|
للذين تقطعت بهم السبل ... بزعي ... عبدالشافع ... مالك ... عمر وآخرون
|
إنه وبعد :
والبحر يجري لمستقر له وأنا كذلك أو هكذا بدا الأمر لي والأمر يومئذٍ له وما في ذلك شك .
قال بزعي :
ما إن تطأ قدماي أرض بلادي حتي أقوم بأداء ثلاثون ركعة لله شكراً وثناء غير إن مااحتضنت الارض قدما (بزعي) حتي نسي أو تناسي وعده الذي قطعه فطفق يبحث عن أقرب خمارة يزيل بها رهق سنيه التي مضت في بلاد الاخرين .
جاء ورائحة التمر تسيل من عروقه لأول مرةٍ أري وجهه مشعاً بالحياة وجنتاه ترقصان طرباً والأرض من تحته إشتعلت علي أنغام خطاه المترنحة ، سبحته لا تزل معلقة برقبته يمسكها بين الفينة والفينة ثم يغيب في عشق صوفي في حالة نادرة أشبه بجدلية الحياة والموت . كان (بزعي) حالماً بعض الشئ هو يقول عن نفسه ذلك قال مرةً ونحن نهم بالصعود الي (العبارة) التي ستقلنا سوياً الي ميناء سواكن . علي بالحرام يومي الجيت هنا قلت بالكتير سنة سنتين وأعملي راس مال وأرجع منها اشتري بوكس تلاتة وتمانين وبالباقي أفتحلي مغلق .
أطلقت العبارة صافرتها ثلاث صافرات علي فترات متباعدة إيذاناً بالرحيل . عند الضفة وقفت ثلاث دوريات تابعات لرجال الدرك وأخري تابعة لشرطة الجوازات . سفينتان بحجم تلك التي كانت تقلان مواطني توتي من والي خرطوم الفيل تقدمتا ناحية العبارة الضخمة التي كانت من ثلاث طوابق وسطح كأجمل ما يكون ، وما أن يصاب الركاب بدوار البحر حتي يهربوا من الغثيان عند أعلي السطح ،
سأل (عبد الشافع) : ياخوانا ما ألقي عندكم حبة بندول ، ثم تكوم مرةً أخري دون أن يتناول البندول الذي كان في الطريق اليه أو حتي إجابة من جمهور القابعين علي سطح العبارة . حملناه للوحدة العلاجية وهو غارق في غيبوبة سيفيق منها نهار اليوم الثاني ما إن تظهر علي الافق طيور النورس إيذاناً بقرب المرفأ .
جلست موظفة مشلخة بثياب بيضاء تذكرك بموظفات الدرجة التاسعة حديثات التعيين مرتبكة بعض الشئ ولكأنها هي الاخري تعاني من دوار البحر وويلات الاحتراب وطعم الهزيمة كانت عبارة عن أنثي حادة الطبع عصبية المزاج لا يحتاج الانسان لقراءة كل ذلك سوي للمحة عابرة لتفاصيل وجهها المهمل . سألناها علاجاً للالتهابات فناولتنا حبة من الاسبرين بعد أن قطعته بموس حلاقة ربما جلبتها لتلك المهمة خصيصاً أو ربما . أطفأت المدينة أنوارها لا صوت لصخب شوارعها عالية الضجيج أبواق السيارات إختفت سيارات الشرطة وسيارات الاسعاف صمتت لم يعد هناك شئ سوي البحر . المدينة ذابت رويداً رويداً الي أن تلاشت جلس كل منا علي مسافة من الاخر ثم دخل الجميع في سرحة تخصهم .
الساعة تقترب من الثالثة صباحاً ساعتان بالتمام والكمال من الابحار والدوار والحمي والذكريات التي كانت تزداد مع ضرب الامواج ، ساعتان من التفكير المضني والمرارات وأحزان العمر ساعتان قضاها كل الجالسين علي السطح في التأمل وقراءة ما مضي من سني العمر .
إستفقنا علي صوت (بزعي) كان أكثرنا حضوراً وإنصرافاً من موانئ التفكير قال بصوته المحبوب : ها جماعة ما نلعبلنا عشرتين ثم بدأ يخرج من جيوبه أوراق اللعب ثم شرعنا في تقسيم أنفسنا نلعب حريق الغلطة تلاتة .... جوكرين مابيتمو النزول ..... والنزول محكوم ، نجرنا قوانين ارتضيناها جميعنا ثم بدأنا اللعب .
أشار ( مالك) الي الضفة التي غادرناها ثم بدأ يتذكر في أصدقائنا الذين تركناهم خلفنا تذكرنا وداعنا لهم وابتساماتهم حتي دموعهم حين الوداع بدأت تتجمع مرةً أخري في عيني مالك قبل أن تهطل كخريف أتي بلا إستئذان من عيون الباقين .
كيف لك أن تنسي (آدم) و(عمر سمبك) و(جكسا) و(صديق) وأصدقائك من شعب البورما المقهور ، كانوا يؤمونك في الخمس صلوات دون كلل أو ملل . كيف لك أن تنسي أيها الانسان نحيب ذاك الرجل ستيني الخطاوي . الان تحضر كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة الان يأتي جكسا وسمبك وصديق وآدم حتي (عبدالشافع ) الممد أمامك كقبر مهجور يأتي .
توقفت العبارة عند منتصف البحر لا أدري أهو منتصفه بالضبط أم هو إحساس الذين وصلوا نهايات الالام جراء تصاريف زمانهم اللئيم . فقط كان الحلم أن نكون في منتصف البحر قريباً من شوارع نألفها وتألفنا قريباً من حدود مياهنا الاقليمية هناك يحس الانسان بإنتصار معنوي مهيب يأتيك إحساس بالانتصار . أحساس ياهذا إنك انتصرت في معركة الحياة وهي مسألة كبيرة علي أية حال . نام الجميع أو تناموا اذ بعد جهد كذلك لا يمكن لاحد أن يظل جالساً في مكانهم فما أقسي أن تري دموع رفاق الليل .
سطعت شمس يومنا كان (مالك) قد جهز للجميع إفطاراً سريعاً شرائح من جبنة كرافت وعصير من البرتقال . عبد الشافع لايزل يغط في سباتٍ عميق بدأ وجهه طفولياً هذا الصباح من المستحيل أن يتكرر ذاك المشهد . بدأ وكأنه يضحك مع رهق ظاهر في عينيه الوسيمتين الان تعود يا صاح لحضن بلاد لطالما حلمت المضي في طرقاتها لن يزعجك رب العمل بمطالبه التي لاطائل منها خمس سنوات من الكد والكدر خمس أعوام من السهر والعمل المضني خمس سنوات من شحتفة الروح وها أنتذا وبرغم غيبوبتك تضحك لكأنك واضعاً الرجل فوق الرجل ثم تقهقه في الحوش الخلفي من منزل والدك بعالي الصوت ... لكأنك الان لا ترقد أمامنا كقبر مهجور .
|
|
 
|
|
|
|