وحدة السودان والاستهبال..مقال جدير بالقراءة

نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-28-2024, 11:07 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-10-2010, 01:28 AM

على عجب

تاريخ التسجيل: 06-23-2005
مجموع المشاركات: 3881

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
وحدة السودان والاستهبال..مقال جدير بالقراءة

    Quote: الذين يتحدثون عن وحدة السودان منافقون
    عاطف كير

    [email protected]

    يوليو 2010

    توطئة:
    بعد الهروب من مواجهة مُسْتَشكِلات الواقع السياسى فى السودان الذى مارسه "البعض" فى السودان؛ الذى نال أكثر من حظه من الشقاء على مدى خمسة عقود، إكتشف الهاربون أنهم لم يفعلوا شيئاً غير مخادعة النفس ومُعَاركة طواحين الهواء. فبإلتفاتة فجائية لمسيرة الهروب تلك، فطن الناس إلى "الكُلفة" الباهظة التى سيدفعونها جراء ذلك الفعل فعَنَّ لهم الحديث عن وحدة السودان التى "تهربوا" إبتداءاً من مقابلة أُسسها ومقوماتها بالصياح من على سقوف المنازل بإتهام قيادة الحركة الشعبية بتكريس جهدها للعمل على فصل جنوب السودان تارة، وإدارة ظهرها لحلفائها فى التجمع الوطنى الديمقراطى وقوى الإجماع الوطنى تارة أخرى.
    لذلك التَزيُّد إنضم نفر ممن يطلقون على أنفسهم "الأقلية الشمالية" بالحركة الشعبية لتحرير السودان إنخرطت، حسب زعمها، فى العديد من الإجتماعات والورش بهدف مناقشة محاسن الوحدة فى مقابل مساوئها، إستباقاً لإعلان نتيجة الإستفتاء المزمع إجراؤه فى يناير القادم. وهو نشاط حاول صانعيه إعطاؤه صفة تنظيمية بنسبته للقطاع الشمالى، والقطاع برئ من ذلك بسبب إنشغاله بتنظيم نفسه وبقضايا الراهن السياسى التى توزعت أعضاؤه على العديد من اللجان ومن بينها لجنة لدراسة ممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير. كما إن إذاعة من يسمون أنفسهم بـ "الأقلية الشمالية" لخبر النشاط الذى يأتونه تحت غطاء القطاع الشمالى للحركة الشعبية لتحرير السودان ينطوى على العديد من الإيحاءات والإشارات الإثنية السالبة. لأولئك وهؤلاء نحاول فى هذا المقال إستِنْكاه عنادة صراع الأخوة-الأعداء، الذين إصطنعوا بأنفسهم أسباب خلافاتهم وعداءاتهم وطفقوا بآخرة يبحثون عن كيفية حلها، بإستعراض إسهاماتهم فيما بلغناه من وضع ضمن المساجلة الجارية الآن لنرى أين تنكبنا طريقنا وضللناه؟ وكيف أوقفنا، بوعى أو بغيره، عجلة الصيرورة التأريخية ولما بعد نبلغ هدف تكوين وبناء أمة سودانية/سودانوية يُعتزَّ بالإنتماء إليها ويُفخر بالدفاع عنها كما قال بحق الراحل قرنق.

    موضوعة حق تقرير المصير .. والحافظة السياسية السودانية
    تُحدثنا سِيَّر الأولين من آباء إستقلال السودان ومؤسسى مؤتمر الخريجين عن عمق الخلافات التى أستغرقتهم آنذك فى محاولاتهم لإجلاء المستعمر عن الوطن وتحقيق إستقلاله. تلك المحاولات إصطدمت غير مرة بحقائق التباين والإختلاف الذى حبا الله به السودانيين من حيث ألوانهم ولغاهم وأديانهم. تلك كانت البداية التى حدت بشعوب التخوم الجنوبية إلى المطالبة، والإستعصام بــ "الفيدريشن" كنظام أمثل لإدارة ذلك التعدد والإختلاف إن قيض للسودان أن ينال أستقلاله. فمن ناحية سيظل السودان بلداً متوحداً، وسيتقى الجنوبيون، من الناحية الأخرى، شرور المَيْز العرقى التى تمظهرت فى المحاولات الساعية لتعريف السودان بالدولة "العربية" و"الإسلامية" منذ إعلان تكوين مؤتمر الخريجين الذى حدث أن لم يكن من بين أعضائه خريجاً جنوبياً!
    قَبِل آباء الإستقلال، بمنطق ميكافيللى، مطالب الجنوبيين بالفيدرالية فى سبيل تصويتهم لإستقلال السودان عن الحكم الثنائى، ولما فعلوا أُختينوا من قبل زملائهم ليندلع حوار مسلح عنيف قبل إعلان الإستقلال "المزعوم" من داخل البرلمان كسابقة إختلفت كثيراً عن نظيراتها فى البلدان الإفريقية آنذاك. تلك كانت بداية "الإستهبال" السياسى الذى مارسه ساسة الشمال والذى حمل الجنوبيين ساعتئذ إلى إعلاء سقف مطالبهم إلى إستقلال جنوب السودان، بدلاً عن فيدرالية وحكم ذاتى كان يمكن أن يمتص الإحتقان الذى غذَّته عنافة الحوار المسلح الذى أنهك الوطن وأهلكه فى تجليه الأخير بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان.
    تَقاوَدت الحكومات "الشمالية" منذ إعلان الإستقلال وحتى إختطاف الإنقاذ الحكم بليل يونيو 89، تقاودت الإستهبال السياسى حتى وجدنا أنفسنا أمام "ورطة" حق تقرير المصير التى أوسعت الفتق الذى أعيا الراتق "المفاوض الحكومى" بنيفاشا بفضل إنسراب تلك المفردة إلى الأدب السياسى فى السودان وعدم مبارحتها لا لوثائق النظام الحاكم ولا وثائق معارضيه. أسميناه إستهبالاً سياسياً لمحاولات آباء الأستقلال وورثَتِهم من بعد التذاكى على أقرانهم من الجنوبيين؛ ففى البدء وعدوهم بالحصول على الفيدرالية ولما نالوا الإستقلال، تنكروا لما عاهدوهم عليه وتَمحَّكوا عند النظر بعين الإعتبار لتلك المطالب. كان ذلك فى عهد أول حكومة ترأسها إسماعيل الأزهرى، أما فى حكومة السيد سر الختم الخليفة فقد بلغ الإستهبال قمته إبان مفاوضات المائدة المستديرة مارس 1965 بين ممثلى الأحزاب الشمالية والجنوبية على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان للإختيار بين الوحدة، الفيدرالية أو الإنفصال، عندما قامت الأحزاب التقليدية بصناعة حزب جنوبى أطلقوا عليه أسم حزب وحدة السودان ليعمل على رفض فكرتى الفيدرالية وحق تقرير المصير. كانت هذه هى المرة الأولى التى يذكر فيها الحديث عن حق تقرير المصير بتلك الصراحة وتلك الخيارات، على أن أدّلَجة الإستهبال السياسى الذى أعملته الجبهة الإسلامية القومية هو الذى زاد طين ورطة البلاد بِلة! إذ تصور نظام الإنقاذ أن الإنشقاق الذى قاده الدكتوران رياك مشار ولام أكول فى 1991 يمثل بداية النهاية للتمرد الذى قاده قرنق وحركته الشعبية، فسعى إلى إستئلافهما بما يملك وبما لا يملك بهدف جنوبة الحرب وتحويلها إلى جنوبية-جنوبية أولاً ومن ثم سحب البساط من تحت أقدام قرنق، البندقة التى إستعصت عليهم حرباً سلماً، قبل الإنقضاض والقضاء عليهما معاً لمواصلة الفتح الإسلامى الذى بدأوه فى الخرطوم. لتحقيق تلك الغاية أوفد النظام رسوله الدكتور على الحاج للُقْيا المنشق لام أكول والتوقيع معه بفرنكفورت فى فبراير 1992 على إتفاق سلام يكفل للجنوبيين ممارسة حق تقرير المصير وإن أدى إلى الإنفصال فيما يشبه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. لذلك لم تَسْتَمنِن الحركة الشعبية حق تقرير المصير من الجبهة الإسلامية لأنها لا تملك أن تَمُن به عليها، لكن الحركة أستخدمت ذات الكارت بعد أن ضمن فى إعلان مبادئ الإيقاد لتفضح به "إستهبال" الجبهة. فبعد أن رفض النظام فى 1994 إعلان المبادئ كلياً طرحت الحركة الشعبية خيار الكونفيدرالية بدلاً عن حق تقرير المصير على أساس أن الأولى ستبقى على وحدة السودان. رد النظام المتناقض على ذلك الطرح حمل الأستاذ على عثمان وزير الخارجية حينها إلى تلفزيون السودان "القومى" حاملاً خريطة لجنوب السودان تمتد حدودها الشمالية إلى مشارف مدينة كوستى ليستلفت بها إنتباه العامة لمخططات الحركة الشعبية "التوسعية"! على الرغم من أن منطق إمتداد حدود جنوب السودان شمالاً إتخذته الحركة دليلاً على وحدويتها فى مقابل إعتراف النظام للإنفصاليين بحق تقرير المصير وإن أدى إلى الإنفصال عند حدود 1956.
    بعد ذلك الإنقسام وبعد أن لعقت جراحها، عقدت الحركة الشعبية لتحرير السودان مؤتمرها العام الأول بشقدوم فى أبريل 1994 وأكدت فيه على موقفها من وحدة السودان على أسس جديدة، وأوصى المؤتمرون على أن يكون تحقيق ذلك الهدف عبر ممارسة حق تقرير المصير، لأن الواقع الذى أفرزه الإنشقاق فى المناطق التى كانت تسيطر عليها وتدير منها عمليات التحرير لا يمكن تجاوزه. مذاك كان إصرار الحركة على تضمين حق تقرير المصير فى أجندة كل المفاوضات التى خاضتها مع نظام الإنقاذ ومع القوى السياسية الأخرى بدءً بإعلان مبادئ الإيقاد الذى رفضه النظام، وهو اللاجئ إبتداءاً إلى الإيقاد للتوسط فى حل المشكل، وأُرغم بآخرة على قبوله فى 1997. أيضاً تم تضمينه فى مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية 1995 وإنتهاء بإتفاق مشاكوس الإطارى فى يوليو 2002 بكل تفاصيل آليات تنفيذه، فى إتفاقية السلام الشامل حذر تكرار تجربة إتفاقية الخرطوم للسلام التى إنهارت بفعل التنصل والإستهبال عند حلول أوان إجراء الإستفتاء الذى تقبله النظام وإن أدى إلى "الإنفصال"!
    هكذا، وبإختصار غير مخل، وصلنا إلى موضوعة حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان الذى سيمارسه فيما تبقى من بضع شهور على نهاية الفترة الإنتقالية. لا نراغم الحقيقة إن قلنا أن هذه الموضوعة جاءت كمنتوج لمراكمة ممارسات سلبية لبعض ساسة الشمال ممن قضى نحبه وممن ينتظر منهم. لهذا، بدلاً عن العَرج الذى يسم الحوار الخفيف ذى الثقوب شأن حافظتنا السياسية، وبدلاً عن الملامة الموجهة لقيادة الحركة الشعبية فى كل الأحايين يجب أن توجه الطعان إلى من إجترحوا الذنب بداهةً لا إستعذاب التشفى فى ظل الفيل بالمحوك عند مسئولية الحركة الشعبية بالعمل مع المؤتمر الوطنى على جعل الوحدة جاذبة المنصوص عليها فى كتاب نيفاشا، والأخير يعمل على إستيلاد، على غرار أسلافه من آباء الإستقلال، الاحزاب الجنوبية لتنشط معه فى فَك أُنشوطة حق تقرير المصير التى أستحكمت حلقته حول عنقه وللعجب من ذات الشخوص الذين تشاركوا معه نسج الأنشوطة إبتداءاً!
    حق تقرير المصير، أو بالأحرى، إنفصال جنوب السودان كان، وما زال، غاية شاغلت وجدان القوميين الجنوبيين ممن ضمتهم عضوية الحركة الشعبية الذين نشطوا بشدة عقب توقيع إتفاقية السلام الشامل وبعد الرحيل المفاجئ للدكتور قرنق. تمثل ذلك النشاط فى بعث محاولاتهم "القديمة" الرامية إلى إختطاف الحركة الشعبية رائدة التغيير وقبر خطها الوحدوى الذى إنتهجته، لا سيما بعد مأساة الموت المفجع لرئيسها ومؤسسها ومنظرها د. جون قرنق، العقبة الكأداء التى إعترضت طريقهم ومحاولاتهم. لهذا يخطئ كثيراً من لا يستصحب الفراغ الذى خلفه غياب قرنق عن خارطة الفعل السياسى فى تقييمه وأدائه ومقارنته لأداء الحركة الشعبية لتحرير السودان قبل وبعد توقيع إتفاقية السلام الشامل. فتسونامى الغياب كاد أن يقضى على وجود الحركة نفسه ناهيك عن برامجها وأهدافها بما فى ذلك تعاطيها مع قضية كحق تقرير المصير الذى تتهم بالتركيز عليها دون سائر القضايا "القومية" الأخرى. على أن الإنكفاء جنوباً، مما عُد تراجعاً عن برامجها وأهدافها القومية ومشروع سودانها الجديد، يبرره تعامل المركز وقواه السياسية مع تنفيذ إتفاقية السلام الشامل، مما سنتناوله فى هذه المداخلة، التى مثلت سانحة جيدة لتأسيس نظام حكم يمثل الحد الأدنى من التوافق على الرغم من تحفظ البعض على نظام الحكم الذى أوجدته الإتفاقية "one country-tow systems". إذن محاكمة الحركة بسبب "تراجعها القهقرى" يستدعى محاكمات نظيرة إن لم يك ُلشريكها الأكبر فقط، فللقوى السياسية التى إستعداها ذلك الشريك طوال سنى حكمه ولم تتجاسر على إبتداع أساليب وأدوات تساعدها على حمله على القبول بالتحول الديمقراطى الذى أرست "جيناته" السى بى إيه، كما أنها لم تتعهده بالرعاية الكافية. والحركة الشعبية عندما وقعت على إتفاقية السلام الشامل بكل بنودها "الخطيرة" تلك، كانت تعلم أن الإتفاقية عبارة عن أداة لتفكيك لنظام الإنقاذ ودولة الحزب الواحد التى فشلت عن تفكيكها القوى السياسية مجتمعة. عن ذلك قال الراحل د. جون قرنق إنه بتوقيع إتفاقية السلام الشامل فقد فتحنا كوة صغيرة فى جدار نظام الإنقاذ وعلينا أن نعمل على زيادة تلك الكوة وصولاً للتفكيك الكامل لذلك النظام، وهو فعل فيما نظن يتطلب جهد القوى السياسية مجتمعة وما زلنا فى رجاته.

    السودان .. بين الوحدة الجاذبة و الوحدة على أسس جديدة
    تأريخ الصراع بين القوى السياسية الجنوبية وحكومات الأمر الواقع فى الشمال التى لم يتشاركها الجنوبيين مع أقرانهم من الشماليين، توفرت به الحركة الشعبية لتحرير السودان على صياغة برامج وأهداف سياسية قادت إلى إعلانها كحركة تحررية، نضالية، سياسية وطنية وليست أقليمية جنوبية شأن ما سبقها من حركات نشأت فى جنوب السودان وقبرت مع برامجها وأهدافها قصيرة النظر.
    رغماً عن منشؤها الجنوبى؛ أثرت الحركة الشعبية لتحرير السودان الساحة والتجربة السياسية السودانية التى شَقِيت وما زالت بالمشاريع الآحادية، الإنغلاقية والإقصائية. فسبر غور الأزمة الوطنية ومن ثم نجاعة الوصفات العلاجية حجز لها مكانتها فى الساحة السياسية الوطنية والإقليمية على حدٍ سواء. دعت الحركة فى بداهتها إلى الإحتفاء بالتعدد الثقافى، الدينى والإثنى الذى حبا الله به بلادنا، ودعت إلى إستكمال الصيرورة التاريخية للشعب السودانى فى بعديها التأريخى والمعاصر. وعلى تحليل علمى للأوضاع إبتنت رؤيتها وتصورها وأجْلته للناس فى ميثاق تأسيسها "مانيفستو" فيما عرف بمشروع السودان الجديد. ومن أجل ذلك المشروع حاربت الحركة الشعبية ثم فاوضت كل الحكومات التى تعاورت على حكم السودان منذ نشأتها فى 16 مايو 1983 ولم تتراجع عن أهدافها بتحقيق السودان الجديد المبنى على العدالة والحرية والمساواة.
    وفى محاولاتها الباحثة عن السلام إجتمعت إلى كل القوى السياسية منذ كوكادام 1986 إلى الإنقاذ التى إستلبت الحكم الديمقراطى، على علاته، فى يونيو 1989؛ وتوصلت معها فى نهاية المطاف إلى توقيع إتفاقية السلام الشامل فى يناير 2005 حيث ما زال الإختلاف يَتسيّد مشهد التنفيذ. تلكم المعاسرة التى شهدها تنفيذ إتفاقية نيفاشا، الذى مر بالكثير من المطبات "الإصطناعية" والتى كادت أن تلحقه بإنجيل النميرى وقرآنه، وما يزال على الرغم من من كثرة التفاصيل والآليات التى تضمنتها لِسَلسَلة التنفيذ (جعله سلسلاً)، تجد تفسيرها فى الإسلوب الإستهبالى "الممنهج" الذى أشرنا إليه آنفاً. لهذا فإن إتفاقية السلام الشامل فى جوهرها كانت مساومة تاريخية بين مشروع الحركة الشعبية لتحرير السودان العلمانى، وبين المشروع الإسلاموى لحكومة "الأمر الواقع" السودانية التى "مثلها" المؤتمر الوطنى، رغم أنف المتأبين، جاءت بعد أن تَساوَت موازين العجز والقوة بين الطرفين الذين إصطرعا طويلاً فى الحرب وفى التفاوض. إبتناء على ذلك لا يمكن الإدعاء بأن الإتفاقية تمثل البرامج والأهداف السياسية التى ألزمت الحركة الشعبية نفسها بتحقيقها كما أنها لا تمثل الأهداف "الرسالية" التى إختطفت من أجلها الجبهة الإسلامية الحكم على أسنة الرماح بغية "تنزيلها" فى بلاد الكفارنة السودان. أما نص الإتفاقية؛ الذى يتلبث عنده الناس، بإضطلاع الشريكين بجعل وحدة السودان هى الخيار الجاذب لشعب الجنوب، لم يعنى بالضرورة تخلى الحركة عن الأسس الجديدة للوحدة التى دعت، وما زالت تدعو، لتحقيقها. فالنص أمن على إيلاء طرفى الإتفاق أولوية للوحدة، ووضع لتلك الأولوية شروطاً إن لم يقابلها إلتزام الشريكين، فلشعب جنوب السودان الذهاب تواً إلى تقرير مصيرهم بالإختيار بين الوحدة أو الإنفصال. عليه فإن الإستفتاء، فى حد ذاته، كحق إنسانى ودستورى ليس مشروطاً بفعل محدد، ولكن تهيئة أجوء ممارسته بما يفضى إلى تلغيب أحد خياريه، الوحدة فى هذه الحالة، هى الموضوعة التى وضع لها النص شروطاً لجعلها "جذابة". إذن ما هو النص وماهى الشروط التى وضعها لكيما تكون الوحدة جاذبة. نصت المادة (1-1) من المبادئ العامة لبروتوكول مشاكوس ضمن أولويات أخرى للشريكين، على أولوية خيار الوحدة بالنسبة لهما وتقرأ: "إن وحدة السودان، التى تقوم على أساس الإرادة الحرة لشعبه والحكم الديمقراطى، والمساءلة، والمساواة، والإحترام، والعدالة لجميع مواطنى السودان ستظل هى الأولوية بالنسبة للطرفين، وأنه من الممكن رد مظالم شعب جنوب السودان وتلبية طموحاته ضمن هذا الإطار". أما شروط الأولوية فهى 1) "إقامة نظام ديمقراطى للحكم يأخذ فى الحسبان التنوع الثقافى والعرقى والدينى والجنس واللغة والمساواة بين الجنسين لدى الشعب السودانى" المادة (1-5-1)، 2) "تخطيط وتنفيذ إتفاقية السلام بغية جعل وحدة السودان خياراً جذاباً وبصفة خاصة لشعب جنوب السودان" المادة (1-5-5). عليه على من يعمدون إلى إطلاق التواصيف والمسميات على شاكلة الشريك الأكبر والشريك الأصغر أن يمضوا بتواصيفهم إلى نهاياتها المنطقية وتحديد على من تقع مسئولية تعطيل تنفيذ الإتفاقية وفق تلك التواصيف.
    إتفاقية السلام الشامل طوال الأعوام الخمس المنقضية من عمرها شهدت من الإحتقان والتوتر بفضل إتجاهات المؤتمر الوطنى التى أقبل بها على التنفيذ، وتعاطى الحركة وردة فعلها إزاء تلك الإتجاهات، ما أوجس قلوب الفراجة والمراقِبة، وتقاطرت على إثره جموع المبعوثين الخاصين إلى السودان بجَذَرِهم وعِصيّهم. عن ذلك التوتر والإحتقان كتب الدكتور الواثق كمير (الأحداث، الأخبار مايو 2010) مقالاً مطولاً عَنَنه بـ (في أعقاب الانتخابات: كيف يرضى الرئيسان المنتخبان مواطنيهما؟) تعرض فيه بالتحليل للراهن السياسى بكل تعقيداته و"مِحَّنه"، ولدور شريكى الحكم فى ذلك الوضع على المستويين القومى والإقليمى وإقترح عليهما تبنى برنامج أوجزه فى ثلاث خطوات رئيسية تراءى له فيها الخلاص من الإحتقان الذى إنوجد بسبب الإستقطاب الحاصل بين المؤتمر الوطنى وشريكه من جهة، وبينه وبين القوى السياسية من الجهة الأخرى. أولى خطوات البرنامج/المقترح كانت الدعوة إلى الحوار الجاد بين القوى السياسية بما فيها الشريكان، للتلاحى والإتفاق على برنامج "قومى" قد تفضى الأمانة فى تنفيذه إلى عبور البلاد إلى ضفة النهر الأخرى الأكثر أماناً! نظرياً لا تثريب على فكرة توخى الإجماع، ولكن إن أسقطناها على واقعنا المعيش فسيحيلنا إلى نتائج كارثية لإنها تصطدم بتركة ثقيلة من خيبات الأمل التى ظللنا نجنيها منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا. فالقوى السياسية السودانية ما فتئت تلجأ تاكتيكاً إلى مثل هذه الدعوات فى إطار سباقاتها الحزبية لتسجيل "براءة إختراع" المبادرات "الوطنية" التى لم تضع حلولاً ولم تضف إلى كسبها السياسى والتنظيمى المتوهمان. كما أن التشديد على التنفيذ الأمين للإتفاق السياسى الذى قد يتمخض عن ذلك الحوار، الذى أشارت إليه ورقة الواثق، يقف أول ما يفعل شاهداً على حربائية تلك الأحزاب وتلونها ويقدح فى صدقيتها فى آنٍ معاً فى مواجهة الأخطار التى تتهدد البلاد. أما توسيع قاعدة الحكم بإشراك القوى السياسية ذات الوزن والقاعدة الجماهيرية، بصرف النظر عن مشاركتها فى الإنتخابات من عدمه، وتكوين حكومة مشاركة وطنية دون الإنشغال بتسميتها بقدر إنشغالها بتنفيذ البرنامج "القومى" الذى "قد" يتم الإتفاق عليه، فهى فكرة تأسست إبتناءً على قراءة واقع لا يمت بصلة لواقع الحال فى السودان. فمن ناحية فإن ديناميكية الواقع السودانى والحراك الذى أفزره إحتلال وإحتكار الجبهة الإسلامية للحكم على مدى عقدين من الزمان، جعل من مصطلحات مثل ذات وزن وقاعدة عريضة مسميات فارغة المحتوى وليس بذات معنى، فأيما مجموعة تتمرد على "دولة" المؤتمر الوطنى تجبره على مفاوضتها والإعتراف بمطالبها ومن ثم إستوزار قادتها والأمثلة الدالة على ذلك من الكثرة بما يستعصى على الحصر. ومن ناحية أخرى فالمؤتمر الوطنى بعد إعلان نتيجة الإنتخابات العامة أصر بعض قادته على عدم إشراك القوى السياسية فى الأجهزة التشريعية والتنفيذية إلا بمقدار ما أهلتها له صناديق الإقتراع، على الرغم من "أُلعوبة" دعوته إلى تكوين حكومة الوحدة الوطنية لإدارة ما تبقى من عمر الفترة الإنتقالية، الدعوة التى تلاهت بها القوى السياسية. أما الأسباب التى ساقتها الورقة بعدم مشاركة التجمع الوطنى الديمقراطى وحزب الأمة فى الحكومة الوطنية لإفتقارها برامج القواسم المشتركة والإجماع الوطنى فهو قول تعوزه الإبانة والتوضيح. فالمحاصصة وتوزيع الأنصبة إستناداً على نتائج إنتخابات 86 كادت أن تعصف بالتجمع الوطنى فى بداهة تكوينه وإختيار رئيسه قبل الإتفاق على برامجه وهياكله، وهى التى حملت حزب الأمة على الخروج من التجمع لعدم وجود مساحة قيادية تستوعب مكانة رئيسه بخلاف هيئة القيادة التى يتشاركها مع زملائه من رؤساء القوى السياسية من فصائل التجمع، وهى التى تسببت فى التراشق الإعلامى الأخير بين الحزب الإتحادى الديمقراطى الأصل والمؤتمر الوطنى. أما الخطوة الأخيرة، فكرة المنبر الأهلى، التى لا يجب أن يقتصر حضورها بجانب القوى السياسية على الشخصيات ذات المصداقية والمعروفة بميوليها الوحدوية فقط، وإنما يجب أن تشمل الإنفصاليين الشماليين والجنوبيين على حدٍ سواء؛ فهى فكرة قمينة بالوقوف والنظر والمعاينة! كونها طريقة جديدة للتعاطى مع مشكلاتنا الوطنية التى يجب ألا تستثنى محاولات علاجها أحداً على عكس تجربة قوى الإجماع الوطنى مما سنأتى على ذكرها لاحقاً.
    وجاهة الإقتراح/الخطوات لا يختلف عليها إثنان، ولكنا نختلف مع طريقة عرضها وصدورها من شخص كأن الدكتور كمير كونه فاعلاً فى الطرف الآخر ضد المؤتمر الوطنى "الشريك الأكبر"، يصنع الأحداث وليس متفاعلاً معها أو مراقباً لها، هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى لأن "الرفيق" د. كمير ما زال عضواً بالحركة الشعبية لتحرير السودان، الشريك الأصغر، وما يزال محتفظاً بعضويته فى مؤسساتها التنظيمية (المؤتمر العام، مجلس التحرير) حقيق به أن ينتخب من الأدوات والأفكار ما يحمل الشريك المتعنت على تنفيذ ما يعتقد فى صحته من الإتفاقية. أما كونه حانقٌ على، وعاتباً "يَلعنُ دين" بعض أو كل الممارسات فى داخل الحركة الشعبية فهذا لا يعفيه من تحمل المسئولية التنظيمية والأخلاقية والسياسية التى يحاول إلصاقها بقيادتها من خلال "نيران" نقده الصديقة وإسداءها النصح من على صفحات الصحافة المكتوبة والإسفيرية بدلاً عن إعمال لوائحها التنظيمية التى تفصل فى مثل هكذا مواقف. فإن لم تلقَ شكاته آذاناً صاغية فى مؤسسات الحركة التنظيمية، فالدستور يخوله الدعوة إلى إنعقاد طارئ لمجلس التحرير "أعلى سلطة تنظيمية فى غياب المؤتمر العام" وطرح ما يراه للبت فى أمره، المادة (17/1) من دستور الحركة. ولنا أن نتساءل عما الذى يحمل "الرفيق" الواثق على الإعتقاد بأن المؤتمر الوطنى سيحتفى بطوق نجاة خارطة الطريق التى دفع بها وفى البال تجربة "هل نرغب فى العيش سوياً" وغيرها من الكتابات التى لم تلق آذاناً صاغية لا من مفكرى الإنقاذ ولا من صقورها وفُتواتِّها؟
    أما التراجع الخطير عن مشروع السودان الجديد والإستعاضة عنه بحق تقرير المصير وإتفاقية السلام الشامل الذى أشارت إليه ورقة د. واثق فقد جانبها الصواب لعلم الكاتب بالأسباب الذاتية والموضوعية التى أقعدت الحركة عن التطور الطبيعى وإكتمال بنائها التنظيمى على الرغم من حداثتها، جدَّتها، وحداثوية طرحها الفكرى إ ذا ما قارناها بغيرها من الأحزاب والتنظيمات السياسية السودانية النظيرة، بالإضافة إلى عَسارة مخاض الإنتقال من العسكرى إلى السياسى التنظيمى. فعلى حداثتها تلك عقدت الحركة الشعبية فى أعقاب إنقسام الناصر مؤتمرها العام الأول وراجعت فيه برامجها المطروحة وفوضت قيادتها بإستصحاب وتنفيذ مهام جديدة طرأت فى العقد الزمنى الذى أعقب نشأتها الأولى فى ثمانينيات القرن الماضى. وبعد توقيعها على إتفاقية السلام الشامل أعلنت عن عملها السياسى والتنظيمى من جوبا فى يناير 2007 بتدشين رئيسها لحملة البناء التنظيمى وإنتشرت شمالاً فى فضاءات "غير محررة" وأتبعت ذلك بعقد مؤتمرها الأول لقيادات الشمال المنتخبين ثم أخيراً مؤتمرها العام الثانى والذى بموجبه خرجت الحركة لأول مرة منذ نشأتها بدستور ومؤسسات تنظيمية مكتملة ومنتخبة ومن الرشد بما يمكنها من إحتواء ومعالجة إنتقاد الأساليب التى تدار بها شأنها شأن الأحزاب السياسية الأخرى.
    عقدت الحركة الشعبية أيضاً فى الفترة من 12-14 مايو 2010 ورشة عمل ضمت إلى جانب قيادتها، كل الولاة (رؤساء الحركة بالولايات) الذين تم إنتخابهم على مستوى الولايات الجنوبية، لوضع السياسات والبرامج والإستراتيجيات التى تحكم عمل حكومة الجنوب للوفاء بالبرامج التى خاضت بها الإنتخابات والوعود التى ساقتها لشعب جنوب السودان الذى إنتخبها. إشتملت تلك السياسات على محاور الإستفتاء، الحكم الرشيد، توفير الأمن، الأمن الغذائى وتوفير الخدمات الأساسية ولعمرى تلك أجندة لم يأتها الأولين من الساسة فى بلادنا ولا أخلافهم، فللمرة الأولى تحظى الحركة، كتنظيم سياسى حاكم، ببرامج عمل واضحة المعالم والأهداف للحكومة التى تديرها والتى ستخضع لمساءلة ومحاسبة الشعب من خلال ممثليه فى البرلمان إن تباطأت أو تقاعست عن أداء مهامها. عليه لا تستقيم المساواة بين إصرار المؤتمر الوطنى جعل أسلمة الحكم هو برنامج حكومة الوحدة الوطنية وبين هدف الحركة التى نهدت لعلمنة الحكم إبتداءاً، وتسقط معه مزاعم الواثق بسيطرة قلة على الأمور داخل الحركة على كثرة التيارات المتصارعة داخلها وإن لم تتغالب بعد. أما التدابير التى إقترحها د. كمير وإنتخبها برنامجاً قومياً قد يخرج البلاد من نفق الإستقطاب الذى ترزح تحته، لم تأتى بجديد يُعتد به فقد تناولتها تقريبا مقرارات إجتماعات القوى السياسية منذ المائدة المستديرة وحتى اليوم والحال فى حاله والقوى السياسية هى هى.
    إذن موقف الحركة الشعبية لتحرير السودان من قضية الوحدة موقف مبدئى واضح أطلعت عليه الناس فى كل وثائقها ووضعت لهذه الوحدة شروطاً لم يتم الوفاء بها حتى هذا الآن من تسطير هذه الورقة. لهذا كان السيد باقان أموم متصالحاً مع نفسه عندما نعى فوات قطار الوحدة، إذ ليس معقولاً أن يتم الوفاء بشروط الوحدة وإستحقاقاتها فى شهور خمسة فيما تقاعد أولو الأمر عن الوفاء بها على مدار خمس سنوات خلت دون أن يطرف لهم جفن. يسترعى الإنتباه أيضاً الملاحاة والغبار الكثيف المثار حول هذه القضية من داخل أروقة الحركة نفسها، أراده دكتور الواثق كمير حواراً إستدرج إليه قيادة الحركة بسلسلة مقالات رصينة وموضوعية (دعوة للحوار مع النفس، في أعقاب الانتخابات: كيف يرضى الرئيسان المنتخبان مواطنيهما؟ وقطاع الشمال للحركة الشعبية: تمثيلٌ مؤسَّسي أم إشراكٌ مظهري وغيرها من الموضوعات). وعلى خلاف منهج الواثق وأدواته فى إدارة حواره/عراكه الفكرى والتنظيمى مع قيادة الحركة الشعبية، إنبرى آخرون يتقدمون صفوف معركة ليسوا أكيدين من خصمهم فيها كــ "الذى يبكى ميتاً لا يعرفه"! يصفون أنفسهم بالـ "أقلية" الشمالية داخل الحركة يتزعمهم، آخر القادمين، الأستاذ محمد المعتصم حاكم. فى حوارين أُجريا معه (الأحداث، الأهرام اليوم 27 يونيو 2010) إختزل فيهما "الزعيم" كل قضية الوحدة فى بضعة قوانين لا جاءت ولا ذهبت على الرغم من أهميتها فى تحقيق التحول الديمقراطى المأمول هذا أولاً، وضل طريقه ثانياً عندما تظنى أن المنحدرين من الشمال النيلى هم وحدهم الشماليين ضمن عضوية الحركة الشعبية بالإضافة إلى شخصنة تصريحات الأمين العام بكل عضلاته التنظيمية وقدارته الفكرية. فى ذَيْنك الحوارين وبـ" لوثة تنظيمية" واضحة تحدث الأستاذ حاكم عن إنخراط القطاع الشمالى للحركة الشعبية، الذى يقوده نائب الأمين العام وعضو مكتبها السياسى، فى حوارات وورش عمل تبحث فى مزايا الوحدة ومخاطر الإنفصال على مدار الأسابيع المنصرمة، وهو أمر نَشكُ كثيراً فى صحته!! لأن موقف الحركة من الوحدة موقف مبدئى لم، ولن، يخضع للتَزيُّد ولكنه مشروط بإستحقاقات إلتزمتها بحذفارها من خلال مراجعة وإعادة تقييم برامجها الإستراتيجية (المؤتمرين الأول والثانى أبريل، مايو 1994، 2008) بإستصحاب المتغيرات الإقليمية والدولية والوطنية (مانيفيستو 2008) لهذا لا نقوى على إزدراد فكرة "مزايا" الوحدة و"مخاطر" الإنفصال هذه على خلفية المراجعات الدورية لهكذا قضايا. أمر آخر يؤكد ما ذهبنا إليه من تشكيك فى رواية قصة الورشة، هو أن القطاع الشمالى للحركة الشعبية لا يَستن، منفرداً، السياسات ذات الطابع القومى ولكنه يشارك فى إستنانها كونها مسئولية منوطة بأجهزة تنظيمية أخرى على مستوى المكتب السياسى ومجلس التحرير القومى ويقع عبء تنفيذها على أمانتها العامة بما فيها القطاع الشمالى الذى أزاح مسئوله الأول فى آخر مؤتمراته الصحافية الستار عن إعادة تنظيم تسعة ولايات منه فى هدء تام بعيداً عن ضوضاء الإعلام و جدل قضايا الراهن السياسى.
    موضوع آخر لايمت إلى الحقيقة بصلة أثارته إفادات الأستاذ حاكم هو "الأقلية" الشمالية داخل الحركة الشعبية. فالمؤتمر العام الثانى للحركة الذى إنعقد فى مايو 2008 والذى كان ثلث عدد حضوره من ثلاثة عشر ولاية "شمالية" تشكل قطاع الشمال التنظيمى وليس الشمال الجغرافى الذى يشمل ولايتى جنوب كردفان والنيل الأزرق اللتان تتبعان تنظيمياً، وليس جغرافياً، إلى القطاع الجنوبى، بالإضافة إلى منطقة أبيى التى لم يتحدد مصير تبعيتها للشمال أو الجنوب بعد. عليه تعوز حجة "أقلية" الشماليين فى الحركة الصدقية إن كان "الزعيم" يعنى بالشمال "الشمال الجغرافى" الذى شكل مندوبيه أكثر من نصف أعضاء المؤتمر العام نفسه. بمعنى آخر أن عدد الشماليين الذين حضروا المؤتمر العام الثانى كان أكثر من عدد أقرانهم الجنوبيين (15 ولاية شمالية فى مقابل 10 ولايات جنوبية لا تشمل منطقة أبيى ذات الوضع الخاص)، أما إن كان قد عنا بـ "الأقلية الشمالية" الأعضاء المنحدرين من الشمال النيلى (إثنياً) فذلك أمر نمسك عن الخوض فى "لُوَّاكتِه" إذ لا تزال الحركة الشعبية لتحرير السودان تنظيماً سياسياً واحداً على مستوى كل السودان، كما لم تدعو قيادتها ومؤسساتها القومية إلى تقاسم تركتها شمالاً وجنوباً حتى يذهب أعضاءها إلى عقد حوارات وورش من تلك الشاكلة. أما قضية الوحدة التنظيمية هذه تناولها بالنقاش إجتماع المكتب السياسى الأخير الذى أمّن على إختلاف إهتمامات قواعد الحركة على مستوى السودان لا سيما فى راهن المرحلة، فالقضايا التى ينشغل بها أعضاء الحركة فى دارفور على سبيل المثال تتعلق بتوفير الأمن وتحقيق السلام وهى تختلف مع ذات عضوية الحركة من النيل الأزرق المشغولة بالمشورة الشعبية، إلا أن هذه التباينات لن تلغ الوحدة التنظيمية للحركة كحزب سياسى.
    ثالثة أثافى المعتصم فشخصنة تصريحات ومقالات الأمين العام للحركة لأجهزة الإعلام وتفسير مواقفه، إن لم يكن تصحيحها. حيث سئل عن الخط الإنفصالى الذى تقوده الأمانة العامة فأجاب، وللدهشة، بــــــ : "أنها رؤية الأمين العام (أى شخصية) وأنها رد فعل لما ظل رئيس البرلمان يدلى به للصحافة حول جعل الوحدة جاذبة بالقانون". ولكأنا بالأمين العام يشيح بوجهه خَجِلاً من المَعاتِبة له على تصريحاته التى تتصدر عناوين الصحافة السيارة داخل وخارج السودان، لكأنا به يحتاج إلى من يجمل وجهه أمام العامة بتبرير مقالاته تلك. كان منطقياً لو أن المُحَاور تناول التأثير السلبى لتصريحات الأمين العام مثلاً كونه سياسياً وقيادياً يساعد الناس على تشكيل وعيهم حول مختلف القضايا ومن بينها قضيتى الوحدة والإنفصال، وهو ما لا يتعارض فى الأساس مع مهمته "الشخصية" الأساسية التى دفعته إلى التمرد على الدولة دفاعاً عن حرية أهله وكرامتهم وعزتهم ورفاه عيشهم. أما اللا منطقى أن يأتى من هم دون الأمين العام تنظيمياً لإستدراك ما يأتيه من قول وفعل، نحن لا ندعى نبوة الإمين العام وعصمته عن الخطأ ولكنا نؤكد بأنه لا ينطق عن هوى. من ناحية أخرى كان السؤال عن الأمانة العامة للحركة وليس أمينها العام ولكن "الزعيم" الذى تقمصته روح ضحية صراع الوحدوين والإنفصاليين المتخيلة، إطّرح جانباً المؤسسة بغضها وقضيضها وإستعاض عن ذلك بحشر تصريحات السيد باقان حشراً فى إجابته على التساؤل المطروح عليه عن الأمانة العامة التهيمة وهو جزء منها ولكن الحمد لله الذى لا يحمد على مكروه سواه!! ما نعرفه عن تكوين الهياكل التنظيمية للحركة الشعبية لتحرير السودان أن أمانتها العامة تتألف من الأمين العام ونوابه للقطاعين الشمالى والجنوبى بالإضافة إلى السكرتارية القومية المكونة من ثمانية شعب (المادة 21/2 من دستور الحركة الشعبية المجاز فى مؤتمرها العام الثانى مايو 2008) عليه فمقالات الأستاذ حاكم "الوحدوية" التى يدور بها على وسائل الإعلام تأتى فى إطار الأمانة العامة بوصفه نائباً لسكرتير قومى، ومقالات الأستاذ ياسر عرمان التى يتحدى بها الأستاذ حاكم أيضاً تعبر عن الأمانة العامة وإلا فما الذى يعنيه بـ "أنها رؤية الأمين العام"؟!.

    موقف القوى السياسية من قضية الوحدة
    ما أن تذكر القوى السياسية إلا ويتقافز إلى الأذهان الحزبان الكبيران الإتحادى الديمقراطى والأمة وذلك لعدة أسباب من بينها بداهة النشأة والتكوين، بالإضافة إلى الأدوار التى لعباها فى الحياة السياسية السودانية سلباً وإيجاباً. فبعد أن نال السودان إستقلاله دبت متلازمة الإئتلاف والإختلاف بين الحزبين الكبيرين ومعها تَقَيَّحت جراح الجنوبيين المغدورين التى حملتهم إلى المطالبة بالإنفصال عبر ممارسة حق تقرير المصير فى مؤتمر المائدة المستديرة فى 1965. عقب إنهيار إتفاقية أديس أبابا وعودة الحرب التى قادتها الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان، تداعت القوى السياسية السودانية إلى الإجتماع فى كوكادام مارس 1986 للتباحث حول موضوعة السلام. عن ذلك الإجتماع تغيب الحزب الإتحادى الديمقراطى والجبهة الإسلامية القومية التى كانت تعد وتمّكن لنفسها. تواضع المجتمعون على عقد مؤتمر دستورى بعد خمسة أشهر، أغسطس من ذات العام، من الإجتماع الأول للتداول حول المقترحات التى إشترطتها الحركة الشعبية للحاق بركب السلام وهى إعادة تعريف مشكلة الجنوب، إلغاء المجلس العسكرى الإنتقالى وتكوين حكومة قومية، إلغاء الشريعة الإسلامية وإلغاء معاهدات الدفاع المشترك والتكامل الإقتصادى والسياسى بين مصر والسودان.
    على الرغم من مشاركة حزبه فى إجتماع كوكادام وتوقيعه على مخرجات الإجتماع؛ تنصل السيد الصادق المهدى، رئيس حزب الأمة، عن الإتفاق بدعوى عدم تفويض موفديه إلى الإجتماع على التوقيع. وعلى الرغم من المعاندة والممانعة التى وجدها السيد محمد عثمان الميرغنى داخل حزبه نجح فى التوقيع على إتفاقية السلام السودانية (الميرغنى-قرنق) فى نوفمبر 1988. عد ذلك الإتفاق إختراقاً وقيمة مضافة إلى الجهد المعمول لتحقيق السلام فى السودان، ولكن خصومة الحزبين الكبيرين وتباريهما الحزبى أقعد السيد الصادق المهدى، رئيس الوزارة حينها، عن إستحسان الإتفاق وتطويره لمصلحة السلام فى السودان فى ذات الآن الذى فشل فيه لقائه بزعيم الحركة الشعبية فى يوليو 86 والإتفاق على عدم الإتفاق حتى إختطفت منه الوزارة ولم يبقى لا الميرغنى-قرنق ولا يحزنون، إذ أعلن المختطفون فى بيانهم الأول عدم إعترافهم بأية إتفاقية تم التوقيع عليها قبل مقدمهم الميمون.
    محطة أخرى مهمة فى مسيرة القوى السياسية الشمالية والجنوبية هى محطة التجمع الوطنى الديمقراطى؛ وعلى غرار الحركة الشعبية لتحرير السودان التَهِيمة، "تحورت" لأسباب ذاتية وموضوعية ووفقاً للظروف الإقليمية والدولية، برامج التجمع الوطنى ففى المبتدأ كانت شعارات إقتلاع النظام من الجذور وكان الخبر أن تم التوقيع على إتفاقية القاهرة فى يونيو 2005. عشية الإعلان عن إتفاق مشاكوس الإطارى الذى خاطب ضمن قضايا أخرى، علاقة الدين بالدولة، وليس فصله عنها، ووحدة السودان عبر حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، عشية ذلك الإعلان قامت دنيا التجمع الوطنى الديمقراطى وخرج بمذكرة قانونية تنتقد الإتفاق ولم تجلس دنياه إلا بحضور الراحل المقيم د. جون قرنق دى مبيور لإجتماع هيئة قيادة التجمع بأسمرا. قبل أن يتم التوقيع على إتفاقيتى السلام الشامل والقاهرة فى يناير، يونيو 2005؛ إجتمع المبعوث البريطانى للسودان الآن قولتى فى القاهرة بأعضاء هيئة قيادة التجمع الوطنى الديمقراطى فى أعقاب اللغط الذى أثاروه حينها عند توقيع الحركة لإتفاق مشاكوس الإطارى بدعوى قبول الحركة والمجتمع الدولى لتقسيم السودان على أساس دينى سمح بأن يحكم الجنوب بقوانين علمانية والشمال بأخرى إسلامية؟! ألقم رد المبعوث البريطانى المجتمعين حجراً إذ قال فى ذلك الإجتماع: "لا يوجد أدنى ما يحملنى على الإعتقاد بأن للقوى السياسية الشمالية أدنى مشكلة مع تطبيق الشريعة الإسلامية، حيث لم يخرج أيٍّ منها إلى شوارع الخرطوم للتنديد بتطبيقها" وقد صدق إعتقاد الرجل. فالمرجعية التى وافقت الحركة على أساسها على التفاوض مع النظام كانت إعلان مبادئ الإيقاد أى قبل إنعقاد مؤتمر القضايا المصيرية فى يونيو 1995 وتحديد مرجعياته التى يستند عليها التجمع فى مواقفه السياسية. ولمعالجة إعلان المبادئ ضمن قضايا أخرى، لموضوع علاقة الدين بالدولة ألقى التجمع بثقله خلف المبادرة الليبية-المصرية المشتركة لعدم تضمنها موضوع حق تقرير المصير الذى فطنت له دول الإيقاد المتأثرة مباشرة بالحرب التى تدور رحاها فى جنوب السودان بحكم متاخمتها له بسبب تدفق اللاجئين إلى مدنها بعكس دولتى المبادرة المشتركة. إذن الموقف الظاهر لرفض التجمع لإتفاق مشاكوس لم يكن بسبب من النص على موضوع الشريعة أو الدين فى الإتفاق بقدر ما كان عدم شمول مبادرة الإيقاد للتجمع بعكس المبادرة المشتركة.
    إنتهج التجمع الذى نعرف، وتفعلون، إبان حربه ضد الخرطوم من الأدوات النضالية -النضال المسلح، الحصار الديبلوماسى والإنتفاضة المحمية بالسلاح - ما لا يتناسب وقدراته الفعلية، فكانت شعارات "سلم تسلم" و"إقتلاع النظام من جذوره" وعلى مدى أكثر من عقدين من الزمان لم يُقتلع النظام، كما لم تتهدد أركانه جحافل التجمع فى شوارع الخرطوم لتحمله على التسليم، بالإضافة إلى تقاصر مجهود التجمع الديبلوماسى عن محاصرة النظام خارجياً. وعلى الرغم من مقدم وفده للمشاركة فى ترتيبات الفترة قبل الإنتقالية بعد التوقيع على إتفاقيتى السلام الشامل والقاهرة، ألقى الهبوط "الإضطرارى"، كما يحلو للبعض وصفه، لرئيس التجمع الوطنى الديمقراطى ورئيس الحزب الإتحادى الديمقراطى، ألقى بظلاله على التجمع ومأسسته التنظيمية وتفرق أداؤه أيدى سبأ بين تصريحات قادة فصائله المتضادة. تبارى السيدين وبالتالى الحزبين "الكبيرين" من ورائهما كان حاضراً على الرغم من مفارقة حزب الأمة له قبل توقيع إتفاقية القاهرة، بالإضافة إلى عمل فصائله بشكل منفرد فى ظل غياب إجتماعات هيئه القيادية.
    أمر آخر قمين بالتناول، هو موقف الحزب الإتحادى من وحدة السودان وإستراداف عمله لقوله. وحدة السودان "تراباً وشعباً" ظلت قضية محورية فى الأجندة "الوطنية" التى يحتقبها رئيس الحزب فى كل تسفاراته الخارجية الباحثة عن تحقيق السلام والإستقرار فى السودان، وحتى الآن لا الشعب ولا التراب أحسا بالأثر الإيجابى لكل ذلك الترحال. كما إن إطلاق تصريحات ومقالات على شاكلة "وحدة السودان خط أحمر ولن نسمح بتجاوزه" تصبح خاوية المضمون وتكشف عن إغتراب وعى مطلقيها فى ظل وجود إتفاقية مشهودة أقرت حق تقرير المصير بخياريه الإثنين، وتصبح أكثر خواءاً إن لم تنطلق من على المنابر فى مدن جنوب السودان لحث الجنوبيين على التصويت لصالح وحدة السودان لتأكيد مصداقيتها على الأقل. أما عزة "جنوب السودان الحبيب" التى يتصايحون بها من على ثقائف المنابر فى دور الجوار الأفريقى والعربى والغربى فتلك مزحة سمجة كون أبطالها يعرفون عن تلك العواصم أكثر ما يعرفونه عن عاصمة جنوب السودان ومدنه الأخرى.

    قوى الإجماع .. مشروع وطنى لما بعد يسفر صبحه!!
    لطبيعة القضايا القومية التى إشتجرت عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان مع شريكها المؤتمر الوطنى على مستوى كل مؤسسات الشراكة؛ وجهت القيادة سكرتاريتها القومية بإجراء حوار عميق مع القوى السياسية السودانية حول هذه القضايا للوصول إلى إجماع وطنى حولها. على ذلك الأساس إلتقت السكرتارية القومية بقيادة الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان مع كل القوى السياسية لإستجلاء مواقفها من الدعوة التى وجهت إليهم. على تلبية تلك الدعوة وافق البعض وتلكأ البعض الآخر ما بين الرفض الصريح وما بين التردد فى القبول.
    رفض المؤتمر الوطنى والحزب الإتحادى الديمقراطى "الأصل" دعوة الحركة الشعبية لحضور الإجتماع بمبررات واهية لا تقف على ساق. الأول تعلل، ظاهريا، بعدم إشراكهم فى إعداد أجندة الإجتماع إبتداءاً وسوف لن يشارك للبصم على ما تم إعداده مسبقاً. كما رفض، جوهرياً، لزعمه بأن الحركة الشعبية تعد بمساعدة القوى السياسية لمحاكمته وتجريمه رداً على مسرحية "كنانة" الشهيرة لذلك وضع إشراك أحزاب التوالى "الأمبيبة" كأحد شروط مشاركته. عن ذلك التَزيُّد لم يتأخر الحزب الإتحادى "الأصل"، أولاً، وأول القصيدة كفر، صكَّ شعاراً جديداً بألا "عداء للوطنى" وأستردف موقف المؤتمر الوطنى بعد إشراكه فى التحضير والإعداد للإجتماع. التحضير الذى عَناه هؤلاء وأولئك هو الدعوة الشفاهية التى قدمتها الحركة الشعبية للقوى السياسية لدى إجتماعها بهم لإستجلاء موافقتهم عليها من عدمه قبل أن تشرع فى إرسال دعوات مكتوبة لذات الغرض. ما الذى جاء فى الدعوة؟ وما هى الأجندة التى زعم المُزايِّدون بعزلهم عن إعدادها؟
    وجهت، بتاريخ 2 سبتمبر 2009، دعوات مكتوبة من السيد سلفاكير ميارديت، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، لكل القوى السياسية السودانية ومنظمات المجتمع المدنى لحضور الإجتماع المزمع عقده بمدينة جوبا فى الفترة من 11-15 سبتمبر. كما وجهت دعوات مماثلة لكل الهيئات الديبلوماسية والمنظمات الأجنبية المنشغلة بقضايا السودان بالإضافة إلى أجهزة الإعلام المحلية والعالمية للحضور بصفة مراقبين. أما أجندة الإجتماع التى أُرفقت مع الدعوة فقد جاء فيها أن القضايا التى سيتداولها المجتمعون بالنقاش هى: 1) المصالحة الوطنية وتضميد الجراح، 2) التحول الديمقراطى، 3) أزمة دارفور، 4) الإحصاء السكانى والإنتخابات و5) حق تقرير المصير والمشورة الشعبية.
    تأجل الإجتماع عن الإنعقاد فى الموعد المضروب بسبب رغبة المؤتمر الوطنى فى المشاركة وتلك رغبة لا يمكن لا للحركة ولا للقوى السياسية المشاركة فى إجتماع جوبا التغاضى عنها. إلتقى وفد من المؤتمر الوطنى بنائب رئيس الحركة د. رياك مشار وبعض أعضاء مكتبها السياسى وسألوهم أن يطَّرحوا جانباً كل ما تناقلته وسائل الإعلام عن رفضهم المشاركة فى الإجتماع إلى حين الخلوص إلى موقف رسمى للمشاركة من عدمها. بهذا الموقف أُدخل أصحاب شعار "لا عداء للوطنى" فى موقف حرج لا يحسدون عليه وأصبحوا فى رجاة موقف المؤتمر الوطنى كالمومس جسدها فى مكان وقلبها وأعينها فى مكان آخر حذارة الدهم.
    على أىٍّ، إنعقد الإجتماع فى الفترة من 26-30 سبتمبر بمقاطعة المؤتمر الوطنى وبمشاركة ثمان وعشرين حزباً سياسياً وخمس منظمات مجتمع مدنى، بالإضافة لمشاركة نائب رئيس الحزب الإتحادى الأصل على محمود حسنين الذى بعث بتاريخ 9 سبتمبر من مقر إقامته بلندن برسالة ضافية أدلى فيها بموقف "حزبه" من القضايا المطروحة للنقاش، ونقل من ثم "مباركة وتأييد جماهير الحركة الإتحادية ومن ورائها جماهير شعبنا الذى يتطلع إليكم من أجل الخلاص والإنعتاق" مزيلاً الرسالة بتوقيعه نائباً لرئيس الحزب الإتحادى الديمقراطى الأصل. ولدى وصوله مطار جوبا تحدث إلى الصحافيين رداً على مشاركته "الشخصية" وليس التنظيمية بقوله: الغريب أن يتغيب الحزب الإتحادى عن تظاهرة كتلك. خلص الإجتماع إلى الإتفاق حول القضايا الخمسة موضوع الأجندة الرئيسية وخرج المجتمعون بإعلان جوبا للحوار والإجماع الوطنى الذى أُشهر على الناس رسمياً بعد التوقيع عليه فى حفل بهى بقاعة الصداقة بالخرطوم فى أكتوبر 2009.
    خلاصة القول أن تفاعل القوى السياسية السودانية ولأول مرة منظمات المجتمع المدنى فى بحث مستقبل السودان بعد أكثر من نصف قرن من الزمان منذ إنعقاد مؤتمر جوبا فى 1947، كانت فرصة جيدة لإنقاذ السودان من "الإنقاذ" والمصائب التى طالته من ورائه لو أخلص المجتمعون النية لذلك الفعل. وبدلاً عن طهارة النية غلب التعامل التاكتيكى على كل ما هو إستراتيجى فإنتهت قوى الإجماع الوطنى إلى ما أنتهى إليه التجمع الوطنى من قبله. تمظهر التعامل التاكتيكى أولاً فى رفض بعض القوى السياسية فى تحالف أحزاب المعارضة لولاة السيد مبارك الفاضل، رئيس حزب الأمة الإصلاح والتجديد، رئاسة اللجنة التحضيرية لإجتماع القوى السياسية الذى دعت له الحركة والتى كانت تنتهى عند أمينها العام كل عمليات التحضير. إذ تلقت القوى السياسية دعوة حضور الإجتماع منفردة؛ لكنها قررت مجتمعة مشاركتها فى الإجتماع وكلفت السيد مبارك إبلاغ الحركة تلك الموافقة لأن التجمع نفسه كان يعد للإتصال بالحركة لعقد إجتماع يضمها إلى جانب القوى السياسية بجنوب السودان. ثانياً محاولات الإستقواء "التاكتيكية" بالحركة من بعض الأحزاب الكبيرة كانت حاضرة قبل إنعقاد الإجتماع نفسه، فللحركة مزايا و"جاذبية" لا تفشل فى "غواية" ممن إبتعدوا أو أُبعدوا بالأحرى، عن ممارسة السلطة لوقت غير قصير، فهى ذات سلطان على جنوب السودان وتتشارك الحكم على المستوى المركزى كونها أحد طرفى إتفاق السلام الشامل بالإضافة إلى أنها صاحبة مكانة إقليمية ودولية. بناء على ذلك قدم حزبان كبيران، الأمة القومى والمؤتمر الشعبى، إلى الجنوب للإلتقاء بقيادة الحركة بهدف قَنْص إتفاق ثنائى قبل مقدم الآخرين على الرغم من إستهداف التنظيم إجماعاً وطنياً لا يستثنى إلا من تأبى "الإجماع". بناء على ذلك، وفدت القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدنى إلى جوبا وتحت رماد تحالف أحزاب المعارضة وميض نار على خلفية إحتدام التبارى "الحزبى" بين فصائله بسبب إصرار بعضها على إعداد أوراق مسبقة حول موضوعات إجندة الإجتماع الخمس حفظاً للوقت. أما آخر الأثافى، هو مهر كل المجتمعين شرط مشاركتهم فى الإنتخابات العامة (المادة 4/3، بند التحول الديمقراطى، إعلان جوبا للحوار والإجماع الوطنى) وتفهم خطورة مقاطعة الحركة للإنتخابات العامة فى الجنوب وإمكانية مقاطعتها لها على مستوى قطاعها الشمالى أسوة بما تم فى جبال النوبة، رغماً عن ذلك خاضت بعض قوى الإجماع الوطنى الإنتخابات وعادت أكثر ثقةً بجحيم "شجرة" المؤتمر الوطنى، الذى تهددته بغلاظة إن لم يستجب لمطالبها بعد 30 نوفمبر.
    أمر آخر يضاف إلى قائمة تاكتيكات فصائل قوى الإجماع الوطنى فى تعاملها مع القضايا الوطنية، هو "تهميش" منظمات المجتمع المدنى التى توفر بها إجتماع القوى السياسية على الفرداة والإختلاف عما عداه من فعاليات إستهدفت البحث عن السلام فى السودان. حيث كان آخر عهد لتلك المنظمات بقوى الإجماع الوطنى هو حفل التوقيع الرسمى على إعلان جوبا للحوار والإجماع الوطنى فى أكتوبر 2009. ومما يؤسى له أيضاً هو تهميش منظمات المجتمع المدنى من جهة، والسعى إلى إختطاف نضالات الصحافيين والأطباء ضد عسف المؤتمر الوطنى وجبروته ويالها من ذهنية تلك التى يتمتع بها قادة العمل العام فى هذا الوطن.
    خلاصة: خسران الرهان على وحدة زائفة
    قضية الوحدة وجدت فى الآونة الأخيرة الكثير من الإهتمام وتسليط الأضواء، فعقدت لها الندوات العامة ذات الطابع النخبوى. كما أفردت لها العديد المساحات فى أجهزة الإعلام "القومية"، بيد أنه جهد "يعرض برة الدارة" لأسباب عدة منها مركزة هذا النشاط فى الخرطوم وليس مدينة يامبيو أو أنزارا وبالتالى إغترابه عن فضاءات الناخبين الستهدفين فى مدن وتخوم جنوب السودان الأخرى. كما أن أجهزة الإعلام "القومية" المرئية والمسموعة لا تتمتع بذائقة فى جنوب السودان تحرص على متابعة برامجها وأخبارها، على عكس الصحافة المكتوبة التى تجد الشعب فى "العاصمة" جوبا وفى بعض المدن الجنوبية القريبة منها يداوم على قراءة ما تسمح بشحنه شركات الطيران المدنى. أما الندوات "الصفوية" الهادفة إلى تبصير الشعب فى جنوب السودان بمحاسن الوحدة ومساوئ الإنفصال ومخاطره من الخرطوم بدلاً عن تناولها لقضية الساعة المطروحة، تذهب إلى الحديث عن نزاهة الإستفتاء "المتخيلة" وعن الممارسات "السلبية" للحركة الشعبية لتحرير السودان وأجهزة "إستخباراتها" التى سوف تعطب تلك النزاهة. ومما يؤسف له أن تلك الندوات لا تستضيف من القيادات الجنوبية إلا تلك إستمرأت التمرغ فى نعماء المؤتمر الوطنى وأستجادت التزيد بمعاناة أهليهم فى جنوب السودان وهم بعيدون عنهم آلاف الفراسخ بمناصبة الحركة الشعبية عداء فارغ المضمون، لذلك تتطابق رؤى هولاء مع أولياء نعمتهم التى يخشون زوالها إن تجرأوا وأدلوا بغير ذلك من لغو.
    بنشأتها فى مايو 1983 ضمت الحركة لعضويتها العديد من التيارات المتضادة التى إصطدمت ببعضها منذ بداهة عهدها بالنضال فى 1984 واستمرت على ذلك الحال إلى أن إنضم جبال النوبة والنيل الأزرق ولاحقاً مجموعات من الشمال فتحولت الحركة من جنوبية إلى قومية وحدت نضالات المهمشين ووفرت لهم المنبر الذى يساعدهم فى تحقيق أهدافهم ومصالحهم المتباينة. على ذلك الأساس تزايدت عضوية الحركة وتصاعد تمددها فى الشمال بسبب إمكانية إستيعابها للكثير من التيارات المختلفة والمتباينة فى داخلها بفضل إبتعادها عن الأفكار والرؤى العقائدية المقيدة. أما وقد بلغنا هذا الحد، فلا نظن أن الحركة فى موقع يؤهلها للتعاطى مع ملفات تختلف عما هو مطروح كإستفتاء شعبى جنوب السودان وأبيى وترسيم الحدود ليس بسبب تراجع ذاتى عن رؤيتها وطروحاتها القومية، وإنما لأسباب موضوعية، ليس من بينها بالضرورة نجاح المؤتمر الوطنى فى حشرها فى خانة جنوبية ضيقة، ولكن لمساهمة القوى السياسية السودانية بخَوَر إقبالها التاكتيكى على قضايا الوطن الكبرى، وسكوتها وإنتظارها لما سيسفر عنه تناطح الشريكين للتشفى والتَزيُّد. كما أن تعامل المجتمع الدولى والإقليمى مع الوضع فى السودان على أساس حسم إتفاقية السلام الشامل لقضية الصراع بين الشمال والجنوب يضع الحركة فى وضع لا تحسد عليه، فهى وفقاً لهذه النظرة لا تمتلك أى موقف أخلاقى يساعدها على إنجاز أية أداور قومية على مستوى الشمال إلا فى حالة تَخيُّر الجنوبيين لوحدة السودان. لهذا فإن مهمة الحركة الشعبية لتحرير السودان فى هذه المرحلة هى تأمين وصول الناخبين إلى صناديق الإقتراع لتقرير مصيرهم الذى تعهدت أن تهئ له الأجواء المواتية. وقد يتساءل البعض عن مسئولية الحركة فى التأثير "الإيجابى" على قرار أولئك الناخبين بما يحفظ ماء وجهها ويعفيها من تحمل المسئولية الأخلاقية تجاه أعضائها فى القطاع الشمالى "التنظيمى"، وهو أمر تناولناه فى مقام آخر من هذا المقال ولكن نزيد إليه موقف آخر يكشف عن طرائق التعامل مع القضايا المصيرية للشعب السودانى. فى زيارته قبل الأخيرة لمدينة جوبا، عرض الأستاذ على عثمان على قيادة الحركة الشعبية التعاون، أولاً، والعمل المشترك من أجل وحدة السودان ثانياً، رد الحركة على ذلك العرض جاء على لسان رئيسها نحن نرغب فى التعاون معكم، وإعمالاً لحسن النية قدم الفريق سلفاكير للأستاذ على عثمان خطابات توجه بتسهيل حركة السلاح وتخزينه لبعض المليشيات الناشطة فى جنوب السودان ممهورة بتوقيع أحد أعضاء الوفد المرافق لنائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطنى لتفسير معنى ذلك!! أما موضوع العمل المشترك فقد أطلعت الحركة شركائها بفقدانها للثقة فى التعامل معهم بسبب مواقفهم المتعنتة من تنفيذ إتفاقية السلام التى كان يمكن أن تساعد الجنوبيين على إختيار الوحدة وعلقت عليه بالقول لكم دينكم ولنا دين ولتضموا فى طريق إقناع الجنوبيين بالتصويت لصالح الوحدة منفردين. أوردنا هذه القصة للتدليل على نفاق المؤتمر الوطنى وتعامله التاكتيكى مع القضايا المصيرية، فقد أجزم الدكتور مصطفى عثمان مستشار رئيس الجمهورية حينها، ومسئول العلاقات الخارجية بالمؤتمر الوطنى، بعدم مسئولية الحكومة الإتحادية بتنفيذ أية مشاريع تنموية قومية بالجنوب الذى يتمتع بحكومة تسئل عن تلك المشاريع (حوار أجرته الصحفية أسماء الحسينى بالقاهرة، الصحافة)، ليأتى الأستاذ على عثمان، نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطنى على رأس وفد ضخم لبحث تنفيذ مشاريع "تنموية" لجنوب السودان بمئات الملايين من الدولارات. هذا هو المؤتمر الوطنى الذى يتشاركه نائب الرئيس ومسئول العلاقات الخارجية وهذه هى الطريقة التى يديران بها الدولة منو موقعيهما فى الجهاز التنفيذى.
    أما القوى السياسية الأخرى فلا يعدو كونه نفاقاً صياحها على، ونعيها للوحدة لأنه صياح لم يتبعه أى عمل يخاطب قضايا المستهدفين فى قراهم "الجنوبية". السانحة اليتيمة كانت الندوة التى عقدت بمقر برلمان حكومة الجنوب على هامش إجتماع قوى الإجماع الوطنى بجوبا، والتى أستنكر فيها الحضور تسبب السيد الصادق المهدى والدكتور حسن الترابى فى كل ما حاق بهم عندما كانا على سدة الحكم، ليأتيا ويتحدثان عن حل مشاكل السودان وهما فى الصف المعارض. كما قيام الإنتخابات العامة الأخيرة كشفت ورقة التوت التى سترت عورة موقف القوى السياسية؛ فمن بين أربعة عشر مرشحاً لرئاسة الجمهورية لم يأت غير إثنان منهما يسئلان الجنوبيين التصويت لبرنامجيهما الإنتخابيان، هما الرئيس البشير والأستاذ ياسر عرمان فى ظل حضور خجول لمرشح الشعبى لبحر الغزال وغياب كامل لبقية المرشحين الذين لم يتحملوا حتى عناء إبتعاث أو إنتداب أعضائهم من الجنوبيين لنشر ملصقاتهم الإنتخابية فى مدن جنوب السودان.
    أخيراً نذهب إلى القول بأن أمر وحدة السودان فى مجمله لم يكن غير ألعوبة فى أيدى القوى السياسية السودانية تجاذبته وفقاً لأهوائها الحزبية عندما تعاورت على الحكم، وعند إنسرابه من بين يديها سعت مع وسعتها السعاية والتاكتيك لإستعادته. على أن المحك الذى وضعت فيه الحركة الشعبية لتحرير السودان قضية وحدة السودان مقابل الدولة الإسلامية؛ ينقل الجدل حول هذه القضية إلى مرحلة جديدة تستدعى تعاطياً جديداً شكلاً ومتناً. فالمؤتمر الوطنى كان متصالحاً مع نفسه عندما رفض قبول مجرد فكرة الحديث عن موضوع الدولة الإسلامية إبان إجتماعات الشريكان بالقاهرة التى رعتها الحكومة المصرية فى فبراير الماضى ولا نظنه سيتراجع عن ذلك التصالح. عليه تبقى الكرة فى ملعب القوى السياسية لا سيما "ذات الوزن" و "القاعدة الجماهيرية" التى يجب أن يحفزها موقفى الشريكين المتضادين إلى توضيح رؤيتها من معادلة الوحدة والدولة الإسلامية بالإضافة إلى عصرنة موقفها الذى يستجدى طرفى إتفاقية السلام بإشراكها فى نقاش وبحث القضايا القومية بإنتخاب أدوات جديدة تساير الحراك الحاصل وتحملهما على الوقوف والإنصات إن كان هنالك ثمة وقت.
                  

08-10-2010, 12:54 PM

على عجب

تاريخ التسجيل: 06-23-2005
مجموع المشاركات: 3881

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وحدة السودان والاستهبال..مقال جدير بالقراءة (Re: على عجب)

    Quote: تَقاوَدت الحكومات "الشمالية" منذ إعلان الإستقلال وحتى إختطاف الإنقاذ الحكم بليل يونيو 89، تقاودت الإستهبال السياسى حتى وجدنا أنفسنا أمام "ورطة" حق تقرير المصير التى أوسعت الفتق الذى أعيا الراتق "المفاوض الحكومى" بنيفاشا بفضل إنسراب تلك المفردة إلى الأدب السياسى فى السودان وعدم مبارحتها لا لوثائق النظام الحاكم ولا وثائق معارضيه. أسميناه إستهبالاً سياسياً لمحاولات آباء الأستقلال وورثَتِهم من بعد التذاكى على أقرانهم من الجنوبيين؛ ففى البدء وعدوهم بالحصول على الفيدرالية ولما نالوا الإستقلال، تنكروا لما عاهدوهم عليه وتَمحَّكوا عند النظر بعين الإعتبار لتلك المطالب
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de