|
|
 الملف الثقافي: احساس الناقد يجعله ينفر من الزيف
|
الملف الثقافي: احساس الناقد يجعله ينفر من الزيف
بقلم: عثمان الحوري
حتى عام 1920م وما بعدها كانت تدور في بريطانيا معركة حول دور النقد الادبي. ولقد كان ت.س.إليوت واحدا من فرسان تلك المعركة. لقد الف كتابا صغيرا بعنوان ـ الغابة المقدسة ـ يحاول فيه شرح دور الناقد الادبي في الثقافة او الحضارة.
وفي مقال بعنوان ـ الناقد الممتاز ـ او الناقد الجيد.. يدلي اليوت بآرائه بطريقة عصبية تشي بانه مواطن ومثقف امريكي، فقد امريكا الى الابد، ولم يكسب بريطانيا كبديل. يقول إليوت في صدر مقاله المشار اليه:-
«.. لعل كولوريدج هو اعظم ناقد انجليزي. وبمعنى من المعاني هو آخر النقاد العظماء. ومن بعد كلوريدج فلقد جاء ماثيو ارنولد. وارجو ان يكون مسموحاً لي بان اقول ان ارنولد كان داعية للنقد ومنظماً ومحبّبا له اكثر منه ناقداً حقيقياً popularizer.. ولم يكن يملك افكاراً جديدة عن دور النقد في الثقافة. وسيظل دور ماثيو ارنولد مهما طالما بقيت بريطانيا جزيرة».
ولد ماثيو ارنولد عام 1822م. وكان والده ناظراً لمدرسة رقبي الثانوية الشهيرة، والتي اخترعت لعبة كرة القدم. ولقد كانت رقبي مدرسة ثانوية عريقة وكان يدرس فيها ابناء الطبقة العالية في بريطانيا في ذلك الزمان. وفي ما بعد التحق ارنولد بجامعة اكسفورد. ولقد اتم ارنولد دراسته في اكسفورد وغادرها بتقدير متوسط. وكان ذلك مخيباً لآمال اسرته. وبما انه كان مقربا وسكرتيراً للورد لانسداون فلقد عينه ذلك السياسي في وظيفة مفتش مدارس على مستوى المرحلة الاولية. وكان التجول في المدارس للتفتيش مرا كالدواء ومفيداً. فالاطفال ومدرسوهم ومدرساتهم هم صورة من العمق العاشر للمجتمع البريطاني في القرن التاسع عشر. واذا كان المدرسون والمدرسات يعلمون الاطفال القراءة والكتابة ويزودونهم بالمعلومات الاولية الضرورية عن الحياة، فانهم يقفون من الثقافة العالية والثورية موقفاً مزدرياً.. وفي ما بعد ارسل ارنولد في بعثات ميزانية عن نظم التعليم الاولى في فرنسا وهولندا وسويسرا والمانيا.
لقد بدأ ماثيو ارنولد حياته الادبية شاعرا في اوكسفورد. ولقد فازت قصيدته ـ كرومويل ـ بأرفع الجوائز الادبية. ولكن ارنولد الذي تعرفه اقطار اللغة الانجليزية هو الناثر الناقد. في عام 1885م نشر ماثيو ارنولد الجزء الاول من (مقالات في النقد) وتبعه الجزء الثاني عام 1889م هذه المقالات جعلت من ارنولد ظاهرة جديدة في عالم النقد الادبي. كانت الثقافة الانجليزية في حاجة ماسة الى صوت ارنولد الذي هو صوت المفتش المدرسي يتحدث الى المدرسين والمدرسات. واكتسب ماثيو ارنولد لقبAn
apostle of Culture .. رسول الثقافة. ومن اقواله الشهيرة عن النقد.. (مهمة النقد ان يكون محاولة موضوعية لمعرفة ونشر احسن ما عرفه ويفكر به البشر في العالم..) وكان يصف النقد الادبي في بلده بريطانيا بانه Proincial .. أي يعيش على الهامش الريفي للثقافة الاوروبية. ومن اقواله شبه الاكاديمية ان غاية الادب وهدفه هو نقد الحياة.. وان الشعر في اصله هو نقد الحياة وفحصها.. وبالتأكيد فان الشاعر او المؤلف ليس واعظا في كنيسة او معبد.. ولكن احساسه الحدسي النبوئي وثقافته تجعله ينفر من كل ما هو زائف ورخيص وتافه في سلوك البشر بمن فيهم نفسه. ان ارنولد في دراساته الادبية والنقدية كان موضوعه وهدفه هو علاج نسيج الثقافة والحضارة الانجليزيتين. وكان هدفه هو علاج الرذيلة التي تعاني منها الثقافة البريطانية والمتمثلة في المزاجات والاهواء التي لا يصدقها العقل في الفنون والدين والاخلاق. انها مزاجات واهواء مخيفة، وتحتاج الى جرعة من التعقل.
وكان ارنولد يرى بان الناقد الادبي يجب ان يكون ملماً بلغة اجنبية وثقافتها الماماً قويا بالاضافة الى لغته وثقافته الوطنية. وكان ينعى على الانجليز عزلتهم الجزرية ـ الصفة من جزيرة ـ وهو كان قد انغمس في دراسة النثر الفرنسي.. واستفاد من الناقدين الفرنسيين سانت بيف ورينان وهو يقول عن فرسن انها تجيد كل الفنون ولكنها لا تتفوق في فن واحد معين.
وفي ما يبدو فان عقلية ماثيو ارنولد التعليمية الاكسفوردية تظلم بني وطنه الانجليز. فهم اول من صاغ مبدأ حقوق الانسان في ثورة البرلمان عام 1648 بقيادة كرومول. وثورة البرلمان الانجليزي ضد الملك شارلز الاول هي ام الثورات. ومنها اخذت المستعمرات الامريكية وثيقة الاستقلال التي اعلنت ميلاد الولايات المتحدة الامريكية عام 1776م. اما الثورة الفرنسية فلقد صاغ مبادئها روسو وفولتير ومونتسكيو وكلهم من تلاميذ فيلسوف الديمقراطية جون لوك وزميله توماس هوبس وكلاهما بريطانيان.. وعلم الاقتصاد المعاصر وضع دراساته الاسكوتلندي آدم اسمث في كتابه ـ ثروة الامم ـ ومن تلاميذ آدم اسمث كارل ماركس. اما الدراسات التاريخية الحديثة فان واضع اساسها هو الانجليزي ادوارد جيبون في كتابه الموسوعي عن ـ تدهور وسقوط الامبراطورية الرومانية. وعلم الكونيات والفلك المعاصر وضع مبادئه البريطاني آيزاك نيوتن. والالمان يتفاخرون بان شكسبير كان انجليزيا، ولكن نحن اكتشفناه وعرفنا قيمة مؤلفاته. ولو تركناه لأهله الانجليز لضاعت مؤلفاته في مزبلة التاريخ الانجليزي.
والفرنسيون يقولون: لم نتعلم من الانجليز الا اعدام الملوك ـ لويس السادس عشر في مقابل شارلس الاول. والانجليز يسكتون على وقاحة الفرنسيين. والحقيقة ان وثيقة حقوق الانسان التي صدرت من الثورة الفرنسية كان من مؤلفيها المواطن الانجليزي توم بين والفيلسوف الديمقراطي الانجليزي جون لوك. اما نابليون الكورسيكي فلقد هزمه الانجليز في موقعه ـ الطرف الاغر ـ البحرية، وفي موقعه ووترلو البرية.. ودمروا اسطوله في خليج ابي قير بالقرب من الاسكندرية.
والحقيقة ان الناقد الادبي ماثيو ارنولد لم يكن اقل من بني جنسه الانجليز وطنية وغيرة على مصالح بريطانيا. ولكنه كان يمارس النقد الادبي بعقلية اكاديمية تنتمي الى عصر الملكة فكتوريا. ومؤلفاته في النقد الادبي اهمها ـ الثقافة والفوضى. وهو في النهاية يربط النقد بالعمل في الحياة والاخلاق. ومهما تفاخر الفرنسيون بفخافة نثرهم الادبي فان تاريخهم السياسي يدل على انهم لا يمارسون مبدأ تقويم الذات. وان امة وصل الى سدة الحكم فيها الحمقى من امثال لويس السادس عشر ونابليون ولويس بونابرت، هي امة تعاني من النقص العملي في تقييم الرجال وصوغ المباديء التي تحفظ للدولة حرمتها.
ومهما تفاخر الالمان بجوتة وامثاله من ارباب القلم فان تاريخهم السياسي هو تاريخ السقوط والحماقات. إن النقد الادبي كما يفهمه ماثيو ارنولد يجب ان يكون جزءاً من التربية الوطنية. والتربية الوطنية في اساسها هي معرفة الواجبات والحقوق وتغليب جانب المصلحة العامة على النزعة الانانية عند الفرد. وهذا لا يتأتى بالوعظ والارشاد فحسب وانما يتأتى بتنمية القدرة على تقييم الاعمال والافعال في الاعمال الادبية والحركات اليومية او التاريخية. ان الهدف والغاية من المؤلفات والاعمال الادبية هي تنمية حاسة التفقييم والتقويم عند الفرد. وترسيخ الحاسة التاريخية المرتبطة بالقضاء والقدر ومسؤولية الانسان تجاه سلوكه واعماله.
ان الاعمال الادبية العظيمة من شعر ورواية يجب ان تنمي في الفرد والمجتمع الاحساس الكوني العام وكلما نما الحس الكوني عند الفرد الانساني فهو يميل الى الافلات من ذاته الضيقة ويميل الى جعل نفسه في خدمة المشروع الكوني العام للحياة الانسانية. وبعد ان نشر ارنولد مجلدين بعنوان ـ مقالات في النقد ـ ثم نشر كتابه ـ الثقافة والفوضى ـ صار له في بريطانيا نفس المكانة التي وصل اليها د.طه حسين في مصر بعد نشره كتاب ـ الادب الجاهلي ـ وـ تجديد ذكرى ابي العلاء ـ وـ مع المتنبي ـ ومجموعة مقالات ـ حديث الاربعاء. واذا كان د.طه حسين قد شغل مناصب عالية في الجامعة العربية وفي وزارة المعارف المصرية فان ماثيو ارنولد هو الآخر كان قد شغل مناصب مرموقة في التعليم البريطاني وفي جامعة اوكسفورد.
|
|
 
|
|
|
|
الجندرية
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست