الأسلحة الكيميائية وحقيقة استخدامها في السودان في منتدى ميديكس للحوار
|
من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين)..
|
من أجل الاشتراكية الماركسية في السودان بين زمنين
بداية فكرة هذه الورقة كانت بعد الاطلاع غير مسبق التخطيط على مجلة "قضايا سودانية"، العدد الثامن عشر (يوليو 1998)، والتعرض من خلالها، بصورة غير مسبوقة بالنسبة لنا، لشكل الحوار الداخلي بين الشيوعيين السودانيين عن تجربتهم الماركسية في السودان، نظريا وعمليا، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، والذي كان مسبوقا بمراحل محسوبة من التدهور المتصل..
تأملنا صور النقد والنقد الذاتي التي اتسمت بها كتابات أهل اليسار الماركسي في السودان، واليسار عموما، في هذه المجلة، وفي كتابات سابقة اطلعنا عليها، والتي تكاد تكون على درجة محترمة من مواجهة الذات وتقييم التجربة (مع تحفظات سيأتي أوانها في سياق الورقة).. وما شدنا لكتابة هذه الورقة سببان: أولهما: لفت النظر إلى حجم التجارب والأزمان التي احتاجها ماركسيو السودان ليصلوا لمثل هذه المرحلة من الشجاعة الأدبية، مقارنة بكتابات نقدية أخرى تؤرخ لقبل هذه الحقبة الزمنية، وبالتخصيص كتاب "الماركسية في الميزان" للأستاذ محمود محمد طه، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1973، وهو متن محاضرة ألقيت في عام 1968.. ثانيهما: تقييم معنى الديالكتيك في تجليه الذي يجعلنا نتعلم من مر تجاربنا كيف لا نكررها، وكيف نقرأ واقعنا ومستقبلنا بصورة أفضل، وكيف نحترم الإنتاج الفكري لمن أثبتت التجربة قدرتهم على قراءة الواقع والمستقبل بكفاءة أكبر..
كانت قد جرت عدة نقاشات لمواضيع هذه الورقة من قبل، من جانبنا ومن جانب أقلام لها وزنها وتاريخها في تجربة اليسار عموما واليسار الماركسي خصوصا، ولعل هذه الورقة ستقدم تلخيصات كثيرة لآراء وتحليلات قد جرى ذكرها من قبل، غير أن مبرر التلخيص والتجميع في صورة ورقة كهذه يكمن في تسهيل البحث، وإجمال القول، والتكرار المفصل لتعميمات سابقة، لدفع عجلة الحوار وتنويع مشاهده..
|
|

|
|
|
|
|
|
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)
|
هل الماركسية منهج أم فلسفة؟
بطبيعة الحال، ورغم كثرة التعاريف وتداخلاتها للمصطلحين (المنهج والفلسفة)، فلا بد لنا أن نفصح عن نظرتنا للماركسية على ضوء تعريفين واضحين للمصطلحين، أقله فيما يختص هذه الورقة.. نعني بـ"المنهج" هو الأداة الفكرية المعينة على قراءة الأحداث وتحليلها، سواءا كانت سياسية، اقتصادية، هندسية، ثقافية، وما إلى ذلك، وسواءا كانت حاضرة، مستقبلية، أم تاريخية.. أما الفلسفة، فهي النظرة ذات الرأي العتيد في القضايا الأساسية في مشكل الوجود البشري، بمعنى أنها تملك تفسيرات وتعليلات وتعريفات لمسائل الهم الإنساني الأكبر.. من الوهلة الأولى، يمكن أن نربط بديهيا بين التعريفين لندرك أن الأول (المنهج) يعتمد على الثاني (الفلسفة).. المنهج لا بد له من فلسفة تدعمه، أما الفلسفة فهي قد تكون أحيانا بلا منهج (تكون فلسفة ناقصة بطبيعة الحال، ولكنها فلسفة).. وفي واقع الأمر، فالمدارس الفلسفية صاحبة المناهج قليلة في التاريخ، أما المناهج التي ليس لها فلسفة، فهذه قد تكون، ولكنها مهزومة منذ ولادتها، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، فكيف حين لا يكون هناك عود أصلا؟
وأحيانا فإن المدرسة الفلسفية قد تنتج منهجا ناجعا، رغم كون هذه الفلسفة غير ناجعة في مجموعها.. كيف؟ يكون ذلك حين تكون المرتكزات الفكرية التي يعتمد عليها منهج هذه المدرسة ناجعة، ولو كانت المرتكزات الأخرى غير كذلك، فالفلسفات لها جوانب عدة، تسقط بعضها بسهولة وتصمد الأخرى عبر الزمن.. ما زلنا لليوم، مثلا، نتعلم من الفلسفة الأفلاطونية، رغم تباعد الأزمان، ولكن هذا لا يعني أننا حين نقرأ اليوم لأفلاطون لا نستطيع بسهولة أن ندرك الثغرات في أمور تجاوزها الزمن وأبان خللها بصورة بديهية اليوم، كما لا يمنعنا ذلك من رؤية صلاحية الكثير من ركائز أفلاطون لليوم، على الأقل في اطار المداولة والترجيح..
هنا نتسائل.. هل الماركسية منهج أم فلسفة؟ والدافع لهذا السؤال هو ما اطلعنا عليه من كتابات عدة، لماركسيين قدماء، مقيمين ومتحولين، تشير ببساطة إلى أن الماركسية إنما هي المنهج المادي الديالكتيكي (وليس "الجدلي"، وهذا خطأ ترجمي شائع [1]).. هذه الإشارة، رغم حسن نواياها في كثير من الأحيان، إلا أنها مجحفة للماركسية في واقع الأمر.. ذلك أن الماركسية ليست مجرد منهج، وإنما هي فلسفة متكاملة البنيان، وتستعمل منهجها كدعامة من دعائم هذا البنيان، لا كالبنيان نفسه، وكله.. يمكن أن نقول أن المادية الديالكتيكية هي هيكل الماركسية، ونحن نلحظ بديهيا أن الهيكل هو دعامة الجسد الأساسية (أي جسد، سواءا كان جسد كائن حي أو حتى جسد آلة)، ولكنه ليس كل الجسد، فالجسد أكثر تعقيدا من مجرد هيكل، لأنه يشمل القلب والعقل والأعصاب وخلافه (أو المحرك ونظام التحكم وخلافه بالنسبة للآلة).. يقف الهيكل داعما لهذا الجسد، غير أن صلاح الهيكل وصلابته لا يكفيان كدليل على صلاح الجسد ككل، وهذه بديهة من تجاربنا المعاشة..
في مجلة "قضايا سودانية" سالفة الذكر أعلاه، كثر الحديث من جانب كتاب عدة عن أن الماركسية إنما هي المنهج المادي الديالكتيكي، وأنها دليل للعمل، وليست عقيدة جامدة ومسبقة في تصور ما يجب أن تكون عليه الأمور (والعدد المشار إليه من المجلة يحمل تلخيصا للكتابات التي وردت في الأعداد السابقة، منذ الأول وحتى الخامس عشر).. هل حقا؟ الماركسية لها تصور مسبق لماهية الوجود والبيئة ومكان الإنسان فيهما، ولها تصور لاحق لمآلات الأمور، ومنهجها مبني على أساس هذا التصور المسبق وفي سبيل ذلك التصور اللاحق.. فكيف تكون منهجا - أودليل عمل- فقط؟ بل وكيف يكون هناك منهج بدون أسس فلسفية تدعمه، وبدون غايات ومقاصد منشودة، وبدون فهم عتيد للمسألة الوجودية؟
إصرار هؤلاء الماركسيين اليوم على الماركسية كمنهج إنما هو مكابرة واضحة، ذلك أنهم إنما يتمسكون بالمنهج الذي قدمته الماركسية، وليس بها ككل، وبحسنات أساليب الدراسة الاقتصادية لماركس وإنجلز وخلفهما، لا كل نتائجها وتطبيقاتها.. في المقابل فإن الماركسية، كفلسفة متكاملة تعود حقوقها الفكرية لماركس وإنجلز، قد لقيت الكثير من التعديل والتبديل، منذ عهد لينين (والذي يحسب كثيرا كثالث الثلاثة)، ولهذا كانت "الماركسية اللينينية" (وهنا نشير لأن المجلة سالفة الذكر أوردت آراءا وجدت الكثير من التأييد تدعو إلى تجاوز اللينينية، لأن مفاهيمها تتناقض مع الماركسية (صفحة 9)! ولنا أن نتسائل، هل لم يكتشف الشيوعيون، بعد كل هذه السنين- العقود- "اللينينية"، مناقضتها للماركسية إلا في الفترة الأخيرة؟ فهل كانوا إذا ماركسيين طيلة تلك الفترة الماضية أم ماذا؟)..
حين الحديث عن "الماركسية"، صاحبة الاسم، فنحن لا نملك أن نضع بقية الماركسية جانبا ونبقى مع منهجها فقط، فاستنتاجات ماركس وإنجلز، ونظرتهما لقضايا الوجود الأخرى، هي جزء أصيل من الماركسية.. الحديث عن أننا، حين ننظر لتراث ماركس، يجب أن نعتبر منهجه قبل أن نعتبر نتائجه التي توصل لها بواسطة ذلك المنهج، والتي قد أثبت التاريخ خطأها (ولنا عودة هنا).. هذا حديث هلامي جدا، إذ كيف نميز بين منهج الشخص التفكيري والنتائج التي وصل لها باستخدام ذلك المنهج (خصوصا وأنه هو صاحب المنهج ومقدمه، فالمنهج ونتائجه خرجا من نفس العقل)؟ وماذا يتبقى من قيمة في ذلك المنهج إذا فقدت نتائجه قيمتها؟ خصوصا وأنها حديثة العهد نسبيا، ولم يمض على خروجها للناس سوى القليل من عمر التاريخ؟ الإجابة هنا تكمن في تقييم الفلسفة الماركسية ككل، ومن ثم تقييم صلاحية معطياتها التي ما زالت فاعلة، وفي مثل هذا الفعل، فنحن، من الوهلة الأولى، نبني على الإرث الماركسي، ولكننا لا نتبناه، وهناك فرق كبير بين "البناء" و"التبني".. المتبني للماركسية يؤثرها بكل ما فيها، وهذا هو الماركسي، أما الباني على الماركسية فهو يستفيد منها كإرث فكري له حسناته وسيئاته، فيجدد صلاحية حسناتها ويتعظ من سيئاتها، وبهذا البناء تكون مسيرة التطور الفكري مستمرة، أما بالتبني فالأمر أصعب، إلا لو كانت الماركسية نفسها مفتوحة على التطور ولم يثبت بعد خللها في أي نتيجة قدمتها، وهذا غير صحيح، كما سيجري تبيانه هنا..
على سبيل المثال، كان يشير ماركس إلى المدرسة الاشتراكية الأوينية السابقة للماركسية إلى الوجود (من روبرت أوين الانجليزي)، ويسميها وأخريات بـ"الاشتراكية المثالية"، في حين سمى اشتراكيته هو "الاشتراكية العلمية".. ماركس أيضا وضع استنتاجات أساسية تقود إلى أن بداية ثورة البروليتاريا ستظهر في انجلترا، وذلك بسبب تطور المناخ الصناعي في انجلترا على جميع رصفائه في أوروبا الرأسمالية في ذلك الزمان، مما يهيء فرص تنظيم ووعي أكبر لدى الطبقة العاملة هناك.. حين يثبت لنا التاريخ خلل هذا الاستنتاج، بعد ميل الطبقة العاملة في انجلترا إلى اشتراكية روبرت أوين (حزب العمال البريطاني) التي سماها ماركس من قبل بالمثالية، وبعد تحقيق عمال انجلترا انتصارات أعظم من أندادهم في أوروبا اليوم بهذا السبيل، وبالذات في البلدان التي انتهجت خط ماركس من قبل، وتركته بعد حين (خصوصا وأن ماركس قد أخذ أحيانا يشكك في بعض أسس منهجه، بصورة قد تدعو لزعزعة النظرية التاريخية الماركسية كلها، كقوله في 1872 أن العمال في انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وربما هولندا، قد يصلوا للسلطة بدون ثورة، بسبب الطبيعة الديمقراطية لهذه الدول [2])، كيف سنقيم موقف ماركس هذا؟ وحين تقييم موقفه هذا، بم يمكننا الحكم على هذا الجزء الأصيل من الفلسفة الماركسية؟ وكيف يمكننا بعد ذلك النظر للماركسية، كجسد متكامل، دون إداراك النقص فيها؟ ومن ثم، فكيف نظل ماركسيين، والتاريخ يصدح لنا بنقص الماركسية، بيانا بالعمل؟
إن من الاحترام لذكرى ماركس أن لا ننسب له اليوم نتائجنا التي تعلمناها من أخطائه، وأن نضعه في اطاره التاريخي دون مزايدة، ومن أجل المادية الديالكتيكية نفسها - والتي نحن من المؤمنين بصلاحيتها لليوم، كمنهج تحليل في الاطار العميم الكبير (Macro) لحركة المادة والمجتمعات، مع التحفظ على الاطار التفصيلي المجهري (Micro)- لا بد أن نتعلم كيف نستفيد من تاريخ الإنتاج الفكري للمدارس الفلسفية، وكيف نبني عليها، مع إعادة تقييم صلاحيتها في الجوانب المتعددة بصورة مستمرة.. من أجل المنهج الديالكتيكي لا بد من إعادة تقييم جادة للفلسفة الماركسية ككل، لنعرف مالها وما عليها، ومن ثم نبني على حسناتها، ونتجنب مزالق سيئاتها.. ___________________
[1] هناك تعاريف ثلاثة لمعنى كلمة الديالكتيك (Dialectic) في الانجليزية، أكثرهما قربا للمعنى المطروح في استعمال المصطلح الفلسفي - منذ بداياته عند هيغل- هو التعريف: "العملية التي من خلالها يتفاعل متضادان ليشكلا حقيقة أكبر" (قاموس أكسفورد للجيب في الانجليزية المعاصرة - 1996- ترجمة الكاتب)، ومن الواضح جدا أن استعمال هيغل وماركس للمصطلح متعلق بصراع الأضداد من أجل التطور، لا الجدل (والجدل والصراع ليسا نفس الشيء في اللغة العربية).. يقول الأستاذ محمود محمد طه: "ماركس سماها (المادية الديالكتيكية) ـ المادية الجدلية ـ بعض الناس بيقولوا في ترجمتها.. لكن دي ترجمة غلط، لأن المسألة مش مسألة جدل، وإنما مسألة تطور" (الماركسية في الميزان).. [2] ديفيد كوت (David Caute)- "الكتابات الجوهرية لكارل ماركس" (Essential Writings of Karl Marx)، مختارات مبوبة مع التقديم والتعليق- لندن 1967، صفحة 197
| |

|
|
|
|
|
|
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Mohamed Adam)
|
محمد آدم.. تحيتي..
في الواقع، فإن الفلسفات التي ليس لها منهج معين هي أكثر من تلك التي تملك مناهجا، ولكن شهرة وتأثير صاحبة المناهج -بحكم صلاحيتها الأكبر- هي الأكبر..
عبر التاريخ، ولليوم، نقرأ أسماءا كثيرة لفلاسفة كثيرين، لا يعتملون منهجا معينا في البحث، ولهم في كل مشكلة بتطرقون لها مقاربة مغايرة، لا تجتمع في منهج واضح المعالم، فكثيرا ما يخيبون وقليلا ما يفلحون، ولكن التاريخ عموما لا يحفظ أسماء هؤلاء أكثر من ذكر أصحاب المناهج..
بطبيعة الحال، فالفلاسفة أصحاب المناهج معروفين، نذكر منهم على سبيل المثال، من الغرب، أفلاطون وهيغل وكانط وماركس وفرويد ومن تبعهم أو استقى منهم.. في التاريخ الإسلامي مثلا، يوجد ابن رشد وابن سينا، وغيرهم (تعمدت عدم ذكر أعلام التصوف، من عرب وغيرهم، لاعتبارهم كفئة ذات مشهد يختلف عن المشهد "العرفي" للفلسفة، رغم أن المدارس الفلسفية عندهم أعمق)، ومن الفلاسفة غير أصحاب المناهج مثلا، الكندي (وشهرة الكندي الحالية هي لسبقه التاريخي في تقديم الفلسفة الإغريقية لقارئ العربية، وليس لمنهجيته)، ومنهم أيضا، في العصر الحاضر، الدكتور علي حرب (وله محاسنه وسيئاته أيضا، ولكن عدم توفره على منهج واضح هي مشكلته الأساسية)، وارجو أن تلاحظ أني هنا أذكر اناسا مشهورين بعض الشيء، في حين أن غير المنهجيين غير المشهورين أكثر بكثير.. من الغرب، فرغم أني قد أقدم لك أسماءا بعينها، في براح أكبر من الوقت، تكفيني الآن الإشارة لـ"قاموس كامبريدج الفلسفي" (Cambridge Dictionary of philosophy) لتجد فيه أسماء فلاسفة كثيرين ينضوون تحت تصنيف "الغير منهجيين" (طبعا هو تصنيف غير وارد في القاموس، ولكن يتضح من تلخيصات سير الفلاسفة)، لأنهم إما يتقلبون من منهج لأخر، دون فاصل واضح، أو لأنهم يقصرون بحثهم الفلسفي في قضية واحدة من قضايا المشكل الإنساني، والتركيز على قضية واحدة لا يمكن أن يلد منهجا فلسفيا، فالمنهج يتطلب أن يمتحن إمكانياته في الحقول الإنسانية الشتى حتى يصبح معتمدا كمنهج.. وحتى أعطيك إشارة أكثر وضوحا، فهناك مجموعة كبيرة من الفلاسفة يدعون "التشكيكيين" (skeptics)، ومعظم هؤلاء ليسوا منهجيين، لأنهم إنما يقدمون مسائلات وتشكيكات في النظرات الفلسفية المعاصرة والسابقة لهم، ولكنهم -معظمهم- لا يقدمون منهجا واضحا يمكن أن يتابعهم عبره المرء في أسلوب قرائتهم التشكيكية.. هذه سياحة قصيرة، في اطارين ضيقين، هم الاطار الإسلامي والغربي، بصورة عامة، ولكن القائمة تطول وتتعدد مع الثقافات والشعوب المتنوعة عبر الحاضر والتاريخ..
أرجو أن يكون في هذا الرد الموجز شيئا مجزيا، فهو مكتوب على تلخيص شديد لعدم تفرغي الكافي له الآن، ولعدم علاقته المباشرة بسياق الخيط، ولكني أشكرك عليه، ولا أجد مانعا من الإسهاب فيه لاحقا، إذا سمحت الظروف..
ولك المودة..
| |

|
|
|
|
|
|
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)
|
هذا، وبما أن اهتمامنا الأساسي في هذه الورقة يتعلق بالماركسية في السودان، فلنا تعليقات على أمثلة من القراءات القاصرة للواقع السوداني من جانب جماعات اليسار الماركسي في السودان، في سياق تدليلنا على أن "نجاعة المنهج لا تغني عن ضرورة تهذيب متطلباته"، كما ذكرنا أعلاه..
مثال.. في مجلة "قضايا سودانية" سالفة الذكر، تحدثت الكثير من المقالات عن صور الجمود والتسلط في الحزب الشيوعي، ومثالب العمل السري، وغير ذلك مما سنعود له بصورة أكثر تفصيلا بعد قليل.. نريد الآن أن نتناول شهادة واحد من قيادات الحزب الشيوعي عبر تاريخه الطويل، وهو الأستاذ التجاني الطيب.. في تلخيص العدد الثاني من المجلة (سبتمبر 1993)، عرض مقال للأستاذ التجاني بعنوان "هاؤم اقرأوا كتابيا"، ينتقد فيها ما يرى أنها الأخطاء التي ارتكبها الحزب الشيوعي عبر سنين نضاله.. يلخص الأستاذ التجاني هذه الأخطاء في خمس مواقف، نذكر منها: أن الحزب الشيوعي السوداني، رغم أنه نشأ مستقلا في بدايته، ولم تعترف به الحركة العالمية الشيوعية إلا عام 1958، إلا أنه كان "أسيرا للأفكار والممارسات السائدة في تلك الحركة بكل ما كان لها أو عليها".. وخطأ آخر في "السكوت عن الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان في فترة تحالف الحزب الشيوعي القصيرة مع نظام مايو، بما في ذلك الاعتداء على جامعة الخرطوم. وفي 19 يوليو تم اطلاق سراح المعتقلين الشيوعيين والديموقراطيين وتم التحفظ على الآخرين".. أما آخر هذه الأخطاء فهو موقف الحزب المؤيد لانقلاب 19 يوليو 1971..
بداية، فالاعتراف بالخطأ محمدة ولا شك، وهو مما يدعو للاحترام، ولكننا الآن بصدد تناول الأسباب وطبيعة أسلوب القراءة السياسية التي جعلت الحزب الشيوعي يرتكب هذه الأخطاء، فهذه لم يتناولها الأستاذ التجاني بالمواجهة المطلوبة، بل إنه بعد ذكر هذه الأخطاء أخذ يتحدث عن مواقف الحزب الشيوعي عموما "بالعمق والثبات والمثابرة من أجل انتزاع حق وحرية التنظيمات السياسية والنقابية وإلغاء القوانين القمعية".. بداية لا بد أن نقول أن الحزب الشيوعي لم يكن أسيرا للأفكار والممارسات السائدة في الحركة الشيوعية العالمية دونما سبب، وإنما لأن الحزب كان مستوردا للفكرة الماركسية من الأساس، استيرادا يفتقد لحصافة قراءة الواقع البيئي المجتمعي المخالف للواقع الذي نمت وترعرعت فيه الماركسية في أوروبا عموما، وفي تجربتها السوفيتية خصوصا، وحين كان الحزب الشيوعي مستوردا للفكرة، فهو لم يستطع أن يكون أصيلا فيها على أرض وطنه، وعليه لم يكن يملك سوى أن يكون أسيرا لأفكار وممارسات الحركة الشيوعية العالمية! صحيح أن هناك محاولات قد أطلت بين الفينة والأخرى لتصحيح هذا الوضع في الحزب الشيوعي، وهو أمر مقدر، ولكن الوضع منذ بدايته، وبرمته، لم يكن ليسمح بأن يكون الحزب الشيوعي السوداني غير صورة مشوهة لانعكاسات الواقع الأروبي الشرقي والسوفيتي على أرض السودان.. أما سكوت الشيوعيين عن "الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان" في فترة تحالفهم مع نظام مايو، فذلك لم يكن غير نتيجة تلقائية لسلسلة من الأخطاء المفهومية تبدأ من العلة الموجودة في الماركسية نفسها من تزييف معنى الديموقراطية وحقوق الأفراد في المجتمعات (ولهذه عودة).. الحزب الشيوعي في هذا الموقف إنما كان يتأسى بالإرث المفهومي والتطبيقي للماركسية في كافة تجلياتها العالمية، من الاتحاد السوفيتي لأوروبا الشرقية، للصين، لكوبا، ولو كان مقدرا للحزب الشيوعي أن يبقى في حلفه مع نظام مايو لفترة أطول، لكنا رأينا أكثر وأكثر من "السكوت عن الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان".. هذا علاوة على أن عبارة "السكوت عن الانتهاكات" هي من باب التصوير للنفس أنها لم تشارك في الفعل وإن سكتت عنه، وهذا لا ينطبق على مواقف الحزب الشيوعي في فترة تحالفه مع مايو.. أما علاقة الحزب الشيوعي السوداني بالانقلابات وانتزاع السلطة، فهي لم تبدأ مع مايو، ولم تكن 19 يوليو إلا هزة عنيفة جعلت الحزب يفكر أكثر من مرة في أي مغامرة أخرى من نفس الشكل.. لقد أيد وشارك الشيوعيون من قبل مايو في انقلابات عسكرية فاشلة لإسقاط الفريق عبود في مارس 1959، وفي مايو 1959، وفي نوفمبر 1959 [9].. لسنا بصدد انتقاد الموقف التكتيكي للحزب الشيوعي من هذه الانقلابات الآن، ولكن لكي نشير في الأساس إلى أن الموقف الأخير الذائع المزعوم للحزب الشيوعي في عدم تأييد إسقاط السلطة عن طريق الانقلاب العسكري ليس نتيجة جهد فكري متزن، وإنما نتيجة دروس وعبر متكررة اضطر الحزب لتجرع مراراتها عبر تاريخه بسبب إصراره على جدوى العمل العنيف في تغيير المجتمع وسياسات الدولة لصالح أجندته.. الحزب الشيوعي لم يكن ناجعا في استخدام منهجه الذي تبناه (المادية الديالكتيكية) لكي يدرك أن طريق الانقلابات العسكرية طريق لا يسوق لسلطة ديمقراطية، ولم يكن خلاف الحزب الشيوعي مع مايو له علاقة بانتهاك الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهو قد شارك في هذه الانتهاكات مع مايو قبل خصومته معها، ومن ثم حاول أن يستعيد يده في السلطة عن طريق انقلاب 19 يوليو.. الحزب الشيوعي لم يؤيد مايو ويشارك فيها للأسباب الصحيحة، ومن ثم لم يغضب عليها ويحاول اقتلاعها للأسباب الصحيحة، وفي هذه وتلك كان الدرس مرا علقما، اضطر معه الحزب لأن يعيد ترتيب مواقفه من العمل العسكري الانقلابي (ونرجو أن لا يسرح الخيال بعيدا ببعض القراء هنا لنحو أن هذا الكلام به شماتة بمن طالتهم يد الإعدام إثر أحداث 19 يوليو.. عليهم الرحمة جميعا، وليحفظ التاريخ ما كان لهم وما عليهم).. لقد أيد الأستاذ محمود محمد طه والجمهوريون نظام مايو عند مجيئه لأسباب تختلف تماما عن تلك الأسباب التي أيده من أجلها الشيوعيون، واليساريون عموما، ولهذا كانت مواقف الجمهوريين مع مايو مختلفة جدا عبر تاريخها من مواقف الحزب الشيوعي معها، فالحزب الشيوعي انتقل من المشاركة الفعلية في مايو، إلى محاولة اقتلاعها بالقوة، إلى العمل السري في معارضتها بأساليب عدة (والعمل السري نفسه لم يكن قد تخلص من مساوئ الإقصاء الفكري للآخر، ومحاولة تحطيمه بشتى السبل، التي ورثها الشيوعيون السودانيون من الحركة الشيوعية العالمية)، أما الجمهوريون فبدأوا بالتأييد السلبي لمايو للمصلحة المرحلية للبلاد، والتي كان قادتها في الجمعية التأسيسية على خطى تقنين دولة حكم طائفي متوج بالهوس الديني وتحت قناع ديموقراطية ميكانيكية لا تغني من الديمقراطية الحقة شيئا، بعد أن ألغوا الديمقراطية عمليا بقرار حل الحزب الشيوعي ومداولة مشروع الدستور الإسلامي، وذلك لأن مايو كانت في بدايتها قد أتت وأيدت، عمليا، الحلول التي كان يدعو لها الجمهوريون قبلها، من إيقاف لمؤامرة الجمعية التأسيسية، وسعي جاد لتقديم حل سلمي محترم لمشكلة الجنوب، وفتح مجال أوسع للمنابر الفكرية الحرة في تقديم طروحاتها، دون إخلال بالأمن العام (والتأييد السلبي يعني أن الجمهوريين لم يشاركوا في أجهزة مايو، بل ورفضوا المشاركة فيها حين عرضت عليهم في بعض المواقع، فبذلك لم تكن للجمهوريين أي فوائد خاصة أو شخصية يمكن أن تشوه نزاهة موقفهم)، ولكن حين بدأت مايو تحيد عن تلك الحلول والسياسات المرحلية المطلوبة (أي أنها بدأت تحيد عن مبادئها التي تبنتها في البداية، وأيدها الجمهوريون مرحليا من أجلها، لأنها كانت نفس ما دعوا له قبل مجيء مايو)، بدأت المعارضة المبدئية من جانب الجمهوريين لسير السياسات في القصر الجمهوري، حتى وصلت إلى المعارضة التامة إثر إعلان قوانين سبتمبر 1983، والتي أدت إلى المواجهة السافرة بين الجمهوريين ومايو التي أدت إلى تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه في يناير 1985، واستتابة أربعة من تلاميذه.. علاقة الجمهوريين بمايو بدأت علاقة أفكار ومواقف مبدأية، وانتهت كذلك، أما علاقة الحزب الشيوعي بمايو فكانت في أصلها نزاعا على السلطة، في جميع مراحلها..
ونأتي لمثال آخر، هذه المرة فيما يختص أهل اليسار السوداني عموما (ومعروف تأثير الماركسية والحزب الشيوعي السوداني على حركة اليسار السوداني عموما، بجماعاتها وأفرادها المستقلين)، وموقفهم- الذي يفترض به أنه مرتكز على تحليل منهجي للواقع- من قضية الخفاض في السودان.. قد يرى البعض هذا الموضوع في غير محله هنا، ولكنه عندنا غير ذلك، لأنه أحد الأمثلة القوية على كيفية التعامل العلمي الرصين مع واقع التراث المحلي في عملية تغيير مثالبه، بدون التعرض غير الحكيم، وبجرعات مدروسة، للعقل الجمعي للشعوب في قضاياها الحساسة، التي تحتاج مبضعا ماهرا، يعالج الجروح دون تشويه الجسد، فهنالك مسائل في تراث الشعوب تقوم على أساسها نواة مجتمعاتهم، كالقوانين والعادات المرتبطة بالعلاقات الجنسية في المجتمع، و لهذا تظهر حساسية المجتمعات تجاه التغيير فيها أكبر من حساسيتها تجاه القضايا الأخرى بكثير، ويكفي أن ننظر إلى تاريخ الغرب الحديث، لنعرف كيف أحدثت الاتجاهات الجديدة، والتي ظهرت تدريجيا، في التعامل مع قوانين الجنس مجتمعيا تغييرا واضحا لصيغ تلك المجتمعات، في كل أنماط تفكيرها وممارساتها، فلم يعد الغرب بعد سجموند فرويد، وويلهيلم رايخ، وسيمون ديبوفوار كما كان، بل ولم يعد العالم كله كما كان (وليس هذا الآن مقام نقد لهؤلاء، سلبا أو إيجابا).. كان موقف ما يسمى باليسار السوداني عموما من هذه القضية، قضية الخفاض، منذ نهايات ستينات القرن المنصرم وإلى اليوم، نحوا إلى التشهير الإعلامي بعادة الخفاض عموما (ولا نعني هنا التعميم المخل [10])، والخفاض الفرعوني خصوصا، بتصوير مساوئها والتشنيع بها، في مواجهة خيال البسطاء من ممارسيها، بأكبر حجم ممكن، محاكاة لصورة التعامل الغربي مع هذه العادات "البدائية" الضارة (وللتعامل الغربي أجندة كان من الأحرى أن يفقه لها أهل اليسار السوداني، خصوصا الماركسيين، وهم الذين ينامون ويستيقظون على تحسس الخطر الإمبريالي المحدق بهم من كل الجوانب).. يروى أنه في بداية ثمانينات القرن المنصرم، قامت جامعة الأحفاد بحملة مناهضة للخفاض، وكان أن أقيم يوم توعية ودراسات عامة للموضوع في الجامعة نفسها، حضره الأستاذ محمود محمود طه، وعاد منه مستاءا من الصورة التي يحاول المثقفون والمثقفات - وجلهم وجلهن من محسوبي اليسار- التعامل مع هذه القضية الحساسة، بصورة تقليدية للأسلوب الغربي المغرض في التعامل مع هذه الظاهرة (وهل يعلم الناس مقدار التسلط الذكوري على جسد المرأة الغربية اليوم، مما تجلى، ويتجلى يوميا، في صور الرقابة الذاتية للمرأة في المجتمع لتطابق مواصفات النظرة التسليعية لها في المجتمع الغربي الذكوري، مما أتى بصور جديدة من الأمراض والآلام الجسدية والنفسية، التي تعانيها المرأة في الغرب اليوم بسبب ضغوط المجتمع على جسدها وأسلوب حياتها وتفكيرها؟)، وكانت هذه هي الحادثة التي خرج إثرها كتاب الجمهوريين عن الخفاض الفرعوني (أكتوبر 1981).. وفي الفترة الأخيرة، في ظل نظام جماعة الإنقاذ، نحى أهل اليسار، داخل السودان وخارجه، إلى تصعيد هذه الحملة ضد الخفاض الفرعوني بنفس الصور الغربية القديمة وأكثر، باستعداء المؤسسات الغربية مجددا للسلطة في السودان بسبب هذه العادة (وليت السلطة كانت هي من اخترعت هذه العادة، أو أنها هي من يمكن أن توقفها)، دون الالتفات والتخطيط لصورة منهجية نافعة في تغيير وعي الشعب بهذه العادة الضارة (طبعا دونما تعميم مخل، كما ذكرنا آنفا، ومع الاحترام للصور الأكثر جدية وحكمة في التعامل مع هذه الظاهرة، سواءا من جانب أهل اليسار أو غيرهم).. يقول الدكتور النور حمد، في التعليق على هذه الصورة من التعامل مع هذه القضية: "واحدة من طرائق اليسار السوداني المستظل بدوحة أدبيات الحزب الشيوعي السوداني في تحريك وإدارة الصراع مع السلطات القائمة. وهي إدارة للصراع تقول تجربتنا فيها، أنها لا تعدو أن تكون سجالا من سجالات تسجيل النقاط التي ينتظر لها أن تتراكم نحو نقطة الإنفجار. ولكن، حين تنعدم الرؤية المقعدة وينقصم عظم الظهر الفكري للفعل السياسي، يصبح العمل في المعارضة السياسية خبط عشواء، و"رزق اليوم باليوم"[11].. من المؤكد أننا هنا لا نشير إلى عدم أهمية هذه القضية، قضية الخفاض، ومواجهتها، ولكننا نشير لصور فقدان الحكمة في التعامل والتحليل المجتمعي الواقعي للبيئة السودانية من جانب أهل اليسار السوداني عموما، إلا فيما ندر.. يقول النور حمد في فقرة أخرى من مكتوبه المشار له أعلاه: "حين ناهض الأستاذ محمود محمد طه، قبل نصف قرن من الزمان، إتجاه السلطات البريطانية لإصدار قانون يحرم خفاض البنات ويجرمه، ذكر، ضمن ما ذكر، حينها، أن الإنجليز ليسوا أحرص منا على صحة بناتنا ومستقبل حياتهن. كما ذكر أن العادات الضارة لا تحارب بسن القوانين وتطبيقها، وإنما تحارب بالتعليم وبالتوعية وبالأخذ الجاد بأسباب النهضة الشاملة. وقال بالتحديد، إن على الإنجليز، إن كانوا صادقين فيما يزعمون، أن يسارعوا بفتح المدارس في كل أرجاء القطر، ودفع القطر نحو النهضة الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، بدل العمل على تجريم الأميين على عادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم" (دخل الانجليز السودان منذ عام 1898، فلماذا لم يثيروا قضية الخفاض بهذه الصورة إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية نفاذ وثيقة الأطلنطي؟).. كان هذا في اطار ثورة رفاعة المجيدة، في العام 1946، والتي فطن فيها الأستاذ محمود ومن حوله إلى الحيلة الاستعمارية في قانونها ذاك، في حين لم يفطن لها بعض المحسوبين على اليسار السوداني إلى اليوم (كالدكتور خالد المبارك، في مقاله "محمود محمد طه وأنصاف الحقائق" في نوفمبر 2002، وهو الذي كان يوما من محسوبي الحزب الشيوعي السوداني، ولكن ذلك لم ينفعه بإرث منهجي يعينه في رؤية الأمر ليأتي بعد كل هذه السنين ويقول أن موقف الأستاذ محمود في ثورة رفاعة كان موقفا رجعيا).. هل قضية الخفاض قضية عاجلة؟ نعم! وهل وضع المرأة في السودان عموما، عبر تاريخه، موسوم بالاضطهاد والتجني؟ نعم! وهل لا نريد أن نقوم بفعل ينهي هذه الأزمة في أقرب وقت ممكن؟ بلى! ولكن الحديث هنا عن السؤال الصعب.. عن "كيف؟"..
في بادرة من بوادر الفهم الأوضح لهذه المشكلة عند محسوبي يسار السودان، نقرأ للدكتورة ناهد فريد طوبيا حين تقول: "إن ما قيل عن الخفاض في العشر سنوات الأخيرة وخاصة من قبل الإعلام الغربي والمنظمات الدولية قد خلق جوا من الحساسية تجاه الموضوع من قبل بعض الجهات المختصة في مجتمعاتنا. فقد تعامل الغرب مع ظاهرة الخفاض وكأنها اكتشاف لوباء خطير قاموا وحدهم بالاستدلال عليه ثم حولوه إلى موضوع الساعة في الأوساط الدولية للمرأة بمساعدة الإعلام الغربي. كما صوروه على أنه دليل واف على بربرية وبشاعة بعض المجتمعات المتخلفة بل أصبح دليل ضمني على تخلف العرب والمسلمين والأفارقة في آن واحد" [12]، وتواصل الدكتورة بعد ذلك في سرد المضار النفسية والجسدية لموضوع الخفاض، مصطحبة أثر الضغط والفهم المجتمعي الذي يجعل من الصعب تغيير هذه العادة في المجتمع بعصا سحرية، سواءا كانت في شكل قانون رادع أو تناول صفوي لا يقترب كفاية من واقع العامة، وأن اختيار ممارسة هذه العادة يكون أحيانا تضحية في سبيل إمكانية البقاء المجتمعي، إذ أن الفتاة تفقد فرصتها في الزواج ومن ثم فرصتها في الحياة في مجتمع لا قيمة فيه للفتاة بدون زواج، فالمشكلة مجتمعية قبل أن تكون طبية، ولهذا لا بد من مواجهتها مجتمعيا وليس طبيا فقط.. تقول الدكتورة: "أما من الناحية النفسية والجسدية (للمرأة السودانية) نفسها وإمكانية نمو الوعي بحقوقها ومطالبها بأعضاء جسدها فذلك صعب دون خلق ذلك الوعي من الخارج. فالمرأة السودانية لم تعرف في تاريخها القريب أي حالة أخرى يمكن أن تكون عليها سوى أن تكون مخفضة".. وفي الخلاصة، تقول الدكتورة: "إذن يجب أن نعود للتفكير في كيفية تغيير مفاهيم العائلة الموسعة والجماعة ولا نكتفي بأساليب الاقناع الفردي العقلاني فهو ضعيف أمام ضغوط الجماعة. يجب أن نوجه مجهوداتنا لخلق لغة تخاطب مع المجتمع ككل وايجاد فوائد لدعواتنا تعود على الجماعة وليس على الفرد فقط ذلك بجانب مخاطبتنا أيضا لعقلية الفرد المثقف المتميز الذي يستطيع أن يساهم في التغيير".. يرد في كتاب الأستاذ إبراهيم يوسف "ثورة رفاعة المجهولة"- والذي تابع فيه تاريخ هذه الثورة المجيدة بالتوثيق والتعليق- حديثا عن البروفيسورة ألين قرونبوم، في كتاب لها عن الخفاض "بعد خمس سنوات من البحث الميداني عن فشل الغربيين في التعامل مع عادات المجتمعات الشرقية مثل عادة الخفاض حين حاولوا (التعامل معها بالقوانين بدون أن أي اعتبار للعوامل الأنثروبولوجية)".. يمكننا القول أن الفرق الزمني بين دراسة الدكتورة ناهد هذه واليوم جعل هنالك صورة مجتمعية جديدة نسبيا، وتتطلب تعاملا مختلفا، كما يمكن أن نقول نفس الشيء عن موقف الأستاذ محمود والجمهوريين في اطاره الزمني السابق (والجمهوريين أساسا إنما دعوا إلى هذا التطوير وساهموا فيه)، إذ أن الواقع اليوم أن الكثير من المجتمعات الصغيرة في المناطق المتحضرة نسبيا في السودان قد استطاعت تجاوز موضوع الخفاض وإدراك مدى ضرره وخطورته، ولكن هذا لا ينطبق بعد على أغلبية سكان السودان في الأقاليم والمناطق البعيدة عن تأثير موجة التوعية المجتمعية، فالمسألة تحتاج مثلا، بجانب حملات التوعية لمضارالخفاض، توفير الخدمة الصحية المناسبة للأسر التي تصر على تنفيذه، حرصا على سلامة البنات ومن أجل تخفيف الضرر إلى أقصى حد ممكن، والتدريج في مسألة المنع القانوني لممارسات الخفاض حتى لا يؤدي العسف القانوني الغير مصحوب بتوعية ملائمة إلى نتائج عكسية لا تخدم مصلحة ضحايا الخفاض.. لماذا مثلا لا نخاطب المؤسسات الغربية المعنية بمثل هذه الشؤون من أجل توفير بيئة وأدوات طبية أكثر صحية في عملية الخفاض، لنمد بها المناطق النائية عن الوعي الحداثي، والتي لا يمكن إيقاف هذا الأمر فيها بالسرعة المرجوة؟ أو ليس هذا من المصلحة المباشرة لضحايا هذه العادة؟ أوليس في هذا استفادة أكثر إيجابية من إمكانيات الغرب مع مثل هذه الأزمات؟ وبهذا العمل يمكن التقرب أكثر لهؤلاء الناس، لتوعيتهم القريبة بسيئات وأخطار هذه العادة؟ (خصوصا وأن الفكرة لها مثيلاتها في القارة الأفريقية، وبدعم غربي، في صور العيادات المتنقلة (Moving Clinics) في الأرياف في طب العيون والسكري وخلاف ذلك من التخصصات العسيرة التواجد في المناطق النائية).. نعلم أن هذا الرأي قد يستدعي ردات فعل متفاوتة، لا نستطيع التنبؤ بمستوياتها، ولكن حسبه أنه طرح يسعى لحل عملي جوهري لهذه المشكلة، ضمن إيمان راسخ بأن هذه العادة إلى زوال بلا شك، ولكن يبقى العمل من أجل إسراع زوالها.. هذا وموضوع الخفاض بلا شك يتطلب تناولا أكبر من هذا، ولكنا نشير إليه هنا في توضيح مستوى الفهم المنهجي القديم الذي قدمه الجمهوريون لمعالجة هذه القضية، وما يمكن أن ينعكس منه اليوم، في مقابل الفهم الذي قدمته معظم مؤسسات اليسار السوداني.. الطريف في الأمر أن هناك صور من أشكال تعامل الماركسية مع الواقع السوداني في قضايا كثيرة تخص المرأة السودانية، فيها صورمن التخلف ورفض التطور عموما، بحجة التركيز على قضايا مجتمعية ثانوية تخص المرأة، في حين أن هذه القضايا الثانوية لا يمكن علاجها إن لم تعالج أصول المشاكل [13]، ولنا لهذه عودة..
وقبل الانتقال إلى باب آخر من أبواب هذه الورقة، ندلف برهة إلى مثال آخر، يخص أهل اليسار السوداني كله أيضا، ومعه اليسار العربي برمته، باعتبار العلاقة التاريخية والمعاصرة بين حركات يسار المنطقة (ونتحفظ هنا على التصنيف "العربي" لهذه الحركات، لأن السودان فيها! واليسار السوداني كان يفترض به، على أقل تقدير، الارتباط بجميع حركات اليسار في المنطقة، أفريقا وعربا، ولكنه آثر التنكر لإحدى أهم مبادئ الاشتراكية وتحيز للعنصر المتوهم، وهذه قضية أخرى لم نرغب سوى في مجرد الإشارة إليها الآن، كما لم نرغب في تناول قضية تصنيف الجمهوريين كأهل حركة يسارية بعيدة عن التصنيف العرفي لليسار في السودان)، ألا وهو فيما يتعلق بمشكلة الشرق الأوسط، والماثلة في فلسطين واسرائيل.. بطبيعة الحال، كان اليسار السوداني، كيسار المنطقة العربية بكل توجهاته، منطويا تحت الراية الناصرية في سياستها مع دولة اسرائيل، من الوعيد الخاوي بـ"إلقاء اسرائيل في البحر" وما سواه من صور الإعلام العربي الرخيص.. وحين دعا الأستاذ محمود محمد طه، في سابقة مخالفة للقطيع في المنطقة، إلى إقامة سلام مع اسرائيل، يقوم على التفاوض المباشر بين العرب واسرائيل، بعيدا عن وساطات وتمثيلات الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في الأمم المتحدة، بدا هذا الأمر لأهل اليسار وكأنه الكفر عينه، أو دونه الكفر! لدرجة أن بعض منسوبي اليسار، في صورة سافرة، نظموا مظاهرات في أماكن محاضرات الأستاذ محمود، يهتفون فيها: "محمود عميل صهيوني"! وفي حين كان العرب يتبعون صلف جمال عبدالناصر، وتنكره لحقائق الواقع، واستناده على دعم الاتحاد السوفيتي في وجه الولايات المتحدة التي استعداها في غير داع وبدون قوة تحميه، مما اضطره اضطرارا إلى الغوص في حضن الاتحاد السوفيتي أكثر وأكثر، في ذلك الحين كان الأستاذ محمود يحاول أن يعلم يسار المنطقة، والجميع، كيفية القراءة السياسية الواقعية السليمة، فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (أو لعلهم لم يستبينوه بعد).. وفي اطار المحاولة لفتح أنظار العرب ويسار المنطقة للمشكل الكبير في تحليلهم، صدر كتاب "مشكلة الشرق الأوسط" للأستاذ محمود، في أكتوبر 1967.. قام الأستاذ في هذا الكتاب بتحليل القضية إلى عناصرها الأولية، وبداياتها التاريخية، ومآلاتها المعاصرة، وأظهر فيها جهل منظومة يسار المنطقة، في اعتمادهم على دعم الاتحاد السوفيتي الظاهر لهم، برغم أن الاتحاد السوفيتي كان من أول وأقوى المؤيدين- مع الولايات المتحدة، كنادرة اتفاق تاريخية بين الحكومتين- لقيام دولة اسرائيل في الشرق الأوسط، في هيئة الأمم المتحدة، وكيف أن العداء الغربي الذي كان للعرب لم يكن بسبب أن بعض الدول العربية، مثل مصر، أرادت أن تصبح اشتراكية، وإنما بسبب "أن مصر، حين أرادت أن تصبح اشتراكية، لم تعرف كيف تصبح اشتراكية بدون أن تصبح ماركسية، وخاضعة للنفوذ الروسى.. بمعنى آخر بدون أن تدخل في حلبة الحرب الباردة، وتصبح عظم نزاع بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية" (الكتاب، الفصل الثالث).. يروي الأستاذ محمود في كتابه هذا سلسلة الأخطاء الناصرية، منذ الطريقة غير المسؤولة التي أمم بها عبدالناصر قناة السويس، مما تداعى بالأحداث إلى استعدائه لقوى لا يملك لها قدرة مجابهة، ومما جعله، بدل أن يتحمل مسؤولية مواقفه كالزعماء الحقيقيين، يرتمي في أحضان الاتحاد السوفيتي كي ينقذه من الورطة التي تورط فيها، دون أن يعي أن الاتحاد السوفيتي هو قوة امبريالية أخرى، لها مصالح نفوذ وسيطرة، فكرية وسياسية، على المنطقة، ومنافسة مع القوى الامبريالية الأخرى، وكيف كان انعكاس هذا الصلف على السياسة المتعسفة لعبدالناصر تجاه قضية اسرائيل، ومن وراءه بقية العرب، في حين كانت الأخرى تبحث عن قنوات للتفاوض في ذلك الوقت مع العرب، مما أدى في النهاية إلى فقد العرب لفرصة حقيقية في تفاوض متكافئ نسبيا في ذلك الوقت، من أجل السياسة المرحلية، وصاروا اليوم، كما هو واضح، يتفاوضون من كرسي الطرف الأضعف، الذي يبحث عن تسويات، رغم ما فيها من المهانة إلا أنها خير من لا شيء.. على العموم فإن هذا القول المبتسر لا يغني بتاتا عن الاطلاع على كتاب الأستاذ محمود المذكور أعلاه، وهو يتناول قضية حساسة ومؤثرة في المنطقة إلى اليوم، مما يوجب على المهتمين بهذه القضية، من الباحثين الجادين، قراءة مثل هذه الآراء التي مضت عليها عقود بدون أن تسلبها فاعليتها لليوم [14].. أردنا فقط، في هذا القول المبتسر، الإشارة الملخصة إلى صورة أخرى من صور الفشل في القراءة العلمية السليمة لعناصر اليسار في المنطقة، ومن ضمنهم، بالتأكيد، اليسار السوداني.. ___________________
[9] الحزب الشيوعي السوداني، سكرتارية اللجنة المركزية، "19 يوليو 1971"- يناير 1996، صفحة 3 [10] ندرك أن التاريخ يحفظ للحركة اليسارية في السودان صورا من التعامل الحكيم، المتنزل لأرض الواقع، مع عادة الخفاض من جانب الرعيل الأول من قيادات الاتحاد النسائي السوداني (الأستاذة فاطمة إبراهيم وأخواتها)، ولكننا ندرك أيضا أن أساليب هذا الرعيل الأول في عملية التوعية لمحاربة هذه العادة الضارة لم تكن هي نفس الأساليب التي تبنتها كافة جهات اليسار، المنتمية للحزب الشيوعي والغير منتمية له، خصوصا الأجيال التي تلت ذلك الرعيل الأول.. [11] د. النور حمد - منبر موقع "سوادن للجميع" الالكتروني (Sudan-forall.org)، في خيط بعنوان "جيوبوليتيك الجسد العربسلامي في السودان"، بتاريخ 30 أبريل 2006 [12] د. ناهد فريد طوبيا، "المشكلات الصحية للمرأة السودانية الناتجة عن وضعها الاجتماعي والثقافي"- مجلة "كتابات سودانية"، العدد السادس، سبتمبر 1995- الصفحات من 43 إلى 44 [13] راجع د. عبد الله علي ابراهيم، "في يوم المرأة العالمي: الماركسية والمرأة في السودان" - موقع "سودان للجميع" الالكتروني، صفحة "كتابات نقدية"، في الإشارة لتأييد الأستاذة فاطمة إبراهيم لقوانين الأحوال الشخصية في المحاكم الشرعية.. [14] كتاب "مشكلة الشرق الأوسط"، ومجموعة الكتب الأساسية الأخرى للأستاذ محمود، موجودة في الموقع الالكتروني للفكرة الجمهورية (alfikra.org)..
| |

|
|
|
|
|
|
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Mohamed Abdelgaleel)
|
الماركسية والميتافيزيقيا
أما "السيئة التي رجحت بجميع الحسنات"، كما عبر الأستاذ محمود، فهي ها هنا.. نواصل من كتاب الأستاذ "الماركسية في الميزان"، إلى قوله: "لكن في حاجة أساسية هي برضو فاتت على كارل ماركس، لأن نظره للمستقبل ما هو كافي.. هي إيه؟؟ هي إنو هناك عقل سابق على المادة.. هذا العقل السابق على المادة نحن دلايل عليه.. المسألة النحن بنقولها هي هكذا: نحن هسع عندنا عقولنا، فإذا كنت أنا عاوز أعمل التربيزة دي- مشيرا إلى التربيزة التي أمامه (تعليق كاتب الورقة)- لابد أن يكون عندي علم بيها، بعدين هذا العلم لابد ليه أن يتركز، وينضج لغاية ما بيه أخصص، وأحدد صورتها.. أول ما فكرت أنا في منصة، مثلا ً، للدار بتنبثق في ذهني صورة ليها.. الصورة دي بتحدد تماماً لما آخذ ورقة وأكتب مقاساتهاـ القرصة مقاسها قدر شنو؟؟ وارتفاع المنصة قدر شنو؟؟ والقوائم حجمها شنو؟؟ بعدين أتحرك في النجارة، وأنفذها.. ثلاث حركات.. العمل النحنا بنشوفه بارز بالصورة دي مسبوق بحركات داخلية.. هذه الحركات هي أنك تعلم، وأنك تريد، وأنك تقدر.. ولذلك ربنا وصف نفسه تعالى فقال: العالم، المريد، القادر.. بالثلاثة أسماء دي ظهر الوجود.. طيب!! المنصة دي، قبل أنا ما أعملها، أنت ماك عارف عنها أي حاجة.. أنت ما عرفتها إلا لما إتحركت الحركة الثالثة، وظهرت.. لما كانت علم، عندي أنا، أنت ما عندك بيها خبر.. يجوز لما كانت إرادة، إذا كان أنا خططتها في الورقة، (ومش شرط أنا دايماً أخططها) لكن إذا كان أنا خططتها في الورقة، بيكون أنت عندك خبر بيها.. أنت لأنك بتشوف صورتها.. ولكنك أنت برضك بتكون عاوز تشوف صورتها دي بارزة في الخشب.. هي هي، قبل ما تكون بارزة في الخشب بالصورة دي، ما كانت في؟؟ حقاً، وحتماً، كانت في!! ولكنها غير ظاهرة لينا نحن.. طيب!! إذا كان الوجود دا، بي صورته دي، نحن إنبثقنا منو كعقول تعلم، وتريد، وتقدر (تنفذ)، هل الوجود دا ما يمكن أن يكون برز عن ثلاث مستويات من الحركة برضو؟؟ هل ما يمكن أن نقول، إذن، أنا فكري دايماً هو محاكاة، وانطباع، لفكر سابق.. النقطة التي تورط فيها كارل ماركس إنما هي إنكاره لي أن يكون هناك فكر سابق.. نحن في إتجاهاتنا دي كلها، الأشياء البي نعملها كلها متأثرين فيها بقوانين خارجية.. هو قطعاً بنسبها للقوانين.. تحول المادة ينسبو للقوانين.. لكن إذا كان نحن، في ممارستنا الطبيعية كل يوم، بنرى إنو، إذا كنا عاوزين نعمل حاجة، ما بتتعمل إذا ما حصلت الحركات الثلاثة دي.. إذا أنت ما علمت بالحاجة البتعملها، ثم إذا أنت ما أردت عملها، ثم إذا أنت ما اتحركت لتعملها ـ ما قدرت ـ إذا ما كان عندك علم، وإرادة، وقدرة ـ لا يمكن أن يكون في شيء يتم.. الخشب دا لو خليتو مليون سنة خشب، ما أدخلت فيه اليد البشرية، بالحركات الثلاثة السالفة الذكر لا يمكن أن يكون تربيزة.. يبقى، من البداهة، إنو المادة النحن بنتكلم عنها قد تكون هي صورة لي عقل أكبر من عقولنا.. و دا هو الحق اللي ذهل عنو صاحبنا.. المادة سابقة للعقل البشري، ولكنها لاحقة للعقل الإلهي.. هذا هو الموضوع الحساس الفيه المفارقة كلها بتاعة الماركسية.. وكل ما يمكن أن تضعه أنت، من حسنات، في ميزان الماركسية، يرجح دا وحده بيها كلها، ويكاد يضيفها إلى كشف السيئات.. إذن القصة هي دي.. ومنها يتضح أن هيغل الذي هو، عند ماركس، فيلسوف حالم، ومثالي، هو، في الحقيقة، أقرب إلى الصواب من ماركس، الذي هو فيلسوف مادي"..
بتحليل "هندسي" مبسط، ومتنزل لأرض الواقع اليومي، في لغة وتفاصيل تألفها كل المستويات العقلية، يوضح الأستاذ محمود هنا أكبر مشاكل الماركسية.. يقول ماركس، في الطبعة الألمانية الثانية من "رأس المال": "إن منهجي الديالكتيكي لا يختلف عن المنهج الهيغلي فحسب، بل هو ضده تماماً. عند هيغل أن حركة الحياة في العقل البشري، أي حركة الفكر، ويطلق عليها إسم "الفكرة" ومن ثم يجعلها مستقلة، هي في نظره خالق الواقع وصانعه، وعنده ما الواقع إلا الشكل الحادث للفكرة. أما عندي، فعلى العكس، فحركة الفكر- الفكرة- ليست سوى انعكاس للحركة الواقعية المادية، منقولة إلى دماغ الإنسان، ومستقرة فيه في صورة الفكر" (ترجمة الكاتب).. لماذا كانت هذه هي السيئة التي عصفت بجميع حسنات الماركسية؟ لانها هي سبب الجمود والعقائدية الغليظة التي اتسمت بها الماركسية عبر تجربتها التاريخية، لأنها، منذ الوهلة الأولى، ترسم تصورا ضيقا لحيز الوجود واحتمالاته الفكرية والعملية، ومناقضا لبداهات الواقع المعاش فيه.. ماركس، بهذه الخطيئة الفكرية، اتخذ من جهله فضيلة، إذ أنه عندما عجز عن إدراك العقل السابق للمادة، ذهب ليجعل العجز فضيلة، فرفض وجود هذا العقل، كما قال الأستاذ محمود.. الماركسية، منذ الوهلة الأولى، تقتضي الإلحاد! لأنها ترفض أي وجود لما وراء المادة، بل ولا يصح فيها أي تفسير لأي ظاهرة طبيعية إذا لم يكن يعتمد الإلحاد ورفض أي تأثير على البيئة المادية من خارجها.. لهذا، فإن محاولات تعديل موقف ماركس من الدين، وتشذيبه وتهذيبه اليوم (كما شاهدنا في بعض نماذج الكتابات المقتبسة أعلاه من منسوبي الماركسية)، لا يلقى غير الإنكار من ماركس نفسه! ولماركس نصوص كتابية كثيرة قيلت في نهاية الميتافيزيقيا وهزيمة الدين.. صحيح أن ماركس قد أعطي لمفهوم الدين قيمة في حركة التاريخ، ولكنه لم يقيمه إلا تقييما ماديا بحتا! وهو، من ثم، ذهب ليقول بأن مفهوم الدين من المفاهيم التي صاحبت البشرية في عهد طفولتها الفكرية، وهو، من ثم، يصبح اليوم من مخلفات التاريخ التي لا يقبلها الواقع المعاصر والمجتمع الشيوعي المرتقب.. ماركس يعتقد، وبثقة زائدة، أنه قد هزم مفهوم الدين هزيمة تامة..
في مقدمة كتابه "نقد فلسفة الحق عند هيغل"، يضع ماركس رأيه الواضح في هزيمة المفهوم الديني بفعل حركة التاريخ [18]، وفي كتابات أخرى، كـ"العائلة المقدسة"، يتابع تاريخيا حركة التطور الفكري التي استطاعت، بزعمه، هزيمة الميتافيزيقيا، وصولا لعهد "علمي" في تاريخ الفلسفة الأوروبية [19].. نورد هنا بعض المزيد من طريقة ماركس في القراءة التاريخية التي جعلته يتورط في هذا التقرير.. في آخر مصدر ذكرناه، يقول ماركس في إحدى الفقرات، عن انتصار الفلسفة المادية في فرنسا: "وفي الحقيقة، فإن سقوط ميتافيزيقيا القرن السابع عشر يمكن أن يفسر بواسطة مادية القرن الثامن عشر فقط حينما تفسر هذه الحركة النظرية- أي مادية القرن الثامن عشر (تعليق الكاتب)- نفسها عن طريق الطبيعة العملية للحياة الفرنسية في تلك الفترة. تلك الحياة تحولت للحاضر المباشر، المتعة والاهتمامات الدنيوية، الدنيوية "الأرضية". ممارساتها الضد ثيولوجية، ضد ميتافيزيقية، تطلبت نظريات مادية، ضد ثيولوجية وضد ميتافيزيقية. الميتافيزيقيا فقدت صلاحيتها عمليا. هنا نحن فقط نحاول أن نشير تلخيصيا للحركة النظرية التي استجابت لهذا الواقع العملي" (ترجمة الكاتب).. إن كان هذا هو منطق ماركس.. إن كان السبب في نهوض الفكر المادي وانتصاره على الميتافيزيقيا في أوروبا هو تحول المجتمع للمادية وتجاهل الميتافيزيقيا، فماذا كان قول ماركس عن المجتمعات التي كان الدين ما يزال فيها فاعلا يوميا، ولم يزل؟ وماذا كان سيقول عن موجة الروحانية والتدين، بصورها ومستوياتها المتعددة، التي عادت تغزو أوروبا والعالم الأول عموما هذه الأيام؟ هل هي عودة للميتافيزيقيا؟ فكيف تكون قد انهزمت وفقدت صلاحيتها إذا ً؟ هل سيعيدنا هذا لأن ماركس لم يستطع قراءة المستقبل بسبب ضيق خياله؟ وهل سيعيدنا هذا لإرهاصات الأستاذ محمود، في قرائته "الواقعية العلمية"، عن سير البشرية المستمر، عبر الماضي والحاضر والمستقبل، على قدمي المادة والروح، بحيث أن تأخر الحالة الروحية، في فترة تاريخية ما، لا يعني اختفائها، وكذا الحالة المادية، وإنما يعني تقديم قدم على الأخرى، كما في حالة المشي، مما يعني أن القدم الأخرى ستتقدم بعد حين؟ وعليه فإنه كما توجد ثورات مجتمعية مادية، فهناك أيضا ثورات روحية، مستمرة ومتفاعلة مع الأخرى، وبشهادة التاريخ؟
ورغم تقريره العام لكون أن حركة التاريخ المجتمعي هي حركة غير قابلة للتغيير البشري، وإنما على البشر أن يتفاعلوا معها ويعوها ليأخذوا موقعهم كانعكاس لصورة الوعي فيها، حتى يتخلصوا من حالة الغربة، إلا أنه يعود ويقرر مرات أخرى، في مناسبات متفرقة، أن السرعة والبطء في حركة التاريخ تعتمد على الحوادث (accidents)، ومن ضمنها حوادث الشخصيات التي تتولى القيادات الرمزية لمجتمعات العصور [20].. أولم يكن قد قال أن هذه "الشخصيات" لا تتشكل بغير انعكاسات الواقع عليها؟ وبالتالي فليس هناك حوادث خارجة عن ما تفرضه حركة الواقع؟ أم أن التصور الضيق لعلاقة الإنسان ببيئته والوجود عموما لم يسعفه هنا في فهم هذه المعضلة الفلسفية؟ أم لعله المعيار القديم الذي لا يخيب أبدا، وهو أن أي فلسفة ناقصة في تصورها للوجود لا يمكن أن تكون متسقة مع نفسها مهما حاولت؟ هذا علاوة على أن أصل منهج ماركس، المادي الديالكتيكي، هو المنهج "الديالكتيكي" لهيغل، والذي هو منهج ميتافيزيقي، في تصوره وأساليب تحليله، ولهذا لم يستطع ماركس، رغم ماديته العارمة، أن يقضي على الصورة الميتافيزيقية في فلسفته.. أو ليست "الحتمية التاريخية" مفهوم ميتافيزيقي الأصل؟ بلى! عند التدقيق.. وأليست قيم التضحية بالمصالح الشخصية الآنية الضيقة في سبيل مصلحة الجماعة البشرية مستقبليا، كما هي عند الماركسية، قيمة ميتافيزيقية الأصل والفصل، لم يفعل ماركس سوى أن استعارها كما هي من الأخلاقيات المعتمدة على التصور الميتافيزيقي؟ وفي مفارقة خفية أخرى، يصطلح ماركس على المجتمعات قبل مرحلة الشيوعية بـ"مجتمعات ما قبل التاريخ" [21]، في إشارة منه لأن التاريخ الحقيقي للمجتمع الإنساني إنما يبدأ بالمجتمع الشيوعي القادم.. أليست هذه هي نفس طريقة التفكير التي عابها ماركس عند هيغل والميتافيزيقيين عموما؟ أليست هي النظرة لأن الإنسان، عبر التاريخ، في سيرورته إنما يهدف للوصول لغاية عليا، غير متوفرة الآن، ولكن الإيمان بها وبقدومها ضروري؟ هل أخطأ، ياترى، القائلون بأن ماركس إنما استعار يوتوبيا الجنة، كما هي عند الميتافيزيقيا، ليضفي عليها تقاطيعه الخاصة، ومن ثم يصنع دينه وميتافيزيقيته الخاصة ويتنكر لمصدرها الذي استلهمها منه؟ ماركس، بوعي أو بدون وعي، قد استخدم التحليل المادي ليصل عبره إلى "مثاليته" الخاصة، ولم ينس في طريقه ذاك أن يحاول إقصاء المثاليات الأخرى بأن ينعتها بـ"المثالية"، بمعنى "عدم الواقعية والعلمية".. وهيهات..
هذا الإشكال في المادية الماركسية لم ينطل دوما على أتباع ماركس، عبر تاريخ قياداتهم الفكرية، وغير القيادات، لدرجة جعلت موجة اعتناق الشيوعيين السودانيين للطرق الصوفية- والتي تجلت بغزارة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي- تسترعي انتباه أحد الأسماء معروفة في حقل الدراسات الاجتماعية السودانية [22].. هذا يحسب لهم، لا عليهم، في جملته، لأن إدراك وجود خلل ما هو أول مراحل حله، وإن لم يكن هذا الحل موجودا عند صور التصوف والتدين التقليدية.. الدكتور والتر رودني، في تناوله لمفهوم الدين، وهو يقوم بتحليل مبسط للعناصر الأساسية لثقافة المجتمعات الأفريقية قبل الاستعمار، يقول، عموما، عن الفلاسفة الدينيين أنهم "تخصصوا في محاولة شرح الأشياء التي تقع خارج إطار الاستيعاب المباشر" [23] (ترجمة الكاتب).. وهذا وصف، رغم قصوره، إلا أنه أكثر تواضعا معرفيا مما هو عند ماركس، وبالتالي أكثر "علمية" منه (حين تكون إحدى أهم أسس المنهج العلمي تقتضي أن لا ننكر الأشياء لمجرد أننا عجزنا عن إدراكها).. والدكتور رودني، بحكم دقة دراسته للوضع الاجتماعي الأفريقي، عرف أنه لا يمكن أن يتعامل مع تاريخ وحاضرالدين في القارة الأفريقية كما تعامل معه ماركس في أوروبا، وأن نظرة ماركس الأوروبية، في سياقها الزمكاني، للدين لا تنطبق على بقية أرجاء العالم، ولنا لهذه النقطة عودة.. ___________________
[18] كارل ماركس-"نقد فلسفة الحق عند هيغل"، 1843(Critique of Hegel’s Philosophy of Right)- مطبعة جامعة كامبريدج، 1970، في مقدمة الكتاب.. [19] نفس المصدر 2- الصفحات من 25 إلى 31 [20] نفس المصدر 2- صفحة 44 [21] نفس المصدر 2- صفحة 50 [22] د.حيدر إبراهيم علي، "اليسار جنوبا.. السلفية شرقا" - جريدة الصحافة، ديسمبر 2006 [23] د. والتر رودني (Walter Rodney)، "كيف قوضت أوروبا تنمية أفريقيا"(How Europe Underdeveloped Africa)- دار السلام، 1973، في الفصل الأول من الكتاب..
| |

|
|
|
|
|
|
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)
|
ولنا بعد هذا أن نتسائل، كما تسائل بعض الماركسيين أنفسهم عبر تاريخهم (ولنا أمثلة مذكورة أعلاه في اقتباساتنا).. أين كانت مصلحة الماركسية في تسفيه الجانب الثوري والأخلاقي في الدين؟ وما هو البديل الذي قدمته؟ ألا يستطيع قراء التاريخ، ماركسيين كانوا أم غير ذلك، سودانيين أم غير ذلك، أن يروا بوضوح إعلاء قيمة الجانب الثوري من أجل العدالة في الدين؟ ألا يقرؤون، بالنسبة للإسلام مثلا (وليس الإسلام وحده)، نصوصه المقدسة الكثيرة، والمتبوعة بالممارسات التجسيدية التاريخية العديدة لرموزه عبر التاريخ، كيف هي قيم العدل والتواضع والتحريض على نصرة المظلومين وذم الاستحواذ على الثروة في الإسلام؟ نجد في القرآن الكريم آيات مثل: ((وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا))، وأيضا: ((يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم))، وأيضا، في قصة لسيدنا داوود، تحدث عبرتها عن نفسها: ((وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم فقالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب))، هذا علاوة على أن الترابط الاقتصادي في المجتمع مدعوم في الإسلام بفرض الواجب الديني، وهو واجب مقرون دوما مع الواجبات الدينية الأساسية، كالصلاة، كقول الآية الكريمة: ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير))، وهذا غيض من فيض، كما أن الخليفة الأول أبابكر الصديق لم يفرق بين تارك الصلاة وتارك الزكاة في حروب الردة، حين قال قولته الشهيرة: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال.. والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه"، فهل كان أبوبكر هنا واعيا لقيمة نواة الاشتراكية في الإسلام، وهي الزكاة وحق الجماعة في مال الأفراد، وأن التفريط فيها تماما كالتفريط في الأركان التعبدية للدين؟ تشهد الكلمات والمواقف، لأمثال هؤلاء النفر الكريم، لنفسها بنفسها.. والقائمة تطول، ولكن لنأتي الآن لأقوال لنبينا الكريم محمد، حين قال: "يا آل محمد.. أنتم أول من يجوع وآخر من يشبع"، وحين قال: "إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد"، وحين قال: "كان الأشعريون إذا أملقوا، أو كانوا على سفر، فرشوا ثوبا، فوضعوا عليه ما عندهم من زاد، فاقتسموه بالسوية، أولئك قوم أنا منهم وهم مني"، وحين قال في حجة الوداع لرجلين أتياه وهو يوزع الصدقة، فسألاه، فنظر إليهما ليتأكد من حاجتهما، ثم قال: "إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب"، وحين قال أيضا: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".. وهناك أقوال كثيرة، منها ما للإمام علي: "لو كان الفقر رجلا، لقتلته"، وما إلى ذلك.. هذا إضافة إلى التجسيد الجليل لهذه المعاني، في حياة النبي وفي حياة كبار أصحابه وبقية رموز الإسلام عبر التاريخ، من السادة الصوفية ومن شابههم.. هل أهمل الدين الجانب المادي في الرحلة البشرية؟ لا يقول بذلك إلا ناقص نظر.. الدين، ببساطة، لا يتجاهل الجانب المادي في الحياة، في سيرورتها نحو كمال المطلق، ولكنه لا يقف عنده فقط، لأن قيمة الإنسان عنده أكبر من أي قيمة مادية مجردة من المعنى الجوهري للوجود، في مشوار السير نحو الحقيقة التي هي قدر الإنسان، لأنها هو، منها صدر وإليها يعود، ولهذا قال سيدنا المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".. كما أن الدين، رغم دعوته الواضحة والقوية للعدالة والمساواة الكاملة بين البشر، إلا أنه أيضا أعطى اعتباره لسيرورة التاريخ، ولم يسع لإلغاء التجربة التاريخية للبشر، والتي بها يكون تعليمهم معاني وجودهم أكثر وأكثر، ولهذا كان يتنزل دوما بصور تشريعية تستوفي حاجات السياق الزمكاني، بلا وكس أو شطط، ومن ثم يبقي الأنظار والأخيلة مفتوحة للمستقبل واحتمالاته (ونحن هنا لا نتحدث عن الدين الأصولي- مصدر الهوس الديني- بالتأكيد، وإنما عن القيمة العملية والمعنوية في الدعوة الإنسانية الكلية الماثلة في الدين [24])، مما يدل على أنه فكر تطوري ومستمر، حين يتعرض له الوعي المدرك للأصول القائمة وراء ظواهر الشكول.. الأفكار الإنسانية عموما، سواءا كانت دينية أم غير ذلك، لا تحدد مدة صلاحيتها كالأطعمة المعلبة (حسب تاريخ الإنتاج)، وإنما بقدرتها على المواكبة وتقديم الحلول بصورة مستمرة لكل متشكل جديد، في حيواتنا الفردية والمجتمعية..
في مقال له عن أزمة اليسار والسلفيين في السودان والمنطقة عموما، يقول الدكتور حيدر إبراهيم، كتلخيص لنقده للحركات اليسارية والدينية: "مازال المستقبل لليسار لسبب بسيط هو أن المستقبل للاشتراكية والحركات الدينية والسلفية لها دور هام هو التأكيد على الجانب الاخلاقي في الاشتراكية ولكنها غير قادرة ولا تدعي انها تسعى لتحقيق الاشتراكية في الشرق" [25].. حتى عندما ينتبه معظم اليساريين السودانيين، ماركسيين وغيرهم، لأهمية الدين، فإنهم يأتونه ليطرقوا بابه الذي أغلقه الزمان، أي الباب السلفي، بكل صور الفهم السلفي.. فهل، يا ترى، لم يسمع الدكتور حيدر بحركات دينية داعمة للاشتراكية سياسيا وعمليا في السودان؟ فعلام إذاً يشير لأن الحركات الدينية "والسلفية" لها دور هام هو "تأكيد الجانب الأخلاقي في الاشتراكية" فقط؟ هل للحركات السلفية حقا أهمية تستوجب وجودها في الشرق؟ وهل حقا لا تملك أي حركة دينية- بل "ولا تدعي"- القدرة و السعى لتحقيق الاشتراكية في الشرق؟ هل لا يعلم الدكتور حيدر، كباحث سوداني ذي باع كبير، عن الحركة الجمهورية شيئا؟ فإن كان يعلم عنها (وهو الأرجح، لكثرة القرائن)، ومن ثم لم يذكرها، أو ظن أنه يذكرها ضمنيا مع الحركات الدينية "والسلفية" التي لا تقدر ولا تدعي السعي من أجل الاشتراكية، فهذه مشكلة كبرى، آن لأهل اليسار أن يتيقظوا لها، ويحاولوا احترام الإنتاجات الفكرية السودانية التي أثبتت رجاحتها ورصانتها عبر السنين، فكرا وعملا.. أما إن كان الدكتور حيدر لا يعلم عن الحركة الجمهورية، فهذه بطبيعة الحال مشكلة أكبر، ولكننا نستبعدها تماما.. وأيضا ماهي المصلحة في تهميش الجانب الأخلاقي من الاشتراكية، كجانب ثانوي في مقابل أدوات السعي "العلمي" لتحقيق الاشتراكية، كما جرى وصف الدكتور حيدر في مقاله هذا؟ أوليست الفكرة الاشتراكية نفسها فكرة قائمة على تصور أخلاقي، أولا وأخيرا؟ أوليست الأساليب الناجعة في توطين الأخلاق العليا في المجتمع، أساليبا علمية، ذات أهمية أساسية؟
وليس الدكتور حيدر وحده في كشف هذه القراءات المؤسفة للواقع السوداني عند أعلام اليسار السوداني، فقد قرأنا قبل فترة ليست بالبعيدة، مقالات الدكتور عبدالله علي إبراهيم التي نشرت في جريدة الرأي العام في أبريل من العام 2003، والتي دعا فيها لتحكيم الشريعة الإسلامية على رؤوس الأشهاد! وأشفع دعوته بعذر أقبح من ذنب، في قوله: "أريد في المقالات التي أنشرها متتابعة أن أرد الشريعة الى مطلبها الحق أن تكون مصدراً للقوانين في بلد للمسلمين. ولست أرى في مطلبها هذا بأساً أو ظلماً لغير المسلمين. فهي عندي مما يسع التشريع الوطني العام ويهش له متى خلا دعاتها من نازعة "الوطنية الاسلامية " وبذلوا سماحتها للوطن لا يفرقون بين أهله متوسلين إلى ذلك بحرفة القانون عارضين اجتهادهم من خلال مؤسسات التشريع بالدولة. ولست أدعي علماُ فيما يجد غير أنني أتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وما تلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الأسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها. وهي ما أسميه التقليد الشرعي السوداني 1898-1983".. هنا، أساء الدكتور للشريعة الإسلامية مرتان، مرة حين ظن أنها مناسبة لأن تكون مصدرا للقوانين في "بلد المسلمين" في هذا الزمن، وأن ذلك ليس فيه "بأسا أو ظلما لغير المسلمين"، وهذه فرية عظمى، لا تدل سوى على سوء وقصور فهم بالغ للشريعة الإسلامية، ومرة حين نسب الشريعة، وألصقها أوسمة شرف بصدور "قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وما تلاه"، ومثل هؤلاء هم أبعد الناس عن سماحة وحنكة الشريعة الإسلامية، ولو في صورتها التي كانت في القرن السابع الميلادي، وكانت وافية لحاجات المجتمع فيه.. وحين يظن المرء أن الدكتور لا يمكن أن يصل لتحليل أكثر بؤسا من هذا، يضيف بالمدافعة عن القضاة الشرعيين في مواجهة حركة إسلامية تنويرية، لقيت الأمرين- من التآمر السياسي والتشويه الفكري- على يد فئة القضاة الشرعيين هذه، وهي الحركة الجمهورية.. يقول الدكتور في إحدى تلك المقالات: "وزاد الفكر الجمهوري في جفائه لهذا التقليد الشرعي بجعله هدفاً لحملات نقد وتنقيص. وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السريّة في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين أن يلطفوا عباراتهم في نقد القضاة مع علمي بمحنة الجمهوريين وما نالهم من القضاة والوعاظ في المساجد من أذى وترويع. ومغاضبة الجمهوريين لم تقع من جهة إحسان ذلك التقليد الشرعي أو إساءته بل من إرث مواجهة سياسية راجعة الى أيام الحركة الوطنية. فقد صنف من ظنوا في أنفسهم مجاهدة الاستعمارمن أمثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والأعيان وزعماء القبائل والطوائف بأنهم من أعوان الاستعمار. وهذا كلام جاز طويلاً غير أنه خاضع للنظر والمراجعة الآن".. هكذا يضع اللوم على الجمهوريين في صراعهم مع أمثال القضاة الشرعيين والزعماء الطائفيين (ولا أدري من أين أتى بـ"زعماء القبائل")، ولا نقول "يلوم الضحية" لأن الفكرة الجمهورية وأهلها لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام جور القضاة الشرعيين والطائفية، بل واجهتهم وعملت على هزيمتهم فكريا بصورة لم يجدوا عنها مناصا، ولكننا لا نملك سوى أن نتعجب ونأسى لمثل هذا المستوى الذي وصل له بعض أعلام اليسار كالدكتور عبدالله، من مجافاة للتاريخ الموثق وقرائن الواقع، وتملق لقوى الظلام على حساب القوى المستنيرة التي بذلت نفسها وعصارة جهدها الفكري من أجل الشعب السوداني، قولا وعملا، وعلى العموم فقد أجاب الدكتور عمر القراي على تلك المقالات للدكتور عبدالله بصورة وافية، تغنينا عن مزيد تناول هنا، وتكفي الإشارة لها [26].. ولا ننسى هنا أن نشير لمكتوب أشرنا له مسبقا في هذه الورقة، في حديث للدكتور عن "الماركسية والمرأة في السودان"، يمدح فيه مواقف للأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم، لتأييدها لقوانين الأحوال الشخصية للمحاكم الشرعية في السودان، واعتمادا على آراء الشيخ محمد عبده [27].. يقول الدكتور في طرف من ذلك المكتوب: "وقد وافق هذا ما كنت أقرأه لها منذ أيام في محاضرتها التي ألقتها أمام طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم في 1980 وعنوانها "حول قضايا الأحوال الشخصية." وقد انتبهت إلى عنصرين من عناصر منهجها التأصيلي. فقد بدأت بقانون الأحوال الشخصية (الموروث وليس الصادر عن هذه الحكومة بالطبع) ولم تجد ما تعترض عليه أصلاً غير بيت الطاعة. أما في بقية المواد فهي إما استحسنتها وتركتها علي حالها مثل قوانين الحضانة أو ما طالبت أن يتم أمام قاض مثل الطلاق وعقد الزواج وتعدد الزوجات وبشروط دقيقة. وقد وجدت فاطمة في بعض التشريعات الشرعية أثراً باقياً من نضالها هي نفسها ونضال الاتحاد النسائي مثل المنشور الشرعي رقم 54 لعام 1960 الذي كفل للفتاة الاستشارة حول من تقدم لزواجها".. إن الأثر الحقيقي لنضال النساء السودانيات- والأستاذة فاطمة من أعلامهن دون شك- هو في تقديم نقد مواجه ومؤسس لعدم أهلية قوانين الأحوال الشخصية لقامة المرأة السودانية اليوم، والمرأة المسلمة عموما، وليس في المساعدة على تمديد عمر هذه القوانين المذلة للمرأة وللمجتمع كله، وهذه قضية أصيلة، لا يمكن تجاوزها بحجة أن الأولوية تذهب لقضايا حقوق المرأة في بيئة العمل، كما حاول أن يفهمنا الدكتور في مقاله، إذ أن هذه المشكلة التشريعية هي الأساس الذي قامت عليه التفرقة المجحفة تجاه المرأة في حقول العمل، وحقول التعليم أيضا، وحتى في بيتها وبيئتها الأسرية والمجتمعية (إذ هل يفترض بالمرأة أن تكون مرأة عاملة- بالمعنى العرفي الناقص لمعنى العمل- حتى يكون لها احترامها وحقها القانوني والمجتمعي، وإلا فلا؟).. هنا نريد أن نشير أيضا لصورة مؤلمة في تناول أهل اليسار السوداني لمشوار نضال المرأة السودانية، إذ أن تعمد تهميش دور الحركة الجمهورية والأخوات الجمهوريات يفوح بصورة يصعب معها حسن الظن، إذا أردنا أن نحيل هذا التهميش إلى السهو أو قلة المعلومات والعدة المعرفية، وهو عذر- وإن كان صحيحا في بعض الأحيان- لا ينهض كثيرا، وليس فيه مصلحة أو داعي فخر لأهل اليسار السوداني، نساؤه ورجاله.. هنا نشير، بصورة أدق، إلى كتاب الدكتورة فاطمة بابكر، بعنوان "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة"، والذي اختزلت فيه تاريخ منجزات ونضال المرأة السودانية في تاريخ الاتحاد النسائي السوداني، ولم تتطرق فيه للأخوات الجمهوريات إلا تطرقا عابرا، أشفعته بعرض سيرة مخلة لتاريخ الحركة الجمهورية ومواقفها التاريخية في إحدى صفحات هوامش فصول الكتاب.. وعلى كل حال فنحن نؤكد، أن الحركة التنويرية السودانية، في عمومها، لا يمكن لها النهوض المشرف من أجل نصرة المرأة السودانية، والرجل السوداني، ما لم تولي الحركة الجمهورية ما تستحقه من الاهتمام والدراسة الجادة، والالتفات لطروحاتها التي أثبتت مآلات الزمن وجاهتها وبعد نظرها، وأثبتت التجربة قوة أهلها في دفع قضايا مصالح الشعوب للأمام، على مستوى السودان، والمنطقة، والعالم..
لقد اخترنا لهذه الورقة عنوان "من أجل الاشتراكية"، وفي قرب ختامها، نريد الإشارة لسبب هذا الاختيار.. يقول الأستاذ محمود، في ختام محاضرته الواردة في كتابه سالف الذكر: "الاشتراكية موش هي الماركسية.. لكن الماركسية مدرسة من مدارس الاشتراكية.. ودي تقال لمصلحة الأخوان الماركسيين أنفسهم، لأنهم هم بعتقدوا، وبكلموا الناس بأنك إذا أنت كنت عاوز تكون اشتراكي لازم تكون ماركسي.. الحقيقة التي نحن نريدها أن تكون واضحة هي أن الاشتراكية إنما هي مصير الإنسانية بكرة.. ما في ذلك أدنى ريب.. لكن الاشتراكية لا يمكن أن تحقق إلا إذا انهزمت الماركسية".. ___________________
[24] في سبيل تفصيل هذا الأمر، نقترح قراءات مثل ورقة "التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها"، بمناسبة الذكرى العشرين لاستشهاد الأستاذ محمود محمد طه، يناير 2005، قصي همرور- مجلة "احترام"، العدد الأول، موقع "سودان للجميع" الالكتروني.. [25] نفس المصدر 22 [26] د. عمر القراي، "الدين ورجال الدين عبر السنين"، مجموعة مقالات- نشرت في صحيفة سودانايل في 2003، وموجودة الآن في موقع الفكرة الجمهورية الالكتروني، في قسم الكتابات.. جدير بالذكر هنا أن الأستاذ القراي كان بصدد نشر كتاب مؤخرا، وهو عبارة عن مقالات مجموعة، مع التقديم لها، في نقد كتابات، منها الداعمة للتوجه الإسلاموي في السودان (من أقلام إسلاموية، محلية وعربية، وأخرى يسارية!)، وكانت من ضمنها مجموعة المقالات هذه في الرد على الدكتور عبدالله علي إبراهيم، غير أن الرقابة في السودان لم توافق على نشر الكتاب! [27] نفس المصدر 13
| |

|
|
|
|
|
|
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Omer Abdalla)
|
عزيزي الاستاذ عمر كثير شكري
في إشارتك لبعض التهريجات التي تجري في المنبر هذه الأيام، لعلها سانحة لأشير لأمر لاحظته بوضوح عبر سيرورة هذا المنبر، وهو ضعف الذاكرة المنبرية.. رغم أن هنالك دعاوي كثيرة في حق الفكرة الجمهورية، وقضايا أخرى، قيلت هنا من قبل، وتم الرد عليها وتبيان مرضها وقصورها الإدراكي وتزييفها للحقائق، إلا أن نفس هذه الدعاوي تعود في ثوب لغوي جديد، بعد فترات قصيرة متباعدة، وكأن شيئا لم يكن، ومن ثم تجد نفس الصخب من جديد..
برغم أن الذاكرة المنبرية تحفظ الكلمات والأحداث لسنين مضت، بحذافيرها، إلا أنها ضعيفة وانتقائية جدا حين تتعلق بالعنصر البشري فيها، وهو -العنصر- كاتب الكلمات والنقاشات وناشر الأحداث وقارئها، وهذه إشكالية ما عرفنا لها حلا أو مبررا لليوم..
ولك ودي وإجلالي..
| |

|
|
|
|
|
|
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)
|
ليت قومي يعلمون
لقد أشرنا من قبل هنا إلى ما ورد في مجلة "قضايا سودانية"، من دعوة للالتفات للتراث واستنباط اشتراكية من واقع سوداني.. نشير هنا لانتقاد الأستاذ محمود للحركات الثورية الماركسية في أفريقيا من أن الأجدى لها كان في العودة للموروث الأفريقي في نظم الحكم قبل الاستعمار، بدل الشخوص لماركسية الاتحاد السوفيتي- والصين، بدرجة أقل- التي لا تلائم نظمها نظم المجتمعات الأفريقية بسبب الفرق الواضح في صيغة المجتمع وفي علاقات الإنتاج.. تعلم ماركسيو أفريقيا الدرس، وما زالوا، شيئا فشيئا، عن طريق مشوار طويل من التجارب والإخفاقات التي كلفت خسائرا مادية ومعنوية، عسيرة الإحصاء، على عاتق القارة التي لم تكن بحاجة للمزيد من الخسائر وضياع الزمن.. نحن هنا، بطبيعة الحال، لا نتهم هذه الحركات الثورية، في مجملها، بسوء النية، بل نعرف لها أهدافها النبيلة والمخلصة التي قامت من أجلها، والتي تجسدت في كثير من تجارب أهلها، واضمحلت وتنكرت لتاريخها، بفعل السلطة أحيانا كثيرة، في تجارب آخرين منهم.. لكن من المعروف أن الهدف النبيل لا يكفي لإحداث التغيير المطلوب للأفضل في أوضاع المجتمعات، ما لم يتوفر على الفكرة الوجيهة.. لنا مثال ساطع في دولة الهند، التي استطاعت توليد ثورة وطنية مرتكزة على التراث الهندي العريق، بقيادة المهاتما غاندي، فأضحت بذلك مثالا لأكبر حالات النجاح السياسي لدولة من دول العالم الثالث الخارجة من نير الاستعمار.. ولدت دولة الهند المستقلة الحديثة، دولة محترمة الكيان والتأسيس، بسبب أن تاريخ نضالها ضد الاستعمار كان مركوزا على قيم هندية، جعل الشعب الهندي بعد جلاء الاستعمار يحترم تلك القيم ويبني عليها، مما جعل الكيان الوطني متماسكا، ليتولى دفة الحكم المستقل بنجاح نسبي متفوق بصورة كبيرة على بقية تجارب الدول المستقلة حديثا.. نركز هنا على عبارة "بنجاح نسبي"، إذ أننا بالطبع لا نغفل هنا عن الخسائر التي أصابت الحركة الوطنية الهندية في مشوار استقلالها وبعده، من انقسام باكستان وصور الآلام الاقتصادية والعنصرية التي ما تزال الهند تناهض فيها، ولكن يكون من قصور النظر أن لا نرى تفوق مثال الهند- رغم كل مثالبه التي لم يتجاهلها الهنود، وما زالوا يعملون على تجاوزها بخطى محترمة- على الأمثلة الشبيهة.. هناك مقولة محبذة لبعض الماركسيين ومن لف لفهم في عنت المكابرة، وهي أن نموذج الهند إنما كان شذوذا عن القاعدة، وبالتالي فهو لا يصلح كقدوة في أسلوب النضال.. في الرد على هؤلاء نقول: وأين هي نماذجكم لهذه "القاعدة" التي كانت الهند شذوذا عنها؟ هل كوبا؟ هل الصين؟ هل الجزائر؟ إذ لا يقول بذلك إلا من حجبت عنه الكثير من الحقائق.. فهذه الأمثلة- وحتى الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي عموما، لدرجة ما- لا تقارن بمثال الهند، وذلك لأن تاريخها الموثق من الانقسامات والتنكر لتاريخها النضالي القصير- عن طريق تحطيمها لرموزها النضالية وسياساتهم بنفسها- ليس ببعيد عن مجال الرؤية، لمن أرادها، وحين تكون الصين أقرب مثال لما يشبه النجاح الهندي، خصوصا في الفترة الأخيرة (عند الاعتبار الاقتصادي أكثر)، فيكفي أن ننظر لصورة الشعب الهندي وجاره الصيني، من التجربة الحقيقية في الممارسة الديمقراطية، دون الخوف من عسس السلطة وأساليب قمعها الرهيبة، علاوة على أن سياسة الصين الحالية، الداخلية والخارجية، تختلف كثيرا عن مبادئ سياسة مؤسسي دولتها الحديثة، بصورة مفارقة ومتنكرة لها (ويمكننا النظر حتى لصور النقد الصيني الإعلامي لتلك الحقبة الماضية، في هامش الحرية الإعلامية التي تنفسها الشعب مؤخرا، وكيفية تركيزها على نقد آلالام تلك الحقبة الماضية، ولنا متابعة شخصية لهذا الأمر عن طريق الثورة السينمائية الصينية الحديثة)، ولولا هذا التغير السياسي الواضح لما حازت الصين على قوتها الاقتصادية المهيبة اليوم، وهي ماتزال تجد نفسها مضطرة كل يوم لتعديل سياساتها أكثر من أجل عدم كبح جماح هذا النجاح.. فنجاح الصين، إذنً، إنما يعزى لتغيير سياساتها الماضية وليس لاستمرارها، رغم إدراكنا لضرورة المرحلة التاريخية الماوية (مرحلة ماوتسي تونغ)، وعلى العموم فما للماركسيين اليوم وللصين الماوية؟ وقد تنكروا لها منذ حقب بعيدة؟ وكل هذا، كما ذكرنا، في سبيل المقارنات النسبية، فالحق أن الصورة التي ننشدها للدولة الاشتراكية الديمقراطية لم تولد بعد، وإنما هناك خطوات تقدمت، في ميادين متعددة حول العالم، نحوها، وللمشوار بقية لا يستهان بها..
في هذه الورقة، لم نهدف للجنوح للنقد الهدام للماركسية والماركسيين السودانيين، أو لليسار السوداني عموما، إذا تصور البعض ذلك، فنحن، بكل تأكيد، نعي ضرورة المرحلة التاريخية التي خدمتها الماركسية عالميا وخدمها ماركسيو السودان ويساريوه محليا ومنطقيا، ونعي محاسن الماركسية التي ليس من مصلحة البشرية تجاهلها، ونعي أن الإرث الماركسي قد أصبح اليوم جزءا لا يتجزأ من ثقافة عصرنا بكل أوجهها، وخصوصا الثقافة الاشتراكية، بكافة مدارسها التي تتفق أحيانا وتختلف أحيانا مع الماركسية ومع بعضها، ونعي أن العالم بعد ماركس وتيار الماركسية، بكافة تجلياته وشخوصه، لم يعد كما كان قبلهما.. هدفنا هنا هو المساهمة في عملية النقد البناء لسيرورة التاريخ، من أجل تصحيح المواقف الآن وفي المستقبل.. وكما هو واضح، فإن من أهم ما توجهنا إليه في هذه الورقة هو لفت النظر لمنجز فكري أصيل ومتميز من تراثنا السوداني، لم يوليه يساريونا حقه من الانتباه والاعتبار، وهو المتمثل في المدرسة الفكرية الجمهورية، برائدها الأستاذ محمود محمد طه.. كيف يمكن لحركتنا الوطنية أن تبني أسس دولة متمدنة حديثة، ديمقراطية اشتراكية، تستوعب طاقات ورؤى الشعب السوداني المتنوعة، لتخلق بها وطنا مستقرا متناميا خلاقا، يصون ويطور حريات أفراده ومصالح جماعته، إذا جهلنا، أو تجاهلنا وهمشنا، طرح الفكرة الجمهورية؟ ونحن هنا لا نتحدث عن الموجة الرومانسية التي اجتاحت منابر الحركة اليسارية في السودان اليوم تجاه إرث الأستاذ محمود، من تخليد لذكراه رمزيا فقط، حين الحديث عن تاريخه وتاريخ تلاميذه في امتثال القيم الإنسانية في البذل والتسامح، متوجة بوقفة الأستاذ الجبارة في 18 يناير، 1985.. ذلك لأن هذه الصورة الرمزية، المحببة للوجدان المناضل للظلم والخنوع، إنما هي نتيجة لما تم تأسيسها عليه، وهي البناء الفكري القوي، المتسق، الذي قدمته هذه المدرسة الفكرية، والذي لا يمكن تجاوزه بصور من التناول قد تكون حسنة النية، ولكنها تقترب أكثر من صور المدح الهجائي حينما يشار بها لمدرسة عتيدة كهذه (كمقولات- أو تصورات- أن الأستاذ محمود كان رمزا لحرية الفكر والتسامح والوقوف على المبادئ، ولكن طرحه مثالي بصورة عامة، ولا يقترب من حلول عملية واقعية للأزمات المعاصرة)..
هذه دعوة عامة لأهل اليسار السوداني عموما، بماركسييه وغيرهم، للالتفات كما التفت أبو يزيد البسطامي، الذي خرج من بلدته لطلب العلم، في بدايات مشواره الطويل نحو المعرفة، فناداه المنادي: "يا أبا يزيد.. إن الذي خرجت تطلبه قد تركته ورائك ببسطام"..
قصي همرور يناير 2007
| |

|
|
|
|
|
|
|