كولاج - رواية - أحمد ضحية - القسم الثاني

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 03:56 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الأول للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-10-2007, 07:23 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كولاج - رواية - أحمد ضحية - القسم الثاني

    مذكرات الحرب والحب ...

    فضاء :
    لا يتعلم الانسان ,
    غير ما يستطيع تعلمه .
    فرويد
    30 يونيو 1990:
    أنهى النقيب حاتم ضابط الاتصال ,فك شيفرة البرقية وهو يتنهد بارتياح (تحركت الوحدة 105 من القضارف الى الفاو في طريقها الى مناطق العمليات .. انتهى)...
    (*)

    كان سعود منشغلا بخواطره عن همهمات العساكر حوله , اتكأ على طفولته الأولى, والبلاد الكبيرة تتكور داخله , وسلمى تتكور .. البلاد . سلمى ...فينقسم الى مزعتين تخرج ألوان الطيف من داخله, محمولة على سواعد الفراشات المحترقة , غزل في داخله من الحلوى التي أخذها من إبنته , شكلا لقلب , وحاك من شرايينه أجنحة وجسر , ليواري طائرتها الهوائية, التي تطوف في فراغ ذاكرته . يصل السماء , فيقطف لآلئها المضيئة , ينثرها على الشوارع المزيفة .. المظلمة .. يبصم على الحواري والأزقة .. النوافذ والأبواب و المواسم ,وكل الدروب تلتهب بغنائه المحموم . ترك خلفه كل شيء , ليجد نفسه هكذا , فجأة -هنا فحسب - دون سابق إنذار ..
    كان قد تعارك مع زوجته وخرج . الخروج الذي لم يعد بعده حتى الآن ...
    كان في طريقه من الشهداء الى المحطة الوسطى, غشى في طريقه متوكل , وبالقرب من المستشفى المركزي لوادي النحاس. أوقف أنصار الشيخ الحافلة, بينهم وبين "دفار الالزامية" . شاع الزعر بين الركاب , وحاول أحدهم الهرب , فدهسته عربة مسرعة في الاتجاه المعاكس , فتطاير مخه على شريط الأسفلت .. كأن شيئا لم يكن . قال نصير الشيخ :
    - ها .. أنت وأنت وأنت ...
    وفوجيء سعود بنفسه في خيمة من خيام معسكر الخدمة الإلزامية, التي تملأ الشوارع ..
    (*)
    تم تسليمهم لنوبتجية المعسكر , الذين أدوا واجب تسجيل اسمائهم .. كانت حر الظهيرة اللافحة , تزيد من معاناة المجندين , الذين ينتظر كل منهم برأسه المبلل حلق شعره . عندما حان دور سعود ومتوكل , لم يكن ثمة شعر على رأسيهما , فقد سارع كل منهما بحلق شعر رأس الآخر ..
    هتف فيهم الدليل وهو يتقدمهم :
    - هيا شكلوا تلاتات ..
    وصل بهم الى مكتب يتكيء على سور المعسكر , أطل وجه ملتحي بلباس مدني, يميز انصار الشيخ , الذين تميزوا ايضا بحمل حقيبة الاوميغا الجلدية , التي يحملون داخلها سلاحهم الخفيف واجهزة اتصالاتهم .. هتف :
    - كم رأس ؟...
    - سبعتاشر سيادتك ..
    - بس ؟.
    - حملات الخدمة الوطنية متواصلة سيادتك ..
    وتم تسجيل اسمائهم مرة أخرى ..
    - شكلوا خمسات يا مجندين ..
    وهكذا بدأت اجراءات الكشف الطبي , الذي حرص فيه الطبيب الملتحي, ان يبين ان الجميع لائقين طبيا , وهو يهمهم :
    - مجند عدو نفسو ..
    معلنا فراغه منهم , ليتوجهوا الى ميدان التدريب, الذي كانت تتعالى فيه الجلالات داوية :
    سمراء .. يا سمراء , يا سمارة ..
    الطالب الحربي ... يا سمارة ..
    رافع البوريه .... . يا سمارة ..
    أمو تبكي عليه .. يا سمارة ..
    تاني وين تلقيه .. يا سمارة ..

    (*)

    مشهد ذلك الشاب الذي حاول الهروب من "دفار الالزامية" , والاسفلت يتلطخ بشظايا مخه , لا يزال ماثلا أمام عيني سعود ومتوكل , يأبى أن يفارق خاطرهما .. كان العنبر كله بجدرانه وأرضيته, يتراءى لسعود ملطخا بمخ ذلك الشاب ..
    سرح ببصره بعيدا عله يطرد هذه الرؤيا المزعجة, التي تطارده ... كان قد لاحظ ان العساكر الحقيقيين, يكنون للعسكريين والمدنيين من انصار الشيخ ,من البغض ما يكفي العالم كله للتطاحن والاحتراب , لكن لم يكن بيدهم شيء , فقد استولى الشيخ على كل مفاصل السلطة والثروة , بهيمنته الخفية على اقتصاد البلاد الكبيرة , وزرع حوارييه في مؤسساتها المؤثرة , بل طال رجاله حتى المؤسسات الهامشية , وغير ذلك كان الشيخ قد بنى اجهزة سرية, لا علاقة لها بالاجهزة الأمنية للدولة , ومليشيات لا اول لها ولا آخر , وقتها شاعت الشائعات, تحاول ان تفسر الكيفية التي حصل بها الشيخ, على كل هذه السلطة, والنفوذ غير المسبوقين قبله لاحد, عبر تاريخ البلاد الكبيرة , فتحدث البعض ان الشيخ وانصاره يجدون دعما كبيرا من دولة نفطية , وتحدث آخرون عن مضارباته غير المشروعة ,وبناءه خصيصا لهذه المضاربات, مجموعة ضخمة من المصارف الاسلاربوية , وأكد البعض على تورطه في تجارة الافيون في افغانستان , وتجارة السلاح في الشرق الاوسط , وهز بعض الضالعين في شئون السياسة رؤوسهم بإصرار,انه على صلة مؤكدة بالمخابرات المركزية الأمريكية , ولم يغفل هؤلاء ربط الشيخ بووتر جيت وايران جيت ..
    هتف به أحد العرفاء :
    - شنو يا "بُلدة" .. اتذكرت المره ولا شنو ؟..
    تأوه سعود بصوت مكتوم وهمهم ببطء :
    - سلمى ..
    كان سعود قد خرج منزلقا الى قاع المدينة , لا يلوي على شيء , غشي في طريقه متوكل .. لم يستطيعا المكوث , فمضيا لا يلويان على شيء , الى ان وجدا نفسيهما هنا ,في هذا المعسكر البغيض . كان كل شيء قد تم سريعا ,وعلى نحو غير متوقع .. كان متوكل غاضبا في سريرته ويشعر ان سعود قد ورطه في هذه المصيبة, فلو لم يزره ويصر عليه بالخروج لما قبضت عليهم الالزامية, ولما كانا هنا الآن.. انفجر متوكل غير آبها بالعريف, الذي كان لا يزال, ينتظر تورط سعود في الحديث معه :
    - أنت تبحث عن وسيلة أفضل للانتحار ,هربا من مواجهة مشاكلك المستفحلة, منذ جئت من ليبيا . ما ذنبي انا حتى اجد نفسي هنا . في هذا المكان ؟!..
    حدق سعود في وجهه بحزن , دون ان ينطق ببنت شفه , فشعر متوكل بالحرج , واحس انه قسى عليه كثيرا , فاخذ يعزي نفسه بان ما حدث لهما هو : قدر – مكتوب ..
    - القدر هو ما تنطوي عليه سياسة الله , لكن هذه سياسة الشيخ , فكيف يكون قدرا ..
    تدخل العريف ذاته مرة اخرى :
    - لا تحزنا على نفسيكما, فقد خبرتما الدنيا وتجاربها , وربما تكونان قد عشتما حياتكما بالطول والعرض .. احزنا على هؤلاء الصبيان, وهؤلاء الشباب الذين لم يروا شيئا من الحياة بعد , وربما لا يعرفون انهم في طريقهم للموت , وان فترة التدريب هذه هي اخر عهدهم بالحياة ..
    وأضاف العريف ,وهو يهم بالانصراف مبديا تعاطفه معهما :
    - خذا حذريكما فبين كل هدهد وهدهد هنا هدهد آخر ..انها دولة الشيخ الغريق ..
    (*)
    أحست أبودوك أنها تود لو تفتح له صدرها , أن تقول له انها تثق به . همست في سرها" ربما طريق . سكة سفر جمعتنا . ربما لاحساسي الظاميء للأمان , تدفعني هذه القوى الغامضة المجهولة , لافتح قلبي بين يديك . لكني . لكني أخاف , ومع ذلك سأقاوم .."..
    ما أشبه الليلة بالبارحة , فقبل عشرين عاما وجدت نفسها في هكذا موقف ," كان التاريخ يعيد نفسه من جديد مرة أخرى " .. همست في سرها, وهي تختلس النظرات الى الشاب النحيل ,الجالس قبالتها واسرت لنفسها :"انه لا يختلف كثيرا ,عن اساتذة مدرسة البعثة التبشيرية ".. وتذكرت كيف كان مستر طومسون يحاول اغوائها " الرجال يشبهون بعضهم, بمواجهة انثى وحيدة .حائرة , يحاصرها المجهول " .. لاحظت النظرات التي يختلسها هو الآخر . ركزت على عينيه لبرهة خاطفة " نعم انني هاربة , هاربة منذ مئات السنوات , منذ ولدت هناك في جن , هاربة كما أقرأ على عينيك الآن " ..
    كانت ملامح لانجور نحيلة مثل جسمه الاسمر المديد , وكانت هي في قوامها المعتدل وجسمها المشدود , المزين بالمعدن اللامع والخرز , وزيها الاشينو , تبدو مهيبة كنخلة ..
    وقع عجلات القطار على السكك الحديدية , وهو مسرعا من الجنوب تجاه الشمال. يرن بداخله :"باناو . باناو ..باناو ...بيدبا , بيدبا , بيدبا ..." ..ذائبا به الى دفق من الأسى والألم ..
    (قطرات الحليب التي رضعتها في طفولتي , من زوجة أبي , غذتني بالمجاهيل , شبّعت دمي بالحرمان والحنين , رغم محاولتها المستميتة – زوجة ابي – في اشاعة الدفء في حياتي ..لم تكن مشكلتها . ادرك هذا الان بوضوح شديد . ظلت على الدوام مشكلتي انا .. منذ اخبرتني عمتي:
    - أمك لم تمت . لم يقتلها جيش الحكومة , كما اشيع ..
    - ماذا حدث لها اذن؟! ..
    - أختفت فجأة , ربما هربت مع أحد المندكورات , او عساكر جيش الجكومة .. فكثيرات كن يهربن . وربما اختطفها بعض النخاسة , عندما ذهبت لتتعاون مع المقاومة, بصحبة بعض نساء وفتيات القبيلة ,اللائي لم تكن احداهن تعلم لحظتها, ان مجنزرات الحكومة متأهبة , وان الرث السابق تآمر على القبيلة وخان روح الاسلاف ..
    طرفي المعادلة في تناقض تام , ولا شيء مؤكد , فقط الاسى والحسرة ..
    - باناو حكيم . يعتقد انها معركته وحده , ووحده الذي يجب أن يثأر لبيدبا . انها الجرح الذي يحيا في قلبه ..
    ولم تدل بأقوال أخرى , تشاغلت بأواني الفخار التي أمامها , وقع احداها فانكسر , وتهشمت في دواخله أشياء, لم يكن يدرك وجودها قبل هذه اللحظة .. وعندما حكى للمندكور فيما بعد منفعلا , هدأ من روعه قليلا, واكتفى بأن حدثه عن متناقضات الماضي ,والقراءة التزامنية للتاريخ :
    - يجب ان نقرأ كل ما حدث بقوانين وشروط عصره , والا سنتوه ..
    الدفء الخاص الذي احاطه به باناو , رسخ في وجدانه الانتماء لهذه الأمكنة , ناسها , اشياءها . رسخت في وجدانه الاسلاف ..
    الاحساس بفقدان الأم له مذاق مر . تراجعت سنوات الطفولة , آخذة كل شيء . لم تترك له سوى الاحساس العميق ,بالوجع والحرمان. رغم كل ما بذله باناو والمندكور .. فالارض يوما بعد يوم تحترق غاباتها , وتنفق حيواناتها الأليفة , وحيواناتها البرية تهرب الى غابات الجوار, تلتمس الامان . تنسرب به الذاكرة الى ذلك اليوم, وهو يقطع العشرين ميل,ا التي تفصل بين القرية ومدرسة الجمعية التبشيرية . وصل الى عشة عمته لاهث الانفاس :
    - اين أجد ابي ؟.
    - ما بك ؟!..
    - مستر آدامز يقول ان اخواننا في توريت قد دخلوا الغابة ..
    - ومالك انت ؟..
    - اين اجد ابي؟ ..
    - هل تريد ان تنضم اليهم ,لاسترداد الرمح المقدس ؟..
    كانت النجوم كحبات أرز مضيئة , متناثرة على شرشف لا بداية أو نهاية له . يتوسطها القمر الذي بدا ناصعا باشراقه المميز, وبعض شعاعاته الشاحبة تتراجع, إثر انقشاع الغيوم السوداء .. والنسيم الهاديء يملأ فضاء المكان , كأنه يتسلل من شعاعات النجوم, وقمرها الوضيء , ليفتح روح باناو على صلواته الصامتة, للإله دينج في عزلته المجيدة ..
    جلس لانجور قربه , ينتظر انهاء صلاته, التي بدا انها لن تنتهي ..
    (*)
    لم يكن سعود يبالي بصدى الونسات الداعرة حوله, والتي كانت تنطلق من أفواه رفاقه العساكر والمجندين , الذي يحملون الليل في داخلهم بظلمته , ووحشته وأساه , ومع ذلك يحاولون تفتيت هذه الوحشة, بضحكاتهم الصاخبة, التي تجعل أرض الوحدة العسكرية ,تهتاج بحياة لا تخلو من الهواجس والمخاوف ..
    الليل طويل .الصباح لم يطل بعد لتتحرك الوحدة 105الى مناطق العمليات ..
    (*)
    وصلت الوحدة 105 الى قرية القدمبلية, ليذوب في المدى سحر جبال الشرق الراسيات , فتتغطى مؤخرة الوحدة بغبار المسير الموحش, كرحلة التيه الطويلة ..
    كان متوكل يسافر للمرة الاولى , واي سفر هو هذا السفر ؟ .. ولد وترعرع في حفرة النحاس ,دون ان يخرج منها شبرا واحدا , ولم تحدثه نفسه ابدا ,في قضاء ما تبقى من حياته, العامرة بمغامرات الشجن ,خارج حفرة النحاس , كان يحدث نفسه دائما بأنه ولد ليموت هنا – يعني حفرة النحاس .. الآن يمضي الى المجهول محاطا بالجلالات , التي تعانق الفضاء المقفر من كل شيء , وصرخات عساكر الجيش المثقلة بغريزة البقاء , تستمد شجاعتها ضد المجهول من المجهول ذاته ..
    سعود الذي ظل صامتا, طول المسافة حتى الان , كان يرمق متوكل بين
    آن واخر بنظرة حزينة , كأنه يلوم نفسه , الى ان اطلت الفاو , فتوقف الركب في رئاسة الفرقة الثانية مشاة , حيث استقبل حسنين قائد اللواء مدفعية ,الوحدة بخطاب تخللته جلالاتها التي شقت عنان السماء , معلنة للركب أن يشق طريقه الى مدني ..
    - كدينة .. مريم كدينة ..
    (*)
    أنهى باناو صلاته والتفت الى ..
    - يبدو انك اصبحت مغرما اكثر مما مضى بحكايات الاسلاف؟! ..
    - انه الرمح المقدس ..
    - لقد طرد أجدادك بفضله ,محاولات الاحتلال التركي والمهدوي ..
    - اريد ان اكون مثل الزعيم قوندينق .
    - ستكون مثله لو اتخذت التعليم سبيلا , فقد تغير الزمن , ولكل زمن سلاح يلائمه .. ربما تكون افضل حظا منه .. ففي زمنه لا توجد مدارس , لذلك اختار علم الروح , واصبح زعيما روحيا ..
    - اريد ان اكون مثله , ومثل اووكونق الها جسورا ..
    - كلاهما قاوما لاجل الرمح المقدس الذي يحفظ ارضنا , وكلاهما علما شعبنا معنى الحرية وحب الموت في سبيلها . انت الان مسيحي . لكنني لست مسيحيا , وارى ان الالهة هي الالهة . لكن ذلك لن يلغي داخلك روح الاسلاف ,ستعطيك المسيحية بمدارسها السلاح الذي يجعلك افضل من الاسلاف ..
    - الاسلاف اعطوا باناو كل شيء ..
    - نعم : انت , الابقار , يينادي واودييت والسلطة على القبيلة والتعاليم . لكن لم يعطوني ما ستعطيك المدرسة ..انظر الى الوحدة الطبية كيف يتعالج الناس , انهم يعالجون هناك باحسن مما يفعل واندنق بينق , انظر اليهم كيف يطردون الارواح الشريرة ..
    - انت ترى ما لا يراه الاخرون . انت حكيم ..
    - اذن قالوا لك في المدرسة ان الذي يرى ما لا يراه الاخرون حكيم ..
    - نعم ..
    - كان الاسلاف يعرفون ذلك , ايضا ..
    دمعة حانية تسللت من عيني باناو , متكورة على جفنيه . كان ليل أفريقيا الآسي لحظتها , بكل ما يعتمل في افريقيا من عتمة وغربة , يفيض من أعماق باناو , ليحاصر لانجور , فتتداخل فيه علاقة شائكة بمشاعرها الغامضة , وتنمو , تنمو في علاقته الخاصة بباناو, لتشكل حزنهما المشترك : بيدبا .. تتسلل الصمت المشوه بالصمت , وتذوب كالنغم المضاد للغم , فتبدا رحلة لانجور في اللانهاية ..
    المدرسة . مستر آدم بسحنته الهادئة . لونه الابيض المشرب بتلاويح شمس الاستواء . الضجيج . وليم صديق الداخلية . وليم مديد القامة المشرب بالأحزان . هذا الوسيم الى درجة الجمال الانثوي , لكن الرجولة الآسية , التي تفيض فتعطيه عمرا أكبر من سنه بكثير ...
    كانا دائما معا ,منذ حدثه عنه عبد الله المندكور, فالتقاه في الوسطى بنيوجنت بلوك , التي تطلعا كثيرا لدخولها , وعندما دخلاها لم يفترقا ابدا .. دائما معا .. وهما يبحثان عن التبغ في "الكانو" (1) عند الصيادين ولابسو جلد الفهد . في قباب الاسلاف البعيدة عن المدرسة , أو وهما يتجاذبان أطراف الحديث في البيت الانيق, لأحمد ابراهيم وزوجته حواء جاد الله - والدا سلوى - .. تسامرهم حول الارض والناس والسكة الحديد , والقطار وكل شيء ...
    - سلوى هي ثمرة القطار .. ثمرة السكة الحديد ..
    .............هامش..................
    (1) الكانو : مركب صغير يستخدم للصيد .

    تقول ضاحكة, وهي تحكي لهما عن تلك المدن البعيدة .,في الشرق والغرب والوسط والشمال . كانت تعرف أين يأخذان سلوى معهما , ولم تكن تخاف عليها ابدا ما دامت معهما , فقد كانا بمثابة الابنين اللذين لم تلدهما ..
    كان وليم يجلس دائما مهيبا كبوذا , يتلو على لانجور نصائح الاجداد , وتأخذهما لذة المعرفة , فينطلقان متسللين, للبحث عن شيء لا يعرفانه في الجوار , وحين تنال منهما متاعب البحث , يرجعان ليجلسان في مكانهما الاثير, على رصيف البحر , يعبثان بالرمل . ينثرانه . يتقاذفان ببقايا المحار , التي ترتد بهما احيانا الى طفولات مفقودة , فيتبادلان فيها سفر الالم , الى ان تدفق وليم على غير العادة في ذلك المساء البعيد . سال من وجدانه حزن كثيف البوح . عميق , لا قرار له :
    - كم هو قاس ان تحس ان افراد عائلتك التي تنتمي اليها , هم ليسوا افراد عائلتك الحقيقية , لا الام هي الام , ولا الاخت هي الاخت ,ولا الاب هو الاب . الشعور بأنك بلا عائلة لهو أسوأ من أي احساس يمكن ان يعرفه الانسان!! ..
    وجدني لابسو جلد الفهد ,وانا لا زلت رضيعا بعد , على ضفاف النهر , في مكان لا يبعد كثيرا عن محطة البعثة التبشيرية ,و رأى في الاب جوزيف طفلا آخر, يضاف الى أبدوك ,التي كان قد تزوج من امها وتبناها , وهكذا صرت ابنه ..
    منذ طفولتي لم أشعر باب او ام سوى ضفاف النهر حيث وجدت .. النهر بصياديه الاشداء ومراكبه الكانو الصغيرة ,والرجال لابسو جلد الفهد. وكانت الامور ستكون جيدة, لولا وجود تيم معنا في عائلة الاب جوزيف الرهيبة ..
    تيم , ربما يكبرنا وابدوك بخمسة اعوام .,تزيد او تنقص . كان عدوانيا مشاغبا, يسبب لنا الكثير من المتاعب . يسرق الجيران, يهددني , فألوذ بالصمت . يتهمني , فأعاقب بدلا عنه . لم أكن ألوذ بالصمت بسبب تهديداته , او لانني اخشاه , على العكس كنت اشعر به أصغر من ان اخشاه , لكن هكذا وجدت نفسي . هل انا حاقد عليه , لا اظن . لنقل ان شيء ما كان يدفعني للصمت ..
    ربما لو لم يكن الاب جوزيف فقيرا , لما اضطر تيم للسرقة , ولتغيرت امور كثيرة في حياتنا , فقر الاب جوزيف دفعه لاستثمارنا انا وابدوك , بارسالنا الى المدرسة الاولية , كان كل تفكيره ان نصبح كتبة, لنساعد العائلة , ونشتري له ابقار ..
    عندما أعود بذاكرتي الى تلك الفترة , اجد العزاء في ان تيم, لم يكن متواجدا معنا في البيت, على نحو دائم , اذ كان يغيب لايام واسابيع وربما شهور , قبل ان يعود مرة اخرى, ليسبب لنا المشاكل ثم يرحل , وهكذا ..
    ابتلع وليم هدير الموج , افنى حنجرته على زبد البحر المتلاطم على الشاطيء , فأحس لانجور بذوبان كل شيء حولهما ,في همسة أسى واحدة ..
    كانت أضواء الكانو تبدو لهما بعيدة , رغم قربها , والمساء سادلا أطباقه , كأنه يبدأ فقط ولا ينتهي ابدا . المخلوقات البشرية التي تسير .,على المدى خلفهما, تبدو هويتها غير واضحة المعالم .. أجساد لا تحمل رؤوسا بشرية . اجساد نصفية من أسفل القلب حتى الفخذين – هل هذه تصورات أوحت بها همسة الأسى الطويلة , ام حقيقة واقعة ..
    على المسافة القصيرة التي تفصل ,بينهما يتمدد حزن ,مشحون بكل أنواع المشاعر المتضاربة , فتختلط معاني الخير في الشر ..
    قالت أبدوك ذات مرة :
    - هل تخيلت كيف هو شكل ابويك الحقيقيين ؟.. هل توقعت ان يكون والدك – ربما - احد النخاسة المصريين او الشوام؟ .
    - لكن زمن تجارة الرقيق انتهى!!..
    - من قال ؟!..
    - ربما ابي هو احد القساوسة أو احد رجال المنظمات , وربما يكون مندكورا من الشمال .. تراه يجلس الان مع اخر زوجة جميلة , بعد ان تأخر في غزواته الاخيرة .. تراهما الان يجلسان تحت تعريشة الدار الفسيحة, وهما يطوقان ببصرهما النخلات التي تتلاعب بها الريح ..ربما .. ربما امي امراة رائعة مثل كل الامهات , لكن اجبرها والديها على تركي , تراها لا تزال تعاني لوعة الفقد ..
    - لا احد هنا يجبر الام على ترك طفلها..
    - ربما هي ليست من هنا..
    - تملك خيالا خصبا .
    ضحكت ابدوك , فسألها :
    - وانت كيف تتصورين ابويك ؟
    - حدثتني الجدة مارتا , قالت ان اهلنا هناك في الشرق المقدس , انتزعنا نيكانج ورجاله من اهلنا , وحولنا من كواريث الى (كوّل)(1) نحن من سلالة ملوك جن يا وليم, ما فعله بكم المندكورات فعله بنا اسلافك, صحيح انك هجين نصف ابيض, لكن تجري في عروقك دماء المندكورات السود ايضا . هكذا هم المندكورات لاهوية لهم , تجدهم في كل مكان ولون , في كل قبيلة , وشعب..
    - بعد كل هذا الزمن ليس للأمر اهمية , بعد كل هذا الزمن الطويل ..
    - ومع ذلك انت وانا وجهان لمأساة واحدة ..
    هذه الحوارات المطارق تدق على رأسينا كالسندان , فلا نغفو الا على صباحات كالحة , ملأى بتهامسات الصبية , اقراننا , فنحن وسطهم كالغرباء المنبوذين , لطالما تم نعتنا بذلك لنتضائل , لكن لم نتضائل ., بل توحدت وابدوك في كيان واحد, ضد التضاؤل والتلاشي , هل استطعنا الحفاظ على ذاتينا , ام ظللنا موضوع مرح الصبية اقراننا .. وقتها لم اكن استطيع الاجابة,سوى بلا ادري , لكن الان اقول نعم , كان كياننا متوحدا ضد كل شيء .. صلدا كقلاع القرون الوسطى, التي لطالما حكى عنها مستر واطسون أستاذ التاريخ الاوروبي ..
    صمت وليم يحتوي بعينيه المدى اللانهائي للبحر , معبئا الموج بمزيد من صمته المتفجر . هدير على الشاطيء والكانو ...
    تنهد لانجور مرخيا أذنه لصوت وليم ,المتماهي في نسائم البحر, وهي تتسرب انفه في هذا المساء المفتون., الذي يزكم الرؤيا . قال :
    - كنت مشتاقا لاسرتي .. اهلي .. مثل كل الناس يشتاقون للاب والام والاخ والاخت .. كنت مستعدا لدفع حياتي ثمنا, نظير لحظة واحدة أرى فيها أمي , لم أطلب من الحياة اكثر من ذلك .. كنت اركض خلف كل امرأة تحمل طفلا ,في محطة البعثة التبشيرية , في وحدة الغيار الطبي , في الكنيسة أو دير الراهبات , او في الشارع الكبير المفضي الى خارج المدينة , وأصرخ : هذه أمي . أمي , أمي ...

    ............هامش........................
    (1) كوَل : رقيق .

    لكن لم تكن ثمة استجابة, للنداءات الظامئة الملتاعة , كعواء الكلاب مكسورة الجبور .. هل حدث ان سمعت آهة كلب انكسر جبره ؟ انه شيء اسوأ من الإحساس بكسر الخاطر ..
    فاضت عينا وليم بالدموع , وانطوى لانجور على مزيد من الصمت , الذي تفجر فيه صوت وليم مرة اخرى, كأن حنجرته استحالت الى محض حزن اسيان :
    كنت وابدوك كالغرباء ,جمعهم الحزن والمنفى والليل المديد . واكثر ما يقلقني في هذا المنفى, هو نظرات تيم الذئبية , التي تفتش في منعرجات وبروزات ,جسد ابدوك الفارع .. الذي يصرخ فلا يجبه ,سوى الصمت ونظرات تيم الخائنة , التي لا تحمل اي احساس بالاعتذار او الندم ..لم يكن سوى شبح الشهوة الممزوج في حنين ابدوك البريء ,لملامح تثوي في المجهول , ملامح تركض خلفها فلا تلمس سوى السراب . قبض الريح ..
    اي وهم هذا ؟ ..
    كنا وحدنا , وكانت في اوج مراهقتها المرهقة , اذن ...
    هذه المرحلة التي لم أجد فيها ملاذا سوى المندكور , بصوته الهاديء , عينيه العميقتين حتى لكأنهما بلاقرار , وبوحه عن لوممبا , سنغور , كينياتا .. كان رجلا مهجسا بوحدة أفريقيا, ويظن دائما اننا كنا سنكون افضل الافارقة , لكننا اخترنا ان نكون اسوأ العرب – كان يعني المندكورات , الذين تنكروا لجذورهم - .. كان المندكور يمثل لي عالما غريبا ,ارغب باستمرار في اكتشافه . فقد ظهر فجأة هنا – هكذا يحكي عنه الاهالي – وساكن الناس واحتمل في سبيل تصالحهم, مع فكرة كونه ينتمي للمندكورات الكثير من العنت والمشقة , الى ان استطاع وزوجته الجميلة هيلدا, كسر حاجز التواصل معهم ..
    كان يأكل معهم , يمازحهم ويمازحونه , يتكلم لغتهم ولايردهم عندما يطلبون مساعدته , ولا يتاخر في طلب مساعدتهم , حتى هيلدا تزوجها للمرة الثانية على طريقتهم – الان ادرك كم كان هذا الرجل متطرفا في مبادئه – بادلهم حبا بحب , فصاروا لا يقدمون على امر عظيم الا ويستشيرونه , مثلما يستشيرهم في اموره .. لكن كثيرون من الذين لم يتحرروا ,من ربقات الماضي وجرائمه وجدرائره الصغيسرة والكبيرة, كانوا يكرهونه , ولا يرون فيه سوى : مندكور, غريب . لا يزال يحمل سؤات اجداده البدو الغزاة ..
    علمت فيما بعد ,ان المندكور هو من وقف خلف حملة تجنيد الكثير من المندكورات, في قوات الرمح المقدس .. كان يؤمن بعدالة قضية الثورة في الجنوب , وكان المندكورات الذين جندهم , قد شكلو نقطة تحول كبيرة في مسار هذه القضية ,اذ ما عادت قضية جزء, بل قضية كل البلاد الكبيرة .. ياله من رجل جسور , ثاقب البصيرة , تخلص منذ وقت مبكر, من امراض الهوية وضيق الانتماء .. كان وحده اغلبية, مثل كل المندكورات الذين قاتلوا في الغابات ,لاجل قضية البلاد الكبيرة الواحدة , الموحدة ..
    - ربما يكون عبد الله المندكور هو والدك الحقيقي ..
    ابتسم وليم بوهن , يداري احساس الضعف الانساني المشروع, الذي كان لحظتها في صراع مستميت معه , كابحا كل رغبة في البكاء , الى ان شعر بالاعياء.. فتكور على عالمه , الذي تكور هو الاخر على لانجور .. تكورا على بعضهما , فناما على رمل الشاطيء , تسرب اصداء غناء الصيادين العذب الى احلامهما , عوالما هادئة , مفرغة من التوتر والقلق , وهدير الموج يأخذهما الى عوالم اجمل ..
    (*)
    ارتكزت الوحدة 105 عند كبري حنتوب , كأنها ترتكز داخل متوكل المطارد بصورة امه ,المستندة على زاوية الحلم , امه التي لا تعرف حتى اخر لحظة في حياتها ,معنى ان يدرس الانسان الجغرافيا والتاريخ .. الجغرافتار .التتار . التار ... وبقيت صورتها داخله, طوال المسافة الى ان تخطى الركب, ربك وكوستي بجسرها الممتد , فارتكزت تحته ,ومدافع الهاوتزر الاثني عشر تشرع اعناقها باتجاه الجنوب ..
    التهمت طرقات كوستي العساكر الباحثين عن ضياعهم .. وبقى سعود يحلم بصورة الام المرتكزة على زاوية الحلم كمتوكل , وحفنة امنيات لا تتحقق , في الحضور الدائم لسلمى واطفاله الصغار , وكل شيء , لا تبدده سوى الضحكات المباغتة لادروب , التي يهرب منها اليها , محاولا فيها استرداد عالمه المفقود , عالمه المحاصر بالليل ومدافع الهاوتزر, التي تجرها عربات النيسان السكس , عالمه الذي يتساقط كالفلاشات على سطح المياه المدفونة في الغضب , حيث لا اثر سوى الارتعاشات الغامضة للنيل ..
    (*)
    كانوا جميعهم يغطون في نوم عميق , دون ان يتمكن هدير عجلات القطار ,على السكك الحديدية من اختراقه , لا احد سوى الكمساري بصحبة احد العساكر , يزرعان ارض القطار جيئة وذهابا , كانهما يفتشان عن شيء ضاع منهما, لحظ لانجور الخوف الذي بان على وجه ابدوك., لحظة مرا بها , ولحظ ايضا تنهدها في ارتياح عندما تخطياها .
    وحده وهي ظلا يقظين, في الغطيط الذي يتعالى حولهما , مكونا توليفة مشروخة مع هدير العجلات الحديدية ,على الدروب الحديدية .
    كان لانجور جالسا بمواجهتها , يختلس اليها النظر , يحاول اشتفاف ما تمور به عيناها, اللتان لا يزال يلوح فيهما بقايا من ذعر متجدد ..
    عيناها تهيجان فيه الحزن القديم ..
    حزن قديم قدم حلمه بسلوى , هذه الانثى التي تخصه ويخصها باشيائه القصوى ,ويهدر بين احضانها احزانه , يبثها لواعج الشوق والحنين .. حلم يتجدد مرة اخرى في الحضور الدائم لها داخله , فمنذ انتقل بها والداها عائدين الى الشمال مرة اخرى ,وهو لا يعرف شيئا عنها , حتى عندما لجأ للحزب لمعرفة اخبارها لم يجد ردا ..
    كانت ابدوك – ايضا – تحاول ان تقرا هويته في عينيه الزائغتين , لحظت ارتجافته عندما مر العسكري من امامه , فتسآلت : اهو هارب مثلها . لكن مما؟ ..حاولت ان تقرا في عينيه خلسة شيء ما , اي شيء , يدفعها للاطمئنان , فتعترف بين يديه بقصة هروبها ..
    لمسات ناعمة من الالفة تجمع بينهما , كلاهما يتحدث للاخر في سره ,ويشعر به يفهمه . يعترف له , يحكي حكايته دون ان يستعين بالكلام .. فالكلمات احيانا لا تعني شيئا , لا تقوى على التعبير عن فداحة الاشياء ,او وصف الحال . لا تستوعب الوجدان المرهف . وحدها لغة الصمت – احيانا – تعبر عن مكنونات الاشياء ..
    القطار يهدر , يبيح الشجن والمواجد ويذكي اللوعة ..
    قالت في نفسها :"لا ادري لماذا اثق بك . ربما لوطء الاحساس بالغربة والوحشة والوحدة, في هذه الرحلة المخيفة .. عندما هربت من قريتي منذ سنوات, لم يكن قلبي يشعر بكل هذا الخوف , والان عندما عدت ولم اجد القرية, ولا الاهل والاحباب .عرفت المعنى الحقيقي للخوف . فآثارالحريق والرماد كانت في كل مكان , انها الحرب تزحف شيئا فشيئا . الى ان حاصرتهم من كل اتجاه . ثم لم يكن لثمة احد وجود , حتى وليم, لا اعرف عنه شيئا منذ ان تسلل الى الغابة ,وحمل السلاح مع قوات الرمح المقدس , مثل جوزيف اودهو الذي عاد اليها مرة اخرى .. الان انا عائدة , منبتة الجذور , حيث لا جن ولا وليم , ولا الاب جوزيف ولا الجدة مارتا .. تسللت دمعتان جفناها المسبلان ,على ماض من الكوابيس المرعبة, وحاضر مليء بالهواجس والمخاوف ..
    - انتظري ابدوك لتذهبي في اول طائرة اغاثة ..
    قال رئيسها في المنظمة فصرخت :
    - الحرب اقتربت من اهلي . اريد ان اراهم . هذا كل ما افكر فيه ..
    - سيكونون بخير , لن تامني على نفسك وانت ..
    - لقد قررت وساسافر ..
    أمام عنادها واصرارها هز رأسه :
    اذن سنحاول ان نفعل كل ما بوسعنا ..
    وبذات الطريقة التي اتت بها منذ زمن بعيد .. رجعت الى حيث لم تجد سوى الخراب والدمار والرماد . حتى قباب الاسلاف التي كان يتبرك بها الاب جوزيف, لم يعد لها وجود . كل شيء كان قد انتهى كانه لم يكن يوما ..
    كانت محاصرة بالاحاسيس ذاتها التي لاحقتها ليلة هربها . تلك الليلة البعيدة ,عندما كانت صبية .,لم تتخطى بعد سنوات مراهقتها المرعبة , هربت لتنضم الى قوات الرمح المقدس , مدفوعة للمغامرة بحكايات الشباب والشابات الذين تسللوا, من القرى والمخابيء خفية الى الغابة , يحملون السلاح ضد جيش الحكومة الغازي ..
    على ذات القطار , وبذات الثياب – ربما .. هو الحنين المجنون دفعها لتفعل ما فعلت , بكل جنونها المحفوف بالمخاطر وطقوس الحنين .. كان الجميع يهربون من الحرب , الا هي ووعثاء الطريق كالنصل ..
    قصتها لا تختلف عن قصته كثيرا , فلانجور ايضا وجد الحرب اوغلت , والتهمت كل شيء . كان يتوقع ان يجد الرث باناو , زوجاته , اخوته .. لكن لا شيء , فحتى المندكوروزوجته لم يكن لهما وجود . احرقت قوات الحكومة كل شيء : الناس . التاريخ . الارض .. اللواك والحيوانات المفترسة , ولم يتبق من لابسي جلد الفهد ,سوى الرماد والعظام المحترقة .. لم يترك معسكرا من معسكرات النازحين واللاجئين الا وفتش فيه ,. لم يكن ثمة اثر لاي كائن يعرفه . كأن كل شيء قد اصابته لعنة الحرب . حماس البحث الذي ظلت جذوته مشتعلة لسنوات عديدة يفتر , تخبو شعلته ويتسرب القنوط الى الماضي, فيصيب الحاضر بشعور مقيم بالخذلان, والاسى والحزن الدفين ..
    كان يحكي لها صمتا , فتحكي له .. يتحاكيان في سرهما دون صوت سوى هدير عجلات القطار .. فيرى وليم , تهرب اليه , كما تهرب الذات في الغربة , وتهمس :
    - ارتني اتييب أُم احدهم .. قريب منك , وهي تموت تحت مجنزرات الحكومة ..
    مع ذلك لم يكف وليم عن البحث عن امه .. احيانا تشعر به محض عقل , لا يستفزه شيء ولا يستثيره شيء . لم يصدق ابدا روح اتييب التي تخرج مني . تنبثق كضوء من مسام الراس , يتجمع في طيف ويمضي هائما في الماضي والمستقبل . يتجول في أحوال الناس والاشياء والامكنة .. نعم لم يكن يصدق , كان يرد بهذا الحزن العميق في عينيه ., ذلك النوع من الحزن الاكبر من كل شيء .. ذلك النوع من الحزن الذي يسرق النوم من العيون , ولا يمنحنا سوى السهد والشجن, والنداءات الغامضة ..نعم النداءات الغامضة ..
    هذه النداءات التي ظلت تلاحقنا , فتدفعنا دفعا لمغادرة المكان , الى الغابات . الى الاختباء في العربات , من الزنازين , من غلظة رجال الامن , ووحشة الليل , والآلام التي يشعر بها المحاربين, وهم يسقطون واحدا تلو الاخر في نهايات الهزيمة ..
    لكن ربما كانت النداءات الغامضة, تريد دفعنا الى مسار آخر , اكثر غموضا . مسار مجهول لا ندري كنهه . فهي ليست ككل النداءات , بل مثل نوع من الارباك ,الذي يجعل الانسان حائرا امام لغز اساسي , لغز وجوده , وربما هو الحلم المتواري في محاولاتنا ,لاكتشاف ما حولنا من اسرار , او تفسير هذه الرموز والمفردات التي تحاصرنا ..
    ورغم كل شيء ظللنا متوشحين بالوحدة والتوحد , وبين آن وآخر يدهمنا الشعور بالام الغائبة, في التفاصيل التي حولنا : جرعة الماء . قطعة اللحم الجافة . التي بقيت لاكثر من موسم ,منذ احضرت من شجرة اللحم . أو السمك الطازج الذي يأتي به لابسو جلد الفهد .. ربما في الشعور بالعرق المنهمر كالسيل., ذات نهار حار , لا تبرده سوى رطوبة المريسة , في قعدة امام الحكيم وانديينق بينق, وهو يحكي عن الاسلاف, ورحلة أكوي كاكاب ونيكانج .. و كل شيء حولنا ..
    إذن ,أحببت وليم- ربما لسبب ما لا اعلمه - دون كل شبان العشيرة ,وليم هذا الخلاسي الذي ظل حبه احد الالغاز المحيرة في حياتي .. لغز حميم دون كل الالغاز , ظل مسيطرا على كياني ..
    لا أنسى تلك الليلة الماطرة .أبدا. كنت نائمة في أرض العشة , على الجلد . متكومة على جنبي الايمن , فالارض كانت رطبة , باردة .. لم يكن وليم موجودا , اذ مضى الى المندكور كعادته , كذلك الاب جوزيف وزوجته , رغم انهما كانا نائمان على السرير الخشبي, الا انني لم اكن احس بوجودهما ,فلا احد يتكلم عندما يهطل المطر , لذلك كانت فقط أنات السرير تحتهما , هي ما يشي بتواجدهما الحميم , هذه الأنات /التاوهات انهكتني , فصحوت فجرا مبتلة بالدم . وكانت ظهيرة الاحد . وكانت كاترين الراهبة تتفحصني من دون الجميع , لم اشعر بنظراتها, الا بعد ان انتهت الصلاة -لابد انها لاحظت انني كنت غائبة عنها في عالم اخر- . اقتربت مني :
    - ما بك ابدوك ؟.
    ارتبكت , ودون ان اعي تلمست أسفل فخذي . وكان ان فهمت كل شيء .فاخذتني الى بيتها الصغير الملحق بالكنيسة . اعدت لي عصير المانجو , وحدثتني بهدوء ولطف ,عن كيف تتحول الطفلة الى انثى ناضجة , ولم تنس الحديث عن الرب يسوع مخلص العالم, وتعاليم الروح القدس, والمجدلية, وكيف انجبت مريم يسوع , وقرأت لي جزء من الاسفار ..
    لا أذكر الان ماذا كانت كاترين تقول او تقرا بالضبط .. لكن عندما خرجت منها كنت هادئة , ومنذها وجدت تفسيرا لضعفي امام وليم . وادركت حقيقة تلك التحرشات, التي كان يفاجئني بها مستر واطسون . اذن كانت تلك الظهيرة علامة فارقة في حياتي ..
    وقتها كان وليم قد أكمل الوسطى وهرب , قال الاب جوزيف انه انضم الى الثوار في الغابة , ثم عاد وغير افادته بزعمه انه هرب الى الشمال, ليحصل على مزيد من التعليم هناك , وما ان أكملت الثانوي حتى هربت متسللة القطار .. تاركة خلفي الاهل والعشيرة , واحلام الاب جوزيف , ومجوك ابن الرث باناو وكل شيء ..
    ثمة حادثة تركت في نفسي – وقتها – انطباعا قويا , اذ فاجأني تيم بينما كنت عارية, اغير ثيابي في العشة , اقترب يحيطني بزراعيه , فصرخت .. جاء وليم مسرعا وعيناه تشعان بغضب حمله كل مشاعره الدفينة . تراجع تيم مباغتا , وهو يكاد يصطدم بالعمود الذي يتوسط العشة ويسندها , ولم تمض سوى ايام قليلة حتى اختفى تيم ,منضما الى الثوار في الغابة ..وبقيت انا ووليم وحدنا , هو كعادته ,ما ان يعود الى الدار حتى يدفن نفسه بين الكتب , التي كان يجلبها من المندكور , كان يحاول ان يحثني دائما على القراءة , فحاولت قراءة "الارض الخراب" ولم أمس تلك الكتب التي بالعربية – كان المندكور يعطيه ايضا دروسا في العربية- حدثني وليم عن الاكتوبريات وشحاذ في الخرطوم و .. و شعرت بالملل , كان يدهشني انكبابه على هذه الاشياء المملة ,التي لا افهم فيها شيئا – وقتها - : ماذا يعني المنهج العلمي الجدلي التاريخي , سخف . مدخل الى علم الاقتصاد السياسي . هراء . كيف سقينا الفولاذ . اكذوبة , لا أحد يسقي الفولاذ !!, الارض البكر . سخف . سخف . سخف . هذا السخف الذي كان يبدأه بالحديث عن وحدة القارة السمراء, ويختمه بالاشتراكية الافريقية . مؤكدا ان الشعوب سيدة ارادتها ..
    - اذن قومنا لا ارادة لهم ؟!..
    فيضحك , واضحك .. ويعود منكبا فافشل في اخراجه عن تركيزه ..
    احيانا كان يرغب في الحكي , فيحكي ويحكي . كان ثمة شيء مميز في صوته وطريقة كلامه . شيء آسر يجعل الكلام يسرقك من نفسك ..
    كنت دائما أشعر به, كأنه يعد نفسه لدور ما ربما يلعبه ذات يوم .. وكانت الايام تمضي, والقرى البعيدة تحترق واحدة تلو الاخرى , الى ان خرج ولم يعد بعدها .. كانت الاتفاقيات تفشل والمعاهدات والهدنات تنهار ,ووقف اطلاق النار يتوقف , فاصبح شبه متاكدة ,انه من الصعب الوثوق في المندكورات .
    امتلات الغابات بلابسي جلد الفهد , ولم تعد ثمة مراكب كانو وصيادين : كانت وجهة الكثيرون : تنزانيا , اوغندا , كينيا , افريقيا الوسطى , زائير واثيوبيا ..حتى الصبية الذين لم توضع على جباههم مراسم الرجولة , ذهبوا الى هناك ليرفعوا السلاح . فامتلات معسكرات الثوار بالمقاتلين, الذين تسللوا وهم يغنون اغنيات الحرب . وهم يتذكرون الاسلاف . قرى جديدة تنمو , واخرى تزول من الوجود , وتظل الحياة – مع ذلك – محتملة , تمضي رغم كل شيء , الى ان كان ذلك اليوم ,الذي قرر فيه الاب جوزيف تزويجي من مجوك ابن الرث باناو ..
    (*)
    عربة النيسان السكس ,المحملة بافراد وعفش السرية الثالثة ومدافع الهاون 120 مم والدانات 17 كجم , تتهادى بحمولتها الثقيلة, وهي تجر خلفها مدافع الهاوتزر , وادروب الذي أسكرته رائحة الحرب, يتجلى في المسافة المتضائلة , على مشارف الرنك ..
    - لو عدنا أحياء مرة اخرى . هل استطيع البدء من جديد ؟..
    رمى سعود بالتساؤل في وجه متوكل , وفيوار تتراءى في الافق القريب , حيث تجمع وحدات الدعم والمشاة ..
    كانت الفرقة عرين الاسود قد اكتملت , وهي تضم اللواء الاول , الكتيبة 223غرب الكتيبة 109 شمال , الكتيبة 159 شرق , ووحدات الدعم المكونة من سلاح المهندسين , المدفعية , الكتيبة 105 , الاشارة , النقل والتموين , المدرعات , الصيانة , السلاح الطبي والاستخبارات , وفيلق ميليشيات الغريق ..
    وسعود لا يزال ينتظر اجابة متوكل ,الذي بدت ملامحه شفافة يمكن للبصمة ان تظهر عليها ..
    عند الفجر تهيأ الجميع للتحرك ,انفصل اللواء الثاني عن الفرقة عرين الاسود , محتويا على الكتيبة 105 والوحدة 317 ميدان ووحدات الدعم , وبدأ الطريق الى اقليم الجفاف "جلهاك" حيث الماء نادر الوجود ..
    في جلهاك صدر قرار من القائد ,بعودة اللواء الاول الى فيوار , وبتوجه الثاني الى ملوط التي احتلها الثوار ..
    على مد الطريق الى ملوط, كانت بقايا جثث عساكر الحكومة ,ورجال الرمح المقدس قد تناهشتها الذئاب ..
    (*)
    عجلات القطار تنتحب على السكة الحديد , لتعبر عن أحزان القادمين والماضين الى المجهول , ولانجور بعد لا يزال يقرأ ,في عينيها المطلتين على دواخله هدر السنوات., في البحث عن الذات , وتأكيدها ..
    وقع عجلات القطار يأخذه الى سنوات بعيدة , يرسو فيها كمركب في مهب الموج .. عجلات القطار تصرخ : بيدبا, سلوى , بيدبا, سلوى , بيدبا, سلوى ..
    يأخذه الى المحطات القصية . دون ان يتوقف . يستمر القطار في رحلته اللانهائية , منذ ودعه تيم كآخر رفيق رأى وجهه , ودعه لانجور بذات كلمات وليم, التي حملها خطابه الاخير , والتي يكاد يحفظها الان لكثرة ما قرأها : ترى كيف هو الان في بلاد كينياتا والماوماو..؟.. كانت كلمات كأنها خصصت وحدها منذ الازل, لوداع الهاربين من الاعتقال. وداع الهارب , المختبيء , يختلف عن وداع المقيم المسافر ,فالاخير يحمل بالامنيات الطيبة في غربته , لكن وداع الهارب يتخطى حدود الحلم بسلامته ..
    تمنيات تثير المخاوف والقلق والشجون السجون, والرهبة والخوف والجنون , فلا يبقى سوى هذا الحلم القلق المشحون بالتوتر . الحلم بوطن أجمل يسع الجميع دون استثناء ..
    علمه وليم كيف يحلم "الحلم هو أقصى حدود الحرية –الان- " . كتب اليه وهو في طريقه الى كوبا ,عن اغنيات تشيكايا أومسي, وعن الحرية الكنغولية ومصير الزنوج , حدثه عن سنغور الشاعر الذي تنازل عن عرش السنغال " تلك دبابة وانا شاعر " .. كان كل منهما كجلجامش, قد أختار طريقه الذي لا رجعة فيه ..
    وقع عجلات القطار يموسق في داخله, كل الذكريات الموتورة , فتستحيل الى نغم عذب ..
    يجيء صوته من البعيد مخترقا المسافات , مهشما وقع عجلات القطار , خارجا من الهدير يحكي عن آخر خلفاء عهد الانحلال (1) – كما يسميه التاريخ – كان المتوكل اشبه بالغريق , فرسميا مهووس , وسرا من مشايعي الموسيقى , ناهيك عن ابنه عيسى ابن عبد الله . كان المتوكل يحب اللهو والعبث ليلا , ويقطع رقاب الناس باسم الدين نهارا . المتوكل هكذا ظل يعيش في الوجدان الثقافي للمندكورات , الذين يستلهمون العقيدة أكثر مما يستلهمون النزعة الانسانية , ومن هنا وضع الاساس لأثننة السياسة في البلاد الكبيرة , متمرحلا من القبلية و الطائفية والجهوية .. نحن لا نريد ان نكون كالموالي, على عهد الامويين يا لانجور , باسم العدو الخفي الذي يهدد وحدة البلاد .. كل ما نريده هو ان نكون نحن – نحن ..
    تجد ابدوك في نفسها قدر أكبر من الشجاعة , لادامة النظر في وجه لانجور المعروق , المسبل العينين . كانت ملامحه تشي بانه يخوض معركة صامتة ,تمور بها دواخله , معركة مع الذكريات ربما , مع القلق والخوف مما هو آت ربما ..

    .............هامش.......................
    (1) الخليفة العباسي المتوكل : (47-861 م) . بدا حكمه بالعودة الى التمسك بشعائر الدين بصورة رسمية , واصبح مؤسس أضيق المذاهب (ابن حنبل) إماما للعلماء في عهده , ففتح الباب واسعا لإرهاب ديني صودرت فيه الكتابات الفلسفية للكندي والنظريات الموسيقية .


    وجهه ليس غريبا عنها تماما , كأنها تعرفه , أو تعتقد أنها تعرفه . انتبه اليها خارجا من بوح غفوته .. واجهها بنظراته للمرة الاولى منذ بدات هذه الرحلة .. ثم عاد غائصا مرة اخرى في خواطره الكثيفة : تذكر سلوى , رسائلهما التي يرميانها خلسة في اكف بعضهما., نهاية كل يوم دراسي , الى ان تسنح الفرصة بلقاء., بعد اجتماعات الخلية ..
    صافرة القطار بعد لا تنطق كلمتها الاخيرة , يستمر القطار في سيره ككوكب على مداره , لا يتوقف ليستريح . القطار يسير على الارض اليباب, التي توسطها القضبان . القطار يسجنه في انتظار صافرته الاخيرة , التي تقذفه بعيدا عن زمن الصافرات ..
    صوت عجلات القطار يتمدد, تدور العجلات الحديدية , يلتف حولها القلب , تطحنه يفيض برائحة الدم المعجون., في المواسم المترعة بالأسى , لتتشكل أصداء لمدن رمادية , مشحونة بانغام لقياثير لم يروي ظمأها وتر الحنين الشارد..
    صوت عجلات القطار والماكينات الدائرة , هذا الصوت الليلي يوجف الصباحات المرتقبة, بالاغاني الراعشة , المغتربة . فيسقط الوطن : سلوى , باناو , بيدبا , وليم حواء جاد الله , احمد ابراهيم .. يسقط المندكور من ذاكرة التاريخ ,المدجن بالدم والدموع والسم الزعاف , وتتسع التنبؤات .. تتكور على القطار الماض الى المدن البعيدة , المدن التي يظل في طريقه اليها . لكن ابدا لا يصلها .. المدن التي احتكرها الغرباء وصادروا الاحلام البريئة لاطفالها ..
    "آه يا حبيبي " .. تلك سلوى , وحدنا بانتظار الرفاق, لنبدأ إجتماع الخلية .." آه يا حبيبي " , وبعد أجنة يسافرون في رحم المكان .. هذي البلاد الكبيرة التي ليس كمثلها مكان , فهي الوطن والمنفي , والحقيقة والوهم في الآن ذاته .. لكنها مع ذلك تظل هي الوطن , المكان الوحيد الذي يمكنك أن تصرخ وتتبول وتتغوط فيه ,حيث انت أيا كان موقعك , فتصرخ عجلات القطار, ويتبدد كل شيء كأنه لم يكن : بيدبا , قباب الاسلاف , الأرض الخراب والعظام المحروقة, للابسي جلد الفهد ..فتنسحب اخر الايقاعات القديمة , على أهداب الذكرى , فلا يبقى سوى مشهد وحيد: يقف فيه سالم حاسما كل خياراتي :
    - لا خيار سوى الهروب ؟..
    - الى أين ؟..
    - لقد قررت القيادة ان يتم تأمينك في مدينة أخرى ..
    - وادي النحاس ؟..
    - ربما ..
    ومد لي ورقة صغيرة وهو يضيف :
    - عنوان سلوى , قد تحتاجه قبل مغادرة هذه المدينة .. أرى في عينيك تساؤل مريب؟..
    - كنت كلما سألتك عنها ترد انك لا تعرف شيئا ؟؟..
    - لانني فعلا لا اعرف شيئا عنها , لا علاقة لي بالقطاع النسوي , هكذا هي الامور..
    - ووليم ؟.
    - لا اعرف عنه شيئا الآن ..
    - رسائله ؟..
    - لا شيء ..
    - ماذا حدث لك يا سالم , هل انت هو سالم ذاته الذي عرفته في الجنوب ؟ .. احمل رأسي على كفي وكل ردودك على اسئلتي : لا شيء!! ..
    - جميعنا يحمل رأسه على كفه , ليس امتيازا لك وحدك ..
    - متى ينتهي كل هذا؟. .
    - يوما ما , ربما عام او عشرة , ربما عشرين . ربما لا ينتهي الا ليبدأ بداية جديدة . انها البلاد الكبيرة , كما تعلم ....
    - انه عبث ..
    - هكذا هي الحياة . لقد اختبرت السنون واختبرتني , ولم يبق من عمري الكثير , لكنك لا تزال شابا , امامك الكثير لاختباره .. فيما تفكر ؟..
    - ربما الرث باناو . أهو حي أم ميت ؟.
    - دعك من هذا . سيتم تفريغك للدراسات العليا ,متى سمحت ظروفك الامنية بذلك ..
    - الخارج ؟..
    - ربما .. مع مراعاة اي مستجد داخلي ..
    كنت قد أحسست حينها بحاجة ماسة لمخدة , تلم شعث افكاري , في هذه الليلة التي لا اول لها ولا آخر , هل تتساوى راحة الراس بمخدة او دونها ؟ . هذا الرأس المنهك ..
    (*)
    نهض لانجور. أراد أن يتقدم قليلا من المنضدة التي تتوسط الغرفة , ليأخذ علبة السجائر , تعثرت قدمه بعنف, فارتد الى المقعد المجاور للشمعدان , طيف ابتسامة باهتة عانق وجهه المعبد بالهموم . تشردت نظراته على خارطة جسد سالم , ثم طافت بمعصميه اللذان يحملان آثار الحروق بأعقاب السجائر , انحدرت نظراته الى بقايا الابهام والاظفر المخلوع , تنهد بعمق وابتسامة عقيمة تلوح في وجهه الناحل :
    - هناك أشياء لا يوجد منطق يقنعنا بنسيانها ..
    - لماذا تقول ذلك ؟.
    - لانها غير خاضعة لقوانين المنطق ..
    - لماذا قلت ذلك ؟..
    - لا ادري! ..
    وامتدت يده الى علبة السجائر مرة اخرى..
    - انت تدخن كثيرا يا لانجور , ليس هناك ما يستحق ان تشعر بإحتراق شيء لأجله ..
    - ما يحرقني حقا هو هذه الازمنة التاريخية المتداخلة في البلاد الكبيرة , حتى لم أعد اعرف الى اي عصر انتمي او في اي عصر نعيش ..
    - اهو حقا ما تقول ام ان لكل هذا الاحتراق علاقة بسلوى والرث باناو؟! ..
    - يبدو انك لا تريد ان تعرف ما اعانيه الان بالضبط .. انا الان بامس الحاجة لوليم ..
    - انت اقوى منه لانك اخترت لغة غير السلاح للتغيير .. كلفة انسانية اقل ..
    - من قال انني لا اؤمن بالسلاح , ومن قال ان السلاح ستنتج عنه كلفة انسانية اعلا .. كلما استمرت هذه الاوضاع ,ارتفعت الكلفة , السلاح يقطع الطريق امام استمرار هذا الثمن الباهظ , الذي يدفعه الجميع من جوعهم وحرمانهم وبؤسهم ..
    - لا اود الدخول معك في مغالطات .. لقد اخترنا طريقنا في التغيير , ولن نتراجع عما اخترناه ..
    - اتعلم اشعر بانني اعتقلت داخل شبكة عنكبوت كذبابة ..
    - هكذا حالنا جميعا , هذا قدر المطاردين ..
    تنهد لانجور بعمق, وفي خاطره تطوف بقايا اسئلة قديمة ., تعود الى تلك السنوات البعيدة ,عندما كان يسال عن أخبار سلوى كثيرا ولا يجد ردا .. وكانت بدايات الاسئلة الصغيرة, تقود الى استفهامات كبيرة عن الحزب العتيق,بقوالبه الجامدة التي تجاوزتها حركة التاريخ , وعجزه , والفساد الذي يحاصر كل منظماته, وصراعات مراكز القوى , واختيار القيادة على اساس اثني , لا يخلو من الترميز التضليلي ,عندما تضطر هذه القيادة بتجميل هيئتها وتصعيد شخص مثله .. لكنها كانت اسئلة عابرة , لا تلبث ان تنحسر, خشية كتبة البلاغات , خشية الاتهام بالعرقية والجهوية والشعوبية , الخ من ميكانيزمات دفاعية, برع الحزب العتيق في استخدامها, لتخويف اعضاءه الضالين والمغضوب عليهم .. ومن عداهم او والاهم ..
    - لا, لا تذهب بعيدا . انا اعني الايديولوجيا نفسها ..
    - لانجور ؟ ما بك يبدو انك تفقد اعصابك . يجب ان تعلم شيئا محددا ,ان هذا الحزب لم تنشئه انت ..
    - ولا انت . ومع ذلك علينا ان نسهم جميعا, في صياغة المعنى العام لرؤيته ..
    - على العموم ما دار سيظل بيننا , ساعتبر هذا الامر منتهيا, على الا تعاود الحديث فيه ..
    - الجام العوام عن الكلام ؟..
    - افهم الامور بالطريقة التي تشاء . يجب ان انصرف ..
    - انتظر ساغير هذه الاسمال وآت معك ,لارى هذا الحزب الخفي الذي انتمي اليه ..
    - لا لن تخرج معي .
    - اذن ساتبعك ..
    الان تستعيد ذاكرته من ارشيفها ,الذي تكاثفت عليه اغبرة السنوات , ذلك اللقاء المختلس خلف الكنيسة..
    - الن تنسيني يا سلوى ؟..
    - كيف انساك وانت داخلي . سنلتقي , ثق اننا سنلتقي ..
    كانت بين زراعيه كطفل يحلم آمنا , بعوالم خاصة جدا . لا يعرف شفرتها سواه . فتحت جفنيها المثقلين ., لتغلقهما مرة اخرى ..
    القطار يمضي بعنفوان الجرح , ليذوب النقيض في النقيض ..
    (*)
    ختم مستر عدنان زيارته الميدانية , وانهى , اجتماعه بوليم قائلا :
    - يجب ان تكون دقيقا في نقل تفاصيل هذا الاجتماع , اكرر نحن لا ندعم الانفصال , بل ندعم القضايا العادلة ..
    - الوحدة او الانفصال هي قرارات تخصنا وحدنا , وبعيدا عن الشعارات , التعاون بيننا مبني على مصالح مشتركة ,. انتم تريدون النفط الان , وحلفائكم لا يريدون ان يتم استخراج نفطنا الان ,ونحن نريد ان نكون سادة انفسنا .. مستر عدنان .
    - لا اخفي عليك ان حكوماتنا قلقة بشأن التعاون معكم , فنحن ندعمكم ضد اخوتنا ..
    - ان كان الحرج هو ما يزعجكم, فثق لن نتسبب لكم في اي حرج ..
    - كيف نثق وارادتكم منقسمة ..
    - ان كنت تعني فصائل الرمح المقدس فقد توحدت جميعها , لا انقسامات بعد الان .. وانا اعلم وانت تعلم من هو الذي يقف خلف الانقسامات ..
    - الى ماذا تلمح ؟..
    - لا . انسى ذلك. لنسمي الاشياء باسمائها . ما يهمكم هو سرية علاقتنا, لا مشكلة. فهذا شيء سهل نستطيع ان نضمنه لكم ..
    دخل احد الجنود فجاة :
    - العميد رينج , القائد العام على الجهاز .
    كان وليم يدرك المغزى من اتصال القائد العام , فهو قلق بسبب سقوط جوبا, في يد القوات الحكومية , كما انه يود التأكد ان كل الامور قد باتت في حيز - خاصة تلك ,المتعلقة بالدعم اللوجستي , والتي كان قد ناقشها سلفا مع المسئولين العرب , فأرسلوا مبعوثا لهم للاطلاع على حقيقة الاوضاع الميدانية- تمضي على ما يرام .. اغلق وليم على نفسه احد الابواب الجانبية , المفضية الى غرفة ملاى باجهزة الاتصال الحديثة , مد له احد ضباط الصف, جهازا صغيرا بحجم علبة السردين , فتناهى اليه صوت القائد العام:
    - لم نستولى على جوبا سوى منذ شهرين فقط ؟..
    - انهم يستردون ما ننتزعه منهم , مثلما نفعل نحن ..
    - يجب الا يسقط مرة اخرى ما يقع تحت ايدينا ؟..
    - اننا نخوض حرب عصابات يا سيدي ..
    - لم تعد حربنا حرب عصابات , لقد تغيرت الاستراتيجية ,خاصة اننا نعمل الان على اعادة بناء وتأهيل المناطق المحررة ..الان ملوط تقاوم بشراسة , يجب الا تسقط . اعط التعليمات لتحريك وحدات الدعم , ولا تغادر مركز القيادة في كبويتا لاي سبب , ونفذ الخطة الاحتياطية المتعلقة بقواعد الريف .انتهى .
    - هل تسمح بسؤال ؟.
    - ما ذاك ؟.
    - اجتماع القيادة بكمبالا , كيف احضره وتعليماتي ان ابقى في مركز القيادة الميدانية ؟..
    - هذا ليس سؤالا , انه احتجاج .. ماذا عن ضيفكم العربي ..
    كانت التعليمات واضحة , قال القائد :
    - لا تقتلوا اي اسير ؟..
    - لكن الجيش الحكومي لا يبقي على اسرانا احياء! ..
    - في حال التوقيع على اتفاق سلام سيحرجهم وجود اسراهم على قيد الحياة , بعد ان خدعوا عائلاتهم بانهم(شهداء) .. كما انني ارغب في بقائهم احياء لاسباب اخرى ..
    كان وليم لا زال يفكر في حديث القائد, وهو يلج مكتبه مرة اخرى للقاء المبعوث العربي , الذي فاجأه بسؤال :
    - هل هذه المدينة آمنة ؟..
    - تماما ..
    - انها نموذج أوروبي في المعمار ..
    - بلادنا كلها ستكون هكذا .. البلاد الكبيرة ..
    - ظننت انكم ستكتفون بالجنوب فقط؟!..
    - الجنوب في كل شبر من البلاد الكبيرة .
    دخلت الرائد ايفا , بقامتها الممشوقة ,وجسمها الاسمر المشدود., أومأ لها وليم برأسه:
    - تفضلي هذا صديقنا وصديق اصدقاءنا في الغرب, مستر عدنان الحسين
    مدت ايفا يدها الى مستر عدنان, الذي سارع بالتقاطها , وتقبيلها , ولسانه يكاد يتلمظ بين شفتيه ..
    - اهلا بك مستر عدنان , ما رأيك بجولة في كبويتا . مؤكد انك لم ترى المعالم المدهشة بعد ..
    همس وليم في أذنها :
    - نريد ان يكون لقاءنا القادم به قريبا, وفي اوروبا بالتحديد ..
    (*)
    تصبح بيدبا وسلوى جزءأ متكررا في آخريات.. ضد ضد , نقيض نقيض .. انها معان سنوات الحرمان ,هذا الحجر , حجر الطاحون الذي لا يزال يدور., في الوجه الاخر للمكان, فيبدو كل شيء باهتا , كقصة حب حزينة لم تكتمل .. تغوص في مداراتها سلوى , مزيدا من البدايات غير المنتهية , مزيدا من الاحلام التي يحطمها الحزب العجوز, ورجال الامن .,فهما صنوان . مزيدا من الامال التي يقهرها تعب البحث المضن , ورم وعودة الى ذي بدء , من اين نبدا ,الى حيث ننتهي في الترحال والمنفى ,اللذان يشرعان نواجذهما ..
    تمر ساعات الليل ببطء في مناجاة النجوم , كالرومانسيين القدامى , ذات الحكاية : الفشل .. الفشل في كل شيء, حتى العثور على الوجوه التي نحب , الوجوه الغائبة في ارتعاشات الاضواء الباهتة البعيدة , والصمت الخفي , منذ تبدا الشمس في التسحب بعيدا , بعيدا ..الى الخلف , الخلف البعيد , منذ تبدأ العتمة والخوف العميق , منذ يبدا كل شيء في التداري ,عن كل شيء عداه ..
    كان لانجور قد أحس بالاختناق , ود الخروج , لكن الخروج الان., يعني الدخول في زمن حظر التجوال , احس في حديث سالم بالقيود تتعاظم , فتكبل حتى مجرد الرغبة اليتيمة في التجول والتنقل , هذا الحق الذي حظيت به حتى الطيور , يجد نفسه محروما منه . ومع ذلك خرج , خرج خروجا ضد النسيان , الرصاص , الصمت , الحزب .. تردد في منتصف الطريق .,فاقفل راجعا حين أحس بوقع اقدام خلفه ,. التفت على جانبي الطريق فلم يرى شيئا .. محاولة فاشلة من الوهم,لاختراق جدار احاسيسه , تبعته الخطوات بتصميم اكبر , واشكال غامضة تتطاير امامه وخلفه , تتضائل من جديد , تتكرر وثمة اختناق بكل التفاصيل يصيبه بقسوة .. لكن لم تأت سلوى , رغم عنف المجازفة , ها مرة أخرى يكسر عنف حاجز الخطر , يقف عند زاوية منزلها ولا تأتي ...
    تلاشى صوت خطوات سالم . همس لانجور في نفسه – لابد ان اخرج . كان التاريخ يكرر نفسه في كل شيء . وقف امام الباب برهة من التردد , ثم استقبله الشارع الفسيح ...
    لفحة هواء باردة تنعش فيه ذكريات عميقة , بخطى نزقة , مرتبكة , قطع الطريق الى الطرف الاخرى من الرصيف , وفي اعماقه خوف من المجهول , واحساس بالتشرد , رغبة اشد تحاول قهر الخوف والاحساس بالوحشة والاحباط , كرغبته العارمة في معرفة مصير الرث باناو ؟!..وكل الذين احبهم , ولا يزال يحبهم : بيدبا , جوزيف , وليم , والمندكور عبد الله , واحمد ابراهيم وحواء جاد الله ..
    حاول ان يبعث في نفسه شعورا بالارتياح فلم يستطع ..
    اجتاز الطريق المرصوف الى ميدان فسيح , خالي الا من عواء الكلاب, الذي ياتي من البعيد حزينا ينهكه صمت الليل , ورغم ذلك يحاول بالتياعاته, كسر طوق العزلة والسكون ..
    الاصوات .. الاصوات المجهولة , التي حوله توحي بمزيد من الخوف , تدفعه الى تصميم اقوى واشد واعنف .. توقف ملتفتا الى الخلف , تاكد من خلو المسافة من اي شيء يتبعه ,اخذ يتابع ببصره لمبات النور المتتابعة على كتف الشارع , تبدو اخر نقطة ضوء كأنشوطة لبداية النهايات . موجة هواء قوية كهذه, تكسر شعر سلوى وهي تسير جواره في طريق مشابه , تذكره تماما . لا يستطيع نسيانه ابدا . مد يده ليزيح خصلات الشعر السوداء الطويلة من عينيها , ليهديء من روع ثورته , يحسر عنه التمرد على الريح, هذه الريح التي داخله , دائما احب شعرها حرا طليقا كالطيور المهاجرة ..دائما .. شعرها صنوا لحنينه العارم ..
    تيارات الهواء الباردة .,تذكي في جسده حرارة الدم , تبعث فيه النشاط . خطواته تزداد سرعة , يصل نهاية الميدان فيهدا قليلا . يقف تحت لمبة النور الاخيرة , تطوقه نسائم دعاش تأتي من البحر , يتذكر النيل ومراكب الكانو ولابسو جلد الفهد , يتذكر نيكانج وجيوكومو كينياتا ومقاتلي الماو ماو ووليم واللواك وشجرة اللحم والاشينو والمانجكيلو , وتنتصب فوق كل هذا السقط من الخواطر والافكار : الغابة وبيدبا والزعيم باناو, وهو يلقي عليه حكمة الاسلاف وتعاليم الرمح المقدس ..
    يجتاز الدعاش المباني العالية , يداهمه في هذا المنعطف الحاد , بدفق بارد , لطيف . شق الدرب الى البحر ...
    هذه البلاد ستظل تحرق قلبك في كل دقيقة تمر يا لانجور , هذي البلاد خلفك , هذي البلاد امامك , فاين المفر ..ترى اتخذت سلمى قميص البلاد رداء , ام لا تزال بتنورتها ذاتها وشعرها المنسدل ..
    لا شيء يبقى على حاله في هذه البلاد سوى النيل , بطيوره , رهبته , دفقه وخصبه ..
    تمضي البواخر وتعود وهو ذات نفسه , ربما تعطب مكائنها . ربما تدمرها قاذفات القنابل , لكن تظل بواخر اخرى تروح وتجيء , لا يترك شيئا ينتقص ملامحه ..
    النيل صنو الغابة , غابة لابسي جلد الفهد , شقيق الصحراء والوادي ..
    زمن الخوف يقطع اللحظة الناعمة , يحولها الى اشلاء ذكرى , زمن الخوف زمن خطر , معبأ بهيبة المكان , ليست هيبة عادية , انها الوحشة , التي تشعلها دقات الساعة المتسارعة : تك , توك . تك ..خطر , خطر , خطر ..
    يودع البحر ويتعجل العودة , يعود ادراجه, والشوق يتجمع بعنفوان الجرح, لتذروه الرياح الغامضة , وبخطوات مرتبكة , متجردة , تخلو من الطمأنينة , يعود .. تتلاشى الذكرى المستردة من التهاويم البعيدة , المستمدة من الفراغ .. بينه وبين الذكرى مدن شاحبة , ضالة ومضللة ..
    ذكرى وليم في غابات كينيا , ذكرى بيدبا وهي تصرخ تحت سحل مجنزرات الحكومة , أهي سحلت حقا ؟!.. ذكرى سلوى بنت الموظف الحزبي العتيق . ترى اكتب عليه ان يسجل مواقف في الزمن الحراشي , وينبش بضنى في دواخله المضطربة , التي لاتسعها وحشة هذا الطريق الطويل المتسع , انحرف الى درب افضى به الى درب آخر .. تراءت له المدرسة الثانوية من بعيد, أطلالا جاثية على ركبتيها , لقد فعل الزمن بها فعله . عندما جاء الى الشمال للمرة الاولى , سأل احدى الفتيات في هذا المكان بالذات , قرب المدرسة :
    - اين اجد منزل السيد احمد ابراهيم لو سمحت ؟..
    - والد سلوى ؟ بنت خالتي حوا؟ ..
    وأشارت له نحو البيت, كان يعرف انها سافرت في منحة دراسية, الى شرق اوروبا . ثمة شوق دفعه لمجالسة احمد ابراهيم ,بعد كل هذا الزمن الطويل الذي مضى . ثمة حنين جارف لم يقوى على مقاومته ..
    - اهو انت لانجور بشحمه ولحمه ؟ لانجور ذاته ؟ وبعد كل هذه السنوات جئت تبحث عنا ؟ يا لك من شاب اصيل ..
    كان احمد ابراهيم يحدق فيه مزهولا ,وهو يحاول في هذا الشاب الفارع امامه, ان يسترد ذكرى ذلك الصبي الصغير . كان بعد لا يصدق عينيه, عندما جاء صوت حواء جاد الله فائضا بالرقة والحنان ذاتهما , كما عهدها .. كأن السنوات لم تمر والوقائع والاحداث لم تحدث , والمكان لم يتغير :
    - انه ولدنا . كيف ينسانا ؟..
    - عامل شنو يا ابني . وما الذي فعله بك الزمن ؟..
    - بخير . انتقلت للدراسة هنا في وادي النحاس ..
    - وبعد التخرج ؟..
    - ربما امضي الى الخارج , لاكمال دراستي العليا ..
    - خير ما تفعل يا بني ..
    فعل الزمن فعله بالمدرسة القديمة , لم تعد هي ذات تلك المدرسة , اصبحت بقايا قلعة قديمة مسكونة .,بالحنين الغابر والشجن المندثر , لاشيء ينبعث من اطلالها سوى الاسى واللوعة ..
    ضوء عربة يلوح مقتربا تجاهه , تبدأ ضربات قلبه في الارتفاع مرة اخرى . يختفي خلف احد الجدران المهدمة لمبنى دارس , تمر الدورية دون ان تلمحه . يتنهد بارتياح ثم لا يلبث ان يركض ,يسرع , يناديه عواء الكلاب الضالة من بعيد .. يصل متصاعد الانفاس , معبا بهواجس الخوف المرعبة ..
    حبات مطر هاديء دون مقدمات تنفعل على وجهه , فتسيل . تهدئه قليلا . يتنسم فيض هواء الليل النقي , المندي باحساس عميق بالراحة . يفتح الباب وخطوات سالم وهو ينصرف, لا تزال ترن في الجدار الداخلي لطبلة اذنه ..
    الغرفة بذات احساسها الشائك , المتكوم , المكتوم , تبعث في نفسه الاسى والاحباط .. ترى هل حضروا بعد خروجه ليلا , ام لم يكتشفوا مخبأه حتى الان ؟ .. سالم قال انهم سياتون في منتصف الليل كما افادت "مصادر الحزب" .. تلمس جيب بنطاله في عفوية , لامست اصابعه ورقة مثنية عدة ثنيات , فضها .. كانت اخر رسائل وليم اليه , منذ سنوات عدة وهو يحتفظ بها كسر حميم . اكتشفها سالم ذات مرة فصرخ فيه :
    - هذا يخالف قواعد التأمين ..
    والقى عليه محاضرة مملة, في كيفية تفتيت الاجهزة الامنية للقوى الثورية , وكيفية مواجهة المناضل للقمع ,و الدور الذي يلعبه التامين في حياة الكادر والحزب . فاجأه في خضم هذه المحاضرة بضرورة حفاظه على علاقة جيدة بوليم ؟ كأن الامر لا يتعدى اطار التوازنات ,والواجهات الاجتماعية والترميز التضليلي, للحفاظ على قومية الحزب المزعومة , اكتشف لحظتها مدى تورطه في الايدلوجيا ..
    تطلع في الرسالة وهو يفردها :".. الذين يموتون هنا .,او يقتلون هم امتداد عذاباتك , النازحون من جحيم الحرب, يحملون اليك عبء تحطم كياناتهم , وتشردهم وتفككهم .. بأسى اتلقى اخبارك , كشيخ هرم , عركته السنون وصقلته التجارب , ومع ذلك ظل يدور حول نفسه, دون ان ينسى شيئا من مراراته, او يتعلم منها شيئا , يضيء ظلمة عمره ,متسارع الانحسار ..
    بين الصحراء والجبل والغابة , وحيث تنهض الامكنة في وادي النحاس, احس بك الان , كذبابة في شبكة عنكبوت تصارع للافلات ..
    لم يعد همنا كما كان واحدا , فقد وصلنا الى مفترق طرق .. بالمناسبة كيف هي سلوى , اوصلت حبل الود القديم , ام لا زال مقطوعا ... الجميع هنا بخير , اعني فصائل الرمح المقدس, لابسو جلد الفهد وقوى المقاومة الاخرى , وكما تعلم ان "الخير" بالنسبة ل"المحارب" يختلف ..."..
    هكذا هو وليم , داخله غضب لا ينفد ..
    (*)
    كان مخبأ لانجور يقع في مسكن نائي .,من الحجر والخشب , يبعد قليلا عن الاحياء السكنية في اطراف وادي النحاس , مرتبط بسلسلة متفرقة من البيوت الطينية الخالية, من الاسوار والنوافذ , والتي هي مرتعا لكل شيء : الحشيش , الخمر , الجنس ..
    استلقى لانجور على السرير الوحيد بالغرفة , وهو يشعر بصداع عنيف, يهيمن على صدغيه ويعصر دماغه عصرا .. اخذ يجتر وقائع هربه من مدينة لاخرى , وكل وقائع حياته المنصرمة والراهنة, تمر امام عينيه., كفيلم تسجيلي يخرج من احدى الروايات القديمة ..
    يرى الان نفسه في اي مكان, هو هنا المكان هو المكان , يرى نفسه يقوم بذات المهمة في الداخل ,التي يقوم بها وليم في الخارج , كان كلاهما يبني تنظيما مع اختلاف واحد : البناء العسكري لوليم , هذا البناء الذي جعله, لا يشغل نفسه كثيرا باسئلة ملحة , حارقة :
    - كل ما يهمني هو ان يكون الانتماء لهذه الارض اصيلا , ليس كالهويات العابرة .. انت مثلا هوية عابرة في الحزب "تمومة جرتق" كما في كلام العرب , بمعنى اخر انت رجلهم عندنا ..
    - تعني ان وضعيتي شاذة وليست حقيقية ؟!..
    - كنت اريدك ان تتعرف عليهم من قرب, وهم يمارسون هذه اللعبة التي خربوا بها بيوتنا , لتتعرف على كيف يمارسون السياسة, وكيف يفكرون على هذا النحو الضيق . لكنك انغمست في الدور ..
    - الا تثقون بي ؟!..
    - لما كانت لك صلة بنا . لو كنا لا نثق بك , ولما كشفنا لك كادر سري كتيم .
    - هذا تناقض!!..
    - انها السياسة فنحن لسنا مجرد محاربين فحسب ..
    - الحزب لا يعرف شيئا عن تيم ؟..
    - وضعه ككادر سري يجعل حركته بيني في المنفى ,وبينك وبين الحزب سهلا .. كما تعلم ان تنظيمنا شيدناه داخل هذا الحزب , هذا الحزب الذي ظل يستخدمنا عند الحاجة, للتدليل على قوميته – زاعما انه أممي -, ولاقناع قومنا بانه يؤازرهم , لعبة الكسب الجماهيري كما تعلم ..
    - قد يشكون في ؟..
    - افقهم اضيق من الشك بك , انهم بحاجة اشد اليك الان .,اكثر من اي وقت مضى , بعد ان اعلنا شق عصا الطاعة عليهم ..
    - لمحت لي انك تعمل على عزل القائد العام ؟ ما المغزى...
    - يجب ان يتصدى احد لاعادة الامور الى نصابها , انه اضعف من ان يقود قوات الرمح المقدس وقوى المقاومة الاخرى, اريد ان اوحد كل هذه الفصائل في حركة واحدة , ومؤكد انني ساحتاجك فيما بعد, لذلك اسررت لك بهذا الامر الخطير .. متى ستعود الى وادي النحاس ؟..
    - بمجرد انهاء تدريباتي العسكرية ..
    خيوط قديمة ممتدة على السقف, تراكمت عليها ذرات غبار جمدتها مياه المطر . كم هو مرهق هذا السقف عند هطول المطر , اذ تمتليء كل الاوعية التي يملكها بالمياه , وهذه النافذة المرتعشة .( التفت اليها ).. بردها ورشق الماء , يحرمه الدفء والراحة ..
    نهض لانجور كالملسوع, وهو يطارد الناموس والبعوض , محركا يديه يمينا ويسارا , متورا بهذا الطنين الحاد , انسلخ عن السرير , متكئا على الجدار , وفي عينيه الغائمتين صورة غامضة ترفض البوح , تجمدت أقصى قاع الجفن المرتعش , دون ان يتراءى له سوى الضباب ..
    (*)
    بدت أشجار التيك والمهوقني, التي تحيط بملوط من بعيد موحشة ,الاشجار تغطي مدى الرؤية والجثث ,او ما تبقى منها اشلاء في كل مكان . ملوط هذه الغابة الكبيرة , التي تتخللها الربوات المتناثرة , والجبال والارض التي ليس لخضرتها مثيل ..
    ارتكزت الوحدة على بعد خمسة عشر كيلو مترا من المدينة, تغطي جانبا من زوايا المتحرك , كان الصمت يخيم على المتحرك ,عندما هتف النقيب حاتم :
    - الدراكتور كشف معسكرا للخوارج , مخفي على بعد عشرة كيلومترات , لتتحرك فصيلة التمشيط ..
    قال حاتم وهو يشير للعساكر الذين تحت امرته , فقاطعه القائد مصرا على ان تشمل الفصيلة عددا من انصار الشيخ ..
    - لكن سيادتك خبراتهم وتجربتهم ..
    - نفذ التعليمات .
    الهدوء الشاحب والسماء الملبدة وكل شيء يشير الى ان ثمة معركة مرتقبة . لذلك كان الجميع متحفزون .. اخذت اصوات الجنود تخفت تدريجيا ,منسحبة الى عوالم من الصمت والصحو الداخلي , حيث تتخلل ذكرياتهم في مدن الشمال البعيدة , لحظتهم الراهنة .. هكذا فجأة تم "اعتقالهم" من الشارع العام , وجمعهم في خيمة مقعية في قلب منطقة عسكرية خارج وادي النحاس , كان بعضهم لا يزال يحمل اكياس الخضار, لأطفاله الذين ينتظرون عودته بعد قليل ,مشرعين افواههم التي يتآكلها هذا الانتظار الذي سيطول , الى ان يعرفوا ان عائلهم قد اقتيد الى معسكر التدريب العسكري , وبعضهم كان لا يزال يحمل روشتات الادوية, التي ظن عند خروجه من بيته ,انه سرعان ما سيحصل عليها ليسعف مرضاه , وبعضهم الاخر ..
    هكذا بسرعة كبيرة تم كل شيء فجاة , الجميع حوصر بانصار الشيخ , الذين يشرعون اسلحتهم الاتوماتيكية القصيرة في وجوه الناس . يتخلل صوت متوكل الخفيض هذا الصحو الداخلي., كأنه يحادث نفسه :
    - لا اريد ان اموت الان ..
    - لا احد منا يريد الموت , هنا اما ان َتقتل او ُتقتل . ترفع سلاحك في كل الاحوال مضطرا , لاشيء يدفعك سوى الحفاظ على حياتك ..
    .. كان متوكل يهزي , وسعود لا يزال يشعر بصدى الزخيرة, التي اطلقها المتحرك على المتمردين في الغارة الاخيرة , التي قتل فيها عدد كبير من انصار الشيخ, لعدم التزامهم ب"النداء" وتخطيهم لحاجز الامان , صدى الزخيرة.. كان لا يزال يطن في اذن سعود, التي شعر بها منكفئة على نفسها , يتخللها هذيان متوكل :
    - لم اقتله , كان سيقتلني .. قتلته ...
    انتظم تنفس الجنود في خيامهم , والليل ينسحب مخلفا وراءه مزيدا من الاحاسيس بالعقم , ومزيجا من شتات الذكريات والأسى ..
    انتشرت تباشير الفجر , تتخلل الاشجار ,التي تقف حاجزا لامتداد الرؤية . بدت تفاصيل الرقعة الجغرافية تبين وتسيطر على الخاطر ,..
    هنا العشق المخبأ في الرصاص , حيث لا يحلم الانسان بالعودة ابدا ..
    كان تأخر الامداد قد اثر على نصيب الفرد من الطعام تاثيرا مخيفا , والدرب لا يزال وعرا والطريق ليست سالكة والادلة ليست كافية . تقلصت وجبات الطعام الى وجبة واحدة في اليوم وظلت – مع ذلك - "التعيينات" الرفاهية لانصار الشيخ وحدهم, دونا عن جنود المتحرك دون أن تتأثر ..
    بعد قليل سترتفع اصوات العرفاء ووكلاءهم, بعد تلقيهم الاوامر من المساعدين والرقباء اوائل ..و ..
    - الرؤيا , الزاوية , عدل الميلان ....
    وهكذا يبدا تمشيط المنطقة لعدة كيلومترات , وتحترق غابة اخرى , فتتقدم الوحدة بحذر بعد مجيء اذن الاستكشاف . يطل الاحتفال العنيف كطقوس الديانات المحلية الغابرة , فيتم تجريد القتلى في حالة من الزهو المحموم من اسلحتهم, واشياؤهم الاخرى التي لها قيمة في هذا المكان " هنا , ثياب الانسان وسلاحه وحذاءه اهم منه هو شخصيا " ..
    لم تمض سوى ايام قليلة, منذ اقلت الطائرة النقيب حاتم للاتيان بدعم في المؤن, فلم تلبث أن انطلقت شائعة مفادها :ان "المتمردين" هاجموا وحدة دعم الامدادات واقتنصوه , وانه بين القتلى ..
    هذه الشائعة جعلت انصار الشيخ يقترون على انفسهم قليلا , ويطردون اي عسكري يزورهم في خيامهم ..
    قبل ان يذهب النقيب حاتم بايام قليلة, كان يتفرج في صورته مع طفليه وزوجته , كان قريبا من الجنود ويصر دائما على ان تمضي الامور, طبقا للقواعد العسكرية دون تمييز , لا مثلما يريد انصار الشيخ , ولانه الوحيد الذي كان كثيرا ما يحطم تعليمات القائد ,فلا يأتمر باوامر انصار الشيخ , شاع بين الجنود الذين احبوه, ان الذين اقتنصوه لم يكونوا خوارج , واحدثت هذه الشائعة بلبلة في صفوف المتحرك, اذ اخذ كثيرون يروجون لخيالهم (ربما ترتدي زوجة النقيب الاسود او الابيض الان ,اثر الاشارة العاجلة التي وصلتها , ربما تغسل طفلها الان بدموعها, وهي تحتضن فيه زوجها القتيل , حزنها ..) ,وبذل القائد وانصار الشيخ جهدا كبيرا لاحتواء هذه الشائعة ..
    كانت اصوات الصحون وهي ترتطم ببعضها, تعلو على اصوات الاحاديث المتناثرة بحكاياتها المتكررة , التي لا تثمر سوى المحاولات الفاشلة في قطع الوقت . , الذي لا فائدة ترجى من قطعه هنا , على كل حال .. ففي هذه الاحراش لا قيمة للوقت او الانسان ...
    بعد قليل.. ربما تاتي اشارة تفيد ان عناصر مهمة الاستخبارات, التي اعطيت بالامس تعليماتها , قد دمرت عن اخرها , ربما تأتي اشياء اخرى كثيرة , تفتت ما تبقى من معنويات المتحرك المنخفضة ..
    (*)
    تحت اشعة الشمس في مناطق العمليات , يستطيع ان يتبين الانسان فداحة احساسه بالاشياء ,على نحو واضح اكثر من اي وقت مر على حياته , ربما هذا الاحساس هو ما دفعهم , لتجاذب الحديث العامر بالشجن والحنين , حيث يوظفون لغتهم العسكرية المميزة في الحكي الاسيان , ربما , يحاولون مقاومة الموت برثاء حالهم .. شد متوكل انظارهم الى طائر ضخم غريب .,يحلق في الفضاء , وتحت تأثير الترقب والانتظار الذي يحاصرهم به مناخ الحرب , فيجعلهم متحفزين وحساسين تجاه اي صوت او حركة , تعلقت انظارهم بالطائر , تفحصوه جيدا فتبينوا فيه نسرا لم يروا مثله من قبل , في صمتهم المعبر كانوا يتمنون داخلهم – جميعا – لو كانت لهم اجنحة للهروب بعيدا , بعيدا , مثل هذا النسر ...
    الان , وهنا , مرة اخرى ..هي اعماقهم المدجنة بالبحر والغابة تفيض , فيتضخم الاحساس بالعجز ,والحاجة الماسة للبول على كل شيء ,والموت فورا لانهاء كل هذا العذاب ..
    مدت الاسلحة ازرعها الاخطبوطية, وتعالت الاصوات المشحونة بمخاوف الموت البطيء . والافواه تتناقل اخر الاخبار :
    - تم تقديمه لمحاكمة عسكرية و احالته للمعاش . الم تسمع ؟..
    - من ؟..
    - النقيب حاتم ..
    - لماذا ؟..
    - لانه رفض تنفيذ اوامر احد انصار الشيخ ..
    - ربما قتلوه واشاعوا قصة الاحالة للمعاش, لذر الرماد في العيون ..
    - ربما ..
    انزلق سعود على الارض الصخرية ذات النتؤات البارزة , حيث يتراكم على جسمه الان كل الم جديد, على الذي سبقه ,والذي يليه, وتتخذ الاشياء , كل الاشياء طعم العتمة .. تصبح سلمى محورا لالمه الكثيف .. نهض سعود من انزلاقته مسرعا ,اثر تعالي صوت الصفارة , وتسارع افراد الشرطة العسكرية وهم يهتفون :
    - اجمع . اجمع . اجمع ..
    ركض الجميع مسرعون , ليصطفوا في طوابيرهم ذات التشكيل الهندسي متداخل الاوتار , كان القائد يقف مرتكزا على سلاحه بمرفقه , راسما ملامح الجدية والصرامة :
    - قوات الفيلق الثالث ذهبت لتؤمن الطريق الى مدينة اخرى , لم يبق سوى القليل لتحقيق النصر الكامل والشامل , فلا تقلقوا بخصوص المؤن فهي في الطريق الينا , وملوط ستكون نصرنا الخامس (باذن الله).. اننا نقاتل في سبيل رفع راية لا اله الا ...
    (*)
    كان متوكل منذ تم اختياره وسعود ضمن العملية"القصواء" اخذ يشعر بدنو نهايته , ويبذل جهدا خرافيا لاخفاء حقيقة شعوره بالخوف :
    - هل سنهاجم معسكر الخوارج مباشرة ؟..
    - لا تقلق يا متوكل , ستعرف كل شيء في حينه ..
    قال سعود وهو يغالب النعاس .
    كانت الشمس في كبد السماء , وهي تسعى لجر ازيالها حثيثا لتتجاوز الى الافق المائل على صفحة السماء المقابلة .فاستسلم سعود لسلطان النوم ..تراءى له في افق الحلم(الكابوس) النسر وهو يسقط من مدى الظن في فضاء الاثير , برصاصة مجهولة .. تراءى له النقيب حاتم وهو يتلقى طعنة سونكي مجهول الهوية من الخلف . كان حاتم يسقط ملطخا في دمائه , وعناصرالمتحرك يشتبكون مع بعضهم البعض , كان حلما متداخلا , متقطعا , لم يستطع سعود تذكر تفاصيله المعقدة عندما صحي عصرا , ونظر حوله في الخيمة فرأى رفاقه مسجيين على الارض القردود , يغطون في نوم عميق : أريك , كوه , اوهاج , متوكل وعادل .. سمع صوت عربة خارج الخيمة تنهنه كالكلب , فحدث نفسه :"لابد ان ادروب ادرك انهم نائمون فقرر ازعاجهم " .. وقتها كان حضرة الصول يتلقى تعليماته الاخيرة بشأن العملية القصواء ..
    مع تلاشي اخر اطلالة مغربية, ودخول الليل فاتحا زراعيه لاحتضان كل شيء . تجمعوا . كان الليل طويلا وحزينا وموحشا , تتخلل ظلمته كل شيء : الصخور المتناثرة , الخيام المتفرقة , حتى الاشجار بدت كاشباح لحيوانات رهيبة يعود عهدها الى ما قبل التاريخ , انغلق الظلام على الوقع المكتوم لخطوات عناصر القصواء الرتيبة ,وهي تدق على الارض المعشوشبة في انتظام خافت .. بدوا في ثيابهم الخضراء غير مرئيين , جزء من طبيعة المكان المغلف بالظلمة والاشجار , كان النداء وشفرة التحرك, قد اعلنا شروع عناصر القصواء في المجهول .. رغم ان العملية تبدو مستحيلة , الا ان لا شيء اسمه مستحيل هنا .. التعلمجي القميء: كان دوما يصرخ في وجوههم بعبارته الانجليزية الوحيدة التي يحفظها – ويحفظها خطأ – (لا مستحيل وانتم الشمس) , لم يكن هناك ثمة من يستطيع تصحيحه , فذاك يعني ان ابواب الجحيم قد فتحت عليك , اذ لا يعقل ان تكون قادرا على الفهم افضل منه , فهو تعلمجي .. كما ان القاعدة الذهبية ان (من هو اقدم منك بساعة يعرف اكثر منك بسنة ) واكثر شجاعة ورجولة ايضا ..
    انطلق صوت المساعد من الجهاز :
    - صقر يتكلم , تأمن سيركم ..
    - نحن في الطريق ..
    - انتهى عندك ..
    اعترى صوت أريك شيء من التردد ,فهتف المساعد على الجهاز :
    - زيرو يتكلم , ماذا هناك ؟...
    حسم اريك امره بعد برهة :
    - لا شيء سيادتك . انتهى .
    وتقدم افراد القصواء بهدؤ مشدودي الاعصاب والمسامع ..
    هنا تصبح للحواس حساسية فائقة , تصبح كلها متوحدة الارهاف .. كان الهدف يتضائل , لم يتبق كثيرا , فجأة اخترق صمت الليل المشوب بالترقب والحذر , صوت طلقات كلاش , انبطحوا جميعا على الارض . حاول سعود ان يرد باتجاه الطلقات , فلم يستطع تحديد اتجاهها بدقة . ثمة الم غزير يتصاعد من جسمه . اخذ يطلق النار في كل اتجاه بلا هوادة , وهو ينسحب ليحتمي خلف اي شيء يجده ..تشبثت اصابعه بنتوء صخري متسع , تحسسه , وجده يؤدي الى غور ضيق . احتمى به وهو يشعر بالقلق , وهو يكرر في دخيلته :"لقد حوصرنا تماما " .. تحسس جرحه باصابعه , كان قد اصيب في كتفه . مزق كم البدلة مغالبا احساسه بالالم . ضمد الجرح وربطه . ادنى الزمزمية من فمه شرب جرعة بلت ريقه , ثم لبث لفترة متقوقعا على نفسه ..
    برغم الالم انشغل باله على رفاقه , بخاصة متوكل صديق عمره . فكر قليلا وسيل من الرصاص لا يزال ينهمر , خرج من مكمنه , زحف في الاتجاه المعاكس للغور . على مشارف الفجرسكتت اصوات الذخيرة فجاة , مثلما انطلقت فجاة .. وخيم الصمت الملبد بالحذر على كل شيء .. سمع صوت انين متقطع على مبعدة خطوات منه , زحف بهدؤ , كان الوكيل عريف اريك مصابا برصاصة., فتت ساعده والعرق يهطل غزيرا من جسمه , ومسامات وجهه الابنوسي تنضح بالالم ..
    شعر سعود بدفق من الحزن لاجله , يملأ جانبي الغور الصخري الممتد الذي خلفه وراءه .. كان متعبا لا يقوى حتى على التالم .. نزف هو الاخر كثيرا كاريك , وظهره قد تهرأ تماما . انكفا قربه وهو يشعر برأسه يدور في الفراغ ..
    حين افاق افراد القصواء , وجدوا انفسهم في المعسكر ..
    كان متوكل بقربه قد تهلل وجهه بفرح طفولي , عندما رآه يفتح عينيه . قالت الابتسامة الحانية في عينيه ما لا تستطيع كل كلمات الدنيا التعبير عنه .. احس سعود بقلب متوكل يسعه, يغطي ظهره المتهريء ويملا فضاءات الخيمة , ويسع كل هؤلاء المعذبين بجبروت الحرب .. سال بتاوه :
    - كيف حال أريك ؟..
    - الجميع بخير . عدا كوة . ليرحمه الله .
    - كان كمينا ..
    - ولكنه فشل , لا زلنا احياء .. لوتقدمنا اكثر لكنا جميعا جوار كوه الان ..
    - كيف وصلنا الى المعسكر ؟..
    - انقذنا متحرك امداد متوجه الى توريت , الصدفة وحدها انقذتنا, كان من الممكن ان يفتح المتحرك النار علينا نحن ايضا ..
    ملأ الاحساس بالفقد دواخل سعود . فتصلبت عيناه على سقف الخيمة المتقوس , ولاذ بالصمت تماما ..
    (*)

    بدا مصنع سكر ملوط الضخم : خرائب هشمتها القاذفات , كغيره من الاشياء على هذه الارض الخالية من السكان , والتي كانت مخضرة ذات يوم, ومأهولة بالحيوانات الأليفة والبرية .. الان لا شيء في هذا المكان الواسع , سوى الالغام ,التي زرعت بخبث ودهاء في اماكن يصعب تصورها , لذلك الجنود رغم حركتهم الحذرة واعصابهم المشدودة , يشعرون هنا انهم بين قاب قوسين او ادنى من الموت ..لاشيء يستطيع اقناعهم بعكس ذلك , لا ايمانهم – الذي يصبح عميقا في مثل هذه اللحظات, التي تشحنها طبيعة الامكنة المماثلة بالتوجس والمخاوف – ولا جهود المهندسون وخبراء الالغام , الذين كانوا منشغلين بصنع طرقات من الطوب المتراص , ليسير عليها العساكر , والناس الذين بدأوا يتوافدون ..
    كان المتمردون قد انسحبوا عن هذه المدينة, بعد أن لغموا كل شيء ..
    كانت طرقات الطوب الواقية التي شيدها المهندسون والخبراء – ان وجدت – قد اسهمت في ان يشعر الجميع بقليل من الطمأنينة , لكن بعد قدوم اللواء الاول , الذي تخلف سابقا بعد ان صدرت له الاوامر بالعودة الى فيوار , ازدحمت الطرقات , واصبح المسير الى النيل الذي ازدحم هو الاخر, امرا صعبا دونه مخاوف الالغام والموت المفاجيء ..
    ملوط هي الارض الخصبة, ارض البن والشاي والتوابل, الممتدة بلا نهاية , حتى الاراضي الصالحة لزراعة قصب السكر الفريد في طعمه وحجمه, الذي اشتهرت به المنطقة في اقاصيها ودوانيها ..
    هتف متوكل من على جهاز الدراكتور : الخوارج . الخوارج ..
    لكن صدرت الاوامر بعدم التعرض لهم ,خشية ان تتعرض حامية ملوط .,التي لا يتعدى عدد جنودها السبعون., لغارة انتقامية بعد رحيل اللواء الاول, الذي كان لا يزال منشغلا ., بنزع الالغام عن اراضي المصنع ,الذي توقف عن العمل منذ سنوات طويلة , بينما كان اللواء الثاني يتهيأ للرحيل , في خاطره ملكال, التي لا يزال الطريق اليها طويلا وشاقا ,ومحفوفا بمخاطر لا اول لها ولا اخر ...
    كانت المعالم تمر امام اللواء الثاني واحدة تلو اخرى : خور مشك , خور عدار , كنيسة واو شلك , كنيسة لول ماكال شلك.. الى ان ارتكز عند الغروب , هذا الغروب الفريد الذي لا تجده الا هنا , فالشمس لا تغرب كعادتها غربا , كل من يمتلك بوصلة وجدها تغرب شرقا !!..
    لامس هذا الغروب الغريب الاحساسات الايمانية الدفينة , والمعتقدات الراسخة في الوجدان , فزادت حدة التوتر بين صفوف الجيش الموتور , الا ان الطبيعة الساحرة للمكان., شيئا فشيئا اخذت تسحب الجميع الى ملكوتها رغم رائحة الموت والمخاوف ..
    وكان الطقس ربيعيا ساحرا بسحبه المتراكمة على شرفة المساء ..
    عند وصول المتحرك اخيرا الى ملكال , تم استقباله باحتفال كبير ,جاشت فيه النفوس بكل ما تختزنه , من مشاعر مختلطة ومتناقضة ..
    وفي غمرة هذا الاستقبال الحاشد هطلت الامطار الغزيرة دون سابق انذار , فتوزع الجميع على الاماكن المتاحة : الوحدة 318 الى المدرسة الثانوية بنات حي البطري , الكتيبة 159 حي دنقر شفة والكتيبة243 الثانوية بنات حي ثورة الجلابة , والكتيبة 156 حي الري المصري , والكتيبة 161 مدرسة الشاطيء الابتدائية بنين, وتوزعت وحدات الدعم .,على رئاسة الفرقة في حي الواكات ..
    هنا عندما يهطل المطر الغزير , يفقد الوقت معناه , فالليل والنهار سواء , حيث الموت اما تحت فكاك الحيوانات المفترسة, التي لا تخلو منها الغابات , او على ايدي الخوارج .. النجاة من الموت – ذاتها – تعني الحرب ...
    من الصعب العثور على حبة ذرة في ملكال , فالذرة اغلا من الذهب , خاصة اذا كانت غير مطحونة , فهي تدخل في صناعة الغذاء الرئيسي " المريسة" .. وملكال هي مدينة تنتظر الموت , وقد ادمنت هذا الانتظار حتى لم يعد يعني لها شيئا . فكلما طال انتظارها ,كلما ابتكرت طقوسا لمقاومة الملل .. فكل شيء هنا موسوم بالطقوس , التي مثل نقش سري – رصد – يشعل في النفس حميميتها وفي المشاعر دفئها , كاشفا لك عن ملكالين لا ملكالا واحدة , يعبر بك الجسر بينهما لينقلك من عالم الى عالم اخر : عالم لغته الحرب والبارود والفقر والجهل والمرض وانتظار الموت , وعالم اخر شفيف متقوقع داخله , كانه قمقم يحتوي هذا العالم الشفيف , الذي تحسه في نبل الحزن وصدق المشاعر , واليأس والامل المتصرمين الى رجاء .. هذا العالم الذي تعبر اليه الجسر , تحمله اليك اغنيات الرطانة" الشلك" التي تملا كل مكان , هذه الاغنيات العاطفية الحزينة المشوبة بمعاني القوة , المشبعة بقيم الامتلاك والمشبوبة بالحس ..
    تتوغل الاغنية المحارب., فتحوله الى قط محموم , يخدش باظافره صدور العذارى الناهدات , ليجيء الى هذا العالم المزيد من الخلاسيين الهجين , مفصلا حارقا في علاقة المكان بالناس ..
    الخوف من الموت يجعل المقاتل يندفع., مستغرقا في الجنس والحشيش , بحثا عن توازنه النفسي , في هذه القتامة التي تحاصره من كل اتجاه : مزيج غريب من الوقائع والمشاعر المتناقضة, في العالمين .
    (*)
    ترآت له في أفق الحلم نقطة ضئيلة , تجسدت بين احلام لم تثمر , وبدايات لم تنته .. نقطة مشتعلة , لا يكاد يلمسها حتى تذوب في افق الحلم العنيف., الذي تبنته دواخله قسرا , منذ الطفولة على يد الرث باناو والمندكور , واخذ يكبر معه ويكبر , الى ان اخذت "نضالات" الرفاق .,تقرب الحلم اكثر فاكثر , في ذات الوقت الذي اخذ هو., يبتعد كثيرا عن افق الحلم ..
    تلقى لانجور لسعة بعوضة لئيمة ,على عنقه النحيل , استردته الى محيط الحلم ..
    في المعتقل كان لا يبالي بالليالي الطوال , حالما بتتويج ثورته الى حوار, تصيب عدواه الجميع , فيبني منهم منظمة : منظمة من المعتقلين والمساجين , العزل الا من احلامهم المؤودة ..
    مسح لانجور بكم قميصه العرق المتصبب, من وجهه المتغضن بالندوب , التي تكور عليها النمش .. خلع القميص . اشعل بقايا شمعة ,وانتظر انحسار الضوء الخافت بصمت . الان لا يحس فرقا البتة بينه هنا وهناك ,عندما كان في المعتقل .. سوى انه كان هناك قد استطاع ان يصنع من الجثث المتعفنة شيئا .. تلك الجثث التي حرمت الشمس والهواء النقي , ففقدت الاحساس بالزمن والمكان , وامتد امامها العمر لوعة وحسرة .. استطاع ان يصنع من هذه الجثث "مناضلين" كما ظل يعتقد لوقت طويل, دون ان يدري انه قد وقع اسير ظن خائب !!..
    ابتسم بمرارة وارتدى قميصه مع تداعيات الشمعة, التي شارفت على الانطفاء , وخرج يطوف في حنايا الليل , يتنسم هواء لم تلوثه الشجون / السجون ..
    لم يلحظ لانجور تلك العربة اللاند كروزرالمتحفزة عند المنحنى .. ابتعد , وابتلعه الدرب المتعرج بشغف رديء ..
    من الدرب المقابل كانت تنتصب عينان تترقبان بتوفز وقلق ..
    الاجساد الشبحية التي انزلقت من العربة اللاندكروزر, لم تلحظ لانجور وهو يغيب في تعرجات الدرب ..
    كانت عينا سالم لا تزالان متحفزتان, على الدرب المقابل , تحملان من الخوف اكثر مما تحملان من اي احساس اخر ..
    تابع سالم لانجور بنظرات مرتعشة , وهو يراقب من مكمنه العربة اللاند كروزر المتسحبة الى المنحنى , لتأخذ وضع الاختباء " يبدو انهم دخلوا مسكن لانجور وفتشوه , وآثروا الانتظار" .. عبر لانجور الشارع الثالث المظلم وانحرف الى اليسار , كان يعرف الطريق جيدا, الى منزل سلوى القديم , برغم مرور السنوات على تلك الزيارة الاولى والاخيرة , كان يعلم ان لا جدوى من ذلك , وهو يتلمس عنوانها الجديد في كفه .. السنوات التي غابها , لم تمح من ذاكرته شيئا . تلمس لانجور شعر راسه, الذي تخللت فحمته شعيرات بيضاء متناثرة , مارا بقرعته الشبيهة بزوايا مثلث متصلة , تحتوي مقدمة الرأس واليافوخ ..
    انحرفت نظارته الطبية الصغيرة عن وضعيتها قليلا , اصلح من وضع السلسلة الذهبية المتدلية على عنقه والمتصلة بالنظارة , حركها قليلا وهو يقول في نفسه " حبل مشنقة "..
    شبح ابتسامة ضئيلة ظل محافظا على ارتسامته . ترى كيف هي سلوى بعد كل هذه السنوات ؟..
    عبر الطريق كأنه غادره بالامس فقط , ذاكرته لا تزال تحتفظ بمعالم هذه البلدة الشاحبة , طافت نظراته بمعالم الحي , الذي كانت سلوى تقطنه ..
    كانت تحكي له عن طفولتها هنا , تلك الطفولة التي خلفتها وراءها ورحلت .. تحكي له عن سعود ومتوكل وسلمى واليمني . اصدقائها في تلك الطفولة البعيدة . ويقفز اليمني على وجه الخصوص الى خاطره , كجزء حميم من هؤلاء الاصدقاء .. ذلك الرجل النحيل صاحب الطاحونة بجلبابه الدمورية, الذي لا يغيره ابدا .. تحكي عنه سلوى وهو يطاردها مع الصبية , عندما يكتشف سرقتهم لحفنات الذرة التي يغرون بها العصافير ليصطادونها, يصرخ فيها :" اقيفي يا بنت الغلفاء " وتطاردها هذه الشتيمة , بينما يتوقف عن الركض .. ولا تلبث ان تنسى كل شيء ,عندما تبدا العصافير تتساقط في الشراك والفخاخ المغشوشة بحبات الذرة ..
    - لقد كنت " ضكرية " في طفولتك يا سلوى , كما يقول عم احمد ابراهيم ..
    فترنو اليه بحنان وتهمس :
    - اتعتقد ذلك يا لانجور ؟..
    عاوده الصداع العنيف , تعثر كادت قدمه تنزلق الى بركة ماء واسعة., على شفة الطريق . حرك قدميه قليلا .,وصدره يعلو ويهبط بانتظام ..
    دقات قلبه المتسارعة المنتظمة , تخفت شيئا فشيئا , واحساسه بالذنب تجاه باناو والعشيرة يرهقه .. يحتويه الاحساس بالخوف والحذر .. هذه الدوامة اللعينة , لعبة القط والفار عسكر وحرامية , شليل وين راح ..
    هاجمته اسراب النمل , متغلغلة في اعماقه , تلتهمها بشغف رديء , لا تدع في احشائه مكانا دون ان تنهشه , او تفرغ سمها فيه .. في البداية كانت ثمة قسوة عليه , زفر زفرة حارة , والاحاسيس العميقة الداهمة تتسلل اليه من الماضي البعيد ..
    (*)
    هي ملكال بواقعها العار من كل زيف.الاطفال مشردون , الجوع والفقر والمرض كائنات حية تمشي على الطرقات .الاجساد عارية لصعوبة الحصول على القماش , لاشيء يغطي الاعضاء سوى قطع صغيرة . الاحساس بوطأة الحرب والافتقار للأمان., و التفكك العام الذي يعتري كل شيء , حيث لا ملاذ سوى الحنين , الحنين الى جرعة ماء, بعد عمل الحقل القاس , الحنين الى الجنس المشبوب اثر نزوة طارئة ,على فراش القش .. الحياة غريبة غربة الغابات والانسان الاول . فالاطفال مشردون , يحصلون على قوتهم بغسل ملابس الجنود في معسكرات الجيش , وربما يعملون في غسل الجراح ايضا .. انها الحرب , ليس ثمة تفكير في المدارس, والحصة الصباحية ودرس العصر والمصروف اليومي . ربما ثمة تفكير بهروبهم الى معسكرات الرمح المقدس, لينشأو ا كالانكشاريين , ابناء للجندية في معسكرات اوغندا وكينيا وليبيا ..
    الحرب هي التوتر والحزن الطويل الممتد الى ما لا نهاية .. سأل سعود احد الاطفال المنهمكين في كنس ارضية العنبر :
    - ماذا تفعلون لمن يموت ؟..
    رد احد العساكر من ذات قبيلة الصبي ,كما تشير نفس الشلوخ التي على وجهيهما :
    - اهلنا هنا بيمسحوه بفضلات البهايم, لطرد الارواح الشريرة ..
    كان متوكل لا يسمع ردا على سؤال حتى يتبعه باخر., ودهشته تتسع , كانه يكتشف جهله ببلاده الكبيرة الان فحسب, أضاف العسكري مؤكدا :
    - اننا نؤمن بما نؤمن به اليوم , ونسلك على نحو ما نسلك الان , بسبب ما قاله او فعله اجدادنا منذقرون عديدة .. وانتم كذلك في الشمال , تفعلون على النحو الذي اراده الاسلاف ..
    ما ان اقتربت الساعة من الثالثة ظهرا., حتى تقاطر الاهالي والجنود , على حي الري المصري حيث كانت فرقة "الثور" للفنون الشعبية الخاصة بالمورلي- والتي تكونت في هذا الوقت بالذات., لبعث السرور والبهجة في المتحرك - تقدم عرضها الاول في حي الري المصري ..
    جلس متوكل بالقرب من سعود., الذي بدا مشدودا الى الرقصات العنيفة الصاخبة , الاشبه بطقوس الديانات المحلية ..
    كان الراقصون قد تزينوا بالريش , والراقصات تدلت من اعناقهن التمائم ذات المخالب البيضاء ,وعقود الخرز الملون .,وهن يدقن على الارض بايقاع منتظم , يشكل هارموني موحد مع انتظام دقات الراقصين الذكور , فتتثنى اجسادهن وتعتدل, لتلامس الاجساد بعضها البعض .. تكاد رؤوسهن في انحناءاتها المفاجئة تلامس افخاذ الرجال , لكن لا تلبس ان تعتدل, وتبدو كأنها تهم بعناق وقبل , فيهز الراقصون بحرابهم القصيرة , كأنهم يتهيئون لقذفها على هدف ما ..
    ثمة راقصة مميزة لفتت انتباه متوكل , وتركت في نفسه انطباعا قويا بايقاعها الرشيق ,وجسمها ذي الملامح الحادة ..
    انتهى العرض وسعود لا يزال مهوما في سمائه , دون ان ينتبه لمقعد متوكل الشاغر جواره .. كان متوكل قد مضى يلاحق فتاة المورلي المميزة .. لم يتمكن سعود من استرداد نفسه, الا بعد ان بدا المطر في الهطول ..
    (*)
    الناس ام المكان ؟ .. الناس أم .. الطرق والدروب كما هي . المساكن الحقيرة . الدروب المتعرجة . البحر, الأطلال .. الزمن يهزم كل شيء .. لكن , الناس أم المكان .. ذاك هو طلل من مسكن سلوى القديم , بقالة الحلبي , طاحونة اليمني .. هذه البلدة , شهدت طفولتها الباكرة , قبل ان ينقل والدها الى بابنوسة , فالجنوب .. صارت اطلال محاصرة بالنباتات المتسلقة, و الشجيرات الانتهازية والبنايات الطفيلية المتعالية .. هنا في هذه الزاوية ذات الاغصان المتكاثفة , كانت تلعب مع اقرانها, وهم ينصبون الشراك المغشوشة بحبات الذرة المسروقة., من طاحونة اليمني .. يتذكر الان حكاياتها عن نفسها وذكرياتها بامكنتها ومعالمها , كانه عاشها معها . قال لها ذات مرة وهما يتمشيان على شاطيء النهر , والكانو تتراءى لهما من االبعيد , في قلب اللجة " هنا نتسامر انا ووليم احيانا .. انه مكاننا المفضل .." واشار الى قباب الاسلاف, التي تنتصب بين الساحل والمدرسة الوسطى , فحملت حفنة من رمل المكان الذي عينه لها , وعقدته بطرف طرحتها , وهي تقول :" ساحتفظ به على الدوام , لاستحضرك فيه اينما كنت كالتبوسا" وابتلعها الطريق وهي تبتعد .. لتخلفه وراءها محض حنين اليها ..
    مضى يشق الدروب لا يلوي على شيء , يحس بحالة استلاب كلي , تسلبه بعيدا عنها – كان ذاك فيما مضى . كتابات وليم اليه (.. غنى المغنون للوحدة الوطنية , ثمة رشاوي عاطفية , وادي النحاس لا يريد ان يتفهم قضيتنا , لقد تخلى "سانو" عن شكله القديم , ولم تعد الانيانيا هي الانيانيا .. انها هموم وهواجس القوى الجديدة , لكن يظل السؤال : كيف نعمق المكونات العقلانية في حياتنا التي تكاتفت على قمعها, قوى التخلف والخرافة والظلام .. ليس ثمة شعب منبت الجذور , هذا ما لا يريدون فهمه وهو سؤال اخر .. من الصعب الان ان يتغنى "وردي" و"صلاح" مرة اخرى مثلما في أيام"الزهرة الساحرة (1) في 1972.. للاسف نمضي جميعا الان, الى حيث يصعب التراجع او يستحيل , فاختر
    طريقك حيث انتهيت , انت الان النار مجمرة اللهب , او الغضب كما يقول شاعر الوطن (أحمد الجعلي – ابو حازم) في الشمال ..."..
    (*)
    ملكال لا تزال تنتظر توقف الامطار., ليرحل المتحرك , وكلها تحفز لتحرك اللواء كربوس من ميناء كوستي بالجرارات, والتموين والتعيينات والاسبيرات والذخيرة .. عندما تمكن كربوس اخيرا بعد طول انتظار من الوصول , اعيد فورا تشكيل القوات من جديد , فتحركت باسم : الفهد بعد ان انقسمت الى ثلاثة محاور : محور كربوس , الشهيد حمدان ,ومحور سيد الشهداء .. وتحرك اللواء الاول من ملكال, الى جهة غير معلومة ...
    (*)
    كانت الحدة في كتابات وليم تزداد يوما بعد يوم , تثير في نفسه احساس ضبابي الملامح " للاسف اجتهدنا ان نكون اسوأ الافارقة , فخيبنا ظنهم فينا , كانوا يتطلعون لان نقودهم لاننا الافضل – هكذا اعتقدو – لكن اتضح اننا اسوأ العرب , لم تعني لنا الريادة في افريقيا شيئا, بقدر حرصنا للتبعية الى العرب والمصريين الذين لطالما استغلونا .. لا اتحدث كجنوبي بل كابن لهذه البلاد الكبيرة , وكجنوبي اتساءل : ما هي علاقتنا نحن باشواق العروبيين والاسلامويين ؟؟.. خرجنا من الصدمة التي اذهلتنا فاوقفت تيار الحياة فينا لوقت طويل , الصدمة في الوطن لهي اسوأ شيء يمكن ان تمر به .. هذا الوطن الطمبور , هذا الوطن الاوركسترا الامدرماني , هذا الوطن الجلابية بيضاء مكوية , لا ايقاع اخر غير ما تم فرضه , ولا هوية اخرى غير ماتم التواطؤ لصنعها بالقوة ..
    ...........هامش...........................
    (1) الزهرة الساحرة : اديس ابابا عاصمة اثيوبيا .



    ان جوزيف اودهو عندما خرج الى المنفى في 1958 كان ذا بصيرة نافذة , كاني اراه الان قد ندم على العودة في 1972 , اذ لم يتم قبض سوى الريح .. لا حقوق انسان , لا حكومة دستورية تخضع لمجلس نيابي , لا سيادة للقانون .. اذن عماذا تمخضت 1972 : محض طبقة حاكمة في الجنوب هي نسخة تكاد تكون مماثلة للطبقة الحاكمة في الشمال . لاشيء تحقق البتة , وكان ذاك هو السبب الجوهري لعودته الى الغابة والمنفى مرة اخرى .. الغابة امنا حيث نتمثل الطبيعة كما علمنا الاسلاف ..".. رفع لانجور رأسه بحدة اثر سماعه قرقعة مفاجئة, لاطار عجلة ينفجر ممزقا غشاء افكاره المبلبلة , تنهد وهو يحاول استجماع نفسه مرة اخرى ..
    لدى حضور وليم سرا الى وادي النحاس, من كينيا عن طريق القاهرة , في احدى مهامه السرية , لم يعلم بانه كان موجودا هنا ,الا بعد ان عاد الى كينيا مرة اخرى . كانوا قد اخفوا عنه كل شيء , ولكن سلموه الخطاب الذي تركه له وليم خلفه قبيل مغادرته . كان خطابا آسيا " .. ركبت الطائرة .ربطت الحزام , طافت ذاكرتي في ذكريات الاحراش وكوبا , ليبيا واسرائيل . كنت باستمرار اتلهف وانا ادير مؤشر الراديو لسماع صوت بلادي , ابحث عن ام درمان . انه الحنين يا لانجور , الحنين الى الاب جوزيف وأبيدوك , الحنين والحزن الابدي .. وانا في الطائرة كنت اتذكر ذلك , فوادي النحاس مجهول لدي , ارض لم ارها ابدا , ناسها لا اعرفهم . عانقني تساؤل ممض ..كانني لا اصدق .. يا بلادي , يا بلادي حيث انت و الفرح القديم نقيضان . ومع ذلك يبقى الوطن كائنا جميلا , عندما نحسه كوطن ونحاول التعرف إليه من قرب , أنظر الى الساعة : عشرة دقائق وأصل , عشرة دقائق واغرف من المقرن لأنسى الغربة والحرمان . لانسى عذاباتي . كان ذلك يشغلني اكثر من المهمة التي أتيت لاجلها اصلا .. دقيقة , دقيقتان .. وتساؤلات تتسلل حجب الذاكرة , هل الناس هنا بقلب باناو وحكمته , بدفء سلوى .. ام الكبت والارهاب وايديولوجيا وادي النحاس , شكلت الناس على حيثياتها ومنطقها .. وأحل الحزام على صوت المضيفة ,وهي تعلن الوصول .. انتفض لوهلة .. يصدمني موظفي المطار , يحرقون الوطن الذي جئت احمله بداخلي , يدعمون كل ما عرفته من التاريخ والحكايا , فيذهب المندكور كالزبد جفاء . ينتزعني موظف المطار الملتحي بقسوة من خواطري :
    - ماذا بداخل هذه الحقيبة ؟!
    - طماطم .. اهي , هي هي ..
    - تأدب ايها ال ...
    يحرموننا حتى المداعبة يا صديقي ..
    - افتحها انه عملك ..
    بضيق ونظرات صارمة تبعث على الغم , نثر ما بداخل الحقيبة ..
    - ما هذا ؟..
    - هدايا للاصدقاء وسجائر لي . هل لك في سيجارة ..
    (قلت بتهذيب وانا اتناول علبة سجائر مارلبور أمريكية , فضضت الغلاف برشاقة , تناولت سيجارة , اشعلتها بقداحتي ومددتها مع العلبة :
    - تفضل ..
    طوقني بنظراته كأنه يرثى لحالي , وسذاجتي الطفولية .. قال بهزء ..
    - انت تعلم ان البلد تمر بتحديات كبيرة وخطيرة ..
    - ربنا يكتب السلامة ..
    - الطوائف وحكومات الاسياد ..و ..
    مقاطعا :
    - ربنا يوفقكم لكن لماذا هذه المقدمات ؟
    - لكي تدعم (حضرتك ) صندوق دعم الدعوة ...
    همهمت :
    - انا لست مسلما ..
    - كلها اديان .. انه دعم الزامي شئت ام ابيت ..
    - هل هناك شيء اخر؟..
    - نعم , جمارك هذه الاشياء التي تقول عنها انها هدايا ..
    - لكن ..
    - اسكت .
    - خذوها . خذوها . لا اريدها ...
    كانت هدايا لك ولسلوى ولعم احمد ابراهيم وزوجته حواء جاد الله وسالم . لكنهم اخذوا كل شيء . ندمت على مجيئي بهذه الطريقة المتخفية, غير الرسمية في هذه المهمة , مهمة مفاجأتهم للتمهيد لمفاوضات سرية. لاول مرة ارى وطني واراه بهذا الشكل . هذا وطن غريب . لقد أكدت الطريقة التي قصدت ان آتي بها لاراه دون زيف , اكدت غرابته .."...
    (*)
    عندما تحرك من ملكال , قطع اللواء الاول مسافة اسبوع كامل سيرا على الاقدام , حتى ارتكز عند غابة كرش الفيل . كان الوقت مساء ,والساعة تقترب من السابعة , والمؤن تكاد تنفد والجميع جوعى , ومتوكل الذي يقف تحت شجرة تيك ,كان قد سمع فجأة ثغاء ضأن كما توهم - ولمح في الظلام شيئا يتحرك , فركض خلفه ..
    طارده بشراسة الى ان لحق به ,وقبض عليه ليتفاجأ انه مجرد كلب , فار في ذعر وارتياع من هذا الذي يطارده باستماتة واصرار . رجع متوكل يجرجر ازيال الخيبة , وهو آسف , لكن لم يفت ذلك في عضده , اذ سرق واحدة من الكجامات الكبيرة , ونصبها في قلب الغابة .. و.. في الصباح ذهب ليرى ما اصطادته , فوجدها قد امسكت ب"مرفعين" (1) فعاد ينادي على سعود ..
    كانت هذه الغابة ملأى بالغزلان والحيوانات البرية ذات اللحم الطيب فيما مضى . كلها هربت الان , ولم تتبق سوى المرافعين والذئاب ..
    في الصباح بدأت الرحلة من جديد , العربات تتعطل, ويأخذ اصلاحها وقتا طويلا ومضن . والاقدام تدمي , والتعب والالم كالسوس في العظام , كالسوس .. يتسلل الى الخلايا ويتوسد الدم , المعنويات تبدا في الانهيار فتنخفض الجلالات . تخبو بعد ان تفقد اصرارها اليائس , تستحيل واهنة مقطوعة الانفاس . في الارض الميتة تعطلت عربة هينو تحمل اثقالا من الذخائر, فأمر قائد السرية :
    - جروها بالمدرعة ..
    - لكن سيادتك لازم تتفرغ الاول ..
    قال أدروب فهتف به الضابط :
    - نفذ التعليمات يا عسكري , ما عاوزين نضيع زمن ..
    وتم جر العربة بالمدرعة , فانكسر "الدنقل" .. واصبحت العربة بدون عجلات .. نظر اليها الجميع بحزن وتهامسوا ..
    لم يكن هناك بد من تدمير العربة "لعدم الصلاحية" وواصل المتحرك المسير في طريقه الى آيت .. البلدة الساحرة ..
    وفي آيت تفاجأوا بأحد المفقودين ..
    كان يبدو في حالة يرثى لها , كالمصاب بالذهان في ارتباكه .,وحركاته القلقة التي تنم عن توتر عظيم ,
    ..........هامش.......................
    (1) ضبع
    كان جلده المتغضن قد التصق على عظامه كأنه شبح ..
    - نمرتك . اسمك . وحدتك ...
    - 747172 . طيران. حمدان حسن حمدان .
    - مفقود من متين ؟..
    - 1984 سيادتك .اسرت في الهجوم على مدينة بور .
    - يااااه دي فترة طويلة , مرقت منها كيف ؟..
    - العمر فيهو باقي سيادتك .
    وتم ارسال اشارة الى قيادة سلاح الطيران, للتأكد من صحة المعلومات فاتى الرد ايجابيا , وارسلوا طائرة لتقله . في الطائرة تعرف عليه الرائد طيار حكمدار الطائرة , مؤكدا مرة اخرى على ان المفقود, كان ضمن افراد طاقمه قبل دخول الخوارج بور ..
    ما ان رحل الطيار المفقود .,حتى بدا الجميع يتأملون آيت, التي نسيوا في غمرة هذا الحدث الكبير اكتشافها . فآيت على الرغم من جمالها الساحر الا انها بلدة الناموس السيوبر . الناموسية هنا تساوي ثمن الثور , فآيت رغم سحرها هي مدينة من مدن الجحيم .. الاحساس بالتاريخ, الزمن, المكان وكل شيء له طعم اخر مع لسع الناموس .. لذلك اسرع المتحرك في الخروج من آيت, متجها الى مدينة كنقر حتى لا يفقد افراده القدرة على الحركة , فالمكوث في آيت يعني الشلل التام ,والموت البطيء ..
    الطريق الى كنقر مسقط رأس الدكتور جون قرنق دي مبيور محفوف بالمخاطر .. لكن عندما وصلها المتحرك, دون ان يجد احد , بعد خوضه لكل هذه المخاطر في طريقه اليها , لم يبق فيها الا ريثما ينهي تدميرها , وهو ينسحب مبتعدا كانت السنة اللهب, لا تزال تعانق عنان السماء . مدينة كاملة بكل محتوياتها تحولت الى مجرد رماد , وهو ينسحب فوجيء المتحرك بحفرة ملغومة, لا يقل نصف قطرها عن الكيلومتر ,تقطع عليه طريق الانسحاب , فارتبك في البداية ,ثم لم يلبث ان وجد منفذا للعبور ومواصلة السير ..
    الى ان وصل معسكر كيلو15 قرية "بايدة" حيث وقع في كمين , فارتكز مبلبل الافكار لا يدري ما يفعل بالضبط . كان قد حوصر .. ولم يجدي تبادل اطلاق النار شيئا . كان واضحا ان المتحرك هالك لا محالة . ومع ذلك استمر يطلق ذخيرته اليائسة . مر الوقت ثقيلا, والجميع منبطحين على الارض او خلف السواتر التي هيأتها الطبيعة الغابية . مر الوقت بطيئا وساد الصمت . كان الجميع يفكرون ان الخوارج, ربما يؤجلون القضاء على المتحرك الى الليل , عندما فاجاهم عويل المدافع المحدودة والرشاشات والرصاص ..
    كان صوت الذخيرة يبدو واضحا في دلالته على نوع الاسلحة , وكان واضحا انه اطلاق نار بين طرفين .. لابد ان الخوارج في مأزق مع متحرك آخر, في طريقه الى هنا ..
    بدا الامل في النجاة يتسرب الى النفوس , فأخذ الجميع يهللون بشكل هستيري , وتقدموا في عجلة وهم يطلقون النار .. انجلى الموقف عند سكوت صوت الذخيرة , وتعاظم صرخات الخوارج .. كان المتحرك الاخر قد تغلب على الخوارج , بعد ان تمكن من تدمير عربة تحمل مدفعا رباعيا , وغنيمة عدد من المدافع الكبيرة والصغيرة . وبدأ المطر في الهطول . احاطت الظلمة بكل شيء , كأنها تنبعث من اغوار الغابات المحيطة .
    اختبأ الجميع تحت العربات اتقاء للمطر, وكلهم حذر وترقب , كانوا جميعا يتوقعون حدوث شيء ما ,بشكل مفاجيء . عندما دوى صوت القائد فجأة :
    - ليتخذ الجميع موقعا ..
    كان يبدو ان فرقة الاستكشاف قد عادت ..
    ومرة اخرى انطلق الرصاص كان الخوارج يهاجمون . توقف المطر مفسحا لمطر اخر من الدانات والدم ..
    استمر قصف الراجمات على اشده ,حاصدا الارواح وأخذ الخوارج في الاندحار شيئا فشيئا, من الهجوم المفاجيء الذي قطع عليهم تقدمهم . ومثلما بدا كل شيء فجاة ,هدا كل شيء فجاة , وظل المتحرك متحفزا ...
    (*)
    " سقطت بور " ..
    بعد ان سقطت بور اخذ اللواء يستعد للتحرك, الى مدينة البيبور التي يسكنها المورلي . كانت قرية آنجيدي تتراءى من بعيد, لم يتوقف اللواء الا بعد ان تخطاها الى وادي الزراف, الذي يبعد عشرات الاميال عن الغابات , كأنه في طبيعته ينتمي للربع الخالي ..
    مجرد صحراء متجردة من اي اثر للحياة , عدا الزراف والتيتل والنعام واشجار السافنا الفقيرة ,المتناثرة هنا وهناك ..
    كانت المسافة الى البيبور تتضائل بمضي الايام ,التي لا يعرف احدا عددها . هبطت طائرة عمودية والمتحرك على مشارف البيبور , ما لبثت ان غادرت في عجالة ,بعد ان اجتمع المسئول الذي تحمله بقائد اللواء ..
    في هذه الصحراء المتجردة لا تستطيع التاكد من شيء, او الاحساس بشيء .,سوى السراب والخواء والفراغ العريض .. مسافة صغيرة تلك التي تفصل بين هذا الخواء والعدم, وبين البيبور التي هي اجمل من ان توصف ..
    بالوصول الى البيبور, اخذت معالم الجهة غير المعلومة, التي يستهدفها المتحرك تتضح للتكهنات الحصيفة لقدامى الجنود, الذين كانوا يؤكدون بان الجهة غير المعلومة, هي كبويتا مقر القيادة الاستراتيجية لحركة التمرد , المدينة الحصينة مدينة الذهب الساحرة ..
    الايام تمضي متثاقلة ببطء شديد , والطريق الى كبويتا ,مزروع بالقلق وهواجس المجهول والمخاوف ,التي كلما لاح معلم في الطريق الى كبويتا اشتعلت اكثر فاكثر ..
    لاح جبل بومة من بعيد سادا الافق, كان الدليل قد تاه فدار المتحرك حول نفسه لعدة ايام, اذ كان يسير في دائرة مركزها جبل بومة, دون ان يدرك انه تاه , الا بعد ان لاح له جبل بومة مرة اخرى .. كانت المؤن التي مد بها المورلي المتحرك قد بدأت تنفد , والماء قليل, ودرجة التوتر عالية والدليل الجديد ,الذي استبدل بالاخر الذي تاه , كان اشد خوفا ., من خوف الجميع مجتمعا ..
    (*)
    30 يونيو 1998 :
    كانت الكلمات التي سطرها وليم تستحيل طيفا يخاطب لانجور , يلاحقه بكلماته التي تتناهى اليه آتية من اعماق الصمت ,في هذا الفضاء المشحون بالقلق .. اوقف أحد السابلة :
    - ثقاب لو سمحت ..
    اشعل سيجارة , استنشق الدخان بعمق , وطا عود الثقاب بقدمه :
    - شكرا ..
    ومع تلاشي ملامح المكان, الذي أثار أشجانه , تلاشى شيئا من الضيق .. كل الملامح والخيالات الاتية, من غياهب البعيد مختصرة الزمن . مختزلة المكان , تحتوي على رواهن عوالم بأكملها .. الان يعيش في زمن آخر ,وعالم آخر يندغم في زمنه وعالمه الراهن .. المكان والزمان المندغمين لا يبددان الظلام المتعنت , المتسلط على تباشير المستقبل , في غياب المرأة الحلم , وفي غياب اغنيات الشمس والخبز والحرية ..
    تتمزق كل العوالم المسكونة بالخوف والرعب والتصنم , تتحرر من الربق القديم ..
    عاوده الصداع مرة اخرى , انطلقت من فمه كحة متخمة ببصاق رمادي داكن , مسح فمه والكحة تعاوده مرة اخرى .. اتجه الى أحد "أزيار" السبيل , قذف بقايا ماء عكر وجدها في قاع"الكوز" , ادخل الكوز في الزير , احتك بالقاع في صوت مخروش , ومضى نادما على دفقه بقايا الماء العكر .. اتجه الى دكان عتيق وهو يقول في نفسه "لابد انه دكان الحلبي " اقترب شيئا فشيئا., الى ان توقف امام الدكان , وجد رجلا تجاوز الثلاثين – ربما – فحياه .. يكاد يقاربه في العمر – ربما – خنقته كحة مزمنة , تجرعها بعسر :
    - ماء لو سمحت ..
    - آسف والله ..
    - بيبسي..
    شرب البيبسي بنهم , فأحس بعض الراحة , استأذن في الجلوس على الكرسي, الذي أمام الدكان ..
    - تفضل ..
    ودون ان يكتسب وجهه اي تعبير على الرد الجاف جلس , تأمل الشيخ العجوز الذي يصلي على فروته يمين الكرسي , وقد بدا وقورا وهو مستغرقا في صلاته الطويلة , بكل ما يحمله جسمه المكدود, وعظامه الواهنة من طاقة ..
    سافر لانجور مع اوراد الشيخ ,والارض امامه تتكور , يتقلص رحمها .. تنقبض وتفيض ..تقذفه الى عالم آخر تنزل فيه العصافير والاطفال والزهر والخبز مع قطرات المطر , وتولد فيه الاحلام مع حبيبات الندى الفضية اللامعة , اخرجه صفاء الشيخ من تأملاته :
    - السلام عليكم ورحمة الله .. السلام عليكم ...
    مضت دقائق وهو يراقب الشيخ , نسي الم الكحة المزمنة , في غمرة تفحصه له وهو يسبح في تأن , تفحص الطاقية البيضاء , المسبحة , الشعر الابيض , الشال الموضوع على مسند الكرسي الاخر .. تابع خطوط الوجه النحيل المليء بالهالات السوداء , كان الشيخ قد تعدى السبعين_ ربما _ .. ذكرته صلاة الشيخ باحد الذين عرفهم في المعتقل , طلب منهم ان يسمحوا له بالصلاة, فصفعوه وهددوه ببذاءة :
    - ربك دة تعبده هناك بره ..
    لحظتها بدت له المفاهيم والايديولوجيات غريبة , كانت تسقط مفهوما تلو الاخر .. القهر والذل يسقطان كل شيء , عندما تكون في زنزانة باردة في سرايات احد السادة, كانت اصطبلا .. عندما تكون فيها لعدة سنوات.. تختزل حياتك كلها في ذاتك فقط ..
    - هذا العمل المسلح قمتم انتم بتنظيمه, والان لم تعد لديكم سيطرة عليه يا سالم .. حتى انكم لا تدرون الى اين تمضي مآلات الامور ..
    - نحن ندعم كل حركات التحرر لاسباب مبدئية ..
    - لم اقل لك ذلك لانني ضد ما يحدث . بالعكس انا مع ما يحدث ايا كانت المآلات , لكن لا ادري لماذا اصبحتم منزعجون بهذا القدر من فكرة السلاح ..
    - لقد قلت بنفسك اننا لا ندري اين يمضي هذا الشيء فكيف لا ننزعج؟! ..
    سالم على الرغم من تجاوزه الخمسين ,الا انه لا يزال يبدو فتيا كأنه في الثلاثينيات من عمره , ربما لحياته الرغدة دور في هذه الفتوة, التي هي اول شيء يلفت انتباهك عندما تراه ..
    ومن الخروج من الزنزانة, الى التراكم على الطرقات ,التي قد تكون خالية من جثث الموتى , لكنها ملأى بجثث الاحياء .. انها الحقيقة التي تحجب عنا رؤية السماء بنجومها وعصافيرها., وشمسها وهواءها , فلانرى او نحس سوى غيوم الهموم المدلهمة, والماء القذر الذي يدلقونه عليك ,حتى لا تستمتع بالنوم ,مثل بقية كائنات الله في ارضه .. رؤية السماء من داخل الزنزانة ,كانت تمثل اقصى امانيه , مثل حلم طفل صغير , فقير , بالحلوى . يراها أمامه ولا يستطيع لمسها .. يعذبه الشوق لامتلاكها , ويعذبه اكثر اللعاب الذي يسيل على قميصه مبللا صدره , انتفض لانجور على صوت الشيخ ..
    - الحمد لله , سبحان الله , الله أكبر ...
    واخذ يقرأ الفاتحة بخشوع ورهبة , ومن ثم تناول ركوته الفخارية., ليتجرع منها بعض الماء ببطء وتمهل .. كان هو الاخر بكل وهنه .,يعاني الظمأ لجرعة ماء ..
    - خذ وجدت هذه في قعر الثلاجة ..
    قال الشاب كأنه يقرأ خواطر لانجور النهمة , الذي اخذ يتجرع الماء في شراهة . لم يحس بالعطش من قبل كما احسه اليوم . اخذت اصابع الشيخ المرتعشة ,تعبث في مؤشر راديو قديم .. القى الشاب بعبارة عابرة :
    - انها عادته منذ سنوات ,. رغم ان لا خبر يهمه ..
    انبعث صوت خافت اخذ يعلو شيئا فشيئا , كان الارسال مشوشا , يشوش صوت المتشاعر المتبطل فرج الله جنزير الحوش, يلقي قصيدة يمدح فيها الشيخ الغريق وانصاره, ويصفهم بالخلفاء الراشدين .. قال الشاب وهو يتفحص لانجور بريبة ,لا تخفى على العين المدربة :
    - زمان .
    لم يلق اليه لانجور بالا . آثر كلاهما الصمت ,وكل منهما يقمع داخله بقايا ثرثرات مكرورة . وكلاهما يشعر بان الاخر, ربما يكون من زوار الفجر .. ابتسم لانجور وهو يدير هذا الخاطر في سره ,ولم يعلق بشيء .. اغلق العجوز مفتاح الراديو ,عندما لم تستطع اصابعه المرتجفة ضبط المؤشر , واخذ يترنم في صوت واهن, باحدى المدائح النبوية :"العدناني , العدناني .. العدناني مفتاح الجنان ..." التفت لانجور تجاه الشاب يسأله :
    - ذلك البيت بالقرب من بقايا المدرسة المسورة بالسلك الشائك , هل تعرف اهله ؟..
    - انه بيت المرحوم احمد ابراهيم ..
    - بالضبط كدة الله يرحمه ..
    - هسه فاضي ومهجور ..
    تغير الجو فجأة واكفهر , تهيأت السماء لافراغ احشائها . طوى الشيخ مصلاته بهدوء وحرص ,ومضى الى الداخل يطأ الارض المتربة بتؤدة , متوكئا على عصاته المعقوفة والمتفرعة على شكل سبعة عند مقبضها ,بتمهل .. اغلق الابن الدكان وتبعه .. وقف لانجور يفكر للحظات في العودة ..
    الشوارع المتربة تبدأ في التشكل , الهواء البارد وزخات المطر اللافحة والسماء المثقوبة , التي لا امل في ان تنسد مع الهطول المجنون للمطر ..
    تقذف السماء بكل ما يجيش به خاطرها , فتتحول الزخات الى وابل عنيف .. تحرك قليلا تحت سقف مظلة الدكان .. الشوارع خالية واعمدة النور امامه مغطاة بحاجز ضبابي قاتم, يحيل الرؤية لخطوط عريضة مطموسة . المسافة بينه وبين البيت طويلة , ولا أمل في العثور على وسيلة مواصلات ..
    كانت كفه لا تزال تحتضن عنوان سلوى . يود ان يلتقيها ليبثها الحنين , الذي قاده الى ذكرياتها , وبيتها القديم .,دون ان يشعر بخطاه المندفعة ..
    فتح الشاب الباب :
    - اسف لقد نسيناك ,تفضل الى الداخل ريثما يتوقف المطر ..
    - لا تهتم . اشكرك ..
    ولجا الى الصالون الصغير , الذي كان اشبه بغرفة تقليدية , خلع لانجور حذاءه الرياضي, وهو يمسح عن وجهه خطوط الماء والبلل ., كان الشيخ جالسا على سرير منزوي اقصى الغرفة .. قال الشاب :
    - ساحضر بعض الشاي الساخن لتدفئتنا ..
    ثم انفلت الى داخل البيت عبر الباب السري ,الذي يصل الصالون بالبيت ..اصلح الشيخ من وضع المخدة تحت رأسه وهو يقول :
    - استرح يا ولدي , ريح ضهرك ...
    تلوى الشيخ ببطء ومفاصله تتطقطق فوق اللحاف كباب قديم , بينما تسللت نظرات لانجور خلف النافذة, تراقب الشارع المرتبك والسماء المكفهرة تصطخب وتهدأ .. تثور مشاعره وتتمدد بانفعال ,مع كل زخة مطر .. ارتشف الشاي الساخن ببطء وتلذذ , وفكر ان يشعل سيجارة , الا انه تراجع ..حاصره وجود الشيخ المنهمك في رشف الشاي بتمهل .احس بنشاط عارم يسري في عروقه , يقوي من حنينه الذي اخذ يشتد شيئا فشيئا ..
    طال الصمت الجميع , متواطئا مع برودة المكان . نهض الشاب . اسدل ستائر النوافذ العتيقة , الواهنة .. بدت اللوحات القديمة للايات القرانية , اشبه برسومات حائلة اللون طمسها الزمن , وتراكم عليها الغبار , وتضافرت عليها كل عوامل النسيان . كانت الجدران العارية من الستائر , تظهر عليها رسومات متداخلة بعضها في بعض .. بدت الغرفة كلها مائلة للصفرة الكالحة , فكل شيء هنا باهت ,مزقه الزمن حتى ستائر النوافذ .. لا تبعث الغرفة في داخلك ,سوى الاحساس برائحة التاريخ العتيقة ..التاريخ الكئيب المنحسر .. كان المطر قد بدأ يخف شيئا فشيئا , حتى كاد يتوقف, الا من بعض القطرات المتلصصة على النوافذ ..
    نظر لانجور بترقب :
    - تعرف ياعمي الشيخ ..
    لم يرد الشيخ . لم يبد عليه انه سمع شيئا ..
    - يا حاج , يا حاج , الضيف بيتكلم معاك ؟..
    رفع الشاب صوته عاليا ,ثم التفت الى لانجور مضيفا :
    - يجب ان ترفع صوتك عاليا, اذا رغبت ان يسمعك ..
    تناول الشيخ مسبحته من تحت المخدة , فردها على يده اليمنى واخذ يسبح . غاص في دوامة من الذكر , لم يعد يعي بعدها شيئا مما حوله , كان قد انفصل عن عالمهم تماما ..
    - يبدو أنه لن يتحدث .
    قال الشاب فنهض لانجور وهو يسحب قدميه, ببطء في طريقه الى الخروج .. عبر بقدميه المثقلتين الباب .. ثمة قطرات مطر عالقة في الهواء , تتناثر متفرقة., أوقفته بغتة ,ليتأمل كل هذا الصفح الذي شمل السماء .. توقف امام عمود النور, ليشعل سيجارة ومضى يشق طريقه في أناة وصبر ..
    الساعة تقترب من العاشرة مساء , ساعة واحدة ويدخل في زمن حظر التجوال . كان يجب ان يرحل منذ مساء الامس , الى حيث لا يدري .. لكن سالم لم يأت كما هو متوقع ..
    الحركة الخفيفة في الشوارع بدأت تنحسر , والدروب تهضم المارة شيئا فشيئا.. تبتلعهم في جوفها , لا يتبق سوى هو والشارع والليل, والحزن وعواء الكلاب الضالة ..
    العواء المتقطع., المختلط بصدى جدران دهاليز عميقة تحت الارض , كاد ان ينزلق مرة اخرى , فاستند على عمود حديدي, مزروع في كتف الطريق بمواجهته .. احس بالألم , نظر في يده وهو يتحسس بقعة الدم , كاحد لابسو جلد الفهد , مسحها على العمود وواصل المسير , كأن شيئا لم يكن ..
    الطريق الى البيت لا تزال طويلة .. شارع .. اثنان .. ربع ساعة اخرى ويصل الى البيت , يستلقى على سريره .. تذكر انه شبه مفلس اذ لم يتبق من مخصصه المالي, سوى جنيهات قليلة .. سيناقش ذلك مع سالم .. بعد قليل سيدفن نفسه في الفراش المهتريء , يتسول النوم حتى يحصل على غفوة صغيرة .. انحرف الى اليمين , بدا البيت المسيج بسور لا باب له من بعيد, كقلعة مغلفة بالضباب , حاول ان يدندن بالحزن القديم ..
    كرادار اليكتروني اشتغل حسه الامني فجأة ,عندما لمح عربة لاندكروزر, تقف على الدرب الجانبي المجاور لمسكنه , وحولها ثلاثة اشباح تناثروا بتحفز .. ادرك مأزقه الذي اكده صوت تحذيري خفيض , انبعث من وراءه :
    - لانجور .. لانجور . انا تيم يا لانجور , تعال ..
    التفت برهبة وشبح لم يتبينه جيدا يبرز له من زاوية الجدار , يحاول اختراق العتمة :
    - انهم هم , زوار الفجر. لقد خانك رفاقك الحزبيين ..
    كان لانجور قد استوعب كل شيء بسرعة خاطفة , وادرك من الصوت انه فعلا تيم .. كان لا يفصلهما عن العربة البوكس سوى زاوية الجدار و امتار قليلة ..او خطوات بالكاد .. تعالى على نحو مباغت صوت أجش :
    - ثابت , ثابت .. مكانك , لا تتحرك .. ثابت ...
    نظر لانجور الى شبح تيم نظرة خاطفة , ثم أنطلقا يعدوان , ركضا بشدة وخطى غليظة تلاحقهما ..
    - طاخ , طراخ .. طاخ ..
    أصيب لانجور اصابة سطحية , فتأوه في ألم , وطاشت رصاصة اخرى قريبا من اذن تيم , سيظل يسمع صداها في العالم الاخر ..
    - لانجور ..
    انفاس تيم اللاهثة المشتعلة بالتساؤل والخوف تشرع عن آخرها ..
    - اصابة سطحية , لا تهتم , يجب ان تفلت ..
    - بل يجب ان تفلت انت ,اكدت مصادرنا انك مستهدف , كلفني وليم بحمايتك , ولذلك كنت اراقبك , هناك عربة تنتظرك في نهاية هذا الدرب ..اسرع .. ساحاول انا ان اشغلهم ..
    ركضا في مسار متعرج .. قال تيم :
    - هناك عند مطلع الشارع ,يجب ان تنحرف يمينا, وساتخذ انا سبيلي الى اليسار ..
    كان لانجور مرهقا , الى درجة التهالك , دخان السجائر والنزيف والذكريات ,التي اضحت اشبه بالكوابيس , وهذه اللحظة المرعبة, كل شيء يدهمه ليعوق حركته ..
    - ثابت . طاخ , طراخ . طاخ ...
    طاشت رصاصات اخرى بالقرب منهما , وتسارع الركض خلفهما , وصلا مطلع الشارع فافترقا في اتجاهين متعاكسين عند تفرعه . شحذ لانجور كل قواه .. احتدمت معركة عابرة بين كلاب الحي والعسس :
    - طاخ , طاخ , طاخ ..
    عواء الكلاب المحتضرة, المصحوب بألم عميق , كأنه نصل ينغرز داخله ..
    تعثر انزلقت قدمه اليسرى, نهض مواصلا الركض, وهو يشعر بجسمه كله يتمزق.. سقط مرة أخرى , ونهض مواصلا الركض .. سقط عدة مرات, فارتطم رأسه بحجر خراصان, ملقى على قارعة الطريق , كان رأسه ينزف بغزارة , واصل الركض ببطء وقدماه تتعثران امامه , جرهما جرا بينما العربة تلوح له بنهاية الشارع , فجاهد للوصول ..
    وهو بين الغيبوبة والصحو رآها : سلوى خلف مقود العربة , ثم سقط ولم يعد يعي شيئا , ربما رأى فيما يرى النازف: نفسه وهو يفتح عينيه على جسمه المغطى بالضمادات, فتدخل سلوى من باب الغرفة الموارب , وهي كاشواق الماضي وحنينه ..
    (*)
    كانت المؤن التي مد بها المورلي المتحرك قد نفدت تماما , ولم يتبق من الماء سوى القليل , العطش قاتل والمسافة بعد لا تزال طويلة ..
    على نحو مفاجيء هطلت الامطار بغزارة , دون سابق انذار ..فاسرع الجميع الى نصب البراميل ,وهم يطلقون صيحات الفرح بهستيريا ..
    اخذوا يرقصون تحت المطر, وثيابهم تبتل بفرحتهم ..
    لكن خلف هطول المطر مشكلة اخرى , اذ ان العربات الداف الخمسة عشر , لم تتمكن من السير في الاوحال, كما انه لم تعد هناك اسبيرات, بعد ان تم استخدام كل قطع الغيار , فتوقف المتحرك تتآكله الحيرة ..
    بعد ايام , بعد ان جفت الارض قليلا . تحرك اللواء , ومضى بسرعة يعوض الزمن الذي فقده بسبب
    الامطار , ولم تلبث ان بانت له قرية "روتة" ,التي يحكمها السلطان لويس , سلطان التبوسة , هذه القرية كلها من صلبه من زوجاته الخمسين , يسكنها هو واولاده واحفاده فقط ..
    الخروج من روتة يعني الاقتراب من كبويتا, عاصمة البلاد الكبيرة الجديدة ..
    دون سعود في مذكراته :
    سقطت كبويتا بعد طول حصار وقصف ومعاناة, وتمشيط لا اول له ولا اخر . وعاود الخوارج الهجوم بغتة ,لكن تمكن المتحرك من صدهم , لقد استبسلوا كفرسان التبوسا في الدفاع عن مدينتهم كبويتا , حتى وهي مؤكدة السقوط .. دافعوا عنها حتى الرمق الاخير, جرح بجرح وموت بموت وفرار بفرار .. بعد ان هدأت الامور تبين للمتحرك, ان المخزون الغذائي في كبويتا من الضخامة بحيث يفوق التصور ..
    كانت كبويتا اشبه بالمدن العصرية :الشوارع المرصوفة بعناية ,الطاقة الشمسية, المباني الفارهة , السيوبرماركتات , المستشفى العصري بمشرحته الحديثة , المتاجر التي تعج بريش النعام والعاج وجلود الحيوانات المفترسة ,والاسلحة الاتوماتيكية الخفيفة ..
    كبويتا مدينة صغيرة قليلة السكان , الذين اغلبهم من التبوسا الشرسين ,الذين ان لم يجدوا من يقاتلونه يقاتلون انفسهم ..
    التبوسا في وسط المدينة , والديدنقا في الجنوب والبويا في الشمال ..
    كبويتا جزء من الجنة بمناظرها الطبيعية الخلابة ,ومناخها الساحر الذي يمزج بين غموض الجنوب وسحر الشرق .. الاسم الذي يخطر عند رؤية كبويتا : الخضرة والربيع الدائم .
    علم البلاد الكبيرة الجديدة بلونه البني ,تتوسطه نجمة بيضاء يرفرف عاليا خفاقا في كل مكان , حتى في مناجم الذهب ..
    كبويتا مدينة مميزة بموقعها الحدودي الاستراتيجي , الذي يربط الجنوب بالامتداد الافريقي ,ويمثل هذا الامتداد خط امداد استراتيجي ..
    هذه المدينة الغريبة الساحرة , لا يرتدي اهلها سوى مايشبه ورقة التوت, لستر أعضائهم . هنا ريش الديك أغلا من الديك نفسه . وجلد الخروف اغلا من الخروف نفسه , لاتصالهما بالعادات والتقاليد والمعتقدات الروحية .. كبويتا مدينة الدم المخلوط باللبن ..
    لحم الضأن هنا أرخص من لحم البقر , الابقار لا تباع الا اذا كانت مريضة , فالابقار كائنات مقدسة , هنا في كبويتا الارض الحرة,تستطيع التعامل تجاريا باي عملة ,حتى لو كانت عملة ماريا تريزا , او احدى عملات القرون الوسطى!! ..
    لكبويتا ايقاع خاص ولها خطورتها ايضا , فالخريف هنا عشرة شهور , شهران فقط هما اللذان تستطيع فيهما الطائرة امداد الجيش .. للتبوسا نفوذ كبير وحاسم على كبويتا , والجميع هنا يهابهم لما اشتهروا به ,من حب للقتال اكثر من اي شيء اخر , وكثيرا ما تشتبك التبوسا مع المورلي او البويا او الديدنقا ,فتسفك ما تسفك من دماء .. التبوسي يعتقد ان كل ما في العالم من ابقار هي للتبوسا , فالتبوسي مفطور على حب الابقار , لا يشعر بالالفة الا معها , واذا اراد التبوسي الزواج عليه ان يحضر اذن رجل من خارج القبيلة, وجلد نمر او فهد او اسد , وان لم يستطع فعليه احضار بضع عشرات من الابقار والضأن ..
    للتبوسا طقسها الغريب , فالذي يقتل منهم احد ابناء القبائل الاخرى , يوسم يده اليسرى بالسكين , كي يعلم الجميع انه فارس لا يشق له غبار , والتبوسي ياكل الحيوانات النافقة ..
    وجد المتحرك في كبويتا عددا من الجنود, الذين تم اسرهم منذ سنوات عديدة ,وأكدت الحكومة لذويهم انهم شهداء!!..
    انهى سعود كتابة مذكراته , واخذ يقرأ ما سطره وهو يتأمل ما تقود اليه الكلمات من افكار ..

