رسام الآلهة.. فصول من رواية عن معمر القذافي كتبتها عام 2007

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 09:26 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-26-2011, 06:37 AM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رسام الآلهة.. فصول من رواية عن معمر القذافي كتبتها عام 2007


    هذه الرواية كتبت في 2007 عن معمر القذافي ولم تنشر قبل الآن.. وهي عالم أسطوري عن سيرة القذافي يمزج بين الخيال والواقع.. وقد رأيت نشرها في ظل احداث ليبيا.. وآمل أن اسمع افادتكم

    رسام الآلهة
    رواية عن معمر القذافي
    المؤلف: عماد البليك



    الجزء الأول

    ضوء الشتاء


    " لا تفسر الأمور الغامضة، إلا بأمور أكثر غموضاً منها"
    جان أي

    ليس من الصواب أبداً أن يكون عالمنا الرباعي الأبعاد، هو العالم الوحيد الموجود والممكن"
    ميشيل ترامبليه



    1

    لا خيار أمامه سوى أن يعيش مرة واحدة، رغم أنه يتمنى كثيراً لو أن الله الذي (كل يوم هو في شأن) يدخل شأنا جديداً، يغيّر فيه من تصاريفه ونواميسه، وينسف كل مشروعه الكوني.. على الأقل يسمح للإنسان بأن يحيا أكثر من حياة في هذا العالم الأرضي، المبتذل. أمنيته قائمة على حلم قديم، منذ زمن الطفولة، أن يصبح رساماً، شاعراً، فيلسوفاً، لاعب كرة قدم، نبياً، إلهاً، كل شيء.. مجنون بطريقته الخاصة، في كل شيء.. "مجنون طبيعي حر في التعبير عن نفسه، حتى لو تصرّف بجنون ليعبر عن أنه مجنون". لاحقاً ستكون هذه الجملة مفتاح مركزي، ضمن مفاتيح الكتاب الذي سيرسم فيه رؤيته للعالم في تجربة، محاولة الحياة الأولى، بقية الكتب لن تكتب، إلا أن يحدث أمر غريب، شيء غامض يجعل الله يفتح الكون لاحتمالات أخرى غير ما اعتاده من روتين، وبالتالي وفي هذه الحالة، ستكون هناك كتب أخرى حتماً، كتب ليست (خضراء) بكل تأكيد..
    في ذلك الزمن البعيد، القريب، كان الصبي يتسكع قريباً من خليج السدرة، خليج سرت. بخفة كان يتسكع في حين اشتغل رأسه بالأفكار، سيعود في الليل ليرسم لوحة جديدة، بعد أن يحرق التي بدأها ليلة أمس لأنها ستبدو ساذجة، غبية، فهو لا يقتنع بفكرة ما، بعمل ينجزه، الشك يسيطر على تفاصيل حياته، ولهذا السبب لابد من تمزيق الورق، التخلص من اللون الأزرق نهائياً، والبدء من جديد.
    كل بداية هي عملية خلق، لكن الخلق الإلهي لا يتأتى إلا بعد عملية عصر شديدة، تنقية يخضع لها الشيء تجعله خالص الصفاء، طاهراً، وعلى الإنسان لكي يكون رساماً إلهياً، أن يمارس هذه الطريقة في رؤية الأشياء، أن يطهّر اللوحة.. لا بأس أن يتخلص منها، وأن يعمل بنية مختلفة، لأن لكل يوم نوايا جديدة، حلم جديد ثانِ، يقتضيه الانتباه للمُنقصات الصغيرة، أن يهرب من الاستجابة للراهن والوقتي، أن يدخل في ملكوته الخاص، عوالمه المفقودة التي سيعثر عليها ذات يوم. ذات يوم لن يكون بعيداً بكل مقاييس العالم الأرضي، فثمة قاعدة، برهان لمعادلة الحياة، إذا اقترب الإنسان منه، انفتحت له بوابة الخلود، ورسم أجمل اللوحات على مدار التاريخ، إلى القيامة.
    يتنسم هواء الخليج، على يقين بأن الهواء سيمنحه حيوية روحية، يقرّبه من أمكنة مجهولة في خلايا الدماغ. تلك الأمكنة التي هي مفتوحة على أكوان أخرى، إذا ما استطاع أن يطلّ من خلال نوافذ صغيرة منها، سيرى بسهولة المستقبل، سيجد أن الصبي الرسام، أصبح أشهر من (ليونارد دي فينشي). لكنه لا يشعر بأن ليونارد كان عظيماً، هنالك ما هو أعظم.. (بيترو فانوتشي) الذي كانوا يسمونه "الرسام الإلهي".
    "اكتسب الأول شهرة ضاربة، ذاع صيته، أصبح علماً في التراث الفني المسيحي، غير أن (الرسام الإلهي) لم يكن سوى كائن غير محظوظ.. هذه اللعبة التي اسمها البخت، يجب أن لا تعاندك، عليك أن تسرع لكسر عنقها، تحطيمها، قبل أن تغلغل في ثناياك.. قبل أن تكون لها سلطة عليك، قبل أن يولد فجر الغد.. فلوحة هذا الليل هي النهائية، هي التي سوف تجعلك رسام الإلهة الجديد".
    إذا كان بيترو سيصبح ملهمه الذي لن يفصح عنه لأحد، فيجب عليه أن يكون ذكياً جداً. ذكياً كإله صنع هذا العالم ووضع فيه أثره، لكن لا أحد استطاع أن يقترب من سرّ هذا الإله الذكي، الخفي. الذكاء الفني يتطلب من الإنسان أن يترك أثراً، إشارة، مجموعة من الآثار والإشارات، كلها تدلّ عليه، وفي ذات الآن تتوّه من يبحث عنه. بيترو فهم السرّ، غير أنه مارس الغباء ساعة سمح للناس برؤية وجهه، من خلال رسم شخصي وضعه كتوقيع على جدارية المعهد المالي في بيروز.
    "لكي تنجح، لا تكشف وجهك للملأ، خاصة رعاع الناس الذين لا يفهمون في الفن. يمكنك أن تضع إشارة صغيرة لأذكياء قلة، هؤلاء يحق لهم لأنهم وظّفوا عقولهم ببراعة، أن يغوصوا في لجة بحرك المجهول، أن يقتربوا بخديعة من فهم مغزى ما تفعل، ولماذا أنت ترسم. ثمة مساحة معقولة من الممكن تركها كأثر لمن يفكر. هذا الأثر ضروري لجعل حياتك تصبح أكثر غموضاً وإرباكاً".
    الشفق الأحمر كان قد ألقى أخر خطوط الاشتهاء للماء على الخليج، والصبي لا يزال يحاكم ذاته، يقلقه بسؤاله المستعرّ عن رسام الآلهة، بيترو المجنون، الملعون. مقنعاً ذاته بأن خبرة الكائن في الوجود ليست مجرد تراكم نوعي، بل تأمل عميق، استغراق في التفاصيل المملة، تلك التي يراها عامة الناس عبطاً. ومع الرسم بالتحديد، سيقنع نفسه بأن أي محاولة لتتويه اللوحة بغموض مفتعل لا تخدم مستقبل الفنان، فالغموض يجب أن يتأتى من فناء عميق في عالم المشاهدة، كذلك الماء الذي يترنح مذهّباً وهو يودع الشمس الهاربة إلى مكان آخر، خليج غير هذا المغسول بتضاريس حروب قديمة، صراعات باهتة، فتوحات مفتعلة، صرخات أنت وماتت دون أن يسجلها أي رسام، لأن هذا البلد لم ينجب ذات يوم رساماً عظيماً رغم أن كان قريباً جداً من أعظم إمبراطورية للرسم في العالم.
    "هل يكون بإمكان بدوي مثلي، ولد بين الصحراء، بين أناس تربوا على رعي المواشي والإبل، أن يصبح رساماً كونياً؟"، أقلقه السؤال، وهو يراقب اللون الذهبي تصرعه ذرات الظلام وهي تغسل بهدوء ما تبقى من الشفق الأحمر في الماء. سيجيب على السؤال في ما قبل منتصف الليل، وهو يقرأ في كتابات متفرقة لا يجمع بينها شيء، كعادته لابد أن يقرأ كثيراً، قبل أن يبدأ الرسم، القراءة التي لا تقوم إلا على العشوائية، لإيمانه بأن النظام يتأتى عن الفوضى، خاصة إذا ما ارتبط الأمر بالفن.
    سيفهم من خلال مجلة قديمة كان يحتفظ بها في حقيبة مترهلة، أن قبائل وثنية بربرية، كانت وراء بزوغ فجر فن النهضة في أوروبا، فروما بوصفها عاصمة فنون عصر النهضة، لم تكن اختراع نفسها لنفسها، إنها صورة منتحلة عن عقل ذلك الوثني البربري، الذي عاش في وسط أوروبا وشماليها، والذي كان يشنّ الغارات على مناطق شمال إيطاليا ووسطها. ذلك العقل البربري استطاع أن يخترق المسيحية، أن يقاوم التيار الديني الجارف، ليصبح الفن القوطي سيّد معمار الكنائس، ذلك الفن الذي أساسه عقل وثني، بربري، قبلي.
    توصل لقناعة مبدئية "الفن العظيم لا يولد من احتكاك مع الشعوب المتطورة، لا تنجبه الحضارة التي تتفوق عليك عندما تغزو أراضيك.. هو نتاج لتمازج بين عقل بدوي، وعقل آخر يظن نفسه متفوقاً.. يستطيع العقل البربري أن يتحكم في العقل الفوقي ويفرض عليه أحكامه، ليجعله يخرج بأعظم فن للعالم.. هذه هي الحكمة التي يجب أن يفهمها معمر، قبل أن يبدأ الرسمً".
    هو الآن يمتلك هذا العقل الفوقي، والذي عليه أن يفهم كيف يستفيد من مجتمع البداوة الذي عاش فيه، ليخرج بلوحته المميزة إلى العالم، الموناليزا الجديدة..
    عندما سمع روحه تنطق بكلمة (الموناليزا) بصق على الأرض، فهو يكرّه ليونارد دي فينشي بشكل مطلق، قلبه معلق برسام الآلهة، قدوته.. الرجل الذي وقّع على اللوحة ليكشف عن هويته، وكتب تحت رسم الوجه "بيترو بيروجيو (نسبة إلى مدينته بيروز)، رسام مبدع، لئن ضاع فن الرسم لكان وجده، وإن لم يوجد الرسم أصلاً، لكان أوجده.. سلام في عام السلام 1500".
    ***
    بعد سنوات طويلة، وبعد أن اكتشف الصبي عاشق رسام الآلهة أن طريقته في الرسم، استبدلت الحامل والورق وألوان الرسم، بأدوات جديدة، واقعية ومنطقية، كان قد اعترف أهل بيروز أخيراً بعظمة بيترو فانوتشي، جاء هذا الاعتراف بعد خمسمائة سنة..
    في صيف 2004، أقامت بيروز معرضاً كبيراً لأعمال فانوتشي، انتهى بتغطية إعلامية جيدة، أُغلِقت أبوابه، وبقيت اللوحات في مكانها، لأن القائد الليبي سوف يصل بعد يومين من إسدال الستار على المعرض للطواف داخله. وقبل أن يزور المعرض، كان قد طلب من المرافقين الإيطاليين أن يمروا به على مبنى أكاديمية بيترو فانوتشي التي تُعلّم الرسم لطلبتها.
    "إنه الليل سيدي.. ولن يكون ثمة أحد هناك"، قال شاب إيطالي من المرافقين.
    "لا أرغب في رؤية ما يدور بالداخل، سأكتفي بتأمل المبنى من الخارج"
    لم يناقشه أحد، وبناء على رغبته سارت سيارة مفردة بهدوء وسط شوارع روما، مثلها مثل أي سيارة عادية، لتتوقف أمام المبنى.
    "ياه خمسمائة سنة ليعترف بك أهلك!"، قال معمر، ساعة وقف أمام واجهة الأكاديمية، في تلك الزيارة غير المعلنة، والتي رافقته فيها ابنته عائشة، وهناك أفصح لها عن سرّ يتفوّه به لأول مرة في حياته.
    "في ذلك الوقت المبكر يا عائشة، كنت أحلم بأن أكون رساماً.. قضيت ليالٍ طويلة في محاولة لرسم لوحة تشبه الموناليزا، لكنني فجأة فهمت أن هناك من هو أهم من ليونارد دي فينشي"
    "تقصد بيترو فانوتشي؟"
    كانت عائشة من الذكاء بما يكفي لتفهم الطريقة التي يفكّر بها والدها، أحياناً تخفق في هذا الشيء، في هذه المرة لم تكن قد بذلت كثير عناء لتصل إلى الإجابة، فقد كانا على بعد خطوات من مدخل الأكاديمية.
    "فانوتشي بالطبع.. إنه أعظم شخصية في تاريخ الإنسانية.. منه استلهمت الكثير من تفاصيل حياتي فيما بعد.. إذا كانت إيطاليا قد غزت ليبيا فإنها لم تفعل هذا الشيء إلا لكي يكتشف أبوك فانوتشي"
    "كان بإمكانك أن تكتشفه حتى لو لم تغزو إيطاليا ليبيا"
    "لا أبداً..."
    هذه المرة، لم تفهم ما الذي يقصده والدها، انتظرت أن تسمع منه باقي الإفادة، لكن القذافي أجلّ بقية الحكاية إلى ما بعد الفراغ من زيارة المعرض في بيروز، بعد أن قضي قرابة الساعتين متجولاً بين اللوحات. توقف أمام رسم بيترو لوجهه.. عينان معبأتان بتعب آثر، شفتان غائصتين في حياة أليمة.. مشهد لكائن ضرجته الجراح والأحلام، أيضا الهموم الثقيلة.."هل كان بيترو بكل هذا الضعف الإنساني، أم أنه صوّر نفسه على هذه الشاكلة؟" سأل معمر نفسه، وانسحب بسرعة من أمام رسم الوجه، حتى لا تلحق به عائشة وهو يقف هنا، حتى لا تكتشف كم كان بيترو هزيلاً وضعيفاً، لكن حتى لو لحقت به سوف يُوجِد له مخرجاً سريعاً.. وهذا ما حدث بالفعل، لأنه بمجرد أن تحرك إلى اللوحة التي تجاور تلك التي تجاور لوحة الوجه، حتى سمع عائشة تكلّمه:
    "بابا.. هل شاهدت تلك اللوحة؟"
    التفت اتجاهها، ليراها تشير إلى اللوحة ذاتها..
    "وجه باترو.. نعم شاهدتها.."
    "يبدو...."
    لم يدعها تكمل:
    "هكذا هم الرسامون الإلهيون، لا يكشفون عن هويتهم، جوهرهم.. الله يا ابنتي لم يخلق العالم خيراً مطلقاً وقد كان بإمكانه ذلك.. لقد أوجد الشر والناس الضعفاء والحقراء، لكن هؤلاء الحقراء والمتشردين وبائسي الحال لا يعكسون أي شيء فيما يتعلق بضمير الله الحقيقي، لا يعكسون ذاته الحقة وإنه محب للجمال والقوة، كاره للضعف والهوان.. إنه مجرد فعل تضليلي لكي يُغيّب الربّ جوهره".
    واصل: "يسمح الفنان للسذج أن يوجهون له الإهانات، وأن يحتقرونه كيفما شاءوا، وحتماً سيكون ضاحكاً وهو يسمع لهذا الهراء، ولا يهمه الأمر مادام من يوجهون هذه الحقارات كائنات ########ة، ليس لها أي قيمة، فما لم يكونوا رسامين ليس بإمكانهم أن يفهموا الرسم.. لقد تعرض بيترو لإهانات كبيرة سكت عليها، قالوا عنه إنه فنان نسخي فارغ، ووصفوه بمحدودية الخيال، حيث لا جديد له، فلوحاته بما حملت من شخصيات كانت مستنسخة عن بعضها البعض، لم يكن مغامراً كبيراً، يخترع في كل يوم لوحة مختلفة، تنسف تقاليد الرسم وثوابت الوعي، كان بيترو يقابل هذه الترهات بالضحك، كان متأكداً أنهم يسخرون منه، خاصة أولئك الذين يسمون أنفسهم نقاد الفن، ويدّعون حراسة النظام والألفة في الكون، لكنه كان كلما ازدادوا سخونة زاد بروداً، اعتقد أنه كان يجلس وحده ليراهم مجردين عن أي حكمة في فهم العالم".
    بدت عائشة مستغربة وهي تسمع والدها يتحدث عن الفنان الذي يسكنه، أشواقه في الطفولة أن يصبح رساماً مشهوراً على شاكلة بيترو، رسام الآلهة.. فكرت أن تسأله "هل أخفقت المسار يا والدي؟.. كان بإمكانك أن تكون ذلك الرسام الذي عشقت ورغبت، لكنك اخترت طريقاً وعراً"، ظل السؤال يؤرقها، إضافة إلى أشواقها لسماع باقي الحكاية عندما كان والدها يستلهم على ضفاف خليج سرت سيرة بيترو، ليكون هو بترو آخر، بيترو لن يتأخر الاعتراف به خمسمائة سنة.
    غادرا المعرض، وما أن ركبا السيارة، التي قادها القذافي بمفرده هذه المرة، سألته عائشة عن تلك اللحظات القديمة، الغامضة لتسمعه يحكي وكأنه يحدث نفسه...
    ***
    " لو لم تغزو إيطاليا ليبيا، لما اكتشفت بيترو أبداً، ما كان ليحدث هذا الشيء، لأن الرسام العظيم، (يوضح لها: أي الله) طابعه النظام، يريد لكل فعل أن يقوم على الألفة مع النظام الكوني الذي خلقه، لا مجال للعبط، ولا فرصة لكي نرى الأشياء عشوائية جائرة.. لقد بُني الكون من العدم، أنا شخصياً أؤمن بأن العدم هو الفوضى التي ترتب عنها النظام.. وقد عشت في طفولتي هذا الشيء، أؤمن بأن المرء لكي ينجح في اختراق الحياة يجب أن يبدو غريباً، نادراً، فريداً في نوعه.. الجنس البشري، أي يكون عدمياً، عشوائياً ما أمكن، في نظر الآخرين، حتى ينجو بنفسه من نظامهم الكذاب، ويبدأ من الصفر".
    "كنت قادراً على التقاط التفاصيل ال########ة، لكن لولا بيترو لما تعلمت أن التفاهة هي التي تقود إلى المعنى. بعض الناس يظنون أن المعرفة الكبيرة تولد من القراءة العميقة في مؤلفات الفلاسفة العظام، أنا لا أؤمن بذلك، منذ طفولتي لا أعرف هذا العبث. إذا أنت ظننت أن كل كتاب يشير إليه الناس على أنه كتاب عظيم، هو فعلاً كذلك، فأنت جاهل، تتبع ما يردده البعض كالببغاء الأعور. ما ينبغي أن تفعله أن تفكر في الأشياء المألوفة بطريقة مقلوبة، لكي ترى الجديد، لكي تصبح مستكشفاً حقيقياً. هذا لا يعني أنني لا أحترم الفلاسفة الكبار، أبداً هم مقدرون عندي، ولكن ما أعنيه يجب ألا نفكر بطريقتهم ونحمّل أقوالهم وأفكارهم ما لا تحتمل، لأنهم ببساطة قالوا ما يريدون، أما ما فوق ذلك فليس قولهم، ليس فكرهم، هو فقط ما تمليه خيالات الإنسان المريضة، حيث كل إنسان قادر على أن يجعل من كل أمر عظيماً ومفتوحاً للتأويل بقدرته على التخيل والسباحة في هذا البحر إلى مالانهاية.."
    "لهذا كنت دائما لا أقيم كثيراً مع الشخصيات المعروفة في التاريخ، ولا مع الأحداث التي يصفها البشر على أنها وقائع إستراتيجية في التاريخ الإنساني، كنت أبحث عن ذلك المنسي والمجهول، الغائب الذي يتم تجاهله وغالباً يحدث ذلك عن جهل، لا عن قصد،.. فأنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة.. لا يوجد شيء اسمه المؤامرة.. يوجد فقط ذكاء وغباء.. والغبي يبرر عجزه وفشله بأن ثمة مؤامرة تحاك ضده.. هذا ليس صحيح.. الأذكياء هم من يصنعون التاريخ بقصدية تامة وبوعي تام، وهم لا يصنعون أي مؤامرة.. لأن المؤامرة إذا افترضنا وجودها، لا تكون ضد جاهل، لأن الذكي لا يناكف إلا ذكي مثله.. لن يرضى بأن يضيع وقته مع جاهل، لأنه مغرور بعقله، بعبقريته، ولأنه يرى الرعاع رعاعاً وحسب.. ليس لهم مقام أكثر من ذلك.. وأنهم حتى لو وظفوا ذكاؤهم لما وظفوه في غير حقارتهم، بأن يجعلوا الذكي يذلهم ويستهين بهم، وهنا يا ابنتي لا توجد مؤامرة.. كما قلت لكَ هو عجز ليس إلا.. لقد كتبت في قصتي (تحيا دولة الحقراء) عن ذلك النموذج البشري، الذي يريد أن يبقى في الحضيض، حتى لو أنه تمتع بالذكاء، شرحت لهم لماذا هم يصرون على البقاء في الحضيض، قلت لهم: (شجعتم محتقريكم بكل ذكاء على أنكم تحبون الانحطاط فتمادوا في دفعكم بلا تريث، نحوه.. كنتم تبحثون عن حل عاجل لحالكم المذري.. وترون في التسليم لمحتقريكم بلا أدنى تردد حلاً على أي حال.. وتبالغون في ربط مصيركم بهم باعتباركم إحدى التوابع المكملة لحياتهم.. وإحدى الصور المزينة لها.. وإحدى الرذائل المترتبة عن تصرفاتهم.. وأحد الذنوب الناجمة عن سلوكهم.. وأحد الردفاء لأحمالهم، وكنتم ترتضون التحقير لأن مقاومته ليست من الأمور التي تسهل حياتكم معهم).. أحياناً أقول أن الغبي يمتلك من الذكاء بما يكفي للتمادي في جهله، أليس الذكاء في أن يراك الآخر غبياً لتتمادى في لعبتك..".
    "يا ابنتي يظل العالم أمراً ملتبساً، لو تمكن الإنسان من إدراك كنه هذا الشيء المجهول لانتهت متعة الحياة ولما كان هناك عظماء، ولما ولدت آلهة جديدة، ألا ترين أنهم يخترعون في كل يوم إله جديد، من القبائل الوثنية البدائية إلى القبائل الحديثة – كلها قبائل، كانت لهم قدرات خارقة على اختراع الآلهة. الإنسان مغرم بهذه الأسطورة الجميلة، أن يجد ما يستند إليه سواء في الغيب أو في الواقع.. ثمة آلهة تعيش في السماء وآلهة هنا في الأرض.. والذكي هو الذي يحرر نفسه من كل شيء، حتى يكوّن ألهه الخاص"..
    "لقد اعتقدت في فترة مبكرة من حياتي أن بإمكاني أن أفعل هذا.. أن أكوّن صورتي الخاصة للعالم، وكأنني فهمت وقتذاك أن الرسم هو ملهمي الذي سيقودني لعالم الحقيقة.. عرفت من خلال بحثي وتأملاتي ولحظات من الإلهام الصافي الذي لا يدرك الإنسان مصدره، أن الحضارة الإنسانية في بداياتها قامت على الرسم، وكل حضارة تريد أن تخلد في التاريخ يجب أن تهتم بهذا الشيء.. الرسم.. الفنون بشكل مطلق.. لكن يبقى الرسم هو الأهم..".
    "وإذا سألتني ما الذي يريد الرسم أن يقوله.. أوضح لكَ: هناك نوعان من الرسم، رسم سطحي ينبع من المشاعر الخارجية والانفعالات المسطحة، لا يغوص في العوالم الداخلية الخفية للإنسان، ورسم عميق مصدره غامض، وفي هذا النوع من الرسم، ينهي الرسام اللوحة دون أن يفكر أو يعي ما الذي يفعله بالضبط.. إنه ساعة ينهي اللوحة يتأملها، ليفاجئ بها تماما، بالخطوط، الظلال، الألوان، الأشكال.. اللوحة هي التي تشكّل ذاتها، كما الحلم يشكّل ذاته ويقحم نفسه في منام الكائن.. هل نحن نتحكم في أحلامنا، هل نشكلها وفق رغباتنا.. لا.. نحن نحلم ونخرج من الحلم، لنجد أننا رأينا أشياء قد لا نكون مهتمين بها في الواقع، وربما نستخف بها.. فالحلم يقودنا إلى عالمه ويخرجنا منه كالسكارى، دون أن تكون لنا إرادة، وكذلك اللوحة المبدعة الأصيلة التي بإمكانها أن تكون لوحة مقدسة خالدة، هي تحمل ذات الخواص، خواص الحلم، لأنها تقحمنا في عالمها وتحرّك أناملنا لكي نزخرفها، دون أن نفهم.. المهم ألا يفهم الإنسان، لأن الفهم هو قمة الجهل..".
    ".. الثقافة الإسلامية لم تحتف بالرسم كثيراً، لهذا كنت اعتقد أن الرسم هو أفضل مدخل لفهم التاريخ العربي والإسلامي بإطار جديد، فنحن أسرى ثقافة تُجرّد الأشياء، تحوّل المجسمات الثلاثية الأبعاد إلى مسطحات تسمى زخرفة، تسمى نقوش، أي شيء.. لكن في النهاية لم ينتج تاريخنا رسومات هائلة تُعلق في المساجد كتلك التي قام الأوروبيون بإنتاجها، ذلك التراث الزاخر الذي أصبح جزءاً من تاريخ الديانة المسيحية.. لنسأل أنفسنا ما أهمية مثل هذه الرسومات لو أنها كانت جزء من تراثنا؟.. وتخيلي معي لو أن تاريخنا كان قد سلك طريقا مختلفاً كان الرسم فيه هو المهيمن، إذن لاختلف التاريخ تماما، ولما كنا على هذا الحال الذي نحن عليه من تخلف مزرٍ.. لقد نجح الغرب لأنه اكتشف الرسم، ذلك السر الإلهي الغامض المتدثر في الإنسان، وبالرسم استطاع أن يعيد اكتشاف الآلهة، عن طريق اكتشاف الإنسان لنفسه بنفسه.. صحيح أنه في البداية كان هناك من يرفضون، من يعترضون، لكن الإصرار والقوة الناتجة عن المعرفة، تجعلان الفن في النهاية هو الذي ينتصر، ليقود حركة الدين والعلم معاً.. أضرب لكَ مثالاً.."
    "..لقد كان المصور (فيرونيزي) مفتوناً بسحر الحياة، بالإنسان كقوة جبارة ناضجة بالحيوية، وقد انعكست فتنته هذه في لوحاته. رسم مثلاً لوحة موضوعها العشاء الأخير، ظهر فيها المسيح على مائدة حافلة بالشراب والطعام بين أمراء بمدينة فينسيا، كانوا يلبسون أزياء مصنوعة من الدمقس والديباج، وحولهم الخدم بالكؤوس والصحاف.. لنسأل: ما الذي جاء بالمسيح إلى فينسيا ليجلس مع أمرائها، ويشرب معهم. في الواقع لم يحدث هذا.. لكن فيرونيزي جعله يحدث، استطاع أن يخلق تاريخاً جديداً للمسيح، وتاريخاً جديداً للمدينة التي يعيش فيها.. تخيلي معي أمر بسيط واحد، أنه بعد قرون طويلة ولأمر ما ضاع الكثير من التراث المسيحي لكارثة كونية، لم تبق سوى هذه اللوحة ومخطوطات بسيطة.. ألن يقول البعض أن المسيح ولد في فينسيا على الأقل زارها؟.. أليس من الجائز على الأقل القول بأن المسيحية كان مهدها إيطاليا وليس فلسطين؟!.."
    "..متعة الفن وقدرته تكمن في مثل ما فعله فيرونيزي وآخرون.. وبالطبع كانت هناك معارضة لهذا (الهراء) في نظر البعض.. فآباء الكنسية لم يرضوا عن هذه اللوحة، ووجهوا إلى الفنان اللوم والتقريع، قالوا: هذا (الدجال) أظهر المسيح في جو دنيوي صاخب!.. "
    ".. ما قالوه صحيح قطعاً بتقديرهم القاصر.. لكن هذا أيضا كان يمثل روح الحياة الجديدة، لو ولد المسيح في عصر أمراء فينسيا لما فعل غير الذي صوّره فيرونيزي.. هل تختلفين معي يا عائشة؟.."
    "..هؤلاء الفنانون يضفون الطابع الإنساني على المقدس، ساعة يكون بإمكانهم تحريك التاريخ نحو إضاءات جديدة، ولو لم يحدث هذا، لما كان الغرب قد ابتكر مخيلة هائلة وصلت إلى القمر.. يسمى ذلك بـ "أنسنة الدين".. حيث يصبح الدين هو الحياة كلها، خيال الإنسان وأحلامه.. وعندما أقول يصبح الدين هو أحلام الإنسان فذلك مربط الفرس.. لأن الأحلام لا تعرف القوانين، لا تعرف القواعد، تحرر كل شيء.."
    ***
    توقف القذافي بالسيارة عند ناصية شارع في بيروز ، قريباً من مبنى قديم، يتجمهر أمامه قلة من البشر، وفي البداية لم تنتبه عائشة أن المبنى عبارة عن دار سينما، ولم تكن تعلم ما الذي يفكّر فيه والدها بتوقفه في هذا المكان.. لكن بمجرد أن قال لها: "ما رأيك أن نشاهد فيلماً في باقي هذا الليل؟".. حتى فهمت كل شيء.. لكنها لم تشغل بالها بمراد والدها، لماذا سينما وفيلم في هذا الوقت بالتحديد، قالت لنفسها: "ثمة هدف ما.. لا أفهمه.. والدي هذا يعيش الحياة على أنها حلم..".
    كانت عائشة مجهدة، ولم تفصح عن ذلك، حيث رافقت القذافي ودخلا سويا من البوابة الثانية، حيث لم يكن هناك سوى اثنان فقط من الرواد.. فالتذكرة هنا أغلى، وجلّ الجمهور على شاكلة بؤساء هيجو، فإيطاليا لم تعد بلداً مترفاً لغالب سكانها.. ولم يكن ثمة من يملك انتباهاً ليفهم أن القائد الليبي في هذا المكان.. خاصة أن الملابس التي كان يرتديها مع نظارة بإطار بنفسجي، وطاقية تشبه طاقية رعاة البقر (الكاوبوي) جعلت مرأى الرجل غريباً ومختلفاً، وغير مكتشف.
    عندما دخلا، لم يكونا على علم، أي فيلم تعرضه السينما في هذا الوقت؟.. هل هو فيلم واقعي رومانسي، كلاسيكي، خيال علمي، أم دراما ساذجة؟.. وقد قال القذافي لعائشة: "لن ننظر لأي ملصق، أو نسأل لنعلم أي فيلم يُعرض اليوم.. دعِ الأمر يكون مفاجأة لنا!".
    عائشة تمنت أن ترى فيلماً يدور حول فكرة ما، لم تكن قادرة على تحديدها، تخيلت لو أن بطل الفيلم شخصية تشبه بيترو رسام الآلهة الذي كان والده عاشقاً له في صباه.. وراحت تتخيل أن الفيلم يدور موضوعه عن حياة بيترو، التي لا تعرف عنها أي شيء.. لكن من خلال ما سمعته من والدها وبأحلام اليقظة، وهما يعبران ممر صغير مغطي بالسجاد الأحمر.. رأت بيترو ضاحكاً في بداية الفيلم وفي نهايته.. كان قادراً على افتعال الضحك لجعل الحياة تكتسب معناها، كان يحمل آلة غريبة لم تشاهد مثلها من قبل، يعزف بها موسيقى هادئة.. ستتبين بعد قليل أن الموسيقى التي تخيلتها، كان مصدرها مكبرات الصوت في القاعة.. موسيقى تفوح منها رائحة كنائس عتيقة، ربما معابد في العصور القديمة، في مكان ما في العالم، لا تقدر على تحديده.
    "ترى أي فيلم سيبدأ بعد قليل؟.."، سألت والدها..
    ابتسم ابتسامة مقتضبة، وهو يرد عليها: "ليس مهما.. المهم أن يحقق الإنسان المتعة من أبسط الأشياء، من أي شيء.. بإمكان أي فكرة ########ة أن تكون عظيمة، وبإمكان أي فيلم حتى لو كان ساذجاً أن يوحي بمعاني كبيرة.. هذه هي عظمة الحياة.. وسر الإله.. ألم أخبرك أن التفاهة هي التي تقود إلى المعنى؟!".
    بعد قليل أُطفئت الأنوار، في القاعة العليا الصغيرة، والتي لم يكن بها أشخاص عدة، سوى القذافي وعائشة، ورجل عجوز كان يتوكأ على عكاز وهو يتلمس طريقه في الممر الأحمر، ترافقه سيدة متقدمة السن، أكبر منه، وهناك أيضا طفل في الرابعة من عمره مع والدته على ما يبدو، شابة لم تتجاوز الثلاثين.. ورجل له وجه كوجه شيطان متمرد.. حليق شعر الرأس يعلق قرطاً كبيراً من النحاس على أذنه اليمني، وقد لبس قميصاً بدون أكمام، مستعرضاً وشماً يحمل رسومات تتداخل فيها أشكال لا يمكن تمييزها عن بعد، كأنها مثلثات ومربعات ودوائر. أثارت انتباه القذافي لكنه لم يهتم بها كثيراً، عندما توقفت الموسيقى الكنسية، ليبدأ الفيلم.
    بمجرد أن توقفت الموسيقى الكنسية (كما تخيلتها عائشة)، وبدأت موسيقى الاستعراض في الفيلم، حتى أدرك القذافي ولكن دون أن يتأكد تماماً، أن هذه الموسيقى قد سمعها من قبل.. موسيقى تشئي إلى ما يشبه التفتح في الذهن، لمن يسمعها.. كأنما تنقل الإنسان في طريق لا يكون السير فيه سيراً واعياً.. وهذا ما كان يبحث عنه القذافي لأنه أسرّ لنفسه قائلاً: "الطريق الذي تدركه جيداً وتعرف أنه غير وعر، ليس هو الطريق الذي يجب أن تسير فيه..". وما أن قال لنفسه هذه العبارة حتى عبرت بذهنه همسات من سيمفونية المزامير لسترافنسكي، وبعد قليل اكتشف أن حدسه صحيحاً إلى حد ما، دون أن يتأكد أيضا.. فما الذي جاء بموسيقى المزامير في فيلم سينمائي.. هل قام المخرج بسرقتها أو استعارتها وزجّ بها في الفيلم؟.. ربما!.. ففي عالم تداخلت فيه الحقائق بالأشياء الغامضة، كل أمر جائز.. وعامة الناس أصبحوا سذج تنقصهم الثقافة الكونية التي تؤهلهم لفهم الحقائق الكبرى..
    على الشاشة الكبيرة ظهر اسم الفيلم (ضوء الشتاء).. والذي سبق للعقيد أن شاهده من قبل، ربما مرتين أو ثلاثة.. ربما أكثر.. لم يكن مشغولاً بالبحث عن عدد المرات.. فهذا الفيلم بالتحديد كان قد حرّك فيه عوالم سحرية ومفاتيح رمزية للوجود، عندما تابعه لأول مرة قبل سنوات لا يتذكر عددها الآن.. لكن الأهم من ذلك بالنسبة له، أن الحظ كان حليفه، فقد شعر بأنه كان يحتاج فعلاً لمشاهدة (ضوء الشتاء) في هذه الليلة.. هل كان شعوره دقيقاً، ليس بالإمكان الجزم، خاصة إذا ما تعلق الأمر بعقل له قدرة أسطورية على المزج بين الماضي والمستقبل، الممكن واللاممكن، الخيال والحلم، على نحو غير مُفسَّر، حتى لصاحبه. فقد تهيأ له أنه أثناء نظره إلى وجه بيترو في المعرض، كأنه سمع صوت خفي ينبعث من شفتي بيرو.. ذلك الصوت يشبه موسيقى الفيلم الذي بدأ الآن.. ليس بإمكانه الجزم.. مرة ثانية وأثناء قيادة السيارة في شوارع المدينة، فيما كانت الأنوار الخافتة ترسم ظلالاً للأشجار، رأى رجل يتسكع أمام حانة، يشبه إلى حد قريب، بيرغمان..
    عبر الاسم بذهنه بوضوح.. انغمار بيرغمان، مخرج فيلم (ضوء الشتاء)، أيضا.. (عبر زجاج عاتم)، وفيلم (ساعة الذئب).. التقاه القذافي مرة واحدة في حياته لم تتكرر، لكنه التقاه كثيراً في لحظات تشبه الحلم.. في ذلك اللقاء العابر كانت الموسيقى عاجزة عن اتخاذ علاقتها السرية مع الأشياء في تفسير جزء من غموض الكون.. كان القذافي لا يزال يرى الرسم على أنه العلامة الكبرى في كيمياء العالم وجوهره الخفي.. لاحقاً سيجمع بين الاثنين (الموسيقى والرسم) بشكل ساحر.. ولكن قبل أن يتحقق هذا الأمر، الذي بدأ كحلم، كان ذلك اللقاء، الذي فتّح الذهن، بإشارات كانت غاية في الأهمية!...
    ***
    في غينيا الجديدة، كان اللقاء الأول والأخير مع بيرغمان، وقد وصل إلى هناك ليصوّر فيلماً بين سكان جبال (البابو)، تلك القبيلة الغينية ذات التاريخ الغريب.. هل هو أمر مخطط من قبل الله، أم صدفة بارعة في التخطيط لذاتها، تلك التي جمعت الاثنين، في هذه المنطقة الغامضة من أفريقيا؟، لا أحد يفهم.. غير أن بيرغمان قال للقذافي:
    "يبدو أنه ثمة هواجس مشتركة تجمعنا بخصوص رؤيتنا للعالم؟"
    القذافي ردّ على بيرغمان قائلاً:
    "لقد جئت هنا رغبة مني في الالتقاء ببعض شيوخ قبيلة البابو، لا يتعلق الاجتماع بنوايا سياسية أو دينية، فقد جئت لكي أفهم!"
    "وما الذي تود أن تفهمه من شيوخ البابو؟.. "
    توقف بيرغمان قليلاً قبل أن يتكلم القذافي، واصل:
    "إذا كان موضوعاً خاصاً فهذا تطفل مني.. ولكَ العذر"
    "أبداً ليست ثمة أمور عظيمة تستحق الستر.. أنا أفهم أن أمثالك لهم قدرة على رؤية الجانب الآخر من الأشياء.. لقد شاهدت مجموعة من أفلامك، واستطيع البرهان على ما تفوّهت به.."
    "سيدي هذا فخر بالنسبة لي.."
    انتظر القذافي أن يسمع باقي الكلام، أحس أن بيرغمان لديه ما سيقوله بخصوصه.. وبالفعل واصل المخرج السينمائي قائلاً:
    "أيضا أنت أيها القائد.. تبدو لي شخصية جديرة بالاحترام.."
    اصطنت القذافي بإرهاف شديد، يسمع بيرغمان، يحدثه:
    ".. تبدو لي ومن خلال ما قرأته عنك وتابعته، رجلاً عصرياً بكل ما ينطوي عليه هذا التعبير من دلالات تحطيم الأوثان ومهاجمة المعتقدات المتوارثة.. لكن ما أبعد من ذلك في تقديري، سحر خاص يتعلق بقضية ظلت تهمني شخصياً، لا أدري هل سيكون هناك إجحاف بمحاولة إلصاقها بك أم لا.. صحيح أن الأمر يرتبط بي، لكن لا بأس فنحن نفهم العالم من خلال ذواتنا وتقديراتنا الشخصية، ليس أمامنا من مفر سوى أن نفعل ذلك، ليس بإمكاننا التحرر من أسر الذات لنرى العالم من الخارج، كأن يطير الإنسان مثلاً، يحلق ليقدر على مراقبة من يكون هو.. ومن يكون الآخرين.. إنها حالة إلهية وفريدة.. الوصول إليها يعني أن الفرد سيكون قادراً على وضع أحكام دقيقة وصارمة عن كل شيء.. قد أكون استطردت في الكلام، لكن ما أعنيه أن ذلك الذي ظلّ يهمني، وأراه فيك.. ظلٌ لحقيقة ما، كأنما جميعنا نبحث عنها.. ربما الحالمون على الأقل.. هذا الظلُ لشجرة لا شبيه لها على الأرض، ومن خلال تسلق هذه الشجرة يصل الإنسان إلى غصن معين، فرع معين، سيجد فيه ثمرة ما، لفاكهة ذات مذاق جديد.. فاكهة غير أرضية بالتأكيد.. هذا المذاق الساحر، يُعين الإنسان على تحريك الذهن لرؤية الجانب المقدس من الكائن البشري، أي من ذاته.."
    صمت بيرغمان في إشارة إلى أن أنهى تفسيره، وفي إشارة ثانية تقول للقذافي، لم تحدثني بعد عن ذلك الشيء الذي جئت لتفهمه من زعماء البابو!..
    أوضح القذافي:
    "قبل شهرين افتتحت مؤتمراًُ طبياً في طرابلس، شارك فيه مجموعة من العلماء المميزين، وعلى هامش المؤتمر نظم حفل عشاء، وجلس إلى جواري الدكتور كالتون جاجدوسيك.. أتعرف هذا الاسم؟.."
    بيرغمان صمت قليلاً قبل أن يرد:
    "اعتقد أنه نال جائزة نوبل في الطب.. لكن لا أعرف بالضبط ما هي الإضافة التي قدمها ليحصل على الجائزة..."
    ضحك القذافي، بطريقة جعلت بيرغمان يشعر بالضيق.. لكن القذافي أسرع للاعتذار مع التوضيح:
    "عندما تعرف السبب الذي جعلني أضحك، ستجد لي العذر.."
    انتظر بيرغمان ليسمع السبب.. قال القذافي:
    "إذا كنت أنت هنا وسط قبائل البابو، كان عليك أن تعرف الإضافة التي قدمها الدكتور كالتون في مجاله.. لقد توصل كالتون في مجال أبحاثه عن الأمراض المعدية، إلى أن بعض سكان البابو، كانوا من أكلة لحوم البشر حتى نهاية الخمسينات، وقد فنت مجموعة من هؤلاء بسبب وباء غامض يسمى (كورو)، انتشر بينهم وقضى عليهم.. وهو مرض يقضي على كل من يصاب به في غضون سنة.. لقد أكد لي كالتون في ذلك العشاء، أن ميكروب هذا الوباء لا ينتقل إلى الإنسان إلا من مصدر وحيد هو اللحم الآدمي.."
    قاطعه بيرغمان:
    "موضوع الفيلم الذي نصوّره يدور حول أكلة لحوم البشر.. لقد تشابهت الرؤى إذن.."
    "لكنك لم تكن تعرف شيئاً عن بحوث كالتون؟"
    "لم أعرف عنها، هذا حقيقي.. لكن كانت لي مصادري المختلفة.. ألا ترى أن المعرفة يمكن أن تستقى بأكثر من طريقة، ومن أكثر من منبع..."
    "هذا صحيح..."
    واصل القذافي:
    "سأجيب على سؤالك.. لقد جئت إلى شيوخ البابو، لأفهم لماذا يأكلون لحوم البشر.. وهل هذا الأمر حقيقي أم مجرد أساطير؟.. فأنا مهتم بما يدور في أفريقيا، قد تكون تعلم ذلك.. ولدي شبه يقين بأن كثيراً من الطقوس الأفريقية يجب أن تفهم على نحو علمي.. في الغرب ثمة مهتمون بأفريقيا، ومن يقومون بأبحاث كثيرة في قضايا من هذا النوع، أعني تلك القضايا المتعلقة بالطقوس الغريبة، وما يمكن أن يراه البعض أساطير.. لكن بعضهم، إن لم يكن أكثرهم لا يقيمون بحوثهم على تدقيق ودراسة متفحصة.."
    "هل هذا يعني أنك تشكك في أبحاث كالتون جاجدوسيك؟"
    "لا يتعلق الأمر بالتشكيك.. بقدر ما يتعلق بالبحث عن الحقيقة.. هذا إذا ما وُجدت.."
    "وهل وصلت لشيء؟"
    "يؤكد الشيوخ هنا بأن طقس أكل الآدميين، لا يزال موجوداً...
    يشعر بيرغمان بالخوف، يرتعد على نحو غير مقصود، يسرع القذافي لطمأنته بشكل ساخر:
    "لا تخف مادمت في حماية القذافي... فأنت في أفريقيا، لا تنسى ذلك.."
    يواصل:
    "يجب أن ترى الصورة بشكل واضح.. هم يأكلون لحم الآدميين، ولكن بعض أن يموتوا وليس قبل ذلك.. هل اطمأننت؟"
    "المعلومات التي عندي أن هذا الطقس قد انتهى منذ أكثر من خمسين سنة، وقد تأكدت من هذه المعلومات من خلال الاتصال بالجهات الرسمية في غينيا قبل أن أصل إلى هنا.."
    يضحك القذافي، يرد عليه:
    "عليك أن تصحح معلوماتك.. هؤلاء الناس لا يأكلون الغرباء، هم يكرمون أصدقاءهم وأقاربهم بعد وفاتهم، فيأكلون أمخاخهم وقطعاً بعينها من أجسادهم!"
    يشعر بيرغمان بالراحة، يتنفس بعمق، ثم يشعل سيجارة وهما في أعلى الجبل بين مساحات ممتدة من الخضار، من بعيد يبدو الأفق منسوجاً بغيوم ممطرة. قد تمطر بعد قليل بحسب توقع أحد شيوخ البابو، الذي رافق القذافي إلى داخل الخيمة التي نصبت أعلى الجبل.. فيما اتخذ بيرغمان طريقه إلى فريق عمله، موجهاً لهم التعليمات بجمع آلات التصوير والمعدات، لأن الماء قادم من السماء.. فيما كان يقول لنفسه: "أفريقيا هذه أرض الأساطير.."
    ***
    أثناء انغماس عائشة مع الفيلم الذي تراه لأول مرة، كان القذافي قد استرجع صورة ذلك اللقاء في أعلى الجبل مع بيرغمان، وكيف أن الرجل قرر في اليوم التالي، التراجع عن فكرة الفيلم بشكل نهائي، بعد أن التقى واحداً من زعماء البابو بصحبة القذافي..
    كان بيرغمان يعتقد أنه يفهم العالم جيداً، خاصة بعد أن أصبحت طريقته في الاستلهام والإبداع تُدّرس في جامعة (دريو) Drew بالولايات المتحدة، في مادة تحاول أن تفهم طبيعة تفكير الأشخاص المبدعين، وإلى حد بعيد كان المخرج المشهور يظن أنه أفضل من يعرف الله، خاصة أن جميع أعماله قامت على موضوع جدلي واحد، تلك الرحلة التي لا يصل إلى منتهاها أي فرد.. الرحلة إلى الله، الكلام مع الذات العلية، وهو ذات الموضوع الذي يدور حوله فيلم (ضوء الشتاء).
    أثناء الطريق إلى الكوخ في الطرف الشمالي الغربي من الجبل، وبعد أن توقف المطر الذي هطل لعشر ساعات على الأقل، كان بيرغمان يصوّر للقذافي العلاقة بين الله والموسيقى من وجهة نظر خاصة كوّنها خلال سنوات عمره الحافلة بالتأملات والأحلام، والخبرات العملية التي قادته ليكتشف هو بنفسه، بيرغمان، الجزء المقدس في باطنه. كان يتحدث بنبرة تشبه الهمس، وفي أحيان كثيرة كان الصوت يختفي فلا يُسمع سوى خبط الأحذية على الأرض الخضراء المبتلة:
    "لقد جاءتني موسيقى ضوء الشتاء بما يشبه الحلم.. لا أدري كيف تولدت الفكرة ؟! لكنني إلى اليوم لا زلت على يقين بأن مزامير سترافنسكي كان لها علاقة بما تمّ فيما بعد.. كنت اسمع للمزامير وأنا جالس بهدوء تام في غرفة صغيرة لا توجد مدفأة بها، وكان الشتاء مدمراً، البرد يغلف الأشياء، يجعل الكائن يلتصق بمخه.. مع سريان الموسيقى في جسدي شعرت كما لو أن الدفء يحيط بي، كما لو أنني أدخل في كيس كبير من النار التي تشعرني بحرارة جسدي دون أن تحرقني.. تلك النار كانت لها قدرة سحرية على فتح نافذة في دماغي لأشعر بشيء ما يتحرك في المكان الضيق، والذي بدا في الاتساع تدريجياً.... بعد دقائق، هبت ريح قوية أطفأت النار، لأفتح عيني على ضوء بعيد، أكاد ألمح شعيراته، بويصلاته الدقيقة من خلال الزجاج في النافذة المربعة بالغرفة..... تقدمت لأفتح النافذة فرأيت بدلاً عن الحديقة الصغيرة في بيتي، أعمدة قوطية، ترتفع بسرعة، ثم تتعلق بها الحجارة في حالة وجد عميق، فالرسومات في الجدران.. في ثوانٍ كانت كنسية كاملة قد شيدت.. كما لو أن المشهد صوّر في سنين وأتيح لي رؤيته في شريط بسرعة فائقة تنتصر على الزمن نفسه.."
    "..كنت أنا من يتسكع في داخل الكنيسة الفارغة... وكنت أعرف أن اليوم هو تاريخ ميلادي.. ولكن قبل مائة سنة على الأقل.. في الخارج لا توجد أصوات، ولا أشياء.. واتخذت طريقي إلى المذبح وحيداً أشعر بغرابة مريرة، حنين لعالم مفقود.. وفجأة رأيت أمامي صورة المسيح معلقة على الجدار.. وفي تلك اللحظة قلت لنفسي: سأبقى هنا إلى أن أرى الله.. إلى أن يأتي الله.."
    "...تلفت في الغرفة، كان البرد قد اشتد، وذلك الرجل لا يزال في الكنسية أمام صورة المسيح في انتظار الله، وموسيقى المزامير لا تزال تعزف.. كان ثمة سياق تفتحي غارق في التيه، جعلني أخرج بموسيقى الفيلم من خلال تلك الإيحاءات الغرائبية والتي يتسق فيها الزمن مع الألفة وعذابات الإنسان في الأرض، مع رحلته في البحث عن الله.."
    "..أؤمن بأن الموسيقى هي ذلك الحيز المقدس، السري، والخاص جداً في الإنسان.. إنها السر الإلهي الكامن في الإنسان الحر.. من لا يكن حراً ليس بإمكانه أن يفهم الموسيقى، وبالتالي لن يعرف الله.. إن الله في تقديري فنان كبير، والذي يسلك طريقه إليه لابد له أن يكون فناناً، لن يكون فناناً بمثل قدراته قطعاً، لكن عليه أن يفهم أبسط الشروط على الأقل.. شروط التوازن بين الأشياء.. لعبة اللون والظل.. مثلما في الرسم، هناك لون وظل في الموسيقى، هناك أيضا نفس الشيئين في الفنون بشكل عام، حقيقة وخيال.. إلهام ووهم.. يجب أن يكون الكائن دقيقاً في التفرقة بين الخطين المتوازيين، والخطين اللذين بإمكانهما أن يتقاطعا في لحظة ما.."
    وصل الرجلان إلى الكوخ الذي علق على بوابته الصغيرة، قرنا ثور، وعلى الأرض رش دم فاقع السواد.. قد يكون لون بني آدم، مات للتوّ وأخذت بعض من أعضائه، أو مخه للأكل.. فسكان القرية، وقبل أن يدفنون الميت، وقبل مراسم العزاء، لابد أن يأتوا بميتهم إلى شيخ البابو.. زعيم هذه القرية.. فهناك أكثر من قرية للبابو في الجبل، وبالتالي هناك أكثر من زعيم، لكن طقوس الحياة تبدو واحدة، لاسيما فيما يتعلق بفكرة الحياة والموت.
    استقبل الشيخ، القذافي وبيرغمان، حافي القدمين، بابتسامة جميلة كما لو أنها جاءت من وجه رضيع يكتشف أشياء العالم من حوله، في محاولة لتمييز الألوان والأشكال.. كل شيء بالنسبة له مسطح وليس أمامه سوى تقسيم العالم إلى: ظلمة ونور. رأى بيرغمان أسنان العجوز، الطفل، قصير القامة، بيضاء تماماً، كأنها نبتت قبل ثوانٍ.. فيما اهتم القذافي بنور عينيه، كأنهما مغارتان سريتان في جبل منسي، وسط هذه الجبال الخضراء.
    العجوز يجيد فن الأتكيت بفطرته، دعا ضيفيه للجلوس على وسائد خشبية في فراغ الكوخ، بعد أن اعتذر لهما قائلاً:
    "يؤسفني أن الكوخ ضيق جداً.. نفكر في بناء كوخ جديد، ولكن ليس قبل أن نقيم العزاء للميت رقم 3 مليون وخمسمائة وسبعة وثلاثين.. (3.500.038)، لأنه لابد من رقم فردي في خانة عشرية تحتوي الرقم أربعة أي خانات الأربعينات، لكي نغير من ديكور الكوخ أو نعيد تشييده، هذا أمر موروث لابد منه، وإلا حدث ما لا يمكن التكهن به"..
    صمت قليلاً وهو ينظر إلى علامات الاستغراب في وجهي الضيفين، فأوضح لهما:
    "تبقى لنا ثلاثة فقط.. ويكتمل العدد.. ربما يموتون خلال شهور قليلة.."
    واصل:
    "..سأوضح لكما الأمر.. من السلف الأول ونحن ندون عدد الموتى في القبيلة.. هذا أمر حرص عليه الأجداد ونحن نحرص عليه.. توجد لوحة حجرية، عمرها مئات السنين.. ننحت عليها خط جديد كلما مات فرد في القبيلة.. طبعا الشيوخ الآخرون من القرى النائية، يأتون إلى هنا لكي يخبروننا في حالة حدوث حالة وفاة فنأمر النحات بوضع علامة جديدة.. يمكنني أن أطلعكما على اللوحة، لكن هذا الأمر يجب أن يبقى سراً لا يطلع عليه أحد.. نحن حريصون أشد الحرص على أن تظل تفاصيل حياتنا سرية.. يأتي كثير من الناس هنا، ولأهداف مختلفة، بعضهم يسمون أنفسهم باحثون، وبعضهم يقولون أننا رحالة أو سياح.. لكننا لا نتعامل معهم على نحو جاد.. لابد من تضليلهم.. شريعتنا منذ الأزل تقوم على هذه العقيدة.. لا تفصح لأي كائن غريب عن هويتك.. لذا ما يُكتب عنا في كثير من الأحيان لا يكون دقيقاً.."
    ابتسم القذافي وهو يسأل شيخ البابو:
    ".. وما أدارنا ربما نخضع نحن أيضا لتضليلكم، ما دامت هذه عقيدة تؤمنون بها.."
    قبل أن يجيب، وقف الشيخ، فرك يديه بقوة.. وصفق.. ليدخل رجلان ضخمان، وهما يحملان جثة ميت.. شبه عارٍ، مغطى من الوسط فقط.. كانت تنبعث منه رائحة ذكية، تبين أنه أنثى بوجه صارخ الجمال..
    قال الشيخ بعد أن وضع الرجلان الجثة وخرجا:
    "الآن ستشاهدان طقس الأكل بعد قليل، حيث سيأتي الكاهن المختص لجزّ الرأس وإخراج المخ، وللأسف لن نسمح لكما بالمشاركة في الأكل لأنكما غرباء عن القبيلة، إلا أن يسمح لكما أهل الميت.."
    انبعثت موسيقى جنائزية مع إيقاع الطبول في الخارج، مع جلبة تدل على أن الساحة الخارجية قد امتلأت بالناس، وعلى ما يبدو أن القرية تجمعت أمام الكوخ. بعد دقائق دخل صبي يحمل آلة صغيرة مدببة، أشار الشيخ إلى أن هذا الصبي هو كاهن القرية، الذي سيقوم بعمله على أكمل وجه، موضحاً للضيفين:
    "الكاهن عندنا لا يتجاوز عمره السادسة عشرة، ويخضع لتمرين روحي دقيق قبل اختياره، وتدريب عملي بعد اجتياز التمرين الروحي.. إنه لا يتكلم مع أحد، لابد أن يكون صامتاً، لا يسمح له بالكلام قبل أن ينهي عمله ككاهن، بمجرد أن يبلغ سن السادسة عشرة"
    ***
    بالنسبة لبيرغمان فإن ذلك اليوم القريب، البعيد.. يبدو ملغزاً ومدهشاً، "فقد كان الشاب الليبي في عنفوانه، في سنوات ثورته الأولى.. ما الذي جاء به إلى قبائل البابو؟.. يقول إنه جاء ليفهم!!.. لكن أي معنى بالضبط كان يبحث عنه.. يبدو الأمر غير قابل للسؤال". جالت هذه الأفكار في خاطر المخرج العجوز، قبل أن يتحسس وركه الموجوع، متأملاً بحر البلطيق، في ساعة صفاء جعلت الأشياء ساكنة، كأنما الزمن يبحث عن الهروب إلى الأمس، إلى أحداث لم تقع في الواقع، وما كان لها مكان سوى الخيال.
    في جزيرة (فارو) التي أحبها، وهو يقضي آخر سنوات العمر، دون أن يعلم بأن النهاية قد دنت. ظلّ بيرغمان يعيش أحلامَ يقظة متواصلة تمتزج مع رؤى في المنامات الطويلة أثناء الليل والنهار. وكثيراً، لاسيما في الأيام الأخيرة بات مشهد لقائه مع القذافي يسيطر على عقله اللاواعي.. يتمنى لو أن العمر كان قد أسعفه، ليخرج فيلماً عن حياة ذلك الرجل.. لأي سبب كان.. ليس متأكداً.. ما تأكد منه، رغبته فقط، والتي لا مجال لملاحقتها لشعور سيطر عليه مفاده: "ليس عليك سوى أن تتعامل مع رغبتك على أنها مجرد حلم لن يتحقق".
    بزغت الفكرة منذ ذلك اليوم الماطر، فقد عاد المطر للهطول من جديد بعد أن غادر الرجلان كوخ شيخ البابو. كان بيرغمان صامتاً، وكذلك القذافي، ويبدو أن كل منهما كان مشغولاً بفكرة ما.
    بيرغمان كان لا يزال يحاول الإجابة على السؤال.. "ما الذي يريد هذا الرجل أن يفهمه؟".. قال لنفسه: "لا اعتقد أن المسألة تتعلق برد الاعتبار للطقوس الأفريقية بنحو علمي.. ثمة ما وراء ذلك.. لكنني لا أعرف!". وقال ثانية: "مثل هذه المسائل ولكي تفهم يجب أن يتعامل معها الذهن بمستوى (فوقطبيعي).. حالة من تتويه وتشريد الخيال، وإعادة إنتاجه مرة أخرى.. التخلص من الصور والمجازات المعلنة.. ما يجعلني عاجزاً أنني لا أفهم أي ذهنية يُشكّل بها الرجل صوره ومجازاته".
    وسط تساؤلات بيرغمان، مع ذاته، كان مشهد الدم الفوّار متدفقاً من جمجمة الأنثى لا يزال معلقاً برأسه. كانت لحظات عصبية وغير محتملة، جعلت القذافي يشير إلى شيخ البابو، بأن عليهما أن يغادرا. وتبعه المخرج الذي أصبح بين شك وظن، هل سيكمل مشروع فيلمه أم سيغادر؟.. ذلك سؤال آخر ظل يقلقه، إلى جانب سؤاله الأول عن موضوع الفهم المتعلق برفيقه.
    الآن.. ومع سطوع الشمس بهدوء مع أول الصباح على البحر، تبدو (فارو) جزيرة مرهقة، كأنها تخرج اللحظة من صدفة مرمية على حافة الماء. يسرح بيرغمان بعقله بعيداً.. وهو يتنهد بصعوبة، يقول بصوت مرتفع: "يبدو أنه ليس في الحياة مجال لتحقيق كل الأحلام.. لقد كنت في طفولتي بارعاً في اختراع الأمنيات.. أصبحت مخرجاً مسرحياً معروفاً، أخذتني السينما.. عدت للمسرح....". توقف فجأة، ليسمع صوت ما يخبره من باطنه البعيد: "الحلم الذي لم يتحقق لم يكن حلماً، كان مجرد حاسة ناقصة لم تكتمل.. لكي يتعلم الإنسان التمييز بين حقيقة الحلم وكونه خيال لن يحال إلى واقع، عليه أن يطوّر تلك الحاسة المفقودة".
    هذه الكلمات بالضبط، التي تناديه من باطنه، كان قد سمعها من رفيقه بين أحراش البابو، والذي استطاع أن يقنعه ببساطة:
    "لا يحتاج الأمر لتفكير.. حلمك بأن تصوّر فيلماً عن البابو، لم يكتمل بعد.. ربما يكتمل ذات يوم ثانٍ، وإلى أن يولد ذلك اليوم، عليك أن تجمع فريقك ومعداتك وتسرع لمغادرة هذه الأرض.."
    "بكل هذه السهولة؟!"
    "حدثتني عن الجانب المقدس في حياة كل إنسان.. هذا الجانب عبارة عن لوحة يجب أن تكتمل بعناصر محددة.. بموسيقى شاعرية تنبع من روح الكائن الصادقة، لا من انفعالاته المؤقتة.. يبدو لي أن مغامرتك مع آكلي لحوم البشر، لم تكن موفقة.. إنها مجرد افتعال للبحث عن فيلم مثير، يستهوي السذج"
    صمت القذافي قليلاً، أضاف:
    "لمخرج ناجح مثلك، يجب أن تختلف الرؤية.. لا أحتاج أن أكون معلماً، لمن تدرب جيداً على معرفة الطريق الوعر.. الذي افهمه بأنه طريق لا يقوم على الهلوسات والانفعالات.. بل على الصدق مع الذات، على محاولة تلمس شيء حقيقي يكمن فيك.. بالنسبة لي ولتقدير ما قد لا أقدر على شرحه أو تفسيره، فإن مشروع هذا الفيلم لن ينجح الآن على الأقل.. لأن هناك ما هو غائب، مفقود.. هل صحيح أنك غير مقتنع برمة الأمر؟"
    ابتسم بيرغمان، وهو ينظر إلى الأفق محملاً بالمزيد من الغمامات الماطرة، بشياطين حرضته مرات ومرات على ابتكار أفكار وخيالات جعلته ينجح في مشواره الإبداعي، لكن الشياطين التي تسكن أعلى جبال البابو، كانت لها خواص مختلفة، من الصعب على المرء أن يتعرف عليها أن لم يكن متدرباً على فهم ماهية الشيطان.. كان يريد أن يفصح بذلك، أن يصرخ بملء شدقيه: "ياه لماذا كذبت على نفسك هذه المرة يا إنغمار؟.. كان يجب ألا تستجيب لصوت شيطان غير سوي!!".
    في تجاربه السابقة، كان يفهم جيداً، بيرغمان، أن كل صوره، مشاهد أفلامه المؤثرة والجميلة، صيغت بناء على نداء باطني، إلهي، رسام مجهول كان يعنيه على رؤية اللوحة معلقة في الفراغ أمامه. كان مؤهلاً لرؤية التفاصيل دون حواجز أو ستر، كأنما هناك بوابة يتم فتحها، إزاحتها ليطلّ على الفيلم كاملاً.. لاحقاً سيقول في حوار تلفزيوني على قناة MNDT في نيويورك، أجراه معه لويس فريدمان: "كل صوري أحلام.. ليس بمعنى أنها جاءت في الحلم، بل بطريقة ما شعرت بأنني كتبتها، وكأنني رأيتها قبل أن أكتبها".. سيقول ذلك، وسيفهم أن رحلته إلى البابو، كانت لهدف لم يكن مرئي بالنسبة له، لا يتعلق بموضوع الفيلم، ولا بنجاحه أم لا، خاصة أنه عجز عن تحديد مكمن البؤرة التي كان قد انطلقت منها فكرة الفيلم.. فدائماً لديه بؤرة مركزية تنطلق منها الفكرة، حتى لو كانت هذه البؤرة متوهمة لا يمكن القبض عليها.. ما حدث مع فيلم البابو، أن تلك البؤرة غابت واندثرت في حين يمكنه بسهولة تلمس كل البؤر الأخرى التي شاد منها عمارة أفلامه ومسرحياته الأخرى... "إنه الصدق مع الذات".. فهم الأمر هكذا.
    أمامه على بحر البلطيق، يحلّق طائر النورس.. ليس طائراً وحيداً، بل مجموعة من الطيور التي سيراها بعد قليل واقفة بجوار كرسيه القماشي. يرمي لها ببذور صغيرة كان قد حضرّها سلفاً لهذا الحدث السعيد الذي يستقبل به الصباح في فارو. ترتفع النوارس بأجنحة ملائكية، حيث لا مكان للشياطين.. يجد أن الذات باتت أكثر صفاء، وأن عليه أن يقتل الألم.. ألم الوحشة والعذاب، وعزلة الكائن الأرضي.. عليه أن يهرب فوراً من ضيقه، وأن يبدأ اليوم في كتابة سيناريو الفيلم.. الفيلم الذي انتظر أن يختم به حياته، دون أن يحدث ذلك. لأن المُسودّات والأوراق ستبقى في البيت الساحلي بالجزيرة إلى أن تأتي ابنته ايفا، وتعثر على كل شيء.. كل شيء تقريباً، إلا أحلام والدها الذي توفي دون أن يخلّف وراءه أعماقه اللاعقلانية، معرفته المباشرة لما خلف العالم من حقائق لا يفهمها عامة الناس.. الجانب المقدس الخفي الكامن في موقع ما من دماغه.. أو في مكان خارج الدماغ بافتراض أن الأدمغة البشرية ليست إلا أجهزة استقبال (ريسفيرات) لمحطات فضائية بعيدة.. هنا سيكون ما نستقبله في عقولنا من صور، أحلام، حقائق، جنون، مجرداً من المتعة.. متعة أن تكون أنت صاحب الفكرة، لأن هناك من يملي عليك، وعليك أن تحترمه، وتحني له الجبين.
                  

02-26-2011, 11:32 PM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 11-28-2009
مجموع المشاركات: 897

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رسام الآلهة.. فصول من رواية عن معمر القذافي كتبتها عام 2007 (Re: عماد البليك)

    لمزيد من الاطلاع
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de