سبدرات نقلا عن الاهرام

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-14-2024, 04:05 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-21-2011, 08:12 AM

badr alkalika
<abadr alkalika
تاريخ التسجيل: 02-25-2007
مجموع المشاركات: 974

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سبدرات نقلا عن الاهرام

    بكائية في زمان الانفصال (1)
    حجم الخط: 2011/02/20 - 13:49
    عبد الباسط سبدرات
    تمهيد للحظة البكاء
    لا أعرف تحديداً كيف تصنع العين البكاء؟.. كيف تستدر ضرع الدموع؟.. كيف تسوقها من ذاك النبع الخفي فتهطل غزيرة مالحة، فتسيل على الوجه دافئة بعد أن تغسل الجفن ثم تثير الأنف فيسيل دمعاً لزجاً أشبه بمقدمات الرشح!! الدموع هذه أشبه بوضوء العين لصلاة الحزن الذي يصدّع الكبد ويحرق الفؤاد فيكون هذا التفاعل الكيميائي الرباني الذي أبدع صنع وعلم وظائف أعضاء الإنسان.
    البكاء ليس فقط هذا الدمع الذي يسيل وإنما هو الوجع الوخَّاز الذي يصيبك فلا تملك إلا أن تشهر هذا الحزن بنشيد وهتاف البكاء الحزين.. عندها وبعدها يرحل عنك ثقل جثم على صدرك فتلجأ إلى الله راجعاً مسترجعاً مستغفراً، ولولا نعمة البكاء لانفجرت أفئدة واحترقت أكباد وغشي العمى العيون، وعشيت الأبصار وغشيت..
    ورحم الله ابن الرومي الذي فلسف البكاء وعرَّف وظيفة الدموع يوم فقد واسطة عقد بنيه:
    «بُكاؤكما يُشفِي.. وإنْ كان لا يُجدي..
    فجودا فقد أُودي.. نظيركما عندي»..
    هذا جَلَد في فقد وَلَد غلبت عليه رحمة البكاء..
    ومالي استشهد بابن الرومي ولا أبدأ ببكاء المعصوم المجتبى الصامت يوم فقد ابنه إبراهيم:
    «إنَّ العينَ لتدمع والقلبَ ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الله.. إنا لله وإنا إليه راجعون»..
    هذه التقدمة والتبرير لحالة البكاء التي جعلتني أكتب (بكائية في زمان الانفصال).. لا أكتبها طالباً سماحا - وإن كنت دائماً أرجوه - ولا اعتذاراً لضعف انتابني- ولمن اعتذر- عن رحمة تجعلني أبكي!.. ألم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من عين لا تدمع!؟.. وكيف لا أبكي وقد يبكي الناس جميعاً لفراق أخ أو ابن أو حبيب أو والد أو أُم؟.. وربما يبكي آخر لفراق قرية أو مدينة أو مدرسة أو فريق كرة قدم.. فكيف لا أبكي لفراق جزء عزيز من وطني بتره حق تقرير المصير، فقرر بتر (صُلب وأرجل السودان) باختيار الانفصال، ليصبح السودان جزئين: شمال قديم، وجنوب جديد ليصبح دولة..
    أي عين ترى خارطة السودان بشكلها الجديد وقد حجب الانفصال فيها رؤية السوباط والزراف وبحر العرب، ولا يصيبها مرض فقد مناعة البكاء وتكلُّس الكبد وتصلُّب الفرح..
    أي كبد لا يصدعها رؤية جوبا وقد قررت أن لا يدخل حدود دولتها الجديدة أبناء الشمال إلا وقد حصلوا على تأشيرة الدخول؟!..
    ألا يعيد مثل هذا الشرط تأشيرة الدخول للمناطق المقفولة؟.. في زمان المفتشين الإنجليز..!!
    لقد كنا نتحدث عن أن السودان تحدّه تسع دول.. ودولة الجنوب الجديدة تحجب عنا جواراً لبضع دول!! ألا يثير هذا الحنين لمناحة يبكيها كل نحاس ونائحة وثاكلة!!..
    نعم أبكي.. «وليست النائحة كالثاكلة».. وأبكي لأني شريك أصيل في ما حدث ويحدث..
    ربما يقول قائل ممن لم يرحمهم الله بنعمة الدموع.. ذوي الأكباد الصخر: «إنما تبكي الحبَ النساءُ»، وما ينبغي للرجال البكاء.. وهؤلاء (غُلف) القلوب.. غلاظ الوجوه هاجرت من شفاههم صدقة الابتسام.. «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة»، وأنا أبكي متصدقاً في حق وطن كما تبسّمت في وجهه دوماً وهو وطن واحد متَّحد..
    أطلتُ البكاء مبرراً هذه (البكائية) التي هي في واقعها استرجاع للزمن الجميل في حقبنا التاريخية المتعددة.. قصدت أن أطوف فيها مثل أُمِّنا (هاجر) لا أبحث عن ماء وإنما أبحث عن رفقة تشاركني هذا الفقد الجليل.. لهذا بكيت بعد أن أبلغت نبأ الانفصال لسلاطين وملوك السودان.. أقمت سرادق هو فسطاط السودان القديم كله، واستدعيت ملوك نوباتيا.. والمقرة وعلوة.. وأقسمت على مجيء ملوك كرمة وملكات مروي.. وملوك الفونج وسلاطين المسبعات، والثلة المجيدة من سلطنات دارفور.. وعرجت على سواكن وأبطال كسر المربع الذهبي ولبّى دعوة الحضور المهدي وخليفته الشهيد.. واحتضنت باكياً فرسان اللواء الأبيض وقادة مؤتمر الخريجين.. ووقفت مع قادة مؤتمر جوبا والمائدة المستديرة، واتفاقية أديس أبابا.. ودخلت البرلمان لأشهد لحظة إعلان الاستقلال المقترن بوعد (الفدريشن).. وطوّفت على «اتفاقية أديس أبابا»، ومؤتمر الحوار الوطني واتفاقية نيفاشا، ومصرع جون قرنق.. ثم الأعوام الانتقالية كاملة الصعود والهبوط... و...
    هل مثلي أطالوا البكاء؟.. أم كان لنبأ الانفصال عندهم شأنٌ آخر!!
    هذا ما ستفصح عنه جهيراً هذه البكائية، غير أنه يلزمني أن أوضح وأؤكد.. وأنا أكتب هذه «البكائية» أني لا أتنصل مطلقاً عن مشاركتي الفاعلة في صنع القرار السياسي؛ وزيراً ومستشاراً، وشاهداً حاضراً على اتفاقية نيفاشا.. ومشاركاً فاعلاً في تنفيذ بنودها وصياغة قوانينها وراضياً رضاءً حقيقياً عن أن يختار أبناء الجنوب حق تقرير مصيرهم، وملتزماً بقرار الانفصال الذي أصبح يقيناً.. لكني أملك حق أن أبكي واحتضن تاريخ وطني وأبلّغ هذا الحزن بهذه المقالات التي لا أبرر فيها مشروعية للحزن، وإنما ضررة يقتضيها هذا الحدث و«هذا أضعف الإيمان».
    { الصفحة الأولى:
    كانت الهجرة من تخوم كرري حتى حطَّ الرَّحل في تلة تشبه (ضهر التور) عند مسيد (بأُم دبيكرات)، قد استغرقت أياماً من رهق وجوع وظمأ.. الأقدام تشكو وجع التورُّم جراء مشي أشبه بالسعي بين الخوف والرجاء.. والعيون مقرَّحة المآقي وقد هجر الدمع الجفون فأصبحت كبئر معطلة من سوافي الرمل وعاديات الأيام.. والصدور تغلي وتفور كما (تنُّور) نوح يوم الطوفان.. الخاطر محتل بمشهد المدفع يطحن عظام الدراويش كحبات الدخن في (مراحيك) الفرقان.. الدم والأشلاء والجثث والملابس المرقطة والدم عليها يصرخ فتغدو مناحة لصبي عريس..
    موكب الخليفة جريح الكبرياء.. كلمة (موكب) تبدو غير مناسبة، ولكن جلال الرجل ووجهه الملتحي بالشيب الرمادي كأنما رضع ثدي رماد.. وأنفه التي مرغها في السجود صلاة جامعة في صحن المسجد طوال ثلاثة عشر عاماً غدت كمئذنة، (المسبحة) لا تعرف ركوناً أو انكساراً.. يمضغ حبات (القرض) في استمتاع كأنما (القرض) رمانة من جني الجنة.. و(المسبحة) تكرُّها أصابع عرفت يتقلب (اللالوب) بين أصابع ما انغمست في طعام حرام.
    (فَرَشَ) (الفَرْوَة) رفيقة الدرب..التي ذهب بعض الشَّعر منها جراء السجود والركوع والقيام، فأصبحت هرمة عجوزاً كأنها لم تكن تلك التي تغار منها (عجميات السجاد).. الفروة سلخت من جسم (ثور) شبع من حشائش (رهيد البردي)، واختيرت بعناية هدية لخليفة المهدي.. وكأنما خلق الله ذاك الثور ليكون جلده (الفروة) التي تشهد مصرع الشهيد..
    في الركعة الأولى تلا بعد الفاتحة (سورة النصر)، وهو المهزوم مادياً بجيش الفتح، والمنتصر شهادةً.. فداء دولة ودين وجهاد..
    في الركعة الثانية قرأ (سورة الناس)، يشكو ظلم بعض الناس لربِّ الناس..
    في جلوس (التشهد)، تشهد ثلاثاً، ثم تلى التشهد وكأنه يستطعم طعم كل حرف.. حتي إذا ما أتى الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، في الصلاة الإبراهيمية دمعت عيناه وغامت على الوجه ابتسامة رضا كمن رأى مقعده من الجنة.. ثم اعتدلت رقبته ليسلم السلام، حتى إذا ما مال نحو اليمين ارتجف نصفه اليمين كمن يذوق طعم الموتة الأولى.. وصرف العنق من اليمين نحو اليسار، فالتصقت الكبد بالرئة.. فأسرع بالسلام!!..
    وقبل أن يبدأ (التسبيح) استقرت بضع رصاصات في مكان الكبد.. وخرَّ ساجداً.. شاهقاً ناطقاً (بالشهادة) التي زلزلت أركان (أُم دبيكرات).. وكسرت كبرياء (ونجت باشا) الذي تقزَّم أمام الشهيد.. باشا بلا (باشوية)، ورأى في الجثمان المُسجَّى (حوش الخليفة)، و(الطابية)، وكل مآذن السودان ترفع النداء مصحوباً برِزِم نحاس من جلوس الفهود والزراف والغزلان، وحُمر الوحش، رِزِم مخنوق وفصيح!! وفيه لهجات تداخلت بين المحس والارتيقا، وقبائل (الهمج)، ولغة (الكاجا)، وفصاحة (النوير).. رأى (ونجت) المخذول بالنصر الكاذب رأس النيل ينبع من فم الخليفة، فيملأ الرهدان وينسرب طرباً في سهول البطانة، ويبطئ السير في مستنقعات الجنوب..
    تعجب (ونجت الجنرال) في لغة الشهادة التي جعلت النيل يمشي من الشمال نحو الجنوب.. (الجنوب) ليس جهة في لغة الجغرافيا، وإنما كيان إنساني كامل التكوين.. بقدمه اليمين يمشي النيل، وبقدمه الأخرى يكتسب النيل الطمي.. (الجنوب) سر الفتح، وخاصرة الأمر القادم في أجندة الجنرال!!!..
    صعدت الروح الطاهرة إلى أعلى الفراديس.. و(ونجت) يقرأ قصيدة (فظي.. وظي) لـ(اللورد كبلنغ)، وطوى درويش مفجوع جريح (الفروة) كمن يطوى من السودان كل الجنوب!!.. وتمتم بكلمات تناثرت في فضاء زمان ومكان.. تحكي غربة وطن غادر خليفته وإمامه الدنيا والسودان كامل التراب!! فكيف إذن؟!؟.. لم يقدر الدرويش على تتمَّة الكلام..!!
    { الصفحة الثانية:
    في حي (الموردة) وكان النيل يومها يلتصق بالسكان التصاق القوارب القادمة من الجنوب، تحمل شحنات الكتل الخشبية من أشجار الزان والريش وجلود الوعول وأنياب الأفيال..
    (الموردة) حي جثا عند ركبة النيل عند مدخل (البقعة)، بقعة نقية التراب.. حمراء بلون خجول الحُمرة كلون الدم عندما يطمره التراب أياماً، ثم تزيح هبوب رخوة عن وجهه التراب فتبهت الحُمرة القانية، ويشوبها فتور الألوان عندما يجلدها حر الصيف بسياطه اللاهبة.. تربة قوية متماسكة كأن الأسمنت استوطن شرايينها وأوردتها.. ويصبح عسيراً جداً كسر حيطانها بعد البناء..
    سكان هذا الحي هم مزيج من أجناس دفعت المهدية بهم مجاهدين.. مهاجرين وأنصاراً.. ومثل تربة أُم درمان.. طينة الأصل فيهم حمأ مسنون.. ارتوى من (بحر أبيض)، حتى فاض في وجوههم، فتماسك الطين والنُّطف النجيبة، وتخلَّق إنسان متفرد التكوين.. جمع الدم والألوان من ترك ودينكا وعمراب ومحس وجموعية وركابية ونوبة.. وكان الوصف (إنسان أم درمان)..
    (أم درمان)، (صُرّتها) الموردة، ولها أحياء تشابه الموردة، كأنها استنساخ منها، أو منها تم استئناس الموردة واستنساخها!!
    في ضحى من يوم الجمعة.. اجتمع بعض من أبناء السودان المسكونين بحب النيل والأرض التاريخ.. متعلمين، لأن صفة المعرفة والتعلم والشوق لصنع التاريخ هي التي جمعتهم يوماً (أفندية).. كما كان يُطلق على من يختارون العمل في الحكومة.. (خريجون) كما كان وصفهم بعد خروجه من المكاتب في الأماسي، فيما اصطلحوا على تسميته (النادي)، وفيه يمضون المساء وكل الليل.. (متمردون) كما تصفهم أقلام الاستخبارات إن وصل همسهم لأذن المتلصصين، وشباب لأن جذوة وشرارة الثورة فيهم في تمام الفتوة والاشتعال..
    وخلص الاجتماع العشرين لميلاد (جمعية اللواء...) اختيار اللون الذي يناسب هذا اللواء اقتضى خيارات عدة، استقرت عند اللون الأبيض.. تأسست (جمعية اللواء الأبيض) تعكس فروع النيل الأبيض (علي عبد اللطيف)، وكأنه بحر العرب دينكاوي، صقيل البشرة كشجرة الأبنوس.. عنيد في الحق، شديد الاعتداد بجنسيته السودانية التي تربطه بخط الاستواء ومدار الجدي، التي تجعل لسانه عربياً فصيحاً، ولهجته الدينكاوية معضددة التكوين، إنسان السودان عربي الهوية والتوجُّه، فهو لا يكتفي بسودان موحّد إنما بوحدة وادي النيل، يجلس على يساره عبد الفضيل ألماظ.. فيه صلابة واعتداد الدينكا والإرث العسكري.. وقوة المصارع الذي يبقى فرس الرهان.. عسكري لحد العسف في تلميع ما يزين كتفه من رتبة، بينه وبين الموت شهادة، وهو يحتضن مدفعه عقد موثق بالدم النجيع.. وكوكبة من أبناء الشمال: (صالح عبد القادر، وسليمان كشة، وعبيد حاج الأمين، ومحيي الدين جمال أبو سيف، وإبراهيم يوسف بدري، وحسن شريف، وحسن صالح).. هذه (الثلة الثائرة) التي أسست مبتدأ جمعية الاتحاد في عام 1919م، واندمجت مؤخراً في جمعية (اللواء الأبيض) في عام 1924م.
    كانت أم درمان و(الموردة) ريحانة الثورة ورحمها الولود.. ودارت الأيام دورتها.. وجاء زمان قرر فيه (ياسر عرمان) أن يعيد من جديد (للموردة) دوراً وطنياً، حيث قرر أن يدشِّن حملته الانتخابية من منزل (عبد الفضيل ألماظ)، ويضم أسرة (علي عبد اللطيف) لذلك الاحتفال.. ولكن على حائط الغرفة كان علم الحركة الشعبية يصفق خافقاً، ويمد لسانه لوحدة وادي النيل!! ولجمعية اللواء الأبيض، ويهتف (ويايو) فيسقط من خريطة السودان بحر الغزال، وبحر الزراف، والسوباط، وتجف أشجار الزان والمانقو وحقول الباباي.. ويختفي من اللسان (عربي جوبا)، ثم يموت ثانية (منقو).. لأنه سمع لأول مرة «منقو قل: عاش من يفصلنا»!!
    { الصفحة الثالثة:
    كانت دهشة أستاذ التاريخ الزائر إلى متحف السودان دهشة صاعقة.. سيما أنه قد كتب عدة مؤلفات عن ممالك السودان الإسلامية.. مبعث الدهشة التي استحالت إلى حيرة.. أنه لم يجد أثراً تاريخياً واحداً يجسد أو يرمز إلى تلك الحضارات، وإنما كل شبر في المتحف مزدحم بفخاريات وتماثيل وجفان تتحدث عن حضارة كرمة.. وخزف مروي وبعض من حفريات نجحت في أن تضيف بعض آثار عن مملكة نوباتيا والمقرة وعلوة!!
    ظنَّ في بادئ الأمر أن هناك متحفاً آخر يضم آثار تلك الممالك.. إلا أنه اكتشف أن ظنه ذاك إثم مبين.. عندها كتم غيظه وأتمَّ الزيارة وانتهى إلى بعض رضا أن حمد الله أن جزءاً من تاريخ السودان لم يضع على الأقل بما حوى المتحف من كنوز مروي، وحضارة كرمة.. ثم سجل في (دفتر التشريفات) سطرين كانت كل كلمة فيها تقول كلمات هي أقرب إلى التعزية بفقد عزيز تجاهل أهل السودان وفرطوا في فقده..
    برنامج الزيارة الذي أعد للأستاذ الزائر الحائز على درجات عليا في علم التاريخ، وتحديداً تاريخ دولة الفونج، تضمَّن زيارة لمدينة سنار.. حين وصل الأستاذ إلى مدينة سنار لم يجد قصراً أو آثاراً تحكي تاريخ تلك الحقبة وإنما الذي بقي منها مقابر دارسة ومساجد تريد أن تنقضَّ من فعل عوامل الزمن وعاديات الرياح.. لكن الرجل وقد تنسَّم عطر التاريخ واستنشقه طوال أيام دراسته وجد أمامه حضارة الفونج جاثمة وشامخة يكاد يرى تفاصيل التفاصل فيها، يرى ما كتبه وسرده في مؤلفاته تجسَّد حياً ًأمامه.. يراه بياناً وعياناً.
    دخل صحن المسجد الذي هو مقر الملوك ورأى عشرات من مقاعد السلاطين.. (الككر)، وقد جلس عمارة دنقس وعلى يمينه عبد الله جمَّاع يوقعان التحالف الفدرالي الأول في تاريخ السودان والمصاهرة بين عرب القواسمة والدم الحامي الزنجي، فإذا تلك المصاهرة تنجب نسلاً نجيباً.. ويرى تناسل السلاطين والملوك، فتخرج ذرية نتاجها الملك بادي أبو رباط، والشيخ عجيب المانجلك.. المك عدلان.. السلطان نايل بن عمارة السلطان عمارة أبو سكيكين.. السلطان دكين بن نايل.. رباط بن بادي رباط أبو دقن.. السلطان أونسة.. بادي أبو شلوخ.. إسماعيل بن السلطان.. كلٌ جلس على (الككر)، وقد غطت الرأس طاقية ذات قرون «أم مرينان».. تزهو في الرأس فخراً كأنها تاج كسرى ومسبحة من خزف يغار منها اللؤلؤ والمرجان تتكسر حباتها في ذكر مكتوم.. صحن المسجد يمور بأصوات التلاوة وتمتمات تاج الدين البهاري وعلماء حفظ حقهم «ود ضيف الله» في طبقاته العتيقة..
    رأى «سنار» تأتيها قوافل التجار وهجرة العلماء الذين وفدوا إليها يطلبون قربها وأمنها وعطاياها»
    رأى دولة سنار تعوض التاريخ فقد الأندلس.. وترسخ لنظام فدرالي يوحِّد أمة السودان..
    «يوحِّد أمة السودان»، وقفت هذه الجملة حرجاً ثقيلاً في حلقه.. حرج تمثل غصة كادت أن تشنق حلقه.
    تساءل في فضول حرام: أيبلغ هذا الحشد من الملوك والسلاطين بأن....
    لم يكمل البلاغ، وانتهت الجملة..
    «بأن.....».
    { الصفحة الرابعة:
    «بخت الرضا» اسم لمكان شغل مساحة مهولة من معرفة الناس بها.. غطت وهي الجزء من مدينة الدويم على المدينة الدويم التي حجبها النيل من الناحية الشرقية حتى أصبح الوصول إليها عسيراً ومتعباً يقتضي ساعات لتعبر العبَّارة - التي اصطلح الناس على تسميتها «البنطون» - للوصول إليها وهي تمثل «سفينة نوح»؛ ففيها في كل شيء أزواج وأصناف.. أناس ودواب وزكائب وبضائع.. وهي تئن وهم على ظهرها يقطعون الوقت «بالتسالي»، والترمس» والأحاديث التي تبدأ بالسياسة وتعقيداها وتنتهي بالغزل في «المعلمات» اللائي غالباً ما يكون منهن رتل بسمعتهم من المسافرين «لبخت الرضا»..
    «بخت الرضا» اختيارهم باكراً لتكون «رحماً»، فيه توضع «نطفة» التعليم لتتم ولادة يسيرة وكاملة التكوين لمنهج التعليم وصناعة الكتاب المدرسي.
    مدير المعهد بريطاني اختير بعناية فائقة ليجعل من هذا المعهد مطبخاً لوجبة تصلح لكل فم ومعدة وذوق لمن يجدون فرصة في الالتحاق بمدارس السودان.
    مستر «قريفس» اختار بعناية أيضاً مساعديه من لمعلمين النجباء الذين يجعلون المهمة يسيرة وممكنة ومثمرة.
    دور المعهد يمثل احتياجين: إعداد المناهج، وتدريب المعلمين على اكتساب مهارات المهنة في تطبيق المنهج في المدارس التي يتولى المعهد التدريس فيها والتابعة إدارياً له.
    استطاع معهد بخت الرضا أن يحق نجاحاً باهراً في مهمته التعليمية وتخرجت منه أجيال وأجيال من المعلمين النابهين الذين تولوا وباقتدار تدريس الطلاب المقررات.
    «سُبل كسب العيش في السودان» هو كتاب علم الجغرافيا المقرر على طلبة السنة النهائية للمرحلة الابتدائية التي كان اسمها الشائع (الكُتّاب)، وهو منهج يتيح معرفة للطالب ليتعرف على أهل السودان وسكانه من خلال وسيلة كسب عيشهم.. وحتى يستطيع الطالب أن يستمتع بالدرس اختير أن تتم رحلات لتلك الأقاليم سُمِّيت «زيارات» ولخلق حميمية في تلك الرحلات اختير من كل إقليم من أقاليم السودان «صديق» يستضيف الطلاب عندما يحلون ضيوفاً عليه.
    لازلت أذكر حتى اليوم أولئك الأصدقاء وأحفظ أسماءهم عن ظهر قلب، وأذوق طعم طعامهم الذي «أكلناه» في الخيال.
    وحتى يتم تحفيز الطلاب على حفظ أسماء الأصدقاء نُظمت «أرجوزة» تجمع الأسماء والبلدان والطعام ووسيلة كسب سبل العيش.. كنا نغني وننشد تلك الأرجوزة وننتشي نشوة غامرة ونحن نقول:
    «في القولد التقيت بالصديق
    أنعم به من فاضلٍ صديق..»
    حتى إذا ما حللنا ضيوفاً في يامبيو.. يشتد العناق مع «منقو زمبيزي» ونجلس تحت أشجار المانقو والأبقار ذات القرون الطاؤوسية ترتع بقرب «الواكات»، والرقص العنيف الرقة يكسر كل حزن.
    { الحزن هو وسيلة التعبير عن الفراق «فراق الأصدقاء والأحباب». فكيف وفراق يقطع أرضاً ويفصل شعباً، ويبتر أصله ووليجة ونسب!!
    في خيمة الجغرافيا التي جمعت:
    صديق عبد الرحيم في «القولد» أحمد القرشي في «ريرة» محمد عثمان في «الجفيل»، محمد الفضل في «بابنوسة»، أحمد محمد صالح في «ود سلفاب» محمد طاهر في محمد قول تلفت الأصدقاء وتساءلوا أين منقو زمبيزي؟!
    صرخ خط الاستواء..
    بكت أشجار المهوقني..
    ترنحت قرون أبقار الدينكا من رؤوس الأبقار..
    وجفلت زرافة وتبعتها غزلان حزينة.
    وسرى لحن حزين وارتفع صوت طالب: «منقو قل: لا عاش من...» وصمت الغناء.
    { الصفحة الخامسة:
    في سبتمبر 1989م أطلقت الإنقاذ، وهي يومها وليدة تتحسس طريقها، وتسعى بذكاء لأن تسير في حقول الألغام السياسية والاقتصادية والحزبية بحذر شديد!!.. تمثل في بيانها الأول الذي لم يطرح برنامجاً أو خطة لنهجها، وإنما دعت إلى إنقاذ حال وعاجل لمعالجة أوجاع الوطن التي تقتضي نقله عاجلاً لمستشفى تتوفر فيه عدة غرف للعناية الفائقة.
    أطلقت يومها مبادرة تدعو للحوار!! والدعوة لم تكن أمراً عارضاً، أو محاولة لإرضاء، أو محاصرة سياسية لتساؤلات شغلت الناس عن هوية الإنقاذ ومن هم وراها، وإنما دعوة خُطط لها بذكاء ومهارة سياسية قرأت الوضع السياسي جيداً، واختارت سبعين رجلاً وامرأة هم صفوة من مشارب سياسية متعددة.
    الدعوة كانت تحت مُسمَّى «مؤتمر الحوار الوطني لقضايا السلام»، والقضية المركزية فيه هي قضية السلام.. وقضية السلام تعني تحديداً تحقيق السلام ووقف الحرب في الجنوب.
    غاص نصل الحرب عميقاً في خاصرة الوطن، فأحدث نزفاً دافقا وأجرى أنهاراً من نجيع دم، وأحدث فقداً جللاً في النفوس والأرواح والموارد، نزف بدأ قبيل الاستقلال كشرط لوعد يقطعه كل أبناء السودان في منح حق للجنوب في وضع خاص. واستمر إلى وقت انعقاد مؤتمر الحوار وبعده حتى عام 2005م، بتوقيع اتفاق نيفاشا.
    يوم أعلنت مقررات مؤتمر الحوار الوطني الذي خلص إلى توصيات كثيرة تشكل برنامجاً سياسياً لكافة قضايا الوطن، لإيجاد صغية تحكم السودان، وتحقق الاستقرار السياسي.. استقبل الشعب السوداني المقررات بفرح غامر وسعادة..
    خلص المؤتمر لصيغة الفدرالية وكأنه يفي بالوعد المكذوب في منح الجنوب حق الحكم الذاتي في السودان الواحد، ويوصد باب المطالب مفتوح الأشرعة السودان الواحد الموحَّد الذي فيه يتم اقتسام السلطة والثروة، ويكسر احتكار المركز للقرار، كان نتاج ذلك المؤتمر الذي فتح الباب واسعاً لمؤتمرات تعددت تناقش كافة قضايا الوطن.
    ووفاءً بمقررات مؤتمر الحوار بدأت جولات تعددت في برلين ونيروبي وأديس أبابا، وبنيروبي ومشاكوس حتى وُضع برتوكول مشاكوس الذي أنجز حلاً لقضيتين هامتين: حق تقرير المصير، وقضية الدين والدولة.. ثم اقترح مساراً حوارياً للوصول لبقية القضايا.
    «حق تقرير المصير» هذه العبارة عرفها أهل السودان باكراً.. لأنها كانت مطلباً وطنياً يخلص السودان من السيطرة الاستعمارية البغيضة، إلا أن أحداثاً جرت اختارت إعلان الاستقلال من داخل البرلمان بديلاً لحق تقرير المصير.
    غير أن هذا الحق جاء أمراً لازماً وواجب التطبيق في اتفاق نيفاشا الذي ينتهي بممارسة هذا الحق في أجل محدد بكتاب.
    كان الفقيد جون قرنق يرفض مقررات مؤتمر الحوار، ويرفض الحوار، ويصر على أن يستمر حوار النيران.. وقابلت الإنقاذ ذاك العناد «بصيف العبور».
    ثم اقتنع الفقيد جون قرنق تماماً بالحوار حتى وقع اتفاق نيفاشا، وبدأ المشاركة جهيرة القصد والمسلك، وبدأت مرحلة أصبح فيها تقرير حق المصير، يعني اختيار الوحدة قناعةً ومنهجاً وعملاً.. ثم.. عاجل الموت الحلم.. فغاب جون قرنق وغاب معه الحلم في الاختيار الصحيح.. ودون دعوة من أحد. احتشد نفس ذلك النفر الذين قرروا قرارات مؤتمر الحوار لقضايا السلام، وأصدروا بياناً آخر..
    قرأ البيان الناطق باسم خيار الوحدة.. جون قرنق ديمبيور.. قرأ البيان من «نيوسايت» .. كانت آخر جملة في البيان تقول:
    «أنا بريء مما صار»!!
    { الصفحة السادسة:
    كانت الرحلة من «جبل ملح» إلى مدينة «فشلا» مرهقة وقاسية وواجبة؛ فقد قرر الشهداء أن يكون اجتماعهم لجمعيتهم العمومية في «فشلا». أما لماذا اختاروا «فشلا» لأسباب عدة ربما يكون منها أن الكلمة فعل لاثنين قد فشلا في ما أوكل لهم من مهمة!! وربما لأن أعزاء من إخوة ورفاق صيف العبور قد صعدوا شهداء في موقعه استرداد «فشلا» وربما.. غير أن اختيار مدينة «فشلا» قد صادق في صحيح الاختيار، رغم أن بعضهم قد اقترح أن يكون الاجتماع في الخرطوم في «قاعة الشهيد الزبير»، لكن انعقاد الاجتماع في الجنوب وفي «فشلا» قد حسمته الحجة القوية أن الجنوب سيكون دولة مستقلة عن الشمال مما يقتضي الحصول على تأشيرات دخول، وربما تعرقل استخبارات سيرد عليها الشهداء بفعل قد جربته قوات الحركة أيام «صيف العبور»، ثم أن معظم الشهداء قد نالوا الشهادة في أحراش الجنوب، واسترداد المدن المغصوبة أيام الهوان.
    تحدد للاجتماع بند واحد: «من صيف العبور.. إلى شتاء الانفصال»، وقد تم اختيار لجنة تنفيذية لإدارة الاجتماع والتحضيرات اللازمة من إيصال الدعوات والترحيل والإقامة والضيافة..
    تكوّنت اللجنة من الشهداء:
    الزبير محمد صالح، إبراهيم شمس الدين، كمال علي مختار، محمد أحمد عمر، فضل السيد أبو قصيصة، أحمد الرضي جابر، موسى علي سليمان، د. عوض عمر، علي عبد الفتاح ومحمود شريف.
    تمَّ الاجتماع الأول للجنة التنفيذية بمدينة «توريت» بعد نقاش طويل اقترح عدة مدن ليتم الاجتماع فيها.. «مريل باي»، «الناصر»، واقترحت بعض المواقع «الميل أربعين»، «خور الزراف»، واقترح بعضهم «جوبا» لخيبة مؤتمرها القديم، ولترديد الأغنية الشمالية التي تشكو ظلم حبيب تساءل وسأل جوبا.. «جوبا.... عليّ!!»
    رأس اجتماع اللجنة الشهيد الزبير، وقد غامت على وجهه الباسم مسحة من أسى وحزن شفيف.. ولأن الرجل رأى وعاش منزلة الشهداء، فسرعان ما تبسَّم ولم يكن متبسماً ضاحكاً..
    الشهيد إبراهيم شمس الدين كان المقرر.. وقد بدا وكأنه شيخ كهل.. فقد سرق الشيب بياض قلبه، وأسلمه كاملاً لرأسه.. ولكنه بنفس قدر الحيوية والثبات، وكأن في ربيعه العشرين.. على يساره جلس د. عوض عمر وقد تخلى عن النظارة السوداء ولبس طاقية خضراء.. فضَّل فضل السيد أبو قصيصة أن يكون بجوار صديقه موسى علي سليمان.. في حين جلس علي عبد الفتاح بجوار أحمد الرضي جابر.. واكتفى كمال مختار أن يكون على مقربة من الشهيد الزبير من الناحية اليمنى.. ليجد فرصة في التحدث «راطناً» مع الشهيد بلغة «الخزرج» المغموسة في طين «حفير مشو»..
    تلا الشهيد أبو قصيصة آيات مفتتح الاجتماع:
    «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».
    ثم أجاز الاجتماع أجندته..
    { في يوم الزينة في قاعة الهواء الطلق التي تحفها أشجار المانقو، كان الحضور جلوساً على الأرض التي يكسوها بعض «النخيل» البري.. جلس الحضور بترتيب المتحركات والكتائب..
    «الأهوال والسبعون من أفرادها في الصف الأول)..
    ( الخرساء تليها الخضراء، وسيوف الحق، والوعد الصادق، والنجم الصادق
    { افتتح الشهيد عبيد ختم تلاوة الافتتاح بأواخر سورة الرحمن.. كان صوته حزيناً وفرحاً وقوياً ومؤثراً: «تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ». عندها سال خطان من الدموع.. دمع هطل على صفحة الوجه اليمين وغاض في اللحية.. والآخر على صفحة الوجه الشمال وكسا اللحية بشيب مهول..
    من الجهات الأربع علا التكبير والتهليل، وانسابت الأصوات العذبة ترفع أرجوزة عبد الله بن رواحة: «يا نفسُ إن لم تقتلي تموتي»، علا صوت يردد: «في حماك ربنا...» وعلا ركن: «الطاغية الأمريكان». واشتعلت الساحة بالحناجر المؤمنة الصادقة التي اتخذ الله أصحابها شهداء.
    نهضت سعاد طمبل «شهيدة الشرف تذكر أمجاد أم ورقة و«أم حرام» و«نسيبة» و«رابحة الكنانية» و«الميرام تاجا»، و«نفيسة أحمد الأمين»... و... و...
    كان لا بُد أن يخاطب الحضور ضيوف جاءوا من حقب التاريخ المختلفة؛ فقد لبّى الدعوة شهداء من «مؤتة» ومن «غزة» ومن «كابول» ومن «كرري» و«توشكي» و«المتمة» و«ساحة القصر» ومن أم درمان، المعذورة «بخليل»، تحدث مندوباً عنهم «جعفر بن عبد المطلب»، كان سليم الجسم كأن لم تُبتر في موقعة «مؤتة» يداه.. وبشّر الحضور بأن الأرواح التي صعدت إلى السماء موتاً حياة لن يصيبها نَصَبٌ وإنما نعيمٌ مقيم..
    قال الشهيد الزبير حديثاً بلغة دارجة فصيحة نظيفة بسيطة، وهو يحدق في «السوباط» ويرى «الناصر» ويسمع صفير «الصنادل» القادمة من كوستي.. تحمل ملحاً وتمراً وذرة ومواد بناء.. قال: الحمد لله اصطفانا شهداء واتخذنا وانتقانا لنكون فداء عقيدة وشريعة ووطن.. وطن سعينا ودفعنا أرواحنا ليكون واحداً موحَّداً.. ولقينا ربنا وهو كذلك.
    فجاء مهرولاً نحو الشهيد الزبير «أروك طون»، وقاطع الشهيد: «سيدي الشهيد أخبرني الآن ابن عمي «لوال» أن الحركة الشعبية قد فضّلت «خيار الانفصال» وبقي فقط عزف السلام الجديد في يوم الاحتفال».
    ابتسم الشهيد الزبير، ورفع الصوت: «لاحولَ ولا قوةَ إلاّ بالله».
    لكن أمير الدبابين علي عبد الفتاح استقبل القبلة، ودعا: الصلاة.. الصلاة..
    «وقفت صفوف الدبابين وراءه.. وبدأت صلاة «الغائب».
    { الصفحة السابعة:
    شهر يناير هو الشهر الأول في التقويم الميلادي، والمحرم هو الشهر الأول في التقويم الهجري، و«....» هو الشهر الأول في التقويم القبطي، و«....» هو الشهر الأول في السنة الإيرانية.. هذه المقدمة محاولة للتقعر وتأكيد المعرفة، واقعاً هي أقل من الوسط، الذي يعنيني هو الحديث عن شهر «يناير»، وهو ما يطلق عليه أيضاً «كانون الأول»..
    وبقصد أو لا قصد فقد تقرر أن يكون اليوم الفاتح فيه - كما يقول أهل الكتاب الأخضر- هو يوم إعلان الاستقلال رسمياً..
    وأصبح يوم 1/1/1956م يوم إعلان الاستقلال!! وتبع ذلك أن أصبح تاريخ 1/1/... يرتبط بعيد ميلاد ملايين من أهل السودان الذين أصبح لهم هذا التاريخ يوم مولد.. (كاذب) و(مزوّر)، وبذلك يمكنك أن تعرف أن صاحب هذا التاريخ إما أنه ولد في قرية ليست فيها «قابلة قانونية» أو شخص خاف أن يرفض دخوله المدرسة لأن سنه أكبر مما تطلب المدرسة.. أو يريد الالتحاق بالعمل ويريد أن يحسب له عمر نهاية الخدمة، وقد بلغ واقعاً السبعين، وملف خدمته يقول إنه في الستين فقط!! أو... ستجد عدة أسباب لذلك.. وتحدث أيضاً عدة مفارقات لهذا التقويم، فقد سبق أن ذهب أربعون طالباً جامعياً في رحلة إلى سوريا، وفوجئ موظف الجوازات بمطار دمشق أن الأربعين وُلدوا في يوم واحد هو 1/1.. وساورته شكوك غليظة في أن هناك تزويراً، ولكن الأستاذ المرافق نجح في تفسير الظاهرة ودخل الفوج دمشق آمناً مطمئناً..!!
    أعود ثانية لشهر يناير، وأعود ليوم إعلان الاستقلال.. لا أقصد 19/12/1955م وإنما أعني يوم رفع العلم والبداية الرسمية لإعلان ميلاد دولة السودان الموحَّد المعروفة «بجمهورية السودان» التي تقع بين خطي الطول (....) و(....)، وخطي العرض (....) و(....)، وتحدها شمالاً مصر والجماهيرية، وغرباً تشاد وأفريقيا الوسطى، وشرقاً إثيوبيا وإريتريا، وجنوباً كينيا ويوغندا وزائير.
    هذا التوصيف الجغرافي يعنيني تماماً.. لأنه سيختلف تماماً إذا ما...!! - لم أشأ أن أكمل العبارة.. سوف أفعل صاغراً في نهاية حديثي - والذي يهمني أيضاً أن ذاك الإجماع الذي خرج به الاستقلال قراراً لأمة جامعة كان شرطه الرئيسي منح الجنوبيين حكماً ذاتياً.. الحكم الذاتي هذا لم يتم تعريف له يحدد معالمه، وبيّن حدوده ويوضح سلطاته.. وابتلع الكل هذه (الكبسولة) الغامضة.. ولهذا لم تستطع الحكومات المتعاقبة تفكيك طلاسم هذه العبارة (الحكم الذاتي).. بعضهم أسماها (الفدريشن)، وبعضهم أسماها (الحكم الإقليمي)، وآخرون قالوا إنها الفدرالية والذي كانوا قد أخضعوا العبارة لمزيد من التفكر والتأمل والدراسة، قالوا إنها الفدرالية، غير أنهم جميعاً لم يتفقوا فعلاً على منح أي خيار من تلك الخيارات لأبناء الجنوب.
    كان اليوم الأول من شهر يناير وقد ازدانت ساحة القصر بالثريات والإعلام والبشر الذي غطى وغمر كل الوجوه يعلن أنه قد بدأت مرحلة (التعمير) بعد أن أنجزت مرحلة (التحرير)..
    كان ذلك الإجماع وقد وقف في الساحة بين الحضور من أبناء الجنوب... و... و... ووقف معهم معانقاً ومصافحاً من أبناء الشمال الجغرافي ... و... و...، ومن شرق السودان... و... و...، ومن غرب السودان... و... و...، ومن وسط السودان... و... و.... و... و...
    وقد طووا «شكلاً» جراح حوادث الجنوب، وبعض جراح حوادث «أول مارس»، وظن حتى المتشائمون أن قد تأمنت وحدة السودان.
    ثم اشتغلت الحرب ثانية!! وبدأت أصوات تطالب بالوعد «المخلوف»، وتمَّت عدة محاولات..
    اتفاقية أديس أبابا وجدت تعريفاً لكلمة «الحكم الذاتي»، ووقعت الاتفاقية لتطبيق «الحكم الإقليمي».
    ومضت سنوات عشر تطبّق هذا الحكم، ثم اشتعلت الغابة من جديد على يد الحركة الشعبية قاصدة تحرير السودان!!
    «تحرير السودان» عبارة هي أشدّ غموضاً ورمادية من كلمة «الحكم الذاتي»، «تحرير السودان» مِنْ مَنْ؟ وتحرير مَنْ مِن الآخر؟! ولكن العبارة وجدت تفسيراً جزئياً وهو ما تحقق في اتفاقية «نيفاشا»، وظل الشريك الجنوبي يعمل تحت شعار «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، وهنا تظهر جلياً مقاصد العبارة.
    وجهرت بالقصد على لسان مسؤوليها، وأصبحت العبارة تعنى فصل الجزء الجنوبي من السودان من خارطة السودان؛ لأن ذلك يعني لهم الاستقلال. والاستقلال يعني التخلّص من محتل أو مستعمر أو قاهر!!
    يناير الذي شهد اليوم الأول فيه إعلان السودان الواحد الموحَّد، هو يناير نفس الشهر الذي يشهد فيه التاسع منه إجراء الاستفتاء على خيارين أصبحا خياراً واحداً هو الانفصال.
    أذكر وأنا طالب في جامعة الخرطوم، وأنا «أحمر» المزاج، وأخضر «العود»، أن كتبت قصيدة أنعي فيها الاستقلال الناقص:
    «يناير يا صرخة جوعان
    آكل الوعد وشرب الصبر
    مثل الناس الغبش
    أكلنا الوعد.. وشربنا الصبر
    يا فرحاً أفرحنا ليلات..
    يا صرخة برق لا يمطر رعده
    يا كلمة لص يسرق وعده»..

    «لا أحتاج لكتابة بقية أبيات القصيدة المراهقة»..
    ولكني أكتب اليوم وقبل أن يحل شهر يناير.. «بكائىة في زمان الانفصال»، وقد أصبح «المزاج» بكل ألوان الزمن؛ الزمن الذي نثر على الرأس بعض ضوء من خيوط الشيب، وأصبح الساعد يشكو هشاشة ووهن العظام.
    البرلمان ذاك تمّ استدعاؤه لأمر يقتضي دورة استثنائية.
    فقط لجلسة «للتنوير» - تمَّ استخدام هذه الكلمة في أيامنا السابقة بشكل جعل كل اجتماع «للتنوير» -
    وقام آخر الأحياء من أبناء ذلك البرلمان، وأحضر (Power Point) فيها بدت خريطة السودان، وتحدّها جنوباً «دولة الجنوب».
    { الصفحة الثامنة:
    الجغرافيا تصنع التاريخ، والتاريخ والجغرافيا يكيّفان وضع الإنسان، فتجبره الجغرافيا على تحديد وسيلة كسب عيشه، ومن ثم تصنع تاريخه، وتحدد انتماءه لتلك الأرض التي تصبح له وطناً وإرثاً فيتعلق بها ويحمي ترابها ويفديها بنفسه وماله وولده، كانت تلك البقعة أو المكان مدينة أو قرية، تقع في الصحراء أو تستوطن الخضرة، تبعد أو تقرب من نهر، تحيطها الوهاد والجبال والرمال، أم يأتيها رزقها رغداً يسيراً فهو ارتضاها ولا يقبل لها بديلاً، يتشبث بترابها ولا يفرِّط في شبر منها، يتغنى بها ويموت فداءً لها..
    «وطني وإن شُغلت بالخُلدِ عنه..
    نازعتني إليه في الخُلدِ نفسي»..
    هذا التنازع الغليظ بين خيار الخُلد في جنة وأزمة، والاستمساك بأرض ليس فيها من مقومات الحياة شيئاً؛ يجعل الخيار سهلاً في البقاء بتلك الأرض التي تمد لها الجنة لسان الدهشة والحيرة، وهكذا الإنسان!! غير أن ظروفاً قاهرة قد تنشأ فيكون البقاء في تلك الأرض أو المكان خياراً صعباً وقاسياً، ويبقى النزوح منها، نعم النزوح، وهي كلمة تعني الهجرة القسرية لمكان لا تختاره وإنما تجد نفسك تسكنه قسراً؛ إذ لا بديل، هذا المكان يطلق عليه «معسكر»، وتضاف إليه هوية فرضها قرار النزوح فتكتسب صفة «نازح»، وتتم التسمية «معسكر النازحين»، فهو لا يتحدث عن واحد من الناس، وإنما عن أناس كثير، أجبرهم أمر قاهر أن يتركوا أرضهم وزرعهم وجزءاً من أفئدتهم هناك، ويستقبلوا قدرهم نازحين مشردين.
    عادةً ما تكون تلك المعسكرات في أطراف المدن القصية، وتكون البيوت فيها بدون بيوت!! (رواكيب)، (أكشاك)، (خيام)، (علب صفيح)، إلا وصف البيوت وتكون اللقمة فيها تفتقد مقومات ما يسمّى عند غيرهم (طعام)، والنوم عندهم أشبه بنوم المصاب بالملاريا؛ لأن (البعوض) هو وحده الذي يذكرهم بنعمة السمع..!!
    من معسكر (ود البشير) في طرف أم درمان، ومن (بانتيو) في جبل أولياء، ومن (كرتون كسلا) في شرق النيل، ومن (كمبو) في (دوكة)، ومن.... ومن.... ومن.... من كل المعسكرات التي انتشرت في أطراف مدن الشمال، استقرت تلك المعسكرات.. قلتُ (استقرت)، وأعرف أن الكلمة لا تعني ما نعرف وإنما الكلمة الصحيحة (جثمت)، وأصبحت ملاذاً غير آمن لأولئك الذين شردتهم الحرب، وقرروا النزوح، واختاروا وبوعي كامل أن ينزحوا إلى الشمال، كانت الهجرة لـ«كينيا» ممكنة، ولـ«يوغندا» متاحة، ولـ«زائير» قريبة، ولكن...!! الشمال وشمال السودان هو الأقرب والآمن والسلم، ولهذا نزحوا، ولهذا فضّلوا البقاء في المعسكرات بديلاً مؤقتاً للعودة إلى قراهم وأرضهم وترابهم.
    كانت الأيام الأولى للنزوح قاسية وصعبة، ولكن دفء الشمال وأهله، وبساطة النفوس وكيمياء التواصل جسّرت الهوة بين ما كان هناك وما أصبح هنا.
    كان الإحساس بكلمة «نازح» فادحاً ومؤلماً، ثم سرعان ما بدأت معالم الكلمة ووقعها على النفوس يبهت ويضعف ويتلاشى.
    ثم بدأت اكتساب بعض الصفات والممارسات والمعاملات والتقاليد والعادات حتى تمّ قدر مهول من الانسجام مع الأرض ولطعام والصفات.
    وأصبحت كلمة «العودة» أشبه بكلمة «البقاء».. وتناسلوا وبدأت حميمية الانتماء..
    في ضحى يوم من أيام العيد الكبير، ارتفع صوت من (مايكرفون) مثبت على عربة (بوكس): سارع بالتسجيل، مارس حقك في الاستفتاء، واحرص على حضور الندوة اليوم، باقان.. عرمان.. لوال.. أتيم.. وليد أبطال السلام.
    ازدحم السرادق بالحضور، وبدأ الحديث (باقان)، ثم... ثم... ثم...، ولم تعد أذن قادرة على سماع مزيد.
    إذن الأمر يعني هجرةً ونزوحاً جديداً..
    وتساءلوا في حرقة قاتلة: كيف نترك البيوت التي شادها التواصل والحميمية في صدورنا؟ كيف يتم هدمها؟ كيف نستطيع اقتلاعها؟ كيف يصبح خيار أن نغادر الشمال نهائياً بكلمة «الانفصال»؟.. ولم نمارس أصلاً هذا الاختيار..!!
    في الركعة الأولى تلا بعد الفاتحة (سورة النصر)، وهو المهزوم مادياً بجيش الفتح، والمنتصر شهادةً.. فداء دولة ودين وجهاد..
    أي كبد لا يصدعها رؤية جوبا وقد قررت أن لا يدخل حدود دولتها الجديدة أبناء الشمال إلا وقد حصلوا على تأشيرة الدخول؟!..
    تعجب (ونجت الجنرال) في لغة الشهادة التي جعلت النيل يمشي من الشمال نحو الجنوب.. (الجنوب) ليس جهة في لغة الجغرافيا، وإنما كيان إنساني كامل التكوين..


    --
    اليوم المقال الثاني

    متعة الحروف وسحر الكلام ويا حليلو الوطن ويا منقو
                  

02-21-2011, 08:48 AM

عادل فضل المولى
<aعادل فضل المولى
تاريخ التسجيل: 11-28-2004
مجموع المشاركات: 2165

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سبدرات نقلا عن الاهرام (Re: badr alkalika)

    Quote: يلزمني أن أوضح وأؤكد.. وأنا أكتب هذه «البكائية» أني لا أتنصل مطلقاً عن مشاركتي الفاعلة في صنع القرار السياسي؛ وزيراً ومستشاراً، وشاهداً حاضراً على اتفاقية نيفاشا.. ومشاركاً فاعلاً في تنفيذ بنودها وصياغة قوانينها وراضياً رضاءً حقيقياً عن أن يختار أبناء الجنوب حق تقرير مصيرهم، وملتزماً بقرار الانفصال الذي أصبح يقيناً.. لكني أملك حق أن أبكي واحتضن تاريخ وطني وأبلّغ هذا الحزن بهذه المقالات التي لا أبرر فيها مشروعية للحزن، وإنما ضررة يقتضيها هذا الحدث و«هذا أضعف الإيمان».

    التاريخ لا يحتاج شهادتك
    ولا اقراراً منك بالمسؤولية حيال جريمة ذبح الوطن
    ابك او نح ما شاء لك البكاء او النواح فأنت ومن شايعتهم مقبورون في جنهم التأريخ وبئس المصير..
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de