    خاتمة :

    القطار..

    فضاء :
    والناس في الشوارع ..
    تسقط من ايديهم ,
    تسقط من عيونهم ,
    تسقط من افواههم ,
    احلامهم ..
    الشاعر العراقي
    يسين طه حافظ
    تلك الذكرى البعيدة , العميقة , القريبة ..ترتد ليتقوقع الصدى , ينبثق في انفجارات دائرية , تتمدد في الأذن سئم الصمت , سئم نظراتها , سئم الأشينو المستفز الذي يكشف مفاتنها , سئم وحدته وسئم الفشل المزمن الذي يجره خلفه ..
    لم يكن يدري ان تلك اخر ايام سلوى , لم يكن يعلم ان الموت قريبا منها هكذا , ولم يصدق عينيه وهو يقرأ نعيها في الصحف " في ابشع جريمة قتل , طبيبة مشهورة تلقى حتفها على يد احد الطوابير .." كانوا قد ذبحوها من الوريد الى الوريد , واتهموا تيم بها .." اجهزة الامن تواصل البحث عن متهمين اخرين , اعترف عليهم المتهم الاول في جريمة اغتيال الطبيبة المشهورة .."..
    نظر بحزن في وجهها , وكانه يلقي بسؤاله الى الفراغ :
    - الا توجد وسيلة لقطع الصمت ؟..
    وكأنها كانت تنتظر اشارة منه :
    - توجد وسائل عدة , كاستدعاء الماضي واسترجاع الذكرى ..
    - سئمت هذا الحزن المرعب ...
    - لايمكن ان تكون كل الذكريات مرعبة !!..
    وانطبق جفناها على حزن عميق يكذب ما ذهبت اليه .. كانت شفتاها تتحركان بطريقة تعطي الاشينو معنى ساحرا وخاصا ..
    - اسمي لانجور ..
    - تبدو مألوفا لدي . انا ابودوك ..
    ارتفع حاجباه في دهشة :
    - ماذا ؟ انت اخت وليم ام تشابه اسماء ؟..
    اجابت بدهشة اكبر من دهشته :
    - حقا هو اخي . كيف تعرفه ..
    - تلك حكاية قديمة ..
    حكى لها وحكت له وامتدت بينهما الحكايات .. فتوقف القطار ..
    عجلات التاكسي الذي يقلهما وهي تنهب الارض, تمزج صوت الطين الذي تخلف عن الصوت الغائب لعجلات القطار , في ايقاع تتسع له الأذن .. توليفة للصدى : لانجور / أبودوك .. لانجور , ابو دوك .. لانجور .. ابو دوك...
    يدب الايقاع الهامس في المفاصل , يتسامى يتسع ويتمدد شراشفا من قمر وضيء على وجه طفل وامرأة وقطار يقف في قلب المحطة ...

    أحمد ضحية
    ديسمبر 1988- 1999 كوستي
    أبريل 2006 القاهرة
    يناير2007 نيوجيرسي
                  

02-10-2007, 11:25 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية - القسم الثاني (Re: احمد ضحية)

    up up up up up
                  

03-25-2007, 07:21 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية - القسم الثاني (Re: احمد ضحية)

    up up up up up
                  

03-25-2007, 07:58 PM

mazin mustafa
<amazin mustafa
تاريخ التسجيل: 07-30-2005
مجموع المشاركات: 287

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية - القسم الثاني (Re: احمد ضحية)

    UP
    واصل يا ضحية
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de