هذه سلسلة حلقات من محاولة لتفكيك الخلل .. ورؤية المآلآت - تبصر - المستقبل
(1)
مستقبل الدولة السودانية
بوصفي أنتمي إلى جيل ثالث في "السودان الحديث" الذي يعرّف على أنه سودان ما بعد الاحتلال الثنائي الإنجليزي – المصري الذي بدأ بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلادي، أي بنهاية الدولة التي أسس لها محمد بن عبد الله المعروف بالمهدي، فإنني أتطلع إلى معرفة مستقبل بلدي. الجيل الثالث هو تعبير على أكثر الروايات الأقرب للدقة، أبتكره المفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد صاحب الكتاب الشهير "السودان – المأزق التاريخي وآفاق المستقبل". وقد قصد بهذا التعبير أن ثمة ثلاثة أجيال في السودان. جيل أسس للحداثة أو لتطلع الدولة السودانية، وجيل ثان تولي قيادة الدفة في النصف الثاني من القرن العشرين ما بعد الاستقلال إلى نهاية القرن، وجيل ثالث ينتظر دوره في إمكانية المساهمة في بناء هذا الوطن المجروح والمهدد بالتمزق. وهو الدور الذي لم ينله بعد. قد قال الجيلان الأول والثاني كلمتهما وبتعبير الدكتور منصور خالد فقد "استعمرا الماضي والحاضر.. وعازمين على استعمار المستقبل"، كان حديث خالد مع مطلع الألفية الثالثة في مقال نشره بصحيفة الرأي العام السودانية قبل أن يعود للاستقرار في الخرطوم كتبه من الولايات المتحدة، بعد أن أيقظه هاتف رئيس التحرير إدريس حسن يدعوه لكتابة شيء عن مستقبل السودان في قرن جديد. مقاربة حاج حمد وخالد من جهة ثانية، هي نوع من محاولة البحث عن هوية السودان، السودنة، مستقبل "الفكرة السودانية" في حد ذاتها، ومدى صلاحيتها لكي تكون مستقبلية. حاول الأول في كتابات متفرقة وفي مجلدين من الحجم الكبير، بدأ ببحث فكري، فلسفي، مرتبك، وانتهى إلى خطاب سياسي لا يصلح لغير لحظته. أما الثاني فقد كان يجر دائما أثقال تجربته الذاتية على تقدير الظروف والأحداث والمآلات. وبين هذا وذلك كان عجز الفكر السياسي السوداني عن إنتاج حلول عظيمة لمشكل السودان انطلاقا من مركزية العربي – المسلم، أو مركزية "من يعرف كل شيء" في مقابل "من لا يعرف شيئا". حتى لو أن منصور خالد كان يبدو دائما "العالم" في مقابل "الجهلاء"، و"العارف" في مقابل "الدهماء" .. من قبيلة المثقفين طبعا. وخلال قرن كامل وبعد أن أنفض سامر القرن العشرين ودخلنا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أثبتت الثقافة السودانية - بوصفها أفكارا ورؤى ومحاولات لفهم الواقع – أنها عاجزة تماما عن الاقتراب من مشكل السودان. عاجزة بسبب أن المثقف بات صورة نمطية لحاله، وغير قادر على تجاوز أسر اللحظات المؤسسة لمركب الشخصية السودانية المركزية، التي بدأت تشكلها في سودان الفونج والعبدلاب، قبل خمسة قرون تقريبا. بات المثقف السوداني كما السياسي، يدور في فلك الفراغ والغوغاء اللامجدية، وصارت مغامراته مرد تكهنات عرجاء. وتجرد عن كافة الصلاحيات التي تخوله لإمكانية أن يبني، ما بين التهويم بفلسفات مستوردة كالماركسية التي ما زال البعض يتبجح بعجينتها، أو ثقافة الترسمل المكشرة عن أنيابها من أو وهلة. أو العودة إلى سياقات توافقية بين هذا وذاك كما في طرح محمود محمد طه، الذي انتهى تلامذته إلى "ببغاوات" يرددون ما قاله "الأستاذ" دون أدنى قدرة على الإبداع والتوليد لما يمكن أن يساهم في سياقات مستقبلية. المثقف المعني هنا ليس حالة أدبية صرفة، فهذه مستثناءة تماما حتى لو أنها بدأت متزرعة بالسياسة أحيانا وبأشكال مخيبة للأمل، كما في نموذج محمد الفتيوري، الذي بدأ ثوريا يحلم بوحدة أفريقيا وانتهى إلى كونه "درويش متجول" في صورة تعبر عن مآل من مآلات الفشل السوداني. أيضا ينطبق النموذج على الراحل الطيب صالح الذي كان يعاني ويلة الترحل ما بين أن يكون أديبا أم سياسيا، ولم يخدم الأدب ولا السياسة، فرواياته التي تكاد تعد في أصابع اليد الواحدة، والتي أجترها المثقفون السودانيون كانت إحدى بذور الثقافة المؤسسة على الأحادية في رؤية الأشياء، وكانت سببا في رؤية بلد متوزع الأطراف والأجانب على أنه "شمال فقط".. أو "بلد قائم على مركز العروبة والإسلام". هذا الصداع الذي أفسد أهل الشمال وهمش الجنوب. وقد لعبت روايات الطيب صالح دورا في إلهاء الناس عن المرتكزات الجوهرية للثقافة السودانية، ولإنسان السودان. وإذا كان الطيب قد قدّم كثيرا جدا على أنه العارف بهوية السودان إلا جرد حساب بسيط يكشف أنه كان لا يعرف من السودان أبعد من حدود كوستي التي هي أقصى نقطة وصلها محيمد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة