نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 04:09 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-27-2011, 07:44 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)!

    نعم الشعب يريد إسقاط الدولة!

    محمد جمال الدين لاهاي/هولندا

    قرأت مقالآ مثيرآ للتأمل بقلم الكاتب فادي العبد الله نشر بصحيفة النهار اللبنانية ليوم الجمعة 18 مارس 2011تحت عنوان: الشعب يريد... فمَن هو الشعب؟.

    شدني المقال لما فيه من أفكار وتصورات ممتازة تستند على محاولة قراءة الإنتفاضتين الشعبيتين في كل من تونس ومصر على خلفية مقال للفيلسوف الفرنسي ألان باديو، في صحيفة "لوموند" بعنوان "تونس، مصر: حين تكنس ريح الشرق غرور الغرب". وبعد إكمالي لقراءة المقالة المعنية مباشرة شعرت أن الكاتب كان غرضه من جل ما كتب الدفاع عن "الدولة" بشكلها المطلق لكونها ضرورة حتمية لا مناص منها بحسب الكاتب وقد خصص فادي العبد لله عنوانآ جانبيآ يقول: الشعب يريد الدولة... أنتقي منه المقاطع التالية بغرض مناقشتها لاحقآ:

    (أن أحداً منهم "المصريين" لم يرفع شعاراً بإسقاط الدولة، بل بإسقاط النظام. التمييز هنا ليس سياسياً فحسب، بل تأسيسي، بخاصة في بلد توظف الدولة فيه ملايين الأشخاص. لم يعد لمجتمع حديث ألا يطالب بإقامة دولة. تجاوز الدولة في ظل قيام دول مجاورة فاعلة وعدوانية، إنما هو انتحار شعبي، فضلاً عن كونه نكوصاً عن أقصى ما بلغته هذه المجتمعات حتى هذه الساعة، في مجال الفاعلية والتضامن الشامل، وذلك مستمر إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً أو يصبح مفهوم الاتحاد، سواء على النمط الأوروبي أو الأميركي قبله أو أنماط أخرى قد تلي، سبيلاً إلى تجاوز الدولة بمفهومها الحالي، إلى ما يتخطاه لا إلى ما يتراجع عنه!
    إلى ذلك الحين، تبدّى أن النظام الحاكم هو الذي حاول اسقاط الدولة، وربما في بعض الدول هو نجح إلى الآن في فعل ذلك، مستبدلاً إياها بميليشيات خاصة أو عامة و/ أو بتشابكات قبلية، عشائرية، مناطقية، تتماسك قبتها ببناء مافيوي نفعي. أما الشعب في تونس ومصر فكان يثور لإحداث تغيير في دولته، لا لإلغائها. أي أن هدف الثورات على الأرجح أن يتسنى للناس أن يصيروا مواطنين، أفراداً وأحراراً. ليس من قبيل العبث أن أحد أول بيانات المجلس العسكري الأعلى في مصر كان لتأكيد أن كرامة الوطن لا تعني إلا جماع كرامة أفراده فرداً فرداً، وهو فهم للكرامة كان "الملحق" منذ سنوات يحتضن مطالبات مشابهة به، ردّاً على اساءة استغلال مفهوم الكرامة في السياسة.

    لذا أيضاً، لم يكن من قبيل العبث، في مصر مثلاً، أن تحريك جمر الفتنة، التي لم يتخلص المجتمع منها، كان رد فعل مباشراً على ابتكار المصريين لمسيرة جديدة في تاريخهم بعد حدثين ضخمين (اسقاط الرئيس، واسقاط ملفات جهاز أمن الدولة). فالفتنة، تعريفاً، تقع بين جماعات، أي أنها تعيد إدراج من يسعون إلى المواطنة في شبكات الجماعة أو الطائفة. وبدل أن تكون الدولة الأفق الذي يضمن المواطنة تصير اللاعب بالفتنة ضبطاً وإشعالا).

    فادي العبد الله يرى أن الشعب يريد الدولة أي إبقائها لا إسقاطها وإنما الذي يمكن إسقاطه أو المطلوب إسقاطه هو " النظام" بمثلما نقرأه تحت العنوان الجاني الأخير لدى المقال المعني: أيّ نظام لأيّ سقوط؟.

    المقال في مجمله عبارة عن مرافعة ساخنة عن "الدولة" كونها ضرورة حتمية لا مناص منها. جيد!. ولو أن هناك إشكاليات عديدة يثيرها مثل هذا الكلام وأولها حزمة من التساؤلات من قبيل: ما هي الدولة؟. وما هو النظام؟. وما الفرق بين الدولة والنظام؟. وما هي الحكومة؟. وهل هناك فرق بين الدولة والنظام والحكومة؟. وهل هناك دولة نمطية واحدة الشكل والمضمون وعلى الدوام؟. والسؤال الآخر المقابل: ما هو الشعب؟. وهو ذات عنوان المقال موضع الحديث هنا. لا نجد إحابة على مثل هذه الإسئلة .

    أم أن الإجابة معروفة للجميع؟. بمعنى أن الأمر بدهي ولا يحتاج مشقة السؤال (؟).

    الأمر عندي بأي حال ليس كذلك!. فبالإحالة للمقال المعني هناك إشكالية تتجلى في قبول تغيير "إسقاط" النظام مع الحفاظ على الدولة. وبالرجوع إلى جملة التساؤلات التي وضعتها أعلاه أستطيع أن أقول بشكل مبدئي أن الحكومة جزءآ من النظام والنظام جزءآ من الدولة والدولة تقوم في مقابل الشعب.
    ليس من أهدافي هنا مناقشة قناعات الكاتب أو إبراز قصور رأيته منه في تعريف ما لم يتعرف ولا مماحكة تفصيلية مع تصورات الكاتب الموقر فأنا في الحقيقة لم تتح لي بعد فرصة الإطلاع على جملة كتابات وأفكار الكاتب فادي العبد الله كما أنني أعلم أن مقالته موضع الشأن هنا على جودتها وقيمتها الجدلية ما هي إلا ردة فعل لمقالة سابقة للفيلسوف الفرنسي ألان باديو كما هو واضح من السرد. وإنما قصدي البناء على فكرته الجريئة عبر الخروج منها إلى فكرتي الخاصة حول مسألة "الثورات" الهبات الشعبية التي تجتاح دول بعينها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.


    الشعب يريد إسقاط النظام ... فما هو النظام؟.

    الشعب يريد إسقاط النظام كان شعارآ بارزآ وحادآ من شعارات التونسيين والمصريين في إنتفاضتيهما في مواجهة الأنظمة الحاكمة في بلديهما. وهو ذاته الشعار الذي ترفعه حشود من شعوب أخر مثل ليبيا واليمن والسودان.

    ماذا حدث في تونس ومصر عمليآ بالإحالة إلى الشعار " الشعب يريد إسقاط النظام"؟.

    سقطت الحكومة في كلا البلدين في لحظة تنحي الرئيس وحلت محلها سلطة إنتقالية في الحالين تبعها حل الحزب الحاكم بواسطة السلطة الإنتقالية وحل البرلمان كما تم حل الأجهزة الأمنية بشكل كلي أو جزئي . وكان ذاك هو الحد الأدنى الذي أرضى معظم الحشود الثائرة فهدأت معركتهم في ميدان التغيير. ولو أن البعض ما زال ينادي بتغييرات أشمل في مجالات مثل المؤسسة العسكرية والخدمة المدنية والقضاة والإعلام والقطاعيين العام والخاص.

    قبل الإجابة الحصرية على سؤال: ما هو النظام؟. أود أن أذهب بشكل أشمل وأجيب على سؤال: ما هي الدولة؟. لظن مني أن الإجابة على "ما هو النظام" ستكون متضمنة في الإجابة على سؤال الدولة.

    من المحتمل أن يكون من التعريفات الأكثر تداولآ للدولة ما يلي: (الدولة هي كيان سياسي/قانوني يقوم فوق رقعة جغرافية محددة ويكون هذا الكيان ذو اختصاص سيادي في حدود رقعته الجغرافية ويمارس السلطة "في الغالب عبر القمع المادي والمعنوي" عن طريق منظومة من المؤسسات الدائمة. والعناصر الجوهرية للدولة هي: الحكومة والشعب والأقليم، و السيادة و الاعتراف من الآخرين). وتلك صورة عامة للدولة ربما كانت غير دقيقة تمامآ لكنها تبقى في حسباني ضرورية من أجل تقريب المفاهيم!.

    وعندي أن الدولة في العادة تتمظهر عمليآ في ستة أشكال رئيسية هي: 1-الجهاز التنفيذي (الحكومة) 2-الجهاز التشريعي "البرلمان" 3-الجهاز القضائي 4-المؤسسة العسكرية (الجيش والشرطة بأشكالها المختلفة وأجهزة الأمن) 5-الخدمية المدنية و6- القطاع العام.
    وبقفزة عجلى أستطيع أن أتصور أن المقصود من كلمة "النظام" في عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام" هما الجهازين التنفيذي والتشريعي أي الحكومة والبرلمان وهما بمثابة عقل الدولة بينما تمثل التمظهرات الأخرى للدولة جسدها. وبسقوط أو إسقاط الجهازين التنفيذي والتشريعي ربما تسقط الدولة كلية. والسقوط المقصود ليس مطلقآ وإنما يكون مرادفآ للتغيير. إذ أنه يبدو أن الجميع مجمعين على أهمية النظام و الدولة غير أنهم يرغبون في إسقاط النظام وربما الدولة في مجملها وفي خلدهم تغيير عناصرها في الشكل والمضمون بعناصر جديدة تواكب الحدث في فضاء الزمكان.

    كيف يؤدي إسقاط "النظام" إلى إسقاط الدولة؟.

    لأن الدولة عندنا دولة آيدولوجية أو شمولية لا لبرالية تعددية في جوهرها... وعندها تكون كل مؤسسات الدولة والقطاع العام، كل شيء تقريبآ تابع للجهاز التنفيذي "الحكومة" والتي بدورها تنتقي جهازها التشريعي. وعندما تكون جميع أجهزة الدولة تابعة للجهازين التنفيذي والتشريعي فمن المنطقي أن تسقط بسقوطهما الدولة. فعندنا في الشرق قد يكون سقوط الجهاز التنفيذي وحده كافيآ لإسقاط الدولة. في الدولة ذات القيم اللبرالية الراسخة تكون المعادلة مختلفة إذ أن ما نسميه "النظام" هنا يعمل في فضاء شبه مفصول عن مجمل جسد الدولة. ولكم أن تستحضروا معي ما حدث في هولندا، البلد الذي يقيم به كاتب هذا المقال، أن الحكومة انهارات "سقطت من تلقاء ذاتها" عدة مرات خلال العقد الماضي ولمدة عدة شهور في بعض الأحيان بفعل إختلال المنظومة التشريعية "البرلمان" لكن دون أن تتأثر بقية هياكل الدولة أو تنهار وكان كل شيء يسير على ما يرام: القضاء، البوليس، الأمن، قطاعي الصحة والتعليم والقطاعان العام والخاص وإلخ ولم يتأثر الإقتصاد في مجمله ويبدو أن لا أحدآ كان منزعجآ أو قلقآ من مصير يتهدد الدولة.

    هل الشعب يريد إسقاط الدولة بعمله على إسقاط النظام؟.

    الإجابة العاجلة من عندي، نعم!. وكما كررنا أعلاه فإن السقوط يكون مرادفآ للتغيير. أي أن الشعب يريد تغيير "الدولة" بدولة مواكبة لتصوراته الجديدة من تلقاء الضرورات الملحة. فالناس تعرف أن تغيير النظام يقود في الغالب إلى تغيير جذري في كل مفاصل الدولة أو على أقل تقدير تكون الفرصة عظيمة في تغيير جذري في بنية الدولة بسقوط "النظام" وفق الفهم الذي قلنا به آنفآ.
    لماذا يريد الشعب إسقاط الدولة؟.

    قبل الإجابة على مثل هذا السؤال الذي يبدو سهلآ لأول وهلة أود أن أحاول الإجابة على السؤال الصعب جدآ وهو: من هو الشعب؟.
    واضح جدآ أن الشعب شيء غير الدولة. أليس كذلك!. والدليل أنه يرغب ويريد ويستطيع إسقاط الدولة. فهو إذن شيء ما يقوم خارج الدولة أو بالأحرى في مقابل الدولة. الدولة بما هي جهاز رسمي ... (سأحتاج هذه الكلمة "رسمي" لاحقآ ). هل نستطيع أن نستلف عبارة "المجتمع المدني" من أجل مقاربة السؤال الصعب؟. سؤال الشعب. أنا سأفعل أو قل سأجرب!.

    عندي زعم كثيرآ ما قلت به في مناسبات مختلفة أن الدولة تقوم في مقابل المجتمع المدني وطبعآ العكس صحيح بنفس القدر من الصحة. وقبل أن أجيء هنا بتصوري المعني للمجتمع المدني والدولة آمل في أن ألفت الإنتباه إلى أن ما أعنيه ب"المجتمع المدني" هو الكل المركب (كل شيء) بلا إستثناء في مقابل الدولة (الدولة أيآ كانت). أي أن فهمي للمجتمع المدني والدولة ربما خالف الأدب الرسمي السائد!. أي ليست تلك النظرة التقليدية الراسخة والقاصرة من وجهة نظري والتي تحصر المجتمع المدني في شكل واحد محدد (هو المديني من مدينة) من أشكاله غير المحدودة!. فالمجتمع المدني عندي هو الفضاء الإجتماعي كله (كله بلا إستثناء) في مقابل الدولة (الدولة أيآ كانت). تلك نقطة عندي في غاية الأهمية في غاية الجوهرية. لذا أشدد عليها كلما حانت المناسبة.

    . "فمدني" في عبارة "المجتمع المدني" تعني لا "رسمي"، لا غير

    كلمة "مدني" في عبارة: المجتمع المدني تقوم ضد الرسمي "الدولة" على وجه الإطلاق.

    المدني هو المجتمع اللا رسمي والدولة هي المجتمع اللا مدني.

    مدني في مقابل رسمي (التكرار مقصود).

    وبهذا النحو فإن "مدني" في عبارة "المجتمع المدني" لا تحيل إلى أي معنى آخر من معاني التميز والإمتياز من قبيل مدنية بمعنى حضر أو حضارة أو حداثة أو علمانية. كما ان الكلمة "مدني" لا تحيل الى أي معنى من معاني الإلتزام الأخلاقي أو الأدبي أو الآيدولوجي. وإنما تعني فقط لا غير: غير رسمي (كل شيء أو فعل أو شخص خارج إطار منظومة الدولة). فالمجتمع المدني بهذا المعنى يكون هو محصلة حراك الناس "الهيكلي واللا هيكلي" خارج منظومة الرسمي "الدولة". وبغض النظر عن مغزى وشكل ذاك الحراك. ولا يهم ان وصف بأنه حديث أو تقليدي، تقدمي أو رجعي. كما لا يهم مكان حدوثه في الريف أو المدينة. وبغض النظر عن زمان حدوثه. فهو في كل الأحوال والأماكن والأزمان فعل "مدني": مجتمع مدني.
    ووفق هذا الفهم البسيط فإن القبائل الليبية الثائرة وغير الثائرة تكون مجتمع مدني مثلها ومثل شباب الفيس بوك في مصر لحظة حشدهم المشهود في ميدان التحرير أو في أي مكان آخر وفي أي زمان، زمان الثورة أو اللا ثورة.

    المجتمع المدني هو الفيض الفاعل مما يسمى بالشعب وفق أهداف وقيم ولوائح مكتوبة أو غير مكتوبة "مختزنة في العقل الجمعي". (انظر المقال المرفق بطيه "أدناه")
    .
    وعندي أن جوهر "المجتمع المدني" يكون في مظهره، إذ لا ذات قائمة بذاتها للمجتمع المدني .. كما ان المجتمع المدني يتمظهر هيكليآ في ذات الوقت الذي يتمظهر فيه لا هيكليآ ودائمآ بطرق منوعة ومتمايزة. فإن جاز تشبيه المجتمع المدني بالبحر فان موج البحر هو تمظهره. وإذا تحقق أن نرى البحر في سكونه بأعيننا ونسبح فيه بأجسادنا، فالمجتمع المدني عكس ذلك تماما فهو لا يرى ولا يحس الا حينما يتمظهر. لأن لا ذات للمجتمع المدني قائمة بذاتها. لا يوجد جوهر للمجتمع المدني. فجوهر "المجتمع المدني" هو مظهره هو "تمظهراته" ليس إلا. المجتمع المدني مجرد خط بياني متصور الغرض منه قياس الحالة، ليس إلا. ولهذا لا تتحدث الناس عن المجتمع المدني والا تطابق حديثهم مع تمظهراته أي هياكله وأحداثه. كما لا يوجد مجتمع مدني واحد يحمل نفس الصفات والمواصفات ويتمظهر بنفس النسق والمنوال. كل تمظهر مدني عنده خصائصه المتفردة وفقآ للأسباب الواقفة خلف كل تمظهر من التمظهرات. التمظهر المدني مثل بصمات الأصابع لا يتكرر مرتين في نفس الآن والمكان، فعلى سبيل المثال النقابة المحددة لا تتطابق مع نقابة أخرى في كل شيء كما الأمر نفسه يكون لدي الطائفة والعشيرة وإلخ... تلك التمايزات "متفاوتة الحجم" تجد خلفيتها في جدلية الهدف والقيم واللائحة.

    وعليه أستطيع أن أخلص إلى نتيجة مفادها أن المجتمع المدني هو الشعب متمظهرآ في أفعال "مدنية" في مقابل الدولة المتمظهرة في أفعال "رسمية". وكل دولة لا تكون إلا بنت مجتمعها المدني. وبقدر تنوع المجتمعات المدنية وتمايزها عن بعضها البعص تتنوع طبيعة الدول. فالمجتمع المدني اليمني على سبيل المثال لا يشبه المجتمع المدني السوري أو المصري أو السوداني وبنفس القدر تكون الدولة من حيث هي فاعلية لا أجهزة شكلية.

    كيف تحدث الثورة "التغيير"؟

    هنا نعود للسؤال " لماذا يريد الشعب إسقاط الدولة" في لحظة تاريخية محددة دون غيرها. المجتمع المدني المصري "الشعب المصري في فاعليته" وقف في معظمه وقفة جبارة خلف الرئيس جمال عبد الناصر في يوم ما لكن ذات هذا الشعب خرج لا يأبه بالموت من أجل إبعاد الرئيس مبارك من ذات الكرسي الذي أجلس فيه من قبله سلفه جمال عبد الناصر. كيف نجد تفسيرآ لهذا؟.

    الدولة كما أسلفنا لا تقوم إلا في مقابل "مجتمع مدني" غير أن الدولة في لحظة تاريخية بعينها ربما تقوم في الفراغ بفعل تصادمها مع مجتمعها المدني فتعمل على فرض قيم إجتماعية وآيدولوجيا بعينها عبر القمع المادي في سبيل تخلق مجتمع مدني يناسبها "مجتمع مدني زائف" في سبيل البقاء... في المقابل يبقي المجتمع المدني الحقيقي يتولد رويدآ رويدآ عن آيدولوجيات معادية للنظام وللدولة في مجملها ويقوم في الضد من الدولة القائمة في مقابل دولة المشروع "الدولة المتصورة". وتلك هي بإختصار شديد لحظة ما يمكن أن نسميه "الثورة" أي التغيير الجذري، إسقاط الدولة. والتاريخ مليء بالشواهد. وتلك هي جدلية المجتمع المدني والدولة.

    وفي ختام هذه المساهمة القصيرة والتي أتمني أن تكون ذات قيمة ما في مجرى النقاش الدائر حول الأحداث الكبيرة الدائرة في منطقتنا على وجه العموم أود أن أحي الكاتب فادي العبد الله على مقالته القيمة والتي حثتني على الكتابة كما أرجو أن يأذن لي القاريء العزيز من كان وأينما كان أن أرفق "أدناه" مقالة لي سابقة متعلقة بشكل مباشر بالشأن هنا تحدثت فيها عن جدلية الدولة والمجتمع المدني مع تركيز على حالة السودان من باب المثال.


    في سبيل الإجابة على سؤال "الهوية" (3-5)


    هل الحديث عن الهوية في السودان ممكن دون أن نتعرف على المجتمع السوداني نفسه!؟.



    في الحلقتين الماضيتين من هذه السلسلة الصغيرة التي أردت لها أن تجيء في خمسة أجزاء حاولت أن أقول بشكل مبدئي ماذا أفهم من مصطلح "هوية" مستندآ إلى شرح وجهة نظري مقابل وجهة نظر د. الباقر عفيف المتضمنة في ورقته "أزمة الهوية في شمال السودان: متاهة قوم سود...ذوو ثقافة بيضاء" من باب المقارنة الهادفة إلى البيان ليس إلا.

    وفي هذه الحلقة وما يليها سأعمل ما أمكنني على سبر غور الهوية من حيث الجوهر وكيفية تشكلها في الوجود وسيرورتها ومآلاتها وربما موتها بشكل نهائي أو إعادة تشكلها في ثوب جديد. وأرجو أن أذكر للمرة الثانية أنني أتحدث عن الهوية بمعناها السوسيولوجي في المقام الأول لا الثقافي أو السايكولوجي أو الفلسفي.

    كلمة "هوية" في اللغة تجئ من الضمير "هو". من "هو" ذاك الرجل؟. ذاك الرجل "هو" مولانا محمد عثمان الميرغني (مثال). لكل شخص رجل أو إمرأة سماته وقسماته وصفاته ومواصفاته التي تجعله مختلفآ ومتمايزأ بقدر ما صغير أو كبير عن الآخرين من الافراد. تلك ربما تكون محددات هوية الشخص الواحد "الفرد".

    غير أن ما يعنينا هنا بشكل أساس هو الهوية بمعناها السوسيولوجي. هوية جماعة أو مجموعة من الناس. ويبدو أن الجماعة كما الفرد تمامآ تكون لها سماتها وقسماتها وصفاتها ومواصفاتها التي تجعلها مختلفة ومتمايزة عن الجماعات الأخرى بقدر ما كبير أو صغير، كما يحدثنا الواقع. وربما أتصور أن هوية الفرد لا تكون ثابتة على الدوام بل هناك أشياء لا بد أن تتغير وتتبدل مع الوقت فلا أتصور أن شابآ عمره أحد وعشرين عامآ سيكون هو ذاته عندما يبلغ السبعين!. كما أتصور أن ذاك المنطق ربما أنطبق على هوية الجماعة بطريقة أو أخرى.

    وإن صح ذاك المنطق وهو عندي تصور معقول. فإننا لا نستطيع أن نلم تمامآ بهوية الفرد دون أن نتعرف على ماهيته (الحد المعقول من المعرفة بسماته وقسماته وصفاته ومواصفاته). كما الأمر ينطبق على الجماعة. هذا بالطبع إذا ما أتفقنا على مبدأ إختلاف وتمايز الأفراد والجماعات.

    أنا على قناعة تامة بأن لا فرد يشبه الآخر في كل شيء كما أن لا جماعة محددة تشبه الأخرى في كل شيء. هذا غير ممكن بحكم إختلاف عناصر النشوء إضافة إلى المعادلة الحاسمة وهي جدلية الهدف "هدف" تخلق الجماعة للوجود مع عاملي الزمان والمكان "الزمكان".
    وإستنادآ على هذا المنطق البسيط، أزعم أننا لا نستطيع الحديث بإطمئنان عن "الهوية" في الجغرافيا المسماة سودان دون أن نتعرف على طبيعة المجتمع المسمى "سوداني" في حد ذاته!.

    ولهذا سأجل الآن أي حديث مباشر عن "الهوية" في السودان وسأشد إنتباهي كله لما هو عندي أهم!. وهو المجتمع السوداني في حد ذاته. هو شنو؟. أعرف أنه سؤال صعب ومربك. لكنني سأحاول مستعينآ بآراء سابقة توصلت إليها من خلال الملاحظة عبر المعايشة. حاولت من خلالها أن أشكل نظرية صغيرة خاصة بي في النظر إلى المجتمع المدني السوداني والدولة. أحب هنا أن أشرككم إياها من جديد.

    وقبل أن أجيء هنا بتصوري المعني للمجتمع المدني والدولة في السودان آمل في أن ألفت الإنتباه إلى أن ما أعنيه ب"المجتمع المدني" هو الكل المركب (كل شيء) بلا إستثناء في مقابل الدولة (الدولة أيآ كانت). أي أن فهمي للمجتمع المدني والدولة في السودان يخالف الكل تقريبآ!. أي ليست تلك النظرة التقليدية السائدة والتي تحصر المجتمع المدني في شكل واحد محدد (هو المديني من مدينة) من أشكاله غير المحدودة!. ومعذرة لحدة العبارة، عنيتها قصدآ رجاء أن تشد الإنتباه وعلى أمل أن تثير الفضول المحمود. ليس إلا!. فالمجتمع المدني عندي هو الفضاء الإجتماعي كله (كله بلا إستثناء) في مقابل الدولة (الدولة أيآ كانت). تلك نقطة عندي في غاية الأهمية في غاية الجوهرية. لذا أشدد عليها كلما حانت المناسبة.


    تعريف المجتمع المدني في السودان (مفهوميآ وعمليآ) وفي مقابل الدولة... - نحو أفق جديد


    1- "مدني" في عبارة "المجتمع المدني" تعني لا "رسمي"، لا غير.

    كلمة "مدني" في عبارة: المجتمع المدني تقوم ضد الرسمي "الدولة" على وجه الإطلاق.

    المدني هو المجتمع اللا رسمي والدولة هي المجتمع اللا مدني.

    مدني في مقابل رسمي.*

    وبهذا النحو فإن "مدني" في عبارة "المجتمع المدني" لا تحيل إلى أي معنى آخر من معاني التميز والإمتياز من قبيل مدنية بمعنى حضر أو حضارة أو حداثة أو علمانية. كما ان الكلمة "مدني" لا تحيل الى أي معنى من معاني الإلتزام الأخلاقي أو الأدبي أو الآيدولوجي. وإنما تعني فقط لا غير: غير رسمي (كل شيء أو فعل أو شخص خارج إطار منظومة الدولة). فالمجتمع المدني بهذا المعنى يكون هو محصلة حراك الناس "الهيكلي واللا هيكلي" خارج منظومة الرسمي "الدولة". وبغض النظر عن مغزى وشكل ذاك الحراك. ولا يهم ان وصف بأنه حديث أو تقليدي، تقدمي أو رجعي. كما لا يهم مكان حدوثه في الريف أو المدينة. وبغض النظر عن زمان حدوثه. فهو في كل الأحوال والأماكن والأزمان فعل "مدني": مجتمع مدني.


    2- جوهر "المجتمع المدني" في مظهره، إذ لا ذات قائمة بذاتها للمجتمع المدني .. كما ان المجتمع المدني يتمظهر هيكليآ في ذات الوقت الذي يتمظهر فيه لا هيكليآ ودائمآ بطرق منوعة ومتمايزة.

    فإن جاز تشبيه المجتمع المدني بالبحر فان موج البحر هو تمظهره. وإذا تحقق أن نرى البحر في سكونه بأعيننا ونسبح فيه بأجسادنا، فالمجتمع المدني عكس ذلك تماما فهو لا يرى ولا يحس الا حينما يتمظهر. لأن لا ذات للمجتمع المدني قائمة بذاتها. لا يوجد جوهر للمجتمع المدني. فجوهر "المجتمع المدني" هو مظهره هو "تمظهراته" ليس إلا. المجتمع المدني مجرد خط بياني متصور الغرض منه قياس الحالة، ليس إلا. ولهذا لا تتحدث الناس عن المجتمع المدني والا تطابق حديثهم مع تمظهراته أي هياكله وأحداثه. كما لا يوجد مجتمع مدني واحد يحمل نفس الصفات والمواصفات ويتمظهر بنفس النسق والمنوال. كل تمظهر مدني عنده خصائصه المتفردة وفقآ للأسباب الواقفة خلف كل تمظهر من التمظهرات. التمظهر المدني مثل بصمات الأصابع لا يتكرر مرتين في نفس الآن والمكان، فعلى سبيل المثال النقابة المحددة لا تتطابق مع نقابة أخرى في كل شيء كما الأمر نفسه يكون لدي الطائفة والعشيرة وإلخ... تلك التمايزات "متفاوتة الحجم" تجد خلفيتها في جدلية "الهدف والقيم واللائحة".

    3- تمظهرات المجتمع المدني الأفقية والرأسية:
    يتمظهر المجتمع المدني أفقيآ كما رأسيا. أفقيآ في صورة أحداث وهياكل (هيكليآ ولا هيكليآ). كما يتمظهر رأسيآ (في نسخته الهيكلية) في صورتين 1- "أصيلة" = "تحتية" و2- فوقية (مولدة عن الأصيلة). النسخة المدنية الأصلية تستند على منظومة قيم إجتماعية تنقسم الى ثلاثة أنماط: 1- جسدانية "فروسية" 2- روحانية "غيبية" و 3- عقلانية "موضوعية". بينما يستند التمظهر الفوقي "المولد" إلى منظومة آيدولوجية "رؤيوية".

    أ- أحداث "لا هياكل" المجتمع المدني:
    يتمظهر المجتمع المدني لا هيكليآ في شكل أحداث متكررة وراتبة من خلفها قيم وعندها أهداف وأعراف وسوابق راسخة في العقل الجمعي. مثال ذلك التظاهرات الجماهيرية والألعاب الشعبية ومراسم الزواج وشعائر الجنازة والفزعة والنفير و"الظار" والمبارزة و "البطان" والحكاوي الشعبية و"القعدات" بأشكالها المختلفة كجلسات القهوة "الجبنة" و الشاي والخمر ولعب الورق "الكتشينة".

    ب- منظمات "هياكل" المجتمع المدني:
    يتمظهر المجتمع المدني هيكليآ في شكل تجمعات مجتمعية طويلة الأمد، وتسمى بأسماء مختلفة غير أن أكثر إسم شائع في الوقت الراهن هو: منظمة، وتجمع منظمات. والمنظمة هنا تشمل في الأساس القبيلة والعشيرة والطائفة الدينية (التمظهرات الطبيعية والوراثية و التقليدية وهي في الأساس تمظهرات المجتمع المدني "الريفي") يقابلها في الجانب الآخر تمظهرات المجتمع المدني "المديني" كالنقابات والإتحادات والنوادي والمنظمات الحقوقية والبيئية والإبداعية والعلمية والروابط الفئوية المختلفة ومصانع القطاع الخاص. فالمجتمع المدني بمثل ما يتمظهر "لا هيكليآ" في شكل أحداث فإنه أيضآ يتمظهر "هيكليآ" في شكل منظمات عندها أعضاء مسجلون أو غير مسجلين على الورق بغرض انجاز أهداف محدده وفق نظم وقيم ولوائح محددة مكتوبة أو غير مكتوبة على الورق.

    ج- شروط تمظهرات المجتمع المدني:
    لا يستطيع المجتمع المدني أن يتمظهر هيكليآ أو لا هيكليآ "على مستوى بنياته الأصيلة" إلا في حالة تحقق ثلاثة شروط في نفس الآن ودون نقصان: 1- هدف 2- منظومة قيم و 3- لائحة .. وقد تكون تلك الشروط اللازمة موضوعة على الورق "مكتوبة" في حالة النقابة مثلآ أو مرسومة في العقل الجمعي للجماعة المحددة "غير مكتوبة" في حالة "العشيرة" أو "شعائر الجنازة" مثلآ.

    د- كل حراك جمعي هيكلي أو لا هيكلي هو مجتمع مدني وعلى وجه الإطلاق:
    كل حراك مدني هيكلي هو منظمة مجتمع مدني بغض النظر عن أهدافه وشكل عضويته ومكان وزمان وقوعه وبغض النظر عن إعتراف الرسمي به أو لا، يكون منظمة مجتمع مدني حتى لو كانت عصابة إجرامية. كما أنه بنفس القدر كل حدث جمعي غير هيكلي يقوم على أساس هدف محدد وقيم محددة وأعراف وسوابق متعارف عليها هو حدث مدني أي مجتمع مدني، مثال ذلك التظاهرات الجماهيرية والألعاب الشعبية ومراسم الزواج وشعائر الجنازة والفزعة والنفير و"الظار" والمبارزة و "البطان" والحكاوي الشعبية و"القعدات" بأشكالها المختلفة كجلسات القهوة "الجبنة" و الشاي والخمر ولعب الورق "الكتشينة".

    ه- التمظهرات المدنية الهيكلية واللا هيكلية تمثل التمظهرات الأصيلة للمجتمع المدني والتي بدورها قد تتمظهر في أشكال أخرى "فوقية" بهدف الجدل مع الدولة = تمظهر مولد عن الأصيل ( جماعات وأحزاب سياسية "رؤيوية موضوعية" أي آيدولوجية).

    و- الأحزاب السياسية لا تكون ذات فاعلية وديمومة إلا إذا جاءت كتمظهر فوقي لتمظهر مدني أصيل.

    ز- البنية المدنية الفوقية هي مكان الرؤى الشتيتة = "آيدولوجيات متصارعة" في سبيل الفوز بأكبر قد من التاُثير في عملية بناء وسيرورة رؤية موحدة للعيش المشترك، بينما تكون الدولة هي مكان الرؤية الموحدة للعيش المشترك = "عقد إجتماعي".

    4- المنظومات القيمية:

    نستطيع أن نلاحظ أن هناك ثلاث منظومات قيمية رئيسية تقف خلف مجمل تمظهرات المجتمع المدني في السودان. وتمثل سببآ جوهريآ في تنوع تمظهرات المجتمع المدني وتمايزها عن بعضها البعض، وهي:
    1- منظومة قيم الجسدانية "الفروسية" 2- منظومة قيم الروحانية "الغيب" و 3- منظومة قيم العقلانية "الموضوعية". (مع الوضع في الحسبان إختلاط وتشابك القيم).

    أ- تقف منظومة قيم الجسدانية "الفروسية" خلف جل التمظهرات المدنية الإثنية "العرقية" وأهمها القبيلة والعشيرة. و"الجسدانية" تكون في إعمال طاقة الجسد في سبيل سيطرتها على العقل والروح في مواجهة الطبيعة والآخر. والهدف هو: (بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الجماعة). وكل له حيلته. وأهم قيم "الجسدانية" هي: الرجولة والشجاعة والأمانة والكرامة والشرف والمروءة والشهامة والكرم. وهي قيم "نحن". وجسدها تمظهر هيكلي أس عضويته من الفرسان "أولى القربى = وشائج الدم".
    ورمز مكانها المادي هو "السرج" ورمز فعلها هو "السيف". وأسمى معانيها "التضحية" وأسوأ مثالبها "الإنحيازية العمياء" كما اللا "إنسانية".

    ب- تقف منظومة قيم الروحانية "الغيب" خلف جل التمظهرات المدنية الدينية "بالمعنى الواسع للكلمة" وأهمها الطريقة الصوفية والطائفة والمسيد والمسجد والكنيسة والكجورية. و"الروحانية" تكون في إعمال طاقة الروح في سبيل سيطرتها على الجسد والعقل في مواجهة الطبيعة والآخر. والهدف دائمآ واحد: (بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الجماعة). وكل له حيلته. ومن أهم قيم الروحانية: الزهد والتواضع والإيمان والإتكال على قوة ما ورائية. وهي بدورها قيم "نحن". وجسدها تمظهر هيكلي أس عضويته من المؤمنين ب"الغيب" = "عالم ما وراء الطبيعة المادية". ورمز مكانها المادي هو "السجادة" بمعناها الصوفي ورمز فعلها هو "الفزعة" بالمعنى الغيبي للكلمة. وأسمى معانيها "النزاهة" وأسوأ مثالبها "العبثية" كما "الإتكالية المفرطة".

    ج- تقف منظومة قيم العقلانية "الموضوعية" خلف جل التمظهرات المدنية "المدينية" ومثالها النقابة والمصنع. و"العقلانية" تكون في إعمال طاقة العقل في سبيل سيطرتها على الروح والجسد في مواجهة الطبيعة والآخر. والهدف دائمآ واحد: (بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الجماعة). وكل له حيلته . ومن ضمن قيم "العقلانية": الإستنارة والتجربة والإنسانية والنظافة والنظام والإدخار. وهي قيم "أنا". وجسدها تمظهر هيكلي أس عضويته من الأفندية "الوطنيين" والمثقفين والمتعلمين بالمعنى الحديث للكلمة. ورمز مكانها المادي هو "المكتب" ورمز فعلها هو "القلم". وأسمى معانيها " الموضوعية" وأسوأ مثالبها "الإستغلالية" كما "الأنانية".

    د- "القيمة" تقوم من جسد الجماعة بمثابة الشفرة الجينية DNA من جسد الفرد. هي محور إالتقاء "تلاحم" الجماعة وإعادة إنتاجها "نسخها" كل مرة مع جعلها متمايزة عن الجماعات الأخرى ك"وحدة إجتماعية واحدة ذات خصائص متفردة". كما أن "القيم" هي القوة الخفية الدافعة الى الفعل الموجب في سبيل تحقيق الهدف الكلي والنهائي للجماعة وهو على الدوام (البقاء والمعاش والأمن والرفاهية). وبهذا المعني تمثل القيمة أيضآ معيار الجماعة للتفريق بين ما هو خير وما هو شر بالإحالة الى نجاعة الفعل من عدمه في نزوعه الى تحقيق "الهدف".

    5- وظائف وأدوار البنيات المدنية الأصيلة و الفوقية:
    وظيفة البنية المدنية الأصيلة في الأساس تنحصر حول إنجاز هدف الجماعة الكلى أو الجزئي من (البقاء أو/و المعاش أو/و الأمن أو/و الرفاهية) للجماعة المدنية المحددة في مواجهة الطبيعة والآخر على وجه الإطلاق كما تشهد عليه الحياة العملية. إذ ليس من أهداف البنيات المدنية الأصيلة الجدل المباشر مع الدولة إلا في الحالات غير الطبيعية. تلك مهمة البنيات المولدة " الفوقية" لا الأصيلة "التحتية".
    مرة ثانية ليس من وظائف أو أدوار البنيات المدنية "الأصيلة" الجدل المباشر مع الدولة. كما ليس من مصلحة الدولة في شيء الجدل المباشر مع تلك البنيات المدنية الأصيلة. بل ذاك إن حدث من البنيات المدنية الأصيلة أو من الدولة سيؤدي على المستوى البعيد إلى التـأثير السالب من حيث المبدأ على وجودهما المادي على حد سواء، كون إذن منظومات القيم المثالية "المدني" ستصطدم بمبدأ المصلحة "المنفعة" المجردة = "الدولة". وهما حقلان وجبا أن يكونا متوازيان على الدوام لا يتقاطعان أبدآ وتقوم في الفضاء الفاصل بينهما البنيات الفوقية = الآيدولوجيات. وإلا هناك مشكلة دائمآ ما تتجسد في فساد الرؤية الموحدة للعيش المشترك.

    6- المجتمع المدني كمصطلح تقني:
    المجتمع المدني يجوز أن ننظر إليه كمصطلح تقني بحت (لا قيمي و لا أخلاقي) لا يتعرف بالخير ولا الشر ولا الحداثة أو التقليدية ولا التقدم أو التخلف ولا العلمانية أو الدينية. تلك الفاظ قيمة تتعرف وفق منظوماتها القيمية المحددة ولا يجب أن تحيل بحال من الأحوال الى "المدني". فالمجتمع المدني يكون بمثابة الميدان المادي للصراع القيمي والآيدولوجي لكنه هو ليس ذاته الصراع. إنه الفضاء فحسب. الفضاء الذي تحلق فيه العصافير الملونة "الجميلة" والبريئة والصقور الجارحة والبعوض والحشرات العديدة. هو الفضاء فحسب، هو ليس العصافير الجميلة البريئة ولا الصقور الجارحة. إنه الفضاء الشاسع القابع في سلبيته. فضاء للخير بقدر ما هو فضاء للشر، فضاء للباطل والحق وللقبح والجمال.


    7- جدلية الخير والشر "أ":
    يتعرف المجتمع المدني بخيره من شره القائم أو المحتمل لا ببنياته قديمة أو حديثة وإنما بحسب أفعاله الصالحة أو الطالحة من مجالات الفعل الموجب والتي يمكن رؤيتها في: 1- التنمية 2- السلام 3- الحكم الرشيد 4- الحقوق 5- الإبداع و6- المجال المفتوح (الثقافي-الإجتماعي- الترفيهي). وذلك بقياس المسافة بين الصفة الخيرة ونقيضها، من مثل: التنمية مقابل الدمار والسلام مقابل الحرب والرشد مقابل الطغيان والحق مقابل الباطل والإبداع مقابل التحجر و المفتوح مقابل المغلق.

    8- جدلية الخير والشر "ب":
    في جميع الاحوال وفي كل الأوقات فإن الفعل في سياق المجتمع المدني هيكليآ أو لا هيكليآ يقود الى منفعة محددة تجد تعبيرها في مساهمة مادية نقدية أو عينية كما بذل الجهد المجاني أو مدفوع الأجر بهدف جلب الخير او درء الاذى، في فضاء خارج الرسمي "الدولة" وفق منظومة قيمية أو رؤيوية محددة ربما يكون نتاجها شرآ في نظر الآخر.


    9- جدلية المدني و الرسمي:
    لا يكون "المدني" الا في مقابل "الرسمي" والعكس صحيح، وبإنتفاء أيآ منهما ينتفي الآخر بالضرورة، فلا مجتمع مدني بلا دولة ولا دولة بلا مجتمع مدني. فعلى سبيل المثال فإن أي منظمة تقوم خارج السودان "بحدوده كدولة" لا تمثل "مجتمع مدني" لأنها ببساطة لا تقوم في مقابل الدولة. والأصح (أي ربما يجوز) أنها تمثل مجتمع مدني فقط بالنسبة للدولة التي نشأت بها. وبالتالي فإن تسمية "منظمات مجتمع مدني" بالنسبة للمنظمات "الموصوفة بالمدنية" التي ينشأها السودانيون بالخارج لا تصح إلا كمجاز. إلا إذا حتم واقعها الموضوعي أن تكون فروعآ مرحلية لكيانات مدنية أصيلة أو فوقية تقوم بداخل البلاد وإستنادآ عليه تكون أهدافها ورؤيتها ورسالتها، وهو ما نلمسه في الواقع المعاش في حالة كثير من الأحزاب السياسية السودانية.

    10- التمظهرات الهيكلية "العملية" للمجتمع المدني:
    يتمظهر "المجتمع المدني" في السودان عمليآ ويبدو للعيان بشكل "هيكلي" في أربع أنماط رئيسية:
    1- تمظهرات عقلانية موضوعية "الشكل الحديث" ورمزها النقابة 2- تمظهرات جسدانية إثنية "القبيلة والعشيرة" 3- تمظهرات روحانية غيبية (الطرق الصوفية والمسيد والمسجد والكجور والكنائس) وأخيرآ 4- تمظهرات القطاع الخاص (بدورها عقلانية).

    11- التمظهرات الهيكلية للدولة:
    تتمظهر الدولة على وجه العموم "هيكليآ" في ستة أشكال رئيسية هي: 1-الجهاز التنفيذي (الحكومة) 2-الجهاز التشريعي "البرلمان" 3-الجهاز القضائي 4-المؤسسة العسكرية (الجيش والبوليس وأجهزة الأمن) 5-الخدمية المدنية و6- القطاع العام. (كما أن الدولة بدورها تستطيع أن تتمظهر في أشكال غير هيكلية من قبيل مرموزات قيمية ومفاهيم آيدولوجية وهنا يكمن معزي تأثير الدولة على أحداث وهياكل "المجتمع المدني" سلبآ وإيجابا. وهنا تكون جدلية "المجتمع المدني والدولة" في أسطع صورها).

    12- صراع الريف والمدينة و نزاع الذات:
    من خلال الملاحظة نستطيع ان نتحسس أن المجتمع المدني في السودان ينقسم في مستوى بنيته الأصيلة على وجه الإجمال في كتلتين هما كتلة الريف وكتلة المدينة. هذان الكتلتان تتوازيان مرة وتتقاطعان في بعض المرات، تختصمان في لحظة ما وتتصالاحان في لحظة اخرى، في نفس الوقت الذي يعتمل في داخل كل منهما مجموعة من التناقضات الذاتية بفعل اختلاف واختلال منظومة القيم الواقفة وراء تمظهرهما ( أي ان كل كتلة في ذاتها تتراكب من جزيئات تتشابه حينآ و تتمايز تراكيبها بعضا عن بعض أحيانآ أخرى). هذان المجتمعان يتمثلان بشكل مجمل في المجتمع المدني "المديني" والمجتمع المدني " الريفي". ولكل منهما تمظهراته المختلفة إختلافآ جذريآ عن الآخر كون تلك التمظهرات المعنية تقوم على سند من منظومات قيمية متمايزة "جذريآ". وهذا التمايز والإختلاف لدى البنية المدنية التحتية يسقط على التجلى الفوقي "الآيدولوجي" لكل منهما (مثال لذلك الصراع السياسي الذي وسم تاريخ السودان الحديث بين الطائفيين والأفندية). كما أن في الجانب الآخر كل كتلة من الكتلتين الأصيلتين موسومة بإختلال قيمي "ذاتي" يجعلها في نوعها متمايزة في تراكيبها وهذا التمايز في إطار النوع الواحد يسقط بدوره على البنية الفوقية (مثال لذلك الصراع السياسي بين العلمانيين والغيبيين "يسار يمين" على مدى تاريخ سودان ما بعد الإستقلال).

    13- فرضية أخيرة: المجتمع المدني هو الاصل كما هو سديم الدولة:

    الأصل في الإجتماع البشري هو "المجتمع المدني" ببنياته الأصيلة ثم تأتي البنى الفوقية ومن ثمة تتشكل الدولة. فالمجتمع المدني هو بذرة الدولة. الدولة بكل بساطة هي: نقطة تلاقي المصالح/تعارضها. أي نقطة تلاقي/تعارض مصالح البنيات المدنية الأصيلة في حيز زماني وجغرافي محدد وما يقتضي ذلك بالضرورة من نظام لا مفر منه يسمى في شموله: الدولة. وإذ يقوم المجتمع المدني على "القيمي" في تمظهره الأصيل وعلى "الآيدولوجي" في تمظهره الفوقي تقوم الدولة على نظام "المنفعة = المصلحة" مجردة بلا قيم ولا آيدولوجيا في نسختها المثالية. وإلا ستتعارض الدولة وتتصادم بإستمرار مع كثير من البنيات الإجتماعية الأصيلة مما يؤدي في نهاية المطاف (في الغالب الأعم) إلى واحد من إحتمالين: موت "فناء" الدولة بشكل نهائي وبالتالي موت المجتمع المدني "موت القيم السائدة" أو إعادة تشكل الدولة في صيغة جديدة وبالتالي تمظهر المجتمع المدني في لباس جديد "قيم جديدة".

    محمد جمال الدين حامد، لاهاي/هولندا 28 نوفمبر 2009

    يتواصل... 4-5


    * كلمتي "مدني – رسمي" وردتا بتكرار كبير في المقطع الأول من تعريفي للمجتمع المدني والدولة. هذا التكرار مقصود به تأصيل المعني وتثبيته، كون تلك من النقاط الأكثر جوهرية "وجدلآ" في محاولتي تعريف المجتمع المدني السوداني في مقابل الدولة.

    (عدل بواسطة محمد جمال الدين on 03-28-2011, 07:04 PM)

                  

03-27-2011, 11:20 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)! (Re: محمد جمال الدين)

    .
                  

03-28-2011, 01:38 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)! (Re: محمد جمال الدين)

    لمزيد من الاطلاع...
                  

03-28-2011, 02:36 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)! (Re: محمد جمال الدين)

    أدناه مقالة فادي العبد الله المعنية ... منشورة أيضآ بهذا المنبر في بوست مطر قادم الذي يجيء بنفس عنوان الورقة...



    الشعب يريد... فمَن هو الشعب؟ -

    بقلم فادي العبد الله

    "الشعب يريد إسقاط النظام". تحوّل هذا الشعار لازمة أساسية في حركة الثائرين العرب في بلدانهم المختلفة، انطلاقاً من التجربتين التونسية والمصرية. وما لبث أن تحوّل أيضاً لازمة في النكات الجديدة والحملات، من طراز "الرجل يريد إسقاط المدام" أو غيرها. كأن الإرادة هي بالضبط المفهوم الناقص أو الكلمة الغائبة عن تفكير الشعوب العربية، فبات استخدامها في النكات أيضاً دليلاً على محوريتها ومحورية البنية اللغوية التي سمحت بإعادة استدخال هذه المفردة في جملة من مبتدأ وخبر، حيث الخبر أيضاً جملة فعلية تحيي فعل الإرادة. لكن، خلف جدة الإرادة، يطرح الشعار أسئلة فوق ما يرد عليه. "الشعب"، من هو، وفي أي مكان اجتمع، ومتى اختار ممثليه في الساحة أو الميدان؟ أي كيف تمظهرت له إرادة؟ ولئن شاء اسقاط النظام، لا الحاكم فحسب، فلا شك أن هذا "الشعب" كان ذا مفهوم ما عن "النظام"، فأي مفهوم هو هذا؟ ثم كيف كان لهذا الشعب أن يحوّل إرادته فعلاً؟ هذه الأسئلة يتجاهلها غالباً المعلّقون السياسيون المنشغلون بتبعات الحدث على التوازنات والتحالفات الدولية، أكثر مما هم منشغلون بأولئك الناس الذين خرجوا من بيوتهم غير آمنين والذين يتم اختزالهم، سلباً أم ايجاباً، إلى توصيفات اجتماعية اقتصادية، كأن ما حدث كان قدراً مقدّراً لا مفاجأة فيه ولا حرية!

    في الثامن عشر من شباط الفائت، نشر الفيلسوف الفرنسي ألان باديو، في صحيفة "لوموند" مقالة بعنوان "تونس، مصر: حين تكنس ريح الشرق غرور الغرب"، حاول فيها إجابةً عن عدد من هذه الأسئلة، وبالذات عن سؤال "الشعب" ووجوده. بالطبع، لا يزال تطرّف باديو اليساري حاضراً في ثنايا النص، وبالتحديد في استشرافه حلماً بالخلاص من الدولة واستهجانه كل قول يدعو إلى ضرورتها. لكن باديو يشدد على دعوة المثقفين الغربيين إلى التتلمذ على شعبي تونس ومصر، بدل محاولة تلقينهما ألفباء الديموقراطية الغربية، المزمنة المرض منذ ثلاثين عاماً بحسبه. ذلك أن هذين الشعبين إنما يقدمان دليلاً عملياً على إمكان تفعيل المبادئ السياسية، والعمل في سياسة المدينة بما هي شأن عام لا يُختزل في "إدارة" الأعمال الجارية، والثورة بدل المطالبة، والقطيعة بدل "الانتقال المنظّم" (من ينظّمه؟). من يثور؟ الشعب بالطبع. والشعب هذا حين يثور إنما يعيش "حدثاً"، أي تفجّراً لاحتمالات الممكن، وإنشاءً لزمن جديد. الثورة حدث، بمعنى أنها نهاية زمن وبداية آخر، وبمعنى أنها لا تنسج على منوال سابق ولا تشير إلى احتمال معلوم سلفاً، بل هي تحديداً تفتح أفقاً جديداً لا يحمل إلا المفاجآت. كما يقول باديو: "لا ينشئ الحدث حقيقة جديدة، بل ثرياً من الممكنات الجديدة".

    في خضم الثورة، يوجد الشعب. قد يجوز القول، متابعة لباديو، إن الشعب يتألف ممّن يثورون. يوجد بعد أن لم يكن. فباديو يعرّف الشعب بأنه ذاك الذي، إبان الحدث، يردّ على التحديات التي يطرحها هذا الأخير، وذلك من دون لجوء إلى الدولة. وإلا كيف يمكن أن نفسّر أن بضعة آلاف، أو بضعة عشرات من الآلاف، في ميدان التحرير، يصيرون "الشعب"، من دون تفويض الملايين أو اقتراعهم؟ تعريف الشعب إذاً، هو ذاك الذي يردّ على تحديات الحدث، التي تبدو من الخارج مستعصية (الفتنة الدينية، العلاقات بين الجنسين في الميدان، تأمين الغذاء والدواء والحراسة ...الخ في الميدان نفسه وفي ظل القمع والترهيب). لأجل ذلك، على هؤلاء الذين ينشئون الشعب ويكونونه، أن يكونوا في الوقت عينه الإنسانية جمعاء، فئات المجتمع كلها بقدرتها على التضامن والخلق. إضافة إلى العزم والشجاعة، فإن هذه القدرة الخلاّقة هي الدليل، بحسب باديو، على ان شعباً يوجد ها هنا.

    قد نضيف إن هذه القدرة على الخلق، كما على المرح، هي بالضبط ما شهدناه في تونس ومصر، وهي أيضاً، في تقديري، الفارق بين الحشد والشعب. فالحشد، غاضباً أو حزيناً أو منتفضاً، ليس خلاقاً، بل هو ما يعيد انتاج مثالات سابقة، وهو لا يجيب عن مشكلات حدثه بل يتكل على جهاز خارجي، سواء من الدولة أو من تنظيم حزبي. الحشد يعلن نفسه مسبقاً، ويمكن تقدير مساره والتفاوض مع قادته المعلنين، أما الشعب فهو ما لا يكشف عن نفسه، بل يتكشف لنفسه، منشئاً في الآن عينه قياداته ومسيره ومشكلاته وحلوله. على ما رأى بعض المدوّنين المصريين في إبان ثورتهم المستمرة، فإن الثورة هي استيلاء الخيال على الواقع، والتشبث لحظةً فلحظة بمزيد من الخيال وبمزيد من احتمالات الممكن. هي أيضاً ثَمَلٌ. على هذا القياس، كم مرة كان اللبنانيون شعباً؟

    ولئن كان الحشد ممثلاً لجهة معلومة، فإن منشئي الشعب لا يمثّلونه بل يكونونه. وفي كونهم كذلك، هم الإنسانية كلها، أي هم يصنعون مجالاً يكون فيه لكل فرد رأي متساوٍ في الحق في الاحترام والتعبير (هل كان دانتون أو روبسبيير أو مارات أو وائل غنيم أو حتى لينين معروفين قبل ثورتهم نفسها؟). لهذا على الأرجح، كانت الثورات ذات قيمة عالمية فوراً، من حيث كونها تأكيداً لقدرة البشر على صنع مثل هذين التضامن الخلاّق والاحترام المتبادل (وعلى رفض الدولة، يضيف باديو). لهذا كانت تنتشر، لا بالعدوى على ما قد يحسب البعض، بل، كما ينقل باديو عن جان ماري غليز، بالتردد المشترك (résonnance) على ما قد يقال في وترين يهتزّان معاً لنقر واحدهما.

    الشعب يريد الدولة

    غير أن حماسة باديو، ككل حماسة، قد تكون مصمّة معمية. فباديو عينه يلاحظ أهمية المكان الرمزي الذي يتعرف فيه الشعب نفسه ويتكشف فيه لنفسه، ولذا كان من الضروري الدفاع عن ميدان التحرير، ولو بعشرات الشهداء، بدل التبعثر في تكتيك الشوارع غير المنتظرة. وهو يلاحظ إذذاك نشوء الشعب لوقت غير محدد، منهمكاً في مجابهة تحديات الحدث. بيد أن غير المحدد ليس غير متناهٍ في طبيعة الحال، ولا يسع الشعب أن يظل في الميدان أو في الساحة أبداً. من السذاجة حسبان أن قدرة الشعب على تخطي تحديات الحدث وتجاوز التناقضات التي كان النظام يستديمها، قد تعني قدرته على الاستمرار أبداً في الحال المباشرة للقضايا من دون تفويض ومن دون تأسيس لأجهزة مختصة ومستقلة، أي من دون إقامة دولة.

    والحق إن باديو يراكم ها هنا الأخطاء، بدءاً بتناقض فلسفي شهير لدى دولوز يقول إن الحدث لا يحدث، أي أنه بلا زمن يحدث فيه، فهو ما ينشئ الزمن الجديد، واقعاً بالتالي ما بين زمنين، لا في أحدهما، ومن الخطل الظن بإمكان أن يقيم الشعب في الحدث دوماً، ما دام هدف الحدث الذي لا يحدث إنما هو إنشاء زمن آخر، مفعم بالممكنات لا شك، إلا أنه يبدأ بتحقيقها شيئاً فشيئاً. الخطأ الآخر في النظر بالضبط إلى مطالب الشعب. صحيح ربما إن المصريين ركّزوا على الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، لا على الديموقراطية التمثيلية التي ينتقدها باديو، أي أنهم ركّزوا على الفحوى لا على الشكل، إلا أن أحداً منهم لم يرفع شعاراً بإسقاط الدولة، بل بإسقاط النظام. التمييز هنا ليس سياسياً فحسب، بل تأسيسي، بخاصة في بلد توظف الدولة فيه ملايين الأشخاص. لم يعد لمجتمع حديث ألا يطالب بإقامة دولة. تجاوز الدولة في ظل قيام دول مجاورة فاعلة وعدوانية، إنما هو انتحار شعبي، فضلاً عن كونه نكوصاً عن أقصى ما بلغته هذه المجتمعات حتى هذه الساعة، في مجال الفاعلية والتضامن الشامل، وذلك مستمر إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً أو يصبح مفهوم الاتحاد، سواء على النمط الأوروبي أو الأميركي قبله أو أنماط أخرى قد تلي، سبيلاً إلى تجاوز الدولة بمفهومها الحالي، إلى ما يتخطاه لا إلى ما يتراجع عنه!

    إلى ذلك الحين، تبدّى أن النظام الحاكم هو الذي حاول اسقاط الدولة، وربما في بعض الدول هو نجح إلى الآن في فعل ذلك، مستبدلاً إياها بميليشيات خاصة أو عامة و/ أو بتشابكات قبلية، عشائرية، مناطقية، تتماسك قبتها ببناء مافيوي نفعي. أما الشعب في تونس ومصر فكان يثور لإحداث تغيير في دولته، لا لإلغائها. أي أن هدف الثورات على الأرجح أن يتسنى للناس أن يصيروا مواطنين، أفراداً وأحراراً. ليس من قبيل العبث أن أحد أول بيانات المجلس العسكري الأعلى في مصر كان لتأكيد أن كرامة الوطن لا تعني إلا جماع كرامة أفراده فرداً فرداً، وهو فهم للكرامة كان "الملحق" منذ سنوات يحتضن مطالبات مشابهة به، ردّاً على اساءة استغلال مفهوم الكرامة في السياسة.
    لذا أيضاً، لم يكن من قبيل العبث، في مصر مثلاً، أن تحريك جمر الفتنة، التي لم يتخلص المجتمع منها، كان رد فعل مباشراً على ابتكار المصريين لمسيرة جديدة في تاريخهم بعد حدثين ضخمين (اسقاط الرئيس، واسقاط ملفات جهاز أمن الدولة). فالفتنة، تعريفاً، تقع بين جماعات، أي أنها تعيد إدراج من يسعون إلى المواطنة في شبكات الجماعة أو الطائفة. وبدل أن تكون الدولة الأفق الذي يضمن المواطنة تصير اللاعب بالفتنة ضبطاً وإشعالا!

    لذا كان باديو مخطئاً أيضاً حين سخر من أن يراد لهذه الثورات أن تطرح على الناس الخيار بين محمد البرادعي وعمر سليمان، مثلما هي الخيارات في الحياة السياسية الفرنسية الفقيرة في نظره. فأن يكون للأفراد ترف الخيار بين فلان وعلان، بدل القائد الضروري والمعلم الملهم والرفيق الباقي إلى حين الانتقال إلى رفيق أعلى بل وأبعد، إنما هو حلم جدير بالثورة لأجله. فحين يكون هذا الخيار متاحاً، يصير دليل ترف لأن المجتمعات لم تعد تطرح أسئلتها في صورة البحث عن "قيادات تاريخية" بل في صورة من يندرج في تقاطع المصادفة (لا الضرورة) والمحاسبة. بذلك تكون باتت تتحدث إلى الزمن الحاضر، لا إلى التاريخ، أزله أو أبده، وباتت تتمسك بإرادتها وتبحث عن سبل لتثبيت فاعلية هذه الإرادة بمعزل عن الثورة المستمرة: أي من خلال الدساتير والقوانين. هذا التثبيت، في المجال الرمزي الناظم للمجتمع، ضروري، وهو الجواب الوحيد، إلى الآن، عن الرغبة في الحفاظ على مكتسبات لحظة الثورة المسكرة.

    أيّ نظام لأيّ سقوط؟

    يشير باديو إلى أن النصر الأول للشعب إنما هو في قول الجمع الجامع لتناقضاته والمتجاوز لها: "أنت، هناك، ارحل". وهذا نصر محتوم يؤول لا محالة إلى فرار ذاك الشخص المشار إليه. هل هذا الفرار كافٍ لإسقاط النظام؟ مبكراً عرف التونسيون والمصريون أن رحيل الحاكم شرط ضروري، غير أنه ليس بكافٍ. ضروري لأن الحاكم نقطة تقاطع لشبكات سلطة كثيرة ورمزها، فما إن يختفي حتى تبدأ الشبكات بالتهاوي كقبّة فقدت واسطة عقدها، وتنهار سلطتها الرمزية فتسعى إلى الفرار أو إلى الانقلاب بعضها على بعض. غير أنه غير كافٍ لأن النظام لا يقوم فقط على شخص، ولا على الشبكات المرتبطة به، بل هو نظام حياة وسلطة عليها ولغة لتعقلها ومخيلة لفعل السياسة فيها. أيضاً، ليس عبثاً أن يقوم شبّان 25 يناير وشاباته بتنظيف ميدان التحرير بأنفسهم، بعد الثورة، أو أن يصير القول برفض الرشوة أو التحايل على القانون صنواً للقول بالثورة والفخر بها! إسقاط النظام يعني إسقاط ثقافة كاملة، لا شبكات فساد فحسب، أوصلت الأشخاص إلى درك اللا خبز واللا حرية واللا عدالة اجتماعية، بل محض خوف وطمع وانهيار نفسي واخلاقي (الكذب، الرشوة، التحرش، التزلف ...الخ). لذا أيضاً كان حرص الشعبين على استمرار الثورة، سواء تفجر ذلك في مسائل كبرى كرئاسة الوزراء أو في سلسلة الاعتصامات الصغرى في المصانع والمؤسسات، بل المدارس الابتدائية!
    ذلك أن السلطة، على ما أوضح فوكو (إرادة المعرفة مثلاً)، تحلّ في كل علاقات القوة وتشكّل نظاماً لا مركز مستقراً له، بل قاعدته التي يرتكز عليها هي الناس أنفسهم الذين تضغط عليهم علاقات القوة هذه كما تندفع الكرة نحو الأرض كي ترتفع عالياً بعد ذاك. في مثل هذا النظام، ينبغي تحرير قمة الهرم كي تعاود علاقات القوة تبدّل تشكيلها وتبحث عن توازن موقت جديد، على ما تشهد سلسلة الاعتصامات الصغرى في مصر مثلاً.

    في وجه سلطة لا مركز لها (فحتى الرئيس هو موضع تقاطع علاقات القوة ليس إلا)، لا تكفي الثورة ضد فرد، وإن كان هذا الفرد، للمفارقة، يلعب دور الموحد للشعب ضده. على الثورة أن تكون، وقبل أن تكشف عن اسمها، انقلاباً في علاقات القوة داخل المجتمع نفسه. نجاح الثورة يأتي، كما أثبتت ثورتا تونس ومصر، من تراكم التغييرات في علاقات القوة (التحصل شيئاً فشيئاً على المزيد من حرية الإعلام وحرية التواصل عبر الانترنت، فضلاً عن تراكم خبرات المجموعات المختلفة التي قاومت النظام موضعياً كالقضاة والمدوّنين وفلول الأحزاب الصغيرة أو المتقهقرة، ومداومي الاعتصامات المهنية أو السياسية... الخ). هذه التغييرات ليست آلية بالطبع، فلا تنضج الثورة كما ينضج الربيع الثمر، بل هي حصيلة "تدخل البشر الذي يشكل قيم الأشياء ومعانيها" (امبرتو ايكو، "حرب الزائف")، وحصيلة الجزء من الحرية الذي لا يمكن فصل الإنسان عنه، حريته في أن يفاجئ نفسه والآخرين. حيث إن علاقات القوة مبثوثة في المجتمع، فإن تراكم التغييرات فيها يعني في الضرورة أن تكون التغييرات أيضاً مبثوثة في نقاط مقاومة في المجتمع، وإلا كنا أمام انقلاب عسكري، لا أمام ثورة شعبية. أي أن الثورة تأتي حين تتضافر جهود موضعية وتتشابك من دون "تشميل"، أي من دون تأطيرها في حزب أو شخص يحولها مشروعاً شاملاً ومباشراً، مثلما حذّر دولوز من قبل في حواره المشهور مع فوكو.
    تشبيك من دون تشميل، انبثاث المقاومة في ثنايا المجتمع، تضافر خبرات الصمود وتراكم التغييرات في علاقات القوة، ذلك كله في كل مرة فريد وغير مسبوق. كي يثمر ذلك كله في النهاية، عليه، بحسب ايكو أيضاً، أن يحصل في المجال الرمزي، لا المجال المادي فحسب. اقتحام الباستيل، إسقاط بن علي، معركة الميدان... الخ، أعمال ذات مشهدية عالية تكون، بحسب تحليل إيكو، الضربة الرمزية التي تكشف انهيار المنظومة الرمزية السابقة، بخاصة علاقتها بالقمع والخوف، وذلك بعد ان يكون هذا الانهيار قد حصل بالفعل: الضربة الرمزية حركة مسرحية، حتى وإن كانت مفاجئة للجميع بمن فيهم من يقوم بها.

    لئن كان خطاب السلطة، بحسب فوكو، الخطاب الذي يولّد خطأ متلقيه وتذنيبه، فإن فضح هذا الخطاب ورفض الشعور بالذنب (من رفض الأب أو كبير العائلة مثلاً) شرط للتحرر منه. فالمجال الرمزي الذي يتم الصراع بامتياز على أرضه هو في طبيعة الحال اللغة. لذا تميزت الثورات بابتكار لغتها وشعاراتها (dégage، ارحل، الشعب يريد اسقاط النظام ...الخ) التي لا تشبه في شيء الشعارات المعتمدة سابقاً. الثورة هي أيضاً حركة مسرحية في داخل اللغة، تحرير امكان استخدام اللغة لنقد الرئاسة أو لكشف الفساد ومنحها القدرة على إعادة شحن الكلمات بالمعاني (عدالة اجتماعية) أو إضفاء معنى جديد عليها (الكرامة كما ذكرنا عن فهم المجلس العسكري الأعلى لها). لذا يسعنا أن نستبشر بأن ثورتي مصر وتونس ستعيدان صوغ الخطاب العربي السائد، والمستهلك منذ نحو نصف قرن، وتنشئان معجماً جديداً بدل مفردات الاعتدال والممانعة والجهاد والفتنة الممجوجة، وتمنحان معاني جديدة لكلمات مثل "العروبة" و"العمل العربي المشترك" و"الوطن"، مثلما بدأتا بتغيير معاني الكرامة والشعب والإرادة.

    ما العمل حتى ذلك الحين في بلاد لم تشهد بعد تراكماً كافياً في نقاط مقاومة موضعية مختلفة كي تتضافر من دون تشميل فتنجز انقلاب علاقات القوة قبل أن تندفع إلى الشارع أو الساحة او الميدان منشئة شعبها الذي هو الإنسانية جمعاء والفئات كلها؟ ربما يظل لنا الأدب كعملية خلاّقة ومبدعة، يسع العلماء والمهندسين والفنانين إلى الكتّاب ابتكارها، عملية تلعب بالكلمات ومعها، على ما يقول بارت في درسه الأول في الكوليج دو فرانس. ذلك أن الأدب أو الكتابة، بهذا المعنى، عملية تخلخل سلطة اللغة السائدة، كما أنها تخلق الكلمات التي سيجتمع حولها، غداً، الخطاب الجديد، أي الكلمات التي ستشكل تكريس الزمن الجديد وتثبيت مكتسبات الثورة في المجال الرمزي الناظم للمجتمع، أي الدستور والقوانين، وأيضاً اللغة الإعلامية والثقافية العامة. يظل لنا الأدب أولاً في وصفه عملية فرح ونداء للشعب الذي سيأتي ¶

    نقلا عن صحيفة النهار اللبنانية الجمعة 18 آذار 2011 - السنة 78 - العدد 24336
                  

03-29-2011, 01:42 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)! (Re: محمد جمال الدين)

    Related post of mine
    مقترحات عملية في طريق الثورة الشعبية والتغيير الشامل!

    Quote: نحن نريد التغيير الشامل "ثورة"

    للتغيير عدة أوجه وعدة سقوف ولكل متطلباته وشروطه

    فعلى سبيل المثال:
    1- تغيير الحكومة أي تغيير الجهاز التنفيذي بجهاز تنفيذي جديد أو آخر وهذا ما تلمح له الحكومة الحالية حيث تقول قيادات في المؤتمر الوطني بالحكومة الموسعة فيما بعد التنفيذ الفعلى لإنفصال الجنوب ويقول عمر البشير أنه لن يرشح نفسه لدورة قادمة أي سيتقاعد لغيره غير أن الإنقاذ باقية. ذاك هو التغيير الشكلي وهو مثل تغيير الثعبان جلده.

    2- تغيير النظام (الشعب يريد إسقاط النظام)، أحد شعارات الثورتين التونسية والمصرية و تغيير النظام في معظم المرات يعني تغيير الحكومة (الجهاز التنفيذي) والجهاز التشريعي (البرلمان) ... وهو تغيير محدود. وهو ما حدث في أبريل 85 وإكتوبر 64 وأدى إلى النكوص عن إرادة ومطالب الجماهير والإنقلاب عليها في الحاليين. إذ لم يحدث تغيير جذري أو حتى إصلاح جدي في بنية الدولة.


    كيف؟.
    الدولة في العادة تتمظهر في ستة أشكال رئيسية هي: 1-الجهاز التنفيذي (الحكومة) 2-الجهاز التشريعي "البرلمان" 3-الجهاز القضائي 4-المؤسسة العسكرية (الجيش والبوليس وأجهزة الأمن) 5-الخدمية المدنية و6- القطاع العام. كما أن الدولة بدورها تستطيع أن تتمظهر في أشكال غير هيكلية من قبيل مرموزات قيمية ومفاهيم آيدولوجية. والإنقاذ دولة وليست جهاز تنفيذي وبرلمان. فكل الهياكل المؤسسية للدولة إنقاذ.

    فالجهاز التنفيذي "الحكومي" المسيطر في المركز وفي الأقاليم جاء من عناصر الجبهة وهو نفسه الشيء الذي حدث بالنسبة للأجهزة الأخرى التشريعية والقضائية والعسكرية والخدمة المدنية كما تم خصخصة privatization القطاع العام رويدآ رويدآ حتى إنتهى بدوره إلى عناصر الجبهة التي أصبحت تسمي نفسها مؤتمر وطني بعد إنقلاب الإنقاذ. أنظر على السبيل المثال ماذا حدث لدى المؤسسة العسكرية "الجيش" بلسان رئيس هيئة أركان الجيش في بداية الإنقاذ الفريق أول اسحق إبراهيم عمر إذ يقول "بتصرف" : (فوجئنا بإبعاد معظم الضباط غير الاسلاميين، وكما ذكرت لكم سابقا كان وضع رئيس هيئة الاركان البروتوكولي بعد رئيس القضاء مباشرة، اما الآن فهو بعد آخر وزير مركزي!! حتى في الحقوق.. فأنا مثلا بحكم منصبي كرئيس لهيئة الاركان احمل جواز سفر دبلوماسي، وعندما اريد تجديده اجد صعوبة لدرجة انني خاطبت بكري محمد صالح بأن وزارة الخارجية لا تحترم قرار منحي جواز سفر دبلوماسيا "لكوني غير جبهجي".
    ,أخيرآ تم إحالة معظم الضباط القوميين للمعاش. وفي النهاية ارتكزت (الانقاذ) كليا على قوات الدفاع الشعبي لانها تمثل الارضية الايدولوجية لفكر الانقاذ) "إنتهى كلام الفريق".
    وهو الشيء نفسه الذي حدث بالنسبة لأجهزة الأمن والبوليس. وما حدث في المؤسسة العسكرية انطبق بحذافيره على جميع مؤسسات الدولة الأخرى.

    كما إن حالة تمكين الجبهة من مؤسسات الدولة لم تقف عند حد الإحلال والإبدال للكوادر وإنما شملت أيضآ تغيير جذري في طبيعة وأدوار ووظائف وهياكل تلك المؤسسات وتم ايضآ تقسيم إداري جديد لأقاليم البلاد لتكون 26 ولاية بدلآ من 9 أقاليم في الماضي. وكل ذلك خطط له في المقام الأول ليخدم الخط الإستراتيجي للجبهة التي أصبحت دولة تسمى الإنقاذ يسندها حزب الجبهة الإسلامية " القديم" في جلباب جديد هو "المؤتمر الوطني".
    ويبدو أن إعادة صياغة الدولة كان أمرآ سهلآ بالنسبة للإنقاذ ومرت مراحل هيكلة الدولة في غاية السلاسة. غير أن هناك أشياء ظلت أكثر تعقيدآ تمثلت في صعوبة إعادة صياغة المجتمع المدني والفرد وهي عملية كانت في غاية الأهمية لتمكين الإنقاذ، ومثلت المحك الحقيقي لها، لعلم الإنقاذ المسبق بأن على أساس نجاح أو فشل تلك العملية المعقدة في بلد مثل السودان يكون بقاءها بسلاسة أو عناءها أو فناءها. وخلاصة القول فالإنقاذ دولة هي الدولة السودانية في الوقت الراهن: دولة فاشية نازية طالبانية فاسدة.

    3- التغيير الشامل (ثورة) هو الذي نعنيه... هو الحل الوحيد والنهائي للأزمة السودانية. أي إسقاط الإنقاذ كدولة بكل هياكلها وإنهاء عهدها المظلم مرة واحدة وإلى الأبد وهوعندي أمرآ حتميآ والتاريخ مليء بالشواهد.

    وإن كان هناك كوادر وطنية داخل مؤسسات الدولة الإنقاذية (وهو أمر محتمل) فإن مثل هذه الكوادر ستنحاز للجماهير في الوقت المناسب كما تخبرنا التجارب وسيكون لها دور موجب في التغيير الشامل الحتمي "الثورة".

    يتواصل...

    محمد جمال

    Quote:

    Quote: قلت "أعلاه":
    ( ويبدو أن إعادة صياغة الدولة كان أمرآ سهلآ بالنسبة للإنقاذ ومرت مراحل هيكلة الدولة في غاية السلاسة. غير أن هناك أشياء ظلت أكثر تعقيدآ تمثلت في صعوبة إعادة صياغة المجتمع المدني والفرد وهي عملية كانت في غاية الأهمية لتمكين الإنقاذ، ومثلت المحك الحقيقي لها، لعلم الإنقاذ المسبق بأن على أساس نجاح أو فشل تلك العملية المعقدة في بلد مثل السودان يكون بقاءها بسلاسة أو عناءها أو فناءها).

    عندما فشلت الإنقاذ في صياغة "هزيمة" المجتمع المدني (اللهو نحن واللهو الناس كل الناس) وكسره معنويآ بحسب المشروع الحضاري البائس البائد ... أي عندما استعصى علي الإنقاذ تحويل الناس إلى حيوانات داجنة عمدت إلى تصفيتهم ماديآ "قتلهم" وبطريقة تكاد تكون روتينية عبر التصفية الجسدية المباشرة أو التجويع أو إنعدام الأدوية الحيوية أو إذهاب العقل أو الإزاحة (التشريد) إلخ كما نشهده كل يوم في أركان السودان الأربعة وعبر وسائل عديدة وخبيثة مبتكرة..

    فهل تنجح الإنقاذ في إفناء الجماهير ماديآ كما يفعل معمر القذافي "اليومين دي" وهو بقومه رحيم مقارنة بالإنقاذ؟. الإجابة طبعآ: لا... في حالة واحدة فقط : إذا أراد الشعب الحياة!.

    نحن نريد الحياة
    محمد جمال
                      

03-29-2011, 02:53 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)! (Re: محمد جمال الدين)

    رأيت أن أجيء إلى هنا بعدة مقالات لي سبق أن نشرت في سودانايل ثم سودانفورأول وسودانيزأونلاين لما لها علاقة مباشرة بالأطروحة التي أناقشها هنا "التغيير الإجتماعي" وسأبدأ بالسلسلة الصغيرة المتحدثة عن الهوية في السودان والتي جئت بأحد حلقاتها أعلاه وسأعيد نشرها كاملة يالتتابع، آملآ في أن تكون إضافة للنقاش الدائر حول قضية التغيير الإجتماعي وعلى وجه العموم.
                  

03-29-2011, 03:02 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)! (Re: محمد جمال الدين)

    في سبيل الإجابة على سؤال "الهوية (1-5)

    نحو هزيمة المسلمات البائسة!


    في المعتاد، عند أي حديث عن "الهوية" The Identity بمعناها السوسيولوجي هناك أربعة عوامل أو محددات رئيسية تأتي على الدوام في المقدمة وهي "العرق والدين والثقافة والتاريخ". لا أعتقد أن أحدهم يستطيع أن يتحدث عن "الهوية" دون يأتي بهذه المحددات. وهو أمر بالطبع عادي ومنطقي غير أنه كثيرآ ما ينطوي على إشكاليات جوهرية ترقى إلى مستوى الضلال والتضليل!. والسبب بسيط يكمن في أن تلك العوامل في جوهريتها تبقى على الدوام بنت زمانها ومكانها "الزمكان". وأي خلع لها من زمكانها ربما قاد إلى سوء فهم ما وتشويش كبير، يكون في كثير من الأحيان مزمنchronic . وتلك عندي هي المعضلة التي تجعل من الحديث عن "الهوية" أمرآ في غاية الحساسية والتعقيد. مسألة "الزمكان": تلك هي أس الحكاية!.

