كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
|
 الشاي المر - قصة قصيرة
|
في زمن نزعت فيه الرحمة من قلوب الحكام المتحكمين في رقاب البشر , وشنهم الحرب علي الكادحين والكادحات الساعين من اجل الحصول علي لقمة العيش بشرف , وتكتمل المأساة الي درجة الموت , فالي ست الشاي شهيدة كشة النظام اللاانسانية نسأل الله ان يتغمدها بواسع رحمته ويسكنها فسيح جناته .
كنت قد كتبت قصة قصيرة قبل عدة سنوات في هذا المعني وضمنتها في كتابي (امدرمانيات- حكايات عن امدرمان زمان وقصص قصيرة اخري) اعيد نشرها هنا حتي يكون الواقع الاليم ماثلا امامنا لعل وعسي ان يتبدل الحال.
الشاي المر
يا أمي أديني المصروف أنا أتأخرت على المدرسة , جاء صوت البنت ذات الثلاثة عشر ربيعاً زاعقاً كصافرة القطار وتلاه صوت أختها الملهوف المتقطع :
وأنا كمان يا أمي وما تنسي المية جنيه حقة المعلمة , وصرخت فيها البنت الأولى :
- أنتي المعلمة دى ما بتنسى مرة حقها ؟
- والله قبل ما تقول أي حاجة بتسأل عن حقها
- لكين ليه ما بتشتكوها للمديرة ؟
- بري ! منو البقدر يعمل حاجة زي دى
وهنا جاء صوت الأم غاضباً من خارج الحجرة :
اطلعن يا بنات وخلن الغلبة بعدين بتتأخرن على المدرسة .. وأسرعت البنتان وأخذت كل واحدة ورقة الخمسمائة جنيه لإفطارها وزادت البنت الصغرى المائة الجنيه حق المعلمة وهرولتا ليلحقن بمدرستهن , وأخذت الأم ترتب أدوات عملها المكونة من عدة أكواب لشرب الشاي وصينيتين صغيرتين وعلبة تحوى السكر وأخري صغيرة للشاي وجردلاً صغيراً للماء وكيس به فحم وموقد صغير وبنبر وألقت نظرة فاحصة أخيرة على أشيائها ثم وضعتها في كرتونة متوسطة الحجم ثم دلفت من ( الراكوبة ) التي تتخذها مكانا للطبخ وللاسترواح حيث وضعت فيها عنقريباً صغيراً عار من الفرش , ودخلت الحجرة الطينية الصغيرة ذات الجدران المنبعجة هنا والداخلة هناك وغير المستوية بأكملها فبدت شوهاء قبيحة وكان بداخلها سريراً حديدياً قديماً وعنقريبان صغيران مفروشان بفرش قديم وملاءات مهترئة بجانبها منضدة صغيرة وتحت السرير شنطة حديد للملابس , وامتد بجانب الحجرة حبل مثبت بمسمارين على الحائطين نشرت فيهما ملابسهما القليلة وكان هناك أيضاً صندوقاً خشبياً وضع فوقه مصباح يعمل بالجاز ( الكيروسين ) , وهذه الحجرة في هذه البقعة في أطراف المدينة والتي يسمونها السكن العشوائي هي ما استطاعت أمونة أن تحصل عليه من سكن وبأجر باهظ من كسبها الضئيل من بيع الشاي للسابلة منذ أن فارق زوجها الدنيا منذ خمس سنوات تاركاً وراءه بنتين صبيتين , وانقطعت بها الأسباب عن أهلها البسطاء وقريتها الصغيرة في غرب البلاد , واستقرت في ذلك الصباح الباكر في مكانها الذي اختارته في أحد براندات السوق الأفرنجي في قلب الخرطوم وصار كأنه ملك خاص بها لا ينازعها فيه أحد وصار لها زبائن دائمون من العاملين في تلك الحوانيت والشركات وحتى أصحاب المكاتب في الطوابق العليا من المحامين والمهندسين , بخلاف السابلة الذين يتناولون الشاي وقوفاً أو جالسين على قوالب أسمنتية مربعة أو جالسين القرفصاء على الأرض .. وكان أول زبائنها ذلك الصباح هو عبد الله الفراش في الشركة المجاورة وابتدرها قائلاً :
- كيف أصبحتي يا أمونة وكيف البنيات
- نحمده ونشكره كلنا في أمن وأمان
- الحمد لله , المهم ربنا يدينا العافية
وناولته كوب الشاي الساخن الذي يتصاعد بخاره وتفوح منه رائحة النعناع .. وجاء آخر : بالله شاي بلبن وتقلى الشاي
- سمح وإن شاء الله تشربه بالعافية
وجاء ثان : أعملي لينا شاي سادة وسكر زيادة
- حاضر ياخوى
ثم التفتت إلى عبد الله الذي مازال يشفط بقية الشاي في كوبه
- أنت يا عبد الله أم عيالك ما طابت
- والله يا أمونه الدكتور قال عاوز نعمل ليها أشعات وتحاليل عشان يعرف مرضها لكن أداها مسكنات وحاجات زي دى , وأنتي عارفه الأشعات والتحاليل ما بنقدر على تكاليفها والله الشافي
- الله يلطف بينا كلنا يا عبد الله والله أنا لي تلاتة يوم صفحتي بتنقح على وصابرة عليها .
وغادر عبد الله داعياً لها بالشفاء , وهنا جاء زبون جديد ويبدو أنه معروف لديها وهو شاب متأنق بعض الشيء ووقف قبالة أمونة وغمز لها بعينه وقال :
- صباح النور على البنور , أديني شاي من أيدك وأتوب وردت عليه مبدية الضيق : أنت مسخرتك دى ما داير تبطلها يا حسن
- يعني الزول ما يقول النصيحة يا سمحة
- عليك الله خليك من الكلام ده وأشرب شايك وأمشي .
وفي الحقيقة كانت أمونة يكسو وجهها وقوامها بقايا حسن جار عليه الزمان وأخذ يطمس ملامحه الوضيئة تحت ضربات الشقاء وهم العيش .. وبينما هما كذلك حدثت جلبة وصراخ وشتائم وصيحات ( الكشة .. الكشة ) وحاولت أمونة أن تلملم حاجياتها في الكرتونة وتهرب بها ولكن هبط عليها كالقدر عسكري من شرطة النظام العام وركل بحذائه الثقيل الغليظ أشيائها فطارت الأكواب الزجاجية وارتطمت بالأرض الأسمنتية متناثرة إلى آلاف الأجزاء المتكسرة وتناثرت حبيبات السكر والشاي وسال اللبن وغطت الأرض خليط من اللونين الأبيض والأسود , وتشبثت أمونة ببقية حاجياتها ولكن العسكري دفعها بغلظة وقعت معها على الأرض , وقامت مقهورة منعدمة الحيلة وصارت تردد بحرقة ويأس رافعة يديها إلى السماء (( شكيتكم لي الله ..شكيتكم لي الله )) .
|
|
 
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الشاي المر - قصة قصيرة (Re: هلال زاهر الساداتي)
|
عزيزي الاستاذ هلال
رسمت صورة صادقة ومؤثرة.جميل منك أن تربط ذلك بما حدث في مأساة بائعة الشاي مؤخراً فأنت كتبت الصدق الذي جرى بخيالك مما تشاهد وبخيال السنوات من بعدك مما حدث ويحدث في حياتنا السودانية البائسةباستمرار. ومن عجب أن معاوية محمد نور قبل بداية الأربعينات من القرن العشرين قد رسم صورة مماثلة في كتابته(خواطر محزونة) عن ست الشاي في محطة القطار التي صارت بعد أن لم تبع شيئاً من بضاعتها تدفع صغيرها وتعنفه بينما يراقبهما الراوي من نافذة القطار ويحزن.قرابة القرن مرت وكتاباتنا وخواطرنا لازالت يا أخ هلال عن اهلينا محزونة.إن الصورة التي رسمتها في حكايتك هذه ستنضاف دون شك لهذا الرصيد التاريخي منذ معاوية نور مع الوقائع الحية لست الشاي التي ماتت مطعونة.
دمت.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الشاي المر - قصة قصيرة (Re: Bushra Elfadil)
|
الاخ العزيز الاديب بشري الفاضل
يقيني ان الخيال لابد ان يتطابق او يتلاءم مع الواقع المعاش , حتي لا تصبح الكتابة
نوعاً من الترف , أو العبثية , وان لا يجنح بنا الخيال بعيدا عن حياة الجماهير
الكادحة .
سلمت ودمت
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الشاي المر - قصة قصيرة (Re: هلال زاهر الساداتي)
|
استاذى الجليل هلال زاهر
اولا ً انا احد تلاميذك بمدرسة بيت المال الثانويه العامه
لم اتشرف بتلقى العلم مباشرة منك ولكنك ناظرى او ناظر المدرسه
ولقد قرأت قصتك المنشوره اعلاه بالامس فقط , ضمن كتابك .. امدرمانيات
الذى عثرت عليه بالصُدفه و قبلها كُنت قد اطلعت على كتابك .. ايام التونج
ذكريات فى جنوب السودان .. الذى اضاء كثيرا ً
معلوماتى عن طبيعة الحياه ذلك الوقت فى جنوب البلاد
وشكل الحُكم والاداره فى
تلك الحقبه المهمه من تاريخنا الحديث .
وما وقوفى اليوم سوى للتحيه والعرفان لك كمُعلم جليل وكاتب يعمل على التوثيق
واضاءة الواقع بمعايشاته الثره ورؤاه التى راكمتها التجارب , متوخيا ً
صفاء وجزالة الاسلوب .
الاسم الكامل : .. خطاب حسن احمد
.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الشاي المر - قصة قصيرة (Re: هلال زاهر الساداتي)
|
Quote:
الابن خطاب حسن احمد
احمل في قلبي مكانة خاصة لتلك السنين الست التي عملت فيها ناظرا ومديرا لمدرسة بيت المال الثانوية العامة(المتوسطة فيما بعد) , وكانت اطول مدة اقضيها في مدرسة واحدة , وكانت المدرسة في تلك الفترة من اميز مدارس امدرمان ان لم تكن اميزها جميعا , وكانت قبلة الزائرين من وزارة التربية والتعليم ومن مكتب التعليم لتميز مدرسيها وتلاميذها وعمالها .
بالغ التحية وخالص الود لك وعبرك لكل اساتذتها وتلاميذها وعمالها الذين جعلوا ذلك التفوق ممكنا.
|
شكرا ً استاذنا هلا ل زاهر الساداتى
على هذه الشهاده التى يعتز بها اساتذتى قبل زملائى
التحيه لهم جميعا ً.. وهذ دعوه منى لكم بالمتابعه .. لنرى ماذا سطر
استاذنا الكاتب .. فى كتابه امدرمانيات ..
حكايات عن امدرمان زمان
وقصص قصيره اخرى .. منها هذه القصه المنشوره اعلاه
.
يفتتح الكتاب بهذا الاهداء :
.. الى اهل امدرمان - الأصاله والسماحه وبخاصه الصديق
.. الكاتب الاُمدرمانى الاصيل شوقى بدرى
.. هلا ل زاهر
| |
|
|
|
|
|
|
| |
هلال زاهر الساداتي
Bushra Elfadil
khatab
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست