف، انتقل الناس من سماع الغناء إلى سماع القرآن!
    بل، وعبر مِرقاة التّذوّق، شيئاً فشيئاً كذلك!
    ولعلّ هذا الاستطراد يقودني إلى تسجيل ملحوظة أخرى فيما يتعلق
    بالعلاقة بين تذوّق الغناء والموسيقى وتذوّق القرآن:
    مع تذوّق القرآن أنت تعيش في قلب واقعك، تواجهُ مسؤولياتك
    الفردية والاجتماعية والإنسانية! وتعيش مع النغمات القرآنية، وأنت
    في حال انسجامٍ وتفاعل مع الكون العريض!
    أمّا مع تذوّق الموسيقى فأنت تبقى داخلَ دائرة الوهم،
    تقودك النغمة الجميلة إلى نغمة جميلة،
    وتنتقل بك الموسيقا إلى موسيقا!
    بيد أنّي لا أُنكر العلاقة الوثيقة والعميقة بين تذوّق الغناء والموسيقا
    وتذوق نغمات القرآن!
    فمحلُّ التّلقِي في الحالتين هو القلب،
    وكلاهما (الموسيقى والقرآن) عبارةٌ عن أصواتٍ فائقة الانسجام،
    مع الاحتفاظ لكلٍّ منهما بمقامه!
    ومن هنا: فإنّ الانتقال من سماع الغناء إلى سماع القرآن، قد يكون
    ارتقاءً عبر مرقاة التّذوّق، في حالٍ يستجيش فيها الإنسان
    كلّ قوى الإبداع من فكرٍ وذكرٍ وعملٍ صالح!
    ثمّ:
    ماذا عن تجربتك مع السّماع والتّذوّق يا عمدة؟
    ألم تطرب يوماً لأغنيةٍ؟
    هذا
    وأستغفر الله العظيم
    ممَّا يكون قد بدر عني من خلل أو خطل أو زلل!
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de