ملفّ: مديح الثورة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 01:47 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-28-2009, 04:31 PM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ملفّ: مديح الثورة

    ملف بهذا العنوان نقلا عن لوموند ديبلوماتيك به مقالات متنوعة تتناول ضمن اشياء اخرى الحراك السياسي و الاجتماعى الحادث الان في معظم مجتمعات و بلدان العالم, بعضها ذو صلة مباشرة او غير مباشرة بما يحدث في السودان.
                  

05-28-2009, 04:33 PM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عندما تخنق اللعبة السياسية الحركات الاجتماعية (Re: esam gabralla)

    (1)
    عندما تخنق اللعبة السياسية الحركات الاجتماعية
    آن ـ سيسيل روبير
    تتضاعف الحركات الاجتماعية، العنيفة أحياناً، في كافة أنحاء أوروبا: إضرابٌ عامّ لرفع القدرة الشرائية في بلجيكا في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2008؛ انتفاضات ضدّ العنف الذي مارستها الشرطة في اليونان في كانون الثاني/ديسمبر 2008؛ تجمّع مئة وعشرين ألف عاملٍ في إيرلندا في 14 شباط/فبراير 2009؛ مظاهرات في كافّة مدن فرنسا في 29 كانون الثاني/يناير 19 آذار/مارس 2009؛ إلخ. ولكن هل ستجد هذه الأشكال الجماهيريّة للتعبير عن الإستياء الشعبي ترجمةً سياسية لها؟

    وإن كانت بلجيكا تنتقل من أزمةٍ إلى أخرى، فالتوجّه النيوليبرالي يحافظ عليه بثبات. وفي اليونان وفرنسا، يتابع كلّ من كونستانتينوس كارامانليس وفرانسوا فيّون "إصلاحات(هم)" بكلّ هدوء. ومنذ عشرات السنين، تصطدِم التطلّعات الشعبية بلعبة سياسيةٍ لا تغيّر فيها. ففي العام 2003، وبالرغم من مئات آلاف المعارضين لحرب العراق الذين تظاهروا في لندن وروما، لم يعدّل أيٌّ من أنطوني بلير أو سيلفيو برلوسكوني توجّههما. كما أنّ الاحتجاجات الشعبية ضدّ معاهدة الدستور الأوروبية في ألمانيا، لم تمنَع برلين من المصادقة على النصّ. وفي فرنسا، في 4 شباط/فبراير 2008، وقّع البرلمانيّون على معاهدة لشبونة التوأم لمعاهدة الدستور الأوروبية التي كان الناخبون قد رفضوها في 29 أيار/مايو 2005.

    الأحزاب السياسيّة ترتفع إلى سماءٍ بعيدة عن الجسم الانتخابي

    يثير هذا التباعد بين الممّثلين السياسيين ومن يفترض أن يمثّلونهم محاولات لإعادة تشكيل المشهد السياسي، يساراً ويميناً: ظواهر التحالفات الانتخابية في ألمانيا وإيطاليا؛ أو إنشاء أحزابٍ جديدة كـ"داي لينك" (اليسار) في ألمانيا، أو الحزب الديمقراطي وحزب إعادة التأسيس الشيوعي في إيطاليا، الحركة الديمقراطية Modem وحزب اليسار PG والحزب الجديد المناهِض للرأسماليّة في فرنسا NPA...

    وفي العام 2004، تمّ تأسيس حزب اليسار الأوروبي على يد حركاتٍ يساريّة مختلفة، من أجل التنسيق فيما بينها تحضيراً للانتخابات المرتقبة في حزيران/يونيو 2009. ويظهر أنّ أكثر الابتكارات وضوحاً ضمن هذا المنحى من العرض السياسي، على قدر ما كانت فيه "ثقافة الحكم" التي اكتسبتها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في فترة الثمانينات والتسعينات، خميرةً لرفع السياسة إلى سماءٍ بعيدة عن الجسم الاجتماعي. فمن حزب العمّال الجديد "New Labour" الذي قاده السيّد بلير في بريطانيا، إلى التحالف الذي ترأسه السيد رومانو برودي في إيطاليا، مروراً بولاياتيّ فرانسوا ميتران السبعيّة، اعتمدت الأحزاب الإشتراكية، التي يُفترَض بها أن تجسّد التحوّل الإجتماعي، مع حلفائها، سياسات ليبيرالة في غالب الأحيان.

    حتى أنّ العقد الأخير قد لامس العبثيّة مع هؤلاء النوّاب اليساريّين الإيطاليّين الذين كانوا يتظاهرون ضدّ الحرب في أفغانستان قبل ذهابهم للتصويت، باسم التحالف الهشّ الذي ينتَمون إليه (حزب الاتحاد برئاسة السيّد برودي)، لصالح إرسال الجيوش إلى تلك الدولة في العام 2006. تناقضٌ مماثل طال أيضاً الوزراء الشيوعيّين في فرنسا، الأعضاء في حكومة السيّد ليونيل جوسبين، الذين وافقوا على خصخصة الخدمات العامّة (استراتيجيّة لشبونة للاتحاد الأوروبي)، في حين كان مناضلو حزبهم يتظاهرون ضدّها.

    هكذا أدّت ضرورات الحصول (أو المحافظة) على نوّاب والوقوف بوجه خطرٍ يُعدّ أكبر- أي اليمين النيوليبرالي- إلى "تسويات" ازدادت غموضاً بالنسبة إلى الناخبين. وفي الواقع، لقد تداعت النتائج التي حقّقتها الأحزاب المعنيّة: فقد استعاد السيّد برلوسكوني السلطة بعد سنتين تقريباً من تسلّم حكومة برودي؛ وخسر الحزب الإشتراكي "إنتخابات رئاسيّة لا يُمكن خسارتها" في العام 2007؛ وحصل الحزب الشيوعي الفرنسي على 1.93 في المئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية و4.45 في المئة في الانتخابات التشريعية؛ أمّا الخُضر، المتحالفون هُم أيضاً مع الحزب الاشتراكي ضمن "اليسار التعدّدي"، فقد حصلوا على التوالي على 1.57 في المئة و3.3 في المئة. ومع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، عاد الحزب الإشتراكي مجدّداً إلى الشارع؛ لكن إعلانه المبدئيّ، الذي اعتُمِدَ في حزيران/يونيو2008، أقرّ بالتوجّهات الكبرى التي اعتمدتها الحكومة. يريد الحزب الإشتراكي أن يكون "مسؤولاً"، مُستعدّاً لـ"العودة إلى ممارسة السلطة"؛ ومن خلال "إضفائه طابعاً يسارياً على خطابه"، تقتضي المسألة بالنسبة إليه أن يبقى داخل اللعبة التقليدية، وأن يبدو في الوقت نفسه "خارجاً" عنها.

    أمّا ناشطو التشكيلات اليسارية الجديدة، فيحاولون أن يحافظوا على التناغم مع الحركة الاجتماعية؛ ويحرصون على التميّز عن الحزب الإشتراكي، لذا تستعيد خطاباتهم تقليداً ينتقد النظام الرأسمالي. لكن، في غياب أيّة تغييرات في قواعد اللعبة السياسية المؤسساتية، هل سيستطيعون إلى إيصال صوت التطلّعات الشعبيّة؟

    فقد سارعت هذه التشكيلات الجديدة، فور ولادتها، للتوجّه نحو الانتخابات، محاولةً الحصول على نوّابٍ لها، حتّى قبل أن تضع برامجها السياسيّة. لا شكّ أنّ مواجهة الانتخابات العامّة والحصول على المقاعد التمثيلية تشكّل ألف باء الحياة السياسية، أيّاً كانت. لكن شروط التنافس لا تخلو من العواقب على الرسالة المُوجَّهة وعلى تناغمها ومصداقيّتها. بالتالي، يؤدّي الاستعجال لخوض الانتخابات الأوروبيّة في حزيران/يونيو 2009، بالأحزاب الجديدة إلى الفشل في رسم برنامجٍ سياسيّ، وإلى قتل الحوار السياسيّ، كما نقله لنا مناصرون في حزب اليسار PG.

    في إيطاليا، ليس الحزب الديمقراطي سوى توليفة جديدة للتحالفات الحديثة؛ ويختصَر مشروعه، بشكلٍ أساسيّ، في شعار "كلّ شيء ما عدا برلوسكوني". كما تقدّم "إعادة التأسيس الشيوعيّة" نفسها كاتحاد لاتجاهات مختلفة. وتلك صعوبة يواجهها السيّد أوليفييه بيزانسينو، الناطق الرسميّ باسم الحزب الجديد المُعادي للرأسماليّة NPA في فرنسا، عبر إقراره: أنّه حشد مناضلين في "مرحلةٍ سياسيّة أولى" للتأكيد على معارضة الرأسماليّة أكثر من الدفاع عن مشروعٍ ما.

    لكن الرغبة بخوض الانتخابات تعني الدخول في اللعبة المؤسساتية، بتاريخها المعروف ومساحتها المحدّدة المعالم. هكذا، يدفع حزب Izquierda Unida (اليسار المتّحد)، الذي تأسّس في العام 1986 على يسار الحزب الإشتراكي العمّالي الإسباني (PSOE)، ثمن الثنائيّة الحزبيّة القويّة التي ترتكز على قانونٍ إنتخابيّ يعطي الأفضليّة للتشكيلات الحزبية الكبيرة. ففي الانتخابات التشريعية في آذار/مارس2008، خسر ثلاثة من ممثّليه الخمسة بسبب انقساماته الداخلية، إنّما أيضاً بسبب المواقف الملتبِسة لبعض أعضائه من حزب العمّالي الإسباني (هل هم إلى جانبه، معه، أم ضدّه؟). الصعوبات نفسها في السويد، حيث يرفض حزب اليسار، المُتحالِف تقليديّاً مع الإشتراكيّين-الديمقراطيّين، بالكامل فكرة المشاركة في تحالفٍ جديد، لكنّه إذ يعترف بـ"ضرورة التسويات"، يرغب بمتابعة المفاوضات.

    في فرنسا أيضاً، تثير التحالفات الانتخابيّة السجالات: إذ يتقدّم حزب اليسار PG - المنشقّ عن الحزب الإشتراكي- بمرشّحين إلى الانتخابات التشريعيّة الأوروبية في حزيران/يونيو 2009، ضمن "جبهة يساريّة" Front de gauche مع الحزب الشيوعي. لكنّ هذا الحزب يعقد منذ عشرات السنين اتفاقات مع الحزب الإشتراكي، كما شهدناه في العام 2007 (الانتخابات الرئاسية والتشريعية) وفي العام 2008 (الانتخابات البلدية)، ويشارك في تحالفات معه. وكان الرفض، الغامض على المستوى السياسي، لتوضيح العلاقات مع الحزب الاشتراكي، هو الذي حثّ في الواقع الحزب الجديد المُعادي للرأسماليّة NPA على التخلّي عن المشاركة في الجبهة اليساريّة.

    إنّما أبعد من تلك المسائل التكتيكيّة، فإنّ ما يُلغي أيّ إيضاح للاختلافات السياسيّة هو بالذات خيار بناء البرنامج السياسيّ على الماشي، أثناء التقدّم. فماذا نقول مثلاً عن السيّد بيزانسينو الذي يرفض بوضوح التحالف مع الحزب الإشتراكي، ولكنّه يتحدّث إيجابياً عن "تجذّر" خطاب هذا الحزب تحت عنوان "يجب أن نقاوم معاً ضدّ اليمين [1]"؛ حتّى أنّه اقترح على الحزب الإشتراكي مبادرةً مشتركة قبل الإضراب العام في 29 كانون الثاني/يناير 2009؟ فكيف يمكن إذاً التوفيق بين هذا الموقف واستراتيجيّة تجميع الخائبين من الأحزاب الأخرى والمناضلين الأوائل حول خطّ "مُعادٍ بوضوح للرأسماليّة"؟

    لقد أدّت الرغبة بالمشاركة في اللعبة المؤسساتيّة، على الصعيد العمليّ، إلى تقييمٍ مُفرطٍ لمنطق المنظومة السياسيّة على حساب التعبيرعن الأفكار. هكذا، سيكون للإشتراكيّين الفرنسيّين الذين يعارضون التجديد لليبراليّ المتطرِّف خوسيه مانويل بارّوزو على رأس المفوضيّة الأوروبية، مقاعد في البرلمان إلى جانب مؤيّدين لهذا الأخير باسم التضامن داخل الحزب الإشتراكي الأوروبي المتنوّع [2]. فهُم، وبحكم تصميمهم على دعم تشييد أوروبا موحّدة مُشبَعة بالليبرالية، يساهمون في تطويق إمكانيّات التحوّل الاجتماعي. كما أنّهم وافقوا، بعد معارضتهم عودة فرنسا إلى القيادة المشتركة لحلف الأطلسي، على قرار البرلمان الأوروبي الصادر في 26 آذار/مارس 2009 الذي طالب بتعزيز العلاقات العسكريّة بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن [3].

    نقاشات تافهة نتيجة شخصنة الرهانات

    يدفع التعبير عن النضالات الشعبيّة، هو أيضاً، ثمن استراتيجيّات الأطراف السياسية الفاعلة. إذ يحاول هؤلاء إدخال الحركة الإجتماعية - التي غالباً ما تتخطّاهم- في منظورهم التحليليّ؛ وفي حين يهتمّون فقط بشؤونهم الخاصّة، يمنحون نفسهم الحقّ بأن يعطوها معنىً يناسبهم. هكذا، بعد 29 أيار/مايو 2005، أراد البعض "تجسيد" رفض معاهدة الدستور الأوروبية على الصعيد المؤسّساتي، من خلال تقديم ترشيحهم إلى الإنتخابات الرئاسيّة في العام 2007، ليحوّلوا بذلك نسبة الـ55 في المئة من الأصوات الرافضة للمعاهدة إلى أرقامٍ قياسية في تدنّيها (1.32 في المئة للسيّد جوزيه بوفيه، 1.93 في المئة للسيّدة ماري جورج بوفيه، و4.08 في المئة للسيّد بيزانسينو). وما من داعٍ للاستغراب، عندما نحلّل طبيعة هذه الانتخابات التي تُتَفّه النقاش من خلال إضفاء طابعٍ شخصيّ على الرهانات. لا شكّ أنّ التصويت الذي تمّ في 29 أيار/مايو، والذي تخطّى الانقسام بين اليسار واليمين، كان عاجزاً عن التعبير عن نفسه في اقتراعٍ من هذا النوع. أضِفْ أنّ المنافسة التي يتعرّض لها الحزب اليساري السويدي، منذ فترةٍ قصيرة، في عدد المنتسبين، من قبل حزب القرصنة الذي يناضل ضدّ حقوق المؤلّفين على الإنترنت، تُظهر هشاشة، وحتى الطابع الزّائف، لبعض المواقف السياسيّة.

    فقلّة هم القادة الذين يحاولون الخروج من الأطر الموضوعة، عبر رفض لعبةٍ دستوريّةٍ تعمل على نموذج "سرير بروكوست" [4]، بحيث تقلّص حيّز النقاش. ويتمّ السعي إلى "إعادة تأسيس اليسار" ضمن إطارٍ (على صعيد الدستور ونظام الاقتراع) يحافظ على جوّ الإلتباس. هكذا عرف حزب "إيزكيردا أونيدا" ما يعنيه "التصويت المفيد" في الانتخابات التشريعية في آذار/مارس 2008. هكذا يكمن الخطر في تشريع اللعبة من خلال المشاركة بها، وفي النهاية، بالمساهمة في المحافظة على النظام برمّته.

    يبدو أنّ التناقضات نفسها التي تشهدها الأحزاب السياسية تعتري أيضاً النقابات. فماذا نقول مثلاً عن المُهَل التي حُدّدت لتنظيم تظاهرات ضدّ غلاء المعيشة في فرنسا (شهرين أو ثلاثة بين كلّ يوم تحرّك)؟ أليست نتيجة أو هدف هذا الموقف هو إبطاء التحرّك، وتطويقه ومنعه من التوسّع إلى الحجم الذي وصل إليه في الغوادلوب؟ تشير العالِمة السياسيّة آني كولوالد إلى أنّ الاتّحادات الوطنية النقابية تنتسِب جميعها اليوم إلى الاتحاد الأوروبي للنقابات؛ وأنّ لهذا الأخير خطّة عملٍ تسير بالتوازي مع مؤسّسات بروكسل، وتستثني كافة أشكال التحرّك الجذريّ. ينتُج عن ذلك نوعٌ من إنزعاج النقابات تجاه احتجاز بعض أرباب العمل والكوادر من قبل العمّال على خلفيّة النقل المُربِح للمصانع إلى دولٍ أخرى.

    من جهةٍ أخرى، نتذكّر بأنّ الاتحاد الديموقراطي الفرنسي للعمل CFDT قد أيّد، على غرار الاتحاد الأوروبي للنقابات، معاهدة الدستور الأوروبية، وبأنّ السيّد برنار تيبو، الأمين العام للاتحاد العمّالي العام CGT، كان هوأيضاً مؤيّداً لها، وأنّه اضطّر للخضوع إلى قرار يعارض ذلك اتخذته السلطات الاتّحادية لنقابته.

    بلا شكّ، ما يُزعج الفعّاليات الاجتماعية التقليدية، في فكرة رفض "المشاركة في اللعبة"، هو بأنّ ذلك يعكس العلاقة المؤسساتيّة، من خلال إعادة منح المواطن أو الناخب دوراً مركزيّاً. إذ يُفترَض بالأحزاب، التي اعتادت على تحديد "العرض السياسي"، في حال وافقت على هذا الخيار، الاعتراف بأنّ مجموعة الناخبين (الشعب) قادرةٌ على تحديد مطالبها بنفسها وعلى إعادة رسم خطوط الانقسام السياسيّ، وأنّها، في بعض الحالات، هي الوحيدة القادرة على فعل ذلك. وربّما أنّ هذا هو المعنى الجوهريّ للتصويت الذي تمّ في 29 أيار/مايو 2005، وهو إعادة التأكيد على سيادة الشعب وإدانة اللعبة السياسيّة القائمة.

    يمكن لظروفٍ مماثلة من انعدام التمثيل الاجتماعي أن تنفرِج وأن تؤدّي إلى أخذ التطلّعات الشعبيّة بعين الاعتبار. ففي العام 1936 مثلاً، لم يكُن تحديد عدد ساعات العمل الأسبوعيّة بـ40 ساعة ولا العطل المدفوعة جزءاً من برنامج "التجمّع الشعبي" الذي تقدّم للانتخابات (والذي سيتحوّل إلى الجبهة الشعبية). فالحركة الاجتماعية هي التي أدّت إلى اعتمادهما. كما أنّه، في زمنٍ أبعد، قد أدّى التشكيك في تناسُب التمثيل السياسي مع رغبة الكيان الاجتماعي، إلى أن تأخذ المؤسّسات نفسها الأمر على عاتقها. هكذا، انبثقت الجمعيّة التأسيسيّة في العام 1790 عن "الجمعيّات العامة" (ممثلي طبقات الشعب) عام 1789. وقد قرّرت، آخذة التغيّرات السياسيّة بعين الاعتبار، بأنّ أعضاءها لن يتمكّنوا من شغل مقاعدٍ في المجلس التشريعيّ المقبِل التي كانت قد صوّتت لتوّها على إنشائه مع الدستور الفرنسي الأول.

    اليوم، يتطوّر في غالبيّة الدول الأوروبيّة مجتمعٌ موازٍ للعالم السياسي، حيث نرى المواطنين يُنشئون الجمعيّات، وينظّمون نقاشات في المقاهي، والتظاهرات واللقاءات العابرة للقارّات، ويؤسّسون مهرجانات للأفلام الرافضة، ... وفي غياب إعادة نظر بقوانين اللعبة المؤسساتيّة، قد تتمّ عرقلة الترجمة السياسية لهذه الحياة المدنيّة، لوقتٍ طويل. وقد يعيد انتخاب جمعيّةٍ تأسيسيّة، بالاستفتاء العام المباشر، بشكلٍ خاص، تحديد مساحة النقاش السياسيّ، وقد يحثّ على بروز قوى جديدة. ولكنّ غياب ترجمة سياسية للتطلّعات الشعبية سيولّد على أيّة حال مخاطر: وهي اللّجوء المتزايد إلى عنفٍ خالٍ من الأهداف، لكنّه يُعتبَِر المنفذ الوحيد من عالمٍ ظالمٍ وخانِق.

    [1] Ripostes, France 5, 1er février 2009.

    [2] هنّأ السيّد بارّوزو نفسه على الإعلانات الصادرة عن قمّة العشرين، مؤكّداً على أهمّية التبادل الحرّ والسوق في مواجهة محاولات التدخّل من قبل الحكومات، BBC1، 3 نيسان/إبريل 2009.

    [3] التقرير A6-0114/2009 حول طبيعة العلاقات بين ضفتي الأطلسيّ بعد الانتخابات التي جرت في الولايات المتحدة (2008/2199(INI)).

    [4] تقصير حجم من ينام على السرير ليكون على قياسه وليس العكس.
                  

05-28-2009, 09:54 PM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
في مديح الثورات (Re: esam gabralla)

    (2)
    في مديح الثورات
    سيرج حليمي

    بعد مرور مئة وعشرين سنة على 1789، ما زال قلب الثورة ينبض.

    بعد مرور مئة وعشرين سنة على 1789، ما زال قلب الثورة ينبض. رغم أنّ فرانسوا ميتران دعا السيّدة مارغريت تاتشر وجوزيف موبوتو للتأكيد على دفن جسدها في احتفالات ذكراها المئويّة. وبما أنّ سنة الاحتفاء تزامنت مع انهيار جدار برلين، أعلن فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ"، أي السيطرة الليبرالية الأبديّة على العالم وإقفالٍ نهائيّ للرهان الثوري. لكن أزمة الرأسماليّة جاءت لتزعزع مجدّداً شرعيّة الأوليغارشيّات الحاكمة. وأضحى الجوّ أطرى أو أثقل بحسب الأهواء. ففي حديثها مثلاً عن "هؤلاء المثقّفين والفنّانين الداعين الى الثورة"، تأسف صحيفة Le Figaro: "لقد أخطأ فرانسوا فوريه (مؤرِّخ الثورة الفرنسية): فالثورة الفرنسيّة لم تنتهِ [1]".

    على غرار آخرين كثُر، لم يبخُل مع ذلك المؤرّخ المعنيّ في بذل جهده لإبعاد عدواها وتفادي إغرائها. ففي حين كانت تُعتَبَر في الماضي تعبيراً عن حاجةٍ تاريخيّة (ماركس)، أو عن "حقبةٍ جديدة في التاريخ" (غوته)، وعن ملحمة افتتحها جنود العام الثاني [2]، هؤلاء الذين تغنّى بهم فيكتور هوغو " Et l’on voyait marcher ces va-nu-pieds superbes sur le monde ébloui " "وكنت ترى هؤلاء الحفاة الرائعين أمام عالم ٍمنبهر"، لم يعودوا يُظهِرون منها سوى الدم الذي يلطّخ أيديها. فقد اعتُبِرَ هذا الحلم بالمساواة، الإرهابيّ والفاضل، من روسّو إلى ماو، أنّه سحق الحرّيات الفرديّة وأعطى الحياة لوحشٍ بلا مشاعر هو الدولة الشموليّة؛ وأنّ "الديمقراطية" قد استعادت بعد ذلك أنفاسها، وانتصرت، مرحةً وهادئة ومؤمنةً بالسوق. هي أيضاً تحمل إرثاً ثوريّاً، إنّما ذي منحى مختلف، على الطريقة الإنجليزية أو الأميركية، سياسيّاً أكثر منه إجتماعيّاً، "خالياً من الكافيين [3]".

    هناك أيضاً قطعوا رأس ملكٍ على الجانب الآخر لبحر المانش. لكن بما أنّ مقاومة الطبقة الأرستقراطية كانت أقلّ قوّةً فيها ممّا كانت عليه في فرنسا، لم تشعُر البورجوازيّة بضرورة التحالف مع الشعب لفرض سيطرتها. ففي الأوساط الميسورة، بدا هذا النموذج، الخالي من الحفاة واللاّمتسرولين [4]، أكثر أناقةً وأقلّ خطورةً من الآخر. لم تخُن إذن السيّدة لورانس باريزو، رئيسة مجموعة أرباب العمل الفرنسية، شعور موكّليها عندما باحت لأحد صحافيّي Financial Times: "أعشق تاريخ فرنسا، لكنّني لا أحبّ الثورة كثيراً. كان ذلك تحرّكاً عنيفاً جداً لا زلنا نُعاني منه حتّى الآن. فقد أُرغم كلّ واحدٍ منّا على الانتماء إلى معسكر". وأضافت: "نحن لا نمارس الديمقراطية بالنجاح نفسه الذي تلقاه في إنجلترا [5]".

    "اختيار المعسكر": فعلاً إن هذا النوع من الاستقطاب الاجتماعيّ لَمؤسف، عندما يضطرّ الأمر على العكس إظهار تضامن الجميع مع شركتهم وربّ عملهم وعلامتهم التجارية - لكن مع بقاء كلّ شخصٍ في موقعه. ذلك أنّه، بنظر أولئك الذين لا يحبّونها أبداً، تُلام الثورة ليس على العنف الذي يُعتبَر للأسف مجرّد ظاهرة اعتياديّة في التاريخ، إنّما على أمرٍ آخر أكثر ندرةً بكثير، ألا وهو تغيير النظام الاجتماعي الذي يحصل عند وقوع حربٍ بين الأغنياء والطبقة العاملة.

    في العام 1988، وفي معرض بحثه عن حجّة دامغة، وبّخ الرئيس جورج بوش الأب منافسه الديمقراطي، السيّد مايكل دوكاكيس، التكنوقراطيّ غير المُؤذي على الإطلاق، بالقول: "يريد أن يقسّمنا إلى طبقات. هذا الأمر جيّد بالنسبة إلى أوروبا، لكن ليس لأميركا". طبقيّة في أميركا! يمكن قياس فظاعة تُهمةٍ كهذا! لدرجة أنّه، بعد عشرين سنة، وعندما سيبدو أنّ وضع الاقتصاد الأميركي سيفرِض تضحيات سيتمّ توزيعها بشكلٍ غير متساوٍ بقدر ما كان عليه توزيع الأرباح التي سبقت – في حين يطالب أحد أبيات أغنية "الأمميّة" l’Internationale "أن يرجع السارق غصباً ما سرقه"... [6]- اعتبر قاطن البيت الأبيض الحالي، أنّه يجب نزع فتيل السخط الشعبيّ على الفور: "أحد أهمّ الدروس التي يجب علينا استنباطها من هذه الأزمة هي بأنّ اقتصادنا لا يعمل إلاّ في حال كنّا جميعاً متضامنين (...) فليس لدينا الإمكانيّات للنظر إلى كلّ مستثمرٍ أو ربّ عمل يحاول تحقيق أرباح على أنّه شيطان [7]". هكذا خلافاً ما يقوله خصومه الجمهوريين، ليس السيّد باراك أوباما ثوريّاً...

    "الثورة هي أوّلاً قطيعة.. ومن لا يقبل بهذه القطيعة مع النظام القائم، مع المجتمع الرأسمالي، لا يمكن له أن ينتمي إلى الحزب الإشتراكي". هكذا تحدّث فرانسوا ميتران في العام 1971. ولكنّه، منذ ذلك الحين، أصبحت شروط الانتساب الى الحزب الإشتراكي أقلّ صرامةً، كونه لا يطرد من صفوفه لا المدير العام لصندوق النقد الدولي، السيّد دومينيك ستروس-كاهن، ولا مدير منظّمة التجارة العالميّة، السيّد باسكال لامي. وقدتراجعت فكرة الثورة في أمكنة آخر أيضاً، بما فيها داخل أكثر التشكيلات تطرّفاً. فاستحوذ اليمين حينها على هذه الكلمة التي لا تزال على ما يبدو تحمل الأمل، ليحوّلها إلى مرادف لترميم الأنظمة البالية وتدمير الضمانات الاجتماعية المُكتسَبة، بل حتّى المسلوبة بالقوّة من "النظام القائم".

    تُلام الثورات الكبرى على طابعها العنيف. ويبرز الاستياء مثلاً إزاء مجزرة الحرس السويسري عند سقوط قصر "التويلوري" الملكيّ في آب/أغسطس 1792، أو قتل العائلة الملكيّة الروسيّة في تموز/يوليو 1918 في إيكاتيرينبورغ، أو تصفية ضبّاط جيش تشانغ كاي تشيك بعد استيلاء الشيوعيّين الصينيّين على السلطة في العام 1949. لكن لمَ يتمّ التغاضي عن المجاعات التي شهدها النظام السابق على خلفيّة الحفلات الفارهة في قصر فرساي والعُشر الذي كان يقتطعه الاكليروس؛ وعن مئات المتظاهرين المسالمين في سانت بطرسبورغ الذين قُتلوا يوم "الأحد الأحمر" من كانون الثاني/يناير 1905 على أيدي جنود القيصر نيقولا الثاني؛ وعن ثوّار كانتون وشانغهاي الذين رُموا أحياءً في مراجل القطارات في العام 1927. ذلك بغضّ النظر عن أعمال العنف اليوميّة التي يمارسها النظام الإجتماعي والتي كانت هنالك رغبة في الماضي بوضع حدٍّ لها.

    إنّ قصّة الثوّار الذين حُرَقوا أحياء، لم تؤثّر فقط في أولئك المهتمّين بتاريخ الصين، بل إنّ ملايين قرّاء كتاب "الوضع البشري" La Condition humaine [8] قد اطّلعوا عليها. ذلك أنّه، لعقودٍ من الزمن، تضامن كبار الكتّاب والفنّانين مع الحركة العمّالية للاحتفاء بالثورة وبالمستقبل المُشرق. مع أنّهم، لنكن محقّين، قلّلوا من أهمّية الخيبات والمآسي وزوار الفجر والشرطة السياسية وعبادة الفرد ومعسكرات العمل وعمليّات الإعدام.

    في المقابل، منذ ثلاثين سنة، ما عاد الكتّاب يتحدّثون سوى عن ذلك، حتى أنّه أمرٌ أضحى محبّذاً للنجاح في الجامعة وفي الصحافة وللتميّز في الأكاديميّة الفرنسيّة. فهكذا يشرح (عضو الأكاديميّة) ماكس غالو قائلاً: "من يقُل ثورة سيعني انبعاث العنف. مجتمعاتنا حسّاسة للغاية. والمسؤوليّة الأكبر، المترتّبة على المتكلّمين أمام الرأي العام، تقضي بالتحذير من هذا الإنبعاث [9]". من جهته، إعتبر فوريه أنّ كلّ محاولات التغيير الجذريّ كانت شموليّة أو إرهابيّة، وبأنّه "أصبح من المستحيل تقريباً التفكير بقيام مجتمعٍ آخر". واستنتج: "ها نحن محكومون بالعيش في العالم الذي نعيش فيه [10]". يُمكننا أن نتصوّر بأنّ مصيراً كهذا كان يتطابق مع توقّعات قرّائه، الموجودين عموماً بمنأى عن الأعاصير والذين يعيشون حياةً جميلة بين دعوات العشاء والنقاشات.

    " ... لكنّنا نحن الذين كان لدينا أجمل الأغنيات"

    الذعر المَرَضيّ من الثورات ومرادفها، وضرورة شرعنة النظام المُحافظ، وجدا داعمين غير غالو وفوري. فلْنتذكّرْ هنا خيار الوسائل الإعلاميّة، بما فيها السينما. فمنذ ثلاثين سنة، أرادوا أن يُثبتوا أنّه، خارج الديمقراطية الليبرالية، لم يكُن هناك سوى أنظمة ديكتاتوريّة مُتواطئة فيما بينها. تقدّمت بالتالي المكانة المُخصَّصة للاتفاقية الألمانيّة السوفياتيّة، بشكلٍ واسع، على تلك التي وجدتها تحالفات أخرى مخالفة للطبيعة، على غرار معاهدة ميونخ والمُصافحة بين أدولف هتلر ونيفيل تشامبرلين. في حين كان النازيّ والمحافظ يتشاركان، على الأقلّ، في كرههما للجبهة الشعبية [11]. هذا الخوف الطبقيّ هو نفسه الذي استوحى منه أرستقراطيّو "فيرّارا" وأصحاب مصانع الحديد في الروهر الألمانية، تأييدهم لوصول موسوليني والرّايخ الثالث إلى السلطة [12]. فهل ما زال مسموحاً بالتذكير بهذه الأمور؟

    فإذا كان الأمر كذلك، فلْنذهبْ أبعد... فقد تأمّل ليون بلوم، هذه الشخصيّة المُحترَمة إلى حدٍّ كبير من قبل دُعاة الفضيلة، في حدود التغيير الاجتماعي الذي يستمدّ قوّته فقط من الاستفتاء العام؛ هذا، مع تنظيره اللامع لرفض الثورة وفق النموذج السوفييتي، التي وصفها أحد أصدقائه بـ"البلانكيّة بسلَطة المايونيز" [13]. هكذا حذّر في العام 1924: "لسنا متأكّدين جيّداً من أنّ ممثّلي وقادة المجتمع الحالي، لن يحيدوا بأنفسهم عن الشرعيّة، في اللحظة التي سيتهيّأ لهم فيها أنّ مبادئها الأساسية مهدَّدة بشكلٍ خطير جداً". وفي الواقع، ومنذ ذلك الحين، لم يخلُ التاريخ من خروقات على الشرعيّة، من انقلاب فرانكو في العام 1936 (في إسبانيا) وصولاً إلى بينوشيه في العام 1973 (في الأرجنتين)، دون أن ننسى إسقاط مصدّق في إيران في العام 1953. فضلاً عن ذلك، شدّد هذا القائد الاشتراكي على أنّ "الجمهورية لم تُعلَن أبداً، في فرنسا، بموجب تصويتٍ شرعيّ أجريّ، وفق الأنماط الدستورية. بل إنها أُسّست برغبةٍ من الشعب المنتفِض على الشرعيّة القائمة [14]".

    يبدو أنّ الاستفتاء العام، الذي بات يُستدعى للاستهزاء بأشكال التدخّل الجماعيّ الأخرى (ومنها الإضرابات في قطاع الخدمات العامة التي تمّ تشبيهها باختطاف الرهائن)، قد تحوّل إلى ألف باء أيّ عملٍ سياسيّ. مع العلم أنّ الأسئلة التي طرحها بلوم بهذا الصدّد لم يمرّ عليها الزمن: "أما الأمر اليوم حقيقةً كاملة؟ أليس لنفوذ أرباب العمل وأصحاب الأملاك تأثير على الناخبين، مع الضغط الذي تمارسه سلطة المال والصحافة الواسعة؟ فهل كلّ ناخبٍ حرٌّ في الاستفتاء الذي يعبّر عنه، حرٌّ من خلال ثقافته الفكريّة، حرٌّ باستقلاليّته الذاتيّة؟ وكي يتمّ تحريره، أليس هنالك حاجة تحديداً لثورة؟ [15]". لكنّه يتمّ الهمس بأنّ نتيجة التصويت (على مشروع الدستور الأوروبي) قد هزمت الضغوطات المُتداخلة التي مارسها أرباب العمل وسلطة المال والصحافة، في ثلاث دولٍ أوروبية... هولندا، فرنسا وإيرلندا. ولهذا السبب تحديداً، لم يأخذوها بعين الاعتبار...

    "لقد خسرنا كلّ المعارك، لكنّنا نحن الذي لدينا أجمل الأغنيات". تلخّص هذه الجملة، التي تُعزى إلى مقاتل جمهوريّ إسباني لجأ إلى فرنسا بعد انتصار فرانكو، على طريقتها معضلة المحافظين وتربيتهم المُبرحة القائمة على الخضوع. أي بتعبيرٍ بسيط، إنّ الثورات تترك أثراً لا يُمحَى في التاريخ والوعي الإنساني، حتى ولو كانت فاشلة؛ حتّى ولو تمّ تدنيسها. فهي، في الواقع، تجسّد تلك اللحظة النادرة جداً حين ينتفض القدر ويصبح الشعب في المقدّمة. من هنا وقعُها العالمي. فكلٌّ على طريقته، ثوّار البارجة "بوتمكين"، والناجون من مسيرة ماو تسي تونغ الطويلة، و"الباربودوس" (الكوبيّون) في جبال سييرا مايسترا، فد أعادوا إحياء أغنية جنود العام الثاني للثورة الفرنسية، تلك التي أوحت للمؤرّخ البريطاني إيريك هوبسباوم بأنّ "الثورة الفرنسية كشفت عن قوّة الشعب بطريقةٍ لن تسمح لأيّة حكومة بنسيانها على الإطلاق، ولو بمجرّد ذكرى الجيش المُرتجَل من المُجنَّدين غير المتدرّبين، الذي هزم مع ذلك التحالف القويّ المؤلّف من جيوش أكثر النخب خبرةً في الأنظمة الملكيّة الأوروبية [16]".

    التحيّط من العودة المحافظة إلى الأنظمة القديمة

    ليست المسألة مجرّد "ذكرى": إذ إنّ مفردات السياسة الحديثة ونصف الأنظمة القضائيّة في العالم تستوحي من النظام الذي ابتكرته الثورة الفرنسيّة. ومن يفكّر بموجة "الدفاع عن مصالح العالم الثالث" في الستينات قد يتساءل إن لم يترتّب جزء من شرعيّتها في أوروبا على شعور العرفان بالجميل التي ولّدته. فقد بدا في الواقع أنّ مثاليّة عصر الأنوار الثوريّ، القائلة بالمساواة والتحرّر، قد وُلدت مجدّداً في الجنوب، وذلك جزئيّاً بفضل الفيتناميّين والجزائريّين والصينيّين والتشيليّين الذين درسوا في القارّة العجوز.

    كانت الإمبراطوريّات تترهّل، والمستعمرات القديمة تستلم الشعلة، والثورة تستمرّ. الوضع الحالي مختلف. فانعتاق الصين أو الهند، وبروزهما على الساحة الدوليّة، يثيران هنا وهناك الفضول والمؤازرة، لكنّهما لا يدلاّن على أيّ أملٍ "كوني" يرتبط مثلاً بالمساواة وبحقوق المضطّهدين ولا بأيّ نموذجٍ تنمويّ آخر، أو حتّى للسعي للوقاية من لعودة مُحافظة للأنظمة السابقة.

    وإن كانت الحماسة الدوليّة التي تثيرها أميركا اللاتينية أكبر؛ فذلك لأنّ التوجّه السياسيّ فيها ديمقراطي واجتماعي في الوقت نفسه. فمنذ عشرين سنة، برّر يسارٌ أوروبيّ الأولويّة التي يُخصّصها لمطالب الطبقات الوسطى، من خلال تنظيره لنهاية "الحقبة الثوريّة الاعتراضية" والتلاشي السياسيّ للفئات الشعبية. على العكس، يعيد حكّام فنزويلا وبوليفيا تحريك تلك الفئات الشعبيّة من خلال البرهان بأنّ مصيرها يأخذ بعين الاعتبار، وبأنّ مصيرها التاريخيّ لم يُختَم، وبأنّ المعركة مستمرّة في النهاية.

    فمهما كانت منتظرة، تبقى الثورات نادرة الحدوث. إذ تتطلّب، في الوقت نفسه، حشداً من المُستائين المُستعدّين للتحرّك، ودولةً يتمّ التنديد بشرعيّتها وسلطتها من قبل شريحةٍ من مؤيّديها المُعتادين (بسبب انعدام كفاءتها الاقتصادية، أو عجزها العسكري، أو انقساماتها الداخلية التي تشلّها ومن ثمّ تفكّكها)، وأخيراً، وجوداً مُسبقاً لأفكار جذريّة، حول إعادة النظر بالنظام الاجتماعي؛ حتّى لم تؤيّدها في البداية سوى أقليّة، إنّما التي قد يؤيّدها لاحقاً جميع الذين انحلّت قناعاتهم أو انتماءاتهم السابقة [17].

    أجرت المؤرّخة الأميركية فيكتوريا بونيل دراسةً عن عمّال موسكو وسان بطرسبرغ، عشيّة الحرب العالمية الأولى. وبما أنّها الحالة الوحيدة التي كانت فيها هذه المجموعة الاجتماعية هي الفاعل الأساسيّ في ثورة "ناجحة"، يجدر نقل الخلاصة التي توصّلت إليها: "ما يميّز الوعي الثوريّ هو القناعة بأنّه لا يمكن تحقيق المطالب إلاّ من خلال تحويل المؤسّسات الموجودة ومن خلال إرساء نظامٍ اجتماعيّ جديد [18]." ما يعني أنّ هذا الوعي لا يظهر بصورة عفوية غير ناجمة عن تجييشٍ سياسيّ وفورانٍ ثقافيّ مُسبَق.

    إضافةً إلى أنّ مطالب الحركات الاجتماعية، عامّةً، دفاعيّة في المقام الأول، وهذا ما نشهده في المرحلة الحالية. إذ تنوي إعادة العمل بالعقد الاجتماعي المُغتصَب برأيها من قبل أرباب العمل وأصحاب الأراضي وأصحاب المصارف والحكّام. الخبز، العمل، الدراسة، الدراسات، ومشروع الحياة. ما من "مستقبلٍ مُشرقٍ" (بعد)، إنّما "صورة عن حاضرٍ يجرّد من نواحيه الأكثر إيلاماً بارينغتون مور "الظلم، الاسس الاجتماعية للامتثال والتمرد"ن نيويورك 1978، ص 209.]]". بعدها فقط، عندما يتَّضِح عجز الحاكمين عن تحقيق الالتزامات التي تُشرّع سلطتهم وامتيازاتهم، يُطرَح أحياناً، خارج الدوائر المناضِلة، السؤال الرهان لمعرفة "ما إذا كان للملوك والرأسماليّين والكهنة والجنرالات والبيروقراطيّين فائدةً اجتماعيّة ما [19]". حينها يمكن التكلّم عن الثورة. وقد يتمّ الانتقال من مرحلةٍ الى أخرى بسرعة - خلال سنتيْن في العام 1789، وبضعة أشهر في العام 1917- أو قد لا يتمّ أبداً.

    سؤال طرح عام 1977: فلماذا بقي الاتحاد السوفييتي مستقرّاً تماماً.. إذن؟

    منذ قرنيْن تقريباً، حلّل ملايين المناضلين السياسيّين أو النقابيّين والمؤرّخين وعلماء الاجتماع، المتغيّرات التي تحدّد المخرج الثوريّ: هل كانت الطبقة الحاكمة مُنقسِمة ومُحبطَة؟ وهل كان جهازها القمعيّ في حالة جيّدة؟ وهل القوى الاجتماعية التي تسعى إلى التغيير، كانت منظَّمة وقادرة على التفاهم؟ تلك الدراسات كانت الأكثر وفرةً في الولايات المتحدة، حيث كان يقضي الأمر، في غالب الأحيان، بفهم الثورات والإقرار بكلّ ما قدّمته، إنّما بهدف تداركها بشكلٍ أفضل.

    وقد اتّضحت أنّ فعّاليّة تلك الأعمال... نسبيّة، مشكوكٌ فيها. ففي العام 1977، مثلاً، كان الاهتمام ينصبّ أوّلاً على "العجز عن حكم" المجتمعات الرأسماليّة. وتناقضاً مع ذلك، كان يتمّ التساؤل: لِماذا يبقى الاتحاد الوفييتي ثابتاً إلى هذا الحدّ؟ وكانت التفسيرات تتدافع عن هذه الحالة الأخيرة: تفضيل القادة والشعب السوفييتي للنظام والاستقرار؛ الاشتراكية الجماعية التي تعزّز قيم النظام؛ الطبيعة غير التراكميّة للمشاكل التي يجب حلّها، ممّا يسمح للحزب بالمناورة لمواجهتها؛ نتائج اقتصاديّة جيّدة تساهم في الاستقرار المنشود؛ تطوّر مستوى المعيشة؛ صفة القوى العظمى.. الخ [20]. ولم يكن للعالِم السياسيّ في جامعة يال Yale صموئيل هانتينغتون، الذي اكتسب شهرةً واسعة منذ ذلك الحين، إلاّ أن يستنتج انطلاقاً من هذه الرزمة من المؤشّرات المتناسقة: "لا يبدو أيٌّ من التحديات المتوقَّعة للأعوام المقبلة، مختلفاً، على الصعيد الكمّي، عن تلك التي سبق أن تمكّن النظام السوفييتي من إيجاد حلولٍ لها [21]". الجميع يعرف التتمّة...

    [1] Le Figaro, Paris, 9/4/2009.

    [2] أرّخت الثورة الفرنسية أثناء أيّامها ابتداءً من إنطلاقتها: العام الثاني= 1791.

    [3] "بكلمة واحدة، ما يتطلّبه الحسّ الليبيرالي هو ثورة خالية من الكافيين، ثورة لن يكون لها طعم الثورة". Slavoj Zizek, Robespierre : entre vertu et terreur, Stock, Paris, 2008, p. 10

    [4] تسمية الثوار الفرنسيين من الشعب نظراً لأوضاع لباسهم: nu-pieds, sans-culottes

    [5] Financial Times Magazine, Londres, 7-8/10/2006.

    [6] يحتوي المقطع الثاني في نشيد "الأمميّة" باللغة الفرنسية، بيت « pour que le voleur rende gorge »؛ لا تحتوي النسخة العربية مقابله: "فيا عمّال للنضال، ففي يميننا الخلاص، احموا الكور ضعوا الحديد، ودقّوه على احمرار، يريد الشعب أن يسود، فكّوا الروح من أسار".

    [7] مؤتمر صحافي في 24 اذار/مارس 2009.

    [8] الكتاب الشهير لأندريه مالرو.

    [9] مجلة "لوبوان"، باريس 25 شباط/ فبراير 2009.

    [10] François Furet, Le Passé d’une illusion, Robert Laffont, 1995, p. 572.

    [11] حكمت "الجبهة الشعبيّة" في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وكانت منبع معظم التشريعات الاجتماعية (العطل المدفوعة، تحديد ساعات العمل، إلخ) التي ما زالت سائدة في فرنسا.

    [12] في العام 1970، تطرّق المخرجان فيتوريو دي سيكا، في فيلم "حديقة فينزي-كونتيني"، ولوتشينو فيسكونتي، في فيلم "الملعونون"، الى هذا الموضوع.

    [13] كان ليون بلوم، الاشتراكي القدير هو رئيس وزراء فرنسا خلال حقبة "الجبهة الشعبيّة". ولوي أوغوست بلانكي، هو منظّر ثوررويّ فرنسي، واضع الاشتراكية الطوباوية (البلانكيّة)، قضى معظم حياته في السجن.

    [14] Léon Blum, « L’idéal socialiste », La Revue de Paris, mai 1924. Cité par Jean Lacouture, Léon Blum, Seuil, Paris, 1977, p. 201.

    [15] Léon Blum, op. cit

    [16] Eric J. Hobsbawm, Aux armes, historiens. Deux siècles d’histoire de la Révolution française, La Découverte, Paris, 2007, p. 123.

    [17] Lire Jack A. Goldstone, Revolution, Wadsworth Publishing, Belmont (Californie), 2002, et Theda Skocpol, Etats et révolutions sociales, Fayard, Paris, 1985.

    [18] انظر: فيكتوريا بونيل: "جذور الثورة، العمال والسياسة والمنظمات في سانت بطرسبورغ وموسكو – 1900- 1914" ص 7.

    [19] Ibid, p. 84.

    [20] Seweryn Bialer, Stalin’s Successors. Leadership, stability, and change in the Soviet Union, Cambridge University Press, 1977.

    [21] Samuel Huntington, « Remarks on the Meaning of Stability in the Modern Era », in S. Bialer and S. Sluzar, ed. Radicalism in the Contemporary Age, 3- Strategies and Impact of Contemporary Radicalism, Westview Press, Boulder, CO, 1977, p. 277
                  

05-29-2009, 01:52 PM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
احتجاجيّة للاستهلاك من قبل الطبقة المثقّفة..! (Re: esam gabralla)

    (3)
    احتجاجيّة للاستهلاك من قبل الطبقة المثقّفة..!
    بيير رامبير
    بيع من كتاب فيفيان فورستر "الهول الاقتصادي"، مليون نسخة منذ العام 1996؛ وقد ترجم كتاب نعومي كلاين "لا شعار No Logo" (عام 2000) إلى أكثر من خمس وعشرين لغة. نجاحٌ كونيّ لأفلام مايكل مور الوثائقية؛ ومظاهرات لأنصار "العولمة البديلة"؛ وتفتّح النشرات ذات التوجّهات "البديلة"؛ وامتلاء قاعات المحاضرات المخصّصة لآلاف الاجتماعات العامّة: نظراً لما تلقاه التحليلات التي تعيد النظر بالنظام الاقتصادي من متابعة، يمكننا أن نقتنع بكلّ سهولة أنّ نِثاراً من البارود الاحتجاجيّ قد خطّ الأرض طولاً وعرضاً؛ وأنّ التحاق الطبقات المثقّفة "بالفكر الرأسمالي"، الذي غالباً ما وصِفَ بأنّه الشرط اللازم لتخليدها، قد أضحى هشّاً. وأن جمهوراً من الذين نذروا أنفسهم للأعمال الفكرية (أو الطامحين إلى ذلك) قد جنّدوا أنفسهم لدعم الطبقات الشعبية الضعيفة، بحيث بدأت تتصدّع جدران بابل الليبرالية.

    إلا أنّ بين فتيل التفجير وبرميل البارود، ظهر نوع من... مشكلة. نصوصٌ واجتماعات ومناقشات ومظاهرات ونشاطات؛ نعم يتوسّع الانتقاد الجذري لكن من دون أن تسجّل الممارسات الفردية أيّ تبدّلٍ لافت، ولا المنظمات المناضلة ولّدت أفواجاً من المنتسِبين العازِمين على قلب النظام الاجتماعي. كما ولو أنّ إدانة هذا العالم لم يكن له أن يتجاوز طور الأفكار الجيّدة، التي لا نحصل منها على أيّ نتيجة عملية. فسواء كان تعطّل التواصل هذا ناتجاً من انعدام الثقة في العمل السياسي أو عن غياب البديل، فإنّه يُفسّر عبر العلاقة الملتبِسة التي تقيمها الطبقات الوسطى المتنوّرة مع المعرفة النقديّة.

    لقد سلّمت الماركسية كما الحركة النقابية الثورية بضرورة أن يحصّل العامل "علمَ شقائه"، بحسب العبارة الشهيرة لفرنان بولوتييه، منظّم "بورصات العمل" في أواخر القرن التاسع عشر. فهذا الثمن هو وحده كافٍ للبروليتاريين لكي يصبحوا قادرين على هتك حجاب القدر وفهم آلية الاستغلال، ليتوحّدوا أخيراً من أجل تمزيقهما. ففي العام 1843 لفت كارل ماركس إلى أنّ "القوّة المادّية لا يمكن القضاء عليها إلاّ بالقوة المادّية؛ لكن النظريّة تتحوّل بدورها إلى قوّة مادية بمجرّد أن تغلغلت في أذهان الجماهير الشعبية [1]. فسواء كان هذا الدور في التربية الشعبية مُداراً ذاتياً (الحركة النقابية الثورية) أو مناطاً إلى حزبٍ سياسيّ (اللينينية)، فإن معتقداً متوحّداً يرسّخ العقيدة: فالمعرفة النقدية تحرّر أولئك الذين يحصّلونها.

    لكن كيف يوظّفها أولئك الذين امتلكوها في الأساس؟ في بادئ الأمر، كان من شأن التجمعات الحاشدة في ميلو (حزيران عام 2000) ولارزاك (2003) أو بورتو أليغري أن ساهمت في تثقيف الطبقات الوسطى سياسيّاً. وفي كانون الثاني/يناير الماضي، تدفّق أنصار العولمة البديلة المحترِفون من أنحاء العالم لحضور المنتدى الاجتماعي العالمي في بيليم (Belem)، في البرازيل. وإذا كان غنى المداولات قد صدَم عدداً منهم، فإنّ آخرين قد أسفوا لأنّ هذه التظاهرة قد اتّخذت أحياناً مسلك معرضٍ دوليّ للمعارضات. فعلى امتداد مدينتين جامعيّتين، كانت ورش التفكير والمحاضرات التي تابعها جمهورٌ برازيلي مكوّن في غالبيته من الطلاب والمدرّسين، تنعقِد جنباً إلى جنب مع تشكيلةٍ من منصّات العرض حيث يتنافس مناضلو الجمعيّات الأهليّة وبائعو الصحف والمكتبات الماركسية للفت انتباه الزبون مع المدافعين عن الوشم الكامل وبائعي فناجين "المتّة" ومقطّري خمر تفاح الأكاجو ومصنّعي العقود من الحبوب ومؤيّدي تشريع تعاطي المخدّرات... قبل أن يغلق كلّ واحدٍ دكّانه لكي يتمتّع بالحفلات الموسيقيّة المجانيّة أو بالاحتفالات التي تقدّمها الوفود المشاركة.

    معرفة ومتعة؛ الأمر كذلك بالنسبة للمؤتمرات الاجتماعية المحلّية، ومعارض الكتاب الملتزم، واللقاءات والندوات في مشارِب (بارات) المناضلين وصالات السينما ذات الإدارة الذاتية. تجتذِب هذه المناسبات، التي خصّصت أصلاً لكسر العزلة أو لإبقاء شعلة النضالات وذاكرتها قائمة أو لتجنيد المناضلين، جمهوراً متزايداً. وقد تساهلت معها السلطات البلدية وأحياناً دعمتها، إذ أغرتها فكرة أنّ "هذه المساهمات في التنوّع الثقافي" تعوّض بكلفةٍ قليلة عن تقصيرها في هذا المجال.

    فمع تنامي قوّة الطبقات الوسطى انتقلت التربية السياسيّة من أماكن العمل إلى أماكن التسلية هذه. فبدل الدروس العمليّة التي كانت تقدّم في أوقات الإضرابات، حلّ الدرس النظريّ بكلّ بساطة: وعلى المنصّات تتوالى شخصيّات، مختارة لقدرتها على إحضار جمهورٍ واسعٍ، تقوم بمداخلات، على ألاّ تكون طويلة كيلا "يتعب من في الصالة". إذن بدلاً من أن تتحوّل عملية الاحتجاج إلى قوّة ماديّة، فقد تحوّلت إلى استراحة ثقافية ذات نزعة سياسية.

    في عددها الصادر في 9 نيسان/أبريل الماضي، رسمت صحيفة "وول ستريت جورنال" صورةً خبيثة عن "أحد أفضل المستشارين الفرنسيين في مجال الاحتجاج، وهو السيّد كزافييه رونو، الناطق باسم "المتمرّدين" Désobéissants. "فهو يتقاضى من التلامذة 50 يورو على الرأس لحلقةٍ تدريبية على العصيان؛ ويؤلّف الكتب وينتج ألعاباً محورها الفكر اليساريّ"، لكنه يحرص أيضاً على "تنويع زبائنه، وخصوصاً في اتّجاه الميادين النامية، مثل الحركات المؤيدة لقضية التيبت". طبعاً لا يجوز، كما يدعونا إليه محرّر الاقتصاديات ضيّق الأفق في هذه الصحيفة، أن نختزِل عالم نضال الطبقات الوسطى إلى سوقٍ يؤمّن فيه مقدّمو الخدمات الاحتجاجيّة طلب جمهورٍ متعطّش إلى التخريب الفكريّ مقابل إكراميّات ليست دائماً رمزية؛ وبالفعل يمكن تحديد مواصفات هذا الاحتجاج الاستهلاكيّ [2] بكلّ سهولة؛ ومنها الرغبة في تحقيق نتائجٍ سريعة.

    إذ إنّها "لسذاجة طفولية أن يقدّم المرء قلّة صبره كحجّة نظرية!" [3]. هذا التعنيف الذي يوجّهه فريدريك أنجلز إلى أعضاء العاميّة الفرنسيّة (كومونة باريس في 1870) الذين لجؤوا إلى لندن، كان يستهدف مناضلين، على غرار إدوار فايان، كانوا يرون أن الحركة العماليّة العالميّة ليست ثوريّة بالشكل الكافي، فهم كانوا يريدون أن ينتقِموا فوراً من القوّة (حكومة فرساي) التي سحقت كومونة باريس. ويمكن أن نتخيّل حيرة أنجلز إن هو اكتشف عشرات الحركات الصغرى التي ظهرت في السنوات الأخيرة مثل: "تنسيقية من لا يلبس ربطات العنق"، و"الجيش السرّي للمهرّجين المتمرّدين الساخطينClandestine insurgent rebel clown army " والـ"درّاجون العراة" cyclonudistes"، وملطّخو اللوحات الإعلانيّة"، وسائر متبنّي الحركات الاستعراضية في الفضاء المديني.

    فأيٌّ منها يتميّز بطريقته للتعاطي أكثر من هدفه السياسي. هنا قناعٌ أبيض، وهناك نزهات في مراكز التسوّق مع منتجات مُصادرة من الرفوف. يقدّمون لجمهورٍ فتيّ تشكيلةً ملوّنة يمكن للواحد أن ينتقي منها ما يحلو له، وكما لو أنّ الأمر انتقاءٌ من علبة للحلويات. لا تنظيم ولا رؤية على المدى الطويل: فبالنسبة إلى "الناشط" يقتصر الالتزام على "النشاط". وإذ يتمّ الإعلان عنها بواسطة الرسائل النصيّة على الهواتف الخلوية أو على مواقع الانترنت، فإنها تُعطي نتيجةً فورية تُقيَّم وفق مردودها الإعلامي.

    فمن محطّة "TF1" التلفازيّة المحترمة إلى المجلّة الشهرية "Technikart" المتابعة لكل جديد [4]، يبدو الصحافيّون شغوفين بهذه الإنجازات التي يمكن إدراجها بسهولة في ملفّ من نوع "60 خطّة شاطرة في مواجهة الأزمة" في مجلّة "لونوفيل أوبسرفاتور" (في 19/3/2009)، بين دعايةٍ لأحذية "Hogan Rebel" وصورة "مدرّب ضدّ الإرهاق النفسي" مقابل 50 يورو للجلسة الواحدة. ويوضح "جوليان، البالغ من العمر 27 عاماً، والذي شارك في سبع دورات تدريبية، ودرس خمس سنوات جامعيّة بعد الثانوية العامة، والمسؤول في إحدى المنظّمات غير الحكومية"، وهو بطل أحد الأفلام الوثائقية على محطة "Canal+" عن "المعارضين الجُدد" أنّه "ليس هنا ليوزّع مناشير تحت الثلج في محطة المترو "كرملين-بيساتر" على مدى ثلاث ساعات". فهو مع جماعتـ"ه"، يثير اهتمام الصحافة بمشكلة السكن عندما يرتجِل احتفالات في شققٍ معدّة للإيجار. ويتواجد الصحافيون، الذين يبلّغون مسبقاً، بأعدادٍ كبيرة، مثلهم مثل المناضلين، في مواجهة المالك المغتمّ وطالبي الاستئجار الفعليين.

    تتعارض الصورة الساخرة والمختلّة الناتجة عن احتجاجيّةٍ من هذا النوع مع الصورة الضاغطة والرماديّة التي ألصقتها وسائل الاعلام منذ زمنٍ طويل على المظاهرات الشعبية، التي كانت لازماتها تتردّد فعلاً أحياناً وكأنّها تخرج من أسطوانةٍ قديمة ذات 78 دورة. لكنّها تستبعِد الوقت الطويل اللازم للتنظيم وميزان القوى المستدام. فمن البنى الاقتصادية المتجذّرة حتى في أدمغتنا، تستعير عملية الاحتجاج الاستهلاكية منطق المدى القصير: والمردوديّة الفوريّة للالتزام!

    لكن في الواقع هل يمكن أن تكون الثورة عرضةً للاستهلاك بهذه الشراهة لو لم يكن هناك نظامٌ متكاملٌ من أصحاب الأطروحات والباحثين والصحافيين وكتّاب المقالات الذين تحرّكوا في البدء بدافعٍ من رغبتهم في تغيير العالم، ثمّ اتّخذوا الالتزام هو نفسه بعد ذلك موضوعاً للدراسة، واعتبروا دراساتهم له نوعاً من الالتزام؟ ففي تمرينٍ مرحٍ على "السخرية الذاتية"، قام عالم الاجتماع ألان أكاردو بإخراج صورة "المفكّر الناقد": فصوّره منكبّاً على طاولة العمل، يأخذ من كومة الكتب عن يمينه كتاباً عن مساوئ الرأسمالية وضرورة القضاء عليها، فيعلّق عليه ويضعه على الكومة على يساره. ليبدأ الحركة من جديد. "عندما لا يكون المفكّر الناقد منشغِلاً بالقراءة، فذاك لأنّه هو بدوره كان يؤلّف كتاباً محشوّاً بالوقائع والأرقام التي تثبت قراءاته السابقة". وهو كتابٌ مخصّصٌ لتنوير معاصريه حول مساوئ الرأسمالية وضرورة وضع حدٍ لها. لكن "ما عدا بعض الاستثناءات، فإن كتابات المفكرين النقّاد يقرؤها مفكّرون نقّاد آخرون، ينقلون من دون هوادة جبالاً من الكتب من كومة اليمين إلى كومة الشمال" [5].

    إنّ تكديس أخبار المناضلين، والمجلات المنشقّة، وأعمال المؤتمرات حول الفكر التخريبيّ من كلّ نوع، والمقالات مثل الذي بين أيديكم، يتطلّب أن تنطوي هذه الحكاية على شئٍ من الواقعية. وهذا ما يجعل أكاردو يسخر من الطريق الذي سُلِكَ بشكلٍ معاكس منذ "الطروحات حول فيورباخ" الشهيرة التي وضعها كارل ماركس في العام 1842: "كلّ ما فعله الفلاسفة هو أنّهم فسّروا العالم بطرقٍ متعدّدة؛ لكن المهمّ هو أن يغيّروه". وها هم، فيكتور سيرج وجورج بوليتزر وسيمون فايل وإيميه سيزير... بكلّ تفانٍ وتواضع، كانوا كثيرين الذين حاولوا القيام بذلك في خلال القرن العشرين.

    كما تتميّز عملية الاحتجاج الاستهلاكيّة عبر رفض "الانحياز" الذي لوحظ عدّة مرّات داخل حركات الالتزام الفكريّ المهتمّة بالأفكار الراديكالية. فعلى إثر عرض برنامجٍ وثائقي يهدِف لأن يثبِت استحالة نقد التلفاز من على التلفاز، أعلن أحد المشاهدين أنّه "متّفقٌ تماماً" مع معدّ البرنامج، وفي الوقت نفسه "متّفقٌ تماماً" مع مقدّم برنامج نقدٍ للتلفاز على شاشة التلفاز. هذان موقفان لا يتلاقيان على الصعيد السياسي. لكنّهما متساوقان "كلّياً" إذا تناولنا الفيلم كوسيلةٍ ممتِعة للتثقف وذلك بإلقاء نظرةٍ مائلة، مثل جامع الفراشات، على طرفَي الجدال وعلى الحجج التي يقدّمانها.

    وكعلامة على التميّز الفكري، فإنّ الموقف الذي يجمَع في وضعٍ واحد الشيء ونقيضه، ويقدّم مراجع "ذكيّة" (ويفضّل أن تكون كتب الشخص، هو نفسه) لمواجهة حجّة سياسية، وحتّى الذي يفكّر "ضدّ قناعاته الذاتية"، يشير إلى انكفاء شريحةٍ من الطبقات الوسطى عن وضع أقدامها في خنادق الحرب الاجتماعية، ما لم تكن مصالحها الشخصيّة هي المعرّضة. وكما هذا النزوع إلى الالتزام بقضايا نبيلة في الأقاصي البعيدة، يُلاحظ أنّ هذا الاستعداد متجذّرٌ بشكلٍ خاص لدى الفنانين أو بين "رجال الدين الجامعيين" الذين ندّد بهم بول نيزان في العام 1932 في كتابه "كلاب الحراسة".

    سألت صحيفة "لو باريزيان" (في 3/1/2003) المغنيّة "زازي"، وكانت في حينه ساحرة البرجوازية البوهيميّة: "هل أنتِ معقّدة؟". وممّا أجابت به: "أعتقد أنّني شخصٌ يجمع المفارقات، متعدّد الوجوه. فأنا أحبّ التلفاز وأعبد المشاركة فيه. لا أحبّ سهرات الـ"show biz" وأحبّ جدّاً "مسابقات الموسيقى"... فغالباً ما يطلب من الناس أن يحدّدوا موقعهم، أمّا أنا فلا أرغب في ذلك". وعلى غرار المغنّين الذي هبطوا فجأةً من فضائهم لكي يحتجّوا على القرصنة المعلوماتيّة التي تهدّد حقوق المؤلفين، هل كان لمشاهد البرنامج الوثائقيّ الذي تحدّثنا عنه أعلاه أن يجيب بنعم ولا في آنٍ معاً، لو أنّ السؤال في الفيلم تناول ضرورة أن تُلغى وظيفته؟

    هذا ما نريد أن نصل إليه. فإنّ زعزعة مهن المفكّرين، التي تتعرّض للهجوم في وظيفتها العامّة من السياسات الليبرالية، وفي وظيفتها الخاصّة من الأزمة الاقتصادية، تقيم الترابط بين الفكر والمصلحة. فالمعلّمون البحّاثة وأصحاب الطروحات والصحافيّون يتظاهرون ويكتبون في وقتنا الحاضر. ومجدّداً يبدو الانتظام والانحياز في صراع الطبقات، وليس فقط من أجل قضايا سامية ونبيلة، أمراً ممكناً. فهل أنّهم على الأرجح سيستمرّون في تفسير العالم بطرقٍ مختلفة؟ مع الرغبة في تغييره هذه المرّة؟

    [1] Karl Marx, Contribution à la critique de la philosophie du droit de Hegel, Allia, Paris, 1998, p. 25.

    [2] في استعادة لعنوان كتاب:Joseph Heath et Andrew Potter, Révolte consommée. Le mythe de la contre-culture, Naïve, Paris, 2006.

    [3] « Le programme des communards-blanquistes », 1874, cité par Lénine, La Maladie infantile du communisme (le « gauchisme »), 1920, chap. 8.

    [4] تقرير عن العصيان المدنيّ عرض على محطّة:TF1-20 heures, 1er avril 2009 ; « Les néo-activistes », Technikart, Paris, février 2009.

    [5] Alain Accardo, « (Auto-)dérision », La Décroissance, Lyon, n°40, juin 2007
                  

05-30-2009, 10:12 AM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحياة الثالثة لصندوق النقد الدولي.....واجهة جديدة وسلوك قديم (Re: esam gabralla)

    الحياة الثالثة لصندوق النقد الدولي

    واجهة جديدة وسلوك قديم
    ارنو زاكاري

    يسعى صندوق النقد الدولي، الذي يتعرّض للانتقادات من كلّ صوب، إلى تغيير صورته. فقد أكّد عزمه على إصلاح نموذج عمله وأيضاً سياساته. إلاّ أنّه يواصل فرض برامج تقشّف على الدول التي تواجه صعوبات؛ في حين يرضى بفقدان التوازنات المالية في الدول الغنية، رغم أنّها السبب في الأزمة. كيف يمكن إذاً شرح أنّ هذه المنظمة قد شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في وسائلها المالية وسلطاتها بعد اجتماع الدول الغنيّة والصاعدة الرئيسية (مجموعة العشرين) في لندن؟

    حسب البيان الصادر في الثاني من نيسان/ابريل 2009، تبنّت مجموعة الدول العشرين الرئيسية الغنيّة والصاعدة، الـ G20، التي اجتمعت في لندن "برنامجاً من 1100 مليار دولار"، يهدف إلى تمويل "مشروعٍ شاملٍ للنهوض على مستوى غير مسبوقٍ حتّى يومنا هذا". الرابح الأكبر من هذه العمليّة هو صندوق النقد الدولي الذي شهد تضاعف قدراته على الإقراض ثلاث مرّات، منتقلاً من 250 مليار إلى 750 مليار دولار، "بفضل تمويلٍ مباشر من أعضائه بقيمة 250 مليار دولار (يُمكن) رفعها إلى 500 مليار دولار". وإضافةً إلى السماح له بإصدار "حقوق سحب خاصّة" جديدة، فوّضت مجموعة الدول العشرين صندوق النقد بيع جزءٍ من مخزونه من الذهب بغية "تأمين 6 مليارات دولار إضافية من التمويل سهل المنال لصالح البلدان الأكثر فقراً خلال السنتين أو الثلاثة القادمين". أخيراً، بات بمقدور صندوق النقد الدولي "الاقتراض من الأسواق إذا كان ذلك ضرورياً"، في حين كانت المؤسسة تعتمِد حصرياً على مردود القروض التي توفّرها. هذه حياةٌ جديدة لصندوق النقد. وهي الثالثة في تاريخه.

    أبصر صندوق النقد الدولي النور في تموز/يوليو 1944 إبّان مؤتمر "بريتن وودز"؛ وكانت مهمّته الأولى هي ضمان استقرار النظام النقدي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. وقتذاك، اسندت اليه وظيفتين رئيسيتَين: ضمان التعاون النقديّ لمنع عمليات الخفض التنافسي للعملات [1]، وتأمين السيولة الدولية من خلال إقراض الدول الأعضاء التي تسجّل فقدان توازنٍ مؤقّت في ميزان مدفوعاتها. هكذا جاء أكثر من ثلثَي القروض التي قدّمها صندوق النقد خلال هذه المرحلة لصالح البلدان الصناعية [2].

    مع إلغاء هذا النظام، في 15 آب/أغسطس 1971، عندما قرّرت الولايات المتحدة وضع حدّ لقابلية تحويل الدولار إلى ذهب، تمّ تكليف صندوق النقد الدولي مراقبة تطبيق قواعدٍ هي عملياً غير موجودة في الواقع. ولن ينطلق في حياةٍ جديدة ألاّ مع بروز أزمة مديونيّة العالم الثالث، ما أدّى إلى عدم قدرة بلدان عدّة على تسديد ديونها ابتداءً من العام 1982. هكذا، خلال عقدين من الزمن، سيقرض الصندوق أموالاً إلى عشرات البلدان المديونة، مقابل برامج "إعادة هيكلة بنيويّة". ومن هنا تمّ تكريس دوره كشرطيّ لـ"توافق واشنطن".

    تمّت إدانة فشل أساليب عمل الصندوق بشدّة، لا سيّما من قبل كبير الخبراء الاقتصاديين السابق في البنك الدولي، جوزف ستيغليتز: "يشكّل تحرير التجارة المتزامن مع معدّلات فوائد مرتفعة منهجاً لا يُخطئ تقريباً لتدمير فرص العمل ونشر البطالة على حساب الفقراء. (...) إذ يمكن للتقشّف في الموازنات المطبّق بشكلٍ أعمى في وضعٍ غير مناسب أن يزيد البطالة ويفسِخ العقد الاجتماعي" [3].

    في التسعينات، سدّدت الأزمات المالية المتتالية في آسيا وأميركا اللاتينية، وتجذّر الفقر في إفريقيا، ضربةً جديّة لمصداقية المؤسّسة وأرغمتها على إعادة النظر في ممارساتها. لكنّ الإعلان، منذ 1999، عن "هندسةٍ ماليةٍ دولية جديدة"، وتبنّي "توافق جديد" في مدينة مونتيراي في شهر آذار/مارس 2002، جاء كما لو تمخّض الجبل عن فأر. فالبلدان الصاعدة المصمّمة على التحرّر من خدمات صندوق النقد الدولي، قد استفادت من التطوّرات والظروف الدوليّة (ارتفاع أسعار المواد الأوليّة وانخفاض معدّلات الفائدة) لتراكم احتياطات من العملات: وكانت تايلند (2003) والأرجنتين والبرازيل (2006) على رأس قائمةٍ طويلة من دولٍ قامت بتسديدٍ كاملٍ لديونها قبل موعد استحقاقها.

    عودة نحو المستقبل

    بعد أن انقطع عن زبائنه الرئيسيين وبالتالي عن جزءٍ ضخمٍ من إيراداته، شهد صندوق النقد الدولي تراجعاً في قروضه من 103 مليار دولار عام 2003 إلى 16.1 مليار في 31 آذار/مارس 2008 - وثلثَي هذا المبلغ لتركيا وحدها. وعندما تسلّم السيد دومينيك ستروس-كاهن إدارتها، في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2007، كانت المؤسّسة التي تتمركز واشنطن تعاني من عجزٍ في موازنتها. فقبل بضعة أشهر، دعا تقرير كروكيت حول مراجعة الحسابات المالية للصندوق إلى خفض النفقات الجارية وإلى بيع قسم من احتياطي الذهب لسدّ عجز النفقات الشهريّة. وفي ربيع العام 2008، صرف السيد ستروس-كاهن 380 موظفاً من أصل 2634 يعملون في الصندوق.

    مع أوّل أزمات السيولة خلال فصل الخريف 2008، انقشع الأفق فجأةً: فبين تشرين الأول/أكتوبر 2008 وكانون الثاني/يناير 2009، طالب ما لا يقلّ عن تسعة بلدان [4] بقروضٍ تصل إلى 48.673 مليار دولار. وفيما راحت لائحة البلدان المأزومة تطول (رومانيا، لبنان، تركيا.. الخ)، تبيّن سريعاً أن إمكانات صندوق النقد الدولي أعجز من مواجهة طلب البلدان المعرّضة للمصاعب. من هنا جاءت مضاعفة قدراته الماليّة ثلاث مرّات، كما أعلنتها بصخبٍ إعلامي مجموعة الدول العشرين [5].

    لم يحظَ إصلاح صندوق النقد الدولي الذي تقرّر في السياق نفسه بضجّةٍ مماثلة. مع ذلك يجدر تسجيل خطوتَين متقدّمَتَين: نهاية الاحتكار الأوروبي لإدارة الصندوق ومراجعة الحصص وصولاً إلى العام 2011 باتّجاه زيادة حقوق التصويت الممنوحة للدول الصاعدة. وتنحو هذه الاجراءات نحو إدخال المزيد من الديمقراطية على هذه المؤسسة التي لا تقوم قراراتها على الاقتراع العادي للدول، بل على توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تمنح الدول الصناعية المساهمة الرئيسية في التمويل، غالبيّة الأصوات [6]. لكن بعد أوّل إصلاح شكليّ في العام 2006، لن يطال هذا التعديل سوى 10 في المئة من حقوق التصويت ولن يغيّر كثيراً التوازنات القائمة.

    من جهةٍ أخرى، لم تُحرِز مجموعة العشرين تقدّماً حول شروط منح القروض. فقد رحّبت بالطبع بسياسة التسليف الجديدة التي أطلقت في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2009، التي تمنح البلدان التي تواجه مصاعباً سيولة لثلاثة أشهر دون برنامج تصحيحيّ ولا شروط إصلاحٍ بنيويّ. لكن مبلغ المئة مليار المعنيّ بهذا البرنامج كان موجّهاً فقط إلى البلدان التي تعتبر سياستها "صحيّة"، ويقتصر بالتالي على حفنةٍ من الدول صاحبة الامتيازات [7]. وفي كانون الأول/ديسمبر 2007، لاحظ المكتب المستقلّ لتقييم عمل صندوق النقد الدولي، بأنّه من أصل 120 برنامج تمّ تمويله في 55 بلداً نامياً بين 1995 و2004، فرض الصندوق ما معدّله 17 شرطاً للبرنامج الواحد، وهو رقمٌ اعتبر مفرِطاً، يجب تخفيضه في المستقبل إلى أربعة شروطٍ أو خمسة [8].

    في 24 آذار/مارس 2009، أعلن الصندوق "مراجعة رئيسية" في سياساته للقروض و"الانتهاء من معايير الإنجاز البنيوي". فبدل تمويل برامجٍ تظهر نتائج معايير إنجازها مع الحصول على القرض، بات المقصود هو عدم تسليم القرض إلاّ بعد إجراء الإصلاحات، وبالتالي منح الأفضلية للبلدان "المُنجِزة". هكذا، لا تختفي عمليات إعادة الهيكلة البنيوية، بل تختلف فقط لحظة الدفع وطريقة تقييم البرنامج. إصلاح المؤسسة إذاً أقلّ عمقاً مما أُعلن عنه، والسياسات القديمة لم تختفِ حقيقةً.

    وفي حين لم تنفكّ إدارة الصندوق في الأشهر المنصرِمة عن امتداح الإنعاش "الكينزيّ" للاقتصاد، المضادّ لاتجاه الأزمات الدورية، لإيقاف الانكماش، فإن تسليفاته ما تزال ترتبط بإجراءات في نفس اتجاه الأزمات الدورية؛ وتشمل عموماً ارتفاعاً في معدّلات الفوائد وخفضاً للنفقات العامة وتجميداً للأجور. وكا تبيّنه دراسة حول القروض الممنوحة لتسعة بلدان بين تشرين الأوّل/أكتوبر 2008 وكانون الثاني/يناير 2009، فإن الشروط المتعلّقة بالموازنات والسياسات النقدية ماتزال متشدّدة كما في الماضي [9]. ومن بين الأمثلة، ارتفاع معدّلات الفائدة الذي بلغ 6 في المئة في إيسلندا وليتونيا، مع ضرورة خفض عجز الموازنة من 6 الى 3.75 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في جورجيا وإلى صفر في المئة في أوكرانيا. لم تتغيّر الوصفة: مقابل إنقاذ الأنظمة المصرفية، تُفرَض إجراءات تقشّفيّة وتصحيحٌ اقتصاديّ، ترمي بثقلها على كاهل المواطنين المحليّين.

    وكأنّ الصندوق أراد تقديم البرهان على تصميمه فرض احترام شروطه، فقد أعلن في 2 نيسان/إبريل 2009، أي في اليوم الذي قرّرت فيه مجموعة الدول العشرين مضاعفة قدراته المالية ثلاث مرات، تعليق القرض إلى ليتونيا حتّى تُحرز تقدّماً أكبر في خفض نفقاتها الحكوميّة. وكانت ليتونيا قد طالبت دون جدوى بأن يكون الهدف هو خفض العجز إلى 7 في المئة وليس 5، متحجّجةً بأنّها لم تنفق أكثر من المتوقّع، بل أنّ ناتجها المحلّي الإجمالي قد تقلّص فجأةً؛ بحيث وصل العجز إلى 12 في المئة عام 2008 بدل الخمسة في المئة المتوقّعة [10].

    أضِف إلى ذلك، أنّ مجموعة الدول العشرين بقيت صامتة حيال اختلال التوازنات المالية الدوليّة بفعل تمويل الولايات المتحدة لعجزها من خلال الاقتراض الواسع من الدول الصاعدة، ومنها الصين التي باتت المالك الأول لسندات الخزينة الأميركية. ليست الهندسة النقديّة الدولية غير مستقرّة فحسب، بل هي ترتكِز على عملةٍ قد يؤدّي الإفراط في إصدارها إلى انهيارها. هكذا ينزع النظام الحالي إلى التدمير الذاتي، بما أنّ العملة المرجعيّة الدوليّة (الدولار) هي عملة بلدٍ (الولايات المتحدة) يستدين أكثر فأكثر.

    من جهةٍ أخرى، تخصّص الصين وغيرها من الدول الصاعدة مليارات الدولار لتمويل العجز الأميركي، في حين تحتاج هذه الأموال لنموّها الخاص. إضافةً إلى أنّها تخاطر، في حال أزمةٍ تعصف بالعملة الخضراء، في أن ترى احتياطاتها من الدولارات تتبخّر. فليس من المصادفة إذن، أن يقترح حاكم المصرف المركزيّ الصيني قبل أيامٍ على انعقاد قمة الدول العشرين، نظاماً احتياطيّ دوليّ جديد يقوم على عملةٍ ما فوق وطنية لا ترتبِط ببلدٍ بعينه، كما في حال حقوق السحب الخاصّة.

    هذا الحلّ مستوحى من فكرةٍ لجون ماينارد كينز، كانت قد اقترحته أيضاً لجنة خبراء الأمم المتحدة حول الأزمة المالية [11]، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية CNUCED [12] والعديد من البلدان الصاعدة (البرازيل، روسيا، جنوب إفريقيا، كوريا الجنوبية.. الخ). وكان الاقتصادي الشهير قد اقترح في حينه تأسيس نظام "بريتون وودز" على عملةٍ احتياطيةٍ فوق وطنية ("البانكور") بدلاً من الدولار والذهب، كما تقرّر في نهاية المطاف. وينفخ هذا الحلّ البديل في صندوق النقد حياةً لم يعرفها من قبل، إلاّ في فكر "كاينز": ضمان التوازنات المالية الدولية ضمن إطار نظامٍ نقديّ يقوم على عملة احتياط عالمية لا ترتبِط ببلدٍ ولا تخسر قيمتها حسب العجوزات في حسابات هذا البلد.

    من المستحيل سياسياً تطبيق هذا الإجراء على المدى القصير، إذ يفترض موافقة الولايات المتحدة على أن يخسر الدولار وضعه. لكن يمكن أن تتطوّر الأمور على المدى المتوسط إذا ما تراجعت قيمة العملة الخضراء. والحال أنّ برامج الإنقاذ والإنعاش تفترض، حسب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، ارتفاعاً في الدين العام الأميركي بنسبة 40 في المئة على ثلاثة أعوام. وفي غياب إجراءات فعّالة ضد المضاربات المالية، ستساهم هذه البرامج في خلق فقاعات جديدة. وفقاعة سندات الخزينة الأميركية تتضخّم تحت أنظارنا. والتاريخ المالي يعلّمنا أن الفقاعات تنتهي دائماً بالانفجار.

    * الأمين العام للمركز الوطني للتعاون على التنمية (بلجيكا)، والأستاذ في جامعات بروكسيل ولياج؛ له عدّة مؤلفات منهاFMI : la main visible (Labor, Bruxelles, 2003) et Financer le développement : l’introuvable consensus (Luc Pire, Bruxelles, 2008).

    [1] التخفيض التنافسي هو تخفيضٌ مقصودٌ لعملة أحد البلدان تسهيلاً للتصدير.

    [2] 16.692 مليار من أصل 24.666 مليار بين 1947 و1972, راجع Michel Aglietta et Sandra Moatti, Le FMI : De l’ordre monétaire aux désordres financiers, Economica, Paris, 2000.

    [3] Joseph Stiglitz, La grande désillusion, Fayard, Paris, 2002, p. 121.

    [4] جورجيا (750 مليون دولار)، أوكرانيا (16.4 مليار)، المجر (15.7 مليار)، إيسلندا (2.09 مليار)، ليتونيا (2.35 مليار)، باكستان (7.6 مليار)، صربيا (523 مليون)، روسيا البيضاء (2.46 مليار)، والسلفادور (800 مليون).

    [5] Martin Khor, « Reality behind the hype of the G20 Summit », in Suns – South-North Development Monitor, Genève, 7 April 2009.

    [6] والولايات المتحدة لها حقّ تعطيل القرارات، بما أن المطلوب للقرارات الهامة هو 85 في المئة من الأصوات، في حين تحوز الولايات المتحدة على 16.77 في المئة من الأصوات.

    [7] المكسيك أوّل من طالب بالصيغة الجديدة للقروض في 17 نيسان/إبريل 2009 وذلك بمبلغ 47 مليار دولار (أكبر قرضٍ في تاريخ صندوق النقد الدولي)؛ وتفاوض بولونيا حول قرضٍ بقيمة 20.5 ملياراً بنفس الشروط.

    [8] IMF Independent Evaluation Office, « An IEO evaluation of structural conditionality in IMF-supported programs », IEO, Washington, décembre 2007.

    [9] Third World Network, « The IMF financial crisis loans : No change in conditionalities », Geneva, 11 March 2009.

    [10] Financial Times, Londres, 3 avril 2009.

    [11] على هذه اللجنة برئاسة جوزف ستيغليتز اقتراح بدائلٍ للخروج من الأزمة تمهيداً لقمّة الأمم المتحدة (1-3 حزيران/يونيو 2009)؛ وقد تقدّمت بتقريرٍ فصليّ منتصف آذار/مارس 2009.

    [12] CNUCED, « The global economic crisis : Sytemic failures and multilateral remedies », United Nations, New York et Genève, 2009.

    حقوق السحب الخاصّة

    حقوق السحب الخاصة DTS التي أُنشئت عام 1969 كموجودات للاحتياط الدولي، تدلّ على "عملة" صندوق النقد الدولي. إنّها وحدة حسابيّة تمثّل ديناً على عملات الدول الأعضاء. ويصار إلى تحديد قيمتها بالدولار كمجموع القيمة لكميّة معيّنة من العملات الأربعة المرجعيّة (الدولار، اليورو، الجنيه الاسترليني والينّ) على أن تحتسب يومياً.

    خلال اجتماع لندن، اتفقت مجموعة الدول العشرين على "دعم إصدارٍ عام لحقوق السحب الخاصة سيسمح بضخّ 250 مليار دولار في الاقتصاد ويرفع السيولة المالية العالميّة". وستمنح حقوق السحب الخاصة هذه إلى الدول الـ186 الأعضاء في صندوق النقد الدولي كلٌّ بنسبة حصّته في الصندوق؛ ما يعني أنّ 44 في المئة منها ستمنح لدول نادي السبعة G7 الكبار، على أن تكتفي الدول النامية بأقلّ من الثلث، ومنها 7.6 في المئة فقط (19 ملياراً) للدول الخمسين الأكثر فقراً.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de