الأسلحة الكيميائية وحقيقة استخدامها في السودان في منتدى ميديكس للحوار
|
الصمتُ حُكمٌ وقليلٌ فاعِلُهُ....
|
أجل بنظرك أنّّى شئت في أسواق الأدب العالمي، تجده أمامك يسرع الخطى متوارياً عن الأنظار.. يخشى أن تحادثه فتسلِّم بما يقوله لك .. فهو يرى أن في الصمت فائدةً أكبر .. ما هو بمازحِِ خطل ولا بالمهذار أو سليط اللسان ..تراه يلوذ بالصمت من التكلف بما لا يحسن، كما يلوذ بالصمت من العجب بما يُحسن .. لا يعيبه حَصرُ ولا عِيٌ فهو يجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية بدرجة الإمتياز.. قامةُ بالغة الطول, بالغة النحافة .. وعينان زرقاوان خلف نظارة رقيقة مستديرة .. ووجهُ غطته التجاعيد كأنه قناع يصعب النفاذ منه. لا يحب الأضواء وإن ظهر تمنىّ ألا يتحدث عنه أحد .. ولأنه بالغ الخجل فهو مستمع جيد. يهوى الدقة وخاصة في اختيار السؤال. قد يجيب عن سؤالك لكنه يطلب منك بكل لياقة الرجل المهذب ألا تذيع أو تنشر ما قاله لك. إنه آيرلندي اختار لنفسه فرنسا مقاماً والفرنسية لساناً، ويملك رغماً عنه خاصية قياسية: فهو كاتب معاصر لا يكف عن امتداح فضيلة الاقتصاد في الكلام. زهّده الاستماع إلى أنفاس الجمل وإيقاع الكلمات والموسيقى النابعة من حسن تنسيقها في حب المال..
للحديث بقية..
|
|

|
|
|
|
|
|
Re: الصمتُ حُكمٌ وقليلٌ فاعِلُهُ.... (Re: الزاكى عبد الحميد)
|
(2)
ها هو أحد أصدقائه يحاول أن يلفت إنتباهه إلى أن سيارته قد صارت بالية وأنه قد آن الأوان لاستبدالها. فيجيبه بعبارة زاهدة" ولِم؟ إنها ما زالت تعمل .. مع أني أضعت مفتاحها منذ سنتين" فيخرج من جيبه سلكاً معدنياً معقوفاً فيدير به- بمهارة- محرك السيارة فتنطلق في الحال!!! فإذا علمنا أن هذا الرَّجل نفسه الذي يمكن تصنيفه ضمن كبار الأثرياء بالمقاييس الدارجة في مجتمعنا، قد أمر بتوزيع جائزة نوبل (حاز على جائزة نوبل في الأدب عام 1969) كاملة على أصدقائه وغيرهم من المحتاجين وعلى عدد من المؤسسات مشترطاً أن يظل اسمه مجهولاً يتبين لنا أنه إنسان يتعامل مع المادة أو المال بأسلوب أقل ما يقال عنه إنه فريد من نوعه. إنه كاتب نال من إهتمام الأوساط الأدبية به ما لم ينله غيره من الكتّاب في التاريخ الحديث.. ذلك أن بعض المهتمين بفلسفته شرعوا في استحداث علم جديد يعنى بكتاباته وسلوكه وميوله! ظهرت الأنثربولوجيا إلى الوجود فسلَّمنا بها علماً يعنى بدراسة الجنس البشري وتطوره وأعراقه وعاداته ومعتقداته كما كان للسوسيولوجيا فائدتها الكبيرة في ترسيخ وقياس العلاقات الشخصية بين أفراد المجتمع.. للحديث بقية..
| |

|
|
|
|
|
|
Re: الصمتُ حُكمٌ وقليلٌ فاعِلُهُ.... (Re: الزاكى عبد الحميد)
|
-3-
فهل يا ترى يكتب للبيكيتولوجيا النجاح الذي لاقته الأنثربولوجيا والسوسيولوجيا وغيرهما من العلوم الإنسانية الأخرى لتشق طريقها إلى دور العلم؟ تاريخ ميلاد البيكيتولوجيا يعود إلى الثالث عشر من أبريل 1986 ومكان ميلادها هو باريس.. وظهرت إلى الوجود فيما كان العديد من مفكري العالم يحتفلون بذكرى ميلاد مادة العلم: الكاتب المسرحي والروائي الآيرلندي المولد والفرنسي اللسان صمويل بيكيت. ولد صمويل بيكيت في الثالث عشر من إبريل عام 1906 في آيرلندا ودرس في كلية ترينيتي وتخصص في اللغات. وعمل بعد تخرجه محاضراً في الكلية وهي من أعرق المؤسسات التعليمية في آيرلندا غير أن الحياة الأكاديمية لم ترق له فتفرّغ للكتابة. ومنذ عام 1937 اتخذ فرنسا مقاماً والفرنسية لساناً حتى مماته في 1989. كتب العديد من المسرحيات والروايات والمقالات والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية والتي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة.... ليس ذلك فحسب، وإنما جاءت إحدى مسرحياته على رأس قائمة أفضل مسرحيات القرن العشرين.. فقد أوردت رويترز في نبأ لها من لندن قبل وقت مضى، أن مسرحية" في إنتظار جودو" أختيرت أهم مسرحيات القرن العشرين من قبل المسرح الملكي البريطاني في استطلاع شمل أكثر من 800 كاتب مسرحي وممثل ومخرج وصحافي – اتفقوا جميعاً على أنها المسرحية الأولى في القرن العشرين. ونسبوا تميزها إلى الفراغ (الصمت لدى بيكيت لا على أساس أنه مأساوي ولا باعتباره فراغاً عميقاً بل باعتباره مصدراً للطاقة والإبداع). إن التوتر الموجود بين اللغة والصمت هو الذي يمنح مؤلفات بيكيت تركيبها المتفرّد، لأن اللغة عنده هي أساس كل شيء. أما الصمت فهو مكمِّل وهو النقيض الضروري والنتيجة التي لا مناص منها لهذه اللغة. ومؤلفات بيكيت كلها محاولة للقول وللتعبير عن الواقع المعاش بواسطة اللغة، يعقبها إخفاق هذه المحاولة أي إفلاس اللغة.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: الصمتُ حُكمٌ وقليلٌ فاعِلُهُ.... (Re: الزاكى عبد الحميد)
|
-4-
قبل سنوات درست مسرحية "في إنتظار جودو" دراسة تحليلية في جامعة الخرطوم وما زلت إلى يومي هذا استكشف شيئاً جديداً كلما قرأتها بتمعن. وكان المحاضر حينها يقارن بين مسرحية " في إنتظار جودو" ومسرحية "موت روزنكراتنس وجيلدنستيرن" لتوم استوبارد الكاتب المسرحي البريطاني المعاصر بحكم أن الكاتبين ينتميان إلى مدرسة الحداثة في المسرح. وقيل لنا وقتها إن توم استوبارد ينتحل أسلوب بيكيت في الكتابة. ومن محاسن الصدف أن كان توم استوبارد من بين الذين شملهم الاستطلاع الذي أجراه المسرح الملكي البريطاني وقال عنه " هو الأول بدون منازع. لقد حاولت مجاراته ولكني أخفقت." ويحتل توم استوبارد مرتبة مرموقة في قائمة كتاب المسرح المعاصرين وحصد أكثر من جائزة عالمية. إن مسرحيات بيكيت وقصصه كلها تخضع لجدل منطقي (ديالكتيك) مستمر يتوثب بين الحقيقة والكذب، بين البحث عن الحقيقة والأفخاخ التي ينصبها الكذب وهي تردد بين كلام يعجز عن العثور على الحقيقة، وبين صمت هو أبلغ من الكلام حين يعجز الأخير. إن بيكيت حين يكتب ويقرأ ما كتبه فإنه يشطب بعض الكلمات ويمحو بعض الجمل ويتركها هكذا دون أن يستبدلها بكلمات أو جمل أخرى. وحول ذلك تقول دينا شيرزر الأستاذة في جامعة أوستن في تكساس إن بيكيت يدعونا لكي نشيد حضارة جديدة استناداً إلى هذه الكلمات الباقية. إن اللغة عجزت (وليس الكاتب) عن أداء دورها كاملاً فحل الصمت محلها لأنه المكمل الحتمي لها.. استراجون: النجدة! فلاديمير : لنذهب. استراجون: لايمكن. فلاديمير : لماذا ؟ استراجون : ننتظر جودو.
(مقتطفات من مسرحية "في إنتظار جودو") مم يستنجد استراجون؟ هذا هو السؤال الذي يوحهه بيكيت لقرائه ويريدهم أن يبحثوا عن مخرج لاستراجون في بحثه المحموم عن ذاته. صمت طويل يسود قبل أن يجد فلاديمير حلاً آنياً للمشكلة يتمثل في الذهاب. ولكن إلى أين؟ صمتٌ طويل يسود مرة أخرى قبل أن يعترض استراجون بعبارته المقتضبة تلك. وهو صمت يتقبله المشاهد حلاً للمشكلة التي يواجهها استراجون وصاحبه. "ماذا نفعل هنا ؟ هذا هو ما يجب أن نسأل أنفسنا عنه. من حسن حظنا إننا نعرف الجواب في وسط هذا الغموض الشامل. شيء واحد يظل واضحاً: إننا ننتظر مجيء جودو" "في إنتظار جودو" وتضيف دينا قائلة إن هذا الصمت الذي نبحر فيه مع بيكيت هو تحريض على الحركية على عكس ما يفترضه بعض النقاد حين يصفونه بالسخرية من العالم.. وحجة البروفيسور دينا هي أن البحث عن الذات وعدم العثور عليها يدفعان الإنسان في نهاية الأمر إلى الاستمرار في هذا البحث والقول مع فلاديمير – الذي ظل ينتظر جودو فقط لأن صبياً صغيراً يخبرهما في نهاية يومهما أن جودو قادم إليهما في الغد ( ما الفائدة من فقدان الشجاعة الآن؟) إن اللغة المترددة التي تصطدم بإستحالة تأكيد أي شيء مهما كان والتي ابتدعها بيكيت وصلت نهايتها بمماته عام 1989. وهنا تبدأ مهمة استنطاق الصمت الذي ضمنّه بيكيت في ثنايا حروفه.. إنها المهمة التي تصدى لها منظرو البكيتولوجيا وهم كثر ومنهم جيروم لاندون وهو ظل صديقاً لبيكيت لأكثر من ثلاثين سنة حتى مات. قال جيروم إن الكلام عن بيكيت خيانة له حتى لو أردنا أن نبين إلى أي حد هو إنسان متميز. إن الدليل الوحيد الذي يمكنني تقديمه على صداقتي له هو الصمت .. ولكنني مع الآخرين من عشاق فنّه عازمون على المضي قدماً في رفع لواء البيكيتولوجيا باستنطاق الصمت الكامن في كتاباته وفي هذا تقدير لشخصه وفلسفته.. الحديث ذو شجون ودونك بيتين من الشعر أنشدهما في دومة الجندل قبل ألف عام أحيحة بن الجُلاح الأوسي, سيد يثرب: الصمت أجمل بالفتى مالم يكن عٌِيُ يُعيبُه والقولُ ذو خطلٍ إذا لم يكن لبُ يُعينُه
آخر الكلام: يقال إن لقمان الحكيم دخل على داود عليهما السلام وهو يصنع درعاً فهم لقمان أن يسأله عما يصنع، ثم أمسك ولم يسأل حتى تم داود الدرع وقام فلبسها، وقال: نِعْمَ أداةُ الحرب. فقال لقمان: الصمتُ حُكْمٌ وقليلُ فاعِلُهُ. والحكم هو الحكمة ومنه قوله تعالى (وآتيناه الحكم صبياً) ومعنى المثل إستعمال الصمت حكمة ولكن قلّ من يستعملها.. (انتهى)
| |

|
|
|
|
|
|
Re: الصمتُ حُكمٌ وقليلٌ فاعِلُهُ.... (Re: سمية الحسن طلحة)
|
Quote: إن اللغة عجزت (وليس الكاتب) عن أداء دورها كاملاً فحل الصمت محلها لأنه المكمل الحتمي لها.. |
الزاكي الباهي.. ربما هي حالة تشابه تعطُّل لغة الكلام ، التعبير أعلاه من أجمل ما قرأت مؤخرا ولعل الواحد منا في حياته اليومية يكاد (يشعر) بهذه المحنة التعبيرية التي قد نعزوها الى أنيميا القاموس التي تتبدى في مواقف بعينها فنستعيض عن المفردة بصمت أو حتى تنهد أو أيماءة تضاهي في بلاغتها بحورا من لغات لكن يبقى الصمت باب لحاله في البديع والبيان. صموئيل هذا قرأت له مسرحيته الأشهر زمن الطالبية ولكني لم أك أدري أنه بهذا الجمال الذي تحكيه مما شوقني لأعادة القراءة والبحت عن نتاج ما بعد waiting for Godot شكرا يا باهي فنحن في حال تعوزنا فيه نفحاتك.
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: الصمتُ حُكمٌ وقليلٌ فاعِلُهُ.... (Re: محمد المرتضى حامد)
|
في معرض حديث بأحد المجالس ، ورد اسم "الزاكي عبد الحميد" ، فسأل أحد الحاضرين : من يكون الرجل ؟ واستدرك بعد برهة من التذكر متسائلا: اهو ذاك الرجل غزير الثقافة ، الأديب ، المتأدب ؟
واحتملت عبْ الإجابة عن الحضور ، فأجبته : هو ذاك.
أخي الأديب الزاكي :
بحديثك عن الصمت استنطقت صمتي . فما أبلغ لغة الصمت أحيانا.
وجدت سكوتي متجرا فلزمته إذا لم أجدْ ربحا فلست بخاسر وما الصمت إلا في الرجال متاجر وتاجره يعلو على كل تاجر
ولعل صاحبك في كتاباته استشعر مقولة " إن صخب النص يكمن في صمت كاتبه " فألتزم وألزم تعابيره الصمت .
نشجع بوستات الأدباء السودانيين بمسقط ، ولكن لا تجعلوها وقفا على أهلها.
تحياتي لأسرتكم الكريمة والتحية والتقدير لحرمكم الفضلى الأخت "وداد" .
| |

|
|
|
|
|
|
Re: الصمتُ حُكمٌ وقليلٌ فاعِلُهُ.... (Re: الزاكى عبد الحميد)
|
Quote: التعبير أعلاه من أجمل ما قرأت مؤخرا ولعل الواحد منا في حياته اليومية يكاد (يشعر) بهذه المحنة التعبيرية التي قد نعزوها الى أنيميا القاموس التي تتبدى في مواقف بعينها فنستعيض عن المفردة بصمت أو حتى تنهد أو أيماءة تضاهي في بلاغتها بحورا من لغات لكن يبقى الصمت باب لحاله في البديع والبيان. صموئيل هذا قرأت له مسرحيته الأشهر زمن الطالبية ولكني لم أك أدري أنه بهذا الجمال الذي تحكيه مما شوقني لأعادة القراءة والبحت عن نتاج ما بعد waiting for Godot |
ذكرتني يا صديقي بعبارتك هذه ما قاله ولي صوينكا ذلك النيجيري القامة..
فقد ذكر الروائي النيجيري الكبير ولي صوينكا ذات مرة أن قاموس اللغة الانجليزية تقف عاجزة عن التعبير عن شيء أفريقي –وتحديداً من تراث قبيلة اليوروبا-فيكون أمامي خياران إما أن استخدم الكلمة المحلية نفسها بأحرف انجليزية أو أترك ذلك للفراغ (الصمت) ليفسر ما كنت أنوي قوله..
وإلى ذلك أوردت لجنة جائزة نوبل المكلفة بتقييم الأعمال الأدبية المرشحة –في حيثيات قرارها بمنح الجائزة للروائي النيجيري عام 1986- أنه أثرى قاموس اللغة الإنجليزية بكلمات من لهجة اليوروبا ما كانت لولاه لوجدت طريقها إلى القواميس والمكتبات العالمية..
على أن الصمت الذي يوظفه بيكيت أداة لشرح عبثية الانتظار (لا سيما إن كان الشيء المنتظر لا وجود له أصلاً أو لا معنى له، بل لا هيئة له كما هو الحال بالنسبة لجودو الذي ينتظره جوجو وديدي في مسرحية في إنتظار جودو) هو ما يعطي لكتابات هذا الفيلسوف قيمة لدى قرائه حيث يكون الأمر متروكاً لهم لفهم ما يقوله "الصمت"... وهذا ما نجده في مسرحيتي : في إنتظار جودو ونهاية اللعبة EndGame
قال أستاذ الانجليزية في جامعة أوكسفورد البروفيسور الأمريكي آيلمان -مؤلف كتاب: رجالات دبلن الأربعة، ويقصد الشاعر ييتس والروائي جيمس جويس وأوسكار وايلد وصمويل بيكيت قال:
لو كتب لساسة اليوم أن يفهموا ما يكتبه بيكيت لجنبوا العالم الكثير من ويلات الحرب!
لك تحياتي يا صديقي..
الزاكي
| |

|
|
|
|
|
|
|