من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين)..

الأسلحة الكيميائية وحقيقة استخدامها في السودان في منتدى ميديكس للحوار
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-18-2025, 01:45 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الأول للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-18-2007, 07:48 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين)..


    من أجل الاشتراكية
    الماركسية في السودان بين زمنين

    بداية فكرة هذه الورقة كانت بعد الاطلاع غير مسبق التخطيط على مجلة "قضايا سودانية"، العدد الثامن عشر (يوليو 1998)، والتعرض من خلالها، بصورة غير مسبوقة بالنسبة لنا، لشكل الحوار الداخلي بين الشيوعيين السودانيين عن تجربتهم الماركسية في السودان، نظريا وعمليا، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، والذي كان مسبوقا بمراحل محسوبة من التدهور المتصل..

    تأملنا صور النقد والنقد الذاتي التي اتسمت بها كتابات أهل اليسار الماركسي في السودان، واليسار عموما، في هذه المجلة، وفي كتابات سابقة اطلعنا عليها، والتي تكاد تكون على درجة محترمة من مواجهة الذات وتقييم التجربة (مع تحفظات سيأتي أوانها في سياق الورقة).. وما شدنا لكتابة هذه الورقة سببان:
    أولهما: لفت النظر إلى حجم التجارب والأزمان التي احتاجها ماركسيو السودان ليصلوا لمثل هذه المرحلة من الشجاعة الأدبية، مقارنة بكتابات نقدية أخرى تؤرخ لقبل هذه الحقبة الزمنية، وبالتخصيص كتاب "الماركسية في الميزان" للأستاذ محمود محمد طه، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1973، وهو متن محاضرة ألقيت في عام 1968..
    ثانيهما: تقييم معنى الديالكتيك في تجليه الذي يجعلنا نتعلم من مر تجاربنا كيف لا نكررها، وكيف نقرأ واقعنا ومستقبلنا بصورة أفضل، وكيف نحترم الإنتاج الفكري لمن أثبتت التجربة قدرتهم على قراءة الواقع والمستقبل بكفاءة أكبر..

    كانت قد جرت عدة نقاشات لمواضيع هذه الورقة من قبل، من جانبنا ومن جانب أقلام لها وزنها وتاريخها في تجربة اليسار عموما واليسار الماركسي خصوصا، ولعل هذه الورقة ستقدم تلخيصات كثيرة لآراء وتحليلات قد جرى ذكرها من قبل، غير أن مبرر التلخيص والتجميع في صورة ورقة كهذه يكمن في تسهيل البحث، وإجمال القول، والتكرار المفصل لتعميمات سابقة، لدفع عجلة الحوار وتنويع مشاهده..

                  

01-18-2007, 07:57 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)


    هل الماركسية منهج أم فلسفة؟

    بطبيعة الحال، ورغم كثرة التعاريف وتداخلاتها للمصطلحين (المنهج والفلسفة)، فلا بد لنا أن نفصح عن نظرتنا للماركسية على ضوء تعريفين واضحين للمصطلحين، أقله فيما يختص هذه الورقة.. نعني بـ"المنهج" هو الأداة الفكرية المعينة على قراءة الأحداث وتحليلها، سواءا كانت سياسية، اقتصادية، هندسية، ثقافية، وما إلى ذلك، وسواءا كانت حاضرة، مستقبلية، أم تاريخية.. أما الفلسفة، فهي النظرة ذات الرأي العتيد في القضايا الأساسية في مشكل الوجود البشري، بمعنى أنها تملك تفسيرات وتعليلات وتعريفات لمسائل الهم الإنساني الأكبر.. من الوهلة الأولى، يمكن أن نربط بديهيا بين التعريفين لندرك أن الأول (المنهج) يعتمد على الثاني (الفلسفة).. المنهج لا بد له من فلسفة تدعمه، أما الفلسفة فهي قد تكون أحيانا بلا منهج (تكون فلسفة ناقصة بطبيعة الحال، ولكنها فلسفة).. وفي واقع الأمر، فالمدارس الفلسفية صاحبة المناهج قليلة في التاريخ، أما المناهج التي ليس لها فلسفة، فهذه قد تكون، ولكنها مهزومة منذ ولادتها، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، فكيف حين لا يكون هناك عود أصلا؟

    وأحيانا فإن المدرسة الفلسفية قد تنتج منهجا ناجعا، رغم كون هذه الفلسفة غير ناجعة في مجموعها.. كيف؟ يكون ذلك حين تكون المرتكزات الفكرية التي يعتمد عليها منهج هذه المدرسة ناجعة، ولو كانت المرتكزات الأخرى غير كذلك، فالفلسفات لها جوانب عدة، تسقط بعضها بسهولة وتصمد الأخرى عبر الزمن.. ما زلنا لليوم، مثلا، نتعلم من الفلسفة الأفلاطونية، رغم تباعد الأزمان، ولكن هذا لا يعني أننا حين نقرأ اليوم لأفلاطون لا نستطيع بسهولة أن ندرك الثغرات في أمور تجاوزها الزمن وأبان خللها بصورة بديهية اليوم، كما لا يمنعنا ذلك من رؤية صلاحية الكثير من ركائز أفلاطون لليوم، على الأقل في اطار المداولة والترجيح..

    هنا نتسائل.. هل الماركسية منهج أم فلسفة؟ والدافع لهذا السؤال هو ما اطلعنا عليه من كتابات عدة، لماركسيين قدماء، مقيمين ومتحولين، تشير ببساطة إلى أن الماركسية إنما هي المنهج المادي الديالكتيكي (وليس "الجدلي"، وهذا خطأ ترجمي شائع [1]).. هذه الإشارة، رغم حسن نواياها في كثير من الأحيان، إلا أنها مجحفة للماركسية في واقع الأمر.. ذلك أن الماركسية ليست مجرد منهج، وإنما هي فلسفة متكاملة البنيان، وتستعمل منهجها كدعامة من دعائم هذا البنيان، لا كالبنيان نفسه، وكله.. يمكن أن نقول أن المادية الديالكتيكية هي هيكل الماركسية، ونحن نلحظ بديهيا أن الهيكل هو دعامة الجسد الأساسية (أي جسد، سواءا كان جسد كائن حي أو حتى جسد آلة)، ولكنه ليس كل الجسد، فالجسد أكثر تعقيدا من مجرد هيكل، لأنه يشمل القلب والعقل والأعصاب وخلافه (أو المحرك ونظام التحكم وخلافه بالنسبة للآلة).. يقف الهيكل داعما لهذا الجسد، غير أن صلاح الهيكل وصلابته لا يكفيان كدليل على صلاح الجسد ككل، وهذه بديهة من تجاربنا المعاشة..

    في مجلة "قضايا سودانية" سالفة الذكر أعلاه، كثر الحديث من جانب كتاب عدة عن أن الماركسية إنما هي المنهج المادي الديالكتيكي، وأنها دليل للعمل، وليست عقيدة جامدة ومسبقة في تصور ما يجب أن تكون عليه الأمور (والعدد المشار إليه من المجلة يحمل تلخيصا للكتابات التي وردت في الأعداد السابقة، منذ الأول وحتى الخامس عشر).. هل حقا؟ الماركسية لها تصور مسبق لماهية الوجود والبيئة ومكان الإنسان فيهما، ولها تصور لاحق لمآلات الأمور، ومنهجها مبني على أساس هذا التصور المسبق وفي سبيل ذلك التصور اللاحق.. فكيف تكون منهجا - أودليل عمل- فقط؟ بل وكيف يكون هناك منهج بدون أسس فلسفية تدعمه، وبدون غايات ومقاصد منشودة، وبدون فهم عتيد للمسألة الوجودية؟

    إصرار هؤلاء الماركسيين اليوم على الماركسية كمنهج إنما هو مكابرة واضحة، ذلك أنهم إنما يتمسكون بالمنهج الذي قدمته الماركسية، وليس بها ككل، وبحسنات أساليب الدراسة الاقتصادية لماركس وإنجلز وخلفهما، لا كل نتائجها وتطبيقاتها.. في المقابل فإن الماركسية، كفلسفة متكاملة تعود حقوقها الفكرية لماركس وإنجلز، قد لقيت الكثير من التعديل والتبديل، منذ عهد لينين (والذي يحسب كثيرا كثالث الثلاثة)، ولهذا كانت "الماركسية اللينينية" (وهنا نشير لأن المجلة سالفة الذكر أوردت آراءا وجدت الكثير من التأييد تدعو إلى تجاوز اللينينية، لأن مفاهيمها تتناقض مع الماركسية (صفحة 9)! ولنا أن نتسائل، هل لم يكتشف الشيوعيون، بعد كل هذه السنين- العقود- "اللينينية"، مناقضتها للماركسية إلا في الفترة الأخيرة؟ فهل كانوا إذا ماركسيين طيلة تلك الفترة الماضية أم ماذا؟)..

    حين الحديث عن "الماركسية"، صاحبة الاسم، فنحن لا نملك أن نضع بقية الماركسية جانبا ونبقى مع منهجها فقط، فاستنتاجات ماركس وإنجلز، ونظرتهما لقضايا الوجود الأخرى، هي جزء أصيل من الماركسية.. الحديث عن أننا، حين ننظر لتراث ماركس، يجب أن نعتبر منهجه قبل أن نعتبر نتائجه التي توصل لها بواسطة ذلك المنهج، والتي قد أثبت التاريخ خطأها (ولنا عودة هنا).. هذا حديث هلامي جدا، إذ كيف نميز بين منهج الشخص التفكيري والنتائج التي وصل لها باستخدام ذلك المنهج (خصوصا وأنه هو صاحب المنهج ومقدمه، فالمنهج ونتائجه خرجا من نفس العقل)؟ وماذا يتبقى من قيمة في ذلك المنهج إذا فقدت نتائجه قيمتها؟ خصوصا وأنها حديثة العهد نسبيا، ولم يمض على خروجها للناس سوى القليل من عمر التاريخ؟ الإجابة هنا تكمن في تقييم الفلسفة الماركسية ككل، ومن ثم تقييم صلاحية معطياتها التي ما زالت فاعلة، وفي مثل هذا الفعل، فنحن، من الوهلة الأولى، نبني على الإرث الماركسي، ولكننا لا نتبناه، وهناك فرق كبير بين "البناء" و"التبني".. المتبني للماركسية يؤثرها بكل ما فيها، وهذا هو الماركسي، أما الباني على الماركسية فهو يستفيد منها كإرث فكري له حسناته وسيئاته، فيجدد صلاحية حسناتها ويتعظ من سيئاتها، وبهذا البناء تكون مسيرة التطور الفكري مستمرة، أما بالتبني فالأمر أصعب، إلا لو كانت الماركسية نفسها مفتوحة على التطور ولم يثبت بعد خللها في أي نتيجة قدمتها، وهذا غير صحيح، كما سيجري تبيانه هنا..

    على سبيل المثال، كان يشير ماركس إلى المدرسة الاشتراكية الأوينية السابقة للماركسية إلى الوجود (من روبرت أوين الانجليزي)، ويسميها وأخريات بـ"الاشتراكية المثالية"، في حين سمى اشتراكيته هو "الاشتراكية العلمية".. ماركس أيضا وضع استنتاجات أساسية تقود إلى أن بداية ثورة البروليتاريا ستظهر في انجلترا، وذلك بسبب تطور المناخ الصناعي في انجلترا على جميع رصفائه في أوروبا الرأسمالية في ذلك الزمان، مما يهيء فرص تنظيم ووعي أكبر لدى الطبقة العاملة هناك.. حين يثبت لنا التاريخ خلل هذا الاستنتاج، بعد ميل الطبقة العاملة في انجلترا إلى اشتراكية روبرت أوين (حزب العمال البريطاني) التي سماها ماركس من قبل بالمثالية، وبعد تحقيق عمال انجلترا انتصارات أعظم من أندادهم في أوروبا اليوم بهذا السبيل، وبالذات في البلدان التي انتهجت خط ماركس من قبل، وتركته بعد حين (خصوصا وأن ماركس قد أخذ أحيانا يشكك في بعض أسس منهجه، بصورة قد تدعو لزعزعة النظرية التاريخية الماركسية كلها، كقوله في 1872 أن العمال في انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وربما هولندا، قد يصلوا للسلطة بدون ثورة، بسبب الطبيعة الديمقراطية لهذه الدول [2])، كيف سنقيم موقف ماركس هذا؟ وحين تقييم موقفه هذا، بم يمكننا الحكم على هذا الجزء الأصيل من الفلسفة الماركسية؟ وكيف يمكننا بعد ذلك النظر للماركسية، كجسد متكامل، دون إداراك النقص فيها؟ ومن ثم، فكيف نظل ماركسيين، والتاريخ يصدح لنا بنقص الماركسية، بيانا بالعمل؟

    إن من الاحترام لذكرى ماركس أن لا ننسب له اليوم نتائجنا التي تعلمناها من أخطائه، وأن نضعه في اطاره التاريخي دون مزايدة، ومن أجل المادية الديالكتيكية نفسها - والتي نحن من المؤمنين بصلاحيتها لليوم، كمنهج تحليل في الاطار العميم الكبير (Macro) لحركة المادة والمجتمعات، مع التحفظ على الاطار التفصيلي المجهري (Micro)- لا بد أن نتعلم كيف نستفيد من تاريخ الإنتاج الفكري للمدارس الفلسفية، وكيف نبني عليها، مع إعادة تقييم صلاحيتها في الجوانب المتعددة بصورة مستمرة.. من أجل المنهج الديالكتيكي لا بد من إعادة تقييم جادة للفلسفة الماركسية ككل، لنعرف مالها وما عليها، ومن ثم نبني على حسناتها، ونتجنب مزالق سيئاتها..
    ___________________

    [1] هناك تعاريف ثلاثة لمعنى كلمة الديالكتيك (Dialectic) في الانجليزية، أكثرهما قربا للمعنى المطروح في استعمال المصطلح الفلسفي - منذ بداياته عند هيغل- هو التعريف: "العملية التي من خلالها يتفاعل متضادان ليشكلا حقيقة أكبر" (قاموس أكسفورد للجيب في الانجليزية المعاصرة - 1996- ترجمة الكاتب)، ومن الواضح جدا أن استعمال هيغل وماركس للمصطلح متعلق بصراع الأضداد من أجل التطور، لا الجدل (والجدل والصراع ليسا نفس الشيء في اللغة العربية).. يقول الأستاذ محمود محمد طه: "ماركس سماها (المادية الديالكتيكية) ـ المادية الجدلية ـ بعض الناس بيقولوا في ترجمتها.. لكن دي ترجمة غلط، لأن المسألة مش مسألة جدل، وإنما مسألة تطور" (الماركسية في الميزان)..
    [2] ديفيد كوت (David Caute)- "الكتابات الجوهرية لكارل ماركس" (Essential Writings of Karl Marx)، مختارات مبوبة مع التقديم والتعليق- لندن 1967، صفحة 197

                  

01-19-2007, 07:37 AM

fadlabi
<afadlabi
تاريخ التسجيل: 12-13-2004
مجموع المشاركات: 4116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)

    يا سلام
    واصل يا صاحب
    سأعود للتعليق كان الله هون
    بعدين مشتاقين يا قصي
                  

01-20-2007, 06:47 AM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: fadlabi)


    المادية الديالكتيكية واقتصاد ماركس

    لم نفرغ من الحديث عن المادية الديالكتيكية بعد، وإنما كان ما قلناه أعلاه هو بداية تعليلية لكون الماركسية ليست المادية الديالكتيكية فقط.. نشير هنا إلى أننا ندرك أن المادية الديالكتيكية معنية بحركة المادة ككل، لا حركة المجتمعات فقط، وأن الجانب المجتمعي للمادية الديالكتيكية إنما هو "المادية التاريخية"، لكننا نؤثر استعمال اسم المادية الديالكتيكية في الإشارة للمجتمعات أيضا في هذه الورقة، حتى يكون التركيز واضحا على المنهج ككل، أكثر من مجرد جانبه المجتمعي..

    نريد الآن أن نستهل الحديث هنا باقتباس مطول، ولكن جوهري، من الأستاذ محمود محمد طه، من كتاب "الماركسية في الميزان" (من محاضرة بلغة الكلام السودانية).. يقول الأستاذ محمود: "هنا، مثلا ً، أنا أحب أن تكون عندنا، في ميزان حسنات الماركسية، الفكرة التطورية ـ كون الوجود في حركة مستمرة، لا يستقر إطلاقاً.. ودا ينطبق علينا نحن، كمجتمع، وينطبق علينا نحن، كأفراد.. دي حقيقة ناصعة جداً، وجيدة جداً ـ حقيقة التطور، والتحول المستمر [.......].. فيما يضيفه "للمادية الديالكتيكية" أن الفلسفة قديماً ورتنا العالم مكون من شنو، وهذا ليس مهماً ولكن المهم أننا نحن الآن عايزين نحدث التغيير في تكوين العالم.. بمعنى آخر، المهم أن يكون عندنا أسلوب علمي ليحفز التطور ـ ليكون التطور قائم على ذكاء بشري، حتى يكون التطور موجه، وسريع التغيير.. أنا أفتكر دي، أعني المادية الديالكتيكية، من النقط التي نضعها، وعلى الفور، في ميزان حسنات كارل ماركس.. في الناحية دي عندنا تطور التاريخ، تطور العناصر، تطور الوجود.. كل شئ فاني، كل شئ بتحرك.. ونحن بنديه الحق دا لأن هنا في الميزان، في ميزاننا البنوزن بيهو، كلامه دا عنده وزن.. نحن القرآن بيقول لينا: (كل من عليها فان.. و يبقى وجه ربك، ذو الجلال والإكرام).. كل من عليها فاني.. كل ما في الوجود فاني [.......].. فالفناء إنما هو الصورة دي، هو، إذن، تطور.. وقوله: (كل من عليها فان) وهو يعني كل ما في الوجود بتغير، في كل لحظة، برضو يساندنا في الناحية دي.. وهو مما يعطينا فرصة وزنه هو يساندنا في ذلك أيضاَ قوله: (كل يومٍ هو في شأن).. ربنا (كل يوم هو في شأن)، شأنه تعبير الوجود [.......].. نمشي لي قدام في مسألته في الاشتراكية.. الاشتراكية!! الحاجة النحب أنها تكون واضحة، ودي فيها لبس دائماً، أن كارل ماركس موش أول اشتراكي، وهو لن يكون آخر اشتراكي، لكنه صاحب مدرسة في الاشتراكية عتيدة، مدرسة مجيدة، مدرسة، يمكنك أن تقول، محترمة.. لقد درس ماركس المسألة الاقتصادية دراسة واعية.. لقد جعل المسألة الاشتراكية أمر دراسة تخضع للرصد، وللتخطيط، وللتطبيق.. ده مما يوضع في كفة ميزان حسناته.. هنا نجي لي اشتراكيته العلمية.. قد نرى أنه يمكنك أن تجد بعض المآخذ فيها، ولكن لا ضير.. فإنه جميل قوله أن مجرى التاريخ بتتحكم فيهو النظم الاقتصادية.. ده، بطيبعة الحال، حق، وواضح، عندك وعندي.. مجرى التاريخ بتتحكم فيهو النظم الاقتصادية، بمعنى العلاقات البتقوم بين المنتجين.. يعني النظام الرأسمالي، مثلا ً، يكاد يكون عنده تاريخ يختلف تماماً عن التاريخ البيصحب النظام الاشتراكي.. يتضح لك هذا إذا كان مثلا ً علمت أن النظام الرأسمالي من مساوئه الاستعمار.. ونحن، في بلدنا دي، بنعرف الاستعمار جيداً.. في العالم كله نحن بنعرف أن الاستعمار قائم على النظم الاقتصادية الرأسمالية.. ذلك لأن الرأسمالي بينتج إنتاجاً واسعاً في المصانع الكبيرة فهو عاوز مادة خامة، وعاوز سوق يبيع فيهو المصنوع الجاهز.. فبدأت الحركة بتاعة الاستعمار في بداية القرن الثامن عشر كأعمال تجارية.. مثلا ً الهند!! استعمرتها شركة، كانت بداية ذهاب البريطانيين.. الهند السميت، فيما بعد، البقرة الحلوب للامبراطورية البريطانية.. كانت بداية استعمارها شركة تجارية، هي شركة الهند الشرقية.. وكان الغرض منها أول الأمر أن تجلب التوابل، وأن تجلب المسائل النادرة من الشرق، مثل البهارات، والعطور، المسائل الخفيفة.. كان ذلك قبل ما تمشي الصناعة بتطور كبير في البلاد الغربية.. بعدين الشركة دي ظهرت ليها منافسات شديدة من الشركات الأخرى، من البلاد الأخرى، فطلبت من حكومتها أن تحميها.. جاء التدخل بالجيش.. بعدين جاء إخضاع البلاد كلها للتجارة.. جاء الاستعمار.. أصبحت الأشياء البتطلب الآن المواد الخامة الغليظة ـ المطاط، والقطن، والأشياء البتمشي للمصنع لتصنع.. بعدين على الشعب الهندي المستعمر أن يظل منتجاً للمادة الخامة، وسوقاً للمنتجات الجاهزة ليشتريها ويستهلكها.. فتلقى، إذن، أن التاريخ يظل قدامكم مفتوح، النظام الاقتصادي بيتحكم فيهو، بل يصنعه.. إذا كان مشيت لمسألة الصراع الطبقي بتلقى أن التاريخ تقريباً سجل ليهو.. دا حق.. الصراع الطبقي هو النزاع البقوم بين الطبقات.. مثلا ً لو شفت الرقيق.. يمكنك أن تأخذ الصورة بالشكل الغليظ دا.. الرقيق طبقة مستغلة.. تستغلها طبقة الأسياد.. والرق مرحلة متخلفة من مراحل الاستغلال.. ثم تطور الاستغلال لغاية ما مشى ليكون في صورة صاحب العمل والعمال.. والصراع الطبقي هو النزاع القايم بين الملاك والناس الما بيملكوا حاجة يبيعوها غير عرقهم.. والصراع دا، عبر التاريخ، موجود.. وزي مابقوم لك في مسألة الرقيق.. أو أنت شايفها واضحة.. نقطته الثالثة هي مسألة الحكومة: فالحكومة عنده هي أداة في يد الطبقة المستغِـلة لتستغل بيها الطبقات المستغـَـلة.. ودي أفتكر أنت يمكنك أن تشوفها.. فمثلا ً في البلاد الرأسمالية النظام الرأسمالي مسيطر.. زي ما إنتو بتسمعوا عن الرئيس الأمريكي، مثلا ً عن كندي وعن جونسون، فإنه يقال أنه، (ودا رأي مؤكد أن فيه شئ من الصحة) يقال أنه ما حمله على مواطأة الإسرائيليين خوفه من النفوذ الموجود عند الصهاينة (عند اليهود) في أمريكا، فإنهم يستطيعون أن يسقطوه عندما يتقدم للانتخابات لرئاسة الجمهورية إذا كانوا ضده.. هذا يعني أن اليهود عندهم وزن اقتصادي ومالي كبير.. عندهم تأثير على وسائل الإعلام، وبعضها تحت ملكيتهم، ويمكنهم إذن أن يعملوا حملة ضده قد تسقطه.. فإذا كان رئيس الدولة يلقي بالا ً لنفوذ الطبقات الغنية ويخشاه فقد أصبح واضحاً لك، و يمكنك أن ترى أن الحكومة يمكن أن تكون أداة تنفيذ لأغراض الناس المستغِـلين.. ولقد تجي التشاريع، كما يجي التنفيذ ليرسم لكل المسائل لتمشي في الاتجاهات المطلوبة ليهم، ولحفظ مصالحهم.. دي هي نقطته الثالثة، وهي، كما ترى، نقطة وجيهة، وعلمية، وواقعية"..

    لم يفرغ تعليق الأستاذ محمود على نقاط المادية التاريخية بعد، غير أننا ندخره لما سيأتي من سياق هذه الورقة.. وكما نرى، فإن عموم نظرة ماركس في قضية المادية الديالكتيكية لا يحتاج المرء ليكون ماركسيا ليتفق معها ويبني عليها، وإلا لكان الأستاذ محمود، بعد كلامه أعلاه، ماركسيا (رغم كل النقد الذي قدمه للماركسية وسلبياتها التي سنأتي عليها بعد قليل)! وللأستاذ محمود خبرة شخصية في مواجهة الرأسمالية، في صورتها الاستعمارية، وهو أول سجين سياسي في تاريخ السودان الحديث، ومن القلة التي فطنت منذ البدايات إلى أحاييل الاستعمار وأطماعه عكسية العلاقة مع مصالح الشعوب المستعمَرة، وذلك حين كان الكثير من مثقفي السودان وأفريقيا يظنون أن الاستعمار "له حسناته وسيئاته" وبالإمكان التعاطي معه ليعمل أكثر من أجل مصلحة الشعوب المستعمَرة.. وكل هذه المواقف، والمحاضرة أعلاه، كانت قبل صدور الكتاب العظيم المشهور للدكتور والتر رودني "كيف قوضت أوروبا تنمية أفريقيا"[3]، في العام 1973، والذي أظهر فيه حقيقة المطامع الاستغلالية البحتة للاستعمار، بتوثيق وتحليل ماهر، حتى فيما ظهر منها، لبعض الناس، أنه بسبيل حسن نية من جانب المستعمِـر، ولمصلحة سكان القارة عموما..

    وبطبيعة الحال، فهذا المنهج له متطلبات معرفية لا يقوم إلا بها، وبما أن هذه المتطلبات تلقى تفاوتا في التأهيل لدى أصحابها، لهذا لم تكن كل نتائج المادية الديالكتيكية سليمة، حسب نسبتها إلى أصحابها.. رغم نجاعة هذا المنهج، فهذا لا يعني تلقائيا نجاعة كل نتائجه المستمدة منه، حتى نتائج ماركس نفسه.. نجاعة المنهج لا تغني عن ضرورة تهذيب متطلباته، من سعة اطلاع وأفق وذكاء تحليلي وانتباه للتفاصيل، وفي مثل هذا يتنافس المتنافسون، فتظهر الحصافات وأيضا الكبوات، كبيرها وصغيرها.. نعرج هنا على أمثلة لهذا الأمر..

    مثال.. رغم صحة الصورة العامة لعلاقات الاستغلال الطبقي للمجتمعات المعاصرة، فإن تفاصيل تصور ماركس للموضوع أثبتت خللها، في كثير من الأوجه، ويعزى ذلك في معظمه لكون ماركس قد اشتط في سحب قوانين التاريخ على تفاعلات الحاضر والمستقبل، دون أن يعطي الفرصة لأن تخلق حركة التاريخ قوانينها الجديدة عبر هذه التفاعلات (ولنا عودة لهذه النقطة).. اليوم لم تعد طبقة العمال، كما وصفها ماركس، عالية النسبة في أي مجتمع صناعي، بشكل يؤهلها لقيادة حركة ثورية باسمها الطبقي المتميز، بل وأكثر من ذلك فإن عددها آخذ في التناقص والتماهي في الطبقات الأخرى يوميا، بفعل المنجزات المستمرة في تكنولوجيا الصناعة الآلية (Industrial Automation)، والتي استغنت، وما زالت تستغني، عن الأعداد الكبيرة للعمال لإدارة العملية الصناعية.. عملية الإنتاج لم تعد محتاجة للعمالة أكثر من احتياجها للطاقة والمادة الخام وللسوق المستهلك (وهذه أهمهمن).. أصبح عاديا اليوم أن تكون هناك مصانعا مستمرة في الإنتاج على مدار اليوم دون توقف، وفي ورديات الليل المتأخر مثلا، فإن باحة المصنع لا تجد فيها عمالا يتجاوز عددهم أصابع اليد، وظيفتهم الأساسية هي مراقبة السير التلقائي المبرمج لآلات المصنع، في حالة حصول خلل آلي غير متوقع، كما أن العدد أثناء النهار لا يكون كثيرا جدا، برغم أن هذه المصانع تنتج إنتاجا ضخما بمقاييس السوق العالمية، كما ونوعا..

    وفي القديم (في عهد ماركس وبعده إلى نهاية الثمانينات من القرن المنصرم) كانت المصانع تعمل بنظام الدفع الإنتاجي (Push System)، حيث يتضاعف الربح كلما تضاعف الإنتاج المجود، أما اليوم، فإن كبرى الشركات الإنتاجية (والصغرى تأسيا، وكلما كبرت)، في شتى مجالات الإنتاج، تحولت، أو أصبحت تتحول نحو نظام السحب الإنتاجي (Pull System)، حيث يعتمد معدل الإنتاج على معدل الطلب في السوق، قبل المباشرة في الإنتاج.. إذ أن الشركات أصبحت تقيم حجم الطلب في السوق (عن طريق الإحصائيات واستلام الطلبات المباشرة) قبل أن تقوم بعملية الإنتاج، من أجل عدم الإسراف في الخام، والذي سيعود بخسارة كبيرة إذا تم الصرف عليه لتحويله لسلعة جاهزة للاستهلاك بدون أن يجد مستهلكا.. لهذا أصبح يحدث كثيرا أن كثافة الإنتاج، وزيادة العمالة، تؤدي للخسارة، في مقابل تقليله ليناسب رغبة السوق ويوفر المادة الخام.. والعامل أصبح أيضا، في ظل هذا الواقع، يحتاج لمهارته الفكرية أكثر من مهارته الجسدية، المكتسبة من العادة (أو يحتاجهما بالتساوي، على أقل تقدير، في بعض الظروف).. هذا الأمر يجعل الفرق السلوكي الإنتاجي بين العامل الفني، الحرفي، والموظف المكتبي (أو المهندس النظري، أو الباحث المعملي، .. الخ) غير كبير، ويجعل قيمة العمل لكل هؤلاء تعتمد فقط على الحاجة المباشرة لنوع الخبرة المهنية في تشكيل الاقتصاد الوطني (مثلا، نحن في السودان ودول العالم الثالث نحتاج للفنيين أكثر من المهندسين النظريين والباحثين المعمليين في اقتصادنا، بعكس الغرب، وعليه فإن قيمة عمل الفني في مثل هذا الوضع تتفوق بأهميتها- وبالتالي سعر الصرف عليها، في عمومها- على أهمية هؤلاء، باعتبار الأولويات)..

    وقد أصبح قطاع الخدمات، والقطاع الريعي عموما، بسبب هذه الثورة التكنولوجية الهادرة، صاحب النسبة الأعلى في الدول الصناعية الكبرى في مناصب العمل، وهو في تضخم مستمر في الدول النامية أيضا، كما أنه أصبح يستوعب كافة الخبرات التقنية، كأدوات مهمة لتحليل ودراسة وتطوير وتفعيل شكل الخدمات.. كل هذا يدخلنا لتساؤلات تضطرنا لمراجعات مهمة -لا تجاوزات- لنظرية فائض القيمة عند ماركس، حيث أصبح فائض القيمة في تضخم، في حين أن مجهود ووقت وعدد العمال الأجراء في تناقص، إذ لم تعد العلاقة بين الاثنين (فائض القيمة وقوة العمل) بذات الطردية النسبية التي كانت.. هذا وقد ساهمت التكنولوجيا تقريبا في إلغاء العقبات التي كان يسببها عامل المكان (والزمان أيضا، بنسبة أقل)، بحيث صار الموظف الهندي أو الإيرلندي في بلاده مساهما مباشرا في الاقتصاد الأمريكي، أو الألماني، أو غيره.. تشير إحصائيات أخيرة إلى أن 19% فقط من الشركات والمؤسسات الأمريكية لديها استراتيجية تصدير العمالة (أي فرص عمل) إلى ما واراء البحار (Outsourcing)، ولكن هذه النسبة تصعد إلى 95% إذا قصرنا النظر على أكبر ألف شركة أمريكية [4].. هناك دراسة صدرت في عام 2004 من جامعة كاليفورنيا- بيركلي الأمريكية تحذر فيها من أن حوالي 14 مليون مواطن أمريكي سيفقدون وظائفهم بسبب تصدير العمالة [5].. وفي المقابل تشير الإحصائيات إلى أن الوظائف الجديدة التي أتاحتها شركات تكنولوجيا المعلومات، مثلا، في الهند في تصاعد عال ومستمر (ما يعادل 15% في أقل من سنة) [6].. في عام 2003، وصلت العائدات الإيرلندية والهندية من سياسة تصدير العمالة الأمريكية والأوروبية إلى 14.4 بليون و11.3 بليون دولارا، على التوالي [7].. هذه الإحصائيات مأخوذة في الغالب من عالم تكنولوجيا المعلومات، ولكن هذا لا يعني أن قطاع الصناعة غير مشارك، غير أن قطاع الصناعة أكثر تعقيدا، بسبب الحسابات اللوجستية المعنية بسيرورة المنتج منذ أن يكون خاما حتى يصل إلى أيدي المستهلك في السوق، وهي رحلة طويلة عابرة للقارات، وسببت في تطور المفاهيم اللوجستية بصورة غير مسبوقة، وأدت إلى ولادة طراز هندسي جديد من رحم الهندسة اللوجستية، ألا وهو "هندسة جنزير الإمداد" (Supply Chain Engineering).. هذا علاوة على أن هذه الصورة قد خلقت رؤوس أموال قوية في بلدان كثيرة، مرتبطة بشكل مباشر مع بعضها عالميا، وقدمت موازين قوى جديدة، ظهر فيها العملاق الصيني بصورة مخيفة لمعاقل الرأسمال الغربي، وظهرت فيها أيضا النمور الآسيوية، وكل هذا أثر هنا وهناك في السياسات الاقتصادية الداخلية والخارجية لهذه البلدان، وأثر على تكوين الطبقات فيها بشكل واضح.. هذه الصورة المعقدة والمتشابكة عالميا قد تجاوزت الصورة المبسطة لعلاقات الطبقات في قراءة ماركس، كما هو واضح، كما أن هناك صور من السياسات الإنتاجية تتبعها الشركات الكبرى اليوم، عالميا ومحليا، لم يحفل بأمثلتها ماركس وإنجلز كثيرا، في تأكيدهم على ضرورة العمل الثوري، غير الإصلاحي التدريجي المصطحب والمعتمد للتفعيل الديمقراطي [8].. أصبحت هناك سياسة في التعامل مع موظفي وعمال المصانع، مثلا، تشجعهم وتعينهم على شراء أسهم في شركات عملهم، وبالتالي يصبحون عمالا وأصحاب رؤوس أموال في نفس الوقت! مما يقوي علاقاتهم بشركاتهم وفي الحماس الإنتاجي لها، ويستمر هذا الحماس مدى الحياة، بعد التقاعد، ويعود أثره على وضعهم الطبقي بوضوح.. كما أن سياسات الضغط الواعي الموزون والمباشر من جانب الموظفين والعمال في هذه الشركات أتت عليهم بفوائد من طراز التأمينات الصحية والاجتماعية - حتى ضمانات عدم الطرد- والتي تحظى بها مجموعة كبيرة من مؤجري قوة عملهم لرؤوس الأموال في بلدان العالم الأول، وهي نتيجة سيرورة وعوية وتنظيمية متصلة من جانب الطبقات المستغـَـلة، تشبه ما دعا إليه الاشتراكي البريطاني روبرت أوين.. هذا، بطبيعة الحال، لا يعني أن صور الاستغلال البشع لم تختف في جميع المجتمعات، على تفاوتها، وخصوصا في الدول النامية، ولكن هذا يعني أن التصور الماركسي لحل هذه المشكلة قد تجاوزه الزمن، وأصبح بذلك متطلبا لنظرية ثورية جديدة، عالميا ومحليا، تقود نضال الطبقات المستغـَـلة بوعي مواكب لمجريات العصر.. من المهم أيضا أن تفهم الحركات الماركسية في الدول النامية، قبل الرأسمالية، أن مجتمعاتها لن تمر بنفس المراحل التي مرت بها المجتمعات الغربية على سبيل المثال، مما يؤهل التصور الماركسي لصلاحية أكبر هنالك، ذلك لأن التجربة الغربية لن تجعل هذه المجتمعات تمر بنفس مراحلها، وذلك بسبب منجزات التكنولوجيا الحديثة في إلغاء المكان، فليس من مصلحة أي طبقة رأسمالية متوقعة قريبا في الدول النامية- هذا بافتراض أن مجتمعاتنا هي فعلا في المرحلة بين الرأسمالية وما قبل الرأسمالية- أن تمر بنفس مراحل أنماط الإنتاج التي مرت بها أوروبا مثلا، فهي لن تفكر في أن تبدأ أولا، على سبيل المثال، بالإنتاج عن طريق الآلات التي تتطلب عددا أكبر من العمالة، بخلاف تكنولوجيا الصناعة الآلية المتوفرة حاليا، بأسعار متشابهة، وقدرة إنتاج أكبر (وهنا نشير لاستثناء يعبر عن حالات الشذوذ في القاعدة العامة، في الهند، حيث أن بعض الولايات الهندية كانت، وربما لا زالت، تصنع الآلات والمعدات الزراعية الحديثة وتصدرها للخارج دون استعمالها في الزراعة المحلية، وذلك من أجل توفير فرص عمل أكثر لسكانها في حقل الزراعة، إذ أن إدخال الأساليب الحديثة في الزراعة سيفقد الكثير مصدر رزقهم، مما لا يعد في المصلحة العامة للاقتصاد الوطني، وللهند كما هو معلوم مشكلة كثافة سكانية كبيرة عطلت عجلة التنمية فيها بصورة واضحة، وهذا مثال غرضه إدراك أن المشكل الاقتصادي العالمي لا يمكن ابتساره في هيئة تكتيكية واحدة للحل، إذ أن لكل بلاد وبيئة مشكلاتها الخاصة التي تتطلب حلولا خاصة، ولكن، ورغم ذلك، لا يفوتنا هنا أن نؤكد على اهتمام الهند بالتكنولوجيا، واستثمارها الكبير لطاقاتها البشرية والبحثية والزمنية في هذا المجال، لعلمها باعتماد مصلحتها الآنية والمستقبلية عليه).. وهكذا يفقد الاقتصاد الماركسي اليوم صلاحية مجموعة من أهم أسس فاعلية تصوره لسيرورة الثورة من أجل الاشتراكية..
    ___________________

    [3] اسم الكتاب المشهور هو (How Europe Underdeveloped Africa)، ولنا علم بترجمة عربية له، بعنوان "أوروبا والتخلف في أفريقيا"، ترجمة د. احمد القصير، وقد آثرنا ترجمة عنوانه كما ورد أعلاه في الورقة لعدم الرضا عن ترجمة د. أحمد القصير للعنوان..
    [4] ZDNet Research, October 2005
    [5] Mercury News, October 2004
    [6] InformationWeek, October 2005
    [7] International Monetary Fund, July 2005
    [8] قد تفيد الإشارة هنا إلى أن الديمقراطية نفسها، كنظام حكم متطور ومتنامي الأساليب، هي من "أبغض الحلال" للنظام الرأسمالي عموما، وهي ليست جزءا أصيلا منه، وإنما اضطرت وتضطر لها أنظمة الحكم التي تحمي المصالح الطبقية، اضطرارا، أمام قوة الطبقات المستغـَـلة المتنامية، ومحاولة مساومتها وإرضائها، أو تخديرها لبعض الوقت إن أمكن.. فالديمقراطية لا ننظر لها كحسنة من حسنات الرأسمالية، وإنما كهزيمة من هزائمها.. وهكذا فإن سيرورة الشعوب نحو التحرر تشمل الوجهين، الاقتصادي والسياسي، أي الاشتراكي والديمقراطي، في إصلاح تدريجي "ثوري" (وليست الثورة مقابلا، في الأصل، للعجلة والتغيير السريع بالضرورة، وإنما هي مقابل للتغيير الجوهري المؤسس، سواءا كان سريعا أو تدريجيا، في النواحي والوتيرات المتعددة)..

    (عدل بواسطة Yaho_Zato on 01-21-2007, 05:24 AM)

                  

01-20-2007, 06:54 AM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)

    صاحبناالفاضلابي
    تحية كتيرة وشوق كتير

    وشكرا للمتابعة، وللحديث بقية..

    نتطلع لتعليقك، كان الله هون..
                  

01-20-2007, 08:02 AM

Mohamed Adam
<aMohamed Adam
تاريخ التسجيل: 01-21-2004
مجموع المشاركات: 5604

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)

    الأخ Yaho_Zato

    تحيّه عطِره.

    موضوع شيق جداَ

    قلت : الفلسفه ممكن تكون من غير
    منهج ! لو سمحت هات مثال أو توضيح
    أكثر دقه ليتثني لنا متابعة هذا الموضوع.



    آسف للــ "إنترابشن".



    مودتِي.
                  

01-20-2007, 07:11 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Mohamed Adam)

    محمد آدم.. تحيتي..

    في الواقع، فإن الفلسفات التي ليس لها منهج معين هي أكثر من تلك التي تملك مناهجا، ولكن شهرة وتأثير صاحبة المناهج -بحكم صلاحيتها الأكبر- هي الأكبر..

    عبر التاريخ، ولليوم، نقرأ أسماءا كثيرة لفلاسفة كثيرين، لا يعتملون منهجا معينا في البحث، ولهم في كل مشكلة بتطرقون لها مقاربة مغايرة، لا تجتمع في منهج واضح المعالم، فكثيرا ما يخيبون وقليلا ما يفلحون، ولكن التاريخ عموما لا يحفظ أسماء هؤلاء أكثر من ذكر أصحاب المناهج..

    بطبيعة الحال، فالفلاسفة أصحاب المناهج معروفين، نذكر منهم على سبيل المثال، من الغرب، أفلاطون وهيغل وكانط وماركس وفرويد ومن تبعهم أو استقى منهم.. في التاريخ الإسلامي مثلا، يوجد ابن رشد وابن سينا، وغيرهم (تعمدت عدم ذكر أعلام التصوف، من عرب وغيرهم، لاعتبارهم كفئة ذات مشهد يختلف عن المشهد "العرفي" للفلسفة، رغم أن المدارس الفلسفية عندهم أعمق)، ومن الفلاسفة غير أصحاب المناهج مثلا، الكندي (وشهرة الكندي الحالية هي لسبقه التاريخي في تقديم الفلسفة الإغريقية لقارئ العربية، وليس لمنهجيته)، ومنهم أيضا، في العصر الحاضر، الدكتور علي حرب (وله محاسنه وسيئاته أيضا، ولكن عدم توفره على منهج واضح هي مشكلته الأساسية)، وارجو أن تلاحظ أني هنا أذكر اناسا مشهورين بعض الشيء، في حين أن غير المنهجيين غير المشهورين أكثر بكثير.. من الغرب، فرغم أني قد أقدم لك أسماءا بعينها، في براح أكبر من الوقت، تكفيني الآن الإشارة لـ"قاموس كامبريدج الفلسفي" (Cambridge Dictionary of philosophy) لتجد فيه أسماء فلاسفة كثيرين ينضوون تحت تصنيف "الغير منهجيين" (طبعا هو تصنيف غير وارد في القاموس، ولكن يتضح من تلخيصات سير الفلاسفة)، لأنهم إما يتقلبون من منهج لأخر، دون فاصل واضح، أو لأنهم يقصرون بحثهم الفلسفي في قضية واحدة من قضايا المشكل الإنساني، والتركيز على قضية واحدة لا يمكن أن يلد منهجا فلسفيا، فالمنهج يتطلب أن يمتحن إمكانياته في الحقول الإنسانية الشتى حتى يصبح معتمدا كمنهج.. وحتى أعطيك إشارة أكثر وضوحا، فهناك مجموعة كبيرة من الفلاسفة يدعون "التشكيكيين" (skeptics)، ومعظم هؤلاء ليسوا منهجيين، لأنهم إنما يقدمون مسائلات وتشكيكات في النظرات الفلسفية المعاصرة والسابقة لهم، ولكنهم -معظمهم- لا يقدمون منهجا واضحا يمكن أن يتابعهم عبره المرء في أسلوب قرائتهم التشكيكية.. هذه سياحة قصيرة، في اطارين ضيقين، هم الاطار الإسلامي والغربي، بصورة عامة، ولكن القائمة تطول وتتعدد مع الثقافات والشعوب المتنوعة عبر الحاضر والتاريخ..

    أرجو أن يكون في هذا الرد الموجز شيئا مجزيا، فهو مكتوب على تلخيص شديد لعدم تفرغي الكافي له الآن، ولعدم علاقته المباشرة بسياق الخيط، ولكني أشكرك عليه، ولا أجد مانعا من الإسهاب فيه لاحقا، إذا سمحت الظروف..

    ولك المودة..
                  

01-20-2007, 07:16 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)


    هذا، وبما أن اهتمامنا الأساسي في هذه الورقة يتعلق بالماركسية في السودان، فلنا تعليقات على أمثلة من القراءات القاصرة للواقع السوداني من جانب جماعات اليسار الماركسي في السودان، في سياق تدليلنا على أن "نجاعة المنهج لا تغني عن ضرورة تهذيب متطلباته"، كما ذكرنا أعلاه..

    مثال.. في مجلة "قضايا سودانية" سالفة الذكر، تحدثت الكثير من المقالات عن صور الجمود والتسلط في الحزب الشيوعي، ومثالب العمل السري، وغير ذلك مما سنعود له بصورة أكثر تفصيلا بعد قليل.. نريد الآن أن نتناول شهادة واحد من قيادات الحزب الشيوعي عبر تاريخه الطويل، وهو الأستاذ التجاني الطيب.. في تلخيص العدد الثاني من المجلة (سبتمبر 1993)، عرض مقال للأستاذ التجاني بعنوان "هاؤم اقرأوا كتابيا"، ينتقد فيها ما يرى أنها الأخطاء التي ارتكبها الحزب الشيوعي عبر سنين نضاله.. يلخص الأستاذ التجاني هذه الأخطاء في خمس مواقف، نذكر منها: أن الحزب الشيوعي السوداني، رغم أنه نشأ مستقلا في بدايته، ولم تعترف به الحركة العالمية الشيوعية إلا عام 1958، إلا أنه كان "أسيرا للأفكار والممارسات السائدة في تلك الحركة بكل ما كان لها أو عليها".. وخطأ آخر في "السكوت عن الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان في فترة تحالف الحزب الشيوعي القصيرة مع نظام مايو، بما في ذلك الاعتداء على جامعة الخرطوم. وفي 19 يوليو تم اطلاق سراح المعتقلين الشيوعيين والديموقراطيين وتم التحفظ على الآخرين".. أما آخر هذه الأخطاء فهو موقف الحزب المؤيد لانقلاب 19 يوليو 1971..

    بداية، فالاعتراف بالخطأ محمدة ولا شك، وهو مما يدعو للاحترام، ولكننا الآن بصدد تناول الأسباب وطبيعة أسلوب القراءة السياسية التي جعلت الحزب الشيوعي يرتكب هذه الأخطاء، فهذه لم يتناولها الأستاذ التجاني بالمواجهة المطلوبة، بل إنه بعد ذكر هذه الأخطاء أخذ يتحدث عن مواقف الحزب الشيوعي عموما "بالعمق والثبات والمثابرة من أجل انتزاع حق وحرية التنظيمات السياسية والنقابية وإلغاء القوانين القمعية".. بداية لا بد أن نقول أن الحزب الشيوعي لم يكن أسيرا للأفكار والممارسات السائدة في الحركة الشيوعية العالمية دونما سبب، وإنما لأن الحزب كان مستوردا للفكرة الماركسية من الأساس، استيرادا يفتقد لحصافة قراءة الواقع البيئي المجتمعي المخالف للواقع الذي نمت وترعرعت فيه الماركسية في أوروبا عموما، وفي تجربتها السوفيتية خصوصا، وحين كان الحزب الشيوعي مستوردا للفكرة، فهو لم يستطع أن يكون أصيلا فيها على أرض وطنه، وعليه لم يكن يملك سوى أن يكون أسيرا لأفكار وممارسات الحركة الشيوعية العالمية! صحيح أن هناك محاولات قد أطلت بين الفينة والأخرى لتصحيح هذا الوضع في الحزب الشيوعي، وهو أمر مقدر، ولكن الوضع منذ بدايته، وبرمته، لم يكن ليسمح بأن يكون الحزب الشيوعي السوداني غير صورة مشوهة لانعكاسات الواقع الأروبي الشرقي والسوفيتي على أرض السودان.. أما سكوت الشيوعيين عن "الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان" في فترة تحالفهم مع نظام مايو، فذلك لم يكن غير نتيجة تلقائية لسلسلة من الأخطاء المفهومية تبدأ من العلة الموجودة في الماركسية نفسها من تزييف معنى الديموقراطية وحقوق الأفراد في المجتمعات (ولهذه عودة).. الحزب الشيوعي في هذا الموقف إنما كان يتأسى بالإرث المفهومي والتطبيقي للماركسية في كافة تجلياتها العالمية، من الاتحاد السوفيتي لأوروبا الشرقية، للصين، لكوبا، ولو كان مقدرا للحزب الشيوعي أن يبقى في حلفه مع نظام مايو لفترة أطول، لكنا رأينا أكثر وأكثر من "السكوت عن الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان".. هذا علاوة على أن عبارة "السكوت عن الانتهاكات" هي من باب التصوير للنفس أنها لم تشارك في الفعل وإن سكتت عنه، وهذا لا ينطبق على مواقف الحزب الشيوعي في فترة تحالفه مع مايو.. أما علاقة الحزب الشيوعي السوداني بالانقلابات وانتزاع السلطة، فهي لم تبدأ مع مايو، ولم تكن 19 يوليو إلا هزة عنيفة جعلت الحزب يفكر أكثر من مرة في أي مغامرة أخرى من نفس الشكل.. لقد أيد وشارك الشيوعيون من قبل مايو في انقلابات عسكرية فاشلة لإسقاط الفريق عبود في مارس 1959، وفي مايو 1959، وفي نوفمبر 1959 [9].. لسنا بصدد انتقاد الموقف التكتيكي للحزب الشيوعي من هذه الانقلابات الآن، ولكن لكي نشير في الأساس إلى أن الموقف الأخير الذائع المزعوم للحزب الشيوعي في عدم تأييد إسقاط السلطة عن طريق الانقلاب العسكري ليس نتيجة جهد فكري متزن، وإنما نتيجة دروس وعبر متكررة اضطر الحزب لتجرع مراراتها عبر تاريخه بسبب إصراره على جدوى العمل العنيف في تغيير المجتمع وسياسات الدولة لصالح أجندته.. الحزب الشيوعي لم يكن ناجعا في استخدام منهجه الذي تبناه (المادية الديالكتيكية) لكي يدرك أن طريق الانقلابات العسكرية طريق لا يسوق لسلطة ديمقراطية، ولم يكن خلاف الحزب الشيوعي مع مايو له علاقة بانتهاك الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهو قد شارك في هذه الانتهاكات مع مايو قبل خصومته معها، ومن ثم حاول أن يستعيد يده في السلطة عن طريق انقلاب 19 يوليو.. الحزب الشيوعي لم يؤيد مايو ويشارك فيها للأسباب الصحيحة، ومن ثم لم يغضب عليها ويحاول اقتلاعها للأسباب الصحيحة، وفي هذه وتلك كان الدرس مرا علقما، اضطر معه الحزب لأن يعيد ترتيب مواقفه من العمل العسكري الانقلابي (ونرجو أن لا يسرح الخيال بعيدا ببعض القراء هنا لنحو أن هذا الكلام به شماتة بمن طالتهم يد الإعدام إثر أحداث 19 يوليو.. عليهم الرحمة جميعا، وليحفظ التاريخ ما كان لهم وما عليهم).. لقد أيد الأستاذ محمود محمد طه والجمهوريون نظام مايو عند مجيئه لأسباب تختلف تماما عن تلك الأسباب التي أيده من أجلها الشيوعيون، واليساريون عموما، ولهذا كانت مواقف الجمهوريين مع مايو مختلفة جدا عبر تاريخها من مواقف الحزب الشيوعي معها، فالحزب الشيوعي انتقل من المشاركة الفعلية في مايو، إلى محاولة اقتلاعها بالقوة، إلى العمل السري في معارضتها بأساليب عدة (والعمل السري نفسه لم يكن قد تخلص من مساوئ الإقصاء الفكري للآخر، ومحاولة تحطيمه بشتى السبل، التي ورثها الشيوعيون السودانيون من الحركة الشيوعية العالمية)، أما الجمهوريون فبدأوا بالتأييد السلبي لمايو للمصلحة المرحلية للبلاد، والتي كان قادتها في الجمعية التأسيسية على خطى تقنين دولة حكم طائفي متوج بالهوس الديني وتحت قناع ديموقراطية ميكانيكية لا تغني من الديمقراطية الحقة شيئا، بعد أن ألغوا الديمقراطية عمليا بقرار حل الحزب الشيوعي ومداولة مشروع الدستور الإسلامي، وذلك لأن مايو كانت في بدايتها قد أتت وأيدت، عمليا، الحلول التي كان يدعو لها الجمهوريون قبلها، من إيقاف لمؤامرة الجمعية التأسيسية، وسعي جاد لتقديم حل سلمي محترم لمشكلة الجنوب، وفتح مجال أوسع للمنابر الفكرية الحرة في تقديم طروحاتها، دون إخلال بالأمن العام (والتأييد السلبي يعني أن الجمهوريين لم يشاركوا في أجهزة مايو، بل ورفضوا المشاركة فيها حين عرضت عليهم في بعض المواقع، فبذلك لم تكن للجمهوريين أي فوائد خاصة أو شخصية يمكن أن تشوه نزاهة موقفهم)، ولكن حين بدأت مايو تحيد عن تلك الحلول والسياسات المرحلية المطلوبة (أي أنها بدأت تحيد عن مبادئها التي تبنتها في البداية، وأيدها الجمهوريون مرحليا من أجلها، لأنها كانت نفس ما دعوا له قبل مجيء مايو)، بدأت المعارضة المبدئية من جانب الجمهوريين لسير السياسات في القصر الجمهوري، حتى وصلت إلى المعارضة التامة إثر إعلان قوانين سبتمبر 1983، والتي أدت إلى المواجهة السافرة بين الجمهوريين ومايو التي أدت إلى تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه في يناير 1985، واستتابة أربعة من تلاميذه.. علاقة الجمهوريين بمايو بدأت علاقة أفكار ومواقف مبدأية، وانتهت كذلك، أما علاقة الحزب الشيوعي بمايو فكانت في أصلها نزاعا على السلطة، في جميع مراحلها..

    ونأتي لمثال آخر، هذه المرة فيما يختص أهل اليسار السوداني عموما (ومعروف تأثير الماركسية والحزب الشيوعي السوداني على حركة اليسار السوداني عموما، بجماعاتها وأفرادها المستقلين)، وموقفهم- الذي يفترض به أنه مرتكز على تحليل منهجي للواقع- من قضية الخفاض في السودان.. قد يرى البعض هذا الموضوع في غير محله هنا، ولكنه عندنا غير ذلك، لأنه أحد الأمثلة القوية على كيفية التعامل العلمي الرصين مع واقع التراث المحلي في عملية تغيير مثالبه، بدون التعرض غير الحكيم، وبجرعات مدروسة، للعقل الجمعي للشعوب في قضاياها الحساسة، التي تحتاج مبضعا ماهرا، يعالج الجروح دون تشويه الجسد، فهنالك مسائل في تراث الشعوب تقوم على أساسها نواة مجتمعاتهم، كالقوانين والعادات المرتبطة بالعلاقات الجنسية في المجتمع، و لهذا تظهر حساسية المجتمعات تجاه التغيير فيها أكبر من حساسيتها تجاه القضايا الأخرى بكثير، ويكفي أن ننظر إلى تاريخ الغرب الحديث، لنعرف كيف أحدثت الاتجاهات الجديدة، والتي ظهرت تدريجيا، في التعامل مع قوانين الجنس مجتمعيا تغييرا واضحا لصيغ تلك المجتمعات، في كل أنماط تفكيرها وممارساتها، فلم يعد الغرب بعد سجموند فرويد، وويلهيلم رايخ، وسيمون ديبوفوار كما كان، بل ولم يعد العالم كله كما كان (وليس هذا الآن مقام نقد لهؤلاء، سلبا أو إيجابا).. كان موقف ما يسمى باليسار السوداني عموما من هذه القضية، قضية الخفاض، منذ نهايات ستينات القرن المنصرم وإلى اليوم، نحوا إلى التشهير الإعلامي بعادة الخفاض عموما (ولا نعني هنا التعميم المخل [10])، والخفاض الفرعوني خصوصا، بتصوير مساوئها والتشنيع بها، في مواجهة خيال البسطاء من ممارسيها، بأكبر حجم ممكن، محاكاة لصورة التعامل الغربي مع هذه العادات "البدائية" الضارة (وللتعامل الغربي أجندة كان من الأحرى أن يفقه لها أهل اليسار السوداني، خصوصا الماركسيين، وهم الذين ينامون ويستيقظون على تحسس الخطر الإمبريالي المحدق بهم من كل الجوانب).. يروى أنه في بداية ثمانينات القرن المنصرم، قامت جامعة الأحفاد بحملة مناهضة للخفاض، وكان أن أقيم يوم توعية ودراسات عامة للموضوع في الجامعة نفسها، حضره الأستاذ محمود محمود طه، وعاد منه مستاءا من الصورة التي يحاول المثقفون والمثقفات - وجلهم وجلهن من محسوبي اليسار- التعامل مع هذه القضية الحساسة، بصورة تقليدية للأسلوب الغربي المغرض في التعامل مع هذه الظاهرة (وهل يعلم الناس مقدار التسلط الذكوري على جسد المرأة الغربية اليوم، مما تجلى، ويتجلى يوميا، في صور الرقابة الذاتية للمرأة في المجتمع لتطابق مواصفات النظرة التسليعية لها في المجتمع الغربي الذكوري، مما أتى بصور جديدة من الأمراض والآلام الجسدية والنفسية، التي تعانيها المرأة في الغرب اليوم بسبب ضغوط المجتمع على جسدها وأسلوب حياتها وتفكيرها؟)، وكانت هذه هي الحادثة التي خرج إثرها كتاب الجمهوريين عن الخفاض الفرعوني (أكتوبر 1981).. وفي الفترة الأخيرة، في ظل نظام جماعة الإنقاذ، نحى أهل اليسار، داخل السودان وخارجه، إلى تصعيد هذه الحملة ضد الخفاض الفرعوني بنفس الصور الغربية القديمة وأكثر، باستعداء المؤسسات الغربية مجددا للسلطة في السودان بسبب هذه العادة (وليت السلطة كانت هي من اخترعت هذه العادة، أو أنها هي من يمكن أن توقفها)، دون الالتفات والتخطيط لصورة منهجية نافعة في تغيير وعي الشعب بهذه العادة الضارة (طبعا دونما تعميم مخل، كما ذكرنا آنفا، ومع الاحترام للصور الأكثر جدية وحكمة في التعامل مع هذه الظاهرة، سواءا من جانب أهل اليسار أو غيرهم).. يقول الدكتور النور حمد، في التعليق على هذه الصورة من التعامل مع هذه القضية: "واحدة من طرائق اليسار السوداني المستظل بدوحة أدبيات الحزب الشيوعي السوداني في تحريك وإدارة الصراع مع السلطات القائمة. وهي إدارة للصراع تقول تجربتنا فيها، أنها لا تعدو أن تكون سجالا من سجالات تسجيل النقاط التي ينتظر لها أن تتراكم نحو نقطة الإنفجار. ولكن، حين تنعدم الرؤية المقعدة وينقصم عظم الظهر الفكري للفعل السياسي، يصبح العمل في المعارضة السياسية خبط عشواء، و"رزق اليوم باليوم"[11].. من المؤكد أننا هنا لا نشير إلى عدم أهمية هذه القضية، قضية الخفاض، ومواجهتها، ولكننا نشير لصور فقدان الحكمة في التعامل والتحليل المجتمعي الواقعي للبيئة السودانية من جانب أهل اليسار السوداني عموما، إلا فيما ندر.. يقول النور حمد في فقرة أخرى من مكتوبه المشار له أعلاه: "حين ناهض الأستاذ محمود محمد طه، قبل نصف قرن من الزمان، إتجاه السلطات البريطانية لإصدار قانون يحرم خفاض البنات ويجرمه، ذكر، ضمن ما ذكر، حينها، أن الإنجليز ليسوا أحرص منا على صحة بناتنا ومستقبل حياتهن. كما ذكر أن العادات الضارة لا تحارب بسن القوانين وتطبيقها، وإنما تحارب بالتعليم وبالتوعية وبالأخذ الجاد بأسباب النهضة الشاملة. وقال بالتحديد، إن على الإنجليز، إن كانوا صادقين فيما يزعمون، أن يسارعوا بفتح المدارس في كل أرجاء القطر، ودفع القطر نحو النهضة الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، بدل العمل على تجريم الأميين على عادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم" (دخل الانجليز السودان منذ عام 1898، فلماذا لم يثيروا قضية الخفاض بهذه الصورة إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية نفاذ وثيقة الأطلنطي؟).. كان هذا في اطار ثورة رفاعة المجيدة، في العام 1946، والتي فطن فيها الأستاذ محمود ومن حوله إلى الحيلة الاستعمارية في قانونها ذاك، في حين لم يفطن لها بعض المحسوبين على اليسار السوداني إلى اليوم (كالدكتور خالد المبارك، في مقاله "محمود محمد طه وأنصاف الحقائق" في نوفمبر 2002، وهو الذي كان يوما من محسوبي الحزب الشيوعي السوداني، ولكن ذلك لم ينفعه بإرث منهجي يعينه في رؤية الأمر ليأتي بعد كل هذه السنين ويقول أن موقف الأستاذ محمود في ثورة رفاعة كان موقفا رجعيا).. هل قضية الخفاض قضية عاجلة؟ نعم! وهل وضع المرأة في السودان عموما، عبر تاريخه، موسوم بالاضطهاد والتجني؟ نعم! وهل لا نريد أن نقوم بفعل ينهي هذه الأزمة في أقرب وقت ممكن؟ بلى! ولكن الحديث هنا عن السؤال الصعب.. عن "كيف؟"..

    في بادرة من بوادر الفهم الأوضح لهذه المشكلة عند محسوبي يسار السودان، نقرأ للدكتورة ناهد فريد طوبيا حين تقول: "إن ما قيل عن الخفاض في العشر سنوات الأخيرة وخاصة من قبل الإعلام الغربي والمنظمات الدولية قد خلق جوا من الحساسية تجاه الموضوع من قبل بعض الجهات المختصة في مجتمعاتنا. فقد تعامل الغرب مع ظاهرة الخفاض وكأنها اكتشاف لوباء خطير قاموا وحدهم بالاستدلال عليه ثم حولوه إلى موضوع الساعة في الأوساط الدولية للمرأة بمساعدة الإعلام الغربي. كما صوروه على أنه دليل واف على بربرية وبشاعة بعض المجتمعات المتخلفة بل أصبح دليل ضمني على تخلف العرب والمسلمين والأفارقة في آن واحد" [12]، وتواصل الدكتورة بعد ذلك في سرد المضار النفسية والجسدية لموضوع الخفاض، مصطحبة أثر الضغط والفهم المجتمعي الذي يجعل من الصعب تغيير هذه العادة في المجتمع بعصا سحرية، سواءا كانت في شكل قانون رادع أو تناول صفوي لا يقترب كفاية من واقع العامة، وأن اختيار ممارسة هذه العادة يكون أحيانا تضحية في سبيل إمكانية البقاء المجتمعي، إذ أن الفتاة تفقد فرصتها في الزواج ومن ثم فرصتها في الحياة في مجتمع لا قيمة فيه للفتاة بدون زواج، فالمشكلة مجتمعية قبل أن تكون طبية، ولهذا لا بد من مواجهتها مجتمعيا وليس طبيا فقط.. تقول الدكتورة: "أما من الناحية النفسية والجسدية (للمرأة السودانية) نفسها وإمكانية نمو الوعي بحقوقها ومطالبها بأعضاء جسدها فذلك صعب دون خلق ذلك الوعي من الخارج. فالمرأة السودانية لم تعرف في تاريخها القريب أي حالة أخرى يمكن أن تكون عليها سوى أن تكون مخفضة".. وفي الخلاصة، تقول الدكتورة: "إذن يجب أن نعود للتفكير في كيفية تغيير مفاهيم العائلة الموسعة والجماعة ولا نكتفي بأساليب الاقناع الفردي العقلاني فهو ضعيف أمام ضغوط الجماعة. يجب أن نوجه مجهوداتنا لخلق لغة تخاطب مع المجتمع ككل وايجاد فوائد لدعواتنا تعود على الجماعة وليس على الفرد فقط ذلك بجانب مخاطبتنا أيضا لعقلية الفرد المثقف المتميز الذي يستطيع أن يساهم في التغيير".. يرد في كتاب الأستاذ إبراهيم يوسف "ثورة رفاعة المجهولة"- والذي تابع فيه تاريخ هذه الثورة المجيدة بالتوثيق والتعليق- حديثا عن البروفيسورة ألين قرونبوم، في كتاب لها عن الخفاض "بعد خمس سنوات من البحث الميداني عن فشل الغربيين في التعامل مع عادات المجتمعات الشرقية مثل عادة الخفاض حين حاولوا (التعامل معها بالقوانين بدون أن أي اعتبار للعوامل الأنثروبولوجية)".. يمكننا القول أن الفرق الزمني بين دراسة الدكتورة ناهد هذه واليوم جعل هنالك صورة مجتمعية جديدة نسبيا، وتتطلب تعاملا مختلفا، كما يمكن أن نقول نفس الشيء عن موقف الأستاذ محمود والجمهوريين في اطاره الزمني السابق (والجمهوريين أساسا إنما دعوا إلى هذا التطوير وساهموا فيه)، إذ أن الواقع اليوم أن الكثير من المجتمعات الصغيرة في المناطق المتحضرة نسبيا في السودان قد استطاعت تجاوز موضوع الخفاض وإدراك مدى ضرره وخطورته، ولكن هذا لا ينطبق بعد على أغلبية سكان السودان في الأقاليم والمناطق البعيدة عن تأثير موجة التوعية المجتمعية، فالمسألة تحتاج مثلا، بجانب حملات التوعية لمضارالخفاض، توفير الخدمة الصحية المناسبة للأسر التي تصر على تنفيذه، حرصا على سلامة البنات ومن أجل تخفيف الضرر إلى أقصى حد ممكن، والتدريج في مسألة المنع القانوني لممارسات الخفاض حتى لا يؤدي العسف القانوني الغير مصحوب بتوعية ملائمة إلى نتائج عكسية لا تخدم مصلحة ضحايا الخفاض.. لماذا مثلا لا نخاطب المؤسسات الغربية المعنية بمثل هذه الشؤون من أجل توفير بيئة وأدوات طبية أكثر صحية في عملية الخفاض، لنمد بها المناطق النائية عن الوعي الحداثي، والتي لا يمكن إيقاف هذا الأمر فيها بالسرعة المرجوة؟ أو ليس هذا من المصلحة المباشرة لضحايا هذه العادة؟ أوليس في هذا استفادة أكثر إيجابية من إمكانيات الغرب مع مثل هذه الأزمات؟ وبهذا العمل يمكن التقرب أكثر لهؤلاء الناس، لتوعيتهم القريبة بسيئات وأخطار هذه العادة؟ (خصوصا وأن الفكرة لها مثيلاتها في القارة الأفريقية، وبدعم غربي، في صور العيادات المتنقلة (Moving Clinics) في الأرياف في طب العيون والسكري وخلاف ذلك من التخصصات العسيرة التواجد في المناطق النائية).. نعلم أن هذا الرأي قد يستدعي ردات فعل متفاوتة، لا نستطيع التنبؤ بمستوياتها، ولكن حسبه أنه طرح يسعى لحل عملي جوهري لهذه المشكلة، ضمن إيمان راسخ بأن هذه العادة إلى زوال بلا شك، ولكن يبقى العمل من أجل إسراع زوالها.. هذا وموضوع الخفاض بلا شك يتطلب تناولا أكبر من هذا، ولكنا نشير إليه هنا في توضيح مستوى الفهم المنهجي القديم الذي قدمه الجمهوريون لمعالجة هذه القضية، وما يمكن أن ينعكس منه اليوم، في مقابل الفهم الذي قدمته معظم مؤسسات اليسار السوداني.. الطريف في الأمر أن هناك صور من أشكال تعامل الماركسية مع الواقع السوداني في قضايا كثيرة تخص المرأة السودانية، فيها صورمن التخلف ورفض التطور عموما، بحجة التركيز على قضايا مجتمعية ثانوية تخص المرأة، في حين أن هذه القضايا الثانوية لا يمكن علاجها إن لم تعالج أصول المشاكل [13]، ولنا لهذه عودة..

    وقبل الانتقال إلى باب آخر من أبواب هذه الورقة، ندلف برهة إلى مثال آخر، يخص أهل اليسار السوداني كله أيضا، ومعه اليسار العربي برمته، باعتبار العلاقة التاريخية والمعاصرة بين حركات يسار المنطقة (ونتحفظ هنا على التصنيف "العربي" لهذه الحركات، لأن السودان فيها! واليسار السوداني كان يفترض به، على أقل تقدير، الارتباط بجميع حركات اليسار في المنطقة، أفريقا وعربا، ولكنه آثر التنكر لإحدى أهم مبادئ الاشتراكية وتحيز للعنصر المتوهم، وهذه قضية أخرى لم نرغب سوى في مجرد الإشارة إليها الآن، كما لم نرغب في تناول قضية تصنيف الجمهوريين كأهل حركة يسارية بعيدة عن التصنيف العرفي لليسار في السودان)، ألا وهو فيما يتعلق بمشكلة الشرق الأوسط، والماثلة في فلسطين واسرائيل.. بطبيعة الحال، كان اليسار السوداني، كيسار المنطقة العربية بكل توجهاته، منطويا تحت الراية الناصرية في سياستها مع دولة اسرائيل، من الوعيد الخاوي بـ"إلقاء اسرائيل في البحر" وما سواه من صور الإعلام العربي الرخيص.. وحين دعا الأستاذ محمود محمد طه، في سابقة مخالفة للقطيع في المنطقة، إلى إقامة سلام مع اسرائيل، يقوم على التفاوض المباشر بين العرب واسرائيل، بعيدا عن وساطات وتمثيلات الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في الأمم المتحدة، بدا هذا الأمر لأهل اليسار وكأنه الكفر عينه، أو دونه الكفر! لدرجة أن بعض منسوبي اليسار، في صورة سافرة، نظموا مظاهرات في أماكن محاضرات الأستاذ محمود، يهتفون فيها: "محمود عميل صهيوني"! وفي حين كان العرب يتبعون صلف جمال عبدالناصر، وتنكره لحقائق الواقع، واستناده على دعم الاتحاد السوفيتي في وجه الولايات المتحدة التي استعداها في غير داع وبدون قوة تحميه، مما اضطره اضطرارا إلى الغوص في حضن الاتحاد السوفيتي أكثر وأكثر، في ذلك الحين كان الأستاذ محمود يحاول أن يعلم يسار المنطقة، والجميع، كيفية القراءة السياسية الواقعية السليمة، فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (أو لعلهم لم يستبينوه بعد).. وفي اطار المحاولة لفتح أنظار العرب ويسار المنطقة للمشكل الكبير في تحليلهم، صدر كتاب "مشكلة الشرق الأوسط" للأستاذ محمود، في أكتوبر 1967.. قام الأستاذ في هذا الكتاب بتحليل القضية إلى عناصرها الأولية، وبداياتها التاريخية، ومآلاتها المعاصرة، وأظهر فيها جهل منظومة يسار المنطقة، في اعتمادهم على دعم الاتحاد السوفيتي الظاهر لهم، برغم أن الاتحاد السوفيتي كان من أول وأقوى المؤيدين- مع الولايات المتحدة، كنادرة اتفاق تاريخية بين الحكومتين- لقيام دولة اسرائيل في الشرق الأوسط، في هيئة الأمم المتحدة، وكيف أن العداء الغربي الذي كان للعرب لم يكن بسبب أن بعض الدول العربية، مثل مصر، أرادت أن تصبح اشتراكية، وإنما بسبب "أن مصر، حين أرادت أن تصبح اشتراكية، لم تعرف كيف تصبح اشتراكية بدون أن تصبح ماركسية، وخاضعة للنفوذ الروسى.. بمعنى آخر بدون أن تدخل في حلبة الحرب الباردة، وتصبح عظم نزاع بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية" (الكتاب، الفصل الثالث).. يروي الأستاذ محمود في كتابه هذا سلسلة الأخطاء الناصرية، منذ الطريقة غير المسؤولة التي أمم بها عبدالناصر قناة السويس، مما تداعى بالأحداث إلى استعدائه لقوى لا يملك لها قدرة مجابهة، ومما جعله، بدل أن يتحمل مسؤولية مواقفه كالزعماء الحقيقيين، يرتمي في أحضان الاتحاد السوفيتي كي ينقذه من الورطة التي تورط فيها، دون أن يعي أن الاتحاد السوفيتي هو قوة امبريالية أخرى، لها مصالح نفوذ وسيطرة، فكرية وسياسية، على المنطقة، ومنافسة مع القوى الامبريالية الأخرى، وكيف كان انعكاس هذا الصلف على السياسة المتعسفة لعبدالناصر تجاه قضية اسرائيل، ومن وراءه بقية العرب، في حين كانت الأخرى تبحث عن قنوات للتفاوض في ذلك الوقت مع العرب، مما أدى في النهاية إلى فقد العرب لفرصة حقيقية في تفاوض متكافئ نسبيا في ذلك الوقت، من أجل السياسة المرحلية، وصاروا اليوم، كما هو واضح، يتفاوضون من كرسي الطرف الأضعف، الذي يبحث عن تسويات، رغم ما فيها من المهانة إلا أنها خير من لا شيء.. على العموم فإن هذا القول المبتسر لا يغني بتاتا عن الاطلاع على كتاب الأستاذ محمود المذكور أعلاه، وهو يتناول قضية حساسة ومؤثرة في المنطقة إلى اليوم، مما يوجب على المهتمين بهذه القضية، من الباحثين الجادين، قراءة مثل هذه الآراء التي مضت عليها عقود بدون أن تسلبها فاعليتها لليوم [14].. أردنا فقط، في هذا القول المبتسر، الإشارة الملخصة إلى صورة أخرى من صور الفشل في القراءة العلمية السليمة لعناصر اليسار في المنطقة، ومن ضمنهم، بالتأكيد، اليسار السوداني..
    ___________________

    [9] الحزب الشيوعي السوداني، سكرتارية اللجنة المركزية، "19 يوليو 1971"- يناير 1996، صفحة 3
    [10] ندرك أن التاريخ يحفظ للحركة اليسارية في السودان صورا من التعامل الحكيم، المتنزل لأرض الواقع، مع عادة الخفاض من جانب الرعيل الأول من قيادات الاتحاد النسائي السوداني (الأستاذة فاطمة إبراهيم وأخواتها)، ولكننا ندرك أيضا أن أساليب هذا الرعيل الأول في عملية التوعية لمحاربة هذه العادة الضارة لم تكن هي نفس الأساليب التي تبنتها كافة جهات اليسار، المنتمية للحزب الشيوعي والغير منتمية له، خصوصا الأجيال التي تلت ذلك الرعيل الأول..
    [11] د. النور حمد - منبر موقع "سوادن للجميع" الالكتروني (Sudan-forall.org)، في خيط بعنوان "جيوبوليتيك الجسد العربسلامي في السودان"، بتاريخ 30 أبريل 2006
    [12] د. ناهد فريد طوبيا، "المشكلات الصحية للمرأة السودانية الناتجة عن وضعها الاجتماعي والثقافي"- مجلة "كتابات سودانية"، العدد السادس، سبتمبر 1995- الصفحات من 43 إلى 44
    [13] راجع د. عبد الله علي ابراهيم، "في يوم المرأة العالمي: الماركسية والمرأة في السودان" - موقع "سودان للجميع" الالكتروني، صفحة "كتابات نقدية"، في الإشارة لتأييد الأستاذة فاطمة إبراهيم لقوانين الأحوال الشخصية في المحاكم الشرعية..
    [14] كتاب "مشكلة الشرق الأوسط"، ومجموعة الكتب الأساسية الأخرى للأستاذ محمود، موجودة في الموقع الالكتروني للفكرة الجمهورية (alfikra.org)..
                  

01-21-2007, 05:08 AM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)


    العنف وتزييف الديموقراطية

    هنا نأتي للصور الشوهاء المضمنة في الفلسفة الماركسية لتصور العمل الثوري، وانعكاساتها النظرية والعملية في ممارسات اليسارالماركسي السوداني.. يواصل الأستاذ محمود محمد طه حديثه أعلاه في تناول نقاط ماركس، فيقول: "نقطته الرابعة بتاعة: (العنف ، والقوة، هما الوسيلتان الوحيدتان لإحداث أي تغيير أساسي في المجتمع).. نقطته الخامسة بتاعة (دكتاتورية البروليتاريا).. دي نقط كلها فيها ضعف.. وهي مما يمكنك أن تقول أنها مما وضع في ميزان سيئاته.. الموضوع وما فيه أنه هو ما بشوف، للخلف ولا للأمام، الوضع كله.. هناك في تطور جايي من الماضي ماشي للمستقبل بقوة، يمكنك أن تقول عنها أنها قوة صماء.. هذا التطور ماشي للإنسان.. الإنسان هو قمة التطور وليس للتطور في هذا المضمار نهاية.. هذا الإنسان ما عنده إرادة مستقلة، وإنما هو ماشي لمصير محتوم.. حتى فهم الإنسان لهذا المصير المحتوم، وحتى علمه، أو فلسفته إنما تعطيه إياها حركات المادة المتطورة وفق قوانين معينة.. نحن في الماضي طلعنا من الماء، ثم من الغابة.. نحن البشر كنا بنعيش عيشة الحيوانات المائية في الماء، والحيوانات الوحشية في الأحراش.. والحيوانات، بطبيعة الحال، قانونها قانون الغابة حيث القوي منها بيأكل الضعيف [.......]..عندنا العبارة المعروفة: (من غلب سلب) والمجتمع المتخلف حقوقه هي دائماً حقوق القوي.. القوي عندو حق لأنه قوي.. وهو بتقاضى بنفسه الحق بتاعو.. ما هو عاوز محاكم عشان ما تديهو حقه دا.. لكن هل السمة دي من سمات المجتمع هي ملازمة للمجتمع في المستقبل أم هل هي مرحلة؟؟ أنا أفتكر أن كارل ماركس، في جميع نقطه التي أسس عليها اشتراكيته العلمية، قد حجب عن كونها مرحلية، واتخذها كالمستديمة، وبنى عليها دراسة مستقبل التطور.. وهذا هو مكان الخطأ في فكره.. أما إن كانت دراسة لماضي التاريخ فإنها صحيحة.. ويمكنك أن تضعها في ميزان الحسنات.. لكن الماضي كونه ينسحب على المستقبل دا ما هو صحيح [.......].. أنا أحب أن يكون في تفريق في عبارته.. هو قال: (العنف و القوة) ضروريتان.. أما نحن فعندنا أن القوة ضرورية، لكن العنف ما ضروري.. أنا أفتكر أن ثورة أكتوبر تدينا مثل في ذلك.. نحن في ثورة أكتوبر كنا قويين لكن ما كنا عنيفين.. القوة جاية من وحدة صفنا، حتى الإنسان الكان يمكن أن يكون عنيف ما استطاع أن يكون عنيفا.. فالقلة كانت بتملك السلاح، وكان يمكن أن توجهه ضد الشعب.. ولكن قوة الشعب أضعفتهم، وذهبت بعنفهم.. فإذا كان نحن ميزنا بين العنف والقوة، أنا أفتكر الطريق ينفتح قدامنا للتطور البشري الحقيقي.. فإن القوة ضرورية ولكن العنف ما ضروري.. بل الحقيقة، لدى الفكر الصحيح، العنف من دلائل الضعف، عند العنيف، وليس من دلائل القوة.. وأنت دي بتباشرها في الحياة اليومية، فالإنسان الواثق من نفسه قل أن يلجأ للعنف.. وأما الإنسان الضعيف فمن أول الكلام، من أول المحاججة، من أول النقاش، بتلقاه نفَسه قام، و زعل، كأنه بقول ليك ما تتكلم تاني معاي.. فالعنف إنما هو حماية لنفسه، أو ستر لضعفه.. وما من ديكتاتور بطش بالناس إلا لأنه خائف [.......].. العنف كان سمة تاريخنا في الماضي.. القوة راح تكون سمة تطورنا في المستقبل.. أنا أعتقد أن كارل ماركس ما كان عنده خيال كافي عن المستقبل.. في نقص في فكرته عن المستقبل.. لقد كانت نظرته عملية، وكان يخاف من الخيال، ويتبرأ منه، بالصورة التي تركته يحاول أن يزحف على كل الأرض، بدون ما يكون عنده خيال واضح هو ماشي لي وين.. اللهم إلا خيالا ً يستخلصه من الماضي.. ودا هو أساس الضعف في جميع مسائله [.......].. هنا يقع وضع ماركس في الخطأ الكبير جداً، اللي هو ديمقراطية الطبقة المستغَلة، الطبقة العاملة.. أو ما أسماه باتحاد العمال، والمزارعين، والمثقفين الوطنيين.. دي فيها تزييف للديمقراطية مؤسف.. لأنه، بطيبعة الحال، الديمقراطية هي أن تختار.. يمكنك أن تقول، من الناحية دي، الديمقراطية هي أن تمارس أنت حق الاختيار.. لأن حق الاختيار يديك فرصة إنك أنت بتوزن، وبتقدر بنفسك، وبتفكر.. حق الاختيار، أقل مراحله، أن تختار أنت بين إثنين.. إذا كان عندنا في حزبين، منهم مرشحين بتنافسوا، مثلا ً، على الرئاسة، أنا وأنت بنمشي ندلي بأصواتنا بين زيد وعبيد.. نحن في المستوى دا ديمقراطيين.. لكن إذا كان في عندنا رجل واحد بترشح للرئاسة، وناس معينين بترشحو للنيابة، نحن ممكن نمشي، وممكن نصوت، لكن، رغم ذلك، فإن الوضع ما هو ديمقراطي.. الوضع تزييف للديمقراطية.. وتسميته بالديمقراطية من أكبر الأخطاء التي تورطت فيها الماركسية.. دي، وما يتبع من مسائل يمكن أن نرجع ليها هسع، هي ثمرة الوضع عند كارل ماركس.. كون الفرد البشري ما عنده قيمة، إذا ما قورن بالمجتمع، دي جاية من التفكير المادي نفسه.. التفكير المادي بقول إنو المادة سابقة على العقل في الوجود.. يعني المادة أكرم من العقل.. لاحظ أن النقطة دي هي الانبنى عليها كثير جداً.. كون العقل نتيجة للمادة دا معناهو أن المادة أكرم ما في الوجود.. المادة أكرم من العقل.. وهذا التفضيل ينسحب على الفرد.. المجتمع أهم من الفرد.. وتنسحب على مسألة الحرية الفردية.. وتجي معاها مسألة القطيع - مسألة الجماعة- ففي الماركسية الجماعة أهم من الفرد.. الحكاية بسيطة، و جات من ملابسات أنا أفتكر أنها سطحية جدا.. زي التفسير بتاع التاريخ بالصورة دي، السطحية فيها بطبيعة الحال موجودة.. إن الفرد البشري بطبيعته أناني، وهو، بطبيعته الثانية، أناني جاهل، لأنه نشأ، وارتفع، من الحيوانية البدائية المعروفة.. الحيوان ما عنده اعتبار لغيره، وهذا أمر معروف.. ثم إننا نحن عندما دخلنا في المجتمع لنبقى ناس كان على المجتمع أن يروضنا، من شراسة الحيوان إلى انسية الإنسان، و لذلك ألقى المجتمع البدائي على الفرد البشري تكاليف كبيرة، إلى الحدود التي جعلت الفرد البشري يضحى بيهو في سبيل الجماعة.. التضحية بالفرد البشري في سبيل الجماعة في الأديان كلها معروفة.. حتى في ديننا نحن.. القصة البتجي عن سيدنا إبراهيم لما فرض عليهو أن يضحي بإسماعيل ما جاية من الهواء، إنما جاية من ملابسات في المجتمع الماضي الحاجة فيها ماسة.. وإبراهيم ما تردد في التنفيذ.. لكن في اللحظة ديك ربنا فداه بالحيوان.. فانتقل البشر للضحية بالحيوان، بعد أن كان يضحي بالبشر.. مسألة عروس النيل، في مصر، المشهورة في أيام عمر بن الخطاب!! [.......].. هذه كلها صورة قديمة من صور التضحية بالفرد البشري.. وفي إخضاع الفرد للجماعة بهذه الصورة العنيفة فائدة للفرد وفائدة للجماعة.. فأما فائدة الجماعة فواضحة، وأما فائدة الفرد فتجي من إنو العنف بيعينه على السيطرة على نفسه بدواعي الخوف من غضب الآلهة وغضب الجماعة حين يخالف القوانين.. وبسبب هذه التربية الطويلة تحت ظل الخوف أصبحت بتلقى الفرد البشري إذا ما خاف سيكون نشاطه ضد الجماعة، ومن هنا أصبح قائماً في ذهن المفكرين أن الجماعة أهم منه وهو من أجلها يمكن أن تهدر حريته.. فالجماعة كالدولاب الكبير، كله أسنان، وما الفرد إلا سنة واحدة من هذه الأسنان، فإذا انترمت هذه السنة فإن الدولاب سيستمر يتحرك.. إهدار حرية الفرد في سبيل أمن الجماعة جاي من الاعتبار القائل إنو العقل جاي بعد المادة فهي من ثم أهم منه.. فما قرره كارل ماركس، في هذا الباب، عن ماضي التاريخ، فهو صحيح.. ولكن، في مستقبل التاريخ، هل الفرد البشري لازم ليه، ولا بد ليه، أن يكون أناني، وباستمرار؟؟ أم هو ماشي ليوعى وبالمستوى الذي يجد بيه سعادته في إسعاد الآخرين؟؟ ويرتفع من أنانية حيوانية سفلى، إلى أنانية إنسانية عليا، ومتفهمة، وعالمةً؟؟ وعندنا نحن لما قال (يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة) هل نفى الأنانية على إطلاقها أم نفى الأنانية الجاهلة فقط، والأنانية العالمة موجودة حتى في هذا الإيثار؟؟ كل البشر عندهم أنانيتهم طبعاً، ولكن ليتعلموا، ويترقوا، لا بد أن ترتفع أنانيتهم من أن يكون الحطام هو جزاهم إلى أن يكون جزاهم أرفع من ذلك، اللى هو مرضاة الله، والقرب منه، والسعادة البلقاها في برد راحته بمعرفته بالله.. (الخلق عيال الله! فأحبهم إلى الله، أنفعهم لعياله).. ولذلك قال تعالى (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).. ففي أصل المجتمع إنو ماشي يصل للأنانية الراقية، لكنو في الماضي خاصة كانت أنانيته حيوانية وضيقة.. فكارل ماركس بنى على الماضي، وسحبه على المستقبل، ولذلك أخطأ هنا كما أخطأ في النقط السابقة"..

    تجب الإشارة هنا إلى أن الأستاذ محمود قد علق في فقرة سابقة من محاضرته هذه على معلومة أن مفهوم "دكتاتورية البروليتاريا"، وتطبيقاته، هو مفهوم أضافه لينين لقواعد الماركسية، ولكن احتواء الماركسية على هذا المفهوم يكمن في أن أسسه قائمة في الفهم الماركسي قبل لينين، وما فعله لينين هو أنه أبرز هذا الفهم وبوبه بصورة رسمية في المضمون الماركسي.. هذا لا يعني أن ماركس لم يذكر هذا المفهوم قط في حياته، فهو قد قال في رسالته "نقد برنامج غوتا" (Critique of the Gotha Program) في العام 1875: "بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي هناك فترة من التمرحل الثوري من صورة مجتمعية لأخرى. استجابة لهذا، هناك أيضا مرحلة سياسية انتقالية لن تكون فيها الدولة غير الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا" (ترجمة الكاتب).. من المهم جدا الانتباه لتفاصيل هذا الأمر، فالكثير من الشيوعيين اليوم يحاولون نسب هذا المفهوم للينين، كخطوة للتملص منه عن طريق البراءة من اللينينية، وهذا تكتيك فكري بائس، ويفتقد للشجاعة الأدبية.. ماركس لم يكن ينظر في مفهوم الدولة- حتى الديمقراطية- غير وسيلة تسيطر بها الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج على بقية الطبقات، كما أنه كان يرفض فكرة تنظيم عمالي شامل، يجتمع فيه العمال لتدبر مصالحهم بكافة مشاربهم الأيديولوجية، ولينين لم يفعل هنا سوى أنه تشرب هذه الأفكار الماركسية، ومن ثم عرضها بصورة مبوبة وواضحة في سياسة الدعوة لديكتاتورية البروليتاريا.. قد يقول البعض أن ماركس كان يؤيد العمل في داخل اطار القانون الديمقراطي للدولة للوصول لأهدافه الثورية، ولكن كيف يكون ديمقراطيا من يدعو للعمل في الاطار الديمقراطي من أجل الوصول لديكتاتورية، وإن كانت "ديكتاتورية البروليتاريا"؟

    الديمقراطية فقدت معناها عند ماركس، لا لأنه لم يعيها، ولكن لأنه لم يتعرض لنموذج لها إلا من خلال التاريخ، والتاريخ لم تكن فيه ديموقراطية حقة في يوم من الأيام، في أثينا أو غيرها، عند النظر الدقيق، ولكن الفكرة الديمقراطية هي فكرة تطورت تاريخيا بفضل العمل التخيلي المستمر للإنسان من أجل واقع أفضل في المستقبل، استنادا على قوانين ومظاهر من تجربته السابقة، ولكن بدون التمترس خلف هذه القوانين والمظاهر بشكل مطبق.. لهذا ذكر الأستاذ محمود أن المشكل الرئيسي في ديالكتيك ماركس أنه يبني قواعده على قوانين حركة التاريخ دون السماح لمعادلات جديدة في التولد من رحم هذه الحركة (بعكس ديالكتيك هيغل)، رغم أن حركة التاريخ نفسها تفيد بان الخيال وإمكانية دخول معادلات جديدة في هذه الحركة هما عاملان أساسيان من عوامل معادلة التطور عبر التاريخ! والديمقراطية أيضا فقدت معناها عند ماركس لأنها مرتبطة أساسا بحق الفرد في المجتمع، وعند ماركس فإن المجتمع مقدم على الفرد تماما بشكل ليس منه فكاك، وفي هذا لم يفطن ماركس، في تحليله التاريخي، إلى أن الأفراد هم مخترعي المجتمع، وليس العكس، وهم قد اخترعوه ليستفيدوا منه، لا ليصبحوا مستعبدين له يد الدهر.. المجتمع عبارة عن "هدنة" يتواضع عليها أفراده، وبمقتضاها يتنازلون عن جزء من حرياتهم الشخصية في سبيل وضع نظام يحكم علاقاتهم ببعضهم في حيز زمكاني معين، وبذلك يستطيعون الاستفادة من فوائد هذه الهدنة في صور توفير الحماية وتخفيف أعباء الصراع من أجل حاجات وغرائز الجسد، من مأكل ومأوى وجنس (وللغريزة الجنسية- والغيرة الجنسية- أهمية قصوى في تنظيم المجتمعات، وقد أغفلتها الماركسية إغفالا دالا على قصور الرؤية [15])، وأيضا التمتع دون خوف بما تبقى من حرية لا يعارضها تنظيم المجتمع، وهي حرية تطورت وما زالت تتطور تدريجيا نحو السعة، في سبيل السعي المتواصل للمزيد منها دون المساس بحقوق الآخرين في المجتمع (وهذه هي المعادلة التي أعيت الفلسفات الاجتماعية عبر الأزمان: كيف التوفيق بين حرية الفرد وحاجة بقاء المجتمع)، من هذه البداية المنطقية لأسباب ظهور المجتمع (حتى من مرحلة الحيوانات الاجتماعية، كتطور على مرحلة الحيوانات ذات السعي الفردي)، أصبح التاريخ فيما بعد عبارة عن علاقة ديالكتيكية بين الفرد والمجتمع، يؤثر كلاهما فيها بالآخر ويتأثر به، في تطور مستمر، لم يزل.. والديموقراطية تعنى أساسا بمدى حرية الفرد في المجتمع، وعند ماركس لا توجد حرية جوهرية للفرد في اطار المجتمع، لأن الكائن البشري عنده كائن مجتمعي في جوهره [16].. طريقة ماركس في التفكير المجتمعي، باختصار، تحمل في طياتها نفس مساوئ تغريب الإنسان التي عابها على المجتمع الطبقي ومفهوم الدين (ولهذه عودة)..

    أما عن تصور ماركس لضرورة "العنف الثوري"، وليس "القوة الثورية" فقط، فإن من سبيل العبث إنكاره، ومن سبيل العبث أيضا إنكار أن حركة التاريخ قد تجاوزته فعليا، وبأمثلة ناصعة من ثورة أكتوبر عندنا في السودان، ومن ثورة الشعب الهندي، بزعامة غاندي ومن حوله في حركة الساتياغراها، على الاستعمار البريطاني (وفي جنوب أفريقيا أيضا قبل ذلك)، ومن ثورة الشعب الأمريكي الأسود بزعامة أمثال روزا باركس ومارتن لوثر كنج في أمريكا الشمالية، ومن ثورة سود جنوب أفريقيا بقيادات من نوعية ستيف بيكو ونيلسون مانديلا وديسموند توتو (ورغم أن العنف لم يكن ملغيا تماما بعد في هذه الثورات، على تفاوته بينها، نظريا وفعليا، إلا أن تأثيره كان ثانويا، وكانت محصلة الانتصار من نصيب مجهود النضال السياسي المستمد قوته من التوحد شعبيا والمستغني عن العنف).. لقد خلقت الحركة الثورية الإنسانية في المجتمع أساليب جديدة وفعالة، غير القديمة، في سبل النضال من أجل حقوقها، باستنادها على إرث إنساني طويل من التعامل مع خيارات العنف واللاعنف..

    وبعد هذا، نأتي لانعكاسات هذه المفاهيم الماركسية المختلة على واقع الحركة الماركسية السودانية، بمتابعة صور من النقد الذاتي عند المنسوبين، تنظيميا أو فكريا، للحزب الشيوعي السوداني والماركسية، وردت في مجلة "قضايا سودانية" سالفة الذكر، وسنحاول عدم تكرير بعض الاستشهادات السابقة في هذه الورقة من المجلة المعنية والتي تصب في نفس مجرى ما نريد تناوله في هذه النقطة، ولكن نتوقع أن يربط القارئ بينها، إذ أن الربط بينهما يسير وواضح، دون الحاجة للتكرار..

    في صفحة 6 من المجلة، يرد تلخيصا لمقال في العدد الأول للدكتور محمد مراد، عن أسباب انهيار المعسكر الاشتراكي، وأنها تلخصت في "غياب الديمقراطية كمنهج وأسلوب في الحكم وغياب الحرية واغتراب الجماهير"، وقد أشار فيه أيضا لأن بعض المفكرين والعلماء السوفيت "كانوا يدافعون عن القيم الرأسمالية وينظرون لمقدرة الرأسمالية على البقاء والتطور من منطلق التفكير السياسي الجديد والبروسترويكا"، كما أشار إلى مثال لكتاب آخرين في المعسكر الاشتراكي كانوا يتحدثون عن اضمحلال الطبقة العاملة، ويبشرون باشتراكية جديدة وأحزاب جديدة وتحالف مع الاشتراكية الديمقراطية.. في صفحة 9، بتلخيص لمقال نشر في العدد الثاني بعنوان "حول آفاق جديدة للاشتراكية"، من "عدد من الزملاء المقيمين ببولندا"، يدعون فيه- بعد الدعوة لتجاوز اللينينية لأنها "تناقض الماركسية"- إلى الوصول لنظرية ثورية جديدة، وأن ذلك "يستوجب الاستعانة بكل الوسائل والمناهج العلمية المتنورة في جميع العلوم، والانفتاح على التيارات اليسارية الأخرى، وتربية كادر علمي نقدي في الحزب".. يرد أيضا اقتراح "تغييرات في بنية الحزب التنظيمية تكفل تحوله إلى حزب جماهيري، كتقليص المركزية. وأن يكون أساس الانضمام للحزب هو قبول البرنامج وليس الأيدلوجية. والاعتراف بالتعددية الأيدلوجية داخل الحزب".. في صفحة 10، في تلخيص لحوار ورد مع الأستاذ يحيى صلاح الدين، أحد الباحثين في التاريخ السوداني، في العدد الثالث بعنوان "الموروث كرافد لنظرية الثورة السودانية"، يشير إلى تزايد اهتمام الحزب الشيوعي والحركة الثورية بقضايا التراث السوداني وجذوره، وارتفاع رايات العودة للجذور لاستنباط نظرية ثورية من واقع التراث السوداني.. في صفحة 15، في تلخيص لمقال لكاتبته "الزميلة نهى" بعنوان "لماذا انحسر وضع حزبنا الشيوعي رغم تضحياتنا"، تشير فيه إلى صور الجمود والتسلط في الحزب، وإلى أن "ظروف العمل السري في ظل الدكتاتوريات المتعاقبة قد نتج عنها انغلاق الحزب وانكماشه"، وتشير فيه أيضا إلى تقصير الحزب في نقد الفكر السلفي الديني وإهماله التركيز على الجانب الثوري في الإسلام، وأنه رغم ذلك لم ينقذ هذا الأمر الشيوعيين من تهمة الإلحاد (ولنا لهذه عودة)، كما ذكرت فيه أن مساهمة الحزب في دعم النقابات في إضراباتها المتعاقبة ساهم في إضعاف التجربة الديمقراطية الأخيرة (وهنا يمكن أن نشير إلى كتيب قديم للجمهوريين، بعنوانه الذي يلخص المشكلة التكتيكية التي لم تفطن لها النقابات ولا الحزب الشيوعي في حينها، وعنوانه هو "هذا لا يكون!! ما يتعلق بأمن البلاد أتقرره النقابات؟! هذا لا يكون أبدا!!"، يونيو 1981).. في صفحة 17، تلخيص لمقال للدكتور فاروق محمد إبراهيم في العدد الرابع، يدعو فيه لقيام حزب ديمقراطي جديد، وينتقد فيه قيادة الحزب الشيوعي ويقول أن "أصولية الترابي والأخوان في السودان، هي رد فعل مباشر لأصولية عبد الخالق والحزب الشيوعي"، ويذكر فيه أيضا خطأ القناعة بأن الطبقة العاملة هي الرسول التاريخي الذي يحرر البشرية، كما أن عقيدة الاستقطاب الطبقي لا الثقافي لا تجد سندا في الواقع السوداني الراهن (ولنا هنا أن نتسائل.. هل شاركت الطبقة العاملة، إلى اليوم، مشاركة حقيقية وأصيلة في مشاريع الأحزاب الشيوعية، وهي التي تسمي نفسها "أحزاب الطبقة العاملة"؟)، وأشار أيضا إلى الصراعات الشخصية داخل الحزب مما أدى للانقسامات وعادات الاغتيال الشخصي.. في صفحة 22، يرد تلخيص لمقال لكاتبه "جون" بعنوان "نظرية جديدة للثورة السودانية"، ورد في العدد الخامس، يشير فيه إلى مقال د. فاروق إبراهيم في العدد السابق، ويشير فيه أيضا لوثيقة "الشيوعي 157" التي تقول أن "لا أمل للحزب في ظل نظريته وبرنامجه وبنيته التنظيمية وتوجهاته الاجتماعية والسياسية وأساليب عمله الحالية" (فماذا تبقى؟)، كما ذكر فيه أن ماركس "لم يجزم بأن نظريته هي نهاية العلم والمعرفة"، ثم يقول أنه يجب عموما الاعتراف بدور الطبقات والفئات الأخرى في الثورة، وأن نتوصل إلى "نظرية بديلة" تسمح بذلك.. في صفحة 25، نجد فرع الحزب الشيوعي ببولندا يعلن تأييده لوثيقة "الشيوعي 157"، ويصفها بأنها "تقدم طرحا متكاملا لأزمة الماركسية، ولأثر منهج الجمود في الحزب الشيوعي السوداني، وأنها تحاول أن تفسر هاتين الظاهرتين بصورة علمية، وبأمثلة من الواقع، وتخلص إلى تصور متكامل لخروج من الأزمة" (تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الوثيقة من كتابة الأستاذ الخاتم عدلان، بحسب ما ذكر حيدر الجاك، في صفحة 32، ولم يرد أي تصحيح أو اعتراض على هذه المعلومة في المجلة).. في صفحة 29، تلخيص لمقال بعنوان "الماركسية والدين" لكاتبه "جون" في العدد السادس، وهو عبارة عن مواصلة لمقاله السابق في العدد الخامس، "ولا يظن الزميل جون، إن أحدا منا، ينكر عمق الدين في وجدان الشعب السوداني في التاريخ البعيد والقريب والحاضر. إن الدين كان العنصر الرئيسي الذي وحد كيان السودان، على الرغم من عناصر الشتات الكثيرة أيام المهدي. وأنه كان أحد العناصر الرئيسية التي استخدمتها الجبهة الإسلامية في القفز للسلطة. كما كان دائما وأبدا العنصر السلبي الذي استخدمه أعداء الحزب طوال ما يقارب الخمسين عام الماضية في محاربته. لقد كانت معالجتنا لهذه القضية تهتم بالمظهر وليس الجوهر، وما وصلت إلى مستوى الاعتراف بأثر الدين في حياة الشعب، واعتباره جزءا أصيلا من تراثه. ومن الناحية الفلسفية، نجد المنتمي للدين الإسلامي، يؤمن بموضوعية الأشياء، وتطورها نتيجة لقوانين وأسباب محددة. فهو يؤمن بقانون السببية وبكل القوانين العلمية. بل إن الدين يدعو إلى العلم بمعناه العام، وإلى إعمار الأرض، والسعي والعمل. وساهمت الحضارة الإسلامية في إخراج أوربا من ظلمات العصور الوسطى. وقد قادت المكتشفات العلمية الجديدة إلى إثبات أن الأساس الذي قامت عليه النظرية المادية قد اهتز، وبالتالي يجب علينا أن نراجع هذا الأساس على ضوء ما استجد من العلم. وهو ما يدعونا إليه الفكر الماركسي أصلا، قبل انغلاقه وتجمده. وتبقى الحقيقة نسبيا صحيحة حسب معطيات واقع الحال" (اقتبسنا هذا الحديث الطويل بعض الشيء لاعتبار شهادة كاتبه، رغم مابه من إقحام للماركسية في الدعوة لمراجعة النظرية المادية)، وختاما ذكر بان الماركسية منهج وليست عقيدة جامدة (؟).. في صفحة 31، نجد تلخيص مقال من العدد السابع للدكتورة فاطمة بابكر، تقول فيه تحت فقرة بعنوان "في نقد الماركسية والمعسكر الاشتراكي" أن الانتقادات السابقة من مفكرين غربيين للمعسكر الاشتراكي لم تكن كلها من مواقف عدائية، والكثير منها كان صائبا ومفيدا، مثل غياب الديمقراطية في المعسكر الاشتراكي، وصفوية الحزب الشيوعي والطبقة الجديدة (والدكتور فاطمة لها مساهمة في نقد الجمود الماركسي تجاه قضية المرأة، في كتابها "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة").. في الصفحتين 31 و32، للكاتب محمد، "يعتقد محمد أننا كحزب نقف في مفترق الطرق نظريا وأيدلوجيا. ومن ثم فنحن نمر بأزمة لا تفيد معها محاولات التهوين والتقليل من شأنها. فالماركسية بعد الانهيار أصبحت مهزوزة وغير عصرية. ولكن السؤال الذي أتت به الماركسية ما زال مطروحا..... كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان" (وهنا نتسائل.. هل الماركسية هي من أتت بهذا السؤال، أم أنه مطروح منذ بدايات التاريخ؟).. في صفحة 40، يعود الكاتب "جون" في العدد التاسع، ويلخص فيه أفكاره السابقة "التي أكدتها، حسب تقديره، المساهمات الأخرى، وفحواها أن أساس مشكلة الانهيار، هو النظر للماركسية لا كمنهج علمي للبحث عن الحقيقة، وإنما كنظرية متكاملة لديها علم الماضي والحاضر والمستقبل" (هنا تأكيد لما أشرنا له في بداية هذه الورقة في المحاولة المتكررة للماركسيين للخروج من أزمتهم الفكرية بزعم أن الماركسية هي منهج وليست نظرية متكاملة)، ويقول أيضا "كما من الصعب الجزم بصحة نتائج تطبيق المنهج المادي الجدلي بشكل قاطع، لا نسبي، في حال العلوم الإنسانية. ويؤكد الزميل أنه لا وجود لتفكير مثالي صرف حتى في الدين. وقد ساهم في هذا الاتجاه الأستاذ حسين مروة في "النزعات....". ومن ناحية أخرى، فإن الماركسية قد أثبتت الكثير من النزعات المثالية خصوصا في موضوع الحتمية التاريخية. ولذلك يعتقد الزميل جون، أن التخلي عن الجانب المادي في الماركسية، سيرفع من قوة جذبها. وبذلك تتوافق مع الدين في الدعوة للفضيلة والحق والمساواة" (!)، وفي نهاية التلخيص "ينتقل الزميل للرد على تساؤل: هل يعني هذا أننا نرفض كل التجربة الماضية للحزب؟ وللرد على هذا التساؤل لم يجد الزميل أفضل مما أورده الشيوعي 157 تحت عنوان "لمحات من سيرة الحزب"، فاقتطفه في مقاله، وهو عموما يثبت أن للحزب تراثا نضاليا يفخر ويعتز به الشيوعيون".. بطبيعة الحال لا ننسى هنا الإشارة العامة إلى صورة التبرؤ الشديد من الستالينية، لدرجة تصويرها على أنها لا تمت للماركسية بصلة، تبعا لما فعله الاتحاد السوفيتي بعد موت ستالين [17]..

    نلاحظ في آخر فقرة مقتبسة من هذه التلخيصات لنقاشات دارت في هذه المجلة منذ سبتمبر 1993 وحتى يوليو 1998 (والتي نتابع بعض صور استمرارها ودورانها حول نفسها، عبر ما نراه من سياسات الحزب الشيوعي ومواقفه المعلنة مؤخرا، وبشهادات الكثير من منسوبيه ممن نقرأ لهم ونحاورهم عبر شبكة الإنترنت)، نلاحظ في هذه الفقرة أن هذا النقد المر لهذه التجربة- وفيه حسنة من الصدق عند مجموعة من الأقلام- قد جعل أهل الحزب الشيوعي يتسائلون "هل يعني هذا أننا نرفض كل التجربة الماضية للحزب؟"، وهو سؤال عبرت عنه أقلام عدة في المجلة بصور مختلفة، وذلك استشعارا لحجم ما كان من إخفاقات التجربة، على طول سنينها، بصورة جعلت هذا السؤال حاضرا في الأذهان بقوة، على أمل الوصول لمخرج مريح من هذا المأزق.. ونحن الآن لا نريد أن نوجه الكثير من النقد للكتابات المقتبسة أعلاه، إذ أن ما فيها من نقد ذاتي يكفي، في مجمله، ليعرض الصورة التي نريد عرضها لهذه المشكلة الأساسية في الفلسفة الماركسية التي أدت لهذه الانعكاسات على واقع سياسات التنظيمات الماركسية.. المشكلة هنا أن الكثير من الماركسيين يصرون على عدم الالتفات لأن هذه الإخفاقات سببها خلل واضح في الماركسية نفسها (مما ذكرنا وفصلنا من قبل هنا، وما سنفصل فيه أكثر بعد قليل)، ويؤثرون على ذلك الالتواء في صور تعريف الماركسية على أنها "دليل عمل" و"منهج" فقط، وأن غياب الديمقراطية والحرية في المعسكر الاشتراكي وسياسة الحزب الشيوعي لم تكن سوى أخطاء في الممارسة وليس في جوهر الفلسفة المتبناة، وكل هذا لا يعدو حيز المكابرة.. ما هو موقف الماركسيين اليوم حقا من قضايا العنف والديمقراطية والواقع العالمي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الجديد الذي لا يشبه ما تصورته الماركسية؟ فإن كانوا ما يزالون يؤيدون النظرة الماركسية لها، فهذه مشكلة كبرى، وإن كانوا لا يؤيدونها ويصرون على أن يسموا أنفسهم ماركسيين، فهذه كتلك.. بعد كل هذه السنين منذ عام 1998، ما هي التجديدات التي طرأت على برنامج ورؤية الحزب الشيوعي السوداني على ضوء النقاشات التي أوردنا أمثلة لها أعلاه؟ أم أن قضية النقاشات هذه ليست سوى نوع من التنفيس للناس ليقولوا ما يريدون قوله وكفى؟ إن مما يمكن أن نلاحظة من الكتابات المقتبسة أعلاه- ولها ما يماثلها في كتابات وحوارات كثيرة أخرى وقعت عليها أنظارنا عبر السنوات الماضية لأسماء متنوعة في معسكر اليسار الماركسي- أن مجموعها من النقد إنما يشير إلى أن هناك أزمة مستجمعة لجميع تنظيرات وسياسات الحزب الشيوعي السوداني، وبشهادة أهله، فإذا كان الحزب الشيوعي مثقلا بكل هذا الإرث المذموم من أهله أنفسهم، كبارهم وصغارهم (رغم احترامنا لمحاسنه التي قدمها في سياقه التاريخي)، فعلام التمسك الآن بنفس الصيغة القديمة المهترئة؟ بل علام التمسك بالمرجعية الفكرية عند الشيوعيين بعد كل هذا النقد الموجه لها من جانبهم أنفسهم؟ هل سيجيب أهل اليسار الماركسي إجابة شافية لهذه الأسئلة، أم سيؤثرون مواصلة المكابرة كدرع خفيف يحتمون ورائه من مواجهة النفس والجماهير بشجاعة فيما بقي من السنون؟
    ___________________

    [15] يرى إنجلز، والماركسيون من بعده، عموما عن مسألة الغيرة الجنسية، ورغبة الاستحواذ بالشريك الجنسي دون الآخرين، أنها ظهرت في المجتمعات البشرية بعد ظهور الطبقات والصراع على سبل الإنتاج، مما أدى لإنتاج نظم اجتماعية تنظم العلاقة الجنسية بصورة أكثر حزما مما كانت عليه في المجتمعات المشاعية، وذلك لغرض حفظ المصالح المادية للطبقات والفصائل المتناحرة، والتحكم في الإنتاج البيولوجي للمرأة من قبل مؤسسي المجتمع الأبوي.. حقيقة الأمر أن الغيرة الجنسية ظهرت قبل المجتمعات البشرية بكثير، منذ مرحلة المجتمعات الحيوانية (والتي تطورت بدورها من مرحلة المعيشة الفردية، والشبه منعزلة، في عالم الحيوان، وحتى هذه لم تسلم من صور الغيرة الجنسية)، وصور الغيرة الجنسية واضحة جدا في المجتمعات الحيوانية، خصوصا تلك القريبة للإنسان في سلم التطور (كالقردة العليا والحيوانات الداجنة، ثم الثديات عموما)، وقد ورثها البشر، متأصلة فيهم، بمجرد ظهورهم على سطح المعمورة، رجالا ونساءا، ولهذا كانت أهم أسس تشكيل قوانين مجتمعاتهم (ولكل مجتمع قانون، حتى في الغابة)، منذ بداياتها، لأن تنظيمها كان السبيل الوحيد لقيام المجتمع، والتاريخ يرينا صورا متعددة في أشكال هذا التنظيم، مما لا ينفي وجود التنظيم، ولكن يشير إلى تنوعه واختلافه بحسب البيئة والتجارب المتوارثة المتعددة التجليات (حتى في نفس مراحل الإنتاج المجتمعية، بخلاف ما يشير له إنجلز من أن تعدد شكل التنظيم الجنسي يعود أصلا إلى المرحلة التاريخية الإنتاجية للمجتمع).. إن الحديث عن الغيرة الجنسية، وعلاقتها الأصيلة بالغريزة الجنسية، كحادث على أصل تكويننا البشري في المجتمع، هو حديث يفتقد لدقة القراءة العلمية لسيرة التطور التاريخي، وكان يفترض بالصيغة الماركسية في قراءة التطور أن تلتفت جيدا لمجتمعات الحيوان منذ بدايتها، كأصل سابق لمجتمع الإنسان، خصوصا وأنها كانت من أول المؤيدين لطروحات دارون، في عمومها، عند ظهورها أيام ماركس وإنجلز..
    [16] فكرة المجتمع نفسها، كما ذكرنا عاليه، هي فكرة قامت لخدمة الأغراض الأنانية لأفراد المجتمع، وهنا نحن لا نعيب الأنانية البشرية بإطلاقها، وإنما ندين الأنانية الدنيا فيها، والتي يتطور عنها الإنسان باستمرار، كما ورد في حديث الأستاذ محمود أعلاه عن علاقة الفرد والمجتمع.. مشكلة ماركس هنا أنه ينكر حقيقة جوهرية ماثلة فينا بكل وضوح، وبهذا يشارك بفعالية في عملية تغريب الإنسان عن جوهره.. يقول في كتابه "الأيديولوجيا الألمانية" على سبيل المثال، في نقد فيورباخ: " ولكن جوهر الإنسان ليس هو الاستخلاص الموروث في كل فرد متفرد. إنما هو في الحقيقة المجموع الإجمالي للعلاقات الاجتماعية [.......].. وعليه فإن جوهر الإنسان يمكن أن يفهم فقط كـ"عنصر". المجموع الداخلي الساذج الذي يوحد الأفراد العديدين طبيعيا" (ترجمة الكاتب من الانجليزية، وكل ترجمة وردت في هذه الورقة للكاتب هي من الانجليزية)..
    [17] في أكبر موقع الكتروني للماركسية على الشبكة الدولية، (Marxists.org)، بلغ التبرؤ من إرث ستالين، وماوتسي تونغ أيضا، حدا عجيبا.. في تصنيف أعمال الكتاب المعروضة في ذلك الموقع، هناك "كتاب ماركسيون" وهناك "كتاب آخرون" (القسم العربي للموقع).. إذا أردت البحث عن كتابات ستالين وماوتسي، فعليك الذهاب إلى صفحة "كتاب آخرون"!

    (عدل بواسطة Yaho_Zato on 01-21-2007, 05:22 AM)

                  

01-21-2007, 12:57 PM

Mohamed Abdelgaleel
<aMohamed Abdelgaleel
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 10415

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)

    نتابع ..
                  

01-21-2007, 11:31 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Mohamed Abdelgaleel)


    الماركسية والميتافيزيقيا

    أما "السيئة التي رجحت بجميع الحسنات"، كما عبر الأستاذ محمود، فهي ها هنا.. نواصل من كتاب الأستاذ "الماركسية في الميزان"، إلى قوله: "لكن في حاجة أساسية هي برضو فاتت على كارل ماركس، لأن نظره للمستقبل ما هو كافي.. هي إيه؟؟ هي إنو هناك عقل سابق على المادة.. هذا العقل السابق على المادة نحن دلايل عليه.. المسألة النحن بنقولها هي هكذا: نحن هسع عندنا عقولنا، فإذا كنت أنا عاوز أعمل التربيزة دي- مشيرا إلى التربيزة التي أمامه (تعليق كاتب الورقة)- لابد أن يكون عندي علم بيها، بعدين هذا العلم لابد ليه أن يتركز، وينضج لغاية ما بيه أخصص، وأحدد صورتها.. أول ما فكرت أنا في منصة، مثلا ً، للدار بتنبثق في ذهني صورة ليها.. الصورة دي بتحدد تماماً لما آخذ ورقة وأكتب مقاساتهاـ القرصة مقاسها قدر شنو؟؟ وارتفاع المنصة قدر شنو؟؟ والقوائم حجمها شنو؟؟ بعدين أتحرك في النجارة، وأنفذها.. ثلاث حركات.. العمل النحنا بنشوفه بارز بالصورة دي مسبوق بحركات داخلية.. هذه الحركات هي أنك تعلم، وأنك تريد، وأنك تقدر.. ولذلك ربنا وصف نفسه تعالى فقال: العالم، المريد، القادر.. بالثلاثة أسماء دي ظهر الوجود.. طيب!! المنصة دي، قبل أنا ما أعملها، أنت ماك عارف عنها أي حاجة.. أنت ما عرفتها إلا لما إتحركت الحركة الثالثة، وظهرت.. لما كانت علم، عندي أنا، أنت ما عندك بيها خبر.. يجوز لما كانت إرادة، إذا كان أنا خططتها في الورقة، (ومش شرط أنا دايماً أخططها) لكن إذا كان أنا خططتها في الورقة، بيكون أنت عندك خبر بيها.. أنت لأنك بتشوف صورتها.. ولكنك أنت برضك بتكون عاوز تشوف صورتها دي بارزة في الخشب.. هي هي، قبل ما تكون بارزة في الخشب بالصورة دي، ما كانت في؟؟ حقاً، وحتماً، كانت في!! ولكنها غير ظاهرة لينا نحن.. طيب!! إذا كان الوجود دا، بي صورته دي، نحن إنبثقنا منو كعقول تعلم، وتريد، وتقدر (تنفذ)، هل الوجود دا ما يمكن أن يكون برز عن ثلاث مستويات من الحركة برضو؟؟ هل ما يمكن أن نقول، إذن، أنا فكري دايماً هو محاكاة، وانطباع، لفكر سابق.. النقطة التي تورط فيها كارل ماركس إنما هي إنكاره لي أن يكون هناك فكر سابق.. نحن في إتجاهاتنا دي كلها، الأشياء البي نعملها كلها متأثرين فيها بقوانين خارجية.. هو قطعاً بنسبها للقوانين.. تحول المادة ينسبو للقوانين.. لكن إذا كان نحن، في ممارستنا الطبيعية كل يوم، بنرى إنو، إذا كنا عاوزين نعمل حاجة، ما بتتعمل إذا ما حصلت الحركات الثلاثة دي.. إذا أنت ما علمت بالحاجة البتعملها، ثم إذا أنت ما أردت عملها، ثم إذا أنت ما اتحركت لتعملها ـ ما قدرت ـ إذا ما كان عندك علم، وإرادة، وقدرة ـ لا يمكن أن يكون في شيء يتم.. الخشب دا لو خليتو مليون سنة خشب، ما أدخلت فيه اليد البشرية، بالحركات الثلاثة السالفة الذكر لا يمكن أن يكون تربيزة.. يبقى، من البداهة، إنو المادة النحن بنتكلم عنها قد تكون هي صورة لي عقل أكبر من عقولنا.. و دا هو الحق اللي ذهل عنو صاحبنا.. المادة سابقة للعقل البشري، ولكنها لاحقة للعقل الإلهي.. هذا هو الموضوع الحساس الفيه المفارقة كلها بتاعة الماركسية.. وكل ما يمكن أن تضعه أنت، من حسنات، في ميزان الماركسية، يرجح دا وحده بيها كلها، ويكاد يضيفها إلى كشف السيئات.. إذن القصة هي دي.. ومنها يتضح أن هيغل الذي هو، عند ماركس، فيلسوف حالم، ومثالي، هو، في الحقيقة، أقرب إلى الصواب من ماركس، الذي هو فيلسوف مادي"..

    بتحليل "هندسي" مبسط، ومتنزل لأرض الواقع اليومي، في لغة وتفاصيل تألفها كل المستويات العقلية، يوضح الأستاذ محمود هنا أكبر مشاكل الماركسية.. يقول ماركس، في الطبعة الألمانية الثانية من "رأس المال": "إن منهجي الديالكتيكي لا يختلف عن المنهج الهيغلي فحسب، بل هو ضده تماماً. عند هيغل أن حركة الحياة في العقل البشري، أي حركة الفكر، ويطلق عليها إسم "الفكرة" ومن ثم يجعلها مستقلة، هي في نظره خالق الواقع وصانعه، وعنده ما الواقع إلا الشكل الحادث للفكرة. أما عندي، فعلى العكس، فحركة الفكر- الفكرة- ليست سوى انعكاس للحركة الواقعية المادية، منقولة إلى دماغ الإنسان، ومستقرة فيه في صورة الفكر" (ترجمة الكاتب).. لماذا كانت هذه هي السيئة التي عصفت بجميع حسنات الماركسية؟ لانها هي سبب الجمود والعقائدية الغليظة التي اتسمت بها الماركسية عبر تجربتها التاريخية، لأنها، منذ الوهلة الأولى، ترسم تصورا ضيقا لحيز الوجود واحتمالاته الفكرية والعملية، ومناقضا لبداهات الواقع المعاش فيه.. ماركس، بهذه الخطيئة الفكرية، اتخذ من جهله فضيلة، إذ أنه عندما عجز عن إدراك العقل السابق للمادة، ذهب ليجعل العجز فضيلة، فرفض وجود هذا العقل، كما قال الأستاذ محمود.. الماركسية، منذ الوهلة الأولى، تقتضي الإلحاد! لأنها ترفض أي وجود لما وراء المادة، بل ولا يصح فيها أي تفسير لأي ظاهرة طبيعية إذا لم يكن يعتمد الإلحاد ورفض أي تأثير على البيئة المادية من خارجها.. لهذا، فإن محاولات تعديل موقف ماركس من الدين، وتشذيبه وتهذيبه اليوم (كما شاهدنا في بعض نماذج الكتابات المقتبسة أعلاه من منسوبي الماركسية)، لا يلقى غير الإنكار من ماركس نفسه! ولماركس نصوص كتابية كثيرة قيلت في نهاية الميتافيزيقيا وهزيمة الدين.. صحيح أن ماركس قد أعطي لمفهوم الدين قيمة في حركة التاريخ، ولكنه لم يقيمه إلا تقييما ماديا بحتا! وهو، من ثم، ذهب ليقول بأن مفهوم الدين من المفاهيم التي صاحبت البشرية في عهد طفولتها الفكرية، وهو، من ثم، يصبح اليوم من مخلفات التاريخ التي لا يقبلها الواقع المعاصر والمجتمع الشيوعي المرتقب.. ماركس يعتقد، وبثقة زائدة، أنه قد هزم مفهوم الدين هزيمة تامة..

    في مقدمة كتابه "نقد فلسفة الحق عند هيغل"، يضع ماركس رأيه الواضح في هزيمة المفهوم الديني بفعل حركة التاريخ [18]، وفي كتابات أخرى، كـ"العائلة المقدسة"، يتابع تاريخيا حركة التطور الفكري التي استطاعت، بزعمه، هزيمة الميتافيزيقيا، وصولا لعهد "علمي" في تاريخ الفلسفة الأوروبية [19].. نورد هنا بعض المزيد من طريقة ماركس في القراءة التاريخية التي جعلته يتورط في هذا التقرير.. في آخر مصدر ذكرناه، يقول ماركس في إحدى الفقرات، عن انتصار الفلسفة المادية في فرنسا: "وفي الحقيقة، فإن سقوط ميتافيزيقيا القرن السابع عشر يمكن أن يفسر بواسطة مادية القرن الثامن عشر فقط حينما تفسر هذه الحركة النظرية- أي مادية القرن الثامن عشر (تعليق الكاتب)- نفسها عن طريق الطبيعة العملية للحياة الفرنسية في تلك الفترة. تلك الحياة تحولت للحاضر المباشر، المتعة والاهتمامات الدنيوية، الدنيوية "الأرضية". ممارساتها الضد ثيولوجية، ضد ميتافيزيقية، تطلبت نظريات مادية، ضد ثيولوجية وضد ميتافيزيقية. الميتافيزيقيا فقدت صلاحيتها عمليا. هنا نحن فقط نحاول أن نشير تلخيصيا للحركة النظرية التي استجابت لهذا الواقع العملي" (ترجمة الكاتب).. إن كان هذا هو منطق ماركس.. إن كان السبب في نهوض الفكر المادي وانتصاره على الميتافيزيقيا في أوروبا هو تحول المجتمع للمادية وتجاهل الميتافيزيقيا، فماذا كان قول ماركس عن المجتمعات التي كان الدين ما يزال فيها فاعلا يوميا، ولم يزل؟ وماذا كان سيقول عن موجة الروحانية والتدين، بصورها ومستوياتها المتعددة، التي عادت تغزو أوروبا والعالم الأول عموما هذه الأيام؟ هل هي عودة للميتافيزيقيا؟ فكيف تكون قد انهزمت وفقدت صلاحيتها إذا ً؟ هل سيعيدنا هذا لأن ماركس لم يستطع قراءة المستقبل بسبب ضيق خياله؟ وهل سيعيدنا هذا لإرهاصات الأستاذ محمود، في قرائته "الواقعية العلمية"، عن سير البشرية المستمر، عبر الماضي والحاضر والمستقبل، على قدمي المادة والروح، بحيث أن تأخر الحالة الروحية، في فترة تاريخية ما، لا يعني اختفائها، وكذا الحالة المادية، وإنما يعني تقديم قدم على الأخرى، كما في حالة المشي، مما يعني أن القدم الأخرى ستتقدم بعد حين؟ وعليه فإنه كما توجد ثورات مجتمعية مادية، فهناك أيضا ثورات روحية، مستمرة ومتفاعلة مع الأخرى، وبشهادة التاريخ؟

    ورغم تقريره العام لكون أن حركة التاريخ المجتمعي هي حركة غير قابلة للتغيير البشري، وإنما على البشر أن يتفاعلوا معها ويعوها ليأخذوا موقعهم كانعكاس لصورة الوعي فيها، حتى يتخلصوا من حالة الغربة، إلا أنه يعود ويقرر مرات أخرى، في مناسبات متفرقة، أن السرعة والبطء في حركة التاريخ تعتمد على الحوادث (accidents)، ومن ضمنها حوادث الشخصيات التي تتولى القيادات الرمزية لمجتمعات العصور [20].. أولم يكن قد قال أن هذه "الشخصيات" لا تتشكل بغير انعكاسات الواقع عليها؟ وبالتالي فليس هناك حوادث خارجة عن ما تفرضه حركة الواقع؟ أم أن التصور الضيق لعلاقة الإنسان ببيئته والوجود عموما لم يسعفه هنا في فهم هذه المعضلة الفلسفية؟ أم لعله المعيار القديم الذي لا يخيب أبدا، وهو أن أي فلسفة ناقصة في تصورها للوجود لا يمكن أن تكون متسقة مع نفسها مهما حاولت؟ هذا علاوة على أن أصل منهج ماركس، المادي الديالكتيكي، هو المنهج "الديالكتيكي" لهيغل، والذي هو منهج ميتافيزيقي، في تصوره وأساليب تحليله، ولهذا لم يستطع ماركس، رغم ماديته العارمة، أن يقضي على الصورة الميتافيزيقية في فلسفته.. أو ليست "الحتمية التاريخية" مفهوم ميتافيزيقي الأصل؟ بلى! عند التدقيق.. وأليست قيم التضحية بالمصالح الشخصية الآنية الضيقة في سبيل مصلحة الجماعة البشرية مستقبليا، كما هي عند الماركسية، قيمة ميتافيزيقية الأصل والفصل، لم يفعل ماركس سوى أن استعارها كما هي من الأخلاقيات المعتمدة على التصور الميتافيزيقي؟ وفي مفارقة خفية أخرى، يصطلح ماركس على المجتمعات قبل مرحلة الشيوعية بـ"مجتمعات ما قبل التاريخ" [21]، في إشارة منه لأن التاريخ الحقيقي للمجتمع الإنساني إنما يبدأ بالمجتمع الشيوعي القادم.. أليست هذه هي نفس طريقة التفكير التي عابها ماركس عند هيغل والميتافيزيقيين عموما؟ أليست هي النظرة لأن الإنسان، عبر التاريخ، في سيرورته إنما يهدف للوصول لغاية عليا، غير متوفرة الآن، ولكن الإيمان بها وبقدومها ضروري؟ هل أخطأ، ياترى، القائلون بأن ماركس إنما استعار يوتوبيا الجنة، كما هي عند الميتافيزيقيا، ليضفي عليها تقاطيعه الخاصة، ومن ثم يصنع دينه وميتافيزيقيته الخاصة ويتنكر لمصدرها الذي استلهمها منه؟ ماركس، بوعي أو بدون وعي، قد استخدم التحليل المادي ليصل عبره إلى "مثاليته" الخاصة، ولم ينس في طريقه ذاك أن يحاول إقصاء المثاليات الأخرى بأن ينعتها بـ"المثالية"، بمعنى "عدم الواقعية والعلمية".. وهيهات..

    هذا الإشكال في المادية الماركسية لم ينطل دوما على أتباع ماركس، عبر تاريخ قياداتهم الفكرية، وغير القيادات، لدرجة جعلت موجة اعتناق الشيوعيين السودانيين للطرق الصوفية- والتي تجلت بغزارة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي- تسترعي انتباه أحد الأسماء معروفة في حقل الدراسات الاجتماعية السودانية [22].. هذا يحسب لهم، لا عليهم، في جملته، لأن إدراك وجود خلل ما هو أول مراحل حله، وإن لم يكن هذا الحل موجودا عند صور التصوف والتدين التقليدية.. الدكتور والتر رودني، في تناوله لمفهوم الدين، وهو يقوم بتحليل مبسط للعناصر الأساسية لثقافة المجتمعات الأفريقية قبل الاستعمار، يقول، عموما، عن الفلاسفة الدينيين أنهم "تخصصوا في محاولة شرح الأشياء التي تقع خارج إطار الاستيعاب المباشر" [23] (ترجمة الكاتب).. وهذا وصف، رغم قصوره، إلا أنه أكثر تواضعا معرفيا مما هو عند ماركس، وبالتالي أكثر "علمية" منه (حين تكون إحدى أهم أسس المنهج العلمي تقتضي أن لا ننكر الأشياء لمجرد أننا عجزنا عن إدراكها).. والدكتور رودني، بحكم دقة دراسته للوضع الاجتماعي الأفريقي، عرف أنه لا يمكن أن يتعامل مع تاريخ وحاضرالدين في القارة الأفريقية كما تعامل معه ماركس في أوروبا، وأن نظرة ماركس الأوروبية، في سياقها الزمكاني، للدين لا تنطبق على بقية أرجاء العالم، ولنا لهذه النقطة عودة..
    ___________________

    [18] كارل ماركس-"نقد فلسفة الحق عند هيغل"، 1843(Critique of Hegel’s Philosophy of Right)- مطبعة جامعة كامبريدج، 1970، في مقدمة الكتاب..
    [19] نفس المصدر 2- الصفحات من 25 إلى 31
    [20] نفس المصدر 2- صفحة 44
    [21] نفس المصدر 2- صفحة 50
    [22] د.حيدر إبراهيم علي، "اليسار جنوبا.. السلفية شرقا" - جريدة الصحافة، ديسمبر 2006
    [23] د. والتر رودني (Walter Rodney)، "كيف قوضت أوروبا تنمية أفريقيا"(How Europe Underdeveloped Africa)- دار السلام، 1973، في الفصل الأول من الكتاب..
                  

01-21-2007, 11:40 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)


    ولنا بعد هذا أن نتسائل، كما تسائل بعض الماركسيين أنفسهم عبر تاريخهم (ولنا أمثلة مذكورة أعلاه في اقتباساتنا).. أين كانت مصلحة الماركسية في تسفيه الجانب الثوري والأخلاقي في الدين؟ وما هو البديل الذي قدمته؟ ألا يستطيع قراء التاريخ، ماركسيين كانوا أم غير ذلك، سودانيين أم غير ذلك، أن يروا بوضوح إعلاء قيمة الجانب الثوري من أجل العدالة في الدين؟ ألا يقرؤون، بالنسبة للإسلام مثلا (وليس الإسلام وحده)، نصوصه المقدسة الكثيرة، والمتبوعة بالممارسات التجسيدية التاريخية العديدة لرموزه عبر التاريخ، كيف هي قيم العدل والتواضع والتحريض على نصرة المظلومين وذم الاستحواذ على الثروة في الإسلام؟ نجد في القرآن الكريم آيات مثل: ((وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا))، وأيضا: ((يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم))، وأيضا، في قصة لسيدنا داوود، تحدث عبرتها عن نفسها: ((وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم فقالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب))، هذا علاوة على أن الترابط الاقتصادي في المجتمع مدعوم في الإسلام بفرض الواجب الديني، وهو واجب مقرون دوما مع الواجبات الدينية الأساسية، كالصلاة، كقول الآية الكريمة: ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير))، وهذا غيض من فيض، كما أن الخليفة الأول أبابكر الصديق لم يفرق بين تارك الصلاة وتارك الزكاة في حروب الردة، حين قال قولته الشهيرة: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال.. والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه"، فهل كان أبوبكر هنا واعيا لقيمة نواة الاشتراكية في الإسلام، وهي الزكاة وحق الجماعة في مال الأفراد، وأن التفريط فيها تماما كالتفريط في الأركان التعبدية للدين؟ تشهد الكلمات والمواقف، لأمثال هؤلاء النفر الكريم، لنفسها بنفسها.. والقائمة تطول، ولكن لنأتي الآن لأقوال لنبينا الكريم محمد، حين قال: "يا آل محمد.. أنتم أول من يجوع وآخر من يشبع"، وحين قال: "إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد"، وحين قال: "كان الأشعريون إذا أملقوا، أو كانوا على سفر، فرشوا ثوبا، فوضعوا عليه ما عندهم من زاد، فاقتسموه بالسوية، أولئك قوم أنا منهم وهم مني"، وحين قال في حجة الوداع لرجلين أتياه وهو يوزع الصدقة، فسألاه، فنظر إليهما ليتأكد من حاجتهما، ثم قال: "إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب"، وحين قال أيضا: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".. وهناك أقوال كثيرة، منها ما للإمام علي: "لو كان الفقر رجلا، لقتلته"، وما إلى ذلك.. هذا إضافة إلى التجسيد الجليل لهذه المعاني، في حياة النبي وفي حياة كبار أصحابه وبقية رموز الإسلام عبر التاريخ، من السادة الصوفية ومن شابههم..

    هل أهمل الدين الجانب المادي في الرحلة البشرية؟ لا يقول بذلك إلا ناقص نظر.. الدين، ببساطة، لا يتجاهل الجانب المادي في الحياة، في سيرورتها نحو كمال المطلق، ولكنه لا يقف عنده فقط، لأن قيمة الإنسان عنده أكبر من أي قيمة مادية مجردة من المعنى الجوهري للوجود، في مشوار السير نحو الحقيقة التي هي قدر الإنسان، لأنها هو، منها صدر وإليها يعود، ولهذا قال سيدنا المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".. كما أن الدين، رغم دعوته الواضحة والقوية للعدالة والمساواة الكاملة بين البشر، إلا أنه أيضا أعطى اعتباره لسيرورة التاريخ، ولم يسع لإلغاء التجربة التاريخية للبشر، والتي بها يكون تعليمهم معاني وجودهم أكثر وأكثر، ولهذا كان يتنزل دوما بصور تشريعية تستوفي حاجات السياق الزمكاني، بلا وكس أو شطط، ومن ثم يبقي الأنظار والأخيلة مفتوحة للمستقبل واحتمالاته (ونحن هنا لا نتحدث عن الدين الأصولي- مصدر الهوس الديني- بالتأكيد، وإنما عن القيمة العملية والمعنوية في الدعوة الإنسانية الكلية الماثلة في الدين [24])، مما يدل على أنه فكر تطوري ومستمر، حين يتعرض له الوعي المدرك للأصول القائمة وراء ظواهر الشكول.. الأفكار الإنسانية عموما، سواءا كانت دينية أم غير ذلك، لا تحدد مدة صلاحيتها كالأطعمة المعلبة (حسب تاريخ الإنتاج)، وإنما بقدرتها على المواكبة وتقديم الحلول بصورة مستمرة لكل متشكل جديد، في حيواتنا الفردية والمجتمعية..

    في مقال له عن أزمة اليسار والسلفيين في السودان والمنطقة عموما، يقول الدكتور حيدر إبراهيم، كتلخيص لنقده للحركات اليسارية والدينية: "مازال المستقبل لليسار لسبب بسيط هو أن المستقبل للاشتراكية والحركات الدينية والسلفية لها دور هام هو التأكيد على الجانب الاخلاقي في الاشتراكية ولكنها غير قادرة ولا تدعي انها تسعى لتحقيق الاشتراكية في الشرق" [25].. حتى عندما ينتبه معظم اليساريين السودانيين، ماركسيين وغيرهم، لأهمية الدين، فإنهم يأتونه ليطرقوا بابه الذي أغلقه الزمان، أي الباب السلفي، بكل صور الفهم السلفي.. فهل، يا ترى، لم يسمع الدكتور حيدر بحركات دينية داعمة للاشتراكية سياسيا وعمليا في السودان؟ فعلام إذاً يشير لأن الحركات الدينية "والسلفية" لها دور هام هو "تأكيد الجانب الأخلاقي في الاشتراكية" فقط؟ هل للحركات السلفية حقا أهمية تستوجب وجودها في الشرق؟ وهل حقا لا تملك أي حركة دينية- بل "ولا تدعي"- القدرة و السعى لتحقيق الاشتراكية في الشرق؟ هل لا يعلم الدكتور حيدر، كباحث سوداني ذي باع كبير، عن الحركة الجمهورية شيئا؟ فإن كان يعلم عنها (وهو الأرجح، لكثرة القرائن)، ومن ثم لم يذكرها، أو ظن أنه يذكرها ضمنيا مع الحركات الدينية "والسلفية" التي لا تقدر ولا تدعي السعي من أجل الاشتراكية، فهذه مشكلة كبرى، آن لأهل اليسار أن يتيقظوا لها، ويحاولوا احترام الإنتاجات الفكرية السودانية التي أثبتت رجاحتها ورصانتها عبر السنين، فكرا وعملا.. أما إن كان الدكتور حيدر لا يعلم عن الحركة الجمهورية، فهذه بطبيعة الحال مشكلة أكبر، ولكننا نستبعدها تماما.. وأيضا ماهي المصلحة في تهميش الجانب الأخلاقي من الاشتراكية، كجانب ثانوي في مقابل أدوات السعي "العلمي" لتحقيق الاشتراكية، كما جرى وصف الدكتور حيدر في مقاله هذا؟ أوليست الفكرة الاشتراكية نفسها فكرة قائمة على تصور أخلاقي، أولا وأخيرا؟ أوليست الأساليب الناجعة في توطين الأخلاق العليا في المجتمع، أساليبا علمية، ذات أهمية أساسية؟

    وليس الدكتور حيدر وحده في كشف هذه القراءات المؤسفة للواقع السوداني عند أعلام اليسار السوداني، فقد قرأنا قبل فترة ليست بالبعيدة، مقالات الدكتور عبدالله علي إبراهيم التي نشرت في جريدة الرأي العام في أبريل من العام 2003، والتي دعا فيها لتحكيم الشريعة الإسلامية على رؤوس الأشهاد! وأشفع دعوته بعذر أقبح من ذنب، في قوله: "أريد في المقالات التي أنشرها متتابعة أن أرد الشريعة الى مطلبها الحق أن تكون مصدراً للقوانين في بلد للمسلمين. ولست أرى في مطلبها هذا بأساً أو ظلماً لغير المسلمين. فهي عندي مما يسع التشريع الوطني العام ويهش له متى خلا دعاتها من نازعة "الوطنية الاسلامية " وبذلوا سماحتها للوطن لا يفرقون بين أهله متوسلين إلى ذلك بحرفة القانون عارضين اجتهادهم من خلال مؤسسات التشريع بالدولة. ولست أدعي علماُ فيما يجد غير أنني أتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وما تلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الأسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها. وهي ما أسميه التقليد الشرعي السوداني 1898-1983".. هنا، أساء الدكتور للشريعة الإسلامية مرتان، مرة حين ظن أنها مناسبة لأن تكون مصدرا للقوانين في "بلد المسلمين" في هذا الزمن، وأن ذلك ليس فيه "بأسا أو ظلما لغير المسلمين"، وهذه فرية عظمى، لا تدل سوى على سوء وقصور فهم بالغ للشريعة الإسلامية، ومرة حين نسب الشريعة، وألصقها أوسمة شرف بصدور "قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وما تلاه"، ومثل هؤلاء هم أبعد الناس عن سماحة وحنكة الشريعة الإسلامية، ولو في صورتها التي كانت في القرن السابع الميلادي، وكانت وافية لحاجات المجتمع فيه.. وحين يظن المرء أن الدكتور لا يمكن أن يصل لتحليل أكثر بؤسا من هذا، يضيف بالمدافعة عن القضاة الشرعيين في مواجهة حركة إسلامية تنويرية، لقيت الأمرين- من التآمر السياسي والتشويه الفكري- على يد فئة القضاة الشرعيين هذه، وهي الحركة الجمهورية.. يقول الدكتور في إحدى تلك المقالات: "وزاد الفكر الجمهوري في جفائه لهذا التقليد الشرعي بجعله هدفاً لحملات نقد وتنقيص. وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السريّة في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين أن يلطفوا عباراتهم في نقد القضاة مع علمي بمحنة الجمهوريين وما نالهم من القضاة والوعاظ في المساجد من أذى وترويع. ومغاضبة الجمهوريين لم تقع من جهة إحسان ذلك التقليد الشرعي أو إساءته بل من إرث مواجهة سياسية راجعة الى أيام الحركة الوطنية. فقد صنف من ظنوا في أنفسهم مجاهدة الاستعمارمن أمثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والأعيان وزعماء القبائل والطوائف بأنهم من أعوان الاستعمار. وهذا كلام جاز طويلاً غير أنه خاضع للنظر والمراجعة الآن".. هكذا يضع اللوم على الجمهوريين في صراعهم مع أمثال القضاة الشرعيين والزعماء الطائفيين (ولا أدري من أين أتى بـ"زعماء القبائل")، ولا نقول "يلوم الضحية" لأن الفكرة الجمهورية وأهلها لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام جور القضاة الشرعيين والطائفية، بل واجهتهم وعملت على هزيمتهم فكريا بصورة لم يجدوا عنها مناصا، ولكننا لا نملك سوى أن نتعجب ونأسى لمثل هذا المستوى الذي وصل له بعض أعلام اليسار كالدكتور عبدالله، من مجافاة للتاريخ الموثق وقرائن الواقع، وتملق لقوى الظلام على حساب القوى المستنيرة التي بذلت نفسها وعصارة جهدها الفكري من أجل الشعب السوداني، قولا وعملا، وعلى العموم فقد أجاب الدكتور عمر القراي على تلك المقالات للدكتور عبدالله بصورة وافية، تغنينا عن مزيد تناول هنا، وتكفي الإشارة لها [26].. ولا ننسى هنا أن نشير لمكتوب أشرنا له مسبقا في هذه الورقة، في حديث للدكتور عن "الماركسية والمرأة في السودان"، يمدح فيه مواقف للأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم، لتأييدها لقوانين الأحوال الشخصية للمحاكم الشرعية في السودان، واعتمادا على آراء الشيخ محمد عبده [27].. يقول الدكتور في طرف من ذلك المكتوب: "وقد وافق هذا ما كنت أقرأه لها منذ أيام في محاضرتها التي ألقتها أمام طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم في 1980 وعنوانها "حول قضايا الأحوال الشخصية." وقد انتبهت إلى عنصرين من عناصر منهجها التأصيلي. فقد بدأت بقانون الأحوال الشخصية (الموروث وليس الصادر عن هذه الحكومة بالطبع) ولم تجد ما تعترض عليه أصلاً غير بيت الطاعة. أما في بقية المواد فهي إما استحسنتها وتركتها علي حالها مثل قوانين الحضانة أو ما طالبت أن يتم أمام قاض مثل الطلاق وعقد الزواج وتعدد الزوجات وبشروط دقيقة. وقد وجدت فاطمة في بعض التشريعات الشرعية أثراً باقياً من نضالها هي نفسها ونضال الاتحاد النسائي مثل المنشور الشرعي رقم 54 لعام 1960 الذي كفل للفتاة الاستشارة حول من تقدم لزواجها".. إن الأثر الحقيقي لنضال النساء السودانيات- والأستاذة فاطمة من أعلامهن دون شك- هو في تقديم نقد مواجه ومؤسس لعدم أهلية قوانين الأحوال الشخصية لقامة المرأة السودانية اليوم، والمرأة المسلمة عموما، وليس في المساعدة على تمديد عمر هذه القوانين المذلة للمرأة وللمجتمع كله، وهذه قضية أصيلة، لا يمكن تجاوزها بحجة أن الأولوية تذهب لقضايا حقوق المرأة في بيئة العمل، كما حاول أن يفهمنا الدكتور في مقاله، إذ أن هذه المشكلة التشريعية هي الأساس الذي قامت عليه التفرقة المجحفة تجاه المرأة في حقول العمل، وحقول التعليم أيضا، وحتى في بيتها وبيئتها الأسرية والمجتمعية (إذ هل يفترض بالمرأة أن تكون مرأة عاملة- بالمعنى العرفي الناقص لمعنى العمل- حتى يكون لها احترامها وحقها القانوني والمجتمعي، وإلا فلا؟).. هنا نريد أن نشير أيضا لصورة مؤلمة في تناول أهل اليسار السوداني لمشوار نضال المرأة السودانية، إذ أن تعمد تهميش دور الحركة الجمهورية والأخوات الجمهوريات يفوح بصورة يصعب معها حسن الظن، إذا أردنا أن نحيل هذا التهميش إلى السهو أو قلة المعلومات والعدة المعرفية، وهو عذر- وإن كان صحيحا في بعض الأحيان- لا ينهض كثيرا، وليس فيه مصلحة أو داعي فخر لأهل اليسار السوداني، نساؤه ورجاله.. هنا نشير، بصورة أدق، إلى كتاب الدكتورة فاطمة بابكر، بعنوان "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة"، والذي اختزلت فيه تاريخ منجزات ونضال المرأة السودانية في تاريخ الاتحاد النسائي السوداني، ولم تتطرق فيه للأخوات الجمهوريات إلا تطرقا عابرا، أشفعته بعرض سيرة مخلة لتاريخ الحركة الجمهورية ومواقفها التاريخية في إحدى صفحات هوامش فصول الكتاب.. وعلى كل حال فنحن نؤكد، أن الحركة التنويرية السودانية، في عمومها، لا يمكن لها النهوض المشرف من أجل نصرة المرأة السودانية، والرجل السوداني، ما لم تولي الحركة الجمهورية ما تستحقه من الاهتمام والدراسة الجادة، والالتفات لطروحاتها التي أثبتت مآلات الزمن وجاهتها وبعد نظرها، وأثبتت التجربة قوة أهلها في دفع قضايا مصالح الشعوب للأمام، على مستوى السودان، والمنطقة، والعالم..

    لقد اخترنا لهذه الورقة عنوان "من أجل الاشتراكية"، وفي قرب ختامها، نريد الإشارة لسبب هذا الاختيار.. يقول الأستاذ محمود، في ختام محاضرته الواردة في كتابه سالف الذكر: "الاشتراكية موش هي الماركسية.. لكن الماركسية مدرسة من مدارس الاشتراكية.. ودي تقال لمصلحة الأخوان الماركسيين أنفسهم، لأنهم هم بعتقدوا، وبكلموا الناس بأنك إذا أنت كنت عاوز تكون اشتراكي لازم تكون ماركسي.. الحقيقة التي نحن نريدها أن تكون واضحة هي أن الاشتراكية إنما هي مصير الإنسانية بكرة.. ما في ذلك أدنى ريب.. لكن الاشتراكية لا يمكن أن تحقق إلا إذا انهزمت الماركسية"..
    ___________________

    [24] في سبيل تفصيل هذا الأمر، نقترح قراءات مثل ورقة "التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها"، بمناسبة الذكرى العشرين لاستشهاد الأستاذ محمود محمد طه، يناير 2005، قصي همرور- مجلة "احترام"، العدد الأول، موقع "سودان للجميع" الالكتروني..
    [25] نفس المصدر 22
    [26] د. عمر القراي، "الدين ورجال الدين عبر السنين"، مجموعة مقالات- نشرت في صحيفة سودانايل في 2003، وموجودة الآن في موقع الفكرة الجمهورية الالكتروني، في قسم الكتابات.. جدير بالذكر هنا أن الأستاذ القراي كان بصدد نشر كتاب مؤخرا، وهو عبارة عن مقالات مجموعة، مع التقديم لها، في نقد كتابات، منها الداعمة للتوجه الإسلاموي في السودان (من أقلام إسلاموية، محلية وعربية، وأخرى يسارية!)، وكانت من ضمنها مجموعة المقالات هذه في الرد على الدكتور عبدالله علي إبراهيم، غير أن الرقابة في السودان لم توافق على نشر الكتاب!
    [27] نفس المصدر 13
                  

01-21-2007, 11:43 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)

    عزيزي محمد عبدالجليل
    تحياتي وشكري على المتابعة..

    لم يبق من الورقة إلا القليل..
                  

01-21-2007, 11:46 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)


    الأخ العزيز قصي
    تحية طيبة
    حسنا فعلت أن أنزلت هذه الدراسة الوافية هنا وهي لاشك تمثل وجبة نقدية دسمة لفكر وتجربة قطاع كبير من اليسار السوداني .. أرجو أن تفتح أبواب الحوار الهادي والبناء .. فقد سئمنا تهريج المهرجين في هذا المنبر ..

    عمر
                  

01-22-2007, 04:01 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Omer Abdalla)

    عزيزي الاستاذ عمر
    كثير شكري

    في إشارتك لبعض التهريجات التي تجري في المنبر هذه الأيام، لعلها سانحة لأشير لأمر لاحظته بوضوح عبر سيرورة هذا المنبر، وهو ضعف الذاكرة المنبرية.. رغم أن هنالك دعاوي كثيرة في حق الفكرة الجمهورية، وقضايا أخرى، قيلت هنا من قبل، وتم الرد عليها وتبيان مرضها وقصورها الإدراكي وتزييفها للحقائق، إلا أن نفس هذه الدعاوي تعود في ثوب لغوي جديد، بعد فترات قصيرة متباعدة، وكأن شيئا لم يكن، ومن ثم تجد نفس الصخب من جديد..

    برغم أن الذاكرة المنبرية تحفظ الكلمات والأحداث لسنين مضت، بحذافيرها، إلا أنها ضعيفة وانتقائية جدا حين تتعلق بالعنصر البشري فيها، وهو -العنصر- كاتب الكلمات والنقاشات وناشر الأحداث وقارئها، وهذه إشكالية ما عرفنا لها حلا أو مبررا لليوم..

    ولك ودي وإجلالي..
                  

01-22-2007, 04:05 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من أجل الاشتراكية (الماركسية في السودان بين زمنين).. (Re: Yaho_Zato)


    ليت قومي يعلمون

    لقد أشرنا من قبل هنا إلى ما ورد في مجلة "قضايا سودانية"، من دعوة للالتفات للتراث واستنباط اشتراكية من واقع سوداني.. نشير هنا لانتقاد الأستاذ محمود للحركات الثورية الماركسية في أفريقيا من أن الأجدى لها كان في العودة للموروث الأفريقي في نظم الحكم قبل الاستعمار، بدل الشخوص لماركسية الاتحاد السوفيتي- والصين، بدرجة أقل- التي لا تلائم نظمها نظم المجتمعات الأفريقية بسبب الفرق الواضح في صيغة المجتمع وفي علاقات الإنتاج.. تعلم ماركسيو أفريقيا الدرس، وما زالوا، شيئا فشيئا، عن طريق مشوار طويل من التجارب والإخفاقات التي كلفت خسائرا مادية ومعنوية، عسيرة الإحصاء، على عاتق القارة التي لم تكن بحاجة للمزيد من الخسائر وضياع الزمن.. نحن هنا، بطبيعة الحال، لا نتهم هذه الحركات الثورية، في مجملها، بسوء النية، بل نعرف لها أهدافها النبيلة والمخلصة التي قامت من أجلها، والتي تجسدت في كثير من تجارب أهلها، واضمحلت وتنكرت لتاريخها، بفعل السلطة أحيانا كثيرة، في تجارب آخرين منهم.. لكن من المعروف أن الهدف النبيل لا يكفي لإحداث التغيير المطلوب للأفضل في أوضاع المجتمعات، ما لم يتوفر على الفكرة الوجيهة.. لنا مثال ساطع في دولة الهند، التي استطاعت توليد ثورة وطنية مرتكزة على التراث الهندي العريق، بقيادة المهاتما غاندي، فأضحت بذلك مثالا لأكبر حالات النجاح السياسي لدولة من دول العالم الثالث الخارجة من نير الاستعمار.. ولدت دولة الهند المستقلة الحديثة، دولة محترمة الكيان والتأسيس، بسبب أن تاريخ نضالها ضد الاستعمار كان مركوزا على قيم هندية، جعل الشعب الهندي بعد جلاء الاستعمار يحترم تلك القيم ويبني عليها، مما جعل الكيان الوطني متماسكا، ليتولى دفة الحكم المستقل بنجاح نسبي متفوق بصورة كبيرة على بقية تجارب الدول المستقلة حديثا.. نركز هنا على عبارة "بنجاح نسبي"، إذ أننا بالطبع لا نغفل هنا عن الخسائر التي أصابت الحركة الوطنية الهندية في مشوار استقلالها وبعده، من انقسام باكستان وصور الآلام الاقتصادية والعنصرية التي ما تزال الهند تناهض فيها، ولكن يكون من قصور النظر أن لا نرى تفوق مثال الهند- رغم كل مثالبه التي لم يتجاهلها الهنود، وما زالوا يعملون على تجاوزها بخطى محترمة- على الأمثلة الشبيهة.. هناك مقولة محبذة لبعض الماركسيين ومن لف لفهم في عنت المكابرة، وهي أن نموذج الهند إنما كان شذوذا عن القاعدة، وبالتالي فهو لا يصلح كقدوة في أسلوب النضال.. في الرد على هؤلاء نقول: وأين هي نماذجكم لهذه "القاعدة" التي كانت الهند شذوذا عنها؟ هل كوبا؟ هل الصين؟ هل الجزائر؟ إذ لا يقول بذلك إلا من حجبت عنه الكثير من الحقائق.. فهذه الأمثلة- وحتى الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي عموما، لدرجة ما- لا تقارن بمثال الهند، وذلك لأن تاريخها الموثق من الانقسامات والتنكر لتاريخها النضالي القصير- عن طريق تحطيمها لرموزها النضالية وسياساتهم بنفسها- ليس ببعيد عن مجال الرؤية، لمن أرادها، وحين تكون الصين أقرب مثال لما يشبه النجاح الهندي، خصوصا في الفترة الأخيرة (عند الاعتبار الاقتصادي أكثر)، فيكفي أن ننظر لصورة الشعب الهندي وجاره الصيني، من التجربة الحقيقية في الممارسة الديمقراطية، دون الخوف من عسس السلطة وأساليب قمعها الرهيبة، علاوة على أن سياسة الصين الحالية، الداخلية والخارجية، تختلف كثيرا عن مبادئ سياسة مؤسسي دولتها الحديثة، بصورة مفارقة ومتنكرة لها (ويمكننا النظر حتى لصور النقد الصيني الإعلامي لتلك الحقبة الماضية، في هامش الحرية الإعلامية التي تنفسها الشعب مؤخرا، وكيفية تركيزها على نقد آلالام تلك الحقبة الماضية، ولنا متابعة شخصية لهذا الأمر عن طريق الثورة السينمائية الصينية الحديثة)، ولولا هذا التغير السياسي الواضح لما حازت الصين على قوتها الاقتصادية المهيبة اليوم، وهي ماتزال تجد نفسها مضطرة كل يوم لتعديل سياساتها أكثر من أجل عدم كبح جماح هذا النجاح.. فنجاح الصين، إذنً، إنما يعزى لتغيير سياساتها الماضية وليس لاستمرارها، رغم إدراكنا لضرورة المرحلة التاريخية الماوية (مرحلة ماوتسي تونغ)، وعلى العموم فما للماركسيين اليوم وللصين الماوية؟ وقد تنكروا لها منذ حقب بعيدة؟ وكل هذا، كما ذكرنا، في سبيل المقارنات النسبية، فالحق أن الصورة التي ننشدها للدولة الاشتراكية الديمقراطية لم تولد بعد، وإنما هناك خطوات تقدمت، في ميادين متعددة حول العالم، نحوها، وللمشوار بقية لا يستهان بها..

    في هذه الورقة، لم نهدف للجنوح للنقد الهدام للماركسية والماركسيين السودانيين، أو لليسار السوداني عموما، إذا تصور البعض ذلك، فنحن، بكل تأكيد، نعي ضرورة المرحلة التاريخية التي خدمتها الماركسية عالميا وخدمها ماركسيو السودان ويساريوه محليا ومنطقيا، ونعي محاسن الماركسية التي ليس من مصلحة البشرية تجاهلها، ونعي أن الإرث الماركسي قد أصبح اليوم جزءا لا يتجزأ من ثقافة عصرنا بكل أوجهها، وخصوصا الثقافة الاشتراكية، بكافة مدارسها التي تتفق أحيانا وتختلف أحيانا مع الماركسية ومع بعضها، ونعي أن العالم بعد ماركس وتيار الماركسية، بكافة تجلياته وشخوصه، لم يعد كما كان قبلهما.. هدفنا هنا هو المساهمة في عملية النقد البناء لسيرورة التاريخ، من أجل تصحيح المواقف الآن وفي المستقبل.. وكما هو واضح، فإن من أهم ما توجهنا إليه في هذه الورقة هو لفت النظر لمنجز فكري أصيل ومتميز من تراثنا السوداني، لم يوليه يساريونا حقه من الانتباه والاعتبار، وهو المتمثل في المدرسة الفكرية الجمهورية، برائدها الأستاذ محمود محمد طه.. كيف يمكن لحركتنا الوطنية أن تبني أسس دولة متمدنة حديثة، ديمقراطية اشتراكية، تستوعب طاقات ورؤى الشعب السوداني المتنوعة، لتخلق بها وطنا مستقرا متناميا خلاقا، يصون ويطور حريات أفراده ومصالح جماعته، إذا جهلنا، أو تجاهلنا وهمشنا، طرح الفكرة الجمهورية؟ ونحن هنا لا نتحدث عن الموجة الرومانسية التي اجتاحت منابر الحركة اليسارية في السودان اليوم تجاه إرث الأستاذ محمود، من تخليد لذكراه رمزيا فقط، حين الحديث عن تاريخه وتاريخ تلاميذه في امتثال القيم الإنسانية في البذل والتسامح، متوجة بوقفة الأستاذ الجبارة في 18 يناير، 1985.. ذلك لأن هذه الصورة الرمزية، المحببة للوجدان المناضل للظلم والخنوع، إنما هي نتيجة لما تم تأسيسها عليه، وهي البناء الفكري القوي، المتسق، الذي قدمته هذه المدرسة الفكرية، والذي لا يمكن تجاوزه بصور من التناول قد تكون حسنة النية، ولكنها تقترب أكثر من صور المدح الهجائي حينما يشار بها لمدرسة عتيدة كهذه (كمقولات- أو تصورات- أن الأستاذ محمود كان رمزا لحرية الفكر والتسامح والوقوف على المبادئ، ولكن طرحه مثالي بصورة عامة، ولا يقترب من حلول عملية واقعية للأزمات المعاصرة)..

    هذه دعوة عامة لأهل اليسار السوداني عموما، بماركسييه وغيرهم، للالتفات كما التفت أبو يزيد البسطامي، الذي خرج من بلدته لطلب العلم، في بدايات مشواره الطويل نحو المعرفة، فناداه المنادي: "يا أبا يزيد.. إن الذي خرجت تطلبه قد تركته ورائك ببسطام"..

    قصي همرور
    يناير 2007
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de