|
الترابي والخميني ـ جدل الفكر والسياسة ( منقول )
|
محمد بن حامد الأحمري ـ (1) تحدث مرة ياسين عمر الإمام عن خصوصية السودانيين ، وكان وقتها نائب الترابي في قيادة الجبهة الإسلامية القومية فكان مما ذكره : أن السودان له وضْع وشخصية خاصة, لا يُشْبه العرب ولا الأفارقة ، وأن العرب يرون السودانيين أفارقة ، والأفارقة يرون السودانيين عرباً . فوقعنا بين ثقافتين ، وبحكم أن السامعين عرب ، فبدأ يقص الفرق بين العرب والسودانيين ، ممثلاً بحادثة خاصة به ، وهو أنه كان مسجوناً ثم أُفرج عنه وذهب للحج ، فصادف أن كان وزير الداخلية - الذي سجنه - حاجاً ، قال : فأخبرت إخواناً لي - من دول عربية أخرى - أنني سأزور الوزير في مقره في مِنًى ، فاستغربوا واستنكروا أن يزور ساجنه ، قال : ولكني ذهبت واستمتعت معه بجلسة لطيفة وعاد ليحدثهم عن زيارته لأخ سوداني آخر ، كأن يكون ابن قريته وصديقه . أما العرب الآخرون فلا يعرفون دفء هذه العلاقات . ولما تعجب الحاضرون زادهم ما أثار استغرابهم ، ليقبلوا بنظرية أن السودانيين مختلفون عن إخوانهم العرب ؛ فحدّث عن قبائل في غرب السودان تتقاتل نهارها ، ثم إذا حان وقت الغداء اجتمع العدوان المتقاتلان ليتغدوا معاً ، حتى إذا فرغوا من طعامهم عاد كل منهم لجبهته يقاتل الآخر ! . وفي ممارسة السودانيين الاجتماعية والسياسية ما يشهد لرأي الإمام . قابل مصطفى السباعي الترابي في لندن والأخير يدرس هناك ، فوجد أن بعض أصدقاء الترابي المقربين له - الذين استقبلوا معه السباعي - كانوا من الشيوعيين السودانيين ، فكان هذا مما عجب منه السباعي . وخرج الترابي من السجن ؛ ليتولى أرفع المناصب الحكومية بعد منصب خصمه الذي سجنه - النميري - ولينظّر له وللمرحلة الإسلامية الجديدة . فيتحول النميري - بين عشية وضحاها - إلى كاتب ومنظِّر للعدل والشورى والنظام الإسلامي ! . وقد اشتدت الخلافات من قبل ومن بعد بين الأنصار والإخوان ولم يمنع ذلك من زواج الترابي من أخت الصادق المهدي ، الصديق اللدود والنسيب للترابي . وتتحول الزوجة المهدية إلى جبهوية ترابية تجيِّش الرجال والنساء ضد أخيها وجدها ، فلكل مجتمع خصوصيته ، التي لا يُفهم المجتمع دون وضعها في الاعتبار . وفي موقف آخر يملأ الإخوان المسلمون أيديهم من انتظام إخوان السودان معهم ، ويرون أنهم امتداد وفرع للحركة ، فإذا بالسودانيين يقولون : عرفنا الدعوة والتنظيم في كلية جوردون قبل أن نعرف الإخوان ! . وفي أحد اجتماعات المكتب التنفيذي للإخوان المسلمين - وقد حضره الترابي - أرادوا أن يقرروا منع مشاركة الإخوان في الانتخابات "الشكلية" ، التي تقوم في الدول العربية, بناءً على التجارِب المتكررة, ومنها محاولة إخوان سورية عام 1961 ، ثم فشل التجربة . فردَّ عليهم الترابي متحمساً للانتخابات ، وفكرة المشاركة : "والله - يا إخوانَّا - إحنا لو صح لينا نُص وزير أو ربع وزير ، حتى مش حنرفض" . فقد كان الترابي يصدم المحافظين والبيروقراطيين بقناعاته وتحولاته . قال أحد الذين تعاملوا معه حركياً : عندما قابلته في أوائل السبعينات صدمتني شخصيته آنذاك فقد "كان له عقل غير عقولنا المسكّرة" ، كان مختلفاً في رأيه , حراً ، بل متحرراً في رأيه ، وأحياناً ينطلق بلا زمام ولا قيد . لماذا المقارنة ؟ : لأن بين الشخصيتين تشابهاً كبيراً ، فكلاهما - على الرغم من اختلافنا معهما - يتمتع بمميزات الزعامة والثقافة والعلم والاستقلال ، وهذه صفات تكفل لمن يتمتع بها مكاناً وأثراً في قومه ، وكلاهما شذّ عن السِّرْب بعمل أو فكر . وكلاهما انتصر لفكرته أو لنفسه بدولة ، وكلاهما رفع شعار الإسلام للتغيير . وكلاهما أثار قلقاً كبيراً في مجتمعه ، بحق أو بغيره ، وكلاهما كان مفيداً ، ثم أصبح عبئاً . وسيبقى أثر كل منهما بعد موته وبخاصة الخميني . ويبقى أن الترابي - مهما قِيلَ عن أخطائه - لا يمكن أن يوضع في صف الإمامية ، وإن أملتْ عليه رغبته الإصلاحية أو السياسية بعض المواقف المشابهة فما كان يقصد ذلك عقدياً ، ولا قصدناه هنا . وفرق آخر مهم بينهما ، وهو أن الترابي -دائماً - كان حاكماً غير معلن ، أو قاب قوسين أو أدنى من الحكم ، لزمن طويل ، أما الخميني ففي الطائرة التي أقلته - لم يكن متأكداً من نهاية الشاة ، ولا أنه سيحكم إيران ، أو على الأقل هذا قول رفاقه ودارسي حياته . و هذه مساهمة سريعة في تفهُّم الخصائص والأشخاص ، ولا نقصد بها الحكم على النيات ، ولا نقاش المذاهب والتوجهات ؛ فهي أمور غير مطروقة للبحث هنا ، ولضيق حيز مقال عن أن يتعرض لمهمات أُخر . ثم إنه قد سبق لهذه الأمور العقدية والمنهجية جهابذة ، أغنونا عن تكرار القول . الترابي :
|
|
|
|
|
|