في ليلة إستدعت كل ألق الماضي بخيمة الصحفيين التي تنظمها طيبة برس بفندق ريجينسي، كانت سيرة الفنان العبقري إبراهيم الكاشف تنساب مثل صوته العذب في أنس رمضاني تنادي له محبي الطرب الأصيل، في الليلة الرابعة عشرة التي حملت إسم "ليلة الكاشف"، والتي إستضاف فيها الإعلامي عمر محي الدين الباحث د. أمير النور الذي كشف غيض من فيض صاحب الصوت الملائكي، وتفاصيل من حياته الذاخرة بدرر الاغنيات والألحان، التي أبدع في اداءها الفنان أحمد البحراوي بانتقائه لباقات متنوعة من عبقريات الكاشف التي تتجلي عبر الزمان وتتعتق في المسامع والوجدان، الذي كان للكاشف وآخرين دوراً بارزاً في تشكيله.
رائد الفن ما لا شك فيه هو ما بتدر به د.أمير النور حديثه بقوله أن الكاشف هو رائد الفن الحديث في السودان واحد العمالقة الكبار الذين لعبوا دور عظيم في مسيرة الفن السوداني، وهو ظاهرة وفلتة فنية ساهم في تطوير الغناء السوداني، وهو من الذين خلقوا أسم للفنان من صائع إلي أستاذ، يضيف النور بأن سيرة الكاشف حافلة بكثير من العطاء، وإنه نال شهرة بصوته العذب وهو ما يزال في مرحلة الصبا، ليصبح نجماً في مدينة ود مدني يملأ بصوته البريتوني الممزوج بالصولو سبرانو روائع الأغنيات، وحفظ أغاني الحقيبة ووثق أغاني التراث والمديح. يقول أمير النور ان الكاشف أبصر النور ما بين العام 1915م، و 1918م، وبدأ الغناء في عام 1935 في مدني، ويعتبر اول فنان غني باوركيسترا في السودان جاءت من اوركيسترا مصرية، وكانت بداياته باغاني الحقيبة والدوبيت وأغاني الحاج محمد أحمد سرور وأغاني المساح، ويضف النور إنه كان يعمل "شيال"، مع محمد سليمان الشبلي ومعه الطيب الإنجليزي، وهم الذين لحنوا أغلب أغاني المساح، وبعد أن توفي الشبلي كان الكاشف حافظاً لاغلب أغاني المساح. يقول النور إن الكاشف عندما شعر بأن صوته أكبر من ود مدني هاجر إلي العاصمة ليبدأ مشوار جديداً من هناك تعقب المرحلة الأولي التي إنطلقت من مدني. سيرة الإبداع هذه العبقرية انتجتها مزيج من الدماء التي تجري في شرايين هذا المبدع، إذ يقول أمير النور إن جذور الكاشف البعيدة ترجع إلي مصر، وله جدة من أصول مغربية. أتي جده للعمل في الري المصري، وإن الكاشف وعبد الحميد يوسف كانوا يسمون باولاد الريف، واشتهرت أسرة الكاشف في مجال الميكانيكا والحدادة والبرادة، ويضيف بأن كلمة الكاشف هي رتبة في الجيش التركي، واسمه الحقيقي أبراهيم أبو جبل، وأخذ إسم الكاشف من جهة والدته، توفي والده قبل ولادته، وتتكون أسرته من ثلاثة أخوان غير أشقاء بالإضافة إلي أعمامه. ويحكي النور إن الكاشف عاني كثيراً ليكون فنان، وكان جده لا يريد له أن يسير في هذا الطريق حيث كانوا يسمون الفنانيين بالصعاليق في ذلك الوقت، إلا أن إرادة الفنان التي كانت بداخله لم تركن لإرادة أخري، تزوج الكاشف إبنة عمه عام 37، وتزوج مرة أخري من فتاة مصرية. يقول أمير النور ان الكاشف بعد دراسة الخلوة أُدخل المدرسة الأولية لثلاث سنوات، وانه لم يستطع فك الخط بسبب القسوة والضرب الذي كان يكيله له أستاذه الشيخ شمس الدينس، الأمر الذي جعله يكره التعليم، ودفع جده ليجد له صنعة مع صديقه الذي يعمل في السمكرة، لينتقل الي رحلة معاناة جديدة مع نجار شديد القسوة يسمي سرحان وصلت به لدرجة قد أُذن الكاشف بمسمار، لينتقل في العمل إلي مجال الميكانيكا، ثم الإشتغال مع خاله علي الكاشف في الحواشات، حيث بدأت موهبته تتفتح، وكان لخاله علي الكاشف أيضاً صوت جميل، ليعمل بعدها مع الخواجات في مستشفي أبو عشر، حيث أطلق عليه لقب عصفور أبو عشر في الثلاثينات. وعند انتقاله إلي الخرطوم فتح الكاشف محل "موبيليا" بالقرب من جامع فاروق وكانت له ورشه في أم درمان. وقدم الفنان أحمد البحراوي باقة من الأغنيات كنماذج لاغنيات المرحلة الاولي للكاشف. المرحلة الثانية ويحكي امير النور بأن الكاشف ايضاً هو أول فنان سوداني غني بمصاحبة الاوركيسترا مع الفنانة المصرية بديعة في ود مدني، وعندما جاء إلي الإذاعة في بداية الاربعينيات كون الاوركيسترا وغني بها كأول فنان في الإذاعة، ويقول النور إن الكاشف وعبد الحميد يوسف هما من أحدثا النقلة في أغنية الحقيبة الدائرية إلي الاغنية الحديثة بالمقدمة والقفلة، وكان الكاشف قد تعرف علي عوض فضل الله وحجازي في أحد الأعراس في مدني، وعندما حضر إلي أم درمان قابله في التروماي، وغني أغنياته في الإذاعة، حيث جاء الفنان أحمد المصطفي بالصدفة إلي هناك وعزف معه العود. ويضيف النور ان الكاشف التحق بالإذاعة وسبقه سرور وكرومه وآخرين، وكان وقتها التجاني سيوفي نجم الساحة ونجم الإذاعة، ليتغني الكاشف بـ 84 أغنية وثلاث أناشيد للإذاعة، بعدها إلتقي بعبيد وسيد عبد العزيز وكونوا ثلاثي، كتب سيد للكاشف 14 أغنية بينما كتب عبيد أكثر من 20 أغنية للكاشف، ويحكي النور قائلاً عند إختلاف الكاشف مع عبيد وسيد ورفضهم له بغناء قصائده في الحفلات، وقد تحينا له حضور حفل في الاسكلا وما إذا كان ما زال يغني قصائدهم، فاذا به يفاجئهم باغنيات جديدة للمساح وخالد أبو الروس. وقدم الفنان أحمد البحراوي نماذج لاغنيات هذه المرحلة.
يقول امير النور ان صوت الكاشف صوت نقي وعالي لا حدود له في كل المناطق، ويكون مرتاح في الاداء وفي المناطق العالية، ويصل صوته قريباً من صوت النساء، وحكي عن قصة يقال انه عندما سافر الي نجيريا في احدي الحفلات وكان يغني صاعدا بصوته عالياً، قام احد الوزراء لما استبد به طرب الصوت واخذ يصيح "كافرو، كافرو". ويقول النور المستر هارد استدعي الفنانيين للغناء لرفع معنويات الجيش في مناطق العمليات اثناء الحرب العالمية الثانية، وقد وقع الإختيار علي احمد المصطفي والكاشف للذهاب الي الصحراء الليبية. وعند عودته سافر إلي مصر لكنه عاد إلي السودان بسبب إشاعة بوفاته دفعته لقطع الزيارة، وأضاف أن إضراب الفنانيين في سنة 1951 كان بقيادة الكاشف بحجة إن الأجور قليلة، ونجح الإضراب في زيادة الأجور. كما أن تكوين رابطة الفنانيين كانت من أفكار الكاشف وتنفيذ أحمد المصطفي. مرحلة السر قدور تحدث أمير النور عن علاقة الكاشف والسر قدور، وكيف أن تلك الفترة شكلت إضافة لمسيرة الإبداع، وقال بأن للسر قدور سبع أغاني تغني بها الكاشف. بالإضافة إلي طه حمدتو، وأغنية "الحبيب وين قالوا لي سافر" كأول أغنية لحنت بالطريقة الحديثة، ويضيف النور أن الكاشف إنتقل بالأغنية السودانية إلي أغنية حديثة بنقلها من "الشيالين والرق"، إلي الاوركيسترا، وهو إول من وضع الموسيقي المعبرة للقصائد. ويحكي أنه عندما قدم سرور أغنية بقطف زهورك في حفلة في ود مدني، حفظها الكاشف وغناها في ذات الحفلة، وتنازل سرور له من الأغنية وقال بأنه خليفته، وعندما إنتصر المريخ علي الهلال سنة 1951 كتب عبيد عبد الرحمن أغنية الرحلة قام الكاشف بتلحينها في نفس اللحظة، وكان الكاشف يستخدم الكبريته في التلحين، سافر الكاشف إلي مصر وسجل عدد من الإغنيات لركن السودان، ويقول النور إن مصطفي كامل كان يحب الكاشف وعائشة الفلاتية لدرجة أن حضر إلي السودان. أصيب الكاشف بمرض السكري وبترت رجله، وأغمض إغماضته الاخيرة في العام 1969م، متأبطاً سنوات من الإبداع والدفق الإنساني، سكب فيها روحه الشفيفة التي ما زال يرشف منها كل محب وعاشق. كرمه نظام مايو، والتلفزيون القومي بلمسة وفاء بعد مرور عام من وفاته.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
اخبار سودانيزاونلاين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست