حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 02:43 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-28-2010, 04:31 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات

    في كل مرة، كانت تترك الباب وراءها مواربا.

    الدقائق، الساعات، الأيام، وشهور الترقب الطويلة تقترب من العامين بعد أول لقاء لي بها، في ذلك المساء. لم يحدث بيننا شيء. أوصلتني بدهاء أنثى إلى تلك النقطة التي يصعب على المرء عندها المضي قدما أوالتراجع. كانت تضعني على نار الكانون. تقلبني مثل قطعة اللحم المُتبل بقصص غرامياتها في السابق، تصبّ على فراشي عصير ليمون الوعد، تبتسم بولع الجلاد القديم نفسه. وتختفي، فجأة. لكأنها لم تكن.

    أثناء ذلك، لا تني تشاركني الأنخاب، تجالسني مؤانسة، تمنحني إمكانية أن أكتشف مفاتيح قوامها المتناسق، وكلانا عار تماما، لكنها لم تمكنني أبدا من رؤية النبع بعين موضوعي الخاصّ لثانية واحدة. كنت أواصل السير، متأرجحا على حافة اليأس والأمل. كانت تؤمن برغم حداثة سنها بحكمة أن الرجال إذا ما قضوا وطرهم يقلعون في وقت مبكر صوب مصبّات أخرى، ولا عزاء.

    أعترف أنني كنت مذنبة. كنت أعلم بعمق شعورك نحوي لحظة أن تركتك حائرا متسائلا. أتمنى أن تكون محتفظا به. لا لشيء سوى أنني ظللت أشعر بقوة تجاه ما يوحدني بك. إنني راغبة أن أكون لك. أجدني في أشد الندم للطريقة التي ظللت أعاملك بها. كل شيء في طريقه لأن يتغير. إنني مهيأة الآن لبدء حياتي معك. كيف لا!، وقد ظللت تُعلِّمني أشياء لم أكن أعلم بها. أتطلع بكياني كله لأن أكون زوجة لك وأمّا لأطفالك.

    كان لا بد للنهر من أن يشق طريقه باندفاع المنابع، حِيل الالتفاف حول العقبات، مهارة القفز فوق الهضاب الصغيرة، الولع بخلخلة الصخور الصماء، وحكمة الوصول إلى مصبّه البعيد بسماحة روح المنتصر بأقلّ قدر من الأضرار، أوالخسائر. هكذا، ظللت أطفيء ما اندلع من بركان الشهوة المتأجج داخل قمقمه بعلاقات عابرة. ولم يتبق من صبر السالكين سوى القليل. لعل ذلك ما أرادت هي منذ البداية وخططت له بل ونفذت أدق تفاصيله بلهفة سفينة تتهادى أخيرا بين صخور الشطء الطحلبية صوب مرفأها الأحبّ ظافرة آمنة. بدأتُ أهبط في تلك الأيام إلى شارع سيرجنت. شارع العاهرات الشهير في وسط المدينة. أتمعن في وجوه بائعات اللذة على جانبي الشارع. أختار ما يبدو لي بين أنفاس الخمر الثقيلة أكثرهن نضارة وبعدا من شِراك تلك الأدواء القاتلة. هناك كشفت نفسي عن مواهب دفينة في مساومة عاهرة على ما بين فخذيها بسماحة روح ضلت طريقها من عصر الأنقياء. أتفق معها على مبلغ معلوم. أحيانا، أبذل الوعد صدقة خالصة بكأس من الفودكا أوالويسكي. وكن يدركن جيدا أن ما يحدث أمر لا علاقة له بالصدقات. أعمال الخير في المدينة تسير على قدم وساق. الكنائس تفتح أبوابها في وجه السائلين. طعم لقمة العمل أكثر حلاوة. الكأس الواحدة قد تجلب كأسا أخرى فيضيع عليهن سوق الليلة بأكمله. ثم نسير بعدها معا مغذّيين الخطى مثل غريبين حقيقيين صوب أكثر الأشياء في هذا العالم ألفة وسعة في الدفء وحميمية بل ومعرفة راسخة وهياما وحبا. إنه السرير.

    لا نكاد على طول الطريق نتبادل كلمة واحدة.

    لا ملاطفة، لا إيماءة غزل، لا لمسة طفيفة، لا فواتح لشهية، ولا رغبة في معرفة شفرات الغرام السرية للآخر. ذلك أن الأسواق مناطق خالية من العواطف. بين البائع والشاري "يفتح الله أويستر". هناك دائما أمران لا ثالث لهما: الحاجة والسلعة في ميزان القوة الشرائية أوالربح. بعضهن كن ######ات. لا يتحركن قبل أن يقبضن على السعر مقدما. شرفهن الكلمة ولا خداع. أخريات في عِداد عامِلات في أسواق الأوراق المالية. يدلفن إلى الشقة وراءك مباشرة، قبل أن تُغلق أنت الباب جيدا، يكن قد ارتمين على أقرب سرير، أعينهن تقلب في عتمة الغرفة، بحثا عن أسهم زبون محتمل على ناصية قريبة وأخرى من شارع سيرجنت نفسه. لم يكن يخلعن ما عليهن من ثياب سوى ما كان ضرورة لإنهاء التعاقد بأسرع وقت. قبل حضورهن، حسب الراسخين في شؤون الدعارة، عليك أن تخفي جيدا ما زاد ثمنه وخفّ حمله. يعرفن جيدا طريق العودة بمفردهن. البنطال، بيت المحفظة، ذلك أول ما تهرع إليه يداك، حين يتم كل شيء. يذهبن فتجلس تفكر وقد زال عنك وجع الاحتقان إلى حين أن كليكما لم يكن منذ بداية التعاقد وحتى نهايته قد ألقى ولو مجرد نظرة متروية إلى وجه الآخر.





    يتبع:

    (عدل بواسطة عبد الحميد البرنس on 11-28-2010, 06:14 PM)

                  

11-28-2010, 04:55 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    الأغلى وليم:

    صباح الخير، يا حبي!!.

    لقد فكرتُ فقط في أنه يمكنني بالكتابة التعبير عن نفسي بصورة أكثر وضوحا عما قلته لك الليلة الماضية. أردت فحسب أن تعلم أنني لا أمزح بخصوص مشاعر الحبّ تجاهك. شعرت بمثل ذلك الحبّ من قبل في مرات جد قليلة ونادرة. في كل مرة، كنت أشعر بضعفي حين يتعلق الأمر بالتعبير عن شعوري لمن أحب. آمل من الله أن يكون لديه أشياء عظيمة في مقبل الأيام لكلينا. هذا إذا كنت لا تزال ترغب في العيش معي!!!.

    أدرك أنك محاط بأشياء كثيرة على صعيد حياتك.

    ما أطلبه أن أظل إلى جانبك كجزء مما يجري، حتى أساعدك في الخروج منها نهائيا. إنني في غاية الأسف للطريقة التي ظللت أعاملك بها في الماضي. ما أرجوه فقط هو أن تسامحني. إنني معجبة بالطريقة التي نناقش بها قضايانا. كيف نضع في الاعتبار آراء بعضنا البعض. أقول لك الحقيقة، إنني أبدا لم أقم بتسطير مثل هذه الرسالة لأحد سبق لي من قبل وأن اهتممت به. كذلك شعرت الليلة الماضية بحزن ومرارة حين علمت أن لك من قبل علاقة عاطفية سببت لك الكثير من الأذى. ما آمل فيه هو أن أكون حب حياتك. حاولت مهاتفتك في الماضي كثيرا. لم تجب على مكالماتي، وكما تعلم لم أترك لك في كل مرة أية رسالة. حين كنت بعيدة، ظللت أفكر فيك على الدوام، حتى أنني هاتفتك في "عيد الحبّ" الماضي راغبة بشدة في مواعدتك على العشاء. فكرت كذلك في مكالمتك في "أعياد الميلاد". لم يكن كذلك ثمة من إجابة من جانبك. لذا لا تقل لي إنني لم أفكر فيك حين كنت بعيدة، لقد كنت دائما في محور تفكيري. كنت دائمة التفكير فيك حتى وأنا أستمع لبوب مارلي. لدي قناعة راسخة أننا إذا ظللنا زوجين سوف ننجز الكثير من الأشياء بما فيها تلك الأشياء التي خالجنا شعور ذات يوم أنها أشياء مستحيلة. لكن دعني أقول لك إنني لا أرضى مطلقا بأخذ المرتبة الثانية في قائمة مَن تحب. أخيرا، إنني في غاية الأسف لما بدر مني تجاهك في الماضي من جفاء وصد وغرور إن شئت. ذلك أمر ليس بوسعي تداركه أو تغييره الآن. نعم، كل شيء قيل وتمّ. حسنا، يمكنك أن توقظني في أية لحظة إذا كانت هناك بعض الأشياء لا تزال مبهمة فيما قلته لك للتو. حبيبتك، أماندا.


    يتبع:

    (عدل بواسطة عبد الحميد البرنس on 11-28-2010, 06:34 PM)

                  

11-28-2010, 06:59 PM

Abdalla Gaafar

تاريخ التسجيل: 02-10-2003
مجموع المشاركات: 2152

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    البرنس
    شكرا لقلمك الانيق الرائع وهو يزيزن صدر هذا المنبر والذي اضحي في حاجةماسة لذلك...واصل

    الود والتقدير

    عبدالله جعفر
                  

11-28-2010, 08:48 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: Abdalla Gaafar)

    أخي عبدالله، كل الأمنيات الطيبة لك. تحياتي.


    كانت تشير إلى حوالي الثالثة بعد منتصف ليل شتائي، العاصفة الجليدية المستعرة في الخارج لا تزال تصتخب مثل حرب ضروس لم ينتصر فيها أحد، حين تناهى طرق على باب غرفة النوم ذات النوافذ الزجاجية الواسعة، قبل أن يُدفع الباب ويطل عبر فراغه وجه سمانتا ملفوفا داخل تلك العتمة، وقد بدا لسبب ما مثل شيء ينتمي إلى خارج قاموس هذا العالم، قائلا "وليم، أماندا، أشكركما، لا بد لي أن أنصرف الآن". كما لو أن ذلك يحدث داخل كابوس. وتلك لحظة يلهج فيها لسان حال المرء بحمد السقف والجدران وهزيمة الصقيع على يد التكييف المجيدة. قالت أماندا رافعة رأسها من الوسادة بصعوبة تامة "كما تحبين، يا سمانتا، فقط خذي حذرك".

    بعدها تناهى صوت باب الشقة وهو يفتح ويغلق على عجل. لم يعد يُسمع هناك سوى أزيز العاصفة المحتدم في الخارج. وقد خيل إليَّ أثناء محاولتي للعودة ثانية إلى النوم أن أماندا تنتحب بصوت واهن. كانت سمانتا دون العشرين وجمالها من ذلك النوع الذي يصيب الناس عادة بشيء من الحزن. جاءت إلى العالم بعد ثلاث سنوات من ولادة أماندا. لها صديق آسيوي بعينين مبتسمتين. سحنته قاتمة. كما لو أنه ظلّ في العراء لسنوات طويلة بلا غطاء. كان نحيلا كالرغبة في العدو بعد رهق. "العاهرة"، قالت أماندا بصوت مرح بعد أن لحقت بي في ذلك المساء البعيد. قبلها، كنا نسير في شارع سيرجنت نحو الشقة بخفة عاشقين. الجو صحو وجميل في مثل ذلك الوقت من شهر أغسطس. القمر رائق مكتمل والسماء صافية. كانت رياح التمرد الهوجاء قد أخذت بعد تقلباتها العاصفة تلك في الهدوء، وقد شرعت منذ أسابيع تسري بيننا رخاء، بينما تحوَّل عنادها إلى ولولة رفض تنساب في الفراش داخل فضاء ذلك المثل القديم "يتمنعن وهنّ الراغبات". فجأة توقفت أماندا عن السير. أفلتت يدها من يدي. عبرت الشارع مسرعة نحو ما أدركت لاحقا أنها سمانتا. لم أكن أعلم وقتها أنهما شقيقتان. رأيتهما على ضوء مصابيح الشارع، تتحدثان كصديقتين قديمتين، وهناك غير بعيد من وقفتهما تلك لاح ما أدركت لاحقا أنه صديق سمانتا الآسيوي في هيئته النحيلة تلك وقد بدا غارقا داخل معطف واسع أسود قديم جعله عبر تلك المسافة القصيرة أقرب ما يكون إلى خيال المآتة لو لا أنه كان يحشر يديه داخل جيبيه الواسعين مثل صيّاد غامض قبالة نهر في مساء شديد البرودة ولعجبي لا برد هناك. "تلك سمانتا، يا وليم، شقيقتي الصغرى، تلتقط الرجال عادة من هذا الشارع مقابل مبلغ زهيد من المال"، قالت أماندا بعد أن عادت تمشي إلى جواري كما لو أنها كانت تقرر أمرا عاديا. كان الأمر بالنسبة لي في تلك اللحظة أشبه ما يكون بوقع الصاعقة على مدارات استوائية تبدو بعيدة ونائية تماما. كنا قد تركناها عند منتصف الليل تقريبا لتنام في صالة المعيشة على كنبة درجنا أحيانا على ممارسة الحبّ في رحابها. كانت قد جاءت وقتها للمرة الأولى والأخيرة زائرة في وقت العصرية. كنت قد بدأت أروّض نفسي على تقبل فكرة أن لأماندا شقيقة عاهرة. وكندا على أية حال دولة حرة والخيارات متاحة. لم يكن يهمني من وجود أماندا حتى ذلك الوقت سوى ذلك النعيم المخمليّ المتأهب ما بين ساقيها في أية لحظة.


    يتبع:
                  

11-29-2010, 04:21 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    بدت لي سمانتا طوال تلك الزيارة اليتيمة مرهقة.. جائعة.. وعلى قدر من خوف غريب ومبهم، وقد أطبق عليها إعياء كوني من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. كنت أتمعن في ملامحها، وعلى وجه الخصوص حين تنهمك في حديث عائلي أوآخر مع أماندا، محاولا جهدي كله أن أعثر بلا جدوى على تعبير واحد من تلك التعابير التي يمكن أن تلوح على وجه عاهرة محترفة، قبل أن أترك مجلسي ذاك داخل الصالة مفسحا المجال أمام ذكرياتهما المشتركة كشقيقتين. كانت ملامح سمانتا تبدو لي كلما نظرت إليها مجرد ملامح لطفلة لها جسد أنثوي يغري بالذوبان، وقد استقر في ذهني لسبب أو آخر أن لها هيئة طائر قضى سحابة يومه في حقل أصابته عاصفة رعدية. لم يُخالجني الشعور لحظة أن ما تعايشه سمانتا منذ مدة مسألة تقع خارج نطاق الاحتمال. كان صوتهما يتناهى إلى غرفة المكتب، حيث ظللت أتابع قبالة جهاز الكومبيوتر المحمول كتابة تلك الرسائل المختلقة عن روعة الحياة في براري كندا إلى منفيين لا يزال دليلهم حائرا في منافي وسيطة، ولم أدرك أن الليل يتوغل وراء النافذة الزجاجية، إلى أن تناهى صوتها وهي تحدث شقيقتها، قائلا بنبرة مرتفعة "أنتِ محظوظة، يا أماندا، وليم يحبك".

    كنت مرهقا إلى تلك الدرجة التي لم يتح لي معها التفكير في مغزى خروج سمانتا المباغت في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل وفي مثل ذلك الطقس الذي يشعر معه المرء وكأن أعمدة الكهرباء في الخارج تئن متوجعة من برد. كانت أماندا قد تركت سمانتا لتنام في الصالة على تلك الكنبة، التي ظللنا نمارس عليها الحبّ أحيانا. جلبت لها قبيل منتصف الليل وسادة وأفردت فوقها ملاءة من الكتان أهدتنيها مها الخاتم منذ سنوات بعيدة في القاهرة. قبل أن تلحق بي أماندا في غرفة النوم، سمعتهما وهما تتبادلان تلك التحايا الليلية، "ليلة سعيد، ليلة سعيدة"، كان الحنان يتدفق من صوتيهما تدفق الماء فوق حصى جدول صغير في نهار قائظ. ثم وعلى غير العادة تمددتْ أماندا إلى جواري كجسد خال تماما من الرغبة. كما لو أن شيئا جفف ينابيع الحياة في داخلها. بدأت أجفاني تثقل شيئا بعد شيء بينما أحدق شاخصا بعربدة العاصفة الهوجاء المستعرة بعنفوانها المحتدم وراء النافذة، حين تناهي صوت أماندا القريب، مبددا أدنى إمكانية بعد ذلك للنوم، قائلا برنّة أقرب ما تكون إلى رثاء حياة كاملة "مسكينة سمانتا، يا وليم، لم يتبق لها الكثير لتعيشه في هذه الحياة". سألتها وقد كاد قلبي أن ينخلع من هول الصدمة "لماذا". قالت بالنبرة الخافتة المختنقة نفسها "لقد أُصيبتْ العام الماضي بالإيدز".

    يتبع:
                  

11-29-2010, 09:22 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    كنت أجلس، في الصالة، على تلك الكنبة، الوقت ظهرا شمسه باردة كحرارة شمعة في معبد رطب، حين غابت أماندا في غرفة النوم لدقائق، قبل أن تعود، وتجلس كما كانت ملاصقة لي.

    كانت ترتدي قميص نوم أحمر قصير من الشيفون أحاطت به حواف رفيعة مطرَّزة بالساتان الأبيض المورَّد. لا شيء آخر تحته. كانت حمّالتاه الرفيعتان تبين وتختفي أسفل شعرها المنسدل على كتفيها في تراخ وكسل. وأنا أحس بالدفء الخالد وهو يسري بعيدا، هناك، في أقصى دواخلي، مبددا بقايا وحشة بدت حتى عهد قريب مثل داء عضال لا فكاك منه، لمحتها من زاوية عيني اليسرى، وهي تفتح ما بدا لي ألبوم صور قديم. بطيئا مثقلا بكل ذلك الأسى والحنين، تناهى صوتها أخيرا:

    "وليم، هذه صور العائلة".

    كان وراء كل صورة حكاية ونظرة شاردة من عينيها إلى قطع الزمن المتجمد. أماندا على متن باص أصفر أيام مرحلة الأساس في رحلة ترفيهية إلى نواحي ضاحية "شيروودبارك".

    أماندا في نحو الخامسة، وهي تعتلي كتفي والدها أثناء مهرجان غنائي أقيم في حدائق "الفوركس"، ملتقى نهري ريد ريفر وواسيني بويني، بينما تشير بيدها اليسرى إلى نقطة ما تقع خارج إطار الصورة، لكن وجهها بدا منحنيا صوب وجه أبيها الذي لم يظهر منه سوى حاجبيه الكثيفين. هذه صورة لأماندا في نحو التاسعة، وهي بصحبة شقيقتيها مليسا ومليشا، كن يجلسن متقاربات ضاحكات أسفل شجرة قيقب نواحي "أوسبرن فيلدج". كان الحزن المقبض الثقيل يتزايد وتزداد وطأته حدة بعد مطالعة صور سمانتا المبتسمة الضاحكة الممتلئة في تناسق المترعة برحيق هذه الحياة وذلك أمر لم يحتمله كل منّا على حدة. أفردتُ كف يدي اليسرى. وأخذت أُسرِّحها على شعر أماندا بحنو شديد. مالت برأسها على كتفي. لا نأمة تصدر عنها. نامت أخيرا. شيئا بعد شيء، أخذت العتمة تخفي معالم الأشياء وراء نوافذ الصالة الزجاجية الواسعة. أخذ شخيرها يتعالى خافتا متوجعا. كنت أنظر إلى ألبوم الصور في شرود. في الآونة الأخيرة، حين أسير في شارع سيرجنت، حيث المومسات على نواصيه علامات لا تخطئها عين، كنت أرى سمانتا بينهن واقفة هنا أوهناك، ترمي بصنارتها عبر إيماءة وأخرى للمارة والسيارات، وعلى بعد أمتار قليلة منها لم يكن ثمة من أثر يدل علي صديقها الآسيوي ذي العينين المبتسمتين مثلما جرت عليه العادة قبل نحو العام أويزيد. لم أشأ السؤال عنه. أماندا لم تكن تطيق سيرته.

    كانت على قناعة تامة أن الآسيوي سبب بلوة شقيقتها الصغرى. لم أتوصل من جانبي في تلك الأيام أبدا إلى معنى تلك الإبتسامة التي ظلت تطل من داخل عينيه الواسعتين برغم ظلال العتمة عبر مختلف تلك المساءات البعيدة على شارع سيرجنت. أتشمم شعر أماندا الغارقة في نومها. أتذكر أنه في ذروة سعادتنا معا، أنا وأماندا، كان ثمة شعور غامض يطفو في داخلي من آن لآن، فأحسّ بشيء من الجزع كما لو أن أمرا ما يتهدد مسار تلك العلاقة في أية لحظة. لعله هاجس الخوف مما يدعونه "الفقد". هكذا، بدا وكأن سوس الوحدة قد أخذ ينخر في عظامي طويلا، وقد صارت الوحشة توءم روحي منذ أمد بعيد، حتى صار وجود أحدنا شرطا لوجود الآخر. أجل، كما لو أنني والعزلة صنوان، وتلك علاقة أبدية وراسخة، كما علاقة المشي بالقدم، الرحلة بالطريق، الطير بالفضاء، كما لو أنني في نهاية الأمر لم أعد أصلح مطلقا لأية رفقة بشرية من غير ذلك الحضور الكثيف لسيل الهواجس الذي لا يتوقف. كان كلما فكرت في ذلك، كلما أخذت تخطر في ذهني، ولسبب ما، تلك الصورة اليومية الساحرة من حياتنا معا: مرأى أماندا، وهي خارجة من الحمام، لا يسترها شيء، سوى قطرات الماء البلورية وهي تنساب منها كما تنساب قطرة ندى على جسد زهرة بُعيد بوابة الشروق. لست واثقا من أن أماندا تستقر منذ فترة داخل وجودي كمبرر حياة. لكنَّ المؤكد أنه لم تعد بي رغبة أخرى في معايشة ذلك الحنين الذي ظلّ يجتاحني في القاهرة من آن لآن إلى وجود مَن ستفتح لي باب بيتي من الداخل. وذاك صوت الشاعر أمل دنقل:




    يتبع:
                  

11-29-2010, 09:39 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    أيدوم لنا البيت المرح

    نتخاصم فيه ونصطلح

    دقات الساعة والمجهول

    تتباعد عني حين أراك

    وأقول لزهر الصيف.. أقول

    لو ينمو الورد بلا أشواك

    ويظل البدر طوال الدهر

    لا يكبر عن منتصف الشهر

    آه يا زهر..

    لو دمت لنا.. أو دام النهر.





    يتبع:
                  

11-29-2010, 09:56 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    أمل دنقل، في أقصى درجات الألم، قام بتحويل شبح الموت الماثل فوق رأسه إلى تجربة جمالية، فعل ذلك بحياد تام، لم يجزع أبدا من غول السرطان، لم يتأوه، لم تسكنه لوعة، لكأن الأمر برمته لا يعنيه. أجل، "المرض منتشر في جسدك منذ أكثر من سنة، وأنت لا تأتي لمتابعة الكشف، تذكَّر أنك مريض بالسرطان، وأن الأمر أكثر خطورة من أن تتعامل معه بمنطق الشاعر، لقد تجاوز المرض الجراحة ولابد من ذهابك في الغد إلى معهد السرطان". كازنتزاكي، وهو يكابد الألم على فراش موته، آثر أن يواجه الموت أعزل من يقين. حين أقبل القسّ لأخذ اعترافاته الأخيرة، أدار وجهه صوب الحائط في صمت، هكذا، واجه المجهول مجردا من أية معونة خارج ذاته، بينما ضاع أمله نهائيا في الجلوس عند ناصية أحد الشوارع في أثينا ليتسول من المارة بضعة دقائق من أعمارهم قد تمكنه من كتابة أمر أوآخر. أجل، "لو مِتُّ ستموت كتب كثيرة في داخلي". صديقي، فان جوخ، أدرك منذ سنوات بعيدة حتمية خلوده الإبداعي، "لن أضع توقيعي، على تلك اللوحة، يا صديقي، سيدركون بعد وقت طويل من رحيلي أنها لوحتي"، وقد سار في طريق لم يطرقها الناس عادة، أخذ المسدس ذات يوم، ذهب وحيدا إلى حقل قريب، لعله ألقى وقتها نظرة أخيرة على أحبّ موضوعاته. الوغد، فعلها أخيرا على إحدى قمم سأمه المتصاعد تجاه لعبة الحياة كلها. تشيخوف، يا لرقة مشاعر الفتى. "حين ساءت حالته ليلا، طلب استدعاء الطبيب، لكنه تمنى عدم إيقاظ الصبي لكي يذهب من أجل أسطوانة الأكسجين. فهو لن يلحق في جميع الأحوال. جاء الطبيب. طلب تشيخوف كأسا من الشمبانيا. قال بالألمانية "ايخ شتيربي" (إني أموت). وبهدوء، دون أي اختناق مبرّح – وهذا نادرا ما يحدث عند وفاة المصابين بالسل – انتقل إلى العالم الآخر". سمانتا بون، حين علمت أنها مصابة بالإيدز، تحولت في ظرف أقل من ساعة إلى عاهرة محترفة، وقد أقسمت أن تأخذ معها إلى الجانب الآخر أكبر قدر ممكن من الرجال. قبل عام واحد من إصابتها، بدت في إحدى تلك الصور عفية، ضاحكة، وعيناها مفعمتان بالحياة. ناقشت وقتها أماندا بدهشة عن "ذنب أولئك" الذين وضعهم القدر وحده بين فخذي سمانتا. قالت ببرود تام "ذلك خيارهم، يا وليم". هاتفتني وقتها وهي تجاهد بصوت مختنق "وليم، سمانتا ماتت". لم تقل شيئا آخر قبل تلك العبارة أوبعدها.
                  

12-01-2010, 00:04 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    في وقت متأخر من صباح يوم الثلاثاء الموافق الرابع والعشرين من شهر يوليو من عام 1934، فُجِعَت مدينة وينبيك، عاصمة محافظة منيتوبا، بمصرع سيرجنت جون فيرن، أثناء مكافحة سطو مسلح على صيديلة نوربيردج في العقار رقم 11 من شارع ماري. سيرجت جون فيرن، وهو عملاق يحمل في صدره قلب طفل، كان قد ذهب إلى موقع الحادث، مستجيبا لنداء الواجب، من دون أية تغطية من أحد، أو رفيق مُساند.

    لم يحمل معه وقتذاك حتى مسدسه.

    كان ثالث رجل يلقى مصرعه من قوات البوليس في المدينة. ولما يتجاوز عمره آنذاك تسعة وثلاثين عاما. "يا أبانا، كل شيء ذهب الآن معه، كما لو أن الفرح لم يطرق باب قلبي مرة"!.

    في ساعة مبكرة من الصباح نفسه، وثمة رقائق سحبية متفرقة على صفحة السماء مثل نُذر كارثة على وشك الوقوع، ولم يكن أحد من أولادهما الصغار قد استيقظ بعد، رأته زوجته بهيئته الأليفة لآخر مرة من خلال شرفة المطبخ الزجاجية العارية، وهو يفتح بهدوء باب السياج الخشبي القصير المحيط بالبيت، ويمضي إلى عمله في بزّته الرسمية، من غير حتى وداع "يليق براحل إلى الأبد".

    ثمة قسّ عجوز من كنيسة قريبة تدعى "سان أندروز". زارها خلال تلك الأيام "العصيبة". علل ما حدث كتدبير "رباني". ذلك، "يا سيدتي"، أن الحصَّة المقررة لكما معا من قِبل الربّ في هذه الحياة الزائلة كصيفٍ قطبي قد نفدت في تلك اللحظة تماما. لا تقديم. لا تأخير. لا زيادة. لا نقصان. كل شيء مقدر ومحسوب من قبل الربّ في الأعالي بدقة. لا كلمة، لا همسة، لا إيماءة فوق ما هو مقرر بالفعل في كتاب الأجل. لقد حدد الربّ منذ الأزل قسمة الأفراح والأحزان المشتركة بينكما. وفي مثل تلك الأحوال لا يجوز للمؤمن الحقّ أن يتمادى في ضلال الحسرة. فضلا يا بنيتي أن البشر لا يحسنون غالبا تصريف الزمن الممنوح لهم. عندها فقط بدأت تدرك حقيقة وضعها الجديد كأرملة. وقد شعرت على نحو غامض كما لو أن الوجود برمته رحلة محكومة بالوحدة الأبديّة منذ لحظة الميلاد وحتى ساعة الممات. قالت للقسّ، قد أنسى يا أبانا تفاصيل أول لقاء لنا، قد أنسى حتى معالم ليلة الزفاف، لكنني لن أنسى ما حييت أول ليلة قضيتها في أعقاب وفاته.

    في ذلك الصباح البعيد، ظلّتْ تتابعه، وهو يمضي بتلك الخطى البطيئة المثقلة على غير العادة وحيدا صوب حتفه، كما لو أن قوى غير مرئية ما تنفك تدفع به نحو طريق اللا عودة بلا تأخير.

    خفق قلبها وقتها بشدة، وأحسّت فجأة بالرغبة في الصراخ لتذكيره، عندما لاحظت أنه لم يلتفت كعادته نحوها، ويرسل لها من هناك إيماءة حبّ لم يسبق له وأن تخلى عنها من قبل حتى في ظلّ أكثر أجواء الشتاء القارس سوءا في كندا، طوال تلك السنوات العشر لزواجهما "السعيد".

    قالت للقسّ في بداية ذلك الحوار بينما تحاول منع نفسها جاهدة من البكاء "لعلي قد ناديته بالفعل، يا أبانا". كما لو أن "الصمم قد أصابه". في الواقع، لم يكن يا أبانا "يخرج من فمي لحظتها سوى الصمت". يكشف تاريخ خدمة سيرجنت جون فيرن أنه التحق بقوى صغيرة قوامها عشرة رجال تعمل في ضاحية "سان بونفيس". كان ذلك في العشرين من أغسطس من عام 1920. بعد نحو العامين تقريبا، ترقى "جون فيرن" إلى رتبة "سيرجنت". كان سعيدا وقد خالجه حسب رواية زوجته تلك شعور غامض أن الحظّ يبتسم له "مقارنة بزملائه في أمريكا" لألف سنة قادمة. كان العالم في كندا لا يزال على قدر كبير من الطيبة. لم تذكر أيا من تلك المصادر الصحفية المنحدرة من مجريات تلك الأيام شيئا على وجه الدقة عن أعمار أولئك الأطفال الأربعة الذين تركهم سيرجنت جون فيرن صباح ذلك اليوم في رعاية أرملته المنكوبة. كل ما خرجت به الأرملة وقتذاك: مرتب شهرين، أي حوالي 400 دولار، ومبلغ 40 دولارا تم تقديمها من قبل مؤسسة تعويض العاملين التي خصصت كذلك مبلغا ضئيلا لكل طفل من أولاده الأربعة حتى بلوغ سنّ السادسة عشرة. بالطبع ظلّ بحوزة الأرملة بعد انصراف آخر المعزّين الكثير من تلك الذكريات لتُنفقها بسخاء على ليالي وحدتها "القادمة"، لا محالة.

    مدينة وينبيك التي روَّعها هول ما جرى أطلقت اسمه على أحد شوارعها في وقت لاحق، ولم يغب عنها في بادرة طيبة أن تتكفل كذلك بمصروفات الجنازة، التي كانت "حتى ساعات ذلك الصباح" زوجا وأبا ومواطنا صالحا "يُحتذى"، وفق ما جاء في إحدى خطب التأبين الرسميّة وقتذاك.

    كان ذلك حدثا مؤثرا في الحياة الرتيبة للمدينة. تم تنكيس الأعلام أثناء سير الجنازة. ونظرا لذلك القدر الكبير من الاحترام الذي تكنه المدينة للراحل، أغلقت معظم المؤسسات والمحلات التجارية أبوابها، بينما بدا نحو الثلاثين طفلا من مختلف مدارس وينبيك وهم يمضون مطريقين حاملين الزهور خلف أبنائه الأربعة الصغار ضمن تفاصيل أخرى داخل ذلك الموكب المكلل بالحزن والأسى.

    سيرجنت جون فيرن، حين تلقى في مكتبه تقريرا بالحادث في حوالي الثامنة والربع صباحا، وحتى وهو يخلِّف على مكتبه أحد رجال الإطفاء لنقص في عدد القوى اللازمة من البوليس، لم يدر بذهنه قط أن الشارع الذي سيحمل اسمه بعد حتفه الوشيك سيتحول تدريجا إلى ملتقى دائم تُعقد فيه تلك الصفقات على عجالة ما بين المومسات وأولئك الباحثين عن لذة عابرة. وتلك لم تكن اللعبة الوحيدة من ألاعيب التاريخ التي لا تحصى. ففي عصر السرعة هذا، نسي الناس تقريبا ذلك الاسم الكامل للشارع. وقد اكتفوا مع تقادم العهد بالدلالة عليه بتلك الرتبة، سيرجنت، والتي يمكن أن تحيل ولا شك لآلاف النظاميين في هذا العالم.



    يتبع:
                  

12-01-2010, 07:23 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    كان ذلك يوما عاديا من أيام شهر سبتمبر.

    كنت أسير في شارع سيرجنت جون فيرن نفسه صحبة ياسر كوكو. أماندا كانت غائبة في إحدى زياراتها المتباعدة في الآونة الأخيرة لصديقتها القديمة جيسيكا. لم يكن لدي ما أفعله إلى حين عودتها في آخر ذلك المساء. كان الوقت يعبر منتصف عصره حين تجاوزنا تقاطع سيرجنت مع شارع تورنتو. ياسر كوكو لا يزال يسبقني في السير بخطوة أويقل. لم يكن ثمة ما يشغله في تلك اللحظة سوى أننا غادرنا شقتي إلى حيث سنقابل بعد دقائق بعض المنفيين على مائدة للدردشة من موائد بورتيج بليس. كنت أسير كعهدي على شوارع أخرى في مدن أخرى وفي أزمنة أخرى ملتقطا في طريقي أدق تلك التفاصيل المنسية..

    أعقاب السجائر، فتات الطعام، غنج النسوة حين تشي به الخطوة، حيرة العصافير على رؤوس الأعمدة، آثار الأقدام على بقعة مبتلة، الأحاديث المتسللة عبر النوافذ المشرعة، رائحة الهواء عند الأزقة أوالميادين المفتوحة، العوازل الطبية التي يرمي بها المشردون أسفل دغل كثيف أوركن معتم، شظايا زجاجية صغيرة عند منتصف الأسفلت في نهار مشمس تجاوز ثلثه الثاني بقليل أويكاد، أسيجة المنازل، ماركة العربات وتاريخ إنتاجها، وجه عجوز يطل من وراء نافذة زجاجية متسخة، أحاديث المارة العابرة، لوحات الدعاية، الشجر، البيوت، المحلات التجارية، الأغنيات الهاربة من نوافذ عربة مسرعة، وقع خطى الغرباء، وغيرها. لعلي بكل ذلك كنت ولا أزال أقاوم في داخلي وطأة ذلك الثقل الذي يدعونه "الحنين".

    لقد تغير ياسر كوكو كثيرا. حتى غدا أكثر شبها بمغني الراب الشهير "فيفتي سنتس": الرأس الحليقة، غطاء الرأس، النظارات السوداء التي أخذ يرتديها حتى أثناء الليل، السلاسل الفضية الطويلة، البنطلون يكاد يسقط في أية لحظة، "التي. شيرت" الواسع الفضفاض، مشية العصابات السوداء المجنَّحة في حيّ هارلم في نيويورك. وقد شرع بمرور الوقت في التقاط بعض من أسوأ تلك العبارات والكلمات الانجليزية: "فك يو". "صن أوف ذا بيتش". "سي يو مظر فكر". "قو تو هيل". "آي لف يو بيتش". كان سعيدا معتزا بمغامراته النسائية العابرة كتحايا طيبة على الطريق. وقد عرف طريقه إلى الملاهي الليلية منذ الأيام الأولى على وصولنا إلى كندا. كان على النقيض تماما من عمر الذي استسلم لجهله باللغة الانجليزية فقام بينه وبين العالم الذي يعيش فيه كل تلك الحوائط حتى غدا الأمر كما لو أنه يطالع الحياة نفسها وهي تحدث أمامه وراء شاشة تلفاز. ولم تكن الجرأة بأية حال تنقص ياسر كوكو وهو يتفاعل مع تلك البيئة الجديدة مدفوعا بوهج قوة فطرية في بناء الجسور بينه وبين الناس وبتلك الحساسية الساحرة للعبور إلى أكثر مناطق الآخر حميمية من خلال الإيماءة وحدها إذا لزم الأمر. وكان له على الدوام ما أراد. عاد بي فجأة صوته من التوغل بعيدا داخل تلك التأملات حول المآل المروّع لسيرجنت جون فيرن، قائلا "تعرف، يا حامد، أنا عبقري". قلت بدهشة وحيرة غامرين "كيف"؟!.

    كان يشير مرة أخرى إلى واقع وجوده في كندا كمنجز استثنائي في حد ذاته، قائلا "أنا هسي ماشي معاك في بلد دا بتاع خواجات. دا ما عبقري"؟. كتمت الضحكة اللعينة بصعوبة تامة "طبعا، يا ياسر، عبقري". قال معضّدا قصّة وصوله إلى كندا كمعجزة كونيّة "زمان، في سودان، قلت لأخوي، يا كودي أنا زهجان ماشي مصر. قال لي يا زول الله معاك. قشة ما تعتر ليك. بس تأكل نارك هناك. ما ترسل لي تقول لي أنا عايز مساعدة. والله دينك يطلع هناك. إنت يا ياسر شايف مصر دا ممكن أي زول قادر يمشي ليهو؟، مصر دا بيأكل ناس!. المهم يا حامد أخوك ياسر دا في مصر دا تِعب تَعب الموت لغاية ما مشيت في يوم قهوة في نص بلد في القاهرة. طلبت في القهوة داك شاي وراسي ضارب. سمعت هناك سودانيين بتونسوا في تربيزة جمبي. قالوا في ناس بتسافر تعيش مع خواجات. لكين عشان تمشي بلد خواجات جميل دا لازم يكون عندك "قضية" تمشي بيهو تقنع بيهو خواجات في حتة اسمو أمم متحدة. سألتهم والقضية دا نلقاهو وين. قالوا في ناس تدفع ليهم قروش يعملوا ليك "قضية" بسهولة شديد. المهم أخوك ياسر الماشي معاك في كندا هنا، قام مسك واحد من السودانيين في القهوة، قلت ليهو أنا أخوك في غربة لازم تساعدني، كان زول طيب. أنا برضو يا حامد عندي وجهة نظري الخاص في الناس. قام قال لي بكرة في صباح نتقابل يا ياسر في ميدان بتاع تحرير. نقعد شوية في قهوة اسمو "وادي نيل". نَفهِمك شوية شوية قضية بتاعك. نمشي من قهوة بتاع ميدان تحرير لمكتب بتاع أمم متحدة في حتة اسمو مهندسين. نقدم ليك طلب سماع بتاع قضية بتاعك. بعدين أمم متحدة دا بيعمل معاك مقابلة عشان يشوف قضية بتاعك دا حقيقة وَلاَّ مكنة وكِضِبْ من رأسك ساكت. طوالي في القهوة داك بتاع ميدان تحرير قال لي أنا عايز يا ياسر بيانات بتاعك شخصي. يعني اسمك وتاريخ بتاع ميلاد بتاعك وكدا. بعد أيام كتيرة وطويل، وبعد ما حفظت قضية بتاعي في رأسي كويس شديد، مشيت طوالي مكتب بتاع أمم متحدة، لما البت بتاع مكتب سمع كلام بتاعي بعد مقابلة داك اقتنع بكلامي طوالي، كمان قرَّب يبكي عديل كدا عشان هو اتعاطف مع كلام بتاعي، قال لي يا ياسر إنت مظلوم في بلد بتاعك وتمشي من هنا تسافر كندا طوالي، دا ما عبقري، يا حامد"؟.


    يتبع:
                  

12-01-2010, 11:17 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    فجأة، سقط قلبي تحت أقدامي. ثمة شيء ثقيل يسحب روحي إلى أسفل. ثمة غلالة ملحية تعشي عينيَّ. لم أعد أسمعه. لم أعد أقوى حتى على الوقوف. وللحظة أظلم خلالها كل شيء من حولي، خيل إليَّ أن الحياة ليست سوى خيوط معلقة على ضحكة القدر الساخرة. وذلك ما حدث بالفعل.

    بعد نحو شارعين، أوثلاثة، من تقاطع شارعي تورنتو وسيرجنت، توقف ياسر كوكو تماما عن الحديث. رأيته وهو يهرول بغتة نحو الجانب الآخر من الشارع. يكاد يقفز من فرحة بينما يُشرع ذراعيه نحو سمانتا رأسا. بدتْ هي في حضنه مرتبكة. وكنت أتابعهما من الجانب الآخر للشارع بكل ذلك العناء. كان صديقها الآسيوي بعينيه المبتسمتين يقف غير بعيد منهما. ولا يزال برغم دفء الجو متدثرا داخل بالطو الصوف الأسود الطويل. كما لو أن شعره المهمل أكثر ثقلا في ميزان الرهبة من سائر جسده الضامر النحيل. أخيرا، عاد ياسر يمشي إلى جواري. في عينيه فخر وتيه وإبتسامة لا نهائية ولسان حاله يقول بالنبرة القديمة الواثقة نفسها "انظر إلى أخيك، يا حامد، كيف يسحر النساء هنا، في كندا نفسها، أرأيتني، يا حامد"؟.

    ثمة خوف، لا شيء آخر سوى الخوف، الخوف يملأ جوانح نفسي، يتدفق عبر مسامي رعشة فرعشة، ووخذ الأسئلة يثقب رأسي المثقلة في غير مكان. يا إلهي، "ما ألطفك"، قلت في نفسي.

    هناك، عميقا، داخل تجويف صدري، لا يزال قلبي يواصل دقاته بعنفٍ وتسارع، بينما خيوط من العرق شرعت تنسكب تباعا من على جبيني، كما لو أنني أقف غير بعيد من فوَّهة بركان على وشك الانفجار في أية لحظة. بمشقة بالغة وصوت راعش، سألته أخيرا "ياسر، إنت شفت البت دي قبل كدا". قال بتلك الثقة الزائدة "كتير كتير، ها ها ها". قلت بيأس "عملت معاها شنو، يا ياسر"؟!.

    قال "راجل ومرة في سرير واحد، يعملوا شنو"؟.

    واصلت استجوابي له بصوت ميت هذه المرة:

    "كم مرة ضاجعتها".

    قال "ها ها ها، كتير، كتير كتير".

    سألته متعلقا بخيط الأمل الأخير:

    "كان عندك عازل طبي".

    قال "دا بت نضيف، خلي عندك وجهة نظر، يا حامد"!.

    واقتربنا كثيرا من جامعة وينبيك. بدا لي بورتيج بليس القريب في ثنايا تلك اللحظة الكابوسية القاتلة بعيدا ونائيا تماما. لم تعد قدماي تحملانني أكثر على المسير. حلقي جفَّ تماما. جلست على إحدى تلك الدرجات الحجرية المتعاقبة لبوابة الجامعة الخلفية مثل يتيم حار دليله. وضعت يديَّ على رأسي. وانفجرت في نوبة عالية من البكاء. كان صوته يتناهى إلى مسامعي من حين لآخر حائرا ملتاعا متسائلا في تعاطف وشفقة غامضين "حامد، يا زول، إنت كويس". كلما جاوبته في سري كلما زاد بكائي:

    "هذه البنت مريضة بالإيدز، يا صديقي".



    يتبع:
                  

12-02-2010, 08:24 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    حتى الآن، لم يخالجني لحظة واحدة أدنى قدر من ندم. لم أكشف له فيما تبقى من ذلك المساء عن سر بكائي ومرارته التي لا تطاق. تركته وهو يصارع قدره المحتوم وحيدا. لم أخبره حتى بمأزق وجوده الذي لا يحسد عليه. كان البكاء قد جعل الموقف برمته في ذهني واضحا صافيا وخاليا من شوائب العاطفة التي بدا وكأن نبعها قد جف في داخلي في أعقاب آخر قطرة من تلك الدموع. آنذاك، استجمعت شتات نفسي بصعوبة تامة. واصلت معه الرحلة كما هو مقرر لها إلى بورتيج بليس. لكأن شيئا لم يحدث. وهو لاذ بعدها بصمت كثيف كما لو أنه اطلع على حقيقة ما انطوت عليه نفسي من قرار. لم يفه مثلي بكلمة واحدة. لعل البكاء قد أيقظ كذلك في نفسه مرارة تلك الأشياء الثاوية. لكن المؤكد أن خطواته لم تعد خفيفة مرحة واثقة سعيدة بإيقاعها مثلما بدت عليه عقب لقاء سمانتا وصديقها الآسيوي على شارع سيرجنت منذ دقائق.

    كان المنفيون يتحدثون في بورتيج بليس حديثا فاترا مليئا بمرارة بدت لي غريبة عن لؤم الفلبينيين في أماكن العمل. كانوا يتحدثون في القاهرة عن لؤم المصريين بنفس المرارة. كما لو أنهم كانوا بحاجة دائمة للبحث عن مشجب خارج ذواتهم كيما تخف عن كواهلهم آلام الرحيل وأوجاعة التي لا تنتهي. بعضهم استقبل ياسر كوكو بالأحضان. ولو أنهم رأووا مثلما رأيت منذ قليل لفروا من أمامه كما يفر الشجاع بلا هوادة قبالة أسد. كنت قد بدأت بالفعل أنظر إليه من آن لآخر نظرتي إلى رجل ميت. وهو شرع وقد عادت إليه روحه القديمة يحدثهم بكثير من المرح عن رغبته في إقامة مشروع تجاري صغير في السودان. كنت أعرف أنه يسعى إلى شراء ماكينة لتصليح الأحذية القديمة التالفة في أحد الأحياء العشوائية المحيطة بالخرطوم. سأله عادل سحلب بتثاؤب وضجر عما إذا كان قد أقام دراسة جدوى لمشروعه بعد أم لا.

    قال له قم أنت بالدراسة لنفسك وأترك لي مهمة الشراء لنفسي. أعجبني رده برغم شبح المأساة الماثل. ولم أدهش لحظة أن تقبل عادل سحلب ما بدا مهينا لأمثاله خلال سنوات القاهرة في صمت. لعله أدرك أن كل ما قد كسبه في الماضي من معارف وثقافة ودهاء سياسي قد آل في ظل لغة لا يعرف حتى أبجدياتها إلى شيء لا جدوى منه. كان ياسر كوكو يُطيب له في أحيان كثيرة أن يمازحه ضاربا على كتفه كزميل في مهنة هامشية أخرى مؤكدا له في كل مرة أنهما لو ظلا معا في الوطن لما ألقى عليه مجرد تحية عابرة. أجل، ظلّ عادل سحلب يواصل العمل في مطعم فخم متخصص في تقديم الدجاج المشوي يدعى "سويس شاليه" كغاسل للأطباق. مطعم يؤمه عادة المتقاعدون من البيض وبعض المحتفلين بمناسبات خاصة. مطعم تسع قاعته لأكثر من خمسمائة زبون يتم خدمتهم عادة في لحظة واحدة. كان يقف يوميا لمدى ثماني ساعات وسط أرتال من الأطباق والملاعق والشوك والأكواب المتسخة وقد غمرته أبخرة حارة ما تنفك تتسرب من الغاسلات الآلية على مدى ساعات خدمته الممتدة بلا نهاية. عند حلول المساء، كان يعود عادة إلى شقته بقدمين متورمتين ورأس محترقة ونصف دزينة من بيرة تسمى "مولواكي آيس". يسند ظهره إلى كنبة في الصالة. يمدد ساقيه. يغمض عينيه. يبدأ يرتشف من علب البيرة المثلجة مباشرة. يظل على هذا المنوال نحو الساعة قبل أن يمسك بسماعة الهاتف ويتسقط آخر أخبار المنفيين في تلك الأحياء المتفرقة من المدينة. عدت من بورتيج بليس في حوالي العاشرة مساء. على امتداد سيرجنت، لم يكن ثمة من أثر يدل على سمانتا وصديقها الآسيوي ذي العينين المبتسمتين. لعلهما ذهبا في طريق الإيقاع بضحية أخرى. أومأت قبيل ذهابي لياسر كوكو برأسي مودعا. لاحقني صوته مطهما بفسحة الأمل "أشوفك بكرة". لكأنني لم أسمعه. أما الآخرون فقد كانوا وقتها في نقاش محتدم حول انخفاض قيمة الدولار الكندي مقابل ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي في السودان "هذه الأيام". ربما لهذا لم يولووا مسألة انصرافي عنهم كبير عناء. "أشوفك بكرة". أخذت أردد في نفسي كلماته تلك طوال الطريق إلى البيت.


    يتبع:
                  

12-02-2010, 05:53 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)

    لم تكن أماندا قد عادت من زيارة صديقتها القديمة جيسيكا بعد.

    ثمة شيء غامض لا يزال يربطهما معا. أماندا أخبرتني في مرات عديدة أنها لم تعد تكن لها مشاعر حقيقية منذ فترة. لكنها ظلت دائما في حيرة من أمرها. لا تدري كيف تحسم في قرارة نفسها شيئا وُلِدَ ونما معها عبر سنوات عديدة وصار جزءا لا يتجزأ من نسيجها الروحي. لقد بدا من الصعوبة بمكان على أماندا أن تقول لكل تلك المغامرات العاطفية وجملة المواقف والذكريات المشتركة بينهما "إلى هنا وداعا فقد انتهى كل شيء". ما زاد الأمر تعقيدا أن جيسيكا كانت تعلم جيدا أن أكثر ما يمكن أن يشل إرادة أماندا في هذا العالم:

    الدموع.

    ظللت أقول في نفسي، في مثل تلك الأحوال، لو أن أماندا عاشت في منفى وسيط مثل القاهرة لما كلفها الأمر كل هذا العناء. هناك ظل معظم الناس يستبدل العلاقات كما يستبدل ملابسه القديمة بأخرى جديدة. لكل مرحلة حساباتها. لا صداقة دائمة. لا عداء دائم. كان مثل ذلك السلوك يؤدي ببعض المثاليين إلى الانتحار أوالجنون أومعاقرة الخمر آناء الليل وأطراف النهار. المنفى تحكمه الحاجة لا القيم. علمتني الخبرة هناك أن أكثر الناس حديثا عن القيم كانوا أكثرهم بعدا عنها. أُطلق أحيانا على تلك الفترة من حياتي اسم الحرباء. كانت كلمات كثيرة، مثل "الاحترام" أو"الأخلاق" أو"الصداقة"، قد شرعت تتحول في ظل شح النقود وانعدام فرص العمل أوندرتها إلى عُملات لا بد منها لشراء الطعام أوتأمين المأوى أوحتى تعمير خرائب الرؤوس التي عصف بها الحنين بخمر رخيصة ولربما لاقصاء منافس تنقصه الخبرة للصراع حول تلك الغنائم المتناثرة من ذلك القدر المتبقي من "الفُتات المتاح". لا لم تكن دواخلي متماسكة إلى تلك الدرجة التي ظننتني عليها قبيل ساعات في أعقاب نوبة البكاء تلك التي داهمتني على احدى درجات البوابة الخلفية لجامعة وينبيك. كما لو أن الانهيار في حاجة دائمة إلى مثل تلك المواقف للإعلان عن هشاشة دواخل المنفيّ المتداعية كركائز بيت قديم.

    هكذا، ما إن أخذت أفكر في مآل ياسر كوكو مرة أخرى حتى اندفعت في موجة أخرى طويلة من البكاء. وإن لم يبدل كل ذلك في الأخير من أمر قرار اعتزالي له مرة واحدة وإلى الأبد.

    لا، لست في حاجة أخرى لما يشدني نحو هذه الأرض. بي رغبة عميقة في الطيران والتحليق في سماوات بعيدة. وهناك، داخل قلبي، بحيرة كافية من الأسى الراكد. تطفو على سطحها خيبات وجثث كثيرة. ولياسر كوكو قلوب عزيزة في مكان ما داخل الوطن. بها متسع كذلك لجثته ودمع كاف لرثائه.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de