    هل أقول بشكل مباغت أن "العرق والدين والثقافة والتاريخ" أشياء لا قيمة لها أمام السؤال الرئيس وهو سؤال "العيش المشترك"؟. سأفعل!. وسؤال العيش المشترك المعني هو ذاته سؤال "الزمكان"!. وعبارة "العيش المشترك" فيما أريده لها هنا من سياق تكون شبه ترجمة حرفية للكلمة الهولندية Samenleving وتعني مجموعة من الناس الذين يعيشون في إطار نسق شبه مغلق بما يحتويه من كائنات أخرى حية وأشياء. هو شبكة من العلائق بين الناس في لحظة زمانية ومكانية معينة. وبحسب الوقائع المحددة يستطيع أن يتكون هذا النسق شبه المغلق من شخصين كحد أدني إلى عائلة مفردة إلى عائلة ممتدة فعشيرة فقبيلة وربما كان نقابة عمالية أو نادي رياضي أو طائفة دينية أو حزب سياسي. غير أن العيش المشترك عادة لا يقف عند هذا الحد بل يستطيع أن يتوسع بشكل مستمر ليكون مدينة فولاية ثم دولة بأكملها دون أن تفقد بقية المكونات الإبتدايئة خصوصيتها. وتؤشر عبارة "العيش المشترك" إلى أن الناس يستطيعون العيش في شبه نسق مغلق عبر الإتفاق فيما بينهم على مباديء محددة للتعامل السلمي فيما بينهم دون أن يعني بالضرورة أنهم يشبهون بعضهم البعض في كل شيء. وربما عني أنهم مختلفون ومتمايزون غاية الإختلاف والتمايز. لديهم على سبيل المثال خلفيات عرقية ودينية وثقافية وتاريخية وربما ظروف معائشية "إقتصادية" متباينة ومتمايزة (هويات مختلفة) لكنهم إمتلكوا الوسائل العملية الناجعة للعيش السلمي في "زمكان" واحد وفق نسق ما وذاك هو "العيش المشترك" Samenleving.

    سأقول كلامآ ربما يبقى غريبآ عند البعض ويكون لأول وهلة لا قيمه له عند آخرين وفوق ذلك ربما أربك أو أغضب ثلة من الناس الذين أصبحوا على قناعة دوقمائية بمسلمات محددة. ولا أتمنى شيئآ من ذلك!.

    كما هو واضح من العنوان أنني بدأت حديثي هذا بشكل لا يخلو من بعض الحدة اللفظية وكأنني غاضب من شيء ما!. لا شيء من ذلك في الحقيقة، غير أنني آخذ القضية على محمل الجد!. إذ أنني وضعت العنوان الجانبي لوجهة نظري هذي تحت عنوان "هزيمة المسلمات البائسة"!. قاصدآ بهذه المسلمات التصورات القائلة بكون السودان عربي أو عربي مسلم أو عربي أفريقي "هجنة" الغابة والصحراء وما يضاهيها أو ما يضادها في الحقيقة أو التصور من أحكام من قبيل أن السودان أفريقي خالص والسودانوية وإلى آخره من التصورات المحتملة لهوية ما جامعة وجعل ذلك شرطآ جوهريآ لإستقامة وسلامة الأشياء!.

    الأمر عندي ليس كذلك كون الهوية الكلية ليست معطى جاهز يتم تصفيفه أو توصيفه بالمزاج أو عبر الافكار المجردة وحدها وإنما تقوم كشعور ينبني في المقام الأول على المصلحة المادية وحدها ( بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الإنسان والجماعة) . إنه العيش المشترك في الزمكان. وهو مباديء وقيم ومثل محددة تتواطئ عليها الجماعة في لحظه زمكانية محددة بغض النظر عن خلفيات تلك الجماعة العرقية والدينية والثقافية والتاريخية. وإلا لا عيش مشترك!. أي لا هوية جامعة تكون ممكنة إلا قهرآ، وذاك أمر آخر!.

    قبل حوالي عامين تقريبآ سعدت بحضور ندوة رائعة في لاهاي ناقش خلالها دكتور الباقر العفيف ورقته القيمة ("أ زمة الهوية في شمال السودان /متاهة قوم سود ذوو ثقافة بيضاء!!"). والورقة منشورة في عدة مواقع على الإنترنت بداية بموقع سودانيزأونلان.

    وعنت لي خلال ذلك اللقاء فرصة صغيرة للتعليق قلت ضمن ما قلته عندها أن الحديث عن الهوية كمحور للأزمة السودانية هو عندي مجرد ترف فكري!. وبرغم ظني حتى هذه اللحظة في صدق تلك العبارة فإنني اعترف بأنها تتضمن قدرآ من القسوة ما كان علي فعله خصوصآ وأنا أكن للباقر العفيف إحترامآ خاصآ بالنظر إلى مساهماته الفكرية والعملية كباحث مجيد وإلى لطف طبعه كإنسان.

    وأجي الآن على ذكر هذه الورقة لما لها من قيمة خاصة في محور الكتابة التي أقوم بها هنا حول سؤال الهوية كونها تمثل عندي تلخيص حاد في النظر إلى مسألة الهوية بتصويرها كأس للأزمة السودانية. أزمة السلام والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان وقل حقوق الآخر " الإعتراف به كبشر في الحد الأدني" . وبالتالي فهي قضية زمنية ومادية ملموسة "موضوعية". قضية بريئة غاية البراءة من أهم محددات الهوية المتعارف عليها في : ("العرق والدين والثقافة والتاريخ")!. إنها قضية "الزمكان". كون تلك المحددات المفترضة للهوية عندها مقدرة أن تفيض كالنهر الجامح في أي لحظة فوق حدود الزمان والمكان. مما يجعلها في كثير من المرات تتفوق على منطق عقولنا ومعقوليتنا في زمكانهما!. فنضل!. وتكون تلك لحظة مواتية للحرب وهو ما يحدث في السودان.

    وقال د. الباقر بروح الأفكار المتضمنة في ورقته تلك في ندوة أخرى في نيو جيرسي، الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008
    أختطف من ملخص الندوة المعنية المقاطع التالية في سبيل الإضاءة التي اسعى إليها:
    (يتصور دكتور الباقر العفيف خلال هذه الورقة القيمة ان السبب الرئيسي للفشل في تحقيق السلام يعود الى سؤال الهوية ؟ فالهوية جذر كل ازمات السودان .. والهوية الشمالية مهزومة , لاتعرف من هي وانسان الشمال يعيش اغتراب حقيقي , اذ يعيش في الواقع بهوية زائفة مغتربا عن حقيقته .

    فبعد الاستقلال بدأت الحكومات تغيب الشعب عن الحرب في الجنوب , هذه الحرب التي يلاحظ عليها ان القوة القتالية الفعلية من هوامش السودان (قوام الجيش) بينما الغالبية العظمى من الضباط شماليين ؟؟ ولذلك كان القتلى الفعليين في الحرب من القوة القتالية (هوامش السودان) .. ولهذا السبب بالذات لم يسمع الشمالييون في شمال السودان بحقيقة ما يجري في حرب الجنوب ولم يعرفوا عن الحرب شيئا الا ما لحظوه من آثارها فقط من خلال الضباط والجنود القلائل , عندما يأتون الى الشمال ..او تعرفوا على اثار الحرب من خلال العمالة الجنوبية في البيوت الشمالية .. ويلاحظ ان احداث جسيمة حدثت في الحرب في الجنوب لم يسمع بها احد في الشمال مثل مجزرة بيت العرس في واو على عهد المحجوب التي راح ضحيتها نوارات وزعماء جنوبيين ..
    نلاحظ لاول مرة في تاريخ السودان الحديث تم الاعتراف بالخصائص الثقافية المختلفة للجنوب كان ذلك اثر مايو1969 خلال اعلان مارس , فكل الحكومات التي سبقت مايو لم تكن ترغب في الاعتراف بالجنوب على ما هو عليه بل كما تريده هي ان يكون .. ومن هنا مثل اعلان مارس خروج عن النص الاساسي – اذا جاز التعبير – فاتفاق اديس ابابا تم بناءه على خلفية هذا الاعلان . وهكذا مثل اعلان مارس واتفاق ابابا وضع غير طبيعي بالنسبة للثقافة المركزية في السودان , ولذلك تعاملت معه القوى السياسية على انه مرحلة مؤقتة وستزول وهو ما حدث بالفعل بالمصالحة الوطنية ..

    والان بعد ان استولت الجبهة الاسلامية على السلطة انكشف الغطاء , فاغتربت الذات الى نهاياتها المنطقية .. هذه النهايات المنطقية اربكت الكثيرون , فتساءل الطيب صالح : من اين اتى هؤلاء .. ومن هنا ساحاول ان اجيب : من سؤال الهوية ؟..

    وتعريفي للهوية يتمثل في معرفة الذات , لان على ذلك تتوقف معرفة العالم او العلاقة به ..ونلاحظ هنا ان الهوية الثقافية في شمال السودان اعلا من الهوية الوطنية – نحن عرب والاسلام منتج عربي - .. وايا كان الامر فالهوية الوطنية ادنى من الهوية الثقافية , فغير العرب تتم اعادة انتاجهم , وهذا يجعل الشمال يؤصل هيمنته .. لكن هؤلاء الذين تمت اعادة انتاجهم هم صورة شائهة لذاتنا .. الحل هو في معرفة الذات لانها المدخل لمعرفة كيفية التعامل مع الاخر ومع العالم ..

    هنالك نظريات عديدة حول الهوية – هل نولد في داخلها وتشكلنا , وهل نستطيع تغييرها – اذ لا استطيع ان ادعي انني صيني عرقيا فملامحي وسماتي ستقول بغير ذلك ..وهكذا في شمال السودان قلنا اننا عرب وانتمينا للعروبة بصورة كاملة والان نجد ان في ذلك مشكلة فالثقافة تنطوي على نظام رمزي وهذا النظام يتناقض معنا , فعلى سبيل المثال عندما دافع محمد الهاشمي الغامدي في( الاتجاه المعاكس بقناة الجزيرة) عن السودان عاد وقال لفيصل القاسم (على فكرة انا لست سوداني) فرد عليه القاسمى : (ما هو باين ؟).. المهم رغم ان قسماتنا ولوننا يؤكدان اننا لسنا عرب بالمعنى الاثني , الا اننا اخذنا كل النظام الرمزي للعرب _ اعني شمال السودان – وهذا النظام ينبثق من الذات الجماعية للعرب .. وانا هنا اتحدث عن ثقافات بيضاء واخرى غير بيضاء , فالثقافة العربية مليئة بالاحتقار للون غير الابيض فالاسود رمز لكل سؤ عكس الابيض رمز الخير والجمال . ولذلك عندما اتبنى كاسود النظام الدلالي الابيض في هذه الحالة انا احتقر ذاتي , والشاهد في الامر اننا كسودانيين شماليين ننظر الى العالم بعيون عربية , وبالتالي نحن موجودين كموضوع في هذه الثقافة العربية ولسنا موجودون كذات فاعلة .

    المؤسسة الحاكمة في شمال السودان قامت بشيئين خطيرين : اولا جعلت تاريخ السودان يبدا بدخول العرب السودان _ هجرات ما قبل الاسلام وما بعده – كانه لم تكن هناك حضارات سودانية غير عربية قبل دخول العرب . اذ نلاحظ ان العرب اثر اتفاقية البقط لحوالي 700 سنة لم يتمكنوا من غزو السودان والاتفاقية نفسها اكدت انهم – عابرين غير مقيمين – كما ان الاتفاقية نصت على ان يقوم النوبة بتنظيف المسجد واسراجه و يؤكد ذلك عدم وجود عرب لتنظيفه واسراجه في منطقة النوبة , اذ كانوا يجيئون عابرين في قوافلهم ويجدونه نظيفا فيصلون فيه . ولم يتكثف الوجود العربي في السودان الا في القرن الرابع عشر اي بعد ان ضغط المماليك على العرب في مصر فهرب هؤلاء ولجأوا الى السودان , ونلاحظ انه لاكثر من قرن بعد ذلك لم يقم العرب على النيل لان الدولة النوبية كانت تردهم الى ان تغير ميزان القوى لصالح المجموعات العربية ومن هنا تم قطع تام للتاريخ النوبي القديم .. ومن المفارقات ان اهلنا في منطقة الرباطاب اكتشف احدهم مقبرة في مزرعته بالصدفة , وكانت تشتمل على رسومات شبيهة في ملامحها بالرباطاب المعاصرين , لكنهم كانوا ينظرون الى هذه الرسومات كانها لاشخاص لاصلة لهم بهم.. غرباء تماما على الرغم من ان هذه الرسومات لاسلافهم في واقع الامر ؟..

    وهذا الموقف للرباطاب بمثابة تعبير عن فاعلية العمل المنهجي للحكومات السودانية في ان لا يكون التاريخ النوبي جزء من الوجدان الشمالي ..فقد ادرنا ظهرنا لافريقيا وتطلعنا للعرب , بل ان نظامنا التعليمي مركزيته هو الذات الشمالية . وفي واقع الامر نحن على هامش المركز العربي , ولذلك همشنا اجزاء السودان الطرفية وصنعنا من انفسنا مركزا لها ..
    المنهج التعليمي في السودان انتج نوعين من البشر : نوع مبعد من ثقافته المحلية كما اشار من قبل دكتور شريف حرير(الهامش) . ونوع هو الشماليين(المركز)..
    وهنا أرغب في ان اختم بان مشكلة السودان ليست مشكلة تنمية فحسب كما يعتقد البعض فهي مشكلة ثقافية بالدرجة الاولى).

    تلك هي بعض قناعات د. الباقر العفيف في وقت ما وللآخرين بالطبع بدورهم مساهماتهم منذ الإشارات والمرموزات المتضمنة في طبقات ود ضيف الله مرورآ بتصورات الإمام المهدي وخليفته عبد الله التعايشي ثم أشعار خليل فرح وثورة اللواء الأبيض ومساجلات الأفندية في منتصف القرن العشرين فمدرسة الغابة والصحراء وصولآ إلى تصورات شتيتة لا حدود لها ومساهمات كثيرة وغزيرة من قبيل فكرة د. جون قرانق عن سودان جديد و رؤية الأستاذ محمود محمد طه عن وعي ديني وإنساني وأخلاقي أكثر تسامحآ وما تلى أو لازم كل ذلك من أفكار عديدة لا حدود لها حول مسألة "الهوية" وما يلازمها بالضرورة من إشكاليات من قبيل آراء د. عبد الله بولا في شجرة نسب الغول عن قوم أكثر عدلآ وسلامآ و د. عبد الله على إبراهيم عن جماعة أقل جزافية وأكثر إعتدالآ ود. حسن عبد الله الترابي عن أمة أكثر أصالة وأستاذ أبكر آدم إسماعيل عن قوم أكثر وعيآ بجذورهم الحقيقية وهو ذاته رأي د. الباقر العفيف ثم يأتي د. حسن موسى ليؤشر بقلق دؤوب إلى واقع محتمل هو أكثر عدلآ وجمالآ وواقعية. وهناك بالطبع المزيد. سآتي على كل ذلك في حينه. غير أنني أود الآن أن أشد كل إنتباهي نحو كلام د. الباقر العفيف للأسباب التي قلت بها آنفآ وفي سبيل مسعاي القائل بضئالة قيمة "العرق والدين والثقافة والتاريخ" وما يسمى بالهوية في حد ذاتها أمام القضية الجوهرية وهي قضية "العيش المشترك" قضة "الزمكان" وهي مسألة قانونية "دستورية" وعملية "مادية" في المقام الأول. أي الهوية في شكلها النهائي- الكلي الواعي والموضوعي "العقد الإجتماعي" أي الدولة. ذاك عندي هو المحك!.

    يتواصل 2-5

    محمد جمال الدين
                  

03-29-2011, 03:14 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)! (Re: محمد جمال الدين)

    في سبيل الإجابة على سؤال الهوية (2-5)

    وجهة نظر في مساهمة د. الباقر العفيف


    أليس من حقي أن أكون " أسود" ذو ثقافة بيضاء!؟. وهو سؤال برغم حدته جائز. والإجابة من عندي: نعم. وظني أن هذا حق مشروع. نعم من حقي!. وبلا شك. "شنو المانع القانوني" أن أكون أسود ذو ثقافة بيضاء؟. ويتضمن بالطبع حق الأبيض في أن يكون ذو ثقافة سوداء. ولما لا!؟. مش الناس أحرار.

    واضح عندي أن المسألة الجوهرية تكون: دستورية وقانونية وليست "هوية"!. لأنك لا تستطيع ولا يجب ومن غير المنطقي أن تحدد لي "هويتي" الذاتية لكنك تستطيع بالطبع كسلطة قانونية كدولة (أو في فضاء آخر، مثقف "ثائر" أو من كنت) أن تقول أو تحدد لي حدود تصرفاتي تجاه الآخرين "عدالة" قانون دون أن تقول لي تخلى عن جسدك أو دينك أو ثقافتك أو ما تقول به من تاريخ لنفسك أو ما تدعيه من لون لبشرتك "هويتك الذاتية". هذا ليس من شأنك بل هو شأن الفرد وحده وبالأحرى هو شأن الآخر على إطلاقه. أنت لا يجب أن تقيم محاكم تفتيش!. علينا أن نتحدث فقط عن العدالة والقانون. هو ذاك إعتقادي.

    أليس من حق الباقر العفيف أن يقول ما قال؟.
    طبعآ من حقه!. ذاك هو رأيه. إنها رؤيته الذاتية الخاصة للعيش المشترك. في أي دولة محترمة يكون للرأي حرمته. وللناس أن تقبل أو ترفض رؤية الباقر. فالمسألة مسألة حقوق في المقام الأول. غير أن ليس من حق الباقر إذا ما أمتلك القوة المادية أن يجبر الرباطاب على التخلي عن فكرتهم في النظر إلى أنفسهم كعرب والإندماج في أصلهم النوبي الذي تمخضت عنه الأبحاث الآركلوجية الجديدة التي قال بها. وهو أمر جائز. فمن غير المستبعد أن تكون قبائل الشايقية والجعليين والرباطاب برابرة، أي نوبيين شماليين كما ذكر الرحال غيليود الذي زار مملكة الفونج عام 1523 كما تفضل د. الباقر. لكنه بحال من الأحوال عندي أن ذاك الكشف الجديد إن صح عبر الفحص الجيني لن يجعل الجعليين أو الشايقية أو الرباطاب يتراجعون عن مزاعمهم بكونهم عرب.

    وحتى لو حدثت معجزة وفعلوا فأنا لا أتوقع أن يقبلهم النوبيون الأصيلون كجزء منهم لا يتجزأ بل أتوقع أن يسمونهم "القوم المتنببة" على وزن العرب المستعربة ويبقون على الهامش متخلين عن مركزيتهم إختياريآ!. هذا لن يحدث عند أي إعمال للحسابات المنطقية. والسبب بسيط وهو أن إدعاء المجموعات المذكورة للعروبة لا بد أنه أنبنى على حسابات عملية ومصالح مادية ومعنوية ثم أصبح ذاك الإدعاء عبر القرون جزءآ أصيلآ من قيم وتاريخ وثقافة الجماعة يتحدد على أساسه إحساسهم بذاتهم الجمعية كما بنفس القدر تتحدد على أساسه تصورات الآخرين لهم. والأمر عندي أكثر تعقيدآ من هذا. فإبراهيم بن جعل الذي تتحدر منه هذه المجموعات الجعلية في الحقيقة أو الخيال هو ذاته ليس عربيآ أصيلآ وإنما من العرب المستعربة وليس العاربة.

    فمحمد النبي العربي العدناني هو حفيد إسماعيل بن إبراهيم كما تقول جل المصادر الممكنة وإسماعيل في حد ذاته هو إبن هاجر وهو طبعآ أبو العرب المستعربة وهو في نفس الوقت أخو إسحاق بن سارة وهو جد اليهود. بينما يكون عرب اليمن هم وحدهم العرب "العاربة". هم وحدهم العرب "الجد". ألا يعني هذا شيئآ ما!. ويقول بعض الناس مزاحآ أن بنجامين ناتنياهو أصله شايقي. غير أنه بحسب المصادر والوثائق الإسلامية والعربية فإن اليهود والعرب المستعربة شيئآ واحدآ وبالتالي فإن صح زعم بني جعل بإنتمائهم لإبراهيم بن جعل يكون ناتنياهو اليهودي ليس بعيدآ من الشوايقة من حيث الدم أو الخصال "تمشيآ مع القفشة الشعبية" وليس ذاك فحسب بل أيضآ المنطق!.

    ونستطيع أن نتصور أن عرب مصر أصلهم فراعنة وعرب العراق أصلهم أشوريون وأكراد وسومريون وعرب ليبيا أصلهم ليبيون وعرب الجزائر وتونس والمغرب أصلهم برابرة وبالمثل تستطيع أن تقول عرب السودان أصلهم نوبيون. عرب سود، حمر أو بيض لا يهم. هم عرب وبغض النظر عن رأي العرب في الجزيرة العربية بهم ولا يهم رأي الآخرين من كانوا ولن تثنيهم عن تصوراتهم لذاتهم الأبحاث العلمية والآركولوجية التي تقول لهم أنتم لستم عربآ. هم عرب وكفى!. لقد قرروا لأنفسهم أن يكونوا عربآ منذ عدة قرون. فأصبحوا عرب. وأنتهى الأمر!.

    وعند هذا المنحنى يطيب لي أن أروي قصة أحد قريباتي مع المطوع السعودي. حكاية صغيرة "حقيقية" في منتهى الشطط.
    حدث أن خالتي أم سلمى "جعلية" سمراء داكنة ذهبت إلى الحج في نهاية تسعينات القرن الماضي حوالي عام 1989 فصادفها في أحد شوارع مدينة جدة مطوع سعودي ناصع البياض يلبس عقال ويحمل سوطآ بينما هي حاسرة الرأس فقال لها زاجرآ غطي راسك يا حرمة "يا إمرأة" ورفع سوطه ليضربها فردت عليه "أنا الرجال الجد أبان عمم الجعليين "العرب" الجد ما بغطي ليهم راسي خليك انت أب طريحة دا" (الطريحة إشارة للعقال) تهكمآ وكونه عندها ناقص الرجولة وربما العروبة عن الجعليين أهلها العرب الجد. مش لعب!. وتستطيع أن تقول بلغة أخرى العرب "النوبية" مش القحطانية "اليمانية" والسعودية أبان طرح ديل. عرب ممزوجة بدم الزنوج الحارة!. القصة ليست مزاح!. ففي مخيالها يكون مركز العرب "الجد" هو السودان. ولما لا!.

    وجالت وصالت في أرض الحجاز. أرض جدودها الأوائل دون أن تغطي رأسها مثل ما فعلت من قبل جدتها هند بنت عتبة.
    ورؤية خالتي وهي إمرأة بسيطة طاعنة في السن وغير متعلمة بالمعنى الأكاديمي للكلمة بما فيها من شطط وعنصرية وتمييز مرفوض لا تخلو من حكمة ما في دروب "الهوية" كما قد تؤشر إلى أن المركزية العرقية وتستطيع ان تقول أيضآ الحضارية أمر غير موضوعي في كل الأوقات وإنما يكفي أن يكون شعورآ ذاتيآ محضآ للفرد أو الجماعة المحددة، ليس إلا!.
    عندي أن ورقة د. الباقر العفيف تتحدث عن ثلاثة مستويات رئيسية هي ذاتها المستويات الممكنة لهوية ما، كما سأوضح في مساهمتي المقبلة.

    1- الهوية العرقية (ما أسميه أنا بالقيمية أو أحد الهويات القيمية) 2- الهوية الرؤيوية "الآيدولوجيا" و 3- الزمكانية "الوطن" الدولة.
    المستوى الأول للهوية عندي هو أس الهويات "الهوية القيمية" وهي هوية لا تقبل القسمة على إثنين، ليست محلآ للنقاش. بل غير مطلوب عندي. خطأ!. فمثلآ من غير المحتمل أن تقنع رجلآ أصيلآ من قبيلة الدينكا بأنه ليس دينكاوي لأن هناك بحثآ أركلوجيآ وجد أن قبيلة الدينكا أصلها في قبيلة الماساي في كينيا. أتصور أن كلما سيفعله ذاك الرجل هو أنه سيضحك ملأ شدقيه ويعتبرك مجرد رجل كثير المزاح. ولن يهمه ابدآ جميع أبحاث الكرة الأرضية التي تحدثه عن تلك الحقيقة. ولو حدثت معجزة وقنع ذاك الرجل بكونه ماساي فمن المحتمل أن لا يقبله الماساي (معضلة جديدة) ولو حدثت معجزة وقبلوه سيكون "دينكا ماساي" لن يكون أبدآ ماساي حقيقي في نظرهم.

    فإذا ما تصورنا أن أحد الرجال من أولي الحكمة تصادف أن مر بثلاثة رجال يتشاجرون فوق قطعة أرض كل يود حيازتها بالكامل وهم دينكاوي وجعلى ومحسي. أعتقد أن ذاك الرجل سيكون كل إنتباهه مشدودآ إلى قطعة الأرض لا إلى خلفيات الرجال القبلية. سيفكر في حل. فكرة ما يستطيع أن يقبلها الرجال الثلاثة (يقتنعون بها) على أساسها ربما رضيوا بتقسيم قطعة الأرض بينهم بالتساوي أو تركوها بالكامل لأحدهم وزيادة على ذاك ربما تخلق تصور ما في الوعي الجمعي بالعيش السلمي المشترك عبر الفكرة المجردة بحكم الضرورة: رؤية كلية، على أساسها يستطيع الرجالة الثلاثة العيش في سلام وهم متجاورون دون أن يقتل أحدها الآخر أو يعتدي على ممتلكاته أو حقوقه المادية أو المعنوية أيآ كانت.

    عند هذا التصور المبسط نلمح رؤية ذاتية للعيش المشترك ثم رؤية كلية للعيش المشترك. ودون أن تمس خلفيات الناس القيمية. دينكا جعليون ومحس يستطعون العيش في سلام. ثلاث هويات قيمية وثلاث هويات رؤيوية محتملة وهوية واحدة زمكانية. وعيش في سلام. لكن عندما تختل هذه المعادلة ويعتدي أحدهم على الآخر تسقط الرؤية الذاتية للعيش المشترك وتهتز الرؤية الكلية وعندها ربما طالب الدينكاوي بفرز عيشه عندما وجد أن الجعلى والمحسي إتفقا عليه وسلبا حقوقه. وهذا الإختلال يمكن أن يصدر من أيهما بتساوي نسبة الإحتمال المئوية. ما أود قوله أن المسأله ليست لها علاقة عضوية ومباشرة بالهوية القيمية "الخلفية العرقية والقبلية" ولا بالهوية في إطلاقها وإنما بالحقوق. لن يهمني من أنت وما هو عرقك أو قبيلتك ما دمت تحترم حقوقي في العيش المشترك.

    وورقة الباقر عندي هي رؤية ذاتية للعيش المشترك أي آيدولوجيا. آيدولوجيا قاسية!. رؤية ذاتية تطالب البعض منا بالتخلي عن هويته القيمية لمصلحة العيش السلمي المشترك وهذا المطالب بالتخلي عن هويته القيمية هو "العربي" هذه المرة. عليه أن يقنع بكونه أفريقي وأسود ويراجع غسيل الدماغ الذي يعاني منه ويتخلي عن الثقافة البيضاء البغيضة التي عشعشت في رأسه كل هذه القرون بحسب كلام الباقر!. نستطيع أن نلمح بوضوح نبرة الإقصاء المضاد. فناء معنوي يعتمل الفناء المادي لآخر ما!. وذاك لسبب محدد طبعآ. سببان في الحقيقة كما لاحظت من قراءتي لورقة الباقر. الأول هو "الهوية!". إستعادة هويتنا الأفريقية "النوبية" الضائعة أو المستلبة مما يؤدي أو يسهم في السلام والتنمية والتقدم والإستقرار للسودان. والسبب الآخر هو أن هناك أدلة ظرفية وتاريخية وأركولوجية وشهود من الرحالة تقول بأن الجماعات العربية الرئيسية في السودان ليست عربية في الأصل و الحقيقة وإنما هم مجرد نوبيين "برابرة" إدعوا شيئآ عبر القرون ليس من حقهم وهو العروبة!. هناك زيف!.
    وتصادف أن تكون تلك الجماعات أو بعضها أو صفوة منها تشكل المركز السياسي والهويوي لسودان اليوم. في الحقيقة لعدة قرون. ذاك بحسب قراءتي لدكتور الباقر.

    هل هذه الأسباب معقولة؟. الإجابة العاجلة من عندي: لا. ولا بلا شك!.

    واضح انني أود أن اقول شيئآ مختلفآ عمما يقوله د. الباقر أي أنني على رؤية مختلفة ولو أنني أتفق في الكثير مع الورقة محل النظر هنا. وإتفاقي يقوم على أن هناك أزمة دولة في السودان وأزمة مجتمع وهناك إضطهاد لجماعات بعينها عبر تاريخ طويل وتصادف أن تكون هذه الجماعات في الغالب الأعم من غير "العرب" وربما من غير "المسلمين" وكي أتسق مع رؤية د. الباقر أستطيع أن أقول أن تلك الجماعات المضطهدة، مهضومة الحقوق بشكل واسع تكون من غير المدعين بإصول عربية.

    فأنا أتفق مع ورقة الباقر بشكل كلي في أن هناك مشكلة ولو أنني أختلف معه في بعض تفاصيل توصيفه لتلك المشكلة. هناك مشكلة كبيرة مزمنة في السودان معروفة للقاصي والداني. ولا بد للناس في مثل هذه الحالة أن تفكر في الحلول. ود. الباقر أجتهد وقدم رؤيته في ورقته المعنية للحل ورأي أن جذر المشكلة يكمن في "الهوية". أنا هنا عندي وجهة نظر مختلفة تتمحور حول سؤال الحل بشكل مجمل لا المشكلة وهي سبب كل هذه الكتابة وتتلخص في أنني أعتبر موضوع الهوية ليس جزءآ من الحل لأن الهوية لا تصنع عبر الرؤى والأفكار المجردة وأي حديث عن الهوية في إطلاقها بإعتباره الحل لا بد أن يعتمل الإقصاء والإقصاء المضاد وهذا بالضبط ما فعله الباقر.

    ولنا أن نلاحظ أن ورقة د. الباقر المعنية تتحدث فقط عن إدعاء الجماعات الجعلية في السودان للعروبة من قبيل الجعليين والشايقية والرباطاب دون أن تتطرق للجماعات المصنفة عربية جهينية من قبيل البقارة في غرب السودان والشكرية في شرقه! وهي القبائل التي تنتسب في الحقيقة أو التصور إلى جهينة من حمير الذي ينتهي نسبه إلي قحطان جد العرب العاربة في جنوب الجزيرة العربية ( اليمن) مش المستعربة كمان!.

    كما نستطيع أن نلاحظ أن الورقة محل النظر تتحدث بتركيز شديد عن جنس آري "سوداني" هم النوبيون دون خلق الله في السودان "هناك شوفينية ما". وهذا هو دليلي "مقطع من الورقة المعنية":
    (السودان الشمالي الحالي هو موطن الثقافة النوبية التي ازدهرت لعدة آلاف من السنين قبل مولد المسيح، وهو موطن الممالك النوبية العظمى. وتقف الأهرامات حتى الآن في أرض النوبة، شاهدة علي عظمة الأمة النوبية. وفي القرن الثامن قبل الميلاد قامت المملكة النوبية باحتلال كل أرض مصر وفرضت سلطانها علي وادي النيل . وكانت مملكة النوبة لاعباً أساسيا في المسرح العالمي في العالم القديم، و أقامت الصلات مع عدة حضارات. وكما أوضح لويدس بنغاي "للسودان الشمالي حضارة قديمة مزدهرة، سابقة لحضارة مصر الفرعونية ولمجيء الإسلام. وكانت النوبة ذات علاقة مع كل حضارة ظهرت في مصر .. الإغريق .. الرومان .. العرب .. الأتراك والبريطانيين" .).

    ويتضح أكثر ما أدعيه من شوفينية في المقطع أعلاه بالإحالة إلي السياق العام للورقة كونها تقول بأن أصل السودان الشمالي "نوبي" وعلى وجه الإطلاق وهي بلا شك شوفينية مضادة لشوفينية بغيضة سائدة تحدث عنها الكاتب كثيرآ غير أن الخطأ لا يبرر الخطأ. طبعآ مع كل الفخر والإعزاز بالحضارة النوبية في زمانها ومكانها غير أن ذلك لا يعطي أحدآ الحق في إلغاء مكونات الحاضر بحجة عظمة الماضي. ولا أحد يقبل بأن هناك عرق خير من آخر أو قبيلة خير من أخرى لمجرد إنجاز حضاري مهيب!. أليس هذا يعتمل قدرآ من التمييز يتعارض مع مواثيق جنيفا لحقوق الإنسان على سبيل المثال. وهو ذاته الشيء المرفوض عند الباقر من الجانب الآخر أعني ما فعله ويفعله العروبيون كونهم ساقوا ويسوقون الناس في الرسمي وبجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة نحو هوية عرقية ودينية وتاريخية محددة هي هويتهم هم وحدهم كثروا أو قلوا. وهو ما أدي بالبلاد إلى التدهور الإقتصادي والإجتماعي وإلى التفتت المحتمل. تلك تجربة وجب الإستفادة منها.

    من "نحن"؟. هذا سؤال غير ذي جدوى وغير مهم البتة، السؤال المهم كيف نعيش في سلام؟. والإجابة على هذا السؤال تحتمل أن نكون "نحن" بلا تاريخ وبلا حضارة وبلا هوية وبعد نستطيع أن نصنع دولة عظيمة.

    عندي أن المشكلة قانونية ودستورية. قضية عيش مشترك. مشكلة حقوق لن يحلها الإحساس ب "الهوية" الواحدة من قبيل قناعتنا جميعآ بكوننا أفارقة سود أو سمر أو نوبيين أو سودانيين أو عرب مسلمين وقل ما تشاء. وضربت المثال بالصومال بحيث لم تجديها هويتها الواحدة من أن تكون مثال الدنيا كلها في سوء المآل ومعروف أن الصوماليين مئة بالمئة عرقية واحدة "أفارقة" لا إدعاء لهم غير ذلك (لا جماعة ذات بال تقول بأنها عرب في الصومال أو هنود على سبيل المثال) والناس مئة بالمئة مسلمين ويتحدثون لغة واحدة وتجمعهم أشكال لا حدود لها من أواصر التاريخ الواحد ومرموزاته كجماعة عريضة من الناس تعيش فوق قطعة أرض وعندهم حضارة "بنت" حضارة عظيمة تضاهي حضارة النوبة والفراعنة. غير أن كل ذلك لم يجدي فتيلآ!. ومثال آخر أثيوبيا هي أشبه بحال الصومال من حيث الدين إذ معظم الشعب الاثيوبي مسيحي وكل الشعب الأثيوبي أفريقي لا يقول بغير ذلك (لا يوجد شخص واحد يقول بإدعاء عربي) ولكن حال أثيوبيا ليس بأفضل من حال السودان كثيرآ. والأمثلة لا حصر لها وخذ أمثلة رواندا وبروندي وأسطع مثال ربما تفوق على جميع الأمثلة السابقة هو "الكنغو" وبؤس أهلها من حرب إلى حرب. في الإتجاه الآخر نجد دول تنعم بتنوع عرقي وديني وتاريخي كبير ويبدو أن لا هوية واحدة مشتركة تجمع سكانها لكنها تنعم بإستقرار كبير وسلام وتنمية وديمقراطية مثل الهند وماليزيا وجنوب أفريقيا وكندا.

    فالمسألة عندي كما أسلفت دستورية وقانونية، مسألة حقوق وعيش سلمي مشترك لا غير ذلك . وتلك معضلة يستطيع الناس أن يجدوا لها حلآ دون التضحية بهويات بعضهم البعض أو الغوص الرومانسي في التاريخ البعيد وهو أمر إن حدث أي أن الناس لو وجدوا حلآ للهوية لن تكون هي الحل التلقائي لمشكلة الدستور والقانون "العقد الإجتماعي". تلك هي قضية أخرى وتلك هي القضية الأساسية لا الهوية.

    بل عندي رأي أشد قسوة عند هذه النقطة وهو أن أي حديث عن هوية واحدة كحل هو دعوة صريحة للحرب أو وقود إضافي للحروب القائمة. كيف؟. لأنك عندها وفي ظل التنوع العرقي والديني والثقافي والإجتماعي في السودان تطالب الناس ب compromises تمس جوهر وجودهم في الحياة كجماعة الشيء الذي قد لا يطيقونه وهو ما حدث في جنوب السودان كمثال للسياسة التي أتبعتها الصفوة السياسية في الشمال عبر الحقب الماضية وهو الشيء الذي تحدث عنه الباقر بإستفاضة. وجاء جون قارنق محاربآ تلك السياسة لكنه دون أن يقول أن للسودان هوية واحدة وإنما قال سودان جديد ينبني على أسس جديدة. عقد إجتماعي جديد. دستور يحترم حقوق الجميع في أن يكونوا ما يشائون. أفريقي، عربي، مسلم، مسيحي، وثني، نوبي، جعلي، فوراوي هدندوي بدون لا يهم كلو تمام. ذاك هو الفهم عندي. أي دستور يحترم هويات الجميع وحقوقهم المادية والمعنوية. ذاك هو الحل وحده لا غيره وسيبقى على الدوام هو الحل طال الزمن أم قصر.

    هل أقول أنا أن مسألة الهوية غير مهمة من حيث المبدأ؟. طبعآ لا!. "الهوية" مهمة جدآ للفرد وللجماعة. ولو أن تلك الأهمية يحددها الفرد بنفسه لنفسه!. بل أنا أقول كلامآ مختلفآ جدآ عن د. الباقر من حيث أنني أعتبر الهوية مجرد "حق" شرعي مثلها ومثل " الرغيف" بينما يعتبرها د. الباقر كمثال "دين" كإعتقاد تتأسس على أساسه الحقوق ولهذا رأى الباقر أن: (ان السبب الرئيسي للفشل في تحقيق السلام يعود الى سؤال الهوية ؟ فالهوية جذر كل ازمات السودان) كما يقول.

    والأمر عندي ليس كذلك. المشكلة في "الحقوق" إنتهاك الحقوق. فالإنسان من حقه أن يجد طعامه وملبسه ومسكنه وعلاجه وتعليمه. وتلك هي الضرورات الحتمية. ثم من حقه أن يعتقد فيما يشاء ويعبد ما شاء ويفكر بما شاء ويلبس ما شاء ويتحدث بما شاء ويعمل ما أراد وفق القانون وبما لا يتعارض مع حريات الآخرين. ويتجمع ويتفرق ويتظاهر ويكتب ويغني ويرقص كما شاء. ودا حد معقول من الحقوق. ففي هولندا على سبيل المثال زيادة على ذلك فمن حق الإنسان أن يبتاع الحشيش "بنقو" من البقالة ومن حق الرجل أن يتزوج الرجل الآخر كما هو حق المرأة وأكثر من ذلك من حق الإنسان أن ينهي حياته في أي لحظة شعر فيها بأنه يتألم أكثر من اللازم وكل ذلك وفق القانون. إنها مسألة حقوق.

    وعندي أن الهوية حق مثلها ومثل بقية الحقوق. حق أساسي. لكنها ليست أكثر من ذلك. من حق كل إنسان أن يمتلك هويته ويفعل بها ما شاء، يخلعها ، يبدلها ، يلغيها نهائيآ يبقى بدون هوية ذاك شأن الفرد وحده ليس شأني أنا ولا الباقر ولا الآخرين وبالطبع ليس من شأن الدولة في شيء.

    وبهذا المعنى فإن "الهوية" التي يريدها الباقر حلآ للأزمة آراها أنا تقوم في مقام المقدس المتعالي والمنزه مما يجعلها رؤية جامدة تتعارض مع حقوق الآخرين في إمتلاك هوياتهم التي قد يختارونها لأنفسهم أو وجدوا آبائهم عليها. هوية الباقر التي يريدها لنا كحل للأزمة هي ذاتها المشكلة لا الحل!. وتلك هي النقطة موضع النظر في ورقة د. الباقر القيمة من حيث كونها تتقدم بنا خطوة لنرى المشكلة من زوايا مختلفة وجديدة.

    وبهذا القدر أنهي تعليقي على رؤية د. الباقر "أزمة الهوية في شمال السودان: متاهة قوم سود...ذوو ثقافة بيضاء". متمنيآ أن أكون قد قلت شيئآ مفيدآ فيما يتعلق بشأن "الهوية" لدى هذي الرؤية . وربما أناقش بعدها أراء أخرى في ذات السياق وفي أثنائه سأقول بتعريفي الخاص للهوية ومكانها من المجتمع والدولة كما مكانها من الأزمة!.

    يتواصل... 3-5

    محمد جمال الدين
                  

03-29-2011, 03:29 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)! (Re: محمد جمال الدين)

    الحلقة 3-5 متضمنة في المقال "الأول" موضوع هذا البوست.
    قليلآ وأنشر الحلقة 4-5 . الحلقة الأخيرة "5-5" لم أعمل على إكمالها بعد وربما أفعل في القريب العاجل.
                  

03-29-2011, 03:42 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نعم الشعب يريد إسقاط الدولة (في الرد على فادي العبد الله)! (Re: محمد جمال الدين)

    في سبيل الإجابة على سؤال "الهوية " 4-5"

    [email protected]


    ماهية الهوية ثم أشكالها ومستوياتها ومآلاتها؟.


    إستنادآ إلى تصوري لتجليات المجتمع المدني السوداني وجدليته مع الدولة والذي قلت به لدي الحلقة الماضية (رقم 3). أستطيع أن أقول أن هناك ثلاثة مستويات للهوية. هوية قيمية وهوية رؤيوية وهوية زمكانية. والهوية الزمكانية هي الهوية الكلية "الشاملة". وقد سبق أن بينت أنني أعتقد أننا إن لم نتعرف على طبيعة المجتمع المدني السوداني وعلاقته بالدولة لن نستطيع أن نجيب على سؤال الهوية بالصورة المثلى. وتأتي ضرورة التعرف على طبيعة المجتمع المدني السودان من حيث المبدأ لإعتقاد مني بأنه لا يوجد مجتمع مدني واحد يحمل نفس الصفات والمواصفات ويتمظهر بنفس النسق والمنوال لا في الريف ولا في المدينة. كما أن المجتمع المدني يبقى على الدوام متباينآ و متمايزآ بين زمان وزمان ومكان ومكان "في الدول المختلفة". المجتمع المدني عندي مثل بصمات الأصابع لا يتكرر مرتين ولا يتطابق ابدآ في اللحظة التاريخية المحددة. ومن هنا رأيت أنه لزامآ علي أن أتلمس طبيعة المجتمع المدني السوداني وتجلياته المختلفة كما جدليته مع الدولة قبل أي تلمس مباشر لموضوعة الهوية كجوهر أو كفاعلية إجتماعية. لا يوجد شيء إسمه الدولة يقوم بمعزل عن المجتمع المدني والعكس صحيح. هناك ثلاثة مستويات تعيش في جدل مستمر أي تشكل بعضها البعض: القيم الإجتماعية + اللوائح (وهي عندي خلاصة الدين والثقافة والتجربة الإنسانية العلمية والعملية) والرؤى الشتيتة للعيش المشترك "الآيدولوجيات" والرؤية الموحدة للعيش المشترك وهي الدولة "رؤية موحدة للعيش المشترك في نسختها المثالية" (عقد إجتماعي).

    المجتمع المدني يتشكل على الدوام من بنيتين: بنية تحتية "قيمية" وبنية فوقية "رؤيوية". البنية التحتية تشكل البنية الفوقية والبنية الفوقية تشكل الدولة. مرة ثانية الدولة تشكل البنية الفوقية والبنية الفوقية تشكل البنية التحتية وذاك ما أعنيه على الدوام بجدلية المدني والرسمي أي المجتمع المدني والدولة". إنها دائرة تدور في محيطها.

    مع علاقة هذا بالهوية؟. ليست علاقة فقط بل تلك عندي هي الهوية ذاتها!. كيف؟.

    الهوية عندي بمعناها السوسيولوجي تكون هي شعور الفرد الذاتي المحض بالإنتماء العضوي لجماعة ما ايآ كانت تلك الجماعة في إطار "زمكان" ما، أيآ كان ذاك الزمكان. بنفس القدر هي تصور الآخر للآخر في إطار جماعته الحقيقية أو المتصورة وزمكانه المحدد.

    ونستطيع بشكل عملي أن نقول أن هناك ثلاث إشراقات يمكن أن يعبرها الناس في الواقع وعلينا الوعي بها موضوعيآ، وهي: حالة الإنتماء للبنية المدنية التحتية "الأصيلة" المفردة، حالة الإنتماء للبنية المدنية الفوقية المفردة وحالة الإنتماء للدولة = إتحاد البنيات المدنية مجتمعة في "زمكان" محدد. وهي بدورها تعتمل ثلاث حالات للهوية أو تمثل ثلاث مستويات للهوية:
    1- هوية قيمية من قبيل "أنا جعلي أو دينكاوي (قيمية جسدانية أو فروسية) أو صوفي تجاني أو عضوء كنيسة أنجيلكانية (قيمية غيبية أو روحانية) أو عضوء نقابة أطباء السودان أو عضوء الجمعية السودانية لحماية البيئة (قيمية موضوعية أو عقلانية) وهي هوية غالبآ ما تكون بالإصالة.

    2- هوية رؤيوية من قبيل " أنا شيوعي أو إتحادي ديمقراطي أو بعثي أو ناصري أو حزب أمة أي أنا أنتمى إلى رؤية ذاتية للعيش المشترك" وهي هوية غالبآ ما تكون بالإكتساب.

    3- هوية "زمكانية" أي وطنية من قبيل "أنا سوداني أي أنا أنتمي إلى رؤية موحدة للعيش المشترك وهي هوية تاريخية غالبآ ما تكون أصيلة ومكتسبة في ذات الأوان.!.

    ويمكن للفرد أن يشعر بشكل تلقائي أو يحدد لنفسه بشكل واعي قدر لا حد له من الهويات "القيمية" إضافة إلى إحتمالية إنتمائه إلى رؤية ذاتية للعيش المشترك في مقابل الهوية الكلية الزمكانية "الدولة" أي الوطن.

    والشعور بالهوية الوطنية قد يتأتي تامآ أو ناقصآ أو منعدمآ بحسب الفاعلية الموجبة أو السالبة للدولة على هوية/هويات الفرد الذاتية. وبلغة أخرى فإن شعور الفرد بإنتمائه للدولة "الرؤية الموحدة للعيش المشترك" ينبني بشكل جوهري على طبيعة تأثير الدولة على إنتماءات الفرد للبنيات المدنية محل هويتيه القيمية والرؤيوية. وعلى قدر طبيعة تأثير الدولة من حيث السلب أو الإيجاب يأتي شعور الفرد أو الجماعة بإنتماء تام أو ناقص أو منعدم للدولة "الوطن".

    إذن عندما أقول "مثلآ" أنا جعلي أو دينكاوي تلك هوية قيمية وعندما أقول أنا إتحادي ديمقراطي تلك هوية رؤيوية ذاتية وعندما أقول أنا سوداني تلك هوية زمكانية. وتلك عندي جميع المستويات الممكنة للهوية في حدود ما يسمى ب "الوطن". والمستويان الأولان يشكلان المستوى الآخير وهو المستوى الشامل "الزمكان" أي الرؤية الموحدة "الكلية" للعيش المشترك "الوطنية". وعليه تكون الهوية عملية دينامية لا حدود لسيرورتها ولا صيرورتها.


    الشعور الذاتي بالهوية:

    قلنا أن هناك ثلاثة مستويات للهوية بحسب هذا التصور. هذه المستويات الثلاثة ليست بسيطة أو مسطحة وإنما كل منها ينعم بتعقيد كبير في النوع وفي المقدار كما أنها في جدل دائب مع بعضها البعض وفي مور لا يهدأ له بال. وهن:

    1- الهوية القيمية... الهوية القيمية هي قاعدة الهويات وأسها، تليها
    2- الهوية الرؤيوية (تتشكل على أساس الهوية الأولى) وتنتهي ب
    3- الهوية الزمكانية (تتشكل على قاعدة الهوية الثانية) وتمثل خلاصة الهويات.

    1- الهوية القيمية
    تستند الهوية القيمية على ثلاثة منظومات قيمية رئيسية تقوم فوق كل منها تمظهرات إجتماعية بعينها غالبآ ما تكون مكان ولاء صارم للفرد كالقبيلة والطائفة الدينية والنقابة العمالية. وتلك هي أمثلة حية للبنيات التحتية للمجتمع المدني. ولكل تمظهر مدني أصيل "تحتي" هدف محدد يقوم على أساسه . هذا الهدف على الدوام، هو: (البقاء أو/و المعاش أو/و الأمن أو/و الرفاهية) وفي سبيل هذا الهدف تتشكل القيم الإجتماعية في ثلاثة منظومات رئيسية في السودان (بحسب ملاحظتي الذاتية) تقف هذه المنظومات القيمية خلف مجمل تمظهرات المجتمع المدني الأصيلة "التحتية" في السودان. وتمثل سببآ جوهريآ في تنوع تمظهرات المجتمع المدني وتمايزها عن بعضها البعض، وهي:
    1- منظومة قيم الجسدانية "الفروسية" 2- منظومة قيم الروحانية "الغيب" و 3- منظومة قيم العقلانية "الموضوعية". (مع الوضع في الحسبان إختلاط وتشابك القيم). راجع المقال السابق (رقم 3) من هذه السلسلة.

    هل عند حد الهوية القيمية تتوقف الهوية أي تنتهي أو ينتهي الشعور بها؟.

    الإجابة بنعم صحيحة ... غير أن الإجابة بلا تكون هي الأصح!.

    لماذا؟. قد يكتفي أحدهم بالشعور بكونه جعلى أو هدندوي أو دينكاوي أو فولاني (هوية قيمية فروسية) وقد يكتفي أحدهم بكونه قادري أو شاذلي أو سماني أو أنجليكاني (هوية قيمية روحانية) وقد يكتفي أحدهم بكونه حداد ليس إلا، ينتمي إلى جماعة الصنايعية على سبيل المثال (هوية قيمية موضوعية). غير أن دروب الهوية لا تنتهي في العادة عند هذا الحد بحكم الضرورة. هناك معضلة عظيمة تجابه الإنسان وهي مشكلة "الآخر" مشكلة تجابهها البشرية في كل زمان ومكان منذ أن إختار الإنسان بحكم الضرورة العيش في تجمعات بشرية كبيرة. إذ أن النوباوي على سبيل المثال سيجد نفسه على أحتكاك مادي بالمسيري والفوراوي بالزقاوي والجعلي سيجد نفسه في لحظة ما على إحتكاك مادي بالشايقي والدنقلاوي من ناحية الشمال وبالفونجي من ناحية الجنوب. عندها هناك أمر ما لا بد أن يحدث!. نستطيع أن نضعه في صيغة سؤال هو سؤال "العيش المشترك"؟. عند هذا السؤال يتشكل وعي جديد. تتشكل بالضرورة بذرة رؤية لكيفية العيش المشترك فوق قطعة جغرافية من الأرض "هي أرض الفونج والجعليين" على سبيل المثال.

    وعلى أساس هذا الوعي الجديد تتشكل هوية جديدة لا تجب الأولى بل تقوم فوقها وتستند عليها كلية. إنها الرؤية الذاتية للعيش المشترك. تستطيع أن تسميها مذهب يعتنقه الأفراد أو رؤية أو آيدولوجيا وهي في زماننا هذا تأخذ صيغتها العملية في شكل الأحزاب السياسية. ذاك هو المستوى الثاني للهوية (إتحادي، أمة، بعثي، عدل ومساواة، جبهة إسلامية، حركة شعبية وحزب شيوعي) على سبيل المثال. تلك هي أمثلة للرؤية الذاتية للعيش المشترك وتبقى في نزوع مستمر الى أن تتحول إلى نظام صارم عبر كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة عبر التراضي "الوفاق" أو العسف المادي حتى تتحول في نهاية المطاف إلى دولة فأكون أنا جعلي عبدلابي وذاك سناري فونجي ننتمى إلى رؤية موحدة للعيش المشترك عبر التوفيق بين رؤآنا "الذاتية" ودون المساس بهويتنا العرقية (القيمية) تحت مسمى "السلطنة الزرقاء" أو كما كان يسميها أهلها. وذاك هو المستوى الثالث والأخير للهوية "هوية زمكانية" . وإلتماسي لمملكة سنار كمثال لا يجب أن يربك محتوى الفكرة المجردة لكونها في تقديري صالحة لجميع اللحظات التاريخية في السودان. (ملاحظة هامة: أتحدث عن التمظهرات الجسدانية (القبيلة) والروحانية (الطائفة الدينية) كثيرآ هنا، كونها هي الصورة الغالبة للتجليات الإجتماعية التحتية الفاعلة في السودان وبغض النظر عن رأينا القيمي فيها).

    تلك محاولة مني أولى لمقاربة سؤال الشعور بالهوية كما تشكلها في حيز الوجود ودون أن أتحدث عن صراع الهوية. وعندما أتطرق إلى صراع الهوية في سانحة أخرى سنجد أن الهوية الواحدة "المفردة" تبقى في توتر مستمر ونزاع مستمر في ذات كتلتها ومع هويات الآخرين. فلقيم قد تحارب بعضها البعض والرؤى الذاتية للعيش المشترك تفتك ببعضها البعض في سبيل تحولها إلى رؤية موحدة للعيش المشترك "دولة" ولا ينتهى الأمر بتشكل الدولة ففي كل مرة تبدأ دورة جديدة. وقيم تموت وأخرى تحيا ورؤى تموت وجديدة تنبعث من العدم وتنهتك الرؤية الموحدة للعيش المشترك مرات ومرات فتكون مروي ثم المقرة وتخرب سوبا وتنهض سنار وهلمجرا.

    2- الهوية الرؤيوية

    قلنا أن الهوية تتشكل في ثلاثة مستويات أو قل تقوم في ثلاثة مستويات على الدوام وهن: المستوي القيمي والمستوى الرؤيوي والمستوى الزمكاني. وسبق أن تحدثنا عن المستوى الأول للهوية مع محاولة تلمس المستوى الثاني لكن دون تعمق في الفكرة. وأبدا هنا من جديد بالمستوى الثاني من مستويات الهوية وهي ما أسميه بالهوية "الرؤيوية".

    من أحد معاني الرؤية هو "الفكرة". وهو ما يعنيني من معاني الكلمة. والفكرة المعنية هنا عملية جدآ نجدها في سؤال العيش "المشترك؟" كما أسلفنا الحديث. والعيش المشترك أمر جلل!. يبدو أن الناس لا تستطيع أن تتعايش فوق رقعة جغرافية واحدة يتضاجعون، يتناسلون، يتبادلون المنافع وينظمون شئون حياتهم الكثيرة ويكتبون الشعر دون فكرة ما محددة يتواطئون عليها "رؤية كلية للعيش المشترك" = دولة. من أين تأتي هذه الرؤية الكلية؟. تأتي بحكم الضرورة. يشارك في تأسيسها قدر كبير من الجماعات وفق رؤاهم الذاتية لكيفية العيش المشترك ومن المحتمل أن تنتصر جماعة واحدة لرؤيتها الذاتية وتفرض شروطها بالكامل على مجمل الجماعات الأخرى عبر العسف المادي وحده كما حدث في المملكة العربية السعودية عام 1932 ومصر عام 1952 وهو ذاته الأمر الذي حدث في تونس والجزائر وليبيا وسوريا والمغرب والجزائر ودول أخرى أفريقية وأسيوية عديدة ويحدث في السودان منذ العام 1989 وإستمر حتى الآن ويبقى السودان في زمان الثورة المهدية أسطع مثال لفرض رؤية ذاتية واحدة مفردة للعيش المشترك لتكون رؤية كلية عبر العسف المادي وحده. وهو مثال ليس ببعيد في محتواه عن ما فعلته الجبهة الإسلامية بعد استيلائها على السلطة السياسية عام 1989.
    إذ أن الجبهة الإسلامية في السودان انتصرت لرؤيتها الذاتية للعيش المشترك عبر العسف المادي وحده وصيرتها رؤية كلية للعيش المشترك (دولة) قهرآ ودون إعارة أي إنتباه للرؤى "الذاتية" الأخرى العديدة التي بدورها لها وجهات نظر مختلفة لكيفية العيش المشترك فوق الرقعة الجغرافية المسماة سودان "مليون ميل مربع". ماذا جرى وماذا يجرى الآن بعد ما فعلت الجبهة الإسلامية فعلتها تلك لهو أمر ساطع الوضوح.

    كيف تتشكل الرؤية الذاتية؟.

    تتجلى من ضرورة العيش المشترك وتنبني بالضرورة على خلفية منظومة قيمية "هوية قيمية" وتبقى في نزوع مستمر إلى أن تصبح رؤية الجميع أي رؤية كلية للعيش المشترك أي دولة. وبطريقة عجلى كل هوية رؤيوية تبقى في مسعى دؤوب كي تصبح هوية كلية "زمكانية".
    والرؤية المعنية قد يسميها الناس أسماء مختلفة وانا لا أتحرج بل ارى أن من أدق أسمائها المحتملة تكون: آيدولوجيا!. وهذا هو فهمي للرؤية الذاتية للعيش المشترك "الآيدولوجيا". وأبدا هنا بالإجابة على سؤال محتمل عن ما أعنيه ب"آيدولوجيا" ثم أقدم سردآ مقتضبآ لكيفية تشكل الآيدولوجيا "رؤية ذاتية للعيش المشترك صادرة من جماعة مدنية ما، من كانت".


    الرؤية الذاتية للعيش المشترك = الآيدولوجيا؟:

    يجوز أن نقول أن الآيدولوجيا هي مجموعة الأنساق الفكرية التي تحدد رؤية مجموعة من الناس للواقع. تمام. هذا من الناحية النظرية. انها نسق فكري "مثالي" في مقابل الواقع "المادي". أليس كذلك؟. ويبدو أن هذا " النسق الفكرى" هو المتحول في المعادلة في مقابل الثابت وهو النسق المقيم "المادي" = الواقع. الواقع المادي = الإنسان كعظم ولحم والطبيعة بمعناها العريض. ولهذا تختلف الآيدولوجيات والواقع واحد على الدوام. كل ذلك من الناحية التجريدية. والكلام يمكن أن يذهب بلا حدود. لكن كيف تفعل الآيدولوجيا فعلها في أرض الواقع؟. هنا نستطيع أن نلتقي في المحك. من المؤكد أن الآيدولوجيا ليست شيئآ إعتباطيآ وإنما في الغالب هي مخلوق في مقابل هدف ملموس. هذا الهدف عندي يتمحور حول "العيش المشترك". لدرجة ان منظومة "آيدولوجية" واضحة المعالم مثل الماركسية يكون بشكل مستمر مرادفها "الشيوعية" أو الشيوعية العلمية بما يعنيه الإسم من دلالات تتمحور بدورها حول "العيش المشترك".

    أعتقد أننا يسهل أن نتفق مبدءآ في أن الآيدولوجيا هدفها يكون في محاولة الإحاطة "الموضوعية" بالواقع.

    وبعد دا؟. يعني بعد ما نفهم الواقع كيف يتنزل فهمنا على الأرض؟. فالآيدولوجيا ما هي إلا نتيجة نشاط ذهني "تراكمي" يقود إلى مسلمات نظرية تتحدث عن أفضل السبل لمعالجة مشاكل الإنسان في إطار حيزه الزماني والمكاني. أي بقاءه ومعاشه وأمنه ورفاهيته في مقابل الطبيعة والآخر.

    وعليه تكون عندي الآيدولوجيا هي رؤية ذاتية للعيش المشترك (رؤية جماعة مدنية محددة) في مقابل الرؤية الكلية للعيش المشترك (الدولة). أي رؤية ذاتية للعيش المشترك نازعة إلى أن تكون رؤية كلية للعيش المشترك. وقد تعتمل هذه الرؤية "الآيدولوجيا" معالجات شتيتة لسايكولجي الفرد لكنها في الاساس هي عملية ترويض الناس في خضم حراكهم الهيكلي واللا هيكلي على العيش المشترك في "زمكان" محدد. أي الربط الواعي للمجتمع المدني بالدولة. بحيث لا تكون الدولة بشئ في نهاية المطاف غير رؤية موحدة للعيش المشترك وفق رؤية " آيدولوجيا" واحدة منتصرة عسفآ أو سلمآ أو رؤى "آيدولوجيات" شتيتة متحدة عضويآ ومنتصرة سلمآ أو عسفآ. (طبعآ أنا هنا أتحدث عن فهمي الخاص للآيدولوجيا أو بالآحرى إستخدامي للمصطلح في قراءتي للدولة والمجتمع المدني).

    وعليه يكون عندي أي رؤية في جدل مع الدولة هي آيدولوجيا حتى لو رآها البعض بدائية أو غير مكتملة "النسق الفكري". والحكم بالبدائية أو قصور النسق الفكري لآيدولوجيا محددة دائمآ ما يكون مجرد وجهة نظر ذاتية متعالية غالبآ ما تكون منطلقاتها بدورها آيدولوجية. فالمهدية آيدولوجيا والميرغنية آيدولوجيا والشيوعية آيدولوجيا واللبرالية آيدولوجيا و"العدل والمساواة" آيدولوجيا و"الدستور الإسلامي" آيدولوجيا والسودان الجديد آيدولوجيا و "كوش" آيدولوجيا و "الوطنية-الإتحادية" آيدولوجيا و "السودان لكل السودانيين" آيدولوجيا وهكذا الأمر.

    سأضرب بعض الأمثلة وسأستعين مبدءآ بمثال عارض لكنه في غاية الأهمية عندي لكارل ماركس في طريق محاولة مقاربة معنى "منظومة القيم" ومصطلح "آيدولوجيا".

    حاول ماركس في مرة من المرات أن يقول للناس ما يعنيه بكلمة آيديولوجيا من خلال ضرب الأمثال. فقد استخدم تشبيه قلب الصورة في غرفة سوداء، وهي العملية الإبتدائية لفن التصوير. وعليه فإن الوظيفة الأساسية للآيديولوجيا هي: استنساخ صورة معكوسة للواقع (انتهى تشبيه ماركس).

    ويجوز عندي مبدءآ أن يفهم المرء أن هدف إستنساخ تلك الصورة المعكوسة للواقع، هو: محاولة فهم الواقع نظريآ. ومن ثمة العمل على إستيعابه أو/و تطويعه أو/و ترويضه أو/و تحويره أو/و تزييفه في صحنه الموضوعي أو ميدانه المادي. غير أن ذاك الهدف "الأولي" ما هو إلا الجزء التقني أو الفني من الصورة.

    فالهدف النهائي للآيدولوجيا بما هي آلية منتجة عمدآ بقصد إستيعاب أو/و تطويع أو/و ترويض أو/و تحوير أو/و تزييف الواقع، هو "أي الهدف النهائي" هو: إضفاء قدر أكبر من المشروعية لفعل مجموعة "منظمة" إجتماعية محددة في إطار المجتمع المدني الكلي وفي مقابل الدولة. وزيادة على ذلك محاولة إدماج الكل في الجزء بوسائل في الغالب ما تكون تعسفية.

    وان صح هذا الإعتقاد، تكون الآيدولوجيا هي الخاصية الجوهرية للبنيات الإجتماعية المدنية الفوقية "الجماعات و الأحزاب السياسية" لا البنيات المدنية الأصيلة "التحتية" (أي لا أحداث ومنظمات المجتمع المدني). كون وظيفة الآيدويولوجا الأولية هي إنتاج صورة معكوسة للبنيات الإجتماعية المدنية الأصيلة في سبيل الهدف الذي سقناه آنفآ. وبلغة أخرى فوظيفة الآيديولوجيا في الأساس هي الربط الواعي للمجتمع المدني "ببنياته الأصيلة" مع الدولة. كما أن الآيدولوجيا في البدء تكون بمثابة "سديم" الدولة.).


    كيف تتشكل الآيدولوجيا "الرؤية الذاتية" عمليآ؟.

    (القيم "التمظهر الأصيل".. ثم الآيدولوجيا "التمظهر الفوقي" .. ومن ثمة فالمصلحة المجردة "الدولة"


    قلنا أن لا تمظهر مدني تحتي يكون ممكنآ إلا في حالة توفر ثلاث عوامل في ذات الأوان ودون نقصان: 1- قيم 2-هدف و 3-لائحة (اللائحة تعني الإطار النظري للهيكل ويمكن أن تكون مبتدعة أو مكتسبة أو موروثة "مكتوبة أو غير مكتوبة").

    وعلى هذا النحو نستطيع رؤية أي تمظهر مدني أصيل أي تحتي من الداخل أي يمكننا قرائته وتشخيصه ومعرفة مرجعيته ومآلاته.

    التمظهر الأصيل ينتج تمظهر فوقي بغرض الجدل مع الدولة والتمظهر الفوقي ليس بشئ غير حاضنة الآيدولوجي (سديم الدولة) والدولة في الاساس تقوم عند نقطة تلاقي المصالح/تعارضها أي مكان تقاطع "أهداف" التمظهرات المدنية الأصيلة. لهذا لا تشبه الدولة أي شئ آخر غير التمظهرات المدنية الاصيلة السائدة أي المنتصرة (على الدوام) إلا في حالة غزو من خارج حدودها الجغرافية والقيمية وهذا ما حدث مرتين في تاريخ السودان القريب وأدي الى تدمير شبه تام لبعض البنى الإجتماعية التحتية "الأصيلة" التي كانت سائدة (منتصرة) وطاح بدولتها. مثل الفونج في حالة الغزو التركي وقبيلة التعائشة في حالة الغزو الإنجليزي مما أدى بهما الى حالة شبه إنزواء في التاريخ. كما أديا (الغزوان) الى تخلق أشكال مدنية جديدة لم تكن معهودة قبل الغزو الأول وتوطدت أكثر بعد الغزو الثاني وتلك التمظهرات الجديدة المستندة على القيم الجديدة الوافدة مع الغزو، تتجسد في "النقابة" (تمظهرات المدينة) وهنا يتكشف القدر الأعظم من سر الصراع بين الريف "ذو القيم الأصيلة" مع المدينة "ذات القيم الوافدة. (هناك تفصيل أكثر حول هذه النقطة نهاية هذا السرد).

    القيم والآيديولوجيا والدولة:

    لننظر مرة أخرى الى المنظومات القيمية الثلاثة عارية ثم نمتحن تجسدها (تمظهرها الأصيل) في الأرض عمليآ ولنحاول أن نتحسس كيف تتخلق الأشكال المدنية الفوقية (الآيدولوجيا) بضرب الأمثال الحية.

    القيم عارية:

    1- قيم الجسدانية (الفروسية): الرجولة والشجاعة والأمانة والكرامة والشرف والمروءة والشهامة والكرم.

    2- قيم الروحانية (الغيب) : الزهد والتواضع والإتكال على الله.

    3- العقلانية (الموضوعية) : الموضوعية والإستنارة والإنسانية والنظافة والنظام والإدخار.

    القيم متجسدة (متمظهرة) بمراعاة الترتيب أعلاه:

    1- قبيلة الرزيقات (أو للدقة إحدى عشائرها) هي تمظهر أصيل لقيم الفروسية

    2- طائفة الختمية هي تمظهر أصيل لقيم الغيب

    3- مؤتمر الخريجين هو تمظهر أصيل لقيم الموضوعية


    التمظهرات الأصيلة "في الأمثلة الثلاثة أعلاه" تنتج أو تغذي بنية فوقية (آيديولوجي) بمراعاة الترتيب السابق:

    1- حزب الأمة هو تمظهر فوقي للقبيلة (بمراعاة المثال أعلاه حصريآ)

    2- حزب الشعب الديمقراطي (إئتلف لاحقآ مع تمظهر "نقابي" فوقي "مديني" بقيادة الأزهري إسمه الوطني الاتحادي) فأصبح الإسم الجديد الحزب الإتحادي الديمقراطي. هو تمظهر فوقي للطائفة.

    3- الحزب الشيوعي السوداني + جبهة الميثاق + الوطني الإتحادي (الأزهري) هي تمظهرات فوقية للنقابة (النقابة كرمز لتمظهرات المجتمع المدني المديني الأصيلة "التحتية).



    3- الهوية الزمكانية

    المعني الحرفي لكلمة "الزمكان" طبعآ معروف وهو أن الزمكان دمج فيزيائي لكلمتي الزمان والمكان والمقصود من حيث المعنى لحظة زمنية ما طويلة أو قصيرة تتمدد فوق مكان جغرافي ما بما يحتويه من بشر و كائنات أخرى حية وأشياء وأحداث.

    وأنا أصطحب هذا المعنى في معيتي بتصرف عندما أقول الهوية الزمكانية. ولن أكرر ما قلته سلفآ تفصيليآ ولكن وجب التذكير بالضرورة أن الهوية الزمكانية المعنية تتشكل إنبناءآ على هوية أو هويات رؤيوية تحدثنا عن كنهها بإستفاضة أعلاه. مرة ثانية الهوية الرؤيوية في حد ذاتها لا بد أن تقوم على هوية قيمية. القيم والرؤى مرتبطتان ارتباطآ حاسمآ بالزمان والمكان، يعيشان في جدل مستمر مع الزمكان. الزمكان بما هو لحظة زمنية "تاريخية" ومكانية "جغرافية" نستطيع أن نسميه الوطن. ذاك هو المعنى!. فالهوية الزمكانية هي ذاتها الهوية الوطنية. وعندي أيضآ أن كلمة وطن كلمة مرادفة لكلمة دولة. والدولة هي الرؤية الموحدة "الكلية" للعيش المشترك في نسختها المثالية. أقول هذا إحترازآ كوني إستخدمت وسأستخدم كل هذه الكلمات المختلفة ذات المعنى الواحد في مواقع مختلفة في مناسبات مختلفة من كتابتي هذي.

    إذن بكل بساطة الهوية الزمكانية هي الهوية التي تتشكل من هويات رؤيوية "ذاتية" تقوم بدورها على هويات قيمية. وبهذا المعنى تكون الهوية الزمكانية في طورها المثالى هي الهوية الكلية/الجامعة أي الرؤية الكلية للعيش المشترك.

    هل تستقر الهوية الزمكانية عند لحظة تمام تشكلها النهائي كخلاصة للهويتين القيمية والرؤيوية؟.
    الإجابة حتمآ، لا!.

    والسبب بسيط وهو "الزمان". فإن كان المكان ثابت من حيث هو قطعة أرض فإن الزمان متحرك كالرمال الزاحفة تعرى هذا المكان وتغمر آخر وهكذا. وقلنا أن القيم والرؤى مرتبطتان بالزمان إرتباطآ عضويآ. ويجوز أن أقول مجازآ أنهما مكان الرمل من زحف الزمان!. لا إستقرار. لا شيء يستقر. ولو أن شيئآ يستقر لكان حفيد أركماني في القصر الجمهوري بالخرطوم هذه اللحظة يحتفل بالألفية الثالثة لثورة أبادمك "الإله رأس الأسد" إله الحرب.

    إذن لماذا تتحرك "القيم" مع الزمان وما علاقة ذلك بالدولة؟.

    لا ننسى أن منظومات القيم التي نتحدث عنها (البنية الإجتماعية التحتية) لا تقوم في الفراغ وانما تقوم في مقابل هدف واضح ومحدد هدف كلي مركب وهو: "البقاء والمعاش والأمن والرفاهية". هذا الهدف ثابت على الدوام لا يتغير أبدآ غير أن وسائل تحقيقه تتغير وتتبدل بشكل مستمر مع الزمان مما يقتضي تحوير وتبديل وتغيير في منظومات القيم يلحقه تلقائيآ تغيير في البنى الإجتماعية التحتية. و أي حدث يحدث سلبآ أو إيجابآ في المنظومات القيمية (البنية التحتية) يؤدي بشكل تلقائي إلى ردة فعل مباشرة في المستوى الثاني من البنية الإجتماعية "الفوقية" وهي بنية الرؤى. ونتيجة لذلك وكما هو منطقي ينعكس كل ذلك الحراك على الرؤية الكلية للعيش المشترك "الدولة" كون الدولة تقوم على البنية السابقة عليها. تتشكل القيم من جديد تتشكل الرؤى من جديد تتشكل الدولة من جديد. تتشكل المستويات الثلاثة للهوية في نسق جديد. والأمر أكثر تعقيدآ من هذا كون جدلية القيم والرؤى والدولة لا تمضى على الدوام بهكذا نسق بل قد يحدث في لحظة ما إستثنائية العكس تمامآ بحيث تتشكل الدولة تتشكل الرؤى ثم تتشكل القيم. أي تتشكل الهوية الزمكانية أولآ ثم الرؤى ثم القيم. عندي أنها دائرة تدور في محيطها. هذا بإقتضاب. قد أعود في وقت لاحق بمزيد من الإضاءة ما لزم الأمر.

    وبهذا أكون قد انتهيت من محاولة شرح فكرتي تقنيآ لماهية الهوية. وتبقى علي ما لزم أن أتحقق من كيف تجري الأمور في الواقع المعاش. ولو بشكل مجمل كون التفاصيل تبقى غير محدودة.

    المعادلة المعتادة على الدوام هي أن تتشكل القيم تتشكل الرؤى تتشكل الدولة. تتشكل المستويات الثلاثة للهوية في نسق ما. تموت القيم تموت الرؤى تموت الدولة. تتشكل القيم من جديد تتشكل الرؤى من جديد تتشكل الدولة من جديد. تتشكل المستويات الثلاثة للهوية في نسق جديد. وهكذا تكون على سبيل المثال مروي ثم المقرة وعلوة فسنار. وتكون بالطبع تلك التموجات "الزمكانية" مشحونة بملايين الهويات القيمية والرؤيوية.

    في مرات نادرة تتعقد تلك المعادلة إذ يحدث في لحظة ما إستثنائية العكس تمامآ بحيث تتشكل الدولة "الزمكان" أولآ ثم تتشكل من بعدها الرؤى فلقيم.
    هل دا حصل في الواقع؟. نعم!. حصل في السودان عام 1821 وحصل مرة ثانية عام 1899!.

    في عام 1821 جاء إبن محمد على باشا "إسماعيل الذي قتله حرقآ المك نمر". إبن محمد علي باشا صنع "زمكان" بالإيد الشديدة، عبر العسف المادي وحده. زمكان لا علاقة له بالرؤى السائدة حينها ولا القيم الإجتماعية. فصنع دولة ثم لحقتها رؤى جديدة للعيش المشترك وتبع ذلك تخلق قيم جديدة رويدآ رويدآ. هي قيم العقلانية قيم المدينة قيم الرأسمالية قيم الفردانية. قيم غير معروفة بالكامل قبل دخول إبن محمد على باشا للسودان. هذه القيم الجديدة هي القيم التي تشكل وعي سكان المدن حتى اليوم و وعي ما يعرف بالمثقفين على مر تاريخ السودان الحديث وتخلقت نخبة إجتماعية جديدة عندها قيم إجتماعية جديدة ورؤى جديدة تواكب الحياة الجديدة التي فرضها الواقع الجديد وبرزت للوجود رويدآ رويدآ طبقة الأفندية التي تم تشكلها النهائي لدى الغزو الثاني "الإنجليزي".

    وقد نلاحظ الآن بجلاء أن كل الذين كتبوا عن المجتمع المدني السوداني في الوقت الراهن اعتبروا الغزو "التركي المصري" هو بداية تخلق المجتمع المدني السوداني وبلا إستثناءات تذكر!. وهو بلا شك انحياز آيدولوجي واضح ولو جاء صادرآ من اللاوعي!.وعندي أن المثقف السوداني على مر تاريخ السودان الحديث وأيآ كان موقعه الرؤيوي (يمينآ أويسارآ) هو إبن الغزوين. ولهذا السبب يكاد الكل يجمع على أن "المجتمع المدني السوداني" هو وحده المجتمع الذي يقوم على قيم الموضوعية "المدينة". وذاك بالقطع أمر يتضمر الإقصاء للريف بشكل فظ وواضح كون المدينة الحديثة في السودان هي بنت الغزوين "قيم وافدة" في مقابل الريف ذو القيم الأصيلة. وعندي قناعة أنه خطأ معنوي ومنهجي جسيم أنبنت عليه مسلمات لا حدود لها من السوء!. ما يهمني هنا هو أن الزمكان بطريقة أو أخرى يستطيع أن يأتي سابقآ على الرؤى والقيم. وما تلي عام 1821 هو خير دليل. إذ بعده بدأت دورة جديدة للشعور بالهوية "الزمكانية" وتشكلت طبقة إجتماعية جديدة تقوم بشكل شبه كلي على قيم جديدة هي قيم الموضوعية قيم "أنا" لأول مرة في تاريخ السودان (تلك لحظة التواصل "السوداني" العضوي الأصيل مع العالم الرأسمالي الجديد الذي تشكل في أوروبا الغربية إبان الثورة الصناعية وما تلاها).

    الهوية القيمية غير محدودة لا في النوع ولا في المقدار. غير أن الهويتين الرؤيوية والزمكانية تبقيان مفردتان لا تتعددان في المعتاد. إذ أنني أستطيع أن أشعر بأنني جعلي أو دينكاوي "قيمية فروسية" وتجاني "قيمية غيبية" وعضو الجمعية السودانية لحماية البيئة "قيمية موضوعية"، كل ذلك في نفس الوقت. فالهوية القيمية وهي أس الهويات غير محدودة. . لكني لا أستطيع أن أكون ماركسي وأنادي بالدستور الإسلامي في ذات الأوان، غير منطقي، وهو المستوى الثاني للهوية. الهوية الرؤيوية هوية مفردة. بذات القدر فإن الشعور بالهوية الزمكانية مفرد لا يتعدد في المعتاد. فعندما أقول أو أشعر بأنني "سوداني" فليس من المحتمل أن يعتريني في ذات الأوان ذات الشعور تجاه أثيوبيا مثلآ. وتلك هي الهوية الزمكانية.

    وعليه يستطيع المرء على سبيل المثال أن يكون جعلى أو نوباوي تابع للطريقة الشاذلية عضو الجمعية السودانية لحماية البيئة هلالابي ضد المريخ (هويات قيمية) رئيس فرعية الحزب الشيوعي بالحصاحيصا معارض للمؤتمر الوطني (هوية رؤيوية ذاتية) وسوداني (هوية زمكانية). وتلك هي جميع المستويات الممكنة للهوية في إطار "الزمكان". طبعآ هذا بحسب ملاحظتي الذاتية للواقع والوقائع!.

    يتواصل... 5-5

    محمد جمال الدين
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de