|
المبارزة بين ماركس ودستويفسكي
|
[BIG]البرتو مورافيا المبارزة بين ماركس ودستويفسكي ترجمة : أنور محمد إبراهيم ظل الكاتب الايطالي الشهير البرتو مورافيا طوةال حياته مولعًا بدستويفسكي وقد انعكس تأثير العبقري الروسي على رواياته الإجتماعية النفسية ( اللامبالون ) ، ( إمرأة من روما ) ، ( الملل ) ، ( تشوتشارا ) الامر الذي اعترف به مورافيا نفسه أكثر من مرة . وقد سافر مورافيا الى لينجراد ليرى رأي العين بطرسبرج دستويفسكي ، وظل واقفًا في خشوع أما الشقة التي انجز فيها الكاتب الروسي رواية ( الجريمة والعقاب ) بل انتزع جزءًا صغيرًا من خشب باب هذه الشقة ليحتفظ به كتذكار . نشر مورافيا مقالته ( المبارزة بين مكاركس ودستويفسكي ) في مجلة Encountre ( العدد السابع نوفمبر 1965 ، ص 3-5 ) وقد لاقت انذاك شهرة مدوية ، وتمت ترجكتها الى كل لغات اوروبا تقريبا ، ولكنها لم تترجم الى الروسية الا في مطلع العام الماضي ( العدد الاول من مجلة قضايا الادب الشوفيتية 1990 ) . في تلك الاونة كان لهذه المقالة اهمية فائقة ليس فقط لأنها بقلم الكاتب الايطالي الشهير ، بل للتناول المبتكر لرواية ( الجريمة والعقاب ) الذي قد يبدو للوهلة الاولى مباشرًا وإجتماعيًا بعض الشيء. وينبغي ان نضع في اعتبارنا في البداية ان مقالة مورافيا ( المبارزة ... ) قد ظهرت بالتحديد في الوقت الذي سمع فيه العالم للمرة الاولى الحقيقة المفزعة بشأن جرائم ستالين ، من خلال الخطاب الشجاع الذي القاه نيكيتا خروشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوداني 1961 م من هنا نقف على السبب الذي من أجله تناول مورافيا عن وعي رواية هائلة مثل الجريمة والعقاب بشيء من المباشرة والاستناد الى التحليل الاجتماعي ، منطلقًا من فكرة اساسية هي استحالة ان تكون حتى انبل الاهداف وأسماها مبررا لاستخدام وسائل منحطة ، إذ أن دمعة واحدة تذرفها عين طفل لا يمكن ان تكون ، على حد قول إيفان كارامازوف عذرًا للإنسجام الكوني في المستقبل . وإبداع (( أنقل لكم المقال من مجلة إبداع العدد12 ، ديسمبر 1991،ص106-109 محمد )) تقدم لأول مرة الترجمة العربية لهذه المقالة الهامة ، تحية لألبرتو مورافيا في الذكرى الاولى لوفاته ( 27 اكتوبر 1990 ) وتصديقًا لتنبؤاته ، فدستويفسكي الذي هزم في الجولة الاولى من المبارزة ينتصر على ماركس الان . النص ... النص ... النص : ينفي الروس وإن جرى على استحياء ، وبكثير من التردد ، أن دستويفسكي إبان حكم ستالين قد اعتبر خارجًا على القانون ، ولكن تبقى حقيقة ان مؤلفاته لم يعد طبعها آنذاك ، وكانت الطبعات القديمة من مؤلفاته تنتقل من يد لأخرى بين قرائه المخلصين ، أما المجلات الادبية التي كفت عن الحديث عنه فقد تحولت الى مجلات لا يرجى من روائها خير . وأخذت تسير من سيء الى أسوأ ، بإختصار فإن دستويفسكي ، كما أخبرني بذلك فادييق منذ عدة سنوات في روما ، كان بالطبع كاتبًا روسيًا يستحيل إسدال ستر النسيان عليه ، ولا يجوز ذلك بأي حال من الأحوال ، ولكنه كان في نفسه كاتبًا جعيًا ، دافع عن النظام القيصري وعن الارثوذوكسية ، كما كان صاحب نزعة في الفن انحطاطية فردية وكان منغلقًا على ذاته . ترى هل يمكت إعتبار هذا الحكم صحيحًا مطلقًا ؟ إنني أفترض ان الستالينيين على صواتب جزئيًا وهم ينظرون اليه بإعتباره خصمًا لهم ( وخاصة إذا ما أخذنا في الإعتبار رواية الشياطين ) ولكن الصواب جانبهم في أمور كثصيرة . لنأخذ كمثل أفضل وأكثر روايا دستويفسكي شهرة وهي ( الجريمة والعقاب ) إن هذه التحفة ستظل لسنوات طويلة مفتاحًا ضروريًا لفهم ما حدث في روسيا وفي أوروبا خلال الخمسين ععامًا الأخيرة . من هو راسكو لينكوف ؟ إنه مثقف ما قبل الماركسية ، الذي يعبر عن إحتجاجه على الظلم الإجتماعي والفقر المدقع في روسيا القيصرية ، والذي يقرر في تحد القيام بعمل رمزي ضد هذه الظروف . لم يتسن لراسكو لنيكوف أن يقرأ ماركس وكان معجبًا بنابليون نموذج السوبرمان للقرن التاسع عشر بأكمله ، نفس الأعراض نجدها في الجانب المقابل عند جوليان سوريل في رواية ستاندال ، بطل آخر متيم بنابوليون ، راسكو لنيكوف لا يحلم بالعظمة وإنما بالعدالة ، فيما بعد سنجد أن كراهيته تتركز في العجور المرابية ، وهو ما يتفق في المحصلة النهائية مع المعادلة الماركسية بشأن إستغلال الإنسان لأخيه الإنسان ، ولكن من هي في هذه الحالة تلك العجوز المرابية ؟ إنها التجسيد للبورجوازية الاوروبية التي تضارب برؤوس الأموال المساهمة التي تعيش على الدخول التي تدفعها البروليتاريا في الدول المحتلة والتابعة ، وتفعل هذا كله دون وعي ، وبضمير مطمئن . إن هذه العجوز هي في واقع الأمر رمز قد لا يختلف كثيرًا في سماته الرئيسية عن النموذج التقليدي لصاحب البمك في الروايات الساخرة المعادية للبورجوازية ، بشحمه المكتنز وقبعته الحريرية . على الرغم من ان راسكو لنيكوف لم يقرأ ماركس ويتصور نفسه سوبرمان يعهلو فوق الخير والشر ، فإنه كان ما يزال آنذاك جنينًا لقوميسار الشعب . والواقع أنه كان أول قوميسار شعبي يخرج من طبقة المثقفين التي ينتمي اليها ، والتي استحوذت عليها نفس الأفكار ، نفس التعطش للعدالة الإجتماعية ، ونفس التشبع الأيدلوجي الشديد ، ونفس الإصرار على الفعل . كان الخيار أمام راسكو لنيكوف هو ذاته الخيار المطروح أما قوميساري الشعب وأما ستالين : " هل يمكن لصالح البشرية قتل العجوز المرابية ؟" ( اقرأها : القضاء على البورجوازية ؟) إذا كان الأمر على هذا النحو لماذا إذن يكن الشيوعييون الكراهية لدستويفسكي ؟ إن السبب غاية في البساطة . إن كراهية راسكو لنيكوف للعجوز المرابية لها جذور مسيحية . فالواقع أن هذه الكراهية هي كراهية المسيحي في العصور الوسطى للتجارة والربح ، إدراك تنافر تعاليم الكتاب المقدس مع البنوك والمكاسب . إن هذه الكراهية وهذه الخصومة التي استمرت مئات الأعوام قديمًا هي التس سلمت البنوك والتجارة لأيدي اليهود ، حت جاء هذا اليوم الذي أدركت فيه شعوب اوروبا المسيحية ( وعلى رأسهم الايطاليون ) أن بإستطاعتها هي ذاتها أن تصبح من أصحاب البنوك والتجارة ، وأن تبقى على الخوف من الله في قلوب الناس .دون أن تجادله في دينه او تتخاصم معه . على أن راسكو لنيكوف قد ظهر ، مثله في ذلك مثل قوميسار الشعب ومثل ستالين ، في دولة من العصور الوسطى حيث تتحكم في البنوك وفي التجارة ، أجناس وجماعات إجتماعية محدودة ، جاء راسكو لنيكوف من بلد زراعي متخلف ما يزال وثيق الارتباط بالمسيحية البدائية الصوفية . لهذا كانت البنوك والتجارة تمثل بالنسبة لراسكو لنيكوف أعمالاً ربوية ، أما البورجوازية الاوربية والروسية اللتان تمارسان الربا فقد تحولتا الى العجوز المرابية ، ولهذا وجب قتل العجوز أي وجب القضاء على البورجوازية . على أنه وفي هذا المكان تفترق الطرق بدستويفسكي والماركسية . الماركسيون غير المسيحين على الإطلاق يقولون : ( هيا نسحق المرابين ونمشي قدمًا . بعد موت العجوز سوف نخلق مجتمعًا جديدًا بلا طبقات . وبلا مرابين . إن هذا المجتمع يبر تمامًا قتل المرابية " أما دستويفسكي الذي بقى مسيحيًا بعد أن قادنا خطوة وراء الأخرى ، عبر جميع مراحل الجريمة التي كان يفكر فيها دون توقف ، والتي اختبرها الاف المرات في قلبه ، فيتوقف فجأة ، وبتحول حاد مفاجئ ، يعلن أن راسكو لنيكوف وستالين ليسا على حق ليقول : ( لا . لا يجب ان تقتل حتى ولو كان هذا لصالح البشرية . لقد قال المسيح : لا تقتل ). ويتوب راسكو لنيكوف توبة نصوحا ويأخذ مع سونيا في قراءة الكتاب المقدس . وهنا يضفي دستويفسكي عل نهاية روايته هالة من الوجد الصوفي : تدريجيًا ، قصة إعادة انبعاثه رويدًا رويدًا، قصة إنتقاله من عالم إلى عالم آخر خطوة خطوة ، قصة معرفته بواقع جديد كان يجهله حتى ذلك الحين كل الجهل " على أن الماركسيين كان بإستطاعتهم أن ينهوا الرواية على النحو التالي : ((أما هنا فتبدأ الثورة )). إن هذا الفراق بين دستويفسكي والماركسية هو نتيجة التقديرات المتباينه لكينونة الشر . الشر عند الماركسيين هو هذه الأطروحة ، كما بدأ الأمر اولاً . ثم رفضها واتجه نحو الاستنتاج المسيحي . وفحواه ان الشر ليس هو العجوز وإنما هو الوسائل التي استخدمها راسكو لنيكوف لإزاحتها أي بالتحديد هو العنف . إن الشر في الرواية كما رآه دستويفسكي قد جرى تقديمه لا في الموت العنيف للعجوز . وإنما أيضًا وبالدرجة الأولى في الموت العنيف الذي تعرضت له ليزافيتا البريئة المتدينة أخت المرابية والتي قتلها راسكو لينكوف ليتحاشى شهادتها على جريمته . بإختصار فالشر عند الماركسيين شيء غير حقيقي فلا توجد سوى مشكلة الشر الإجتماعي الذي يمكن تدميره عن طريق الثورة . أما عند دستويفسكي فالشر حقيقة فردية في قلب كل إنسان . وهذا الشر ينعكس تحديدًا في وسائل العنف التي تطبقها الثورة . إن الماركسيين انطلاقًا من مبرراتهم التاريخية والإجتماعية يستطيعون أن يغسلوا أكثر الضمائر اسودادا في الوقت الذي ينفي فيه دستويفسكي أي مبرر للجريمة . ويؤكد على وجود الشر الذي لا يستأصل . هكذا كنا جميعًا في الأعوام التسعين الأخيرة شهودًا على ما حدث في روسيا من تنافس بين دستويفسكي وماركس . انتهت الجولة الاولى لصالح دستويفسكي بإبداعه هذه التحفة الفنية ، بينما انتصر ماركس في الجولة الثانية عندما تحققت نظريته بالثورة . على أنه يبدو ان النصر في الجولة الثالثة ، أو مرة أخرى ، لدستويفسكي : فالشر الذي دخل من النافذة بفضل الماركسية اندفع بفضل الوسائل التي طبقتها الثورة لتثبيت وتوطيد أركانها . أي نوع من الشر تراه؟ عن هذا حدثنا خروشوف بإستفاضة في خطابه .أما أنا فسوف أتحدث بإختصار أكثر : إن الشر في الاتحاد السوفيتي قد انعكست صورته في عدد لا يحصى من أمثال ليزافيتا ، فيما لا يحصى من الضحايا الابرياء الذين عبذوا وسيقوا الى السجون وقتول باسم الثورة والذين يعاد اليهم اليوم اعتبارهم ولكن لن يعاد اليهم مطلقًا ما انتزع منهم . أعود وأقول في إيجاز إن الشر هو الألم ، الألم الذي لا حدود له ، الألم الذي أغرق روسيا طوال الأعوام الخمسين الأخيرة ، إن هذا الألم بدوره هو الذي دفع راسكو لينكوف لأن يهوي ببلطته مبررًا فعلته بأنها لخير البشرية . للأسف فإن ضربة البلطة هذه كانت في واقع الأمر أثقل وزنًا بكثير من خير البشرية . لقد قفزت كفة الخير في الفضاء حقيقة الى أعلى في الوقت الذي هبطت فيه الكفة الأخرى إلى أسفل ، بسبب ضربة البلطة وهكذا فقد تحقق إنتصار دستزيفسكي ولو إلى حين .
|
|
|
|
|